الترياق الديمقراطي للتخلف السياسي في المجتمعات المسلمة وجهة نظر نبهاني كريبع*The democratic antidote to political backwardness in Muslim societies from the perspective of Nabhani Koribaa
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°03 Vol 16- 2019

الترياق الديمقراطي للتخلف السياسي في المجتمعات المسلمة وجهة نظر نبهاني كريبع*

The democratic antidote to political backwardness in Muslim societies from the perspective of Nabhani Koribaa
ص ص 63-71
تاريخ الارسال: 2018-09-28 تاريخ القبول: 2019-09-24

اليزيد بوعروري
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يتناول المقال الذي بين يدي القارئ تشخيصا لواقع المسلمين المتردّي، قدّمه أحد المفكرين الجزائريين المعاصرين، وما يمكن أن يقال عنه إنه مؤسف. والمفكر يقدّم حلا يراه كفيلا بدفع المسلمين إلى الظهور من جديد على مسرح التاريخ، ولكن ذلك لا يكون إلاّ بالركون إلى الخيار الديمقراطي بكل قناعة وصدق، لأن الديمقراطية تسمح بأن يكون الأفراد كلهم فاعلين في صناعة حاضرهم ومستقبلهم، وهذا ليس غريبا عن الإسلام، فهذا الأخير يحوي في طياته ثقافة ديمقراطية وما على المسلمين إلاّ تنميتها وترقيتها، لتتوافق مع الواقع المعاصر ومشكلاته، ومن عناصرها الأولية الكرامة والحرية الفردية والمسؤولية والاحترام المتبادل بين الفرد والجماعة، والتحلي بالأخلاق العالية التي ترفع من قدر الإنسان

الكلمات المفاتيح: الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، المسلمون، الحرية، الحضارة.

L'article présenté au lecteur traite d'un diagnostic de la détérioration de la réalité des musulmans, présenté par l'un des penseurs moderne algérien. Le penseur propose une solution qu’il considère comme un outil permettant de ramener les musulmans dans l’histoire, mais ce n’est qu’en permettant au choix démocratique avec conviction et sincérité que la démocratie permet à tous les individus d’être actifs dans la construction de leur présent et de leur avenir, ce qui n’est pas étranger à l’islam. C’est une culture de la démocratie que les musulmans doivent développer afin de s’adapter à la réalité contemporaine et à ses valeurs : dignité, liberté individuelle, responsabilité, respect mutuel de l’individu et de la communauté, et haute moralité qui élève l’être humain

Mots-clés : Démocratie, Justice sociale, Musulmans, Liberté, Civilisation.

The article in front of the reader deals with a diagnosis of the deteriorating reality of Muslims, presented by one of the modern Algerian thinkers, and what can be said to be unfortunate. The thinker offers a solution as a tool to push Muslims back to the stage of history by allowing the democratic choice with all conviction and sincerity, because democracy allows all individuals to be active in the industry of their present and future. This is not strange to Islam which has a culture of democracy that Muslims must develop in order to conform to contemporary reality and its problems. Its primary components are dignity, individual freedom, and responsibility, mutual respect between the individual and the community, and the high morals that elevate the human being

Keywords:Democracy, Social justice, Muslims, Freedom, Civilization.

Quelques mots à propos de :  اليزيد بوعروري

جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2lyazidbouarouri@yahoo.com

تمهيد

لا خلاف بين المفكرين والباحثين على أن المسلمين إبان حضارتهم، شهدوا تألقا روحيا وعقليا وعمرانيا مشعا، ولكن في المقابل هناك جانب قاتم فيها، كان أضعف العناصر على الإطلاق وهو الجانب السياسي.

وما زال ذلك الضعف ملازما للجسم السياسي العربي الإسلامي إلى اليوم، وذلك ما تترجمه الإخفاقات اليومية المتلاحقة على أكثر من صعيد.

ولقد أشار المفكرون إلى ظاهرة تدنّي مستوى الأداء السياسي في حياة المسلمين، وعلى امتداد العالم الإسلامي بصورة تدعو إلى القلق، وإلى ضرورة إيلاء ذلك الوضع مزيدا من الانتباه، أو قل مزيدا من الشجاعة في الاعتراف أولا بوجودها وخطورتها البالغة، ثم بالشروع في دراستها ومناقشتها على أوسع نطاق، من مفكرين وساسة ومثقفين، وبما تستحقه من تشخيص معرفي وموضوعي.

ومن المفكرين الجزائريين الذين أولوا أهمية بالغة للظاهرة نجد نبهاني كريبع، إذ يعتقد بأن النظام السياسي لدى المسلمين من الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تخلفهم واندحارهم من المشهد الحضاري اليوم. لكن لا يزال هناك أمل في عودتهم إليه إذا ما اتجهوا بخطى حثيثة وصادقة نحو الديمقراطية. لكن ما مفهوم هذه الديمقراطية؟ هل هي نسخة مكررة عن الديمقراطية الغربية أم أن في نظام القيم الإسلامية ما يمت بصلة إلى ديمقراطية خاصة؟ وهل ثمة علاقة بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟

1-  مفهوم الديمقراطية

الديمقراطية أصلها يوناني وتعني "سلطة الشعب" وهي نوع من أنظمة الحكم يتميز بالسيادة الشعبية، وقد تجلى ذلك في المدن الإغريقية القديمة. ومصطلح الديمقراطية نصادفه في مجالات عدّة لكن معناه لا يخرج عن البحث عن الشرعية في المؤسسات والممارسات.1

ونعثر لدى سبينوزا إشارة إلى بعض مميزات النظام الديمقراطي، فبعدماأشار إلى وجود ديمقراطيات، وليس ديمقراطية واحدة، انتهى إلى وصف نوع واحد يقول فيه: (هي تلك التي يتمتع فيها كل السكان دون استثناء بحق الانتخاب في المجلس الأعلى، وحق تقلد الوظائف العمومية، شريطة ألاّ يطيعوا قوانين أخرى غير قوانين وطنهم، وأن تكون حياتهم التي يحيونها حياة شريفة.)2

والتعريف كما يبدو يستبعد المواطنين الخاضعين لسلطة أخرى غير سلطة الدولة التي يحيون فيها، كما يستبعد النساء الخاضعات لأزواجهن، العبيد الخاضعين لأسيادهم، الأطفال اليتامى والمجرمين.3

وفي العشرية الأولى من الألفية الثالثة أصبحت الدول كلها ديمقراطية في الظاهر، تتغنى بقيمها وتثمّـــن العمل على ترقيتها، إلاّ أن معايير دقيقة وضعت من أجل قياس مدى ديمقراطية بلد من البلدان، وأشهر تلك المعايير هو تقرير دار الحرية -وهي منظمة متخصصة بمراقبة الديمقراطيات مقرها في نيويورك-وإليك أيها القارئ بعض النقاط من ذلك المعيار:

- الانتخاب الحرّ والعادل لرئيس الدولة وممثليالهيئة التشريعية.

-   حرية الشعب في الانتظام ضمن أحزاب سياسية،وإمكانية وصولها إلى كرسي الحكم.

-   بعد الشعب عن سيطرة العسكر والقوى الأجنبية،وقوى الاستغلال الداخلي.

-   تمتع الأقليات بالحق والحرية في تقرير المصير.

-   حرية الشعب في التظاهر والمناقشات العامة العلنية،وتشكيل منظمات.

-   استقلالية القضاء.

-   المساواة أمام القانون.4

      واستناداإلى هذه المفاهيم الديمقراطية يعتقد نبهاني كريبع بأن اليونان القديمة شهدت مناخا ديمقراطيا خاصة مدينة أثينا، ولكنها كانت ديمقراطية مقيدة نوعا ما، أما عرب الجاهلية فكانوا يتسمون بضعف الإرادة الديمقراطية رغم شهرة مجلسهم الذي يضم زعماء مكة، كما شهدت بعض الجمهوريات الإيطالية مناخا ديمقراطيا انعكس إيجابا على الثقافة والاقتصاد، لكن الديمقراطية انتصرت وتوطدت دعائمها في أوروبا بدافع الثورة العلمية،وجهود طبقة البورجوازية.5

وتعود قوة الديمقراطية إلى قوة مبادئها: الحرية، المساواة والأخوة. ونبهاني يرفض بأن تأخذ الديمقراطية بمعناها الحرفي "حكم الشعب لنفسه"6ولعل هذه المبادئ هي التي تجعل من الديمقراطية برأيه نظاما عالميا لا يختص به شعب دون آخر، إذ يمكن لأي شعب أن يعيش في ظل ديمقراطية بشرط تكييفها وفق خصوصيات ثقافته. والأنظمة قد لا تكون ديمقراطية، ولكن شعوبها تعيش الديمقراطية، فهناك أنظمة ملكية في بريطانيا، هولندا، بلجيكا والسويد لكن ديمقراطياتها نموذجية، ويمكن أن نأمل في أي نظام وتحت أي مسمى بشرط أن يضمن الحرية والمساواة والأخوة، ويكون بذلك قد حقق الديمقراطية،7مثلما حدث في عصر أغسطس الروماني، وهارون الرشيد في العصر العباسي من الحضارة الإسلامية.

2- مزايا الديمقراطية:

ورغم أن نبهاني لم يقدّم الأسباب التي جعلته يلح على أن الديمقراطية هي السبيل الأمثل لحكم الدول أكثر من أي بديل آخر غير ديمقراطي، إلاّ أننا نستطيع أن نذكر بعض مزايا هذا النظام الذي آمنت به الشعوب واستحسنه أغلب المفكرين والفلاسفة:

- الديمقراطية تساعد على تجنب الحكم القاسي من الحاكم الفرد، وربما كانت أكبر مشكلة في السياسة هي تجنب حكم الفرد، فعبر التاريخ كان القادة الذين يحركهم جنون العظمة، جنون الشكّ، المصالح الشخصية، النزعة القومية، المعتقدات الدينية، الاعتقاد بالامتياز الفطري،أو مجرد العاطفة والنزوة، يستغلون طاقات الدولة للقهر لخدمة أهدافهم الخاصة. إن الثمن الذي دفعه الناس نتيجة حكم الطغاة يساوي أو يفوق نتائج المرض، المجاعة والحرب. ولنا في حكم ستالين وهتلر أمثلة حية عن خطورة حكم الفرد.

- الديمقراطية تضمن لمواطنيها عددا من الحقوق الأساسية لا تقدمها النظم غير الديمقراطية كحق المشاركة، حق التعبير عن آرائهم في الأمور السياسية، المساواة في حق التصويت،وحق تعداد أصواتهم بنزاهة. ولاستيفاء متطلبات الديمقراطية فإن الحقوق المتأصلة فيها يجب أن تكون متاحة فعلا للمواطنين، والوعد بالحقوق الديمقراطية كتابة، في القانون أو في وثيقة الدستور ليس كافيا، بل يجب أن تطبق وتكون متاحة بفعالية للمواطنين عند التطبيق، وإذا لم تكن كذلك، يكون النظام السياسي غير ديمقراطي رغمما يزعمه حكامه، فالتظاهر بالديمقراطية لا يعني بالضرورة الديمقراطية.8

- الديمقراطية تضمن لمواطنيها مدى واسعا للحرية الشخصية أكثر من أي بديل آخر. إن حرية التعبير مثلا مطلوبة لذاتها، ففي عالم القيم تحتل الديمقراطية مكانا حاسما، ولكن ليست وحدها الخير، وحرية التعبير شأنها شأن الحقوق الأخرى الأساسية في العملية الديمقراطية لها قيمتها الخاصة بها لأنها وسيلة للمسؤولية الأخلاقية والحياة الصالحة. والأكثر من هذا أن الديمقراطية لا يمكن أن تستمر طويلا إلاّ إذا عمل مواطنوها على خلق ثقافة سياسية مساندة، فالعلاقة بين نظام الحكم الديمقراطي والثقافة الديمقراطية التي تساندها علاقة معقدة، ويكفي أن نقول إن الثقافة الديمقراطية من المؤكد أن تركّز على قيمة الحرية الشخصية، وبذلك تقدم الدعم لحقوق وحريات إضافية، وما قاله رجل الدولة الإغريقي بركليس عن الديمقراطية الأثينية في 431ق م ينطبق بنفس القدر على الديمقراطية الحديثة: (إن الحرية التي نتمتع بها في حكومتنا تمتدّ أيضا إلى حياتنا العادية.)

- إن الديمقراطية هي وحدها التي تستطيع أن تقدّم أكبر فرصة لممارسة المسؤولية الأخلاقية، وذلك يعني أن ممارسة المسؤولية الأخلاقية يقضي بتبني المبادئ الأخلاقية،واتخاذ القرارات التي تعتمد على تلك المبادئ، ولكن بعد تفكير وتمحيص والأخذ بالاعتبار كل البدائل وما يترتب عليها، وأن يكون الفرد مسؤولاأخلاقيا،يعني أن يكون له حكم ذاتي في مجال الخيارات الأخلاقية المحتملة. فالديمقراطية تعظم فرص الفرد للحياة لأن يعيش في ظل قوانين من اختياره، وتمكنه أيضا من التصرف كشخص مسؤولأخلاقيا إلى مدى لا يستطيع أي بديل غير ديمقراطي أن يحققه.9

- تستطيع الديمقراطية أن تعزّز التنمية البشرية بشكل أكمل من أي بديل آخر، فكل الأفراد تقريبا لديهم آراء بشأن الصفات المرغوب فيها وغير المرغوب فيها، صفات يجب تنميتها إذا كانت مرغوبا فيها، وتجنبها إذا كانت غير مرغوب فيها، ومن الصفات المرغوب فيها نجد الأمانة، الإنصاف، الشجاعة والمحبة، وكثير منا يعتقد أيضا أن الأشخاص البالغين كاملي النمو يجب أن تكون لديهم القدرة على العناية بأنفسهم،والعمل على رعاية مصالحهم غير معتمدين على غيرهم للقيام بذلك، ويعتقد أغلبنا أنه من المرغوب فيه أن يتصرف الراشدون بمسؤولية، وأن يوازنوا بين بدائل التصرف كأفضل ما يستطيعون، وأن يضعوا العواقب في الاعتبار، وأن يراعوا حقوق وواجبات الآخرين إلى جانب مراعاتهم لأنفسهم، ويجب أن يمتلكوا القدرة على المشاركة في مناقشات حرة ومفتوحة مع الآخرين بشأن المشاكل التي يواجهونها معا. ومنذ الولادة يمتلك أغلب الناس القدرة الكامنة لتنمية هذه الصفات، ويتوقف ما يتحقق فعلا على ظروف كثيرة ومن بينها طبيعة النظام السياسي الذي يعيش في ظله الفرد، والنظم الديمقراطية وحدها هي التي تهيئ الظروف التي يمكن أن تحقق الصفات المذكورة على نحو أفضل.

- الديمقراطيات النيابية الحديثة لا تخوض حروبا فيما بينها، والبرهان أصبح قاطعا في العقد الأخير من القرن العشرين، فمن بين أربعوثلاثين حربا دولية فيما بين 1945و1989لم تقع أي منها بين دول ديمقراطية، والأكثر من هذا أنه لم يكن هناك كذلك توقع ملحوظ أو استعداد للحرب فيما بينها، والأسباب ليست واضحة تماما، ولكن يمكن القول إنذلك راجع إلى المستوى الرفيع للتجارة الدولية فيما بين الديمقراطيات الحديثة الذي مهّد السبيل للصداقة بدلا من الحرب، ولكنه من الصحيح أيضا أن المواطنين والقادة الديمقراطيين يتعلمون دائما فنون الحل الوسط.10

- الدول ذات الحكومات الديمقراطية تتجه إلى أن تكون أكثر رخاء من الدول ذات الحكومات غير الديمقراطية، فالعلاقة بين الرخاء والديمقراطية واضحة خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين، وتفسير ذلك يعود إلى التجاذب بين الديمقراطية واقتصاد السوق، حيث لا تخضع الأسواق في الأغلب إلى تنظيم شديد، وللعمال حرية الانتقال من مكان أو عمل إلى آخر، والمصانع المملوكة للقطاع الخاص تتنافس على المبيعات والموارد، ويستطيع المستهلكون أن يختاروا من بين البضائع والخدمات المقدمة من موردين متنافسين. وفي نهاية القرن العشرين، وعلى الرغم من أن الدول التي تتبع اقتصاد السوق لم تكن جميعها ديمقراطية، إلاّ أن جميع الدول ذات النظم السياسية الديمقراطية كانت تتبع اقتصاد السوق. والديمقراطيات تمتلك عادة مزايا اقتصادية أخرى أكثر من أغلب النظم غير الديمقراطية، فالأولى من ناحية تعزّز تعليم الشعب، والقوة العاملة المثقفة تساعد على الابتكار والنمو الاقتصادي، يضاف إلى ذلك أن حكم القانون يدعم بقوة أكثر في الدول الديمقراطية، فالمحاكم أكثر استقلالا، وحقوق الملكية أكثر أمنا، والاتفاقاتالتعاقدية تطبق بفعالية أكبر، والتدخل التحكّمي في الحياة الاقتصادية من جانب الحكومة والسياسيين يكون محدودا. وأخيرا فإن الاقتصاداتالحديثة تعتمد على الاتصالات، والقيود على الاتصالات في الدول الديمقراطية أقل، والتماس تبادل المعلومات أيسر وأقل خطورة منه في أغلب النظم غير الديمقراطية.11

     لكل هذه الأسباب وغيرها أصبحت الديمقراطية نظاما سياسيا مرغوبا فيه، بل وضروريا للشعوب إذا أرادت أن تتطور فعلا، وهذا ما عبر عنه نبهاني كريبع بقوله: (يجب أن ندرك بأن الإنسان لا يمكن له أن يتطور إلاّ في إطار من الديمقراطية ووفق المبادئ المشهورة: الحرية، المساواة والأخوة.)12

     والتاريخ برهان ساطع على ذلك من زاوية أن كل أمة لا يمكن أن تتطور إلاّ بتربية نخبتها ودفعها للعمل والتفكير واحترام المواطنين، إلى جانب الحفاظ على شخصيتها، وهذا لا يمكن أن يضمنه أي بديل إلاّ الديمقراطية.13

3-  الثقافة الديمقراطية في الإسلام

يعتقد نبهاني كريبع بأن الإسلام حقق في بداياته نوعا من الديمقراطية، عندما ألغى الامتيازات الإقطاعية،وأعلى من شأن الجانب الروحي، فانتشر بذلك خارج الحدود العربية، واستوعب كل شعوب الدنيا: العرب، اليهود، المسيحيين، الفرس، الأتراك والبربر...وكان المعيار الذي يحتكم إليه المسلمون في ذلك الظرف هو الإيمان بالله، الجدارة والمنافسة، وبهذا المعيار استطاع المسلمون تحقيق الرقي الثقافي والاقتصادي.

وفي ظل هذا المناخ الديمقراطي تمت إعادة تشكيل النفس العربية، وغدت منفتحة على الغرب والشرق، واستخدمت لمصلحة نزعة إنسانية موسعة، غنية وصافية.14

كما أن الإسلام وضع قواعد الديمقراطية بتحريره لوعي الأفراد،وجعله يرنو إلى مثال سام، وفتح منظورات جديدة للتشريع، وأثراها بقوانين متعددة إلى جانب الشريعة الإلهية، ويمكن الإشادة بمحاولة الفلاسفة المسلمين من زاوية أنهم حاولوا الاعتماد على العقل إلى جانب الشرع في تنظيراتهم. وإذا كانت الحرية الاقتصادية هي نقطة قوة الديمقراطية، فالاقتصاد عرف انطلاقة قوية على طول الحضارة الإسلامية.15

وفي مقابل ذلك اليوم البلدان الإسلامية تعاني شعوبها البؤس والأمية، فالنخب لم تكوّن في الوقت المناسب، والمثقفون يتم التوجس منهم، والأفراد المبدعون لا يُقدّرون ولم تعط لهم قيمتهم الحقيقية، والساسة يتصرفون كما لو أن الدولة ملكهم الخاص، والشعب مجرد قطيع موضوع تحت تصرفهم.16

لكن نبهاني كريبع حاول أن يزرع الثقة مرة أخرى في نفوس المسلمين، فرغم الواقع المرّ الذي يعيشونه، إلاّ أن مصيرهم لازال بأيديهم؛لأن الإسلام دين لازال صالحا إذا أرادوا هم النهوض من جديد، ولكن الاتصال بالشعوب المحيطة بهم ضرورة حتمية، ويضرب لنا مثلا بالأتراك الذين حققوا التقارب مع الغرب، لذلك كانوا من الأوائل الذين ذاقوا طعم الديمقراطية.17

وفيما يتعلق بالفرق الكلامية الإسلامية يذهب نبهاني كريبع إلى أن فرقة الخوارج لعبت دورا مهما في التاريخ السياسي الإسلامي، من زاوية أنهم كانوا وراء ولادة مذهب سياسي جديد يتوافق مع روح الإسلام، فإذا كان الشيعة لهم توجه سياسي ثيوقراطي، وأهل السنة كان توجههم أرستقراطيا عقائديا، فإن الخوارج كانوا ديمقراطيين.18

ومعروف عن الخوارج أنهم نادوا بشعار "لا حكم إلاّ لله" وكان لهذا الشعار تبعات سياسية مهمة لأنه فتح باب المناقشة واسعا فيما يتعلق بأساس الحكم، ذلك أنه مع هذا الشعار طرحت مسألة الحكم طرحا جديدا لم يسبق له مثيل، فلم يعد محصورا بين علي ومعاوية،وأيهم أحق بالخلافة، ولكن المبدأ نقل المسألة من المسكوت عنه "الأئمة من قريش" إلى مجال النقاش السياسي والديني حول الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الحكم في الإسلام.

وقد أخذ شعارهم ذاك مضمونه السياسي والعملي عندما رفضوا العودة إلى الكوفة مع علي (ض) واتجاههم إلى "حروراء" وتعيينهم إماما للصلاة،وأميرا للقتال،وتأكيدهم على الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبعد مفاوضات مع علي (ض) انتهت بالفشل ذهبوا إلى غاية مبايعة أحد كبرائهم بالخلافة وهو رجل من اليمن، بعدما أسندوا إمارة القتال إلى رجل من تميم،وإمارة الصلاة إلى رجل من بكر.19

وهكذا ظهر الخوارج كتحالف "لا قبلي" ضدّ قبيلة قريش عندما قالوا في البداية الخلافة حق لكل عربي حرّ، وعندما أخذت تلتحق بصفوفهم جموع من الموالي طوّروا مبدأهم هذا فجعلوا منصب الخلافة من حق كل مسلم عادل حرا كان أو عبدا، يقول الشهرستاني في هذا المعنى عن الخوارج الأوائل: (...إذ جوّزوا أن تكون الإمامة في غير قريش...وجوّزوا ألا يكون في العالم إمام أصلا، وإن احتيجإليه فيجوز أن يكون عبدا أو حرا، أو نبطيا، أو قرشيا.)20

مما سبق يبدو أنالإسلام كرسالة سماوية فيه كل مقومات الديمقراطية من حرية، ومساواةوكرامة، وهذه هي مقومات الديمقراطية الحديثة. لا نقول بأن الديمقراطية موجودة في الإسلام، ولكن نقول في الإسلام مفاهيم تستوعب الديمقراطية وغيرها من أنظمة الحكم، وقد ترك الإسلام المسلمين أحرارا   في اختيار نظام الحكم الذي يليق بهم –على اختلاف ثقافاتهم وأزمانهم وظروفهم-بشرط عدم التعدي على تلك المقومات. وفي التاريخ السياسي للمسلمين كان الخوارج أبرز فرقة كلامية دافعت عن الديمقراطية إلاّ أن الظروف التي أحاطت بظهورهم ودعوتهم أجهض المشروع الديمقراطي عند المسلمين.

4- الديمقراطية والعدالة

العدالة في اللغة تعني الاستقامة، وفي الشريعة هي الاستقامة على طريق الحق والبعد عما هو محظور ورجحان العقل على الهوى. وعند الفلاسفة تعني المبدأ المثالي أو الطبيعي أو الوضعي الذي يحدّد معنى الحق،ويوجب احترامه وتطبيقه.      

والعدالة عند الفلاسفة عدالتان: المعاوضة والتوزيع. الأولى تتعلق بتبادل المنافع بين الأفراد على أساس المساواة في البيع والشراء وسائر المعاملات، والثانية تتعلق بتوزيع الثروة على الأفراد بحسب الاستحقاق. الأولى تنظم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، في حين أن الثانية تعطي صورة عن علاقات الأفراد بالدولة.

ومنهفإناصطلاح العدالة الاجتماعية المتداول في الكتب السياسية ووسائل الإعلام في الفترة المعاصرة، تعنياحترام حقوق المجتمع والتقيد بالصالح العام.21

والعدالة مبدأ لا يُضاهى في أهميته لصلاح الإنسان، إنها ينبوع كل المبادئ التي يسعى إليها الإنسان في إصلاح ذاته،والوصول إلى الغايات السامية في الوجود، وهي من مبادئ الأديان السماوية والفلسفات وأنظمة الحكم بهدف الارتقاء بالوضع البشري، وتجسيد علاقات عادلة بين الناس، والتوصل إلى عقد اجتماعي مع من يتولون مقاليد الحكم في البلاد. وإذا اختلت موازين العدالة اشتكى الناس من الظلم ونشبت الصراعات والحروب وتقاتل البشر، ولهذا قامت ثورات تسعى إلى تحقيق الكرامة الإنسانية، أولها كانت ثورة الإسلام، والثورة الفرنسية، وآخرها الثورات العربية ضدّ الظلم والاستبداد.22

إن خيار الديمقراطية كنظام سياسي عند نبهاني ليس هدفا لذاته، وإنما هو لتحقيق العدالة الاجتماعية التي غاب شمسها على أرض الإسلام، بعدما كانت في زمن ما السمة المميزة للحضارة الإسلامية.

والعامل الاقتصادي يلعب دورا كبيرا في هذه المقاربة الخاصة بالعدل، لأن توزيع الخيرات له أهمية كبرى على الصعيد الاجتماعي، وقد جسّد ذلك أحسن تجسيد نبي الإسلام محمد (ص)-والذي عاش في مجتمع إقطاعي حيث الثروات يستأثر بها الأرستقراطيون الوثنيون على حساب جموع الفقراء والعبيد-من خلال الزكاة، الصدقة، الجزية، الغنائم التي احتفظ بالخمس منها كي يصرفه هو نفسه على المحتاجين. هذه العدالة التي أقامها (ص) بأمر من الله عزّ وجلّ، كانت ضربة للشرك القبلي الذي حافظت عليه الطبقة الميسورة، وأدى بالناس إلى الدخول في الدين الجديد بأعداد كبيرة، لأنه دين أكثر إنسانية. والنبي (ص) نفسه كان مثالا يُحتذى به، عندما مات وهو فقير دون أن يطمع في خيرات الدنيا.23

ولكن اليوم، العالم الإسلامي شيء آخر، فالقائمون عليه لم يراعوا أبسط القواعد لتلك العدالة الاجتماعية، ولكنهم راحوا يستلهمون البنيات القانونية للغرب، وتصرفوا ضدّ شعوبهم، واستهتروا بالقوانين الوضعية والإلهية على حدّ سواء.24

ولتحقيق العدالة الاجتماعية-بعد أن تكون الديمقراطية ثقافة الجميع-ينبغي أن يتم عمل جرد للثروات المتوفرة، وجرد السكان لكي يكون التوزيع عادلا، بعد أن تكون التراتبية الاجتماعية سليمة، أي أن يكون كل واحد في مكانه "الرجل المناسب في المكان المناسب"، وكإجراء عملي ينبغي مساعدة الناس للحصول على السكن، العمل، وجعل رأس المال يقوم بدورته الاقتصادية، بدل تركه في جيوب المستغلين. على الساسة كذلك تقدير الأيدي العاملة والعقول المفكرة، ومشاركة المرأة في صنع مستقبل أبنائها. ينبغي الحذر من الدخول إلى الحداثة بتهور، وإنما لابدّ أن يكون ذلك بحذر.25

-    مناقشة

يمكن التأريخ للوعي السياسي لدى نبهاني كريبع منذ صدور كتابه "أفارقة يتساءلون" الذي صدر في الخمسينات من القرن العشرين، إذ يكتشف القارئ بأنه انتبه إلى المزالق التي وقع فيها المسلمون في الجانب السياسي، ووضع عليها الأصبع لأنه عرف خطورتها على مستقبل المسلمين، ولكن مناداته بالديمقراطية كانت منذ صدور كتابه "مدخل إلى الفلسفة" في بداية الثمانينيات، ولعل وراء هذه الدعوة دواعي ودلالات: أما الدواعي فهي ما وصلت إليه الشعوب العربية من ضيق بحالة الاستبداد السافر التي عمت بلاد العرب المسلمين دون استثناء، فالدول العربية قد تختلف نسبيا من حيث حرية القول، أما من حيث الممارسة الديمقراطية فإنها مع الأسف غائبة على أرض الواقع، الأمر الذي أدى إلى تخلف التنمية وتآكل الإرادة الوطنية، وانكشاف الأمن القومي، إلى جانب تمزق النسيج الوطني، فضلا عن الفساد والمحسوبية وهدر المال العام.

وأما الدلالات فإنها تتمثل في تزايد الوعي العربي بأن الديمقراطية اليوم هي طوق نجاة من المآزق الكثيرة التي وضع العرب –حكومات وأفراد-أنفسهم فيها وأصبحوا بالتالي غير قادرين على الفعل وعاجزين عن إدارة أوجه الصراعات الداخلية المدمرة، سلميا على مستوى العلاقة بين القوى التي تنشد التغيير، ومستوى العلاقات بين المعارضة والحكومات.

فالديمقراطية من ناحية أثبتت اليوم قدرتها النسبية على إدارة أوجه الاختلاف،وتعارض المصالح في إطار الجماعة الواحدة على مستوى الدولة، وفي المنظمات غير الحكومية، وسمحت بالاستقرار السياسي،ونمو الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وأكدت على الجماعية والشفافية في اتخاذ القرارات لمواجهة التغيرات المتسارعة، كما نجحت في تحقيق مصالحات تاريخية، لذلك أصبحت أنظمة الحكم الديمقراطية اليوم كفيلة باكتساب احترام البشر قبل مهابة الدول.

إن الديمقراطية هي الشعار الوحيد الذي يُرفع اليوم جهارا دون أن يشعر رافعوه بالحاجة إلى الدفاع عن مصداقيته. صحيح أن الفلاسفة منذ أفلاطون أحصوا عيوبا للديمقراطية، وهذه هي العيوب التي لازال يدافع عنها البعض بحجة أنها ليست نظاما مثاليا للحكم، ولكن يمكن أن نقول لهؤلاء بأن عيوب الديمقراطية يمكن التخفيف منها بواسطة مزيد من الديمقراطية، أما عيوب الديكتاتورية فهي لا تقبل التخفيف إلاّ بالتخلي عنها والجنوح إلى الديمقراطية، لأن هذه الأخيرة تقتضي أولا وقبل كل شيء احترام حقوق الإنسان كحرية التعبير، حرية إنشاء الجمعيات والأحزاب، حرية التنقل، الحق في الشغل، المساواة والعدل، وهذه الحقوق لا تقبل التأجيل.

وهناك أصوات تنادي بأن الديمقراطية تحتاج إلى نضج الشعب أولا، لكيلا تنقلب إلى فوضى، وبالتالي فمن الضروري تأجيلها إلى أن يتحقق هذا النضج، وما نقوله لهؤلاء هو أن نضج الشعب للديمقراطية لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال ممارسة الديمقراطية، والاستئثار بالسلطة يؤدي دائما إلى خنق إمكاناتالتفتح والنضج، أضف إلى ذلك أن المشاكل الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية التي ترزح تحت وطأتها الأقطار العربية لا يمكن التستر عليها،ولا قمع الإحساس بها ومعاناتها بالاستبداد. إن المشاركة الشعبية في إطار ديمقراطي سليم هي وحدها القادرة على تجنيد الطاقات والإمكاناتكافة للعمل من أجل التغلب على الصعوبات في بيئة من تحمل أعباء المسؤولية.

    والسؤال الذي يمكن أن يطرحه القارئ هو: هل نظر نبهاني إلى الديمقراطية من خلال الظروف التاريخية التي أنتجتها في أوروبا، أم من خلال الظرف التاريخي الإسلامي الراهن الذي يجعل من الديمقراطية ضرورة تاريخية؟

يمكن القول بأن المنظور الأول يؤدي إلى تفسير التاريخ، أما الثاني فيقود إلى صنع التاريخ، وبالتالي فإن نبهاني يريد للمسلمين من خلال الديمقراطية صنع التاريخ، لذلك فهي ضرورة من ضرورات العصر، فالإنسان لم يعد مجرد فرد من رعية، بل هو مواطن يتحدّد كيانه بجملة من الحقوق هي الحقوق الديمقراطية، وفي مقدمتها الحق في اختيار الحكام، مراقبتهم وعزلهم، فضلا عن الحرية، حرية التعبير الاجتماعي،وإنشاء الأحزاب والنقابات والجمعيات، الحق في التعليم والعمل، المساواة مع تكافؤ الفرص السياسية والاقتصادية.

إذا فالمسألة الديمقراطية يجب أن يُنظر إليها لا من إمكانية ممارستها في هذا المجتمع أو ذاك، بل من ضرورة إرساء أسسها،وإقرار آلياتها،والعمل بها بوصفها الإطار الضروري لتمكين أفراد المجتمع من ممارسة حقوق المواطنة من جهة، وتمكين الحكام من الشرعية الحقيقية التي تبرّر حكمهم من جهة أخرى.

إن الشرعية الديمقراطية هي اليوم الشرعية الوحيدة التي لا بديل عنها، وهي الأولوية، وهي الحق الذي لا يمكن تبرير تعليقه أو وضعه تحت الرقابة أو الوصاية من أي جهة كانت. إن الممارسة الديمقراطية إنما تتم داخل مجتمع، وهذا الأخير ليس مجرد كم من الأفراد، بل هو علاقات ومصالح، فئات، صراعات ومنافسات، مما يجعل من الديمقراطية في نهاية المطاف طريقة سلمية وإيجابية لتنظيم العلاقات داخل المجتمع تنظيما عقلانيا يوجّه الصراع والمنافسة لفائدة تقدم المجتمع ككل في إطار ممارسة المواطن لحقوقه.

وعلى صعيد آخر رأينا بأن نبهاني أقرّ بأن عرب الجاهلية لم تكن لديهم إرادة لتبني الديمقراطية ربما خوفا على مصالحهم، وهو حكم يكذّب ما ادعاه بعض المستشرقين من أن العرب عرفوا الديمقراطية لأنهم أقوام من البدو الأحرار ولم يعرفوا طغيان الملوك، ولا يخضعون لسطوة الحاكمين بأمرهم من الأكاسرة والقياصرة الذين حكموا بلاد الفرس والروم. صحيح أن الجزيرة العربية عرفت حرية البداوة على أتمها قبل الإسلام ولكنها حرية غير صادرة عن مبدأ ولا عن تعريفات الحقوق الإنسانية.

فالتاريخ يكذّب بأن الديمقراطية كانت نظاما مألوفا عند عرب الجاهلية، لقد خبر هؤلاء مختلف الحكومات: حكومة الفرد، الإقطاع، المشيخة، العسكر. وكلها حكومات مفروضة، فالديمقراطية هي النظام الوحيد الذي لم يعرف في الجاهلية.

وذهب المستشرقون إلى أبعد من ذلك حين قالوا بأن الثقافة الديمقراطية التي جاء بها الإسلام هي في حقيقتها ديمقراطية عرفها عرب الجاهلية، ولكن الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي أن الديمقراطية جاء بها الإسلام، لأنها ديمقراطية إنسانية وليست سياسية فقط، أي تلك الديمقراطية التي يكتسبها الإنسان كحق ثابت يخوله اختيار حكومته، وليست حيلة لاتقاء شرّ أو حسم فتنة، ولا هي إجراء من إجراءات التدبير تعمد إليها الحكومات لتيسير الطاعة والانتفاع بخدمات العاملين وأصحاب الأجور.

وقد لاحظ القارئ بأن نبهاني تجاوز الجدل الدائر حول وجود الديمقراطية في الإسلام، هذا التساؤل الذي أسال الكثير من الحبر دون أية فائدة ترجى على الصعيد الواقعي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين قرّر بأن الديمقراطية تذكرة ضرورية لعودتهم من جديد إلى التاريخ، فإذا لم يتمكن المسلمون من تأكيد العنصر الديمقراطي الأصيل الكامن في تكوينهم، وإذا لم يوضحوا أن هدفهم النهائي المبدّد حتى الآن هو الديمقراطية، فإن الغرب لن يقبلهم، ولن يقبل الإسلام كنموذج يحتذى به، وسيترتب عن ذلك أن المسلمين لن يتمكنوا من تحقيق وتطوير إمكاناتهم، وسيعقب ذلك تخلفهم وعجزهم.

ولا ينقص المسلمين فهم طبيعة السياسة ولا الرغبة في تقدّم الدولة والاقتصاد المزدهر، بل على العكس، لقد التزم المسلمون تاريخيا بإقامة كيان دولة يضم كل المؤمنين،ويكفل للجميع المساواة والعدالة، الرفاهية، الحرية والكرامة، أي نقيض الدولة القومية في عالم الدول القومية.

إن الشريعة لا تطلب شكلا محددا للدولة المثالية، فعلى كل جيل من المسلمين أن يجتهد للتوصل إلى تنظيم الدولة الذي يتماشى مع أفضل سبيل مع موروثاته ودرجة تطوره، ويحقق أفضل مصالحه، فمن الممكن أن يكون هذا الكيان مملكة أو جمهورية. وعليه فإن من يتهم الديمقراطية بأنها غير إسلامية فإنه لا يفهم شيئا عن الإسلام أو عن الديمقراطية أو عن كليهما، ولذلك فمن الظلم محاربة الإسلام بالديمقراطية، أو الهجوم على الديمقراطية من منبر الإسلام.

ومن البديهي أن يرفض المسلم حكم الشعب، إذا كان هذا يعني أن تحكم مجموعة من الناس لمجرد أنها تحظى بغالبية مقاعد البرلمان، كما يحلو لها،وكما تصورها لها أهواؤها، وأن تحكم بما تشاء وكيفما تشاء، ولكن هذا ليس الوضع الحقيقي حتى في الديمقراطيات الغربية، فحكم الشعب ليس تسلط الشعب وقهر الشعب أو سلطته المطلقة. ولذلك فإن الدساتير الغربية لا تحمي مواطنيها من الدولة فقط، بل تحمي كذلك الدولة من مواطنيها، كما تحمي الأقلية من الأغلبية، والوضع في الإسلام ليس مخالفا لذلك.

والخلاصة في هذه المسألة وفق خطاب نبهاني هو أن على المسلمين بدل الوقوف عند مفردات منفرة وإضاعة الجهد في مجادلات كلامية، أن يتبينوا أن أهم أهداف الديمقراطية ووظائفها، إنما هي تأمين وجود رقابة منظمة على الحكومات لمنع أي ظلم وتسلط، وسوء استخدام السلطة، وما هذا إلاّ جوهر الأهداف الإسلامية. إن الإسلام لا يعادي الديمقراطية، بل على النقيض يضمن لبنات أساسية لتوطيد الديمقراطية،وما على المسلمين إلاّ العمل على تحقيقها. ولن تتشابه الديمقراطية الإسلامية بالضرورة مع ديمقراطية الغرب، لأن العالم الإسلامي يملك خصوصيات.

إن فكرة اقتران الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية عند نبهاني مسألة فلسفية مهمة كانت مطروحة منذ أفلاطون، وإن كان هذا الأخير له رأي خاص في الديمقراطية، وتكمن الأهمية في كون الإنسان يتمتع بالقدرة على الإحساس بالعدالة، وارتبطت هذه القدرة منذ زمن طويل بقدرة الإنسان على تعلم اللغة، وكثيرا ما كانت هاتان القدرتان تعتبران من الخصائص التي يمتاز بهما البشر وحدهم، يقول أرسطو في كتاب السياسة: (إن الطبيعة، مثلما نرغب دائما في أن نؤكّد، لا تخلق شيئا دون غرض، والإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي مُنح موهبة الكلام...والغاية من الكلام...هي التعبير عن الكسب والخسارة وبهذا يتم التعبير أيضا عن الإحساس بالعدالة والظلم، لأن من الخصائص الفريدة التي تميّز بها الإنسان عن جميع الكائنات الأخرى هي قدرته وحده على إدراك الخير من الشرّ، والعدالة من الظلم، وما إلى ذلك.)

وفكرة العدالة الاجتماعية من ثمرات الاعتقاد بأن البشر قادرون على إعادة تشكيل وإصلاح عالمهم الاجتماعي لكي يتوافق مع مخطط وضع مسبقا، وهو اعتقاد ظهر أول مرة في أثينا القديمة، ولكنه توسّع وحظي بانتشار واسع في القرن الثامن عشر. لقد استمدت الفكرة الحديثة عن العدالة الاجتماعية جذورها من فرضية أن جميع البشر متساوون في القيمة، ثم نتجت من ذلك سلسلة من الأفكار والنظريات في العدالة ذات صلة وثيقة بانشغالات المفكرين والمؤسسات في الأزمنة المعاصرة.26

خاتمة

خلاصة القول من كل ما سبق أن نبهاني كريبع يعلم ماضي المسلمين المشرق على كل الأصعدة، وأن كل ذلك مصدره عظمة الإسلام وعالمية رسالته، هذا الإسلام الذي اعتبره لم يتحقق بعد. إنه السعادة الحقيقية للبشرية جمعاء. وعلى امتداد صفحات كتبه يشعر القارئ بلوعة حارقة في نفسه، لما آلت إليه حال المسلمين من تخلف وضياع، بعد مجد وعزّ غابرين. يريد نبهاني تنبيه المسلمين إلى حالهم، كما يريد إبقاء الأمل حيا في نفوسهم، في إمكانية نهوضهم من جديد. لا يشحن نفوس المسلمين بأعداء وهميين كما تفعل الدول القومية المعاصرة، ربما لأنه يعلم أن العدو الحقيقي هو الذات، العدو الحقيقي هو الجهل والبؤس، التنازع على السلطة، الظلم ... وهذا العالم الغربي الذي تصوره بعض الكتابات بأنه العدو الذي يتربص بنا، يشير نبهاني إلى إمكانية الاستفادة منه، بشرط أن نكون طلابا للحكمة، فأينما وجدناها فنحن أحق بها.

     وينطبق هذا على الديمقراطية، هذا المفهوم الذي تشير إليه بعض الدوائر الثقافية والفقهية بأنها بضاعة غربية، وبالتالي فإنها لا تصلح لتقويم أحوالنا. إنها في نظر نبهاني أداة تساعدنا على إصلاح حالنا التي لم تعد تحتمل، لأن الذل والهوان الذي يعاني منه المسلمون قد بلغ أقصى درجاته.

    إن المشكلة ليست في الأداة المستوردة، وإنما في الذات التي لم تستطع أن تقرّر ماذا ستفعل، وكيف تفعل. إن العالم الخارجي يمكن تغييره مهما حفّته العقبات، لأن العالم الحقيقي هو عالم النفس، فلما تعتزم النفس عمل أي شيء فإنها ستتوقف عن اختلاق الأعذار: فتارة الشعب غير مهيأ للديمقراطية، وتارة أخرى الديمقراطية نظام وضعه الكفار ولا يصلح بالتالي للمسلمين. وقد تنبأ نبهاني بانفجار الأوضاع في البلدان الإسلامية إثر تراكم المشكلات وتقاعس الحكام على إيجاد الحلول، وها هي نبوءته قد تحققت، فلم تعد تلك البلدان كما كانت عليه، من انفلات الأوضاع وخروجها عن السيطرة، وإذا أمكن تصور ألمانيا واليابان بلدين استعادا عافيتهما بعد الحرب العالمية الثانية، بعدما تخلص حكامها من عنادهم، فإنه من الصعوبة تصور بلدان العالم الإسلامي كسوريا، ليبيا والعراق، أن تقوم لها قائمة مرة أخرى، إذا بقي الحكام مصرينعلى عنادهم قائلين "أنا وبعدي الطوفان".

الهوامش

* من مواليد أولاد جلاّل ولاية بسكرة (الجزائر) عام 1918م، تلقى تعليمه الابتدائي هناك، وأكمل تعليمه الثانوي بالجزائر العاصمة، ثم في باريس بثانوية لويس الأكبر أين نال شهادة البكالوريا. وعاد إلى الجزائر بأمر من أبيه الذي أراده أن يكون تاجرا في التمور، ولكنه فضّل الدخول إلى الجامعة، فنال الليسانس في الفلسفة. واشتغل عشر سنوات في بيع التمور، ثم عاد إلى فرنسا ليشتغل في المطبعة الوطنية الفرنسية. ثم نال شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون سنة 1967. عمل أستاذا للفلسفة بجامعة الجزائر إلى أن وافته المنية عام 2005.  Jean Déjeux, Dictionnaire des auteurs maghrébins de la langue française, Kharthala, 1948, p. 145.

بالنسبة لتاريخ الوفاة لم يرد ذكره في هذا المعجم، ولكن أفادني به الدكتور عمر بوساحة الأستاذ بجامعة الجزائر، في مقابلة جمعتني به في ربيع 2013. أهم مؤلفاته: أفارقة يتساءلون، الإنساني الشامل، الخير والشر في القرآن، الإنسان في الإسلام...

 

1-   Larousse-Grand Dictionnaire de la Philosophie, sous la direction de Michel Blay, CNRS Editions, 2005, p. 255.

2-    سبينوزا، رسالة في السياسة، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، موفم للنشر، الجزائر، 1995، ص 177.

3-    المرجع نفسه، الموضع نفسه.

4-  تشارلز تيللي، الديمقراطية، ترجمة محمد فاضل طباخ، ط 1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2010، ص 14-15.

5-    - Nabhani Koribaa, L’Homme en Islam-historicité et ouverture, EDITIONS PUBLISUD, Paris, 2001, p. 105.

6-   Nabhani Koribaa, Initiation à la Philosophie, OFFICE DES PUBLICATIONS UNIVERSITAIRES, ALGER, 1984, p. 83.

7-  Nabhani Koribaa, L’Homme en Islam-historicité et ouverture, op. cit, p. 106.

8-  روبرت أ. دال، عن الديمقراطية، ترجمة أحمد أمين الجمل، ط 1، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، 2000، ص 47-50.

9-   المرجع السابق، ص 50-54.

10-   المرجع السابق، ص 55-56.

11-   المرجع السابق، ص 57.

12-  Nabhani Koribaa, Initiation à la Philosophie, op. cit, p. 82.

13-    Ibid, p. 83.

14-  Ibid, p. 82-83.

15-   Nabhani Koribaa, L’Homme en Islam-historicité et ouverture, op. cit, p. 106.

16-     Nabhani Koribaa, Initiation à la Philosophie, op. cit, p. 82.   

17-    Nabhani Koribaa, L’Homme en Islam-historicité et ouverture, op. cit, p. 107.

18-   Nabhani Koribaa, Les Kharidjites-démocrates de l’Islam, PUBLISUD, Paris, 1991, p. 16.

19-  الجابري، العقل السياسي العربي، ط 8، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، ص 239.

20-    الشهرستاني، الملل والنحل، تقديم صدقي جميل العطار، ط 2، دار الفكر، 2002، ص 94.

21-   جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج 2، د ط، دار الكتاب اللبناني، 1982، ص 58-60.

22-   ديفيد جونستون، مختصر تاريخ العدالة، ترجمة مصطفى ناصر، سلسلة عالم المعرفة، العدد 387، أبريل 2012، 25.

23-  Nabhani Koribaa, L’Homme en Islam-historicité et ouverture, op. cit, p. 103.

24-   Ibid, p. 103.

25-   Ibid, p. 104-105.

26-  استأنست في كتابة هذه المناقشة بالمراجع التالية:

- علي خليفة الكواري، الديمقراطية طوق نجاة-ضمن كتاب جماعي، مداخل الانتقال إلى الديمقراطية في البلدان العربية، ط 2، د س، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 7-8.

- الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، سلسلة كتاب في جريدة، عدد 95، تموز 2006، بيروت، ص 8-12.

- العقاد، الديمقراطية في الإسلام، ط 3، دار المعارف، د س، ص 23 وما بعدها.

- مراد هوفمان، الإسلام في الألفية الثالثة، تعريب عادل المعلم ويس إبراهيم، ط 1، مكتبة الشروق، القاهرة، 2001، ص 111 وما بعدها.

- ديفيد جونستون، مختصر تاريخ العدالة، مرجع سابق، ص 25 وما بعدها.

@pour_citer_ce_document

اليزيد بوعروري, «الترياق الديمقراطي للتخلف السياسي في المجتمعات المسلمة وجهة نظر نبهاني كريبع*»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 63-71,
Date Publication Sur Papier : 2019-10-07,
Date Pulication Electronique : 2019-10-07,
mis a jour le : 09/10/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=5956.