التقلبات الجيوسياسية في المنطقة العربية ومنطقة الساحل وتداعياتها على الأمن القومي الجزائريGeopolitical fluctuations in the Arab region and the Sahel and its implications for Algerian national security
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N:02 vol 17-2020

التقلبات الجيوسياسية في المنطقة العربية ومنطقة الساحل وتداعياتها على الأمن القومي الجزائري
Geopolitical fluctuations in the Arab region and the Sahel and its implications for Algerian national security

ص ص 380-400
تاريخ الإرسال: 2019-02-14 تاريخ القبول: 2020-06-21

محمد رزيق
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تشهد المنطقة العربية ومنطقة الساحل منذ فترة وجيزة العديد من الاضطرابات والأزمات بل والحروب و"الثورات"...وذلك بتدخل فاضح للقوى الاستعمارية سابقا والنيوكولونيالية حديثا، بهدف السيطرة التامة على قدرات هذه المناطق ومقدراتها نظرا لعناصر قوتها الجيوبوليتيكية العديدة والمتنوعة، مما أدّى إلىتقلّب جيوسياسي عظيم أثّر على أمن وسلامة بل وسيادة دول هذه المنطقة وأعادها إلى أجواء الفترة ما قبل الاستعمارية أين كانت القوى الأوروبية تتنافس فيما بينها للظفر بهذه البلدان في إطار مشروعها الاستراتيجي.

الكلمات المفاتيح

المنطقة العربية-جيوسياسة- استعمار -منطقة السّاحل-الأمن القومي

Instabilité géopolitique dans la région arabe et la région du Sahel et ses répercussions sur la sécurité nationale algérienne
La région Arabe et le Sahel ont récemment connu de nombreuses perturbations, crises et même des guerres et "révolutions » par une intervention flagrante des anciennes puissances coloniales et néocoloniales. Cela, dans le but de contrôler pleinement les capacités de ces régions en raison de leurs potentiels géopolitiques riches et variés. C’est ce qui a provoqué un impact très significatif sur la sécurité de ces états et a eu un effet négatif sur leur souveraineté. Ils ont même étaient replongés à une époque précoloniale qu'on croyait révolue où les puissances coloniales européennes se faisaient concurrence pour s'accaparer de ces pays dans le cadre de leurs projets stratégiques.

Mots Clé :région arabe, géopolitique,colonialisme, région du sahel, sécurité nationale

Geopolitical instability in the Arab region and the Sahel region and its implications for Algerian national security


The Arab region and the Sahel have recently experienced many disturbances, crises and even wars and "revolutions" by a blatant intervention of the former colonial and neocolonial powers, in order to fully control the


capacities of these regions because of its geopolitical potential, which has a very significant impact on the security of these states and in this case Algeria. This geopolitical upheaval has had a negative effect on the security and even sovereignty of the states of this region and brought them back to a pre-colonial era that is believed to be over when the colonial powers competed to capture these countries as part of their strategic project.

Keywords:Arab region, geopolitics, colonialism, Sahel region, national security

Quelques mots à propos de :  محمد رزيق

 جامعة الجزائر2 medalgu@hotmail.fr

مقدمة

تشهد البلاد العربية بشقيها: المشرق والمغرب العربيين في العقود الأخيرة العديد من التقلبات الخطيرة التي ألحقت ضررا بالغا بالمعطيات الجيوسياسية للمنطقة، مما أدّى إلى:

- الحرب الأهلية في السودان منذ 1983وتفاقمها إلى درجة انفصال الجنوب السوداني عن الدولة الأم في الشمال عام 2011بمباركة غربية وصمت عربي وغياب الاتحاد الافريقي.

- العدوان العراقي على الكويت عام 1990، والتدخل الغربي في المنطقة كمقدمة لإضعاف العراق ثم ضربه عام 1991واحتلاله في 2003، بمشاركة قوى عربية وإفريقية            وإسلامية تحت مظلة الولايات المتحدة الامريكية.

- التدخل الأمريكي في الصومال عام 1992، بعد انهيار نظام "سياد بري"، ودخول البلاد في عهد من الحروب الأهلية وعدم الاستقرار. في ظل غياب الجامعة العربية والمنظمات الاقليمية.

- قيام العديد من الانتفاضات العربية في كلّ من تونس2010، ومصر وليبيا واليمن        وسوريا والبحرين والمملكة السعودية في 2011، والتي كان لليد الأجنبية الدور المحوري فيها لا سيما ليبيا وسوريا.

- الاضطراب الذي تشهده منطقة الساحل الإفريقي (الأزماتية)، خاصة مالي بعد الانقلاب على نظام "أمادو توماني توري" في مارس2012...

وفي ظل هذه التقلبات الجيو-سياسية فإنّ المنطقة العربية ومنطقة الساحل(الأزماتية) مرشّحة للدخول في عهد من الاضطرابات واللااستقرار وذلك من خلال قيام العديد من التقلّبات واختلال موازين القوى والتي من شأنها أن تفتح هذه المناطق للتدخّلات الأجنبية الغربية عامة والأمريكية والأوروبية خاصة (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، ألمانيا...)

إنّ الجزائر ليست بعيدة عمّا يحدث في المنطقة العربية ومنطقة الساحل اللتين تعدّان مجالا حيويا لأمنها واستقرارها وبالتالي فإنّ مخاطر هذا الانقلاب الجيو سياسي من شأنه أن يلحق أضرارا بالغة بالجزائر، خاصة وأنها بلاد واسعة الأرجاء وغنية بالثروات الطبيعية والمواد الأولية التي غدت هي أحد المحركات الكبرى (إلى جانب محرّكات أخرى قيمية وإيديولوجية ودينية وثقافية...)  للتحرّكات المريبة للدول الغربية تحت غطاء حماية حقوق الانسان والديمقراطية في هذه البلدان (ليبيا وسوريا خصوصا).

تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ما يحدث في هذه المناطق، انطلاقا من التركيز على الدور المحوري التي تضطلع به القوى الكبرى وعلى رأسها الدول الغربية أو القوى الاستعمارية سابقا، كما تسعى هذه الدراسة للوقوف على ملامح المشروع الذي هو بصدد التنفيذ في المنطقة، محاولين في ذلك أن نقف على مخاطر هذه التحولات على الأمن الجزائري بمفهومه العام في المدى المنظور وغير المنظور.

وعليه فإنّ الإشكالية المطروحة في هذه الدراسة هي:

- ما هي تداعيات الانقلاب الجيوسياسي الذي تشهده المنطقة العربية ومنطقة الساحل على الجزائر وماهي سبل مواجهتها؟

للإجابة عن هذه الاشكالية سنقسم هذه الدراسة إلى العناصر التالية:

-نهاية الحرب الباردة وعودة الاستعمار في البلاد العربية والإسلامية

-الأزمتان الليبية والمالية وتداعياتهما على الأمن القومي الجزائري

-منطقة الساحل(الأزماتية) بركان في طور الانفجار

-تداعيات الأزمة الليبية وأزمة منطقة الساحل على الأمن القومي الجزائري

-النتائج والتوصيات

I- نهاية الحرب الباردة وعودة الاستعمار في البلاد العربية والإسلامية

بعد نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين: الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرقي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات من القرن العشرين، والتي انتهت بتفكك هذا الأخير، انفتحت الطريق مرة أخرى أمام الدول الغربية لكسب نفوذ لها بدول الجنوب لاستكمال ما سبق، وإن بدأت فيه منذ القرن التاسع عشر. إلا أنّ الحظّ لم يسعفها على استكماله أمام ضربات الحركات التحررية الوطنية في هذه البلدان، وخاصة في البلاد العربية - الإسلامية.

وعلى هذا الأساس تبنى الغرب خطة جديدة لاستكمال مشروع قديم بعد إدخال تعديلات عليه مستفيدا من التجارب السابقة ومتكيّفا مع التغيرات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن توضيح ذلك من خلال ما يلي:

1- العراق: إضعافه ثم ابتلاعه

 كان العراق أول الدول العربية التي احتُلت وخضعت للتقسيم الطائفي: الأكراد في الشمال، السُنة في الوسط، والشيعة في الجنوب. فبالرغم من الدعاية الغربية لتحرير العراق من الديكتاتورية ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان...فإنّ واقع الحال يدلّ على أنّ المسلسل الاستعماري في شكله المنقح والمُهذب ليس إلاّ في حلقاته الأولى.

 فبعد تدمير العراق وتهديم بنيته التحتية والقضاء على علمائه من خلال مطاردتهم           وتصفيتهم الجسدية، سواء من قبل عملائها المحليين العراقيين، أو الأمريكيين أنفسهم، وهناك من يضيف بأنّ المخابرات الإيرانية شاركت في عمليات التصفية هذه(1)؛وبعد حلّ جيشه وتشتيته وتفكيكه، والذي يعدّ أحد أهمّ الجيوش العربية من حيث العتاد والعدّة إلى جانب الجيش الجزائري والمصري؛ وبعد التضحية برئيسه الراحل صدام حسين في أوّل أيام التشريق (عيد الأضحى) من سنة 2006، ها هو العراق اليوم يُصنّف ضمن الدول الفاشلة التي تعاظمت فيها المشاكل الحياتية وانتهاكات حقوق الإنسان وانعدام الخدمات الاجتماعية...الخ. وفوق كلّ هذا وذاك تحوّلت إلى دولة فاقدة للسيادة وللاستقلال.

2- الصومال: انهيار الحكومة المركزية وقيام الحرب الأهلية تحت إدارة القوى الإقليمية والدولية

لم تعد هناك في الصومال حكومة مركزية موحّدة بعد أن أطيح بالرئيس "محمد سياد بري"عام1991بدعم من إثيوبيا - القوة الاستعمارية السابقة- التي ما تزال تحتلّ إقليم الأوجادين، ذي الأغلبية الصومالية والتي تسعى لاحتلال سائر أنحاء الصومال أو الحصول على تفويض عام لحكم الصومال بالوكالة- بالرغم من أنّ الحكومة الفدرالية الانتقالية حازت على اعتراف دولي، إلّا أّنّها في الواقع لا تسيطر إلّا على أجزاء صغيرة من البلاد. توصف الصومال حاليا بأنها دولة فاشلةوأحد أفقر وأعنف الدول في العالم.

* من أهم مظاهر التشرذم في الصومال

- إعلان الجزء الشمالي من الصومال (الصومال البريطانيقديما) انفصاله بصفة أحادية الجانب عن دولة الصومال تحت اسم "جمهورية أرض الصومال" في مايو من عام 1991.

- قامت الولايات المتحدةبتزعّم تحالف عسكري دولي بغرض إحلال الأمن في الجنوب الصومالي والارتقاء بالوضع الإنساني هناك وتسهيل وصول المعونات الإنسانية من الأمم المتحدة والدول المانحة. ودخلت قوات التحالف والتي عرفت باسم قوات الفرقة الموحدة UnifiedTask Forceأو (UNITAF) في ديسمبر من عام19921992من خلال عملية "إعادة الأمل" وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 794.

  - أصبحت السواحل الصومالية عرضة لهجومسفن الصيد الأجنبية على الثروة السمكية الموجودة بالمياه الإقليمية بعد انهيار الحكومة.

- اندلع القتال منذ 2006بين اتحاد المحاكم الإسلامية من جهة والحكومة الفيدرالية الانتقالية المتحالفة مع القوات الإثيوبية من جهة أخرى.

- تدخل الولايات المتحدة الأمريكية منذ جانفي2007في القتال إلى جانب إثيوبيا لضرب الأهداف التابعة لميليشيات المحاكم الإسلامية.

بالرغم من انسحاب اثيوبيا من الصومال عام 2009، وبالرغم من انتخاب "شريف شيخ أحمد"رئيسا لدولة الصومال ، تبقى الصومال دولة ممزقة وفقيرة وفاشلة.

3- أفغانستان: من الحرب الباردة إلى الحرب الأهلية ثم الاحتلال الأمريكي عام 2001

شهدت أفغانستان منذ أواخر 1979تدخل القوات السوفيتية التي سوف تجبر على الخروج مدحورة منها بمساعدة الأموال الخليجية والسلاح الأمريكي، عام 1989. إلا أنها سوف تعرف حربا أهلية بين الإخوة الفرقاء انتهت بوصول طالبان إلى الحكم عام 1996.

بعد تعرّض الولايات المتحدة الأمريكية إلى اعتداءات 11سبتمبر 2001، وجّهت الحكومة الأمريكية الاتهام إلى أسامة بن لادن وتنظيمه (تنظيم القاعدة) الذي يتخذ من أفغانستان مقراً له. وفي أكتوبر من العام نفسه بدأت الولايات المتحدة حرباً ضد أفغانستان تساندها قوات المعارضة الأفغانية التي أطلق عليها اسم "تحالف الشمال". سقطت المدن الأفغانية تباعاً في أيدي قوات التحالف حيث تراجعت قوات طالبان عن معظم المدن دون قتال.

وبالرغم من إزالة حكومة طالبان ووصول "حميد قرضاي" إلى سدّة الرئاسة في أفغانستان منذ ديسمبر 2001، تبقى أفغانستان إحدى أكثر الدول فشلا في العالم من حيث انتشار الفساد والانفلات الأمني والاتجار بالمخدرات والحكم القبلي...

4- السودان: من "الإنهاك" (الحرب الأهلية منذ 1983) إلى "التفتيت" (انفصال الجنوب عن الشمال عام 2011) ومخاطر ذلك على الأمن القومي الجزائري والعربي

ظلّ السودان منذ استقلاله عن بريطانيا عام 1956، رهين ثلاثة مشاكل وهي: التنمية والجنوب والدستور. وبالرغم من غنى السودان بالمياه والأرض الخصبة ولاحقا باكتشاف البترول، فقد ظلّ هذا البلد غير مستقرّ وعرضة للهزات السياسية بين الحين والأخر ممّا أدّى إلى تفاقم مشاكله التنموية وتحوّل تمرّد فرقة عسكرية في الجنوب إلى حرب أهلية، لعبت القوى الكبرى خلالها وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا والفاتيكان وإسرائيل الدور البارز في تعفّن الأوضاع فيه، إلى درجة أن أصبح الانفصال هو الخيار المفروض من قبل الدول الكبرى. وهو ما تمّ فعلا. حيث أجري استفتاء عامبتاريخ90يناير2011أدلى فيه سكان الجنوب  بأصواتهم، واقترعوا بنسبة كبيرة لصالح الانفصال. وبذلك فقد السودان 600ألف كلم مربع من مساحته الإجمالية.

وبالرغم من انفصال الجنوب السوداني بمباركة القوى الكبرى فإنّه يظلّ عرضة لعدم الاستقرار ومخاطر تجدّد الحرب بينه وبين دولة الجنوب الجديدة بسبب مشاكل الحدود، خاصّة ما تعلّق بتقاسم الثروات الطبيعية الحدودية وعلى رأسها البترول، الذي استفادت جنوب السودان من أزيد من ثلثي هذه الثروة. الأمر الذي مكّن إسرائيل وحليفتها الأمريكية من تقسيم البلاد وإلغاء منافسهم الأساسي: الصين، من الجزء الأغنى بالموارد. وهو ما زاد في تهديد العلاقات بين الدولتين، على المدى المنظور.

 

- ملاحظة

بانفصال جنوب السودان عن باقي البلاد فقد احتكر75% من احتياط النفط السوداني(2)وخسر السودان بذلك جزءا كبيرا من ثرواته وإمكانياته الاقتصادية التي أصبحت حكرا على القوى الكبرى و"إسرائيل". وعلى الرغم من أنّ السودان هو من يملك أنابيب النفط التي يتم من خلالها نقل النفط الجنوبي إلى البحر الأحمر لتصديره إلى الخارج؛ فإنّ واقع الحال يدلّ على أنّ حكومة جنوب السودان -وتحت رعاية واشنطن-تعمل على تحضير مشروع ممرّ طاقة جديد يتألف من خط أنابيب وطريق برّي وسكّة حديد للقطارات يسمح بنقل النفط من السودان الجنوبي إلى مرفأ "لامو" في كينيا. الفوائد التي ستجنيها واشنطن من ذلك كثيرة: من جهة بعد الاستغناء عن خط الأنابيب السوداني الشمالي سوف توجّه ضربة موجعة إلى البلاد التي اهتزّ وضعها نتيجة فقدانها لأزيد من ثلثي احتياطها من النفط. وهو الأمر الذي قد يؤدّي إلى انهيار حكومة الخرطوم. ومن جهة ثانية فإنّ ذلك سيسمح بتهميش الشركات الصينية التي بمعية بعض الشركات الهندية والماليزية تقوم باستخراج النفط السوداني لأنّ الجزء الأكبر سيصبح تحت سيطرة الشركات النفطية البريطانية والأميركية.

أضف إلى ذلك فتح السودان الجنوبي لسفارة لهب القدس معترفاً بها عاصمة لإسرائيل. قامت بعدها إسرائيل "بتدريب" الآلاف من اللاّجئين من جنوب السودان قبل أن تعيدهم إلى وطنهم. إضافة إلى مشكلة "دارفور" في الشمال الغربي من السودان وسعي القوى الكبرى لتفتيت السودان إلى كيانات وكانت ونات متناحرة. إذ أصبح واضحا أنّ أحد أهمّ الدوافع لتعفين هذه المنطقة، هو غناها بالثروات الطبيعية الهائلة وعلى رأسها الماء والبترول. (أثبتت الدراسات الجيولوجية أنّ منطقة دارفور تتربّع على طبقة مائية جوفية، تقدّر بأزيد من 30ألف كلم²!)(3)

ويبقى السودان عرضة للتقسيم والتفكيك إلى كيانات ودويلات متناحرة لا يستفيد من ثرواته سوى الدول الكبرى عن طريق شركاتها وبنوكها، إضافة إلى إسرائيل التي استطاعت بفضل استثمارها في الحرب الأهلية السودانية وذلك بتأييد الجنوب في مطالبه  وتسليحه وتمويله وإمداده بالمساعدات المادية والتقنية...في ظلّ تقاعس عربي عن نصرة دولة شقيقة، وهو ما يزيد في درجة المخاطر الأمنية الإقليمية العربية، وفي محدودية الأمن العربي المشترك، أو فيما عبّر عنه أمين هويدي بـ" الأمن القومي العربي المستباح"(4).

فما حدث ويحدث في السودان هو سيناريو صالح للتطبيق في بلدان عربية أخرى، ومنها الجزائر التي من المؤكّد أنّها سوف تتأثّر بالتقلبات الجذرية في البيئة الجيوسياسية في كلّ من شرق إفريقيا (السودان) ومنطقة الساحل (مالي حاليا).

5- الأزمة السورية وتداعياتها

كان مبدأ الهجوم على ليبيا وسوريا في الوقت نفسه مقرّرا لدى الولايات المتحدة في الأسبوع الذي أعقب هجمات 11سبتمبر 2001. وقد تمّ إعلانه للمرّة الأولى من قبل "جون بولتون"، مساعد وزير الخارجية الأميركي آنذاك خلال خطاب ألقاه في 6مايو 2002تحت عنوان "ما وراء محور الشرّ". وقد أكّد ذلك فيما بعد الجنرال "ويسلي كلارك" خلال لقاء تلفزيوني في 2مارس عام 2007. وفي الإطار نفسه، قدّم القائد السابق لحلف الناتو لائحة بأسماء الدول التي ستهاجمها الولايات المتحدة في الأعوام المقبلة، وهي على التوالي: أفغانستان - العراق - سوريا - ليبيا - الصومال - إيران - اليمن.

وبالرغم من ادّعاء الغرب تأييده للمعارضة السورية (التي أعلنت عن نيتها قطع علاقاتها بإيران، وقطع السلاح عن المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل في حال وصولها إلى الحكم)، فإنّ واقع الحال يدلّ أنّ المعركة أكبر من ذلك بكثير، إذ أنها صراع أمريكي- روسي حول التحكّم في الطرق الرئيسية للغاز، والتي يمكن إبرازها من خلال الآتي:

1- مشروع أنبوب الغاز الروسي السيل الشمالي أو “نورث ستريم”Nord Stream:يمرّ عبر بحر البلطيق ويمتدّ ما بين مدينتي "فيبورغ" الروسية و"لوبمين" الألمانية وطوله 1224كلم، أما قدرته الإنتاجية فهي 55مليار متر مكعب سنويا. ويتوقّع أن يزوّد المشروع أوروبا بالغاز لخمسين عاما على الأقلّ. كما سيسمح لموسكو بتجنّب الصدام مع أوكرانيا التي يمرّ عبرها الجزء الأكبر من الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا.

2- مشروع أنبوب الغاز الروسي السيل الجنوبي أو “ساوث ستريم” South Stream:إنّ الهدف من هذا المشروع هو نقل الغاز القادم من روسيا وآسيا الوسطى وكازخستان نحو أوربا. حيث سيمرّ خط الأنابيب بطول 900كلم تحت البحر الأسود بين روسيا وبلغاريا، ليتفرّع إلى مسارين الأوّل يتّجه إلى الشمال الغربي نحو النمسا، والثاني إلى الجنوب نحو اليونان وإيطاليا مروراً بالمياه الإقليمية التركية بناءً على اتفاقية مشتركة بين أنقرة وموسكو. وقدرت الطاقة القصوى لكمية الغاز التي سينقلها خط الأنابيب ب:63مليار متر مكعب/ سنويا، مشكلا قرابة 10% من إجمالي الاستهلاك الحالي للاتحاد الأوروبي.

كان من المفروض أن يدخل مشروع السيل الجنوبي southStreamحيّز التنفيذ بحلول سنتي 2012-2013، إلا أنّه ألغي في 2014ليعوّض بمشروع السيل التركي turkishstreamعام 2014

3- مشروع نابوكوNabucco:وهو المشروع الذي لقي دعما سياسيا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبيوالذي من المتوقّع أن يمرّ عبره الغاز من منطقة بحر قزوين الى أوروبا بالالتفاف على روسيا. ومن شأنه أن يضمن توريدات الغاز من آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين الى أوروبا عن طريق أذربيجان وجورجيا وتركيا وبلغاريا ورومانيا والنمسا. يهدف هذا الخط إلى نقل أكثر من30مليار متر مكعب من الغاز سنويا من الدول المطلّة على بحر قزوين إلى أوروبا. ومن المقرّر أن يمتدّ أنبوب الغاز نابوكو الذي يصل طوله إلى حوالي3900كلم عبر تركيا، ليمرّ بعد ذلك ببلغاريا ورومانيا والمجر ليصل الى النمسا حيث يتصل بشبكة توسيع كبرى(5).

إلا أنّ الملاحظ أنّه في الوقت الذي حقّق فيه المشروع الروسي تقدّما ملحوظا، فإنّ المشروع الغربي قد لا يرى النور، وذلك نتيجة التأخّر المسجّل في دخول الخط مرحلة الإنتاج. فبعد أن كان مبرمجا أن يدخل الخدمة في 2014، فقد تمّ تأجيله إلى سنة 2017، ويبدو أنّ هذا الخط لن يرى النور نظرا للصراع القائم اليوم بين روسيا وأمريكا، حول التحكم في الطرق الرئيسية للغاز والذي تعبر فيه الأراضي اللبنانية - السورية مركز الحرب من أجل الغاز في الشرق العربي. وهو ما قد يفسر الاستهداف الذي تعرفه سوريا اليوم.

فبحسب Washington Institute for Near East Policy (WINEP, le think tank de l’AIPAC) فإنّحوض البحر المتوسط يحتضن كميات كبيرة من احتياطي الغاز الطبيعي، وأنّ أكبر هذه الاحتياطات موجود في سوريا. على النحو الذي يؤكّده إعلان وزير البترول السوري عن اكتشاف حقل غازي في منطقة "قارة" بالقرب من مدينة "حمص"، سعة إنتاجه 400ألف متر مكعب يوميا، وهو ما يساوي 146مليون متر مكعب سنويا(6).  

 فإذا كان القرن العشرين هو قرن الحروب من أجل البترول والسيطرة على منابعه، فإنّ القرن الواحد والعشرين هو قرن حروب الغاز. ولما كانت الجزائر تعدّ دولة غازية فإنّها هي الأخرى معرّضة مستقبلا لما تعرّض له العراق والسودان وليبيا، علما أنّ العنصر المشترك بين هذه الدول هو موارد الطاقة، وعلى رأسها البترول والغاز. 

6- الفوضى البناءة والشرق الأوسط الجديد

خلال مؤتمرها الصحفي في وزارة الخارجية في الحادي والعشرين من يوليو 2006، سُئِلَت "كونداليزا رايس" عن المبادرات التي تعتزم أخذها معها لإحلال السلام في لبنان. فأجابت: "ليس لديَّ اهتمام بالدبلوماسية من أجل إعادة لبنان وإسرائيل إلى الوضع السابق... أعتقد أنّ مثل هذا سيكون خطأً... ما نراه هنا، بمعنى من المعاني، هو تطوّر الولادة العسيرة لشرق أوسط جديد، وأيّاً كان ما نقوم به، يجب أن نكون على يقين من أننا ندفع نحو شرق أوسط جديد لن يؤدي إلى القديم".(7)

الشرق الأوسط الجديد الذي تدّعي الآنسة رايس أنّها القابلة المأذونة التي تتولّى شؤون مراقبة ولادته العسيرة هي ببساطة: استبدال الدول الموروثة عن انهيار الإمبراطورية العثمانية بكيانات أصغر تتسم بأحادية الطابع العرقي، وتحييد هذه الدويلات بجعل كلّ واحدة منها ضدّ الأخرى على نحو مستمرّ. بعبارة أخرى، الفكرة تتضمّن إعادة العمل بالاتفاقيات السرية المبرمة عام 1916بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية (اتفاقيات سايكس – بيكو) وإقامة سيطرة أنجلو ـ ساكسونية مُطلقة على المنطقة. لكن من أجل بناء الدول الجديدة، لا بدّ أولاً من تدمير الدول القائمة.

* "ليو شتراوس" و"برنارد لويس":

طبقاً لما ذكره المتخصّصون بفكر الفيلسوف "ليو شتراوس"، الذي يُعدّ أحد أكبر الأساطين "المحافظين الجُدد"، فإنّ هذا الأخير يرى أنّ السلطة الحقيقية لا يمكن ممارستها إذا ما بقي المرء في حالة ثبات، أو حافظ على الوضع الراهن، بل على العكس، ينبغي العمل على تدمير كلّ أشكال المقاومة. الفكرة باختصار: إغراق الجماهير بالفوضى كيّ تتمكن الصفوة من ضمان استقرار وضعها. أيضا، حسب رأي الخبراء بفكر "ليو شتراوس"، فإنّه بمثّل هذا العنف فقط يُمكن أن تندمج المصالح الاستعمارية للولايات المتحدة مع المصالح الاستعمارية للدولة العبرية.

يقول "مايكل ليدن" - العضو البارز في المعهد المشار إليه سابقا -إنّ «التدمير- البناء هو صفتنا المركزية، الوقت قد حان لكي نصدر الثورة الاجتماعية». هذه الثورة الاجتماعية لا تقتصر على النظم السياسية في الشرق الأوسط فحسب، بل هي ممتدة لتطول الجغرافيا السياسية. من هنا كان للجميع أن يتابع الخرائط الجغرافية الجديدة لمنطقة الخليج والشام، حيث تنشأ فيدرالية هنا، ويقسّم بلد بكامله هناك. تعمد هذه السياسة التوسعية ناعمة الخطاب إلى «تصميم جديد لبناء مختلف» بحسب "مايكل ليدن". المقدمة التبريرية لهذه الصياغة الجديدة للمنطقة ترتكز على «الديمقراطية»، أما أدواتها المباشرة فهي: التنوع «الطائفي» و«الديني و«الاثني» في الشرق الأوسط المزدحم بالأعراق والحضارات والثقافات والديانات والمذاهب(8).

- برنارد لويس، المؤرخ البارز للشرق الأوسط، وَفّر الكثير من الذخيرة الأيدلوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب؛ حتى إنه يُعتبر بحقٍّ مُنظرًا لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة. طوَّر "لويس" روابطه الوثيقة بالمعسكر السياسي للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن العشرين؛ ليصبح بعد ذلك، وفي عهد "جورج بوش" مستشارًا لوزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط. ألَّف20كتابًا عن الشرق الأوسط، من بينها: "العرب في التاريخ"، و"الصدام بين الإسلام والحداثة في الشرق الأوسط الحديث"، و"أزمة الإسلام"، و"حرب مدنسة وإرهاب غير مقدس". وبالرغم من أنّ مصطلح "صدام الحضارات" يرتبط بالمفكر المحافظ "صموئيل هنتينجتون"، فإنّ واقع الحال هو أنّ"برنارد لويس" هو أوّلمن قدَّم التعبير في الخطاب العام؛ وهذا باعتراف «هنتينجتون" ذاته في كتابه الصادر عام 1996م، إذ يشير إلى فقرة رئيسية في مقال له كتبه "لويس" عام 1990م تحت عنوان "جذور الغضب الإسلامي"، قال فيها: "هذا ليس أقل من صراع بين الحضارات، ربما تكون غير منطقية، لكنها بالتأكيد ردّ فعل تاريخي منافس قديم لتراثنا اليهودي والمسيحي، وحاضرنا العلماني، والتوسع العالمي لكليهما".(9)

استطاع برنارد لويس أن يستنفر القيادة في القارتين الأمريكية والأوروبية، ويزيد في مواقفها المتشنجة من العالمين العربي والإسلامي وذلك من خلال بلورة مشروع متكامل لدى المحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش الابن ليصبح العراب (Le parrain) لدى هؤلاء، ويضع بين أيديهم استراتيجية بالغة الأهمية تتمحور أساسا حول العداء الشديد للعرب والمسلمين. وقد كان لأحداث 11/09/2001، التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية، فرصته الذهبية ليبتدع للغزو ومبرراته وأهدافه التي ضمَّنها في مقولات "صراع الحضارات" و"الإرهاب الإسلامي".، حيث صرّح بعد ذلك في 20/5/2005م بما يلي:

"إنّ العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضّرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات؛ ولذلك فإنّ الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإنَّ عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة؛ لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان... إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إمَّا أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا. ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع أن تقوم أمريكا بالضغط على قيادتهم الإسلامية -دون مجاملة ولا لين ولا هوادة- ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة؛ ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوربا لتدمّر الحضارة فيها"(10).

II- الأزمتان الليبية والمالية وتداعياتهما على الأمن القومي الجزائري

أولا: ليبيا

قبل الولوج في الاعتداء الدولي الذي تعرّضت له ليبيا بقيادة حلف الناتو ابتداء من صدور القرار رقم 1973عن مجلس الأمن في 17/03/2011، سوف نستعرض بعجالة السيناريو الذي استخدم بشأن الغارة على دولة مستقلة ذات سيادة وعضو في هيئة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ...على أن نعود بعد ذلك لتداعيات الأزمة الليبية على الوضع الأمني والإقليمي للجزائر وتأثير ذلك على المنطقة المغاربية والعربية ومنطقة الساحل(الأزماتية) على المدى المنظور وغير المنظور.

1- من الناحية الشكلية

 نتيجة للأحداث التي شهدتها ليبيا ابتداء من 17/02/2011والتي يمكن إدراجها في إطار المخطط القاضي بتفتيت البلاد العربية بهدف تحقيق المشروع الغربي في المنطقة والذي يصبّ في مصلحة "إسرائيل "وحلفائها: أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية (وهو ما سوف نبرزه في ثنايا هذه الدراسة)، تبنى مجلس الأمن الدولي قرارا يسمح بموجبه لقوات حلف الناتو التدخل ضدّ ليبيا والإطاحة بنظام القذافي، وهو القرار الذي تمّ تبنيه بأغلبية كبيرة (10دول أقرّت بالموافقة من أصل الدول الـ 15التي تملك حقّ التصويت)، بينما لم تصوّت أي دولة بالمُعارضة، مع امتناع 5دول عن التصويت، ولم تستخدم أيّ من دول مجلس الأمن الدائمة حق الفيتو الخاص بها لإلغاء القرار، وذلك بالرغم من أنّ اثنتين من الدول التي تملك هذا الحق - روسياوالصين-كانتا من ضمن الدول المتخوّفة من القرار والممتنعة عن التصويت.

أهم ّما تضمنه القرار رقم 1973الذي يقضي بفرض منطقة حظر جويفوق ليبيا، واتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين،  ما يلي:

- حظر كلّ رحلات الطيران فوق الأجواء الليبية بهدف حماية المدنيين، على أن تستثنى رحلات الإمدادات الإنسانية.

- مطالبة كلّ الدول الأعضاء بعدم السماح لأي طائرة ليبية -بما في ذلك الرحلات التجارية- بالهبوط أو الإقلاع من أراضيها.

- دعوة كلّ الدول الأعضاء إلى "اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية" لحماية المدنيين والمناطق السكنية التي تواجه تهديدا في ليبيا بما في ذلك بنغازي، في الوقت الذي يستبعد فيه القرار إرسال قوة احتلال بأيّ شكل على أي جزء من الأراضي الليبية.

- طالب القرار كذلك بوقف فوري لإطلاق النار، وهو ما يمكن أن يسمح معه فرض منطقة حظر الطيران- بعمليات قصف جوي لحماية المدنيين من القوات الموالية للعقيد امعمر القذافي.

- طالب القرار ليبيا بضمان "مرور سريع وبدون عراقيل للمساعدات الإنسانية."

- دعا القرار أيضا إلى تطبيق أقوى لحظر الأسلحة الذي شمله القرار الأممي السابق رقم 1970، ويضيف أسماء أشخاص وشركات وهيئات أخرى إلى قائمة الحظر من السفر وتجميد الأصول.

وبحسب القرار فإنّ التجميد المفروض على الأصول ينطبق على كلّ الأموال والأصول المالية والموارد الاقتصادية التي يملكها أو يديرها نظام القذافي -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- في أراضي الدول الأعضاء بالأمم المتحدة.

كما طالب القرار بتجميد أصول المؤسسة الليبية للنفط والبنك المركزي الليبي بسبب صلاتهما بالعقيد القذافي. ويطلب القرار من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مونإنشاء لجنة من ثمانية أعضاء من الخبراء لمساعدة لجنة مجلس الأمن في مراقبة العقوبات، كما يطلب من الدول الأعضاء التنسيق فيما بينها، ومع الأمين العام لضمان تنفيذ هذا القرار.

بناء على صدور القرار رقم 1973والذي لم يكن إلا الشجرة التي غطت الغابة، تعرّضت ليبيا إلى هجوم عسكري شاركت فيه قوات الناتو مع مجموعة من الدول العربية الإسلامية: قطر الإمارات العربية المتحدة، تركيا...الخ

وبعد أن استطاعت الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا، بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أن تجد لنفسها التخريج الإعلامي والدعائي كمقدمة للتخريج القانوني باسم الأمم المتحدة، وهذا ما يمكن تسميته بالقاعدة القانونية (الشرعية الدولية)، فإنّها لجأت إلى تنفيذ مخططاتها من خلال جملة من الإجراءات قامت بها، يمكن إجمالها على النحو الآتي:

* الدور الفرنسي - البريطاني

بحسب مجلة le nouvel observateurالصادرة في 07/11/2011، وفي مقال لها تحت عنوان(11): Libye: Lescinq révélations du livre de BHL écrit par Vincent Jauvertوالذي فيه يتحدث عن كتاب "هنري برنارد ليفي" المعنون "الحرب دون أن نحبها"/ " La guerre sans l’aimer" الذي يروي فيه حرب الغرب وأساسا شقه الفرنسي ضد ليبيا معمر القذافي، يرى V.Jauvertأنّ كتاب هنري برنارد ليفي قد تضمن خمسة معلومات لم تنشر من قبل وهي:

1- بالرغم من اعتراف فرنسا إرسال أسلحة "للثوار" الليبيين ولمرّة واحدة في أواخر ماي 2011، وتحديدا لثوار جبل نفوسة (غرب ليبيا)، فإنّ هنري برنارد ليفي يقرُّ بأنّ فرنسا أرسلت في العديد من المناسبات أسلحة كثيرة قبل هذا التاريخ (أواخر ماي 2011) وفي مناطق أخرى من ليبيا عن طريق دولة قطر.

2- لم تعترف فرنسا أبدا أنّها أرسلت قوات خاصة إلى ليبيا (نفى ساركوزي ذلك شخصيا في تصريح له يوم 25/08/2011)، في حين يؤكّد هنري برنارد ليفي أنّه أشار على المجلس الانتقالي الليبي أن يطلب مددا قوامه 300عنصرا من القوات الخاصة تتقاسمها فرنسا        وبريطانيا. وقد لبىَّ ساركوزي نسبيا هذا الطلب.

3- ميزة أفراد القوات الخاصة الفرنسية التي كانت تعمل في ليبيا أنّهم كانوا "فرنسيين يتكلّمون العربية"، وأنّ ساركوزي وعد الجنرال عبد الفتاح يونس الذي استقبله سرّا في 16/04/2011أنه سيزيد من عدد هذه القوات في الأسابيع المقبلة.

4- إلى غاية نهاية الحرب تقريبا، فإنّ الحلفاء قد تفادوا هدفا استراتيجيا ألا وهو " مهبط الطائرات الخاص بالعقيد" الواقع في باب العزيزية المحصن في طرابلس. وبحسب هنري برنارد ليفي فإنّ سفير بريطانيا وفرنسا قد شرحا له المغزى من ذلك، والذي لم يكن إلا رسالة للقذافي مفادها لديك باب للخروج. أما إذا ما تمّ ضرب مهبط الطائرات الخاصة بالعقيد، فوقتها يكون قد فات الأوان على هروبه.

5- بحسب هنري برنارد ليفي، فقد كان للجنود الفرنسيين دور كبير في سقوط طرابلس (21أوت 2011) إلى جانب الجنود الإماراتيين والبريطانيين. وذلك ابتداء من 17/08/2011عند وصول الأسلحة بحرا من مصراتة إلى طرابلس. وكان ذلك مؤشّرا على سقوط انتفاضة طرابلس.

2- في المضمون

لا يمكن فهم الظاهرة السياسية، إن لم توضع في إطارها الصحيح. فالاستعمار لا يمكن فهمه والإحاطة به ما لم نولِ البعد التاريخي مدخلا له - ولغيره- أو لأية دراسة علمية جادة وعميقة لواقعنا السياسي والاستراتيجي المعاصر.

ونقصد بذلك التعرض للبعد الثقافي كدافع، في تحقيق المصلحة كغاية، عن طريق القوّة كوسيلة.

 بالعودة إلى القرن 19الذي يعدّ قرن الاستعمار في ثوبه الحديث بامتياز، بحسب المفكر الجيو- سياسي جمال حمدان(12)، ونظرا للتنافس الشديد الذي قام بين قوتين استعماريتين وهما فرنسا (قوة برّ مائية) وبريطانيا ( قوة مائية) حول العديد من المناطق في آسيا وإفريقيا، وفي البحار والمحيطات، فإنّ للاستعمار الأوروبي (والأمريكي استطرادا) في العالم العربي وضع خاص. ذلك أنه يعدّ عودة -أكثر مما هو بدءٌ- للعصور القديمة: الاستعمار اليوناني- الروماني- الوندالي- البيزنطي إلى العصر الحديث في القرن 19، مرورا بالعصور الوسطى: الحروب الصليبية.

وعليه فإنّ ما تتعرّض له ليبيا وسوريا حاليا ومن قبلها فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال، ما هو إلا حلقة من حلقات الصراع بين الشمال والجنوب (الجغرافي) أو بين الشرق والغرب (الحضاري). وبالتالي فهو صراع بين بيئتين متضاربتين ثقافيا وحضاريا (اليهودية والمسيحية من جهة - الإسلام من جهة ثانية) ومختلفتين طبيعيا (جنوب غني بالثروات، وشمال فقير استنفذ ثرواته بفعل الاستهلاك المكثف بعد الثورة الصناعية الأولى منذ أواسط القرن 18)، وغير متكافئتين من حيث القدرة على تلبية مصالحهما، شمال(قوي) وجنوب (ضعيف).

وحتى نفهم أكثر، فإنّ فقدان أوروبا لشمال إفريقيا بعد انتشار الإسلام قد أقام سدّا منيعا في وجه انتشار النصرانية(13)، ومؤشّرا على اندثار اللاّتينية(14). وعليه فقد كان لظهور الإسلام بالنسبة للديانتين اليهودية والمسيحية نوعا من التحدّي الديني ـ التاريخي(15). وهذا ما يمكن أن نطلق عليه بالخطر الوجودي الذي يشكّله الاسلام بالنسبة لهاتين الديانتين، خاصة وأنّ منطقتنا ستدخل وللأبد في نطاق العالم العربي الإسلامي. وهو الشيء الذي لم تغفره لنا القوى الاستعمارية على مرّ العصور.

وعليه يمكن القول إنّ الاصطفاف الحضاري لمنطقتنا في صراعها مع القوى الاستعمارية منذ القرن السابع الميلادي، يعدّ فيصلا بين عالمين متناقضين من حيث الهوية والتاريخ       والجغرافيا. وقد زاد الموقع الاستراتيجي للمنطقة وغناها الطبيعي في الحاضر والمستقبل (موارد الطاقة: الطاقة الشمسية والطاقات البديلة...) من سعة الهوة بينهما. الشيء الذي أجّج الصراع بينهما بعد نهاية الحرب الباردة التي لم تؤجل المواجهة بين منطقتنا والغرب إلاّ لفترة وجيزة.

أ- ليبيا من الدولة "الاتحادية" إلى الدولة "الموحّدة" إلى الدولة "الوحدوية"

إنّ القضية الليبية لا يمكن فهمها بمعزل عن السيناريو القديم المتجدّد الذي باشره الاستعمار الجديد أو المدرسة ما بعد الكولونيالية التي يعتبر بريجنسكي وكيسنجر وبرنارد هنري ليفي وبرنارد لويس...أهم منظريها، في حين يعتبر بوش وبليير وساركوزي...من أهمّ منفذيها في العصر الراهن.

فالحلقــة الليبيـــة هي إحدى الحلقات التي صاغــها السيناريو الحديــث للمدرسة مــا بعد الكولونيالية، سبقتها الحلقة الفلسطينية، والعراقية، والصومالية والأفغانية والسودانية، وسوف تلحق بها الحلقات الأخرى التي سوف لن تدع دولة عربية أو إسلامية إلا وصنعت لها سيناريو لابتلاعها، سواء عن طريق استخدام العديد من الأوراق التي هي بحوزتها أو عن طريق تلك التي هي بصدد التحضير لها انطلاقا من الواقع المزري لهذه البلدان.

حصلت ليبيا على استقلالها عام 1951، بفضل المناورات الاستعمارية من أجل الوصاية على إرث الاستعمار الإيطالي. فقد حاولت كل من بريطانيا فرنسا وإيطاليا أن تتولى الوصاية على الأقاليم الليبية الثلاث: برقة، فزان، وطرابلس على الترتيب. ولكن اعتراض الاتحاد السوفيتي على عودة إيطاليا ومحاولته أن يحل محلّها، كان وحده كافيا لأن يدفع إيطاليا إلى أن تقرّر القبول باستقلال ليبيا ، لا حبّا في ليبيا ولكن كرها في الاتحاد السوفيتي وخوفا من أن "يتسلل" إلى الشرق الأوسط(16). وبذلك فقد تخلّصت ليبيا من نوع من الاستعمار العالمي الجماعي المشترك تحت اسم الوصاية.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ القوى الكبرى (الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية على دول المحور) قد سعوا لفرض الوصاية الدولية على ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الأمم المتحدة أو القوى الكبرى، كما سعت هذه القوى كل بحسب مصالحها إلى:

- سعي إيطاليا للعودة باستماتة إلى طرابلس.

- سعي فرنسا لفصل منطقة فزان التي كانت تسيطر عليها لضمّها إلى نطاق مستعمراتها في المغرب العربي التي كانت يومها خاضعة لها.

- سعي بريطانيا بالتعاون مع الحركة السنوسية للسيطرة على برقة، بهدف إقامة حكم ذاتي.

وأمام هذه التطورات سوف يدخل الاتحاد السوفيتي كلاعب في المنطقة من خلال سعيه ليكون البديل لإيطاليا في طرابلس. وهو الشيء الذي رفضته القوى الاستعمارية، حيث سارع الغرب باقتراح الاستقلال التام لليبيا (17).

ب- السنوسية وبريطانيا

قرّرت السنوسية بإيعاز من بريطانيا أن تستأثر بإقليم برقة، فأعلنت بتوافق معها عام 1949عن قيام "دولة برقة المستقلة" والتي لم تكن سوى إمارة مستقلة ذاتيا، وتابعة لبريطانيا في الشؤون الخارجية والدفاع. كما وُضعت طبرق قاعدة جوية وبحرية في يد بريطانيا. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد ظفرت من جانبها بقاعدة "هويلس" قرب طرابلس، بهدف ضرب أي توجّه وطني داخلي ضدّ تحالف الاستعمار، أو أي توجّه عربي خارجي ضدّه. بل أصبحت هذه القاعدة كما بيّن القذافي في خطاب له عام 2010بمناسبة احتفال ليبيا بالذكرى الأربعين لإجلاء القوات الأميركية منها على النحو الآتي:

"هذه الأرض أصبحت قاعدة أمريكية، ولكن الأرض الليبية أصبحت تحت السيطرة الأمريكية بالكامل، فلا تدخل أي طائرة أو سفينة، في البرّ والجوّ والبحر، وأصبحت أمريكا حرة في الأراضي الليبية باسم المناطق المتفق عليها، وهي تعني تسليم ليبيا بالكامل إلى أمريكا، وكل هذا مقابل مليون دولار في السنة، (...) هذه القاعدة مرّ عليها بالتداول أكثر من ثمانين ألف جندي أمريكي. كما أنّ أكثر من عشرين سربا من القواعد الأمريكية كانت تستند على هذه القاعدة، وكانت تخدم كل القواعد الأمريكية التي في البحر المتوسط، من إيطاليا إلى اليونان إلى تركيا، وحتى في الشرق الأوسط من قاعدة الظهران إلى باكستان".(18)

وهكذا وجدت ليبيا نفسها فريسة للاستعمار الاستراتيجي البترولي الأنجلو-سكسوني-الأطلنطي، أو لاستعمار القواعد العسكرية والشركات الاحتكارية.

إلا أنّ نضال الحركة الوطنية الليبية استطاع في نهاية المطاف مع ما سببه تدخل الاتحاد السوفيتي في المنطقة أن يعجل باستقلال ليبيا، لتقوم ليبيا الموحدة عام 1951.

وفي الوقت الذي طالبت فيه طرابلس بعد قبولها بحكم السنوسية بالدولة الموحدة (Unie)، فقد كانت برقة وفزان تطالبان بالدولة الاتحادية (Fédéral)، وقد استطاع الاستعمار الأنجلو-سكسونيو النظام الحاكم "السنوسية" أن يفرضا شكل الدولة الاتحادية لا الدولة الموحدة. كما احتفظت برقة بوضع خاص في دستور الدولة الناشئة، إذ أصبح حاكم ليبيا الجديدة هو "ملك ليبيا" و"أمير برقة".

كانت الدولة الليبية الاتحادية الناشئة مهدّدة بالتفكك والانحلال بين لحظة وأخرى نظرا للصعوبات التي واجهتها على مستوى التسيير والحساسيات الاقليمية التنافسية بين الأقاليم الثلاثة المكونة للدولة الاتحادية.

إلا أنّ اكتشاف البترول في حوض سيرت، قد أوجد روحا وحدوية، حيث كان ذلك عاملا حاسما في إعلان الدولة الموحدة عام 1963، كما أعيد تقسيم ليبيا السياسي- الاداري من ثلاثة ولايات إلى 10محافظات، بهدف القضاء على المنطق الإقليمي التفتيتي.

جـ - الثورة الليبية 1969، وتغيير المعادلة الجيو- سياسية

قضت ليبيا الموحدة ابتداء من 1969على النظام الملكي وحكم عائلة السنوسي باعتبار هذا النظام لم يكن سوى شكل آخر للنظام الاستعماري الجديد الذي فرض على ليبيا بعد 1951، كما أنه لم يكن سوى مرحلة انتقالية بين الاستعمار القديم والتحرّر الفعلي. كما قضت ليبيا الموحدة على القواعد العسكرية الأنجلو-سكسونية، وبالتالي على الاستعمار الاستراتيجي الجديد. ليصبح بذلك الطرح الليبي ليس قضية الوحدة الوطنية وإنما قضية الوحدة القومية العربية.

يمكن وصف ليبيا بعد 1969على النحو الآتي:

- كانت أول دولة بترولية تنادي بالوحدة القومية (مع مصر، سوريا، تونس، الجزائر...) وتصر عليها، بالرغم من أن البترول قد غذى الاتجاه الانعزالي والاقليمي، أو ما يمكن تسميته بالانفصالية السياسية.

- إن ليبيا هي أول دولة في المغرب العربي تسعى للوحدة مع الشرق العربي، ضاربة بذلك الثنائية الزائفة بين المغرب العربي والمشرق العربي التي عمل وما زال يعمل الاستعمار على تثبيتها بين جناحي الوطن العربي. لتتحول بذلك ليبيا من الدولة العازلة الحاجزة إلى الدولة الجسر، لتتبوأ بذلك كدولة الوصل بين الجسم الواحد الذي عمل الاستعمار (بالتعاون مع السنوسي) دوما على عدم تلاقيه. وبذلك فقد تحولت ليبيا من دولة ملكية إلى دولة تحررية على النمط الجزائري.

د - الحدود الليبية

يبلغ طول الحدود الليبية بشقيها البحري والبري: 6334كلم، وهي موزعة على الشكل الآتي:

- حدود بحرية: 1900كلم على سواحل البحر المتوسط.  

- حدود برية: 4434كلم، وهي تتوزع كالتالي:

أ- مع مصر:1094كلم.

ب- مع السودان: 400كلم.

ج- مع تشاد: 1090كلم.

د- مع النيجر: 150كلم.

هـ - مع الجزائر: 1200كلم.

و- مع تونس: 500كلم. 

تتميز الحدود الليبية - الجزائرية الممتدة على طول 1200كلم، بأنها حدود ذات قيمة استراتيجية سواء في شقها الشمالي الخالي من التجمعات السكانية، والغني بالبترول على الجانب الجزائري (حقل إليزي)، أو في شقها الجنوبي (جانت) الأكثر سكانا (الطوارق)، كما أنه وعلى طول الحدود يسير أنبوب البترول الجزائري نحو الصخيرة بتونس على طول الحدود الجزائرية- الليبية. وعليه فإن الحدود الجزائرية - الليبية تقسم حوضا بتروليا وجزيرة بشرية.

هـ - التدخل الدولي على ليبيا بقيادة حلف الناتو 2011وتداعياته على الأمن القومي الجزائري والعربي:

*التدخل في ليبيا 2011، كمقدمة للسيطرة على إفريقيا

شهدت ليبيا ابتداء من 17/02/2011، أحداثا وُصفت بأنها كانت انتفاضة شعبية ضد النظام، كما تدخل حيثياتها وتفاصيلها في ما شهدته المنطقة العربية واصطلح على تسميته  بـ"الربيع العربي". حيث كانت تونس ابتداء من ديسمبر 2010، ومن بعدها مصر ابتداء من 15/01/2011، أولى الشرارة التي ما فتئت تنتقل من جزء إلى آخر من الوطن العربي بوتيرة متسارعة ومنسقة ، لتنقل بعد ذلك إلى الجزائر في جانفي2011، ثم ليبيا ابتداء من 17/02/2011، ثم اليمن والبحرين والسعودية وسورية والأردن والمغرب وسلطنة عمان...بشكل جعل الكثير من الدارسين والمتتبعين  للشأن العربي والدولي يرتابون من المنحى الخطير الذي آلت إليه المنطقة العربية في وقت قياسي، وكأن هناك مخططا ساري المفعول قد شُرع في تنفيذه، هدفه ضرب استقرار المنطقة العربية بهدف جرها إلى مشروع أكبر منها، أو ليست طرفا في وضع تصوره وفي تنفيذه. أو بعبارة أخرى فإن ما تشهده الكثير من البلاد العربية حاليا من أحداث، لا يمكن إلاّ إدراجه تحت ما أطلقت عليه  إحدى المجلات الاستعمارية الفرنسية بـ "الغارة على العالم الإسلامي" منذ 1911(19)،  والتي بدأت فصولها منذ أمد طويل. مما دعا العديد من الدارسين إلى التنبيه إلى مخاطر ذلك، وعلى رأسهم الكاتب الفرنسي "أوجين يونغ"(20).

إذا كانت فرنسا وكذا الولايات المتحدة الأمريكية قد تعاملت مع النظام التونسي بعطف وسعت إلى إنقاذه إلى آخر لحظة من حياته؛ وإذا كانت السعودية و"إسرائيل" والعديد من القوى العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية قد عملت باتجاه الإبقاء على حكم مبارك، الذي اعتبرته "إسرائيل" كنزا استراتيجيا لها؛ فإن واقع الحال يدل على أن نظام القذافي قد استقطب جميع القوى الإقليمية والدولية ضده. وهو الذي سعى منذ 2003-  سنة احتلال العراق والنهاية المأسوية لنظام صدام حسين - للتقارب مع الغرب عموما والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا خصوصا، ظنا منه أن ذلك قد يحفظ نظامه ويقيه من ضربة شبيهة بما لحق بنظام صدام حسين، حيث فكك مشروعه النووي وفتح بابه للاستثمارات والشركات الغربية، كما قام بتسوية القضايا العالقة بينه وبين الغرب (قضية لوكاربيالتي أدت إلى مقتل 270شخصا، بعد تفجير الرحلة رقم 103لشركة بان أميركان فوق مدينة لوكربي الأسكتلندية عام 1988، وقد دفعت ليبيا نحو 1,5مليار دولار تعويضا لأسر وذوي ضحايا لوكربي. والطائرة الفرنسية "يو تي إيه دي سي 10" عام 1989. وكانت الجماهيرية الليبية قد وافقت عام 2004على دفع 170مليون دولار تعويضات لأسر ضحايا الطائرة الفرنسية.)

إلاّ أن ذلك لم يشفع له شيئا لدى الغرب، حيث وبعد سلسلة الاضطرابات التي شهدتها ليبيا منذ فيفري 2011، وأمام التطور النوعي الذي عرفته ابتداء من 19مارس، بدأ القصف الجوي والبحري على ليبيا، رسميا "لحماية المدنيين من الطاغية"، حيث تنافست القوى الدوليةوالإقليمية على مد الجسور بينها وبين المعارضة الليبية، التي عُرفت بعد ذلك بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي بهدف قلب نظام الحكم القائم منذ 1969، وإقامة نظام موال للأنظمة الغربية، يكون صمام أمان لمصالحها النفطية والجيواستراتيجية في المنطقة، وتفكيك مساحة ليبيا الجغرافية، وتمزيق حدودها السياسية، وتقسيم ثرواتها الطبيعية وتقطيعها إلى دويلات صغيرة، وكيانات ضعيفة غارقة في المشاكل والأزمات، وتدين بالطاعة والولاء للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا.. بهدف السيطرة على مناطق الثروات والنفط والموارد الطبيعية في ليبيا كمقدمة للسيطرة على العالم العربي وإفريقيا.

 فالدول المشار إليها سابقا تقف وراء معظم الحروب الحديثة. فالولايات المتحدة تحارب لفرض هيمنتها عالمياً وانتزاع النفوذ ممن تعتبرهم أعداءها لأنها إمبراطورية حديثة العهد. أما بالنسبة الى أوروبا فهي وسيلة ضرورية للحفاظ على أكبر مؤسساتها الصناعية والتجارية وقدرتها على المنافسة التجارية العالمية.

وإذا لم تحدث حروب بحسب هذا التوجه والمسعى الذي تتزعمه هذه المجموعة (الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون)، فإن النتيجة ستكون كارثية عليها. وهذا من خلال ما قد يترتب عنه مثل هذا السيناريو من تداعيات سلبية على مصالحها:

1- توقف أكبر المصانع فيها.

2- ارتفاع معدلات البطالة إلى درجات غير محتملة.

3- انهيار كلُّ فلسفات التنظيم الاجتماعي في أوروبا وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية.

إن بروز الصين والهند جاء ليزيد الأمور صعوبة بالنسبة لهذه المجموعة من الدول. ذلك أن هاتين الدولتين تنموان اقتصادياً بشكل سريع أفزع هاته القوى. ويمكن تتبع ذلك من خلال نموذج شراءهما - خصوصاً الصين - للمواردَ الطبيعية من الشركات الأوربية تماما كشرائهما شركات التنقيب الإفريقية وامتيازاتها في فترة قياسية... وسيجد الغرب نفسه قريباً محروماً من كثير من هذه الثروات التي تسيطر عليها الصين والهند (الصين مثلاً تسيطر على أكثر من 90في المائة من المعادن النادرة التي تدخل في الصناعات الالكترونية ورقائق الكومبيوتر والهاتف النقال...الخ).

لذلك يبحث الغرب عن أماكن جديدة لنشر سيطرته الاقتصادية وتأمين قدرة إنتاجية مصانعه وفرص عمل أكبر لعماله وأسواق أوسع لبضائعه.ومن هنا جاء ضغط الغرب ومجازفاته العسكرية في ليبيا عام 2011، ليضمن ما يستطيع من بلدان، ويمنعها من التحول بمواردها وتجارتها وقوتها المالية باتجاه الصين، أوالهند.

إن حاجيات الولايات المتحدة الأمريكية من البترول والمواد الأولية القادمة من إفريقيا        -وليبيا جزء منها- في حدود 2015، سوف يرتفع إلى 25بالمائة(21)،وهو ما يساوي 5ملايين برميل يوميا، بحسب بعض أهم المراكز الدراسية الأمريكية (مجلس الطاقة الأمريكي ومعهد الدراسات الاستراتيجية والسياسيةInstitute for Advanced Strategic &PoliticalStudies IASPS).ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال التعامل مع سلطات محلية مجزأة وذات إرادة سياسية مرتهنة لشركات النفط العالمية.

 لقد أوصى معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المشار إليه (IASPS) بإنشاء القيادة العسكرية الأميركية لإفريقيا،"أفريكوم/ Africom". وأمام إصرار إدارة بوش الابن على تحقيق ذلك، ورفض الدول الإفريقية استضافة القيادة العامة، استقر الأمر في آخر المطاف على إقامتها مؤقتا بمركز القيادة الأمريكية بأوربا الموجود بمدينة شتوتغارت الألمانية.

إن غزو ليبيا في عام 2011من قبل حلف الشمال الأطلسي l’OTANليسإلا تجسيدا لسعي الولايات المتحدة الأمريكية لبسط سيطرتها على البترول الإفريقي وموارده الأولية تحت غطاء حماية الشعب الليبي من نظامه وقائده، وبهدف وضع قدم فيها للقاعدة الرئيسية للأفريكوم. وأكثر من ذلك فإن ليبيا بموقعها الاستراتيجي هي في تقاطع بين البحر الأبيض المتوسط​​وإفريقيا والمشرق العربي وشرق ووسط إفريقيا، على جانبيْ المحيط الهندي والأطلسي.

سعت وزارة الخارجية الاميركية بذكاء للتمويه والتستر والاختفاء، من خلال إرسال فرق من المتعاقدين العسكريين إلى ليبيا، بتمويل بلغ 30مليون دولار، بهدف تأمين الترسانة الليبية. لكن وراء هذه المهمة الرسمية، كان هناك سعيها الضمني للسيطرة على القواعد العسكرية الليبية. على الرغم من الالتزام المعلن بعدم إرسال القوات البرية إلى الارض الليبية(22)، ويمكن رصد ذلك من خلال المخطط التالي:

- إعلان منطقة برقة-حيث ثلثي النفط الليبي- إقليما فيدراليا اتحاديا، وإسناد رئاسة مجلسها الأعلى لأحمد الزبير السنوسي، وهو أحد أقارب الملك إدريس السنوسي الذي أطاحت به ثورة 1969.  هذا الخيار الرمز هو ذو دلالة كبيرة، فهو حفيد الملك إدريس الذي وضع على العرش من قبل بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، واعترف لهم في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بالقواعد العسكرية وحقول النفط.
- أما فزان، حيث كميات كبيرة أخرى من النفط، يريد أن يكون هو الآخر مستقلا.

- طرابلس أين نجد النفط قبالة سواحل العاصمة. وبالتالي يمكن لشركات النفط الكبرى، التي لم يعترف القذافي لها إلاّ بهامش ربح ضيق، البحث – عبر توظيف القادة المحليين في ضرب المعارضة بعضها ببعض –  عن أفضل الظروف من أجل تحقيق أكبر ربح ممكن.

وعليه فإن القضية الحقيقيةللحرب على ليبيا عام 2011، هي إعادةتشكيل منطقة الساحل والصحراء، وليبيا هي واحدة من ممرات الوصول نحو جميع البلدان المتاخمة لليبيا التي أصبحت معرضةلخطر التقسيم، وعلى المدى الطويل. ومن هذه الدول المتاخمة نجد الجزائر ذات الثروة النفطية الهائلة المدفونة في الصحراء وغير المحصنة ضد المناورات التي قد تهدف إلى زعزعة استقرارها. وهو ما دفع وزارة الدفاع فيها إلى مطالبة الهيئات المعنية بتأمين حدودها مع ليبيا بأزيد من 130ألف عسكري ودركي، إلى جانب تعزيزهم بوحدات مدرعة مدعومة بطائرات هليكوبتر هجومية وقوات خاصة، لمراقبة المنطقة ومنع تسلل الإرهابيين وشبكات التهريب، خاصة الشبكات النشطة في مجال تهريب الأسلحة التي تستغل حالة الحرب الدائرة في ليبيا من أجل اختراق الحدود الجزائرية وجعلها محور عبور هام للجماعات الإرهابية بهدف إبرام صفقات تهريب الأسلحة نحو دول الساحل.

وقد تمت الإطاحة بالنظام الليبي وقتل معمر القذافي نفسه، وقد عزا وزير الدفاع الأمريكي "ليون بانيتا" ذلك لما أسماه بـ " الثورة الملهمة" « révolution inspiratrice ».

-ثانيا: تداعيات الوضع الليبي على دول منطقة الساحل

يمكن رصد أهم التداعيات التي قد يفرزها الوضع الليبي على دول منطقة الساحل على النحو الآتي:

- إمكانية أن تؤدي الاضطرابات في ليبيا إلى زيادة انعدام الاستقرار في منطقة الساحل الضعيفة التي تناضل من أجل السيطرة على أراضيها الشاسعة. كما أنه من المؤكد أن عودة أعداد هائلة من المقاتلين الشباب المسلحين وذوي الخبرة، تهدد سلام واستقرار المنطقة، بحسب المركز الفرنسي للأبحاث حول الاستخبارات.

فهناك مجموعة أسلحة هائلة لا تخضع للمراقبة، وتثير شهية الجماعات الإرهابية التي تسهل تحركاتها بفضل شساعة الحدود الصحراوية من تشاد إلى الجزائر مرورا بالنيجر. وتتوفر هذه الجماعات على "صندوق تمويل حرب"​​يضم أموال الفدية التي تدفعها الدول الغربية مقابل إطلاق سراح رهائنها.

وتستفيد الجماعات الإرهابية أيضا من ميزة كبرى، ألا وهي كون منطقة الساحل ساحة للصراعات بين قبائل الطوارق والسلطات المركزية. كما أعرب مسؤولون محليون ​​عن قلقهم إزاء تجنيد الآلاف من شباب الطوارق للقتال في صفوف ميليشيات القذافي

قال المسؤولون المنتخبون في شمال مالي: "نحن قلقون جدا لأن هؤلاء الشبان يتوجهون بكثافة إلى ليبيا والأمر خطير جدا بالنسبة إلينا، لأنه لا بد وأن ينعكس علينا في حال صمد القذافي أو في حال انهياره".

وقال عبدو سلام أصالة، رئيس جمعية كيدال الإقليمية، موضحا أكثر بقوله: "ما يحدث يثير خوفي لأنهم سيعودون يوما بسلاحهم لزعزعة الاستقرار في منطقة الساحل"(23).

وسيعود التمرد في ليبيا بالفائدة أيضا على أعضاء القاعدة المتفرقين بكتائبهم في مساحات منطقة الساحل الشاسعة. وسوف تستغل القاعدة بالتأكيد وضع ليبيا الحالي لاقتناء معدات تكنولوجية ذات قيمة مضافة عالية.

- بخصوص إفرازات الحرب الأهلية، فقد ذكر بعضهم أن الأجهزة الأمنية بالمنطقة قصّرت في تقدير حقيقة الحرب الليبية، من ناحية نتائجها على المنطقة. واعتبروا انتقال مئات المقاتلين الموالين للقذافي من ليبيا إلى شمال مالي عائدين إلى قبائلهم، وكذا تسرّب حجم كبير من السلاح منها بمثابة متغيّر خطير في المعادلة الأمنية لم يكن في الحسبان.

ووجه بعض الخبراء، انتقادا للحكومة الأمريكية التي تعاملت ببرودة مع هيئة الأركان المشتركة التي أنشئت بتمنراست عام 2010، والتي تشارك فيها أربع دول بالساحل. وسعت في مقابل ذلك، إلى تشكيل قيادة مشتركة بديلة في واغادوغو. واعتبروا ذلك ''تشتيتا لجهود يفترض أن تنصب على محاربة العدو المشترك": «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي».

وحسب موقع أنباء موسكو فإن" فرنسا ساركوزي " هي المستفيد الأكبر من سقوط القذافي. ويمكن إبراز ذلك من خلال:

-استعداد الغرب بقيادة ساركوزي لنيل الجائزة الكبرى من المجلس الانتقالي الليبي، بعد سقوط العاصمة طرابلس وسقوط القذافي، خاصة وأن رئيسه مصطفى عبد الجليل صرح بأن الأولوية في ليبيا ما بعد القذافي للدول التي دعمت المجلس. وقد سبقته تسريبات في إحدى الصحف الفرنسية تشير إلى أن المجلس تعهد بتأمين 35بالمائة من النفط الليبي لباريس مقابل دعمه الإسقاط القذافي(24(.
وجائزة الانتقالي الليبي لساركوزي ورفاقه لا تقتصر على النفط والغاز بل عقود إعادة إعمار ما دمرته الآلة العسكرية، والتي جاء تقديرها من المجلس ذاته بـ 200مليار دولار. وتتسابق عليها دول شاركت في الحرب وفي فرض الحظر الجوي ضد نظام القذافي، ومنها إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا والولايات المتحدة .
وقد كشفت صحيفة "الغارديان" أن شركة "بريتش بتروليوم" تجري محادثات خاصة مع أعضاء بالمجلس الانتقالي في ليبيا، معتبرة أن ليبيا واحدة من الدول الحيوية في مجال إنتاج الطاقة. وسبق لـ"بريتش بتروليوم" أن تعهدت بإنفاق أكثر من مليار دولار على خطط استكشافية أثناء فترة حكم العقيد الليبي معمّر القذافي.
وصرح وزير الخارجية الإيطالي بدوره للتلفزيون الرسمي بأن شركة "إيني" الإيطالية للنفط ستلعب الدور الأول في مستقبل النفط الليبي. كما تعهدت الحكومة الألمانية بتقديم الدعم في إعادة إعمار البلاد.

-  أما الولايات المتحدة فتسعى إلى لعب دور أمني في ليبيا ما بعد القذافي كما يشهد له تصريح فيكتوريا نولاند المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية التي أشارت إلى  أن بلادها "ستنظر بشكل ايجابي في طلب يتقدم به المجلس الوطني الانتقالي الليبي إلى الأمم المتحدة لتعزيز صفوف الشرطة". وسبقته الوزيرة كلينتون بالقول: "سنراقب الثوار للتأكد من أن ليبيا تتحمل مسؤولية تعهداتها وأن مخازن الأسلحة الموجودة لديها لا تهدد جيرانها،  وأن ليبيا لن تقع في أيد سيئة، وأنها تبدي حزماً تجاه عنف المتطرفين" .
لاشك في أن الجائزة الكبرى ستكون من نصيب فرنسا ساركوزي والتي لن تقتصر على الكعكة الليبية، إنما تمتد إلى استعادة نفوذ قل تأثيره في غرب أفريقيا بسبب مشاريع القذافي الإفريقية.

III- منطقة الساحل (الأزماتية) بركان في طور الانفجار

-تعد منطقة الساحل(الأزماتية) بالنسبة لأمريكا وفرنسا نقطة استراتيجية هامة، خاصة من جانب الموارد الطبيعية، كالبترول والغاز واليورانيوم. كما يسعيان معا للتصدي ضد الزحف الصيني في المنطقة، زيادة على رغبة أمريكا في إقامة قاعدة عسكرية في المنطقة لضمان مراقبتها التامة على دول المغرب العربي وقسما كبيرا من باقي الدول الإفريقية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما شهدته منطقة شمال افريقيا منذ السبعينيات من القرن العشرين     وافتعال قضية الصحراء الغربية يدخل في إطار إلهاء الجزائر عن الانطلاقة الحضارية ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الرائدة والطموحة التي باشرتها بعد الاستقلال وخاصة مع وصول هواري بومدين للحكم عام 1965، حيث سعت فرنسا إلى التشويش على الانطلاقة الجزائرية من خلال افتعال الأزمات والقلاقل في العديد من المناطق الإفريقية ذلك أن فرنسا الرسمية لم تتخل عن أطماعها الاستعمارية في إفريقيا. وهذا ما أوضحه الرئيس بومدين عند بروز قضية الصحراء الغربية قائلا:

"نحن أمام مؤامرة حقيقية لإبادة الشعب الصحراوي: فرنسا تقدم الاسلحة، والمغرب وموريتانيا يقدمان الرجال. وهناك بنك في المشرق العربي يقدم المال. والواقع أن هذه المؤامرة لا تعني الصحراء الغربية فحسب، بل هي تهدف إلى ضرب أسس الثورة الجزائرية، إذ أن الهدف منها هو فرض التطبيع مع إسرائيل على المنطقة، وضرب البلدان التقدمية بغاية فرض لغة الخضوع على الجميع".(25)

ونظرا لما تشهده هذه المنطقة منذ عقود من منافسة بين القوى العالمية وخاصة مع انتهاء الحرب الباردة في بداية التسعينيات، وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بزمام القيادة العالمية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، واتضاح حاجة القوى الكبرى للموارد الأولية التي تزخر بها المنطقة، وسعيها لبسط نفوذها وهيمنتها على دول المنطقة من خلال تقديم الدعم المادي      واللوجستي للقضاء على الجريمة  المنظمة والتهريب والاتجار بالأسلحة والهجرة غير الشرعية والإرهاب الذي اشتد بعد 2001في المنطقة، فقد سعت الجزائر ومعها دول المنطقة للعمل على تطهير هذه المنطقة من الآفات. وذلك من خلال إدراكها أن ما يجري فيها ليس من باب الصدف بقدر ما هو نتاج سياسة محكمة، وهذا لأن للولايات المتحدة الأمريكية تسعى لإرث النفوذ الأوروبي التقليدي وقطع الطريق في إفريقيا على النفوذ الاقتصادي الصيني بالكامل. كما تسعى أمريكا لعرقلة أي تطور للاتحاد الإفريقي الذي يسعى ليتبوأ مركزا قطبيا إقليميا وقاريا، يستطيع أن يؤثر على اتجاهات السياسة الدولية في إطار عالم متعدد الأقطاب، وفي ذلك خدمة للتوازن الدولي والسلم العالمي.

ولأمريكا مشروع أمني وسياسي ليس في منطقة الساحل(الأزماتية) فقط، وإنما في القارة الإفريقية كلها. لذا فهي تعمل على تغطية ذلك بورقة الإرهاب والتهديد الأمني الذي تتعرض له هذه البلدان. حيث أنها عملت وما زالت على تحويل منطقة الساحل إلى قاعدة عسكرية لها تتخذها ضد أي دولة إفريقية تخرج عن فلكها وطاعتها.

 وفي هذا الإطار حذر مدير "منتدى العالم الثالث" و"المنتدى العالمي للبدائل"، سمير أمين من مغبة الاستخفاف بما يحدث من تفتيت لدول المنطقة العربية والساحل الإفريقي وانعكاسات ذلك على الجزائر.

وقال: إن المنطقة العربية تشهد عملية تحطيم ممنهجة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا وكشف أن ما يحدث من تفتيت لدولة مالي هو امتداد لتحطيم ليبيا وتحويلها إلى صومال شمال إفريقيا. وهو المصير الذي تسعى الولايات المتحدة وأوروبا إلى انتهاجه في سوريا كمرحلة جديدة بعد الانتهاء من تدمير العراق وإضعاف مصر.(26)

إن بروز الجماعات الإرهابية والإجرامية وتزامنها مع اكتشاف العديد من الثروات الباطنية: الذهب، البترول، اليورانيوم، الحديد، الأحجار الكريمة...في كل من الجزائر وليبيا ومالي    والنيجر وموريتانيا... توالي عملية الاختطاف للرعايا الأوروبيين في الصحراء الكبرى ليس من قبيل الصدفة، بل ورائها مخطط بعيد المدى وخطير على سيادة دول الساحل من خلال توريطها في حروب افتراضية ودفعها لشراء الأسلحة من الدول الغربية. وسوف يؤدي ذلك إلى عرض الدول الغربية على هذه الدول صفقات لاستخراج المواد الأولية لتسديد مبالغ صفقات الأسلحة لمحاربة شبح الإرهاب. ولن يتم ذلك إلاّ بتدخل لأمريكا والحلف الأطلسي لمساعدة دول الساحل على مكافحة الإرهاب الذي سوف لن ينتهي مثلما هو حاصل اليوم في أفغانستان والعراق والصومال...ومنه تبرير التواجد الدائم لأمريكا في منطقة الساحل بعد ضمان وصول أنظمة موالية لها (العراق وأفغانستان وليبيا أكبر مثال على ذلك...) 

سعت الجزائر مع بعض القوى الإفريقية كجنوب إفريقيا، نيجيريا، ليبيا...لتقوية التعاون الإفريقي- الإفريقي بهدف تعطيل المشاريع الغربية الهادفة إلى إعادة الاستعمار بإفريقيا. ويمكن توضيح ذلك من خلال:

- سعي الجزائر للقضاء على الجريمة المنظمة والتهريب والإرهاب...من خلال دعم التنمية والحفاظ على سيادة الدول بهدف عرقلة المشروع الغربي في منطقة الساحل وفي إفريقيا.

- سعيها لحل النزاعات القائمة في منطقة الساحل وعلى رأسها الحرب الأهلية والنزاع الدائر في مالي بين الحكومة المركزية والطوارق، من خلال التوقيع على معاهدة الجزائر 2006بين الطرفين، مقابل حكم ذاتي أو لامركزية واسعة في شمال مالي. وقد تم إنشاء صناديق لتمويل مشاريع تنموية بتمويل جزائري في شمال مالي مقابل تخلي المعارضة المسلحة الترقية (الطوارق) عن فكرة الانفصال.

- نقل الجزائر لمعدات عسكرية لمالي والإشراف على مناورات عسكرية بمشاركة موريتانيا والنيجر لتأهيل قوات بلدان الساحل لمواجهة مسلحي القاعدة، وذلك بهدف قطع الطريق على التدخل الخارجي بقيادة أمريكا وفرنسا.

- رفض الجزائر للتدخل الفرنسي والغربي في الشؤون الداخلية لدول الساحل، تحت أي غطاء (الإرهاب)، مؤكدة على خيار التعاون في أشكاله المختلفة (الفنية، العسكرية، والتنموية...) 

-احتضان الجزائر من 12إلى 13أوت 2009اجتماعا لدول الساحل والصحراء ضم الجزائر وموريتانيا والنيجر ومالي، وتم الاتفاق على إنشاء مركز قيادة للتنسيق الأمني والعسكري المشترك يكون مقره مدينة '' تمنراست''. وذلك كرد على مبادرة تريد أن تنخرط فيها أمريكا والاتحاد الأوروبي لمحاربة الإرهاب في المنطقة بتشكيل قيادة مشتركة في واغادوغو عاصمة بوركينافاسو. وتسعى الجزائر إلى الدفع بفكرة مفادها: إن مشاكل المنطقة الأمنية والتنموية من اختصاص دول المنطقة في المقام الأول، على أن يكون الدعم بعيدا عن محاولات التدخل في الشؤون الداخلية لدول الساحل.

-يندرج مسعى الجزائر إلى البدء في تنفيذ خطة تمنراست، مع موريتانيا والنيجر ومالي، في سياق خطوات استباقية لمنع أي تدخل أجنبي في منطقة الساحل والصحراء ورفضه مهما كانت مبرراته، ووضع دول المنطقة أمام واقع تحمّل مسؤولياتها الأمنية بنفسها من خلال اتخاذ مبادرة عملية دون الحاجة إلى ''اليد الأجنبية'' والتدخل الأمريكي والفرنسي الذي كان بارزا في الفترة الأخيرة، ودرء ما من شأنه أن يكون مبررا لاستدراج مزيد من العناصر والمجموعات المتطرفة. ويرى العديد من الخبراء أن الجزائر ترفض الوجود الأمريكي أو الأوروبي في المنطقة، وتعتقد أن دول المنطقة لها سيادة ولها تجربة في الحرب على الإرهاب بما يؤهلها لمواجهة هذا التحدي في دول الساحل والصحراء بنفسها، ولذلك قدمت مقاربتها في إنشاء القيادة المشتركة.

VI- تداعيات الأزمة الليبية وأزمة منطقة الساحل على الأمن القومي الجزائري

إن ما حدث ومازال يحدث في ليبيا منذ 2011(طول الحدود المشتركة مع الجزائر 1200كلم) ومنطقة الساحل ولاسيما في مالي منذ الانقلاب على الرئيس الشرعي توماني2010والتدخل الفرنسي إثر عملية سيرفال منذ جانفي2013وجويلية2014لمؤازرة القوات النظامية المالية ضد الجماعات الاسلامية المسلحة التي سيطرت على منطقة الأزواد بشمال مالي للحيلولة دون تقدمها جنوبا نحو العاصمة باماكو (طول الحدود المشتركة مع الجزائر 1376كلم) أثر وما زال يؤثر على الأمن القومي للجزائر ودول المنطقة بل وأمن القارة الإفريقية. ذلك أن ما تشهده هاتان المنطقتان الجارتان للجزائر من تدخل سافر لقوى استعمارية سابقة على رأسها فرنسا وبريطانيا وقوى عالمية كالولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو الممثل لدول أوروبا الغربية وشمال القارة الأمريكية ودول أوروبا الشرقية التي انضمت للحلف بعد سقوط وتفكك المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي منذ 1991(29دولة حاليا) قد أدى إلى ما يلي:

-استباحت أمن وسيادة دولتين مستقلتين عضوين في هيئة الأمم المتحدة

-إسقاط النظام اللبيبي القائم منذ 1969والمتمثل في معمر القذافي قائد الثورة الليبية وقتله بطريقة وحشية رغم الإمساك به وكان بإمكان هؤلاء تقديمه للعدالة للفصل في أمره

-تحول هاتين الدولتين لدول فاشلة لا تستطيع تأمين حاجيات شعوبها الأساسية وتحقيق أمنهم وسلامتهم.

-انتشار السلاح بكميات كبيرة وانتشار الجماعات المسلحة بشكل لافت وعشوائي

-تحول الحدود إلى مناطق عبور للاتجار بالعبيد ونقل السلاح وتهريب المخدرات والسلع ...بالنظر لطولها وطبيعة تضاريسها وقساوة مناخها.

-الهجرة من دول إفريقيا السوداء نحو أوروبا مرورا بدول المنطقة ومنها الجزائر التي شهدت منذ 2011تدفقا كبير اللأفارقة في المدن الجنوبية الجزائرية لينتقلوا بعدها بأعداد كبيرة للشمال مما أوجد مشاكل أمنية للجزائر.

-إقامة قواعد عسكرية الأفريكوم والقواعد الفرنسية والبريطانية وخطورة ذلك على الأمن القومي لدول المنطقة وعلى رأسها الجزائر.

-انتقال الجماعات المسلحة إلى جنوب الجزائر والتهديد الأمني الذي عرفته الجزائر في هذه الفترة خاصة على منشآتها الغازية: هجوم تقنتورين بعين أم الناس في جانفي2013الذي أسفر على سقوط العديد من الضحايا الوطنيين والأجانب وإلحاق خسائر فادحة بالبنى التحتية الغازية لهذا المركب الصناعي.

على أن أكبر تداعيات الأزمة الليبية منذ 2011وأزمة منطقة الساحل منذ 2010على الأمن القومي الجزائريتكمن في التفاف القوى الكبرى وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ومن خلالهم حلف الناتو على الجزائر من الناحية الشرقية والجنوبية علما أن حدودنا الغربية مهددة من قبل المغرب وأطماعه التوسعية في أراضي الصحراء الغربية منذ 1974(المسيرة الخضراء) كما أن تواجد الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الباردة بين الشرق والغرب) كل ذلك من شأنه  أن يهدد كيان الدولة الجزائرية برمته على المدى المتوسط والطويل من خلال استنزاف الجزائر اقتصاديا وبشريا وإثارة الاضطرابات الداخلية وإنهاكها عسكريا بهدف تقسيمها إلى دوليات وكانتونات وهذا من خلال إحياء المشروع الاستعماري(27)  ومشروع برنارد لويس(28)

IVI-النتائج والتوصيات

1- النتائج

إن الجزائر تتعرض لتضييق خناق ضدها من قبل القوى الكبرى من كل جوانبها، وذلك من خلال ما يلي:

- الجهة الغربية مع المغرب الأقصى وقضية الصحراء الغربية منذ السبعينيات من القرن الماضي، وبالتالي فإن أزيد من 1600كلم (1559كلم مع المغرب + 42كلم مع الصحراء الغربية. وهو ما يعني 1601كلم) من الحدود الغربية لوطننا غير آمنة من الناحية الغربية، بسبب الأطماع التوسعية للمغرب الأقصى.

- الجهة الشرقية مع تونس وليبيا منذ 2011، وهي السنة التي شهدت بداية ما عرف بـ "الثورات العربية"، فإن ما شهدته تونس وليبيا من انقلابات جذرية على المستوى السياسي والأمني، قد عرض حدودنا الشرقية (أزيد من 2000كلم) للخطر بعدما كانت آمنة: (965 كلم مع تونس، و1200كلم مع ليبيا. وهو ما يعني 2165كلم)، أضف إلى ذلك أن حدودنا الجنوبية أصبحت مهددة من خلال المخاطر المحدقة بها والتي تسعى القوى الكبرى لإذكائها والنفخ فيها. فضلا عن تهريب الأسلحة القادمة من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي وانتصار المعارضة المسلحة المدعومة من قبل حلف الناتو.

- الجهة الجنوبية ←مع كل من مالي، النيجر وموريتانيا. وهو ما يعني أن أزيد من 2700كلم أصبحت معرضة للخطر (463 كلم مع موريتانيا، 1376كلم مع مالي و956كلم مع النيجر، وهو ما يعني 2795كلم.)

- الجهة الشمالية ←حيث أن الأسطول البحري الأمريكي يصول ويجول في عرض البحر المتوسط الذي يمثل 1200كلم من السواحل الجزائرية، (علما أن طول السواحل الجزائرية يبلغ 1644كلم حسب التقرير الرسمي لمحافظة السواحل الجزائرية الذي أكد أن الحسابات السابقة لم تحتسب الالتواءات والاحتدابات، واكتفت بعملية الحساب الأفقي)(29).

 وعليه فإن الحدود الجزائرية البحرية والبرية بكل اتجاهاتها ليست آمنة على المدى المنظور وغير المنظور، وهذا ما يجعلنا ندق ناقوس الخطر، من أن هناك سياسة واضحة المعالم قد تم نسجها ويجري تنفيذها منذ السبعينيات وربما قبل ذلك لتطويق الجزائر من جميع الاتجاهات بهدف ابتلاعها أو تفتيتها وفقا لمخطط استعماري فرنسي قديم متجدد، والمتمثل في مخطط "ألان بيريفييت" صاحب كتاب " هل يجب تقسيم الجزائر؟"، والذي قدم فيه مستشار الجنرال ديغول في عام 1961بمخطط لتجميع الأوروبيين في مناطق معينة من التراب الوطني الجزائري تشمل عمالة وهران والجزائر، إضافة لممر يربط بين هذه المناطق والمنطقة الصحراوية على امتداد الأنبوب الحالي للغاز(30).

وهو ما يجعلنا نتوصل إلى النتيجة التالية:

إن تطويق الجزائر برا وبحرا وآخره ما يحدث في مالي من انقلاب جذري، ما هو إلاّ مقدمة لضرب الجزائر، والسعي لتفتيتها. وهي البلاد الغنية بالموارد الطبيعية وعلى رأسها موارد الطاقة. خاصة وأن الدول الاستعمارية وما تعانيه من أزمات اقتصادية وارتفاع في معدلات البطالة وانهيار لمنظومتها المالية كما حدث في اليونان وغيرها من الدول المرشحة لنفس الأزمات: إسبانيا، إيطاليا، تسعى لإيجاد حلول لها ومخرج لأزماتها الهيكلية عن طريق تفتيت البلدان الإفريقية والآسيوية. وهو ما يعني ببساطة عودة الاستعمار في ثوب جديد، معدل ومحسّن، حتى يتم قبوله من قبل الشعوب في هذه البلدان، ما دامت ترفع شعار "حقوق الانسان" و"الديمقراطية".

2- التوصيات

إن قضية تحقيق الأمن القومي لأي دولة منوط بالمنظور والرؤى التي تحملها الدول حول نفسها وحول محيطها القريب والبعيد، وعلى هذا الأساس فإن المطلوب من الدولة الجزائرية أن تدرك أنه كلما كانت أوضاعها الداخلية آمنة ومستقرة زاد ذلك من فرص تحقيق أمنها العام، وبالتالي فإن استقرار الأوضاع الداخلية سيؤثر إيجابا على سلوكها ونشاطها الخارجي، سواء على المستوى العالمي أو القاري أو الإقليمي. فالدول الكبرى اليوم هي تلك الدول التي استطاعت أن تبني جبهتها الداخلية وتُقويها، وهو الشيء الذي جعلها تحقق تقدما على المستوى1الخارجي من خلال تحقيق مصالحها وضمان أمن تلك المصالح. وعليه فعلى الجزائر أن تسعى إلى تحقيق ما يلي:

أ- على المستوى الداخلي

- تنظيف الساحة الداخلية، وذلك من خلال الاستجابة للتطلعات الشعبية التواقة للحرية        والعدالة كغيرها من الشعوب، وقد دفع هذا الشعب الضريبة لتحقيق ذلك من خلال أكبر وأروع ثورة في القرن الـ 20. وكذا عبر ترك الساحة السياسية تفرز أحزابا وجمعيات منبثقة من رحم الشعب لتساهم في تحقيق السلم الاجتماعي، بعبارة أخرى العمل على إيجاد المجتمع المدني الحقيقي والممثل والفعال الذي سيكون هو الملاذ الآمن للجزائر في حال تعرضها لأي عدوان شبيه لما تعرضت له ليبيا، خاصة ونحن أمام محاولات حثيثة من قبل القوى الاستعمارية القديمة والحديثة (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا) للعودة إلى منطقتنا من النافذة بعدما أخرجت من الباب.

- الدخول في إصلاحات داخلية جريئة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وذلك بهدف حلحلة الاحتقان الذي قد تلجأ إلى توظيفه القوى الاستعمارية لتحريك الشارع، وبعض المناطق الجزائرية الحساسة (بعض الأطراف الترقية/أو: الطوارق، بعض الأطراف المحسوبة على القبائل، بعض التيارات السياسية والدينية المشكوك في ولائها للجزائر تاريخا وجغرافية). ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إطلاق الحريات بمختلف أنواعها بشكل يلمسه المواطن بنفسه.

- التركيز على العدالة الاجتماعية والبعد الوطني في البرامج التعليمية، لأن الملاحظ أن ثقافة سلبية قد غزت الجزائر في السنوات الماضية أساسها " نفسي وبعد ذلك الطوفان"/« Après moi le déluge ». وهو ما يعني أن درجة الالتزام الوطني قد أصبح في مستويات خطيرة. وهي حالة إذا استمرت ستكون لها نتائج مدمرة في حال حدوث عدوان خارجي على غرار ما حدث في ليبيا.

- الحوار الوطني المفتوح على القضايا المصيرية والأساسية، بهدف سد الفجوة بين السلطة والشعب والمعارضة. وعلى الدولة أن تكون لها الجرأة والشجاعة لحل مشاكلها الداخلية وتصفيتها اليوم قبل الغد تحسبا لما قد يخطط لها من أزمات وقلاقل داخلية، ستوظف في الوقت المعلوم من قبل القوى الاستعمارية.

ب- على المستوى الخارجي

- ما يمكن ملاحظته في فترة ما بعد الحرب الباردة هو انهيار مقومات الأمن القومي العربي، واستبدالها بأمن وطني هش عشوائي، يقوم على أساس "عقيدة مكافحة الإرهاب" المستوردة والمركبة: التفسير والتجريم. وعليه لا يمكن تحقيق الأمن القومي الجزائري إلا في إطار الأمن القومي المغاربي والأمن القومي العربي المتلازمين. (على ألّا يعني ذلك عدم بذل الجهد الفردي والاستعداد لأي طارئ عبرة بما حدث في ليبيا عام 2011). فاجتياح العراق عام 2003، والتدخل الإثيوبي في الصومال عام 2007، وتفتيت السودان عام 2011، وضرب ليبيا في 2011، والسعي لضرب سوريا وتفكيكها حاليا، وما حدث ويحدث في مصر كلها نماذج تؤكد هذا الواقع، سيما في ظل عدم سعي الجزائر للحيلولة دون الوقوف في وجه هذا المخطط الرهيب بفعالية أكبر. فالمطلوب هو ضرورة سعي الجزائر من أجل الالتفاف على مساعي بعض الدول (كقطر والسعودية في ليبيا وسوريا) وتجنب مصير شبيه بها. وعليه يمكن الاقتراح على صانع القرار الجزائري تبني مجموعة الإجراءات الآتية:

- نسج تحالفات استراتيجية (عسكرية واقتصادية وسياسية ...) مع دول مهددة بالتقسيم والتفكيك، على غرار دول الساحل والبلدان المغاربية. إن الموقف الذي تبنته الجزائر من الاعتداء الذي تعرضت له ليبيا عام 2011، قد أدى إلى فتح المجال أمام فرنسا وبريطانيا وإيطاليا لتكون لها المبادرة. وهي دول استعمارية في الماضي والحاضر والمستقبل. فالاستعمار ظاهرة لا يمكن أن تختفي إلا أمام ضربات الحركات التحررية والمقاومة الوطنية واليقظة الدائمة والمستمرة. فقد كان على الجزائر وهي الدولة الحدودية مع ليبيا على طول 1200كلم، أن تتدخل حماية لأمنها وسلامتها. وذلك من خلال البحث عن حل سياسي للأزمة التي شهدتها ليبيا منذ البداية، إذ لم تكن مطالب الليبيين في البداية سوى مزيدا من الحرية والعدالة لا غير. لتتحول بعد ذلك إلى السعي لقلب نظام الحكم بعد التدخل السافر لفرنسا وحلفائها، يؤازرهم في ذلك العديد من الدول العربية الخليجية.

- توظيف الجزائر لقدراتها المالية والاقتصادية والسياسية والثقافية (الإسلام والعروبة والأمازيغية والتيجانية، وكل ما من شأنه أن يزيد في أواصر الترابط الديني والروحي والثقافي...الخ) بهدف تنشيط وتفعيل المبادرات المحلية الإقليمية لإيجاد سدّ منيع في وجه الأطماع الغربية الدائمة والمتلونة، للحيلولة دون تقدم هذه الدول في المحيط الأمني والاستراتيجي للجزائر. ويمكن توضيح ذلك من خلال وضع الجزائر لمخطط استعجالي لدبلوماسية نشطة في محيطها القاري والإقليمي، على غرار العديد من الدول التي شرعت في تجسيد ذلك بهدف تحقيق مصالحها العليا، كتركيا وإيران والصين، وكذلك "إسرائيل" التي استطاعت في العشرين سنة الأخيرة أن تعيد فتح المناطق التي طردت منها وخاصة في إفريقيا، أمام ضربات الدبلوماسية النشطة للجزائر في السبعينيات.

- تنشيط الاتحاد الإفريقي ومنظماته من أجل إيجاد حلول للمشاكل الأمنية التي تعاني منها منطقة الساحل وذلك من خلال ترتيبات مشتركة يلعب فيها محور الجزائر - مصر - جنوب إفريقيا - نيجيريا - السينغال...الدور الفعال نظرا لإمكانيات هذه الدول وتجاربها في حل النزاعات ورصيدها التاريخي في مقارعة الاستعمار.

- مد الجسور بين الجزائر ودول المغرب العربي في إطار الاتحاد المغاربي وتفعيله وإعادة إحيائه من خلال العمل المغاربي المشترك. والعمل الحثيث في إطار جامعة الدول العربية من خلال عودة الجزائر إلى نشاطها الفعال الذي تميزت به في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

- اهتمام الجزائر بالقارة الإفريقية التي تعتبر صمام الأمان لأمنها متعدد الجوانب، وذلك من خلال نسج العلاقات الثنائية والجماعية مع دول ومناطق هي في أمس الحاجة إلى مساعدات وتبادل المنافع المشتركة، وكذلك من أجل سد الطريق أمام القوى الاستعمارية التي تمارس الوصاية والتدخل في شؤونها الداخلية، بهدف الزج بها في مشاريع غير واضحة المعالم والأبعاد، مستغلة فقرها ومشاكلها الداخلية والأمنية. فالجزائر وما تملكه من رصيد تاريخي وثقافي ومادي وطبيعي ومعرفي قادرة على طرح نفسها كشريك طبيعي موثوق الجانب في القارة الافريقية. وما دون ذلك معناه تراجع دورها أمام ازدياد الدور الاستعماري بقيادة القوى الكبرى ومعها إسرائيل في القارة السمراء، وهذا ما يمثل خطرا على أمننا في الحاضر والمستقبل

الهوامش

  • عباس الحسيني، تصفية العلماء آلية أمريكية- إيرانية لتدمير الدولة العراقية، الثلاثاء 17/11/2015. https://alarab.co.uk/p1000.pdf#page=6  ،تاريخ الدخول 19/12/206
  • إبراهيم العجب، اقتصاد السودان بعد الانفصال،  https://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2011/4/24  تاريخ الدخول 15/05/2011
  • Espoir au Darfour après la découverte d'un lac souterrain: https://www.nouvelobs.com/monde/20070719.OBS7387/espoir-au-darfour-apresla-decouverte-d-un-lac-souterrain.html. تاريخ الدخول 15/12/2015
  • أمين هويدي، أزمة الأمن القومي العربي: لمن تدق الأجراس؟! الطبعة الأولى، دار الشروق القاهرة- بيروت 1991، ص 11.
  • أخبار روسيا، مشروع "نابوكو" لنقل الغاز. قد لا يبصر النور، http://arabic.rt.com/news_all_news/news/577839/:، تاريخ النشر 06/02/2012، تاريخ الدخول 15/09/2015.
  • La syrie, centre de la guerre du gaz au proche-orient par Imad FawziShueibi, https://www.voltairenet.org/article174022.html تاريخ الدخول 20/07/2012.
  • المحافظون الجدد والفوضى البناءة- النموذج اللبناني، تيري ميسان، https://www.voltairenet.org/article142882.html  تاريخ الدخول 25/04/2010.
  • صحيفة الوسط البحرينية - العدد 1474- الثلاثاء 19سبتمبر 2006م الموافق 25شعبان 1427هـ.
  •  
  • برنارد لويس، جذور الغضب، ترجمة بشار بكور، الألوكة، www.aluka.net، ص2و3.
  •  
  • علي كريم حسن، الربيع العربي. ثورات أم مؤامرات، الدار 2018، ص 25و30.
  • Vincent Jauvert, Libye : Les cinq révélations du livre de BHL, in : Le nouvel observateur, 07/11/2011. http://globe.blogs.nouvelobs.com/archive/2011/11/07/libye-les-cinq-revelations-du-livre-de-bhl.html. Date d'entrer 13/10/2013
  • جمال حمدان، استراتيجية الاستعمار والتحرير، ط1، دار الشروق 1983
  • مصطفى خالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية، منشورات المكتبة العصرية صيدا بيروت 1986، ص 36.
  • ألكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحية (ترجمة خلف محمد الجراد)، عالم المعرفة، العدد 215، الكويت نوفمبر 1996، ص 39.
  • Pierre Montagnon, La guerre d’Algérie, pygmalion Gérard Watelet, Paris 1984, p 20.
  • جمال حمدان، استراتيجية الاستعمار والتحرير، ص223.
  • جمال حمدان، الجماهيرية العربية الليبية دراسة في الجغرافية السياسية. مكتبة مدبولي، مصر 1996. ص 77.
  • القذافي يدعو العرب إلى طرد القوات والقواعد الأجنبية، https://www.farah.net.au/?mod=news&id=10465&rp=0&act=print&rf=1تاريخ الدخول 31/12/2014.
  • Le Chatelier, Revue du monde musulman, conquête du monde musulman, novembre 1911, volume xvi, numéro x.
  • أوجين يونغ، استعباد الإسلام، مكتبة زيدان عمومية،1937.
  • Patrick-R. MonzemuMoleli , odeur du pétrole site afrique espoir
  • http://www.afriquespoir.orgتاريخ الدخول 15/10/2013.
  • ManlioDinucci ,Le grand jeu africain, Traduction Marie-Ange PatrizioSource Il Manifesto (Italie)18/10/2011
  • Patrick-R. MonzemuMoleli;op-cit
  • Vittoria de Filippis, "Pétrole : l’accord secret entre le CNT et la France", in : Libération, 01/09/2011, https://www.liberation.fr/planete/2011/09/01/petrole-l-accord-secret-entre-le-cnt-et-la-france_758320.dated'entrer le 15/10/2015.
  •  
  • أحمد طالب الابراهبمي، مذكرات جزائري، الجزء الثاني: هاجس البناء(1965- 1978)، دار القصبة للنشر الجزائر 2008، ص ص435-436.
  • جريدة الشروق اليومي، الجزائر. البلد العربي الوحيد القادر على التغيير دون تدخل أجنبي لعبد الوهاب بوكروح ،25/04/2012.
  •   بن يوسف بن خدة: اتفاقية إيفيان، ترجمة جبايلي محل العين ولحسن زغدار، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1986، لاسيما ص ص:61-62-63.
  • عادل الجوجري، سياف الشرق الأوسط برنارد لويس مهندس سايكس بيكو2، دار الكتاب العربي، د.ت.ن، ص ص: 09-10
  • التقرير الرسمي لمحافظة السواحل الجزائرية لسنة 2013
  • Alain Peyrefitte, Faut-il partager l’Algérie ? Plon, 1962.

@pour_citer_ce_document

محمد رزيق, «التقلبات الجيوسياسية في المنطقة العربية ومنطقة الساحل وتداعياتها على الأمن القومي الجزائري»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 380-400,
Date Publication Sur Papier : 2020-08-19,
Date Pulication Electronique : 2020-08-19,
mis a jour le : 19/08/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7355.