مقدمات عن الحرف وتنظيماتها في مدينة معسكرخلال العصر الوسيطIntroductions to crafts and their organizations in the medieval city of Mascara
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N:02 vol 17-2020

مقدمات عن الحرف وتنظيماتها في مدينة معسكرخلال العصر الوسيط

Introductions to crafts and their organizations in the medieval city of Mascara
ص ص 102-112
تاريخ الإرسال: 2019-07-04 تاريخ القبول: 2020-06-21

العربي لخضر
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تروم هذه الورقة الحفر في بعض جوانب النشاط الحرفي الذي مارسه أهل مدينة المعسكر خلال فترة العصر الوسيط. وتجدر الإشارة في البداية إلى أن البحث والتفصيل في هذا النشاط تواجهه جملة من الصعوبات المتعلقة بشح المادة الخبرية، وأمام هذا الأمر الواقعي حاول الباحث إيجاد حلول وإجابات لأسئلته من خلال ما توفر من إشارات مصدرية، أو عن طريق اللجوء إلى بعض المقاربات في إطار الحيز الجغرافي للمغرب الأوسط.

ومهما يكن من أمر فإن الهدف الذي نصبو إليه من خلال رسم الملامح العامة لتاريخ الحرف والصنائع بهذه المدينة، هو الالتفاف حول ما خلفته هذه المدينة من تراث ثقافي وعمراني بخدمته عن طريق الدراسة والبحث صيانة له وحفظا لذكره.

الكلمات المفاتيح

حفريات؛ الحرف؛ معسكر؛ العصر الوسيط؛ المغرب الأوسط

Cet article explore certains aspects de l'artisanat pratiqué par les habitants de la ville de Mascara au cours du Moyen Âge. Il convient de noter d’emblée que la recherche et les détails de cette activité se heurtent à un certain nombre de difficultés liées à la rareté des informations, et que le chercheur tente de trouver des solutions et des réponses à ses questions en utilisant des signaux de source ou en recourant à certaines approches au sein de la zone géographique. Du Maghreb Central. 
 En tout état de cause, l’objectif que nous visons en dessinant les caractéristiques générales de l’histoire de l’artisanat dans cette ville est d’appréhender le patrimoine culturel et urbain de cette ville en lui fournissant des activités d’étude, de recherche, d’entretien et de préservation.

Mots-clés : Fossiles ; Artisanat ; Mascara ; Moyen Âge ; Maghreb Central

This article explores some aspects of craftsmanship practiced by the inhabitants of the city of Mascara during the Middle Ages. It should be noted at the outset that this research faces a number of difficulties related to the scarcity of information, in front of this reality, the researcher is trying to find solutions and answers to his questions through the available source references, or by resorting to some approaches within the geographic space of the Central Maghreb. Whatever the matter, the goal that we aspire to by drawing the general features of the history of crafts and craftsmanship in this city is to circumvent the cultural and urban heritage that this city left behind by serving it through study and research in order to preserve it.

Keywords:Fossils; crafts; Mascara; Middle Ages; Central Maghreb

Quelques mots à propos de :  العربي لخضر

 المركز الجامعي نور البشير البيّض larbi_lakhdar@yahoo.fr

مقدمة

يبدو من باب الإنصاف القول بأن التاريخ العريق لمدينة "الراشدية" أو "المعسكر" لم تزل الكثير من صفحاته مغمورة، سيما في العصور السابقة لعصرنا هذا، والتي تمتد إلى بداية استقرار  الانسان في شمال إفريقيا(إنسان تغنيف: أقدم إنسان في شمال إفريقيا1)؛ ورغم محاولات ثلة قليلة من الباحثين سبر أغوار المنطقة، خاصة في الفترة الحديثة والمعاصرة، إلاّ أن "معسكر العصر الوسيط" لم تُسَجَل ضمن حفريات البحث إلا في السنوات الأخيرة، وفي حدود علمنا، من خلال أحد المشاريع البحثية التي حاولت التأريخ للمدينة وأحوازها، وتتمثل أساسا في كتاب: "معسكر المجتمع والتاريخ"، الذي ساهم في إعداده ووضع لبناته مجموعة من الباحثين، ونسّق له أ. د. عبيد بوداود، وصدر الكتاب سنة 1435هـ (2014م) عن مخبر البحوث الاجتماعية والتاريخية بجامعة معسكر، وعرض الكتاب خمس عشرة بحثا، تطرق معظمه إلى تاريخ المنطقة في الحقبة الحديثة والمعاصرة، وانفرد عنها بحث واحد سلط  صاحبه (أ. د. عبيد بوداود) الضوء على مدينة "معسكر وأحوازها في العصر الوسيط من خلال المصادر الجغرافية العربية".

وإنّه لمن الضرورة بمكان التنبه إلى ضرورة دراسة تاريخ هذه المدينة، خاصة ما يرتبط بالعلاقات بين المجال الجغرافي الذي تشغله والإنسان الذي يعيش في ذلك المجال من المدينة وكورها وأريافها وبواديها. لا سيما وأن تلك العلاقات قد أفرزت كثيرا من الإبداعات الحضارية: في تنظيم المجتمع وطرق العمران وأنماط العيش. وهذا ما دفعنا إلى اختيار موضوع: "مقدمات عن الحرف وتنظيماتها في مدينة معسكر خلال العصر الوسيط"، كمحاولة للبحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لهذه المدينة خلال الفترة الوسيطية.

وقبل أن نباشر حفرياتنا عن الحرف في هذه المدينة، نشير إلى أن ثمة مشكلة منهجية تعتور طريقنا، وتكمن في ندرة المادة الخبرية التي نقلتها لنا المصادر، سيما أخبار مدينة معسكر التي يبدو حضورها التاريخي محتشما جدا، وتهميشها لأخبار الحرفيين والصناع بصفة عامة، رغم أنهم في الحقيقة هم من شكلوا القاعدة الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع المدينة لهذا العهد، كما ساهموا كثيرا في بناء ثروة الدولة ومآثرها، وحتى المصادر المتخصصة ككتب الجغرافيا والرحلات التي لطالما اهتمت بالأنشطة الاقتصادية عموما، إلاّ أنّها تدخل في السياق نفسه، حيث أنها لا تذكر تفاصيل كافية عن النشاطات الحرفية المختلفة، والأضرار والمخاطر والمشاكل التي كانت تكتنفنها. لذا فالنصوص التي أرخت لتاريخ المدينة جاءت مقتضبة جدا وهزيلة، حيث طغى عليها العموم والتواتر، ولم تتناول بالذكر إلا بعض سمات المدينة وبعض الأصناف الانتاجية التي شاعت في هذا البلد وأحوازه دون ذكر تفاصيل أخرى.

لذا سنستعين ببعض النصوص في إطار المغرب الأوسط من أجل سد ما تبقى من ثغرات، ولتقديم تصور قريب عن واقع الحرف بهذه المدينة خلال العصر الوسيط، ذلك لأن المدن الإسلامية في المغرب الإسلامي تتشابه إلى حد بعيد في طرق بنائها ووظائفها ونشاطاتها وأسواقها وتنظيم الحرف بها، وكذلك لكون النصوص التي تؤطر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تخضع لتشريع واحد هو الدين الاسلامي الحنيف المتضَمن في مذهب الإمام مالك بن أنس- رحمه الله -

1. موضع المعسكر

تنتصب مدينة "المعسكر"2في موضع على السفح الجنوبي لجبل الناظور، على ارتفاع يقدر بخمسمائة وخمس وثمانين مترا (585م)، وهي تنتمي إلى جبال بني شقران، التي تعد امتدادا لسلسلة الأطلس التلي الداخلية. وتمتد ما بين خط الطول °2,11غرب خط غرينيتش، خط العرض °35,26شمالا.

وتتصل أعمالها لتشمل وادي الصفاصف وأفكان على مرحلة"3من ناحية الغرب والجنوب الغربي، وسهل غريس من ناحية الجنوب؛ ويقابلها من الجهة الشرقية جبل فرحان ويلل"،4ومن الجهة الشمالية تنتهي أعمالها إلى أحواز عمالات مستغانم ووهران.

وذكر الحسن الوزان أثناء زيارته للمغرب الأوسط في حدود الربع الأول من القرن العاشر الهجري (16م) أن مدينة معسكر تقع ضمن إقليم بني راشد الذي: "يمتد على طول نحو خمسين ميلا من الشرق إلى الغرب، وعلى عرض يقرب من خمسة وعشرين ميلا، جهته الواقعة جنوبا كلها سهول، والواقعة شمالا كلها تقريبا مرتفعات، لكن أراضها معا صالحة للزراعة"5. كما بين أن مدينة معسكر تأتي في الرتبة الثانية -بعد قلعة هوارة- بهذا الإقليم من حيث أهميتها السياسية والإقتصادية والعمرانية.6

وقد انعكس هذا الامتداد الجغرافي على إقليم مدينة المعسكر فأكسبه كثيرا من المزايا والثروات الطبيعية، تتمثل في الموقع الحصين والسهول والجبال والمراعي والمروج والغابات وعيون الماء والأودية. وقد أثرت هذه الخصائص الطبيعية عبر الفترات التاريخية المختلفة على الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمدينة.

وأشار الحسن الوزان في وصفه للإقليم، إلى أنماط معيشة الساكنة بالبادية والمدينة ومستواهم المعيشي، وطرق العمران بالمجال الريفي والمجال الحضري، حيث يقول: "ينقسم السكان كذلك قسمين، فأهل هذه المرتفعات يسكنون دورا لائقة جدا مبنية بجدران، ويزرعون الحقول والكروم، ويشتغلون بسائر ضروريات المعيشة؛ وسكان السهول، وهم أشرف بكثير، يقيمون في البادية ويعيشون تحت الخيام معتنين بماشيتهم، ولهم عدد وافر من الجمال والخيل، وهم أثرياء جدا يؤدون بعض الإتاوات إلى ملك تلمسان".7

 إن الموضع الذي خطت به مدينة معسكر يستجيب لكل الشروط التي حددها فقهاء العمران للمدينة المثالية من المحرث الطيب والمحطب القريب والماء والهواء والموقع الحصين، وهذه المميزات رشحتها لأن تنال موقعا إستراتيجيا فريدا، جعلها تحظى بمكانة اقتصادية وتجارية فقد كانت فيما بين القرن الخامس والسادس الهجريين ضمن محطات طريق الرحلة والتجارة الذي يربط بين تلمسان وتنس؛8ولعل هذا ما جعلها أيضا تحظى -فيما بعد- باهتمام ملوك بني زيان حيث اتخذوها مركزا لهم وعينوا بها خليفة ينوب عن السلطان الزياني، ويسير شؤونها.9

 يتضح من المعطيات السابقة أثر طبيعة البيئة الجغرافية واختلاف المظاهر التضاريسية لمدينة معسكر التي لا شك أنها تتحكم إلى حد بعيد في اختيار أفراد مجتمعها لنشاطاتهم الاقتصادية، انطلاقا من المجال الذي تشغله، ذلك أن الانسان في كل الأحوال هو ابن بيئته.           

 

2. الحرف في "المعسكر"

تعدّ الحِرَف من الأعمال الإنسانية الموغلة في تاريخ البشر، التي ارتبط ظهورها بظهور الإنسان وحاجته إلى البحث عن الطرق الموجبة لتحصيل القوت والوسائل المستخدمة في ذلك. وظلّت الحرف تتطوّر وتتوسع مع تطور تفكير الإنسان في الاتخاذ المسكن وصنع اللباس. ولا زالت الحضارات التي عرفتها المجتمعات الإنسانية عبر تاريخها الطّويل والحافل، تكشف إلى يومنا هذا بين الفينة والأخرى أثارا ومستجدات عن ذلك التّطور والتّنوع في أساليب وطرق وفنون العمل الحرفي.

أما عن الحرف في مدينة المعسكر فقد كانت نشاطا اقتصاديا في غاية الأهمية، ساهم في تقديم أشكال متنوعة من الخدمات لمجتمع "القرية العظيمة"10، إنْ في مجال المعاش، والتجارة، والبناء، والتّحويل، والرّعاية الطّبّية؛ كما كان لها دور بارز في بناء الثّروة والاقتصاد. لذلك أقبل الناس على تعلمها وتنافسوا على الحذق فيها، كما سهروا على تعليمها وتلقين أبجدياتها لبَنِيهِمْ حتى يأمنوا الفقر على أنفسهم. ولما كانت المدينة تتوفر على كل الإمكانيات الّتي تسمح بذلك، كالأرض الخصبة، والغابات والنباتات المختلفة، والمراعي والمروج، ومقالع الحجارة والطين، والأسواق، وشبكة المواصلات التجارية، كان الاتصال بالحرف أيسر وأسهل وأقدر للناس على ترويجها؛ خاصة لما كانوا عرفوا به من المثابرة وحب العمل.11

ولما كانت المدن "تتقارب في حالاتها وتتدانى في صفاتها"12وتتماثل في تنظيمها وطرق تسييرها والاشراف عليها، فمدينة المعسكر من دون أيّ شك لم تشذ عن هذه القاعدة، فقد كانت مهمّة تعليم الحِرف فيها -مثلها مثل ما في بقية مدن المغرب الأوسط-من اختصاص أصحاب الورشات أو المحلات، نعني المعلّمون الّذين كانواْ يعملون على تكوين الحرفيين وتعليمهم آليات الصّنعة؛ حيث يلتحق التلميذ المبتدئ عندما يقبله المعلم بالورشة، ويبقى تحت التمرين مدّة معينة تمكنه من إجادة الحرفة وإتقانها وتحمّل مشاق التدريب؛ وخلال فترة التّمرّن كان التلميذ يتقاضى أجرًا شهريًا حسب درجة حذقه ومهارته؛ إلى أن يبلغ مبلغ الصانع الحاذق فيستقلّ بحرفته في ورشة جديدة، أو يعمل أجيرًا في ورشة معلّمه.13ولا نعدم أن المدينة كانت تتوفر على بعض الورشات المؤهلة لذلك؛ حيث كان أرباب هذه الورشات لا يستغنون في أعمالهم عن العمّال الأجراء داخل ورشاتهم لإنجاز طلبات النّاس الّتي لا يمكن لصاحب الورشة أن ينجزها بمفرده، لذا يضطر-في بعض من الأحيان- إلى استئجار من يعلم حذقه بالصّنعة لمساعدته.

ولم تكن ممارسة الحرفة حكرًا على الرّجال، فقد كانت أغلب النّسوة في المجتمع الزياني تمارسن نشاطات حرفية مختلفة ومتنوعة، كالغزل والنسيج، وصناعة الأواني الفخارية، والصباغة، وصناعة الأطباق والقفاف وغيرها، رغبة منهنّ في مساعدة أزواجهنّ، وتلبية حاجيات المنزل.14

أما عن الحرف بأحواز مدينة المعسكر وحتى داخل نسيجها العمراني لا تكاد النصوص تعلمنا بشيء حولها، سيما المصادر المتقدمة عند: ابن حوقل(ت:380هـ)،والبكري(ت:487هـ)، والإدريسي (ت: 560هـ)،الحميري (ت: 560هـ)،15ولم تتجاوز على وجه الاجمال الإشارة إلى عظمة المدينة "قرية عظيمة" وكثرة أشجارها وثمارها وفواكهها؛ غير أن تعبير القرية العظيمة الذي وصفت به مدينة المعسكر لا ينسحب إلا على المدينة التي قطعت شوطا في العمران وأوشكت أن تستبحر فيه، وهو ما يجعلنا نستقر على أن المدينة كانت تعج بالأرزاق لأن كثرة العمران واتصاله بالمدن والقرى تؤدي إلى كثرة الأرزاق، أما تناقضه فمؤذن بخرابها وذهاب أرزاقها.16

وتشير بعض المصادر المتأخرة إلى معاني كثيرة يفهم منها انتشار الحرف بمدينة المعسكر والمناطق التابعة لها أو في إطار إقليم بني راشد، حيث يذكر الحسن الوزان في معرض وصفه لمدينة معسكر: "...، ويعقد بها سوق كل يوم خميس يباع فيه عدد وافر من الماشية والحبوب والزيت والعسل، وكثير من منسوجات البلاد وأشياء أخرى أقل قيمة، كالحبال والسروج والأعنة وحاجيات الخيل"17.

 يُفْصِحُ النص عن عدد من الحرف تتمثل في: التجارة وما ينضوي تحتها من حرفيين، تربية الماشية، الزراعة، استخراج الزيت أو عصر الزيتون، تربية النحل، النسيج، فتل الحبال، صناعة السروج والأعنة واللجم (عدة الخيل)، بالإضافة إلى حرفة البناء وحرفة البغالين.18

أما عن المستوى المعيشي لأصحاب الحرف والصنائع بالمدينة فيشير الوزان إلى أنهم كانوا يسكنون دورا لائقة جدا مبنية بجدران، ويعملون بزراعة الحقول والكروم، ويشتغلون كذلك بسائر ضروريات المعيشة، وأما أهل البادية فيعيشون في الخيام ويعكفون على الاعتناء بالماشية، لذلك يملكون عددا كبيرا من الجمال والخيل، ويضيف الوزان إلى أنهم أثرياء جدا، ويدفعون بعض الضرائب إلى سلطان تلمسان.19ويستثنى من هذا الوصف ممتهني حرفة البَغَّالَة الذين ينعتون بالبغالين ويستأجرون للقيام على البغال بإسطبل نائب الملك بالمدينة، حيث كانت من الحرف الوضيعة التي يأنف الأجراء عن العمل بها، لما فيها من الشقاء وقلة الأجرة التي لا تكفي عادة، لذا كان البغالون في بعض الأحيان يرأبون النقص في الأجرة عن طريق امتهان السرقة في السوق، وقد وقع الحسن الوزان  ضحية لأحد البغالين اللصوص خلال زيارته لسوق المعسكر حيث سرقت منه عنان فرسه، وقد استرجعها جنود نائب السلطان ومكنوا صاحبها منها؛ وقد كانت عادة السرقة هذه مستشرية بين البغالين في كل البلاد، ويفهم من تصرف الجنود في سياق هذه الحادثة أنه قد تم تعيينهم لحراسة ومراقبة السوق ورواده من نائب الملك من أجل توفير الأمن لرواد السوق من تجار وحرفيين، ومراقبة محلاتهم والحفاظ على سلعهم، يقول الوزان: "ولما كنت في هذه الناحية اتفق أن ذهبت إلى هذا السوق لشراء بعض ضروريات السفر الذي كنت أقوم به إذ ذاك إلى تونس. ووصلت إليه ممتطيا فرسي وأول ما اشتريته حبال الخيام. وبعد أن فرغت من شرائي، ...، ثم استقمت ووضعت الرجل في الركاب. لكنني لم أجد العنان عندما أردت امساكه، فنظرت هنا وهناك ...، وإذا بسيافين من خدام الملك أتيا وقالا لي: يا سيدي، لقد سرق عنانك بغّالان للخليفة لم يدريا أنك ضيفنا، فرأيناه وأخذناه منهما بالقوة فانظر هل سرقا لك شيئا آخر! وبعد ذلك اشتريت كل ما كنت محتاجا إليه وعدت إلى المنزل".20

ومن هذه الحادثة التي وقعت للوزان يتجلى دور السلطة في تأطير الحياة الاقتصادية، وتوفير الأمن والاستقرار للحرف والصنائع والأسواق، التي كانت تمثل مصادر مهمة تذر على خزانة الدولة مداخيلا ثابتة من خلال ما تضربه عليها من إتاوات كانت تؤدى بشكل منتظم.  ولا شك أن استفادة الدولة من ذلك في بناء اقتصادها وثروتها، وفي صرف رواتب الجيش، وفي إقامة المشاريع العمرانية، وتشييد الصروح الدينة والعلمية وغيرها.

3. الضرائب على الصناع والحرفيين

فرضتالسلطة المركزية لمدينة المعسكر حزمة منالضّرائب على الحرفيين والصناع القارّيين والمتنقلين، الّذين كانوا يدفعون المغارم عادة في محلاتهم عند بلوغ أجل جمع الضريبة الذي تحدده السلطة، أو عند أبواب المدينة إذا أرادوا الدخول. ويبدو من خلال الحسن الوزان - في الفترة المتأخرة- أن حجم هذه الضراب كان كبيرا جدا، فقد كان مجموع ما تدفعه مدن وقرى إقليم بني راشد خمسة وعشرين ألف مثقال وما يقابله من المقاتلين بين الراجلين والراكبين.21

 والضرائب على الحرف كانت تقرر حسب دخل الصّنّاع، ويرجع تقديرها وتحصيلها لأمين كل صنعة من الصنائع في المدينة؛ ويقوم هذا الأمين برفعها إلى المحتسب أو إلى صاحب الأشغال بالمدينة الذي يحتفظ بإحصاء شامل لكل الصناعات وأربابها وعمالها.22

4. تنظيم الحرف في المعسكر (الطوائف والمجال)

أشرنا فيما سبق إلى اهتمام السلطة (الممثلة في نائب الملك المقيم بمدينة المعسكر) بالحرف والصنائع وتوفير بعض الخدمات لها كالحراسة والمراقبة. لكن بالنسبة لتنظيم مجالات الحرف داخل الحيز العمراني لمدينة المعسكر فمن الوهلة الأولى يبدو أن المصادر التي بين أيدينا لا تمدنا بمعلومات كافية -إن لم نقل أنها منعدمة تماما- لاستجلاء مضمرات هذه القضية، وفي هذه الحال وأمام غياب القرينة لا يسعنا إلا أنّ نسلم -في إطار عموم الظاهرة- بوجود تقاليد كان يخضع لها الحرفيون والصناع، وعلى غرار بعض مدن المغرب الأوسط عرفت أسواق الحرف بالمعسكر بعض أشكال التّضامن والتّعاون بين أصحاب كل حرفة، وهو ما اصطلح عليه بنظام النّقابات،23وأرباب الصّنائع، وأصحاب المهن، والاتحادات المهنية،24وهي تعابير توحي في مجملها بطبيعة الولاء الذي كان يكنه الحرفي أو الصانع وحتّى المتعلّم إلى أهل حرفته.

يستوقفنا مفهوم كلمة "البغّالين" التي وردت على لسان نائب السلطان الزياني في داره بمدينة المعسكر خلال مأدبة الغذاء أقامها على شرف الحسن الوزان، الذي أخبر النائب عن أحداث السرقة التي جرت له بالسوق، فبعد أن استفاض نائب الملك في وصف مهنة البغّالة وحالة البؤس والشقاء التي يعيشها البغّالون وضعف مداخيلهم علّق قائلا: "كافة البغالين ببلادنا تعودوا على ذلك (يعني السرقة) منذ طفولتهم".25فبالرغم من أن الكلمة لا تعدو أن تكون وصفا لأصحاب تلك الحرفة، إلا أنها توحي إلى دور هؤلاء الحرفيين الإيجابي والسلبي من خلال أعمالهم في المجتمع، كما يشير السياق إلى أنهم كانوا معروفين من غيرهم بهذا النشاط ويسهل الوصول إليهم . أي أن للحرفة طائفة تتكون من مجموعة من الأفراد، وقد كان المنتمون الجدد إلى هذه الطائفة -الذين كانوا عبارة عن أحداث وغلمان- كانوا يتلقون أبجديات الحرفة (البَغَّالة) عن طريق المشرف عليها أو المنتسبين إلى الطائفة قديما. وهذا المعنى ينمي عن وجود مكان بالسوق يقصده كل من احتاج إلى استئجار بغالين للخدمة.

وبالتالي فمن خلال هذا النموذج الوحيد في بابه، يمكننا تعميم هذا التنظيم على كل الحرف التي كانت بمدينة المعسكر، والتي لا نملك عنا إلا إشارات تفيد ببعض أسمائها فقط، كالفلاحين، وعاصري الزيت، ومربي الماشية، والنحالين، النساجين، السراجين، واللجامين، والبنائين، والبغالين، فهي توحي إلى أصحاب الحرفة الواحدة،  كما يظهر من خلالها الولاء الذي يكنه الحرفي لجماعته؛ وهكذا دواليك مع بقية الحرف الأخرى حيث تنحى التنظيم نفسه؛ وتنتظم تلك الجماعات الحرفية من الصناع في مجال السوق الفسيح متجاورين في مكان واحد منه، أو في زقاق واحد منه يعرف باسم الحرفة التي تشغله، متصلين بعضهم ببعض يوميا، تجمعهم روابط مختلفة اجتماعية، واقتصادية، وفكرية يؤطرها ويسوسها الدين.

وكان من ضمن الجماعات الحرفية طوائف حرفية أخرى تنشط في إطار الجماعة تضم أفرادا يمارسون أعمالاً أخرى أمثال: السّماسرة، والدّلالين، وسائقي الحمير، والحمالين وغيرهم.26هذا بالإضافة إلى جماعات حرفية أخرى كان يجمعها هذا النّظام، كأصحاب المدابغ، والمصابغ ومصانع الكبريت، وغير ذلك من الحرف الّتي لم تكن تتركز في الأسواق، وإنّما خارج أسوار المدينة،27وهناك كثير من الحجج تشير إلى وجود طوائف حرفية أخرى لمن لا يملكون محلات أو دكاكين، وإنّما كان عملهم متمركزًا في فضاءات مختلفة كالنّقاشين، والسبّاكين والسّقّائين، وبائعي العصير، والقابلات.28

وقد خضع توزيع الحرف وتنظيمها داخل المجال العمراني للمدينة إلى مجموعة من الاعتبارات نابعة من تعاليم الفقه الاسلامي، والأخلاق والآداب الاجتماعية، الهدف منها رفع الضرر والحرج منها:

×                       مراعاة المصلحة العامة للناس على المصلحة الخاصة للحرفيين.

×                       إبعاد بعض الحرف عن المجال العمراني والتي تشكل خطرا كبيرا على السكان، أو مضايقات يومية لهم: من جراء الضجيج، أو النار والرماد، أو الرائحة الكريهة، كالدباغة والصباغة والحدادة وصناعة الفخار.

×                       وضع بعض الحرف في أماكن تساعدها على ممارسة نشاطها، بحيث تكون قريبة من الماء والساحات الواسعة، كالأرحاء تحتاج إلى المياه لإدارتها، وغسل الصوف وتبييض الملابس.

لذا فأسواق الحرف في المعسكر وكغيرها من مدن المغرب الأوسط، وإذا ما أسقطنا على رحابها نموذج التنظيم الذي كانت تخضع له أسواق مدينة تلمسان، نجد أنها لا تختلف عنه كثيرا، لأن المدن الوسيطية لا تتباين كثيرا في أحوالها وصفاتها -كما ذكرنا سلفا-فقد كانت الأسواق  مقسّمة بين هذه الطوائف المختلفة مثل: العشّابين والعطّارين، والخرّازين، والخياطين، والنسّاجين، والحاكة، والقبابين، والإسكافيين، والحدادين والصّفارين، والخراطين، والكتبيين (الوراقين)، والفخّارين، وأشار الوزّان إلى أنّها كانت موزعة على مختلف الأحياء والسّاحات والأزقة.29

وكان لكل حرفة شيخ أو رئيس أطلق عليه اسم "الأمين"،30يعيّن على رأس كل طائفة عن طريق الاختيار أو الانتخاب، بحضور المحتسب، وبالتّعاون مع أصحاب الحرف، ويكون ممثلاً للحرفة.31والظاهر أن كل حرفة أصبحت لها أصولها وأعرافها، حتّى كانت هذه الأعراف مقبولة لدى المحتسب والقاضي في فض النّزاعات المهنية، لخبرة الأمناء والصّنّاع بخبايا الحرف والصّنائع وتجربتهم الطّويلة في معرفة أساليب الحرفيين، وعدم تبصّر القضاة والمحتسبين بها.

ولعلّ من واجبات الأمين: النّظر في شؤون الطائفة، والسّهر على مراقبة الصّنّاع، ومدى احترامهم لقواعد الحرفة، ومعاقبة كل من يخالف أصولها؛ فعلى سبيل المثال إذا أنتج النّسّاج قطعة قماش تخالف مقاييس الطول والعرض، أو غشّ في مادة النّسيج، وخرج عن المتعارف عليه في ذلك، يقوم الأمين بمصادرتها وتمزيقها،32ويعلقها في قارعة السّوق حتّى تكون عبرة لمن تحاكيه نفسه بذلك. كما يساعد الجباة على تحصيل الضرائب؛ وكان وسيطًا ومخاطبًا رسميًا لفض الخصومات بين أهل الحرف والزبون أو مع أجهزة الدولة، بالإضافة إلى كونه مسؤولاً عن تبليغ مشاكل الحرفة والحرفيين إلى الأطراف المسؤولة في الدولة.33

4. 1.  شكل التنظيم الاجتماعي للطائفة:

 

 

 

 

 

المرجع: من عمل الباحث.34

تتكون الطائفة من العناصر التالية:

×                       أمين أمناء الطوائف الحرفية: يشرف على كل الطوائف الحرفية، ويساعده أمناؤها.

×                       أمــــين (أو الشيخ) الحرفة أو الطائفة الحرفية:

- يعين على رأس كل طائفة حرفية، من المحتسب وأرباب الحرفة، ويكون ممثلا للحرفة.

- مهمته: النظر في شؤون الطائفة.

- مراقبة مدى احترام الصناع لقواعد الحرفة وأعرافها، ومعاقبة كل من يخالفها.

- فض الخصومات بين أصحاب الحرف.

- مساعدة الجباة في عملية تحصيل الضرائب.

- مرافقة المحتسب في جولاته التفتيشية بالأسواق والورشات.

- تبليغ مشاكل الحرفيين إلى الأطراف المسئولة في الدولة.

×                       أرباب الصنائع أو المعلّمين: وهم أصحاب الورشات:

- يشرفون على إنجاز الأعمال وتوجيهها.

- يتابعون عمل الصناع الأجراء.

- كما يتولّون مهمّة تعليم الصنعة للتلاميذ الجدد.

×                       الـصناع الأجـراء: يستخدمهم صاحب الورشة أو المعلم في إنجاز أعماله إذا كانت كثيرة، وهم أصحاب خبرة وحذق بالصنعة، ويدفع لهم أجرة لقاء ذلك.

×                       الـخدم أو الـغلمان:

- يستخدمهم المعلم أو رب الورشة لإيصال المصنوعات إلى منازل أصحابها بالأحياء.

- كما يرسلهم في حاجته، ويستجلب بهم سلعته، على مقابل يدفعه لهم.

الـتلاميذ: وهم الملتحقون الجدد بالورشة بغرض تعلم الحرفة، ويسهر المعلّم على تدريبهم أصولها وطرقها وأدواتها، ويحثهم على إجادتها وإتقانها، ويتلقون أجرا شهريا على ذلك.

4. 2. التنظيم الاقتصادي للحرف

ويضمّ هذا الإطار أهم الأطراف المساهمة في التأطير الاقتصادي للحرف من حيث: إحصائها، وتعيين المشرفين عليها، وجمع الضرائب، إلخ، وهم:

 

 

 

 

 

 

المرجع: من عمل الباحث.35

5. الحسبة آلية للرقابة على الحرف

وبالإضافة إلى ما أشرنا إليه من دور السّلطة في تنظيم أسواق الحرف والتجارات بالمدينة من خلال توفير الأمن لها وحراستها، فقد ساهمت في القيام على إصلاحها بتعيين المحتسبين والأمناء والعرفاء.36

وكان لوظيفة الحسبة في هذا الشأن دور هام في تنظيم الحرف، وحماية الزبائن وتيسير المعاملات، فكان المحتسب ملازما للأسواق ويقوم بجولات تفقّديّة متكرّرة، يركب في كل وقت ويدور على السّوقة والباعة، ويبحث الدكاكين والطرقات، وحوله أعوانه، ومعهم المكاييل والموازين، والأرطال ويتفقّد الأطعمة، وما يغشونه.37

وكان المحتسب إذا أراد أن يكشف على شيء يصطحب معه واحدًا من الأمناء الثّقات فيعتمد على قوله، فإن ثبت عنده شيء من الزّيف والغش، عزّر الفاعل حسب جرمه، وشهر بغشه أمام النّاس وفي الأسواق.38

ولم يكن دور المحتسب مقتصرًا على مراقبة الأسواق وحسب، بل كان في مرات عديدة يطوف على الأطباء والصيادلة والمؤدبين، والمدرسين، فيتفقد أحوالهم ويعاين محلاتهم، وكان يحضر معه من يوثق به من الأطباء والعلماء، ويختبرهم بحضرته، فإن علم أنّهم قد امتلكوا القدر الكامل من المعرفة والدّراية الّتي تؤهلهم لممارسة مهنهم على أفضل وجه، خلّى سبيلهم وأعمالهم، وإلاّ عاقبهم بالضّرب أو السجن.39

ومن صور نظام الحسبة استحداث السلطة، لا سيما في الفترة الزيانية، بعض المقاييس والمكاييل السّلطانية الّتي من شأنها رفع النّزاعات وحلّ الخصومات بسهولة، وحتى يلتزم بها التّجّار في معاملاتهم؛ فقد وضع السّلطان أبو تاشفين الأول (حكم 718-737هـ/1318-1337م) صاعًا - عرف بالتّاشفيني -يكون أساسًا لمكاييل السّوق، وعرف بعد ذلك باسم: "الوهراني"، أخذ به النّاس إلى عهد قاسم العقباني قاضي تلمسان المتوفى سنة 854هـ40ولعلّ الإجراء الذي قام به هذا السلطان قد تمّ تعميمه على الأسواق الواقعة في كل المدن الزيانية ومنها المعسكر.

ومما يقع أيضا ضمن صور الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التأليف العلمي لتوعية الممتهنين لها وإرشادهم إلى ضرورة التفطن لما يقترفه الحرفيون والصناع من ممارسات وحيل غير شرعية غرضهم منها رفع نسبة الأرباح، بكشفها لهم وتبيين حجم الضرر الذي يقع للناس من جرائها؛ حيث يعدّ محمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد  العقباني التلمساني مصنّف كتاب: "تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر" يعتبر أبرز تأليف في هذا الميدان، خلال فترة القرن التاسع الهجري، إذ لم يصلنا غيره،41  وفي طيّات الكتاب نجد عدة نوازل وقعت في حواضر بلاد المغرب الأوسط رصدت بعض العادات السيئة المتبعة في بيع اللحم، والخبز وغيرها، كما تضمّن الكتاب بعض التّصرّفات غير اللاّئقة من بعض المحتسبين في ذلك العصر، وفي هذا المجال يبدي المؤلف أسفه العميق حول ما آلت إليه خطة الحسبة من تدهور، وما عرفته ذممُ المشتغلين بها من فساد.42

وبالرغم من مظاهر التنظيم والتّأطير- التي ذكرناها سابقا- الّتي سعى السلاطين ونوابهم والقضاة والمحتسبون على إرسائها بين صفوف الرعية وتخضع لها الأقاليم والمدن، إلاّ أنّ الميدان عرف العديد من المخالفات الشّرعية بين المتعاملين، بل حتّى من  المحتسبين أنفسهم؛ ومن بين هذه المخالفات الّتي أصبحت عادة كما أشار  إلى ذلك العقباني: "وكذلك تقررت العادة ببلدنا تلمسان أنّ ما يبيعه الجزار من اللّحم يدخل في وزنه شيء من الكرش والمصران، على قدر شدة الثّمن وقلته، إلاّ أنّ ذلك لا ينضبط تساويه بين جميع النّاس على نسبة محفوظة من كل ثمن ومثمون، وإنّما يختلف بحسب اختلاف من يتقي بأسه من المستضعف الّذي لا ناصر له إلا الله"؛43ويضيف على وجه التّفصيل: " فالأول يـحمل القليل من الكرش وقد لا يحمل شيئا بحسب اختلاف درجاتهم والآخر يحمل الكثير من مصابته كرشًا ومصرانًا ".44

كما إعتاد بعض الخبازين وأصحاب الأفران، أن لا يتركوا الخبز حتّى ينضج ويطيب للأكل بل كانواْ يطرحونه عند أصحاب الحوانيت قبل أن يحين ذلك؛45وكان المحتسب عوضاً من أن يقوم بمصادرته ويمنع بيعه، ويؤدب الفرّان وصاحب الحانوت، كان يتغاضى عنهم، لأنّهم كانوا يؤدّون له الرشاوى.46ويرى العقباني أنّه من الواجب الاحتساب على الوالي عليهم قبلهم ويكون بالأدب المبرح.47

والظاهر أنّ خطّة الحسبة قد شهدت تراجعا وتدهوراً على عهد المؤلف (القرن التاسع الهجري) بسبب فساد ذمم المحتسبين وارتشائهم من بائعي اللّحم، وأصحاب الأفران والخبّازين ...، بعدما كانت من أوليات الشريعة ظاهراً وباطناً.48ولم يكن هذا الوضع يتعلق بتلمسان فقط، بل عمّت بلواه كثير كبريات مدن المغرب الإسلامي – كتونس وفاس- التي عرفت ظواهر مماثلة.

ولم تكن المعسكر بأحسن حالاً من سابقاتها، فقد بلغ من تراجع خطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه المدينة أن أصبح خليفة السلطان عليها لا يلقي بأفعال السرقة التي تبناها "البغّالون" واستشرت بين صفوفهم، فلم يحتسب عليهم رغم علمه بهم، بل كأنه استسلم فعلا لواقعهم لا سيما عندما يحاول تبرير أفعالهم تلك بعصوبة الوصول إلى استئجارهم بعضهم، ووضاعة الحرفة وكثرة مشاقها وتفاهة أجرتها، والأدهى من ذلك أنه يتركهم والسرقة ولا يكترث لمن تناله أيديهم، وهذا ما يلفتنا إليه الوزان لما روى مشاهد السرقة التي تعرض لها بسوق المدينة يقول: "وقد حكيت هذه القصة لنائب الملك أثناء تناول الغذاء، فقهقه ضاحكا وقال: لا تستغرب إذا ما قلت لك إننا نعاني كثيرا لنجد أناسا يعملون كبغالين، لأنها مهنة وضيعة وشاقة، بالإضافة إلى الأجرة التافهة التي ندفعها لهم والتي لا تكفيهم قطعا. فسواء ربحوا كثيرا أو قليلا جدا، وسواء استأجرتهم أنا أو استأجرهم غيري، فانهم يسرقون دائما، لأن كافة البغالين ببلادنا تعودوا على ذلك منذ طفولتهم. فنتركهم يسرقون وتعسا لمن لم يحترس منهم!".49

وعلى ما يبدو فإنّ من أسباب تراجع خطة الحسبة في بلاد المغرب الأوسط عامة تراجع نفوذ الدولة وهيبتها، واستمرار الأوضاع الفوضوية واللاأمن خلال القرون الثّلاثة الأخيرة من العصر الوسيط؛ بسبب الحروب من أجل بسط النفوذ على مناطق جديدة، وغارات القبائل العربية على البلاد القاصية عن مركز السلطة، وتراجع ظل الدولة عن نفوذها؛ وبالتّالي فهذا الوضع المشحون بالأحداث السياسية والعسكرية فسح المجال أمام بعض ضعاف الدّين من لا يرقبون إلاًّ ولا ذمّةً في أحد من المؤمنين،50وخروجهم عن النّظام العام الذي يحمي حقوق المسلمين ويعاقب عليها.

5. 1. شكل جـهاز الـرّقـابة علـى الـحرف

 

 

 

 

             المرجع: من عمل الباحث.51

دور هذا الجهاز مراقبة الحرف والأعمال، وقمع الغش والمخالفات ويتكون من:

×                       قاضي الجماعة:القاضي العام للبلد، يعين المحتسب، ويتدخل في حل القضايا التي قد يعجز المحتسب عن حلها أو أنها تتجاوز سلطته.

×                       المحتسب:يعينه القاضي، مهمته الرئيسية تتلخص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بـ:

             - مراقبة الأسواق والمعاملات التجارية.

             - محاربة الغش ومعاقبة المخالفين.

             - تفقد الورشات، والمكاتب، ....

             - فك النزاعات.

             - تفقد المقاييس والمكاييل والأوزان.

×                       الأمين:سبق الإشارة إلى دوره.

×                       الـعرفـاء:وهم من أهل الحرف وأعرفهم بها، يعينهم القاضي لمساعدة المحتسب، ويرافقونه في جولاته يختبر عن طريقهم أحوال الصناع وما يصنعون، فمثلا يعرض عليهم شيئًا ما ليروا هل يوافق الأصول أم لا؟ وبرأيهم ذاك يحدد حكم المصنوع ووضع الصانع.

×                       الـغلمان: يعينهم المحتسب، ويختبر بهم أحوال الباعة والحرفيين، كأن يبعث أحدهم ليشتري لحما من الجزار ثم يأتيه به فينظر المحتسب في نوع اللحم المباع، ثم يتأكد من وزنه، فإن ظهر غش الجزار عوقب أو عُزِّرَ بقدر جرمه وأذيته للناس.

×                       أرباب الصنائع وأصحاب التجارات: وهم الطرف المُراقَبُ.

6. خـاتمة

تعدّ هذه الدراسة محاولة للتنقيب في تاريخ الحرف والصنائع بمدينة المعسكر خلال الفترة الوسيطية. وللإشارة لا يزال هذا الجانب بحاجة لمواصلة البحث للكشف عن معالم التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لقطر المغرب الأوسط. ولعل الموضوع -إن شاء الله تعالى- يثير أسئلة جديدة تتجسد في محاولات أخرى تستجلى ما لم يتسنى لنا طرقه

الهوامش

[1]- هذا ما كان متداولا بين جمهور الباحثين والمتخصصين في تاريخ استقرار الانسان بربوع هذه البلاد(الجزائر)، لكن في الأمر قد تغير بعد الاكتشافات الأخيرة (سبتمبر - نوفمبر 2018)التي أعلن عنها فريق البحث المكون من ثلة من الباحثين: من الجزائر وإسبانيا وأستراليا وفرنسا، تحت إشراف الباحث الجزائري محمد سحنوني، حيث أعلن عن اكتشاف "أقدم" أدوات حجرية وبقايا عظام حيوانات تحمل آثار جزارة بموقع "عين بوشريط" يعود تاريخها إلى "مليونين وأربعمائة ألف عام" تؤكد على أن هذا الموقع هو "أقدم  تواجد بشري في شمال إفريقيا" و"ثاني أقدم تواجد بشري في العالم"؛ وهذا بعد موقع "قونا" في  اثيوبيا الذي يعود تاريخه الى "مليونين وستمائة ألف سنة".(https://sawtsetif.com/v/3627/ 23. 01. 2019/ 00:39).

2- ابن حوقل النصيبي، كتاب صورة الأرض، د. ط، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت،1992، ص:88.

3-المصدر نفسه، والصفحة ذاتها.

4- الإدريسي الشريف، أُنسُ المُهج وروض الفرج، د. ط، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2007، ص:196.

5- الوزّان الفاسي، وصف إفريقيا، ج:2، دار الغرب الإسلامي، بيروت،1983، ص:26.

6- المصدر نفسه، والصفحة ذاتها.

7- المصدر نفسه.

8-الإدريسي، المصدر السابق، ص:196.

9- الوزان، المصدر السابق، ص: 26.

10-الإدريسي الشريف، المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس مأخوذ من نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مطبعة بريل، ليدن، 1863، ص:83.

11- بوداود عبيد، "معسكر وأحوازها في العصر الوسيط من خلال المصادر الجغرافية العربية"، ضمن كتاب: معسكر المجتمع والتاريخ، تنسيق: بوداود عبيد، منشورات مخبر البحوث الاجتماعية والتاريخية (جامعة معسكر)، مطبعة الرشاد للطباعة والنشر، الجزائر (سيدي بلعباس)، 2014، ص:11.

12- الإدريسي، المصدر السابق، ص:105.

13- ابن مريم التّلمساني، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1986، ص ص: 38-39.

14- ابن قنفذ القسنطيني، أنس الفقير وعزّ الحقير، مطبعة أكدال، الرباط، 1965.ص: 80.

15- ابن حوقل، المصدر السابق، ص: 88-89؛ البكري أبو عبيد،المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، دار الكتاب الاسلامي، القاهرة، د. س. ن، ص: 79؛ الإدريسي، المصدر السابق، ص:82-83؛ الحميري محمد بن عبد المنعم، الروض المعطار في خبر الأقطار، مكتبة لبنان، بيروت، 1984، ص: 51.

16- ابن خلدون عبد الرحمن، المـقدّمة، دار الكتاب اللّبناني، بيروت، 1979، ص: 681.

17- الوزان، المصدر السابق، ص:26-27.

18- المصدر نفسه، والصفحة ذاتها.

19- المصدر نفسه، ص:26.

20- المصدر نفسه، ص:27.

21- المصدر نفسه، والصفحة ذاتها.

22- عزّالدّين عمر موسى، النّشاط الاقتصادي في المغرب الإسلامي خلال القرن السادس الهجري، دار الغرب الإسلامي، بيروت،2003، ص ص:210، 211.

23- رشيد بورويبة، موسى لقبال، وآخرون، الجزائر في التاريخ (العهد الإسلامي من الفتح إلى بداية العهد العثماني)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984، ص: 490.

24- يوسف أبيش، "المؤسسات الاقتصادية"، ضمن كتاب: المدينة الإسلامية، اليونسـكو. 1983، ص ص: 121-132.

25- الوزان، المصدر السابق، ص:27.

26- لويسماسينيون، "الطوائف الحرفية والمدنية الإسلامية"، المجلة الدولية للسوسيولوجيا، العدد /، 1920، ص ص: 473.

27- ليفي بروفنسال، الإسلام في المغرب والأندلس، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية،1990، ص:66.

28- يوسفأبيش، المرجع السابق، ص: 121.

29- الوزان، المصدر السابق، ص:19.

30-AtallahDhina, Les Etats de l’OccidentMusulmanaux XIII, XIVe et XVe siècles, Office des Publications Universitaire, Alger, 1984, p :345.

31- عبد العزيز الدّوري، مقدّمة في التاريخ الإقتصادي العربي، دار الطّليعة للنّشر والتّوزيع، بيروت، 1987،ص: 68.

32- أحمد المجليدي، التّيسير في أحكام التّسعير، الشّركة الوطنية للنّشر والتّوزيع، الجزائر،د. س. ن، ص: 56.

33- مولاي الحسن مغار، 2008/2009. الحرف والحرفيون بالمغرب الأقصى خلال العصر المريني، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الانسانية، جامعة مولاي إسماعيل مكناس، 2008- 2009، غير منشورة، ص: 163.

34- شكل التنظيم الاجتماعي للطائفة جاء وضعه لتقريب صورة التنظيم المعتمد من خلال النصوص المتوفرة. ينظر: الشروح الواردة بعد الشكل.

35- شكل التنظيم الاقتصادي للحرف تم استنباطه من خلال النصوص المتوفرة. راجع: الشروح السابقة للشكل والواردة بعده كذلك.

36- إبراهيم القادري بوتشيش، إضاءات حول تراث الغرب الإسلامي وتاريخه الاقتصادي والإجتماعي، دار الطليعة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت،2002، ص: 100.

37- محمد ابن الإخوة، معالم القربة في أحكام الحسبة، مطبعة دار الفنون، كيمبردج،1937، ص: 119.

38-  عبد العزيز محمد عادل، الجذور الأندلسية في الثقافة المغربية، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة،2006، ص: 69.

39- محمد العقباني، تُـحفةُ النَّـاظِر وغنيـةُ الذّاكر في حِفْظِ الشَّعائر وتَغييِر المنَاكِرْ،Damas: Bulletin d’EtudesOrientalesInstitutFrançais de Damas.، 1967، ص: 86.

40- المصدر نفسه، ص:105.

41- موسى لقبال، الحياة اليومية لمجتمع المدينة الإسلامية من خلال نشأة وتطور نظام الحسبة المذهبية في المغرب العربي، دار هومة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الجزائر، 2002، ص: 60.

42- المرجع نفسه، ص: 61.

43- العقباني، المصدر السابق، ص: 114.

44- المصدر نفسه، ص:114.

45- نفسه، ص: 118.

46-نفسه.

47- نفسه.

48- نفسه، ص: 114.

49- الوزان، المصدر السابق، ص:19.

50- العقباني، المصدر السابق، ص: 114.

51- شكل جـهاز الـرّقـابة علـى الـحرف. يراجع: آلية الرقابة على الحرف من هذا المقال والشروح التي تتبع الشكل.

@pour_citer_ce_document

العربي لخضر, «مقدمات عن الحرف وتنظيماتها في مدينة معسكرخلال العصر الوسيط»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 102-112,
Date Publication Sur Papier : 2020-08-17,
Date Pulication Electronique : 2020-08-17,
mis a jour le : 17/08/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7076.