دين الأزمة .... لاهوت الجمال عند جيل ليبوفتسكيthe religion of crisis .... Theology of beauty at Gilles lipovetsky
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 18-2021

دين الأزمة .... لاهوت الجمال عند جيل ليبوفتسكي

the religion of crisis .... Theology of beauty at Gilles lipovetsky
ص ص 183-191
تاريخ الإرسال: 2019-01-14 تاريخ القبول: 2020-11-11

نسيمة ضيافات
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

ليس من الشك أن الواقع الغربي المعاصر اليوم يشهد أزمة قيمية، تعد مآل من جملة المآلات التي أعقبتها مقولة الانفصالعن الدين، حيث ساد اعتقاد بأن العقل الغربي لن يصيب الرفعة وينتهي إلى الحضارة إلا بتخليه عن قداسة الدين، ووضْع قداسة العقل محلها كمبدأ كوني تستند إليه التصورات والسلوكيات. في هذا الارتحال من أزمة الدين إلى دين الأزمة يحدد جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetskyدلالات الحداثة الفائقة، التي تؤسس رؤيتها للعالم على مقولة الرغبة Le desirكمبدأ يصدر في صورة فردية ثم يتوسع نحو المجتمع، فترتد من اختيار إلى عقيدة راسخة تكون الذات ماثلة ومطواعة لها، ولهذا السبب تعد ثقافة الجمال اليوم استمرارية للدين وإحدى ملامح العبادة الدينية، وفي هذه الدراسة سنحاول مُساءلة الانتقال الجوهري الذي فرضته الحداثة الفائقة من أفول المتعالي إلى تأليه الزائل، مستندين في ذلك إلى رؤى الفيلسوف الفرنسي جيل ليبوفتسكي.

الكلمات المفاتيح 

أزمة القيم، أزمة الدين، الحداثة الفائقة، الرغبة، ثقافة الجمال

La réalité occidentale contemporaine assiste aujourd'hui sans aucun doute à une crise de valeur, résultat des résultats qui ont suivi la reparation de la religion, où l'on pensait que l'esprit occidental ne se lèverait et ne finirait pas avec la civilisation uniquement pour abandonner la sainteté de la religion et faire du caractère sacré de la raison un principe global fondé sur des perceptions. Et les comportements : dans cette transition de la crise de religion à la religion de crise, Gilles Lipovetsky définit les signes de la modernité, qui fonde sa vision du monde en tant que principe de désir individuel, puis se développe dans la société, Pour cette raison La beauté de la culture d'aujourd'hui de la religion et la continuité est l’une des caractéristiques du culte religieux. Dans cette étude nous allons essayer de déplacer la responsabilité fondamentale imposée par la haute modernité, de la disparition du transcendantal à la déification obsolescente, en se fondant sur les visions du philosophe français Gilles Lipovetsky.

Mots-clés :Crise des valeurs, crise dela religion, l’hyper modernité, désir, culture de la beauté

There is no doubt that the contemporary Western reality today is witnessing a crisis of value which is a result of the results that followed the separation from religion, where it was believed that the Western mind will not rise and end to civilization only to abandon the holiness of religion and put the sanctity of reason as a global principle based on perceptions and behaviors. In this transition from the crisis of religion to the religion of crisis, Gilles Lipovetsky defines the signs of modernity, which establishes its vision of the world as a principle of individual desir, and then expands into society, For this reason The beauty today's culture of religion and the continuity of one of the features of religious worship, and in this study we will try to move the fundamental accountability imposed by high modernism from the demise of the transcendental to the deification obsolescent, relying on the visions of the French philosopher Gilles Lipovetsky .

Keywords:Crisis of values,crisis of religion, hypermodernity, desir, culture of beauty

Quelques mots à propos de :  نسيمة ضيافات

 جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، daifatn22@gmail.com

مقدمة

من المعلوم أن الأزمة الأخلاقية والروحية التي ألمت بالمجتمعات الغربية المعاصرة إنما اقترنت باستفحال الأزمة الدينية التي حملت العديد من المآلات، وجعلت من إبانة أهمية الدين حتمية مفروضة لأنه منهاج البشر في تقويم سلوكياتهم الاجتماعية وإثبات فاعليتهم الحضارية، فإذا ما رجعنا إلى الفراغ الروحي والطغيان النرجسي الذي يطال الذات الإنسانية والذي مرده أفول الدين، تتجلى لنا رسوم الأزمة الدينية التي تتعدى مجرد تبجيل العقل والانسياق وراء التقدم الذي يحققه، بالقدر الذي تعبر فيه عن ثورة ضد التقاليد الموروثة، وإعادة الاعتبار للأبعاد الدنيوية التي تشترك في ترسيخ مقولة فصل الدين عن جميع مناحي الحياة.

يتكشف وجه الأزمة في الاحتدام العنيف بين الثابت (الدين) وبين المتحول، بين المتجذر في أعماق النفس الإنسانية والزائل، سيما وأن الغرب تمكن من تجاوز التصور اللاهوتي للعصور الوسطى، وإنكار المتعالي الذي كان له الأثر في تنظيم الحياة الاجتماعية، وارتد هذا المبدأ إلى العلم في العصر الحديث، بيد أن الإنسان الغربي اليوم يفتقر إلى هذا المبدأ، فالإيمان الأقصىبالعلم والانقياد وراء متطلبات العقل المادية أدخله في تيهان وسيطرة التقنية، أين تتبدى أزمة الثقافة الغربية الراهنة في فقدان المبدأ الجوهري الذي يساهم في تكوين المجتمع وفهم العالم وتفسيره، حينئذ يتبين التعارض الذي أقامته العلمانية التي انتهت بإنسان إلى الولوج في شراك العدمية.

غير أن الأمر لم يلبث عند هذه الحدود فسرعان ما مضى الغرب   في البحث عن قوالب جديدة يعلن لها الطاعة وفعل العبودية ويمدها بصفة التأليه، قوالب تؤكد تجذر مقولة الدين فيه واستحالة اجتثاثه من وجوده، فسرعان ما أعيد صياغة مفهوم جديد للدين يعاد اختزاله وفقا لتصورات متباينة، إلى مجموعة مركبة من الوسائل وأنماط الحياة، لكن الأمر الجوهري الذي يشكل الدين لم تتكفل به هذه التصورات لأنها مؤسسة على الماديات المتجاوزة للروحانيات. لذلك تأتي إسهامات الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيلليبوفتسكي* في استدلاله على عودة سؤال الدين من خلال طرحه لفكرة دين الأزمة الذي تحتضنه أزمنة الحداثة الفائقة والتي يرى أنها الوصف الدقيق لراهن الحضارة الغربية المعاصرة، الحداثة الفائقة التي تعد في حد ذاتها أزمة انتهت لتوسيع معناها بخلق دين يثبت مبادئها ،ويرسخ عبادة الذات، إن الدين الجديد الذي تدعمه الحداثة الفائقة حسب جيل ليبوفتسكي يقترن بالجنس الأنثوي ثم تطور وامتد حتى أوساط الرجال، فالإنسان الغربي في حاجة لتنمية الثقة في مبدأ جديد وتأيده لوجود السعادة فيه،وجد في الجمال ضالته  فأضحى الجمال هو اللاهوت الجديد الذي يعتقد به ويعتنقه الكثير في المجتمعات الغربية الراهنة، لذا نسعى من خلال هذه الدراسة إلى وضع لاهوت الجمال ضمن المساءلة المفاهيمية والوقوف على الأبعاد المضمرة القابعة في تثبيته ونشره، أما إشكالية الدراسة فتتحدد بمايلي :

إلى أي مدى يمكن عدّلاهوت الجمال المقدس الجديد الذي ناشدته مبادئ الحداثة وإنتهت إليه مقاصد مابعد الحداثة وقامت عليه الحداثة الفائقة؟

ولأجل الإجابة عن الإشكالية أسسنا دراستنا على الفرضيات التالية:

-  - لاهوت الجمال هو الدين الجديد الذي ارتضاه الإنسان الغربي اليوم لنفسه لأجل تجاوزه لأزمة الدين.

-  - عودة سؤال الدين في أزمنة الحداثة الفائقة، وابتداع لاهوت يتوافق مع التحول الثقافي الذي تعيشه المجتمعات الغربية المعاصرة.

وللإجابة عن التساؤل والتأكد من صحة الفرضيات انتهجنا في بحثنا المنهج التحليلي بالدرجة الأولى، ذلك أن القاعدة المنهجية تلزم بأن طبيعة الموضوع هي التي تحدد طبيعة المنهج، فهو الأنسبلبلوغ الهدف والإجابة عن تساؤلات الإشكالية، غير أن التزامنا بهذا المنهج لم يمنع أحيانا من وجود تداخل واستخداملبعض المناهج الأخرى لما نجد في ذلك ضروريا، فنستعين بالمقارنة والنقد.

وتكمن أهمية الموضوع المعالج في البحث والتبصر بالمضامين التي يحملها لاهوت الجمال اليوم في الحضارة الغربية المعاصرة، ذلك أن مسألة الجمال من المسائل الرئيسة ما مكنها من أن تصبح ثقافة تؤسس عليها عديدالمعتقدات والرؤى، أضفإلى ذلك يعد جيل ليبوفتسكي من الفلاسفة السباقين الذين تحدثوا عن هيمنة وسيطرة ثقافة الجمال والتوجه لنقدها لأنها اللاهوت الجديد الذي يرتكن ويسعد بعبادته.

أما عن الأهداف التي نسعى لبلوغها، والتي تثبت مشروعية بحثنا هي:

-   الكشف عن أهم المبادئ التي يركز عليها لاهوت الجمال، وإبراز الدوافع التي جعلت ليبوفتسكي يوجه النقد لها.

-   إيصال المعاني والدلالات التي يقف عندها ليبوفتسكي في الكشف عن لاهوت الجمال.

هذا وبرجوعنا إلى الدراسات السابقة التي تناولت أفكار وفلسفة جيل ليبوفتسكي تعد قليلة، وهذا راجع إلى اعتبار ثقافة الجمال والحداثة الفائقة من الموضوعات الجديدة والمعاصرة، إضافة إلا أن ليبوفتسكي من الفلاسفة المعاصرين الذين بدأت كتبهم بفضل الترجمة تعرف في الأوساط الفكر العربي، بيد أن هذا لا يمنع من وجود بعض من الدراسات التي وقفت عند المكانة التي يحتلها الاهتمام بالجمال والجسد اليوم، حيث نجد مقال:

الصادق رابح،"ضريبة السعادة: الإشهار وتوثين الجسد" من أهم الدراسات التي أشارت إلى سيطرة الجمال، حيث حاول المؤلف فيه إبراز نمط الحياة الجديدة، والثقافة الراهنة التي تسيطر على الغرب وتجعلهم يوجهوا اهتمامهم وسعادتهم بالرضى عن الجسد والتركيز على الجمال.

1.                      أزمة الدين في النسق الحداثي

رغم المقاصد الآمنة التي سعت الحداثةLa Modernité * لإدراكها جراء نقدها لسلطة اللاهوت ونبذها للدين كلية ،فإنها سارت إلى تقديس العقل والحرية والتعصب لإنسانية الإنسان كبديل ترتكن إليه وتعلن به عن التحول الجذري، الذي تصبومن خلاله إلى تحقيق التقدم والمضي بإنسان لتشيد حضارة خالية من أي قيود، ولعل هذا ما يجعلنا نعد الحداثة انتصاراجديدا لإرادة برومثيوس بواسطة قوة العقل ،فالأصل في العقل هو بيان قوة الإنسان التي ينفرد بها في سلم الوجود كما أن "الحداثة كفكرة هي الارتباط الوثيق بالعقلنة والتخلي عن احدهما يعني رفض الأخرى " 3(تورين، 1998، صفحة 30)،بهذا المعنى يظهر كيف أن الحداثة أسست مبادئهاعلى إبراز مكانة العقل وتحديد رؤيتها للعالم على أبعاد مادية تتحكم في راهن المجتمع الغربي، والأصل في هذا التأسيس هو إقامة حياة على روح العلم والنشاط العقلي وكرد فعل عنيف ضد الأضرار التي خلفتها أوهام الدين.

في محاولتها لتأسيس قطيعة مع الدين عمدت الحداثة على  تثبيت دعائم الفردانية* L 'individualismeكآلية من آليات فعل العقلنة "فأضحى الفرد الذي يقرر مصيره بنفسه، بل يضع حياته بيده جاعلا من وجوده في المجتمع وسيلة لتحقيق سعادته الخاصة وازدهار ذاته "4(الرحمان، 2006، صفحة 62)، إذن غدت الفردانية مبدأ تتشكل وفقه العلاقات الاجتماعية، فلا يمكن تصور علاقات بروح دينية وإنما أساسها فردانية مؤطرة بالمتع الأنانية والمادية وفي هذا يقر جيل ليبوفتسكي أنه بفضل الفردانية استطاع الإنسان الغربي التحرر من سلطة الدين، والولوج إلى سلطة ذاته التي تنم عن أزمة واسعة الأبعاد "فالفردانية التي ساهمت في إلغاء الإيديولوجية والصراع الطبقي هي نفسها التي ابتدعت صراع الإنسان مع ذاته"5 (Lipovetsky, 1983, p. 330)وبهكذا يظهر كيف أن الفردانية التي اقترنت بمبادئ الحداثة قد قامت على الفصل بين العقل والدين، كما أفضت إلى الطغيان النرجسي؛ ومثلما تتسم الحداثة بالفردانية فإنها أيضا تمثل الإطارالذي تنامت فيه العدمية6(روس، 2001)، التي ترسخّ مقولة أفول الدين، فبعدما كان الإنسان يحتكم إلى قيم عليا تُوقض فيه حماسة القلب وجُرأة المقصد، أضحى ذاتا منغلقة على المتع فاقدة لشغف الأهداف الكبرى.

نأخذ في مقاربتنا لأزمة الدين في الحداثة الوقوف عند مقولة الفصل التي ميزت هذه الحقبة والتي أشار إليها طه عبد الرحمان في قوله أن " عقل الحداثة اختص بكونه يفصل الأشياء عن بعضها البعض طالبا تحليل الكل إلى أجزائه الأخرىأو رد المجموع إلى عناصره "7(الرحمان، 2004، صفحة 28)، ومن ثمة يتبين كيف أن الفصل خاصية أساسية وجهتها وركزت عليها الحداثة لأجل إتمام مبادئها بشكل عاجل، فكانت أول علامة على هذا الفصل، هو الانفصال عن الدين كطليعة لتأدية انفصال عن الأخلاق، فإذا كان العقل يمضي بضرورة فصل الدين عن العلم كذلك فهو يلزم بانفصال عن الأخلاقفي الممارسات العلمية، وهي الأزمة التي تبعت أزمة الدين وتعرف بأبحاث البيوإيطيقا *Bioéthique، وعليه فإن الحداثة وجهت الإنسان المعاصر إلى نقد الدين وإحداث قطيعة معه وتقديس العقل، ومتى كان الأمركذلك فقد أضحى العقل من ضمن الأصنام التي انتهى إليها الإنسان الغربي، بحيث يمنحها الاهتمام والهيمنة على كافة مناحي حياته فمن موت الإله إلى تأليه العقل الذي يحقق ويضمن التقدم،لذا كان  " الغرض هو تشكيل إنسان يتمتع بالحرية في استعمال الحكم وكذلك بالانتقال من القصور الذي سجنته فيه السلطات الدينية إلى الرشد العقلي"8 (الزين، 2005، صفحة 55).

إن فكرة الحرية التي نصب عليها مشروع الحداثة هي القول بفرصة إدخال البشرية بكامل أعضائها إلى عالم الاستقلالالذاتي والتحرر من العبودية الروحية، فالإنسان المثالي إنما هو الذي يُردي التعصب لتقاليد الماضي9 (باومان، 2016)مناشدا تأسيس العالم الاستقلاليالحر، ومن خواص الذات المتحررة التي أورثتها صيغة نهاية اللاهوت وموت الإله وأفول الديني الاكتفاءبأخلاق العلمانية ومبادئ الدين الجديد، فليس من الضروري العودة للدين لتكون الحياة في أحسنها، وإنما العقل وحرية استخدامههو الكفيل بالحياة السعيدة10 (فيري، 2002)؛ إنه التجديد في بنيات القيم المتعالية وهي أنسنة حديثة بتَت في أمر قداسة الدين وتعالي الروحي ومدى أهميته في الحياة، لذلك يقر ليبوفتسكي بأن الحداثة هي قطيعة تامة وواضحة مع الماضي11 (Lipovetsky, 2003).

تأسيسا على ماسبق يكون تأليه الإنسانالذي نتج عن خطاب الحداثة قائما على حقيقتين هما:   

إنسانية حاملة لقيم تحل محل الإله المسيحي يسيطر فيها الإنسان على طبيعة فاقدة لطبيعتها، وطبيعة مجردة من كل ماهية إلهية.

إفراغ الديني من مضامينه بواسطة قدرة العقل12 (روس، 2011).

     بناءعلى هذا فالحداثةتجلت في ثلاث أساطير كما يحددها إدغار موران*: أسطورة التحكم في الكون، أسطورة التقدم، وأسطورة السعادة13 (موران، 2002)، ولعل الأسطورة الأخيرة هي التي لازمت مقاصد الحداثة الفائقة وكانت باعثة لوجود لاهوت الجمال، فالتمسك بالسعادة دفع الإنسان نحو الدَرْك، وسدده للمغالاة والإفراط في تحقيق الرغبات والمتع، وإذ تقرر هذا فإن اختصاص الحداثة يكمن في نزع المكانة عن الدين إذ ترفع عنه القداسة بحكم أن العقل هو الذي لابد أن يقدس حينئذ لا غرابة أن يلج الإنسان في أزمة أقل شئ يقال عنها أزمة مست الجوهر الوجودي للإنسان.

إضافة إلى ما سبق سرعان ما حلت ما بعد الحداثة Post- moderneلتمثل صورة جديدة تختلف عن الحداثة، فأصبح ينظر إلى الحداثة وفق منظور وزاوية ما بعد الحداثة، فمثلت السحق النهائي لمشروع الحداثة، وكانت معالمكل الأمور فيه متغيرة، لا يوجد فيه لا هدف ولا غاية، ما أدى إلى تعزيز حالة الاغتراب Aliénation، هذا المفهوم الذي بات يصف حال الإنسان الغربي اليوم، والذي مهد الطريق للولوج نحو لاهوت الجمال، ذلك أن جوهر الاغتراب ومعناه الدقيق يكمن في صناعة الإنسان لأصنام يقوم بعبادتها، فتسيطر عليه الأشياء التي أبدعها من ذاته ليحول ذاته إلى شئ، فيكون في حالة تواصل مع ذاته وفقط14 (عباس، 2008)، ومن ثمة فالسيادة التي حصل عليها الإنسانلأجل السيطرة على الطبيعة اتجهتبه شيئا فشيئا إلى الوقوع في حالة الاغتراب، والتي تتجلى أكثر في الخضوع لشهوات الذات والجسد.

لقد ركز الفيلسوف الالماني" فردريك نيتشه"* على مسألة في بالغ الأهمية اشتهرشخصه بها وهي تحطيم القيم الأخلاقية وخاصة منها الدينية ففي "مقدمة كتابه {المسيح المكلل بالشكوك} وصف نيتشه الموقف الفلسفي بعبارات بينت بشكل كامل القطيعة مع الأنسية الحديثة ، التي لم تتوقف عن إعلان إيمانها بالتطور وعن اقتناعهابأن انتشارالعلوم والتقنيات سيجلب أياما أفضل، ويحقق الانقيادإلى الطوباوية تسمح بجعل الإنسانية أكثر احترامالنفسها، هذا هو نمط الإيمان والتدين بدون الإله الذي أراده الفكر الغربي، أو بعبارة نيتشه نمط المعبودات التي آل على نفسه هدمها"15 (فري، 2011).

وعليه جنى الإنسان الغربي من عصر ما بعد الحداثة أسوء ما طمح له، فقام بتمجيد الفكر الناقد والعقل الثاقب فانقلبت هذه المكونات الأساسية لفلسفته الجديدة عليه ووقع في أزمة هي أزمة الحضارة المعاصرة الأزمة القيمية ودينية، هذه الأزمة التي من تطويق وحصر الإنسان في فرض خيارات كان غير راض بها، فقد توصل علماء الاجتماع إلى أن الافرد الذين يعتقدون أنهم مستقلين وأحرارهم في الحقيقة مسيرون كليا في خياراتهم الأخلاقية وحتى في ملبسهم، ومن ثمة تماهى الإنسان في هذا الوهم وأصبح لا يستطيع الخروج منه.

إذا تأملنا مليا في الوضع الذي آلت إليه المجتمعات الغربية  المعاصرة نجد أن هذه الحضارة إنما قد قامت على تصورات فاسدة عن علاقة الإله بالإنسان، تنم عن ما يسمى بالبؤس الفكري الفاحش، فقد ساد عن الغرب أن علاقة الإله بالإنسان إنما هي علاقة ذات خارجية عليا بذات الإنسانية وأن هذه العلاقة لا يمكن أن يكون لها أي تفسير سوى أنها علاقة تسلط قاهر، وأقل من هذا أنها علاقة تدخل سافر16 (الرحمان، 2004)، هنا تكمن المشكلة كيف يمكن أن يكون الاتزان في وجود التدخل وطلب التحرر الذي جاءت به ما بعد الحداثة، لذلك كان من اللائق أن يتنحى الإنسان على أحد مبادئه إما الإيمانبإله أو التخلي عن التحرر والعودة إلى فترة القرون الوسطى، بيد أن الإنسان الغربي اختارأن يحقق استقلاليته عن كل ذات خارجية متسلطة كانت أو متخيلة، كما أن الجرأة التي تحلى بها الإنسان الغربي لم تتوقف عند هذا الحد وإنما وصلت إلى أن القيم والمثل العليا مأخوذة من الكمالات التي يتصورها الإنسان، إضافة إلى "اتقاءه لبعض القيم الأخلاقية من الكتب المنزلة ويطرحون ما جاء فيها ولكن بصفة الحقارة مكتفين بمقاصدها البعيدة لا غير، أو حتى إلغاء هذه المقاصد تماما، ومن هذا المنطلق جاء تبرير الغرب لفصلهم بين الدين والإيمان، بحجة أن الإيمان هو وحده الجانب الذي لا يزال صالحا في هذه الكتب"17 (الرحمان، 2004، صفحة 75).

ومن ثمة فالدين لدى الغرب أضحى ذلك الموروث الذي يوقظفي الإنسان ذلك الجانب الضعيف فيه، والذي لابد من تجاوزه، لأن هذه الفترة تعكس القوة والتسلط فقط وإثبات الذات الإنسانية لقدرتها على القسوة، إن الناظر والمحلل لأوضاع الحضارة الغربية يجد أنها تدعى ذلك التقدم العلمي ولكن لديها جرح روحي، فالتراجع الأخلاقي حطم أملها في أن تكون الحضارة المثالية التي تسيطر على البشرية. 

2.                      تقديس الجمال وسُؤدُد الجسد

في تخيلاتهلطفرة الجمال التي يشهدها الغرب اليوم يبين ليبوفتسكي كيف أن الفردانية أسستلمنطق الموضى الذي يغلب عليه فك القيود الاجتماعية، ويطغى فيه تأكيد الأنا فكانت بذلك وسيلة لتعزيز الذوق الشخصي والاستقلالية الفردية18 (ليبوفتسكي، 2017)ولما كانت هذه المبادئ هي التي تحدد ماهية الموضى، فإن ثقافة الجمال هي التي تحركها.إن موضوع الجمال بات أكثر من أي وقت مضى واقعا مفروضا ومعاشا في المجتمع الغربي، ليس فقط بسبب هوس المظهر وطغيان الاناقة، وإنما بسبب التنظيم الاجتماعي ذاته الذي خضع لجملة من التحولات مست جوهره وأطاحت بثوابته وماهيته، "فالأشكال الاجتماعية الجديدة التي ستكون أساسا كأسلوب للحياة لن يكتب لها الميلاد إلا بتغطية الهوة القائمة بين الضروري والممكن "19 (فروم، 1978، صفحة 168)وعلى هذا لن تكون ثقافة الجمال إلا إبداعا قاصرا من ذات ولَّدتها الحداثة الغربية، ذات تحط من قيمة الضروري وترسي دعائم الزائل.

بيد أننا إذا أمعنا النظر في طبيعة الاستعمالات المكثفة للجمال في التدليل على خاصية الإرادة الواعية، ألفينا كيف أن تحرر البعد الجمالي في حد ذاته هو استطراد لانفصالياتوانتصار على مواجهة البعد الأخلاقي20 (ليبوفتسكي، 2012)، ففي أعقاب انفصال الإنسان المعاصر عن الدين والأخلاق تمكن الجمال من كسر قيود القيم التي كانت تكبله، ذلك أن الصفوة الأخلاقية والارتقاء القيمي لا يتحقق إلا في عقاب كبح شهوات الجسد*، لذلك عمدت الحداثة الفائقة على تأليه الجمال وتوجيه الإنسان لعبادته بما يقوي شعوره بأسباب السعادة، واندفاعه لتحقيق أهوائه وانغماسه في الملذات حتى انبثق إلى الوجود ما يسمى لاهوت الجمال     beauté   La religion de la.

يتحصل من بيان سيطرة الجمال الذي يقوم عليه نظام الحداثة الفائقة في تغيره للهدف الحصري للوجود النسائي، ذلك أن الهوية النسائية لم تعد تتشكل خلال وظيفتها في الأمومة، وإنما في التثمين الاجتماعيللمرأة المستقلة، المرأة التي تحمل رغبة التجديد والولع بالجمال وتحررها من مصيرها التقليدي 21 (ليبوفتسكي، 2012)ومتى بلغت الاستقلاليةوالفاعلية والسيطرة على الذات والنجاح خرجت عن صفة العبودية القديمة إلى التسييرالذاتيself mangement  "فكل امرأةتخضع لشروط الجمال تعبر من خلال جسدها عن امتلاكالإرادة والسيطرة على الذات المنسوبة تقليديا إلى الرجل"22 (ليبوفتسكي، 2012، صفحة 140).

إن هذا الركون المكثف للجمال في أزمنة الحداثة الفائقة لم يتبع بالمرأة لوحدها، وإنما ساهم في المساواة بينها وبين الرجل حيث أضحى" الرجال يهتمون بذواتهم وأصبحوا أكثر انفتاحاعلى كل جديد في الموضى ودخلوا إلى حلقة النرجسية     narcissime   Leالتي كانت فيما مضى حكرا على النساء"23 (ليبوفتسكي، 2017، صفحة 130)لقد تمكن عالم الموضى الراهن والتصوير والدعاية من خلق ثقافة للجمال الحديث التي تميل إلى التثمين اللامحدود للجمال ونضارة الجسد24 (رابح، 2009)، فكثفت الحداثة الفائقة الإرشادات المتعلقة بالجسد والتي لا نجدها تخرج عن نطاق العالم الاستهلاكيومقاصده، فالمعاير المتشددة للجسد تتماشى مع إغراءات الاستهلاكيةالواعدة بالعيش في المتع والرفاهية25 (ليبوفتسكي، 2012).

وقد ذهب ليبوفتسكي لتدليل على سعي الإنسان المعاصر لحياة الترف حيث يقول:

" تفرض التصنيفات الاجتماعيةفروق بين الصحة وبقاء الشباب فتكون دافعا لمقاصد أخرى يهيمن عليها مقصد السعادة  لذلك حل الاستهلاكلأجل الذات محل الاستهلاكلأجل الآخر" 26 (Lipovetsky, 2006, p. 44)، وحينئذ يتبين كيف أن ثقافة الجمال تنم عن عصر يكرس العناية بالجسد وهوس المظهر للجنسين على حد سواء  "إنها ثورة الجسد التي تعكس التحوله  الغير عادي ، وتؤكد على حالة بشرية جديدة تعد  تعبيرا عن مشروع الغرب للحياة المريحة " 27 (Lipovetsky, 2015, p. 81)، فهو عصر يمل إلى الرسوخ والتجذر في المندثر، والالتفافحول أبنية العدمية المنبعثة من وطأة دين الأزمة.

3.                      لاهوت الجمال بين الدلالة والمآل   

قبل الولوج إلى تحديد وتعين لاهوت* الجمال كما يقدمه ليبوفتسكي، يتعين علينا الوقوف عند تحديد  مصطلح الجمال، فيظهر أن مقولة الجمال من المفاهيم الفلسفية القلقة التي يصعب تحديدها ، على الرغم من أنها تبدو عند البعض بديهية، ذلك لأنها مصطلح متداول بكثرة،  يستخدم في السياقات التي ننعت بها مشاعرنا اتجاهشئ ما، في الحياة اليومية28 (روجر، 2014)، ويحدد لالاند  مصطلح الجمال Le beau بأنه احد المفاهيم المعيارية التي تنطلق منها الفلسفة، حيث يشير كانط إلى أن الجمال هو ما يبهج كل الناس بلا تجريد، أي أنه شئ يحس به الإنسان واقعيا، كما يمكن أخذهبمعنى إدخال السرور، فيكون الشئ  جميلا كل ما يكون بلا تجريد وإرضاءللعقل والروح29 (لالاند، 2001).

إن تعلق الإنسان بالجمال قديم قدم الإنسانية ، ذلك انه أحس بجمال الزهرة قبل رؤيتها في لوحة فنية أو تشكيل فني ومن ثمة هناك نوعان من الجمال : جمال طبيعي وجمال فني30(زيادة، 1986)، وتصف المدرسة الحسية الجمال بأنه ظاهرة محسوسة وأن الإنسان بالجمال عملية حسية بحتة لا تتجاوز رصد سمات الحية، وعلى العكس من ذلك تؤكد المدرسة الاجتماعيةبأن الجمال حصيلة للمجتمع وليس للأفراد وهو ما يعيشه الغرب اليوم من خلال الحتمية الجمالية التي يحاول المجتمع ان يفرضها من خلال تقديس الجسد31، (زيادة، 1986)، لذلك فإن المبدئ  الذي ينطلق منه ليبوفتسكي في دمجه لشعائر المعاصرة للجمال بأصولية الجديدة التي يعتنقها الغرب اليوم هو تقديس الجسد الذي كان منبوذا عند علماء اللاهوت في القرون الوسطى.

فضلا عن ذلك هوس الجمال النسائي المعاصر الذي يعد إستمرارا للدين ولكن بواسائل أخرى. وبيان هذا أن لاهوت الجمال جمع بين هوس النحافة كإمتداد لقيم نسكية  موروثة، حيث وجد من أشكال الحمية التعسفية التي تفرضها المرأة على نفسها وحتى الرجل ديمومة لممارسات التقشف لدى القدسين في العصور الوسطى32 (ليبوفتسكي، 2012)، وبين التقشف الذي كان أولى خطوات الصفاء الروحي،  الذي يعتبر اليوم أولى خطوات السعادة الجسدية، كما أضحت " النحافة لا تعبر عن الحفاظ على الجسد والشباب بالقدر الذي تترجم فيه قوة الجمال الجديدة التي تتماشى مع المثل العليا للثورة الخفة"33 (Lipovetsky, 2015, p. 81)، علاوة على هذا أصبحت طرق التنحيف نصوصا مقدسة ينتصب عليها الإنجيل الجديد الذي أعاد ابتداع شعائر تالدة في قلب الحداثة الفائقة المتطورة34 (ليبوفتسكي، 2012)، كل هذه التمظهرات تؤكد على المكانة الجديدة التي استطاع الجمال أن يشيدها في المجتمعات الغربية المعاصرة.        

وككل أشكال العبادة الدينية يقوم لاهوت الجمال على "نظام مذهبي من الدعاية والإعلان لمستحضرات التجميل ومعتقداته في البعث ومخلصوه المتمثلة في العمليات التجميلية"35 (ليبوفتسكي، 2012، صفحة 142)، التي تجعل من الإنسان يتماهى تدريجيا في أوهام بقاء الشباب والسعادة الازلية، وأبلغ دليل على وجود تحديات لاهوت الجمال وسيعه الدؤوب لتوجيه اهتمامالإنسان الغربي نحوه، هو الربط بين دوام الجمال والثقافة الفردانية من خلال " الشعور بالتألق والمتعة النرجسية وكذا الشعور بإستفادة عن الذات لأجل الذات"36(Lipovetsky, 2006, p. 51)،ولا ينتهي إلى ذلك إلا بإعتناقه للاهوت الجمال الذي كشف عن أساليبه "فهوس النحافة والرغبة المتزايدة في التطابق الجمالي هي عملية شخصنة الأفراد التي جعلت من ثقافة الفرد تحل محل قواعد الدين والموروث"37(ليبوفتسكي، 2012، صفحة 144).

ودعما لهذا المنطق ومع طفرة الجمال لن يكون هناك بغض للجسد وإنما اتساعلمثل وقيم جديدة لأجل امتلاكالذات ومثل مؤسسة لثقافة الجمال. ومن جملة ما اهتدىإليه ليبوفتسكي أن تقديس الجمال لا يعرب عن عادات طفولية وتنويم مغناطيسي جماعي، بالقدر ما يُعرب فيه عن إرادة ملحة للإنسان المعاصر حتى يكون فاعلا في علاقته بجسده38 (ليبوفتسكي، 2012)، فالممارسات الدينية القائمة على الزهد في العديد من الأديان تهدف في المقام الأول إلى كمال الروح، على خلاف ما يرمي إليه لاهوت الجمال في تشديده على الكمال الجسدي فهو يحاكي سيادة التقنية  " التي لا تأخذ في الحسبان إلا الأدوات، مهملة الغايات، كما أنها تسخر لتحقيق هدف معين " 39 (فري، 2011، صفحة 223)، والهدف الحداثة الفائقة ولاهوت الجمال في التوسل بها واضح، هو هيمنة منطق تسيد الجسد فحلت فاعلية الجسد محل النفي الميتافزيقي له40 (ليبوفتسكي، 2012).

يتأتى هذا الحكم  عندما يحل الجسد المتشكل محل الجسد المستلم من الطبيعة، فبقاء الإنسان في أعلى مراتب الجمال يوحي بالفكر الرافض للمصير والمناهض للغلو في العقلنة الباعثة للتفاؤل اللانهائي في قدرات الذات، فكما أن العلم التقني يوظف لامتلاك الأرض، يُوجه لاهوت الجمال لامتلاك المظهر الجسدي "فيميل الجسد إلى أن يصبح شيئا مستحقا وفقا للعمل الدءوب للذات على نفسها"41 (ليبوفتسكي، 2012، صفحة 143)، هي عبادة رافضة للقدرية، دافعة للمغالاة في  قوة امتلاك العالم والذات. وعليه تمكن لاهوت الجمال من الساهمة في تثبيت نقص وزعزعة ثقة اللإنسان بنفسه وإثارة الخوف من رغبات جسده، فبدل أن يفضي إلى السعادة المنشودة، أفضى إلى الخوف والولوج في السعادة المتناقضة.

4.                      تهجين الفن والموضى

لئن كان ليبوفتسكي قد أقر بأن طغيان الجمال في أوساط الحداثة الفائقة، فإنه ارتأى بأن يورد ظاهرة تهجين الفن والموضى كمسلمة من المسلمات التي يستند عليها لاهوت الجمال في تثبيت ركائزه، ذلك أن الفن من وجهة نظره هو نسق لابد من وصله بالموضى ومتطلباتها الراهنة من دعاية وإعلام في الحداثة الفائقة ، وهذا ما أدى إلى ولادة نظام فني جديد يتزامن مع محو الاستثناءاتالقديمة، وإزالة المعالم والمثل الكلاسكية42 (Lipovetsky, 2015)، إذن الفنون التي تتعدها الحداثة الفائقة اليوم والتي يعمل بها في المجتمعات الغربية الراهنة، هي ما يتم إبداعهامع النوايا الاستهلاكية،  أينكان الفن هو إطلاق العنان لمشاعر الإنسان وجعلها محور اهتمامه"فأضحى الفن هو ذلك المشروع الذي يعلن من خلاله الفرد عن نفسه للعالم"43(روجر، 2014، صفحة 123).

كل هذا يبين ما مدى أهمية ومكانة الفن في حياة الإنسان، وهو ما يؤكدهأيضا ليبوفتسكي الذي يقول بتداخل الفن ووجوده في مختلف مجالات الحياة، ذلك أنه ليس له وجود منفصل لأنه تحصيل للحياة كلها من دين وأعمال وعلاقات، فهو ضرورة لنجاح مختلف العمليات الفردية والاجتماعية44 (Lipovtsky, 2013).

ولكن سرعان ما ارتدت التصورات والمعاني بقدوم الحداثة الفائقة فتحولت وظيفة الفن، وأضحت أكثر ارتباط بالموضة والإعلام والدعاية، فلا سبيل للإبداع والفن إلا في حدود متطلبات الموضة التي تعد وجه من أوجه الاستهلاك العام، ذلك أن الحداثة الفائقة عمدت على تثبيت مقولة الاستهلاك، حتى أضحى الإنسان المستهلك يعد نفسه في المرحلة القصوى من تطور الإنسان العاقل، فإذا استوفى هذا الشرط أصبح يحسب النموذجالأعلى للحرية، والكينونة العظمى لأن الاستهلاك هو كل شئ معطى من مصدر ذو إغراء 45(باسكال، 2006)، ويشير ليبوفتسكي في هذا الصدد، إلى أنه لا يمكن الفصل اليوم بين النجاح الفني وبين أي عمل من أعمال الترويج الإعلامي والتواصل مع الصورة، ذلك أن المهم في السوق المعولم والفائق، هو الحصول على الشهرة وجذب الانتباه عن طريق الأعمال المغرية التي تستهدف وعي العقل.

لمّا اشتدت هيمنة الموضة واتسع مجالها ونفذت إلى مالا يجب النفاذ إليه، اقتحمت عالم الفن وضاقت رقعة الإبداع الفني بتأثيرها الواسع " فأصبح مصمم الأزياء فنانا حديثا يحكمه قانون الابتكار لا الإبداع"46، (ليبوفتسكي، 2017، صفحة 93)، يلزم إذن أن الانفصال عن الماضي واضح وبارز، فإعلاء من شأن الموضة ونرجسية الذات والانسياقوراء المتع، جعل من الفن خادما للموضة لأجل إبداء نبلها وإضمار طيشها ورعونتها، وهو المقصد من وراء تهجين الفن والموضى.

مع الحداثة الفائقة برز الفن كعالم منفصل ومتعارض جذريا، عالم يرجع لأحكام الإعلام التجاري والإعلان والموضى، حيث تم بناءه مع حدود واضحة المعالم مع المجالات الاجتماعية، على العكس من الوضع الذي كان سائدا فيما مضى من الأزمنة حيث كان الفن يستبعد الدوافع المالية، ومن ثمة " أضحى الفن والموضى كعوالم ذات جوهر متنافر مع أهداف غير متجانسة فيتم الانتهاء من صناعات الموضى من خلال أهداف البيع والربح بينما يتم التحكم في الفن بروح تجارية " 46 (Lipovetsky, 2015, p. 219).

فيتبين إذن أن الموضى في المجتمعات المعاصرة تطلب الفن لأجل التنصل من السطحية التي تعتريها لأنها غير مجدية تمتاز بالإغراء على النقيض من ذلك، نجد الفن على جانب من الجدية من العمق في المعنى والسمو الروحي.

خاتمة 

 

صفوة القول في هذا المقام،  أن المقدس الجديد الذي تعمد وتتجه المجتمعات الغربية الراهنة على تبنيه والولوج فيه هو المآل من جملة المآلات التي اكتسبتهاالحضارة الغربية نتيجة إعلان الحداثة عن موت الإله، كتعبير عن أفول الدين و إلغاءجل التصورات الميتافيزيقية، حيث وصلت إلى حقيقة أن الدين هو وعي زائف لابد من تجاوزه، والمضي في بناء مجتمع لا يخضع إلا لما يمليه عليه سلطة العقل،  وهو ما تبعه من إحداث قطيعة تامة مع كافة الأفكار التي تتجاوز الفهم العقلي  خلال فترة ما بعد الحداثة، وأضحت الذاتية هي المقولة الجوهرية التي تتأسس عليها روح ما بعد الحداثة، وصولا إلى تأسيس لاهوت الجمال القائم على  تقديس الجسد وعبادة الملذات.

إن لاهوت الجمال الذي عمد جيل ليبوفتسكي على ضبط دلالاته وتحديد تمظهراته هو:

لاهوت تغيب فيه روح الدين، فلا ينتصب إلا بقطع الصلة مع المبدأ الروحي وتثبيت المبادئ المادية وهو توجه له ما يبرره إذا رجعنا للسياق التاريخي الذي تأسست على إثره المجتمعات الغربية الراهنة، إنه لاهوت لا يعبر إلاّ عن عملية التحول الجذري من الديني إلى الدنيوي، عملية التحول الثقافي الذي تشهده الحضارة الغربية المعاصرة، والتحرر الطاغي للجمال الأنثوي. وعلى هذا الأساس فإن لاهوت الجمال يقول بمبادئ الحداثة الفائقة، كما يقضي بأن يكون تأليه الجمال وطاعة الجسد مقصد وقيمة لابد على الإنسان تبنيها، وقد أحاطت بظهور هذا اللاهوت ظروف سبق وأن حددناها، فكانت الحداثة التي قامت على مبدأ التعارض بين العقل والدين مسوغًا رئيسيا في تثبيته اليوم.

إن لاهوت الجمال ينضوي ضمن سبل تنفيذ الإرادي للإنسان الحديث، الذي يتسم برفض الرضوخ لحقائق الطبيعة، ذلك أن الجمال الذي كان فيما مضى معطى طبيعي، يمنح لعدد من البشر أضحى اليوم معطى اصطناعي وامتلاكا ذاتي يتمكن الإنسان من الحصول عليه بكل سهولة، وعليه أصبحت مسألة إعادة خلق ذات جميلة وجسد أجمل مسألة متاحة تعبر عن نكران ورفض القدرية.

إن لاهوت الجمال يتعزز ويثبت دعائمه من خلال وسائل الإعلامالتي تعد المصدر الرئيس لأفكار تغير المظهر والإعلاء من شأن الجسد وتنزيه الإغواء، ما جعل الإنسان في حالة من الهوس لتقليد كل ما تراه عينه .

     وعليه يقر ليبوفتسكي بأن الحضارة الغربية الراهنة تشهد عملية مكثفة لترشيد الجسد، فتعمد على إلغاء الوعي والإرادة لصالح الإنقياد التام للجسد، ذلك أن مرامي الجسد تتأكد بتأليه الجمال كآلية وإلزامية للتحكم الذاتي فتُسير الإرادة والوعي الفردي. إن الجمال الذي ذهب الغرب إلى تأليهه هو سلطة زائلة لأن مآلها الحتمي هو الفناء، وسلطة بلا جدارة لأنه هبة من الطبيعة.

  أخيرا يؤكد ليبوفتسكي بأن برومثيوس ونرسيس لم يعدا رمزانلمصائر فردية بالقدر الذي أصبحا يعبران فيه عن روح عصر بأكمله، عصر الحداثة الفائقة الأزمة التي كانت حتمية ونتيجة للدغة الأنوار

الهوامش

* جيل ليبوفتسكي:فيلسوف فرنسي معاصر، ولد في مدينة مايوه عام 1944، درس الفلسفة في جامعة السوربون ويقوم حاليا بتدريس الفلسفة في جامعة غرونوبل في فرنسا، إرتبط إسمه بدراسات وأبحاث عدة كما إشتهر بمصطلحات مابعد الحداثة والفردانية المفرطة تأكدت شهرته مفكرا وفيلسوفا مع ظهور كتابه الأول زمن العدم عام 1983 ويناقش هوس الإستهلاك في المجتمعات الحديثة. (ليبوفتسكي، جيل.  2017، مملكة الموضة زوال متجدد: الموضة ومصيرها في المجتمعات الغربية، ترجمة: مندور، دينا، المركز القومي للترجمة، القاهرة.)

*الحداثة: جملة التغيرات التي تستهدف الأسس للذهاب نحو الجديد، وهي النهوض بأسباب العقل والتقدم والتحرر التي شملت التغيرات الحاصلة خلال القرن 20 حملت معها وجهة نظر الإنسان الجديد الذي يرتكن إلى حياة التقنية ومزايا الآلة تولد رؤية جديدة للعالم، يبدو فيها متكاملا والإنسان المسيطر عليه.

*الفردانية: وتعنيالجزء الذي لايتجزأ وهي نزعة أو سلوك يؤكد على الخصائص الذاتية للفرد وعلى سماته ومميزاته الخاصة وذلك بما يتعارض مع ماهو جمعي، كما ترمز إلى العالم الذي يمتلك فيه الإنسان نفسه ويسيطر على وجوده بحرية مؤكدة وعلى نحو لم يعهد في المجتمعات التقليدية القديمة. كما تشير الفردانية إلى النظرة التي تؤكد على القيمة المعنوية للفرد، وتعبر عن الدفاع عن مصالحه فوق أي إعتبار وهي نوع من المركزية الذاتية، وتتطور الفردانية لتتحول إلى نرجسية، لذلك يصح القول بوجود فردانية نرجسية.

*البيوتيقا La bioéthique: هيأخلاقيات علم الأحياء أخلاق الطب الحيوي وهي متعددة التخصصات فرغم كل ما قام به الباحثون إلا أنه يشمل دائما مجلات متعددة مثل الصحة وعلوم البشرية وهو ما تناوله المؤتمر العام لليونسكو حيث تحدث عن المسائل الأخلاقية المتعلقة بالطب والعلوم الحياة ونطاق التقنيات المرتبطة بها على البشر.

*إدغار موران:فيلسوف وعالم إجتماع فرنسي ولد عام 1924، لمع إسمه عام 1951 عندما نشر كتاب الإنسان والموت الذي كان ثمرة لقاء الماركسية والفينومينولوجيا، أخضع موران العلم للمساءلة المنهجية فأصدر تحت عنوان المنهج أربع مجلدات متتالية: طبيعة الطبيعة، حياة الحياة، معرفة المعرفة، الأفكار. (ينظر: طرابيشي،جورج.  2006، معجم الفلاسفة، دار الطليعة، بيروت ص 645 ،646).

*فردريك نيتشه: فيلسوف ألماني يعتبر أول من درس الأخلاق دراسة تارخية مفصلة، ولد في عام 1844 م، إشتهر بنزعة النقدية المحطمة للأسس الكبرى، ألف العديد من الكتب من أشهرها ماوراء الخير والشر، أفول الأصنام، هكذا تكلم زرادشت ... توفي في عام 1900 م.

*الجسد Le corps: هو جوهر ممتد فهو ليس جسم مادي أو بيولوجي فقط بل هو جزء من الشخصية والإنية.

*اللاهوتThéologie: هو علم دراسة الإلهيات دراسة منطقية، وقد اعتمد علماء اللاهوتالمسيحين على التحليل العقلاني لفهم الدين المسيحي، لكي يقارنوا بينه وبين الاديان الأخرى، وللدفاع عنها في مواجهة النقد، ولتسهيل الإصلاح المسيحي.

مراجع المقال

1.     Gille, Lipovetsky, et Jean,Serroy, L’esthétisation du monde : vivre à l’age du capitalisme artiste, Gallimard, 2013.

2.    Gilles, lipovetsky, Le bonheur paradoal, Essai sur la société d’hyperconsommation, éditions Gallimard, paris, 2006.

3.       Gilles, Lipovetsky, Le luxe éternel, De l’age du sacré au temps des marques, éditions Gallimard, paris, 2003.

4.    Gilles lipovetsky, L’ère du vide, Essai sur l’individualisme contemporain, éditions Gallimard, paris, 1983.

5.     Gilles, Lipovetsky, De la légèreté, vers une civilisation de léger, éditions Grsset et Fasquelle, permière édition, France, 2015.

6.  باسكال، بروكنر. 2006، بؤس الرفاهية: ديانة السوق وأعداؤها، ترجمة: ولد أباه، السيد، العيبكان، الرياض.

7.   باومان، زيغمونت. 2016، الاخلاق في عصر الحداثة السائلة، ترجمة: البازغي، سعد، وبثينة، إبراهيم، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، أبو ظبي.

8.  تورين، آلان. 1998، نقدالحدثة، ترجمة: مغيث، أنور، المشروع القومي للترجمة، لبنان.

9.   رابح، الصادق. 2009،"ضريبة السعادة: الإشهار وتوثين الجسد". مجلة عالم الفكر، المجلد 37، العدد 4 (ص169، 207).

10. روجر،سكروتون.  2014، الجمال، ترجمة: مصطفى، بدر الدين، المركز القومي للترجمة، القاهرة.

11.                        روس، جاكلين.  2011، مغامرة العقل الأوروبي: قصة الأفكار الغربية، ترجمة: ديوي، أمل، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، أبو ظبي.

12. روس،جاكلين. 2001، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة: العوا، عادل، عويدات للنشر والطباعة، بيروت.

13.زيادة، معن. 1986، الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الإنماء العربي، بيروت.

14. شوقي الزين، محمد.  2005، الثقاف في الأزمنة العجاف: فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب، منشورات الضفاف، بيروت.

15.عباس، فيصل.  2008،الإغتراب: الإنسان المعاصر وشقاء الوعي، المنهل، بيروت.

16.عبد الرحمان، طه. 2004، بؤس الدهرانية: النقد الإئتماني لفصل الأخلاق عن الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.

17.عبد الرحمان، طه.   2006، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، المغرب.

18. فري،لوك .2011، تعلم الحياة: سأروي لك تاريخ الفلسفة، ترجمة: الولي، سعيد، كلمة، ابوظبي.

19.فيري، لوك..  2002، الإنسان المؤله أومعنى الحياة، ترجمة: هشام، محمد، إفريقيا الشرق المغرب.

20.لالاند، أندري.  2001، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة: خليل، أحمد خليل، منشورات عويدت، بيروت.

21.موران،إدغار. 2002، هل نسير إلى الهاوية، ترجمة: حزل، عبد الرحيم، إفريقيا الشرق، المغرب.

@pour_citer_ce_document

نسيمة ضيافات, «دين الأزمة .... لاهوت الجمال عند جيل ليبوفتسكي»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 183-191,
Date Publication Sur Papier : 2021-03-08,
Date Pulication Electronique : 2021-03-08,
mis a jour le : 08/03/2021,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7973.