الأبعاد الحجاجيّة للصّورة التّمثيليّة في الحديث النّبوي الشّريفthe argumentative dimensions of the comparative figure in the Hadith
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 vol 18-2021

الأبعاد الحجاجيّة للصّورة التّمثيليّة في الحديث النّبوي الشّريف

the argumentative dimensions of the comparative figure in the Hadith
ص ص 256-269
تاريخ الإرسال: 2020-03-16 تاريخ القبول: 2021-05-18

فايزة بوراس
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يعالج هذا المقال موضوع الأبعاد الحجاجيّة للصّورة التّمثيليّة في الحديث النّبوي الشّريف، الذي يُعدُّمصدرا من مصادر التّشريع، ومنهجا قويما هدفه الأساسُ هو التّغيير والإصلاح، ممّا يستدعي توظيف الأدواتالحجاجيّة، لاسيما البلاغيّة البيانيّة، من قبيل الصُّور كالتّشبيه والاستعارة والكناية، والتي من شأنها أن تحمل المخاطَب على الاقتناع، لما تدّخِرُه من طاقات حجاجيّة هائلة. وقد تعدّدت صورُ البيانِ في حديثه صلّى الله عليه وسلّم بتعدُّد المواقِف التّخاطُبيّة، ولسنا نقف في هذا المقام على لُغَةٍ أو بيانٍ عاديَّيْن، وإنّما هي لُغَةٌ مستحكمة مُحاطةبأسرار الإجادة والاستيفاء، كانت الصّورة التّشبيهيّة التّمثيليّة فيها من أنجع السُّبُل الإقناعيّة بتجاوزها زُخرُف القول إلى حُجِّيّتِه، فالحديث النّبوي مُرتبط بغايات خطابيّة هي الإقناع، وأخرى دعويّة أسمى هي التّبليغ.

الكلمات المفاتيح: الحجاج، الصّورة، التّمثيل، الخطاب النّبوي، الإقناع

Cet article traite le thème du potentiel argumentatif de la figure de comparaison dans le Hadith, lequel est considéré tant comme source de législation que comme procédé dont le principal objectif est la réforme. Cela requérait l'emploi de mécanismes argumentatifs, notamment rhétoriques telles que la comparaison, la métaphore et la métonymie pour convaincre le destinataire de par leur force argumentative. Les figures de style foisonnent dans le Hadith en raison de la multiplicité des postures conversationnelles.

Nous ne sommes donc pas en présence d’un langage ou d’un style ordinaires mais d’une langue performante visant la compétence communicative et son exhaustivité.  Aussi, la comparaison est le procédé persuasif le plus efficace en cela qu’il dépasse les fioritures du langage pour sa force de conviction. Le Hadith prophétique est lié à des fins discursives dont la persuasion et d'autres missions bien suprêmes dont l’information.

Mots-clés :L’argumentation, La figure, La comparaison, Discours prophétique, La persuasion

This article discusses the theme of the argumentative dimensions of the comparative figure in the Hadith, which is considered a source of legislation and a well-organized method whose main objective is change and reform. It requires the use of argumentative mechanisms, including rhetoric such as comparison, metaphor and metonymy which can convince the recipient because they contain enormous argumentative energies. So, there were many figures of style in the Prophet’s Hadith due to the multiplicity of conversational positions. Hence, we are not in front of an ordinary language or figure of style but a strong language surrounding the secretes of competence and comprehensiveness, the comparison of which is one of the most effective persuasive procedures where it has gone a adorned speech to his argument. The prophetic Hadith is related to discursive purposes like persuasion and other very supreme missionaries which is notification.

Keywords: Arguments, Picture, Image, Acting, Prophetic speech, Persuasion

Quelques mots à propos de :  فايزة بوراس

جامعة محمّد لمين دبّاغين سطيف2، fbouras92@yahoo.com

مقدمة

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وبعد:

تتّضح أهمّية هذا العمل من موضوعه الموسوم بـ: الأبعاد الحجاجيّة للصّورة التّمثيليّة في الحديث النّبوي الشّريف، فالبلاغة النّبويّة تستدعي البحث والتّنقيبعن كنوزها اللّغويّة والفكرية والبلاغيّة، ولا عجَب، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان أفصح العرب، أوتي جوامع الكلِم وتجلى ذلك فيالعربيّة بخصائصها وأسرارها،وقد كان أثر هذه البلاغة الغرّة واضحا على سائر كلام البشر، تماما كما كان أثر الأسلوب القرآنيّ والتّأييد الرّبانيّ واضحا على البلاغة المحمّديّة، التي مدّت فُروعها في الآفاق، وثبت أصلُها، وعلا شأنُها،فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد خاطب في الأمة العقل والوجدان، فبلغ في النّفوس مبلغا لم يبلُغه أحدٌ من أرباب البلاغة، وذلك لأسباب واعتبارات اجتمعت فيه وتفرّقت في غيره، "أمّا اللّغة فهي لغة الواضع بالفطرة القويّة المستحكمة، والمنصرف معها بالإحاطة والاستيعاب، وأمّا البيان فبيان أفصح النّاس نشأة، وأقواهم مذهبا، وأبلغهم من الذّكاء والإلهاء، وأمّا الحكمة فهي حكمة النّبوّة، وتبصير الوحي، وتأديب الله، وأمر في الإنسان من فوق الإنسانيّة"(الرافعي، د س ن، ص: 357) فهو المؤيّد بالحجّة الرّاسخة المحفوظة.

إنّ الأسلوب النّبويّ علا شأنه قد أتى مليئا بشتّى الصّور البلاغيّة التي تجاوزت زُخْرُف القول إلى وظائف تداوليّة يفرضها السّياق التّواصُلي، فقد وظّف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الصّورة بشكل مُتميّز يجعلُ منها آليّة من آليّات الإقناع، ووسيلة من وسائل الإيضاح، لتقريب المعاني من الأفهام. وكان بذلك التّشبيه أحد أبرز هذه الوسائل وأجداها.

لقد كان حضور الصّور التّشبيهيّة في الحديث النّبويّ قويّا تماما مثلما كان له ذات الحضور في استعمالات العرب، وفي القرآن الكريم، حيث كان للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ نوّع مشارب التّمثيل في أحاديثه بما له من حكمة وإحاطة باللّغة، فاستمدَّ من المُستأنسِ المألوف جُلَّ تمثيلاتِه، وكان للبيئة العربيّة الحضور الأوفر في عقد الصِّلات بين طرفي التّشبيه أو الصّورة عموما، لما في ذلك من خدمة للمعاني التي يسعى إلى ترسيخها وتثبيتها.

كان  صلّى الله عليه وسلّم يُؤثِر التّعبير عن المجرّد بالصّور الحسّيّة، المُسْتَمدّة من واقع مُخاطبيه، وقد وافق نحوُهُ الوضوحَ جمالَ التّصوير والإيحاء، كما اعتمد صلّى الله عليه وسلّم على الصّور البيانيّة ذات البعد الاستدلالي الحجاجي، الذي يدفع إلى استنطاق كوامنها، واكتشاف المُضمر غير المُصرّح به في ظاهر الخطاب، ممّا ساهم في مدِّ جسور التّواصل بينه وبين أمّته فكيف بإمكان الباحث في هذا الإرث النّبوي أن يستدلّ إجرائيّا على أن للتّمثيل في الحديث النّبويّ أبعادا حجاجيّة من شأنها أن تمهّد سُبل الإقناع؟ كيف استطاع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من خلال الصّورة التّمثيليّة توجيه السّامع نحو المعاني المقصودة لضمان اقتناعه؟

إنّ الحجاج في اللّغة مأخوذ من المادّة اللّغويّة (حجج) والتي تعني الدّليل والبرهان، يقول ابن منظور: "حاججته وأحاجُّه حجاجاً ومحاجَّةً حتّى حَججْتُه أي غلبْتُه بالحُججِ التي أدْليْتُ بها.. وجمع الحُجّةِ: حُجج وحِجاج. وحاجَّه محاجّة وحجاجاً: نازعه الحُجَّة ...واحتجَّ بالشَّيء: اتَّخَذَه حُجَّةً... والحُجَّة الدليلُ والبرهان" (ابن منظور، ص: 779)

أمّا في الاصطلاح فيُعرف الحجاج بأنّه "فعاليّة تداوليّة، فهو تداوليّ لأنّ طابعه الفكريّ مقاميّ واجتماعيّ، وهو أيضا جدليّ لأنّ هدفه إقناعيّ قائم بلوغه على التزام صور استدلاليّة أوسع وأغنى من البنى البرهانيّة الضّيّقة، إذْ تُبنى الانتقالات فيه على صور مُجتمعة على مضامينها أيُّما اجتماع، وأن يُطْوى في هذه الانتقالات الكثير من المقدّمات والكثير من النّتائج.."(طه عبد الرحمن، 2000، ص65)، فهو بذلك قائم على المواجهة الخطابيّة، البعيدة عن العنف والإكراه، بوصفه منطوقا موجّها للغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحقّ له الاعتراض عليها..." (طه عبد الرّحمن،  1997، ص: 226)

يُعَدُّالخطاب النّبوي خطابا حجاجيّا هَدَفَ النّبي صلّى الله عليه وسلّم من خلاله إلى تغيير جملة من المعتقدات الفاسدة التي سادت آن بعثته صلّى الله عليه وسلّم، وقد عمل على وصل الأدواتالمنتقاة بما يألفه المخاطَب، سواء كان ذلك من جانب اللّغة في ألفاظهاوتركيبها، أم في جانب الصّورة ونسجها، وقد ذكر الحصريّ (453ه) قولا جميلا في حديثه عن بيانه ومنطقه صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: "هو النّهاية في البيان، والغاية في البرهان، المشتمل على جوامع الكلم، وبدائع الحِكم.. وليس بعض كلامه بأولى من بعض بالاختيار ولا أحقّ بالتّقديم والإيثار" (الحصري أبو إسحاق إبراهيم بن علي القيرواني، 2001، ص51)، وإنّ ذلك للائق بمقامه الكريم الذي جعله الله بحكمته خاتم الأنبياء، ومتمّمّ رسالات ربّه، وقد جاء في الأثر وصف له ولحال الأنبياء قبله فيما رواه أبو هُريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثَلي ومثَلُ الأنبِياء من قبلي كمثلِ رَجلٍ بنى بُنْيانًا فأحْسَنَه وأجْمَلَهُ إلاَّ موضِعَ لبِنَةٍ من زاوِيَةٍ من زواياه فجعَلَ النّاسُ يَطوفونَ به ويَعْجَبون له ويقولونَ هلاَّ وُضِعَتْ هذه اللَّبِنَة قال:  فأَنا اللَّبِنَة وأنا خاتَمُ النّبِيِّين»(الشّنقيطي محمّد حبيب الله، ج2/ ص397).

ولأنّ المقام لا يسع للبسط في سوق كلّ ما أُثر عن النّبيّ من الأحاديث المشتملة على الصّور التّمثيليّة، ننتقي فيما يأتي بعض النّماذج قصد تحليلها وسبر أغوارها.

  1. مفهوم الصّورة وأهمّيّتها

يعدّ القول المجازيّ أهمّ ما يُميّز الكلام العربي، لا سيما ما يتعلّق بالصّور البيانيّة التي تعطي المعاني حُللا جديدة تفتَحُ آفاق التّلقّي والتّأويل وتضمن للخطابات التّمكين. فما مفهوم الصّورة؟ وما أهمّيّتها في الأدب والنّقد؟

أوّلا: الصّورة في الدّلالة اللّغويّة

مشتقّة من الفعل (صوّر)، بمعنى: "جعل للشيء صورا مجسّمة، والصّورة التّمثال، وجمعها صُورٌ، مثل: غُرف، وتصوّرت الشّيء مثّلتُ صورته، وشكّلته في الذّهن فتصوَّر، وقد تُطلق الصّورة ويراد بها الصّفة، كقولهم صورة الأمر كذا أي: صفته"(أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيّومي، ص: 173)

يقول ابن منظور في شرحها: "في أسماء الله تعالى: المصوِّر: وهو الذي صوّر جميع الموجودات ورتّبها، فأعطى كلّ شيء منها صورة خاصّة وهيئة مفردة يتميّز بها، على اختلافها وكثرتها"(لسان العرب، ص: 2523)

وقد أتى عن الرّاغب الأصفهاني (ت 502ه) في تعريفها: "الصّورة ما يُنتقشُ به الأعيان ويتميّزُ بها غيرها، وذلك ضربان: أحدُهما محسوس يُدرِكه الخاصّة والعامّة، بل يُدرِكه الإنسانُ وكثير من الحيوان، كصورة الإنسان.. بالمعاينة، والثّاني معقولٌ يُدرِكه الخاصَّة دون العامّة، كالصّورة التي اختصّ الإنسان من العقل، والرّويّة، والمعاني التي خُصّ بها شيء بشيء" (أبو القاسم الحسين بن محمّد الرّغب الأصفهاني، دس ن، ص: 289).

ويقول الزّبيدي: "الصّورة، بالضّمّ: الشّكلُ، والهيئة والحقيقة والصّفة" وَنَقَلَأنّ الصّورة هي ما يتميّز بها الإنسان عن غيره، "وذلك ضربان: ضرب محسوس يُدركه الخاصّة والعامّة.. والثّاني: معقول يُدركه الخاصّة دون العامّة، كالصّورة التي اختصّ الإنسان من العقل والرّويّة والمعاني التي مُيّز بها" (محمّد مرتضى الحسيني الزّبيدي، 1973م، ص: 357-359).

وقد وردت في الحديث الشّريف ألفاظ من هذا الجذر اللّغوي (صور) من قبيل (فنسنك ولفيف، 1955م، ص: 338-340): الصّورة، المصوّرون، التّصاوير، الصّور وغيرها، ومن بين هذه الأحاديث ما رواه سهل بن سعد الأنصاري عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: "ليدخُلنّ من أمّتي سبعون ألفا –أو سبعمائة ألف- لا يدخل أوّلهم حتّى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر" (البخاري، الصّحيح، تح: مصطفى البغا، ج: 3/ ص: 1186).

ثانيا: الصّورة في اصطلاح الأدباء والنّقّاد

يختلف حدّها الاصطلاحي تبعا للرّؤية الفنّيّة والعصر، والاتّجاهات والمدارس، وما يطرأ على المفاهيم النّقديّة من تغيّرات، وكذلك من اضطراب المنهج والنّهل من الثّقافات الغربيّة لاسيما فيما يتعلّق بدراسة أنماطها وخصائصها "فبعض الدّارسين يتجاوز الزّمان ليقصر جمال الصّورة على معطيات البيان العربي القديم، وبعضهم يتجاوز الزّمان ليقصر جمالها على الثّقافة الغربيّة الرّمزيّة والنّفسيّة والبلاغيّة، وبعضهم يجمع بين هذين الرّصيدين في لقاح ليتشكّل وليد تامّ الخلق أو مُشوّه الخلق منفّر القسمات"(أحمد ياسوف،  2006م، ص:89)

وتبعا للمعنى اللّغوي فقد نعدّالصّورة طريقة تقديم الفكرة الكلّيّة في قالب شعريّ جماليّ، يعيد تركيب الموجودات بطريقة تجعل من المعاني أنفذ إلى عوالم النّفس، وأكثر تأثيرا وقبولا، يقول أحمد الشّايب: "إنّ الصّورة لها معنيان: أحدهما ما يقابل المادّة الأدبيّة، ويظهر في الخيال والعبارة، والثّاني ما يُقابل الأسلوب ويتحقّق بالوحدة، وهي تقوم على الكمال والتّأليف والتّناسب، أمّا الأسلوب فمقاييسه العامّة ثلاثة: الوضوح والقوّة والجمال، وهذه المقاييس أو الصّفات تتأثّر بأمرين؛ الموضوع والأديب."(أحمد الشّايب، ص: 259،  ويُنظر أيضا: ص: 242-251)، فمن خلال العلاقات اللّغويّة والصّور البيانيّة وجملة انتقاءات الأديب يبرُز الجمال الفنيّ للصّورة، أمّا عن تأثّر الصّورة بالأديب والموضوع، فإنّ ذلك مرهون بمدى أهمّيّة الموضوع وعمقه، وبشخصيّة الأديب المبدعة الفريدة التي تجعلُه يحوز مقاييس الوضوح والقوّة والجمال،وإنّ ذلك لجليّ في الحديث النّبويّ والذي أحيط فيه النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالرّعاية الرّبانيّة، وأوتي فيه أسرار البلاغة، ليبلّغ موضوعا رفيعا يتّصل بغايات دينيّة سامية، تقتفي مآرب التّأثير والإقناع لاسيما من خلال الصّورة التي على الرّغم من عدم اتّصافها بالتّعليل المنطقي، فإنّها تمتلك القدرة على التّأثير المُقنع إن لم تكن وهما(إحسان عبّاس، 1955، ص: 231).

ارتبطت دراسة الصّورة وأنماطها عند الغربيّين بالدّلالات المتعدّدة للمصطلح، وتأثّرت بمختلف المناهج في تطبيقها لهذه الدّلالات لاسيما المنهج النّفسي، والمنهج الرّمزي، والمنهج البلاغيّ، وقد "كانت الطّريقة الإحصائيّة غالبة على هذه المناهج في دراستها للأنماط وتصنيفها عند الغربيّين"(بشرى موسى الصّالح، 1994، ص: 105)، ولا بدّ أنّ المقام لا يناسب البسط في أساسيّات هذه المناهج(للاستزادة يُنظر: نعيم اليافي، 1993، ص: 226) في دراستها للصّورة والعقبات التي اعترضتها،وما يمكن الإشارة إليه أنّ النّقد الحديث اليوم يبيّن أنّ الصّورة هي: التّركيبة اللّغويّة المحقّقة من امتزاج الشّكل بالمضمون، في سياق بيانيّ خاصّ، أو حقيقيّ موحٍ كاشف ومعبّر عن جوانب التّجربة"(بشرى الصّالح، ص:20).

ولعلّ أبرز مظهر يقترن بالصّورة هو طابعها الحسيّ وقدرتها على الانزياح والإيحاء، وقد تنبّه الأدباء والنّقّاد العرب إلى أهميّة الصّورة في نقل المجرّدات في طابع محسوس يجعلها ماثلة كأيّ مُشاهَد آخر، كما ركّزوا على ارتباطها بجانب الخيال والإبداع البعيدين عن الوهم يقول الزّملكاني (ت651ه): "الصّورة عنصر محسوس يستقيه الكاتب من خارج الموضوع الذي يعالجه، ويستخدمه بغية توضيح قصده، أو الوصول إلى شعور القارئ بواسطة الخيال"(فرانسوا مورو، 1995م، ص: 23)، فللصّورة بحمولتها الجماليّة الإيحائيّة القدرة على التّأثير في المُتلقّي، من خلال العوالم الجديدة التي تخلقها، من خلال تفتيتها للواقع المرئي وإعادة تركيب البنى، استنادا على القدرة الفذّة للأديب في ربط الظّواهر المجرّدة أو الخفية بالموجودات المعاينة، وإنّنا نجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مقامات عدّة يستعمل الصّور لنقل الغيبيّات وغيرها من المعقولات التي يصعب إدراكها، غير أنّه للصّورة في الفنّ الحديثيّ النّبوي استعمالات خاصّة، فهي مُحاطة بالوحي الذي لا سبيل فيه للوقوع في اللّاوعي أو اللّاشعور، بل إنّها محكومة بالوعي المُحكم بإبلاغيّة الصّورة وفق ما يفرضه الواقع،فمقولة الفنّ للفنّ بعيدة عن هذا الحديث النّبوي، لأنّه يندرج في مقاصد الدّين الحنيف، ويفصّل أموره ويشرحها ولا يمتزج بالجمال إلّا لغايات أبرزها إقرار الحقّ والإقناع به.

  1. التّمثيل

أوّلا: التّمثيل في الدّلالة اللّغويّة

يقول ابن فارس: "الميم والثّاء واللّام أصل صحيح يدُلّ على مناظرة الشّيء للشّيء، وهذا مِثلُ هذا، أي نظيره. والمثل والمِثال في معنى واحد، وربّما قالوا مثيلٌ كشبيه.. والمثَلُ المِثلُ أيضا كَشَبَهٍ وشبيه.." (أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريّا، 1979م، ص:296)

ثانيا: التّمثيل اصطلاحا

  1. في اصطلاح المتقدّمين

لم تتحدّد معالم التّمثيل عند المتقدّمين بشكل دقيق، فإذا ما تتبّعنا جذور تلك المرحلة المتقدّمة لا نجده فنّا قائما بذاته عند أصحابها، بدءا بالجاحظ وانتهاء بأبي هلال العسكري، وهما يضمان ابن قتيبة والمبرّد وقدامة وغيرهم.

أمّا الجاحظ فقد ثبُت أنّه يسمّي التّمثيل تشبيها والتّشبيه تمثيلا يقول في قول الله تعالى: "وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ ١٧٥وَلَوۡ شِئۡنَالَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ ١٧٦" (الأعراف175-176)، فزعموا أنّ هذا المثل لا يجوز أن يضرب بهذا المذكور في صدر هذا الكلام... فما يُشبّه حال من أُعطِيَ شيئا فلم يَقْبَلْه ـــ ولم يذكر غير ذلك- بالكلب الذي إن حملت عليه نبح وولّى ذاهبا، وإن تركته شدّ عليك ونبح.."(أبو عثمان بحر بن عمر الجاحظ،1965م، ص16)، كما يَضرِب لنا الجاحظ مثالا آخر في استعماله لمصطلحي التشبيه والمثل استخداما واحدا من غير أن يقيم فُروقا بينهما، في قوله عزّ وجلّ: "إِنَّهَا شَجَرَةٞ تَخۡرُجُ فِيٓ أَصۡلِ ٱلۡجَحِيمِ ٦٤طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّيَٰطِينِ ٦٥" (الصّافّات 64-65)، يقول الجاحظ فيها: «فقال أهل الطّعن والخلاف: كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فنتوهّمه، ولا وُصِفت لنا صورته في كتاب ناطق، أو خبر صادِق. ومخرجُ الكلام يدلّ على التّخويف بتلك الصّورة والتّفزيع منها. وعلى أنّه لو كان شيء أبلغَ في الزجر من ذلك لَذَكَره"(المرجع نفسه، ج6، ص212)، وبذلك يتّضح أنّه إنّما كان يطلق لفظ "التّمثيل" تارة و "التّشبيه" تارة أخرى على حدّ سواء.

وقد ركّز ابن قتيبة (ت 276ه) على التّشبيهات المركّبة، وأكّد على أنّ التّشبيه يقوم أصلا على إلحاق ناقص بكامل، وضعيف في الصّفة بما هو أقوى منه، وقد قدّم الكثير من التّحليلات البلاغيّة للصّورة التّشبيهيّة في الشّعر العربي تحت عنوان: "محاسن التّشبيه"(ينظر: أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري،1996م، ص: 186-197) في كتابه: "عيون الأخبار" غير أنّنا لا نلمس من خلالها التّفريق بين التّشبيه والتّمثيل.

ولا نجد أنّ المبرّد (في "الكامل" بعد أن عقد دراسة طويلة للتّشبيه قد فرّق بينه وبين التّمثيل، فقد كان شديد الوقوف على الصّور المُركّبة شأنه في ذلك شأن ابن قتيبة، غير أنّه هو الآخر استعمل كلّا من التّشبيه والتّمثيل على حدّ سواء دون تفريق، وجعل أقسام التّشبيه محصورة في: المفرط والمصيب والمقارب والبعيد.

إذا ما اقتفينا أثر التّمثيل عند ابن طباطبا (ت 322ه) وقدامة بن جعفر (ت337ه)، وغيرهم فإنّنا لا نلمس تغييرات جذريّة عمّا أتى به سابقوهم، إلاّ أننّا إذا ما رجعنا إلى أثر الرّمّاني (ت386ه) وجدنا أنّ دراسته قد شكّلت النّواة لما أتى به الجرجاني فيما بعد.

إنّ هذه الدّراسات التي لم تُعرف فيها معالم التّمثيل، كانت بالأساس مرحلة تأسيسيّة ساهمت في بلورة هذا الفن عند المتقدّمين مع عبد القاهر الجرجاني وغيره.

  1. في اصطلاح المتأخّرين

نأتي إلى عبد القاهر الجرجاني والذي يرى أنّ التشبيه على ضربين، ضربٌ جليٌّ بيّن، لا يحتاج إلى إمعان وتنقيب عن أطرافه وما يرمي إليه، وضربٌ يحتاج إلى شيء من التّأويل، يقول في بيان ذلك: «اعلم أنّ الشيئين إذا شُبِّه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضربين :أحدهما أن يكون من جهة أمر بيِّن لا يحتاج إلى تأوّل، والآخر أن يكون الشبه محصّلاً بضرب من التأوّل، فمثال الأوّل تشبيه الشّيء بالشّيء من جهة الصّورة والشّكل، نحو أن يشبه الشّيء إذا استدار بالكرة في وجه وبالحلقة في وجه آخر... فالشَّبَه في هذا كلِّه بيِّن لا يجري فيه التّأوّل، ولا يفتقر إليه في تحصيله، وأيّ تأول يجري في مشابهة الخد للورد في الحمرة، وأنت تراها ها هنا كما تراها هناك؟ وكذلك تعلم الشجاعة في الأسد كما تعلمها في الرّجل... ومثال الثاني هو الشبه الذي يحصل بضرب من التّأوّل...»(عبد القاهر بن عبد الرّحمن بن محمّد الجرجاني، د س ن، ص90- 92)، فالجرجاني يُشير إلى التّشبيه الصّريح والتّشبيه التمثيلي، ويبيّن أنّ هذا الأخير يحتاج لنوع من التأوّل والتّنقيب عن المعنى قصد سبر أغواره،ثُمّ إنّ هذا التّأويل تتعدّد مشارِبُه وتتفاوت درجاته بين ما يَسْهُل الظّفر به وما يحتاج إلى رويّة يتبعُها كدٌّ وعناء،ومدار ذلك على مدى حذق المخاطَبِ وقدرته على كشف المخبوء الخفيّ.

وقد تنبّه أيضا إلى الفائدة الحجاجيّة للتّمثيل ووظائفه الفنّيّة والخطابيّة حيث يقول: "واعلم أنّ ما اتّفق العقلاء عليه، أنّ (التّمثيل) إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في مَعرِضِه، ونُقِلَت عن صُورها الأصليّة إلى صورته، كساها أبَّهَةً، وكسبها مَنْقَبَةً، ورفع من أقدارِها، وشبَّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوبَ إليها، واستثار لها أقاصي الأفئدة صبابَةً وكَلَفا... وإنْ كان حِجاجًا كان بُرْهانُه أنوَر، وسُلْطانُهُ أقهر، وبيانُه أبهر.» (المرجع نفسه، ص115)

وقد استقرّ مفهوم التّمثيل في اصطلاح البلاغيّين على أنّه ما كان وجه الشّبه فيه صورة مُنتزعة من متعدّد.

  1. الأبعاد الحجاجيّة للصّورة التّمثيليّة

إنّ البلاغة بما فيها من أدواتفنّيّة وصور بيانيّة تعدّ مهدا للإبداع، وهي كذلك معرض فكر ورؤى، تمحورت حول شقَّينِ أساسين: الشّقّ الأدبي الإمتاعيّ والشّقّ الحجاجيّ الإقناعيّ، الإمتاع بعدِّهإجراءات أسلوبيّة وفنّية، تستهدف استمالة المخاطب حسّيّا بجعل القول مُحرّكا لعواطفه ونفسه، والإقناع بعدِّهيقوم على مسار استدلاليّ يستهدف التأثير الفاعل في المخاطَب لتغيير أو تعديل موقفه أو سلوكه.

إنّ الحجاج بمنظور بلاغيّ لا غنى له عن الجمال، فالجمال يُرفد العمليّة الإقناعيّة ويُيسِّر على المتكلّم ما يرومُه من نفاذٍ إلى عوالم المُتلقّي الفكريّة والشّعريّة"(دريدي سامية، ص: 120)، وهنا تكمنُ أهمّيّة الصّورة التّمثيليّة، حيث تكون بديلا عن الفكرة والمعنى أو المفهوم، سواء جاء هذا التّعبير بالصورة للكشف عن كوامن النّفس أو لمجرّد الإمتاع أو التّأثير أو الحاجة إلى الإقناع، وإنّ تأثيرها يكمن "في الطّريقة التي تفرض بها علينا نوعا من الانتباه للمعنى الذي تعرضه، وفي الطّريقة التي تجعلنا نتفاعل مع ذلك المعنى، ونتأثّر به،إنّها لا تشغل الانتباه بذاتها إلاّ أنّها تريد أن تلفت انتباهنا إلى المعنى الذي تعرضُه، وتفاجئنابطريقتها في تقديمه،هناك معنى مجرّد، اكتمل في غيبة من الصّورة، ثمَّ تأتي الصّورة فتحتوي ذلك المعنى أو تدُلُّ عليه، فتُحدِثُ فيه تأثيرا مُتميّزا، وخُصوصيّةً لافتة، ذلك لأنّها لا تعرضهُ كما هو في عُزلة واكتفاء ذاتيَّيْن، إنّما تعرِضُه بواسطة سلسلة من الإشارات إلى عناصر أخرى... وبهذه الطّريقة تفرض الصّورة على المُتلقّي نوعا من الانتباه واليقظة، ذلك أَنّها تُبطئ إيقاع التقائه بالمعنى، وتنحرِف به إلى إشارات فرعيّة غير مباشرة، لا يُمكن الوصول إلى المعنى دونها"(جابر عصفور،  1991، ص: 327 - 328.)

يعدّ التّمثيل من أهمّ الأدواتالحجاجيّة التي تُحْدِثُ تأثيرا فعّالا على المُتلقي، فهو بمثابة استدعاء للمعنى الذي يمثّل الادّعاء ليُشاهَد واقِعًا ماثِلاً أمام المُعترِض،وبذلك يقعُ في نفسِه فيكون له بالغ الأثر في تغيير موقفه ورأيه،لذلك قال الجرجاني: «فأنت إذن مع الشّاعر وغير الشّاعر إذَا وقع المعنى في نفسِك غير ممثّل ثمّ مثَّله كمن يُخْبِرُ عن شيء من وراء حجاب، ثمّ يكشف عنه الحِجاب" ويقول: "ها هو ذا، فأبصِر تجِدْهُ على ما وصفتُ"»(الجرجاني، المرجع السّابق، ص122)، وكأنّ التمثيل من خلال ما ينقُلُه يُصوّر للمخاطَب مشهدًا يدعوه إلى التّصديق بالمقال، وكان تأثيره أبلغ من أي صورة أخرى.

  1. حجاجيّة التّمثيل النّبوي وطاقته الإقناعيّة

عرّجَ النّبيّ من خِلالِ تمثيلاتِه على أكثر العناصِرِ بروزًا وحُضورًا في البيئة العربيّة،وتوغّلَ بمنْطِقٍ سديدٍ تُسْعِفُهُ في ذلك أسرار اللّغة على انتِقاء الصُّور المناسِبة للمواضيع المناسِبة، ونسْجِ علاقاتٍ بينها وبين ما تُوحي به. نحاول قدر الإمكان إبرازِها وتحليلها من خلال التّفصيل في الصُّور لاسيما ما انتُزِعَ فيه المُشبّه به من عُمق البيئة والثّقافة العربيّة، مع بيان طاقاتها الإقناعيّة.

  1. النّار

عن أبي هُريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثَلي كمَثَلِ رجُلٍ استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حولَها جعلَ الفراشَ وهذِه الدّوابَّ التي في النّارِ يَقَعْنَ فيها وجَعَلَ يحجُزُهُنَّ ويغْلِبْنَه فيقْتَحِمْنَ فيها قالَ فذلِكُم مثلي ومثلُكُم أنا آخِذٌ بِحُجَزِكُم عن النّار هلُمَّ عن النّار هلُمّ عن النار فتغلِبوني تقَحّمُون فيها.» (الشّنقيطي، ص394-396)

شرح الحديث:

يقول الشّنقيطي في شَرْحِ الحديث: «قولهُ مثلي كمثَلِ رجُلٍ أيْ كحالِ رجُلٍ (استوقد) أيْ أوْقَدَ (نارًا) فاتّقَدَت ووقُود النّارِ سُطوعُها وهي جوْهَرٌ لطيفٌ مُضيء حارٌّ مُحْرِقٌ.. إذا نفرَ لأنّ فيها حركة واضطِرابًا.. كأنّهُ قيل حالُ النّاس العجيبة الشَّأن في دُعائي إيَّاهُم إلى الإسلام المُنْقِذِ لهم من النّار ومثَلُ ما زيّنت لهم أنْفُسُهم من التّمادي على الباطِل كمثل رجُلٍ استوقَدَ نارًا (فلمّا أضاءَتْ ما حولها)... (جعلَ الفراشُ) بفتح الفاء والرّاء المخفّفة وبعد الألف شينٌ مُعجمة جمعُ فراشة بفتح الفاء وهي دوابّ مثل البعوض في الأصل وهي التّي تطيرُ وتتهافَتُ في السِّراج بسببِ ضُعْفِ أبْصَارِها فهي بسبب ذلك تطلُبُ ضوء النّهار فإذا رأت السِّراج بالليل ظنّت أنّهافيبيت مُظْلِم وأنّ السِّراج كُوَّة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء ولا تزالُ تطْلُبُ الضّوء وترمي بنفْسِها إلى الكُوَّة فإذا جاوزتْها ورأت الظلام ظنّت أنّها لم تُصِبْ الكُوّة ولم تقْصِدْها على السَّداد فتعود إليها حتّى تحترِق..»(المرجع نفسه ، ج2/ ص394-395)

   ثمّ إنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم يبيِّنُ أنّ الرّجل أخذ يَنْهَرُها ويحجِبُها عن النّار. وهي تقْصِدُها فتقع فيها. يقول الشّنقيطي: «ما ذكَر من حال الرّجل الذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حولها صار الفَراشُ والدَّوابّ كالبَعوض يقتَحِمْنَ فيها والرّجُل يمنعُهُنّ من ذلك وهُنّ يَغْلِبْنَهُ ويَقْتَحِمْنَ في النّار...»(المرجع نفسه، ج2/ ص395)

مورِدُ الحديث وطاقَته الإقناعيّة

الحديثُ من التّشبيه التّمثيليّ، وهو صورة في غاية الدّقة، والرّوعة والجمال، لما فيها مِن إيحاء وإشارة واضِحة إلى حِرْصِه صلّى الله عليه وسلّم، وأدائِه لما وُكِّل إليْه من أمانة على أجملِ وجهٍ وأكمَلِ صورة،فهو يقدِّمُ الصّورة لينبِّه إلى ما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم من حِرْصٍ على تقويم سلوك النّاسِ وإرشادِهم وإنذارِهم،وما كان من هؤلاء من إعْراضٍ وإصْرار على ما يَضُرّهم ولا ينْفَعُهم،والمثلُ الذي يضرِبُه عليه السّلام مفعمٌ بالحركة،يجعَلُ مُتلقّيه ينجذِبُ نحو ما يَرْسُمه هذا التّسَلْسُل في أجزاء الصّورة،حيثُ ضرب عليه السّلام المثل لنفسِه برجُلٍ استوقَدَ نارًا، ونُلاحِظُ هنا إجْمالَ الصّورة في البداية ليأتي بعدها التّفصيل فيما ترتّب عن إيقاد النّار وغيرها. (فلمّا أضاءت ما حولها) ولنا أن نتخيَّل تَمازُج الألوان، حيثُ يفْتَحُ لنا أفُقُ الصّورة أن نرى الرّجُل في اللّيل وقدْ ملأ الظلام محلَّه، فلمّا أوْقد النّار أضاءت المكان وأنارته، وجعَل الفراشُ يقْصِدُها ويقَعُ فيها، فهي لا تزالُ تَطْلُبُ النور حتّى تلْتَهِمَها النّار،لذلكَ ضُرِب بالفراش المثل في الطّيْشِ وغيره من مواضِع الذّم والهجاء فيُقالُ: «ما هم إلاَّ فراشُ نارٍ، وذُبَّانُ طمعٍ». ويُقال: «أطيشُ من فراشَة، وأزْهى من ذُبّان» (الجاحظ، ج3/ ص305). فالفرَاشُ هنا مثَلُ النّاسِ الذين جرفتهم الشّهوات والمهالِكُ فوقعوا فيها بسوءِ تقديرٍ منهم،وقد قال الشّاعِر:

كأنّ بني ذُويْبَة رَهْطَ سلمى           فَرَاشٌ حول نار يَصْطَلينا

يطُفْن بِحرِّها ويَقَعْنَ فـــــــــيها            ولا يدْريـــنَ مــــاذا يتّقـــــينا (المرجع نفسه، ص ن)

يقول عبد الفتّاح لاشين: «الحديثُ كُلُّه تشبيه تمثيليّ، فقد شبّه صفة الرّسول وحاله في دُعائِه النّاسَ إلى الإسلام المُنْقِذِ لهم من النّار وما تُزيِّنُ لهم أنْفُسُهُم من التّمادي في الباطِل، كمثل رجُلٍ عالج إيقادَ النّار وسعى في تحصيلِ كُلّ ما به اشتِدادُ نارِها ونورِها، ولكن بدل أن يهتدي بها الضّالُ ويسْتَرْشِدَ بها الحائرُ أقْبَلَ عليها الفَراشُ والدَّوابُّ الصّغيرة تتهاوى فيها وتتساقط،والجامِعُ بين الطّرفين: اتّباعُ الهوى وضُعْفُ التّمييز وحِرْصُ كلٍّ من الطّائفتين على هلاك نفسِه»(كمال الدين عبد الغني، 2001م، ص86). فالنّبي يصوغُ لنا المعقول في صورة المحسوسِ، من خِلال القِصّة التي ذكرها،وقد أتت على سبيل التّمثيل، لِما فيه من قوّة في التّصوير، والتأثير في النُّفوس. أمّا القِصَّة فقَدْ عمِد إليها النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم كما هو الحال في عديد الأحاديث، لتُطْبَعَ في النُّفوس ويكون لها أثرٌ إلى المدى البعيد،وقد أتى في القُرآن الكريم مثَلٌ كهذا الذي ساقَه النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيثُ يقول الله تعالى: "مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ ١٧" (البقرة-17)، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: «وتقريرُ هذا المثل أنّ الله سُبحانه شبّهَهُم في اشتِرائِهِم الضَّلالة بالهُدى، وصيرورَتِهِم بعد البَصيرَة إلى العمى، بمن استوقَدَ نارًا، فلمّا أضاءت ما حوله وانتفَعَ بها وأبْصَرَ بها  ما عن يمينِه وشِمالِه وتأنّسَ بها، فبينا هو كذلك إذْ طُفِئتْ نارُه وصار في ظلامٍ شديد لا يُبْصِرُ ولا يهتدي...»(الحافظ عماد الدّين أبو الفِداء إسماعيل ابن كثير، 2000م، ص296) وإن كان المثلُ القُرآنيُّ قد ضُرِبَ وأفادَ معنى بِعيْنِه، قد يختلِف بعض الشّيء عن معنى الحديث إلاّ أنّ صياغة المثل النبوي والقُرآني جاءت متشابِهةً مُتَقارِبة.

   إنّ ما شبّه النّبيُّ به نفسَهُ يحِيلُ إلى معنى وقيمة النّور الذي جاء به صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال الله تعالى: "وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٤٦" (الأحزاب-46)، وهو في ذلك مثَلُهُ مثَلُ الرّجُلِ الذي أوقدَ نارًا ليستضيء بها هو ومن حوله. وجعَلَ من ضَلَّ كالفَرَاشِ الذي لا يملِكُ التمييز بين النّورِ والنّار، أي: بين النّفع والضَّرر،ثمّ يُبيِّن عليه السّلام اجتِهادَه في درئِهم عن النّار والهلاك وإصرارِهِم على الوقوع فيها. يقول الله جلّ وعلا في بيان حِرْصِه صلّى الله عليه وسلّم: "لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨" (التوبة-128).

   وقد كان له صلّى الله عليه وسلّم من خِلال هذا الأسلوب الفريد من القصِّ التّمثيليّ أن مزَجَ بين التّصوير الحركي الذي يوقظ الخيال فيكون له فُسْحَةٌ بين ثنايا هذه اللّوحة اللّيليّة، حيثُ امتَزَجَ ظلامُ اللّيل وحُلْكَته، بضياء النّارِ ونورِها،وهو من خلالِ كلّ هذا يسعى إلى نقلِ المعاني وبيانِها ليَكْتَمِلَ فهمها في النُّفوس،«وفي الحديث تحذيرُ الأمّة من خِداعِ العقل وفقْدانِ القُدْرَةِ على التّمييز البَصيرِ كهذا الفَرَاش، الذي يحسَبُ النّار ضوءا وراح يرمي نفسَه فيه... وهكذا الأمّة حين تفْقِدُ الرُّؤية الصّحيحة، فتبحث عن الهُدى في طريق الضّلال، وتَتْرُكَ نورَ النُّبُوَّة...»(فائزة بنت سالم صالح أحمد، 1430هـ، ص131)، ويمكن توضيح ما أتى في هذا الحديث من تمثيلٍ لحِرصِه عليه السّلام على الدّعوة كالآتي:

 

 

 

 

 

 

كما يمكن التّمثيل له حجاجيّا بالسّلّم الآتي:

 
  1. الرّعي والإبل
  2. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَذُودَنَّ رِجَالا عن حوضي كما تُذادُ الغريبة من الإبل عن الحوض» (زاد المسلم، ج4/ ص62-63).

شرح الحديث                                            

هذا الحديثُ الجليلُ من الأحاديث المُتواترة التي لقيَت نصيبَها من الشّرح والتّفصيل، كغيرِها ممّا صحَّ إسنادُه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. يقول الشّنقيطي في بيان معناه: «قولُه صلّى الله عليه وسلّم: (والذي نفسي بيدِه) أي واللّه الذي نفسي بِقُدْرَتِه تعالى (لأذودَنَّ) أي لأَطْرُدَنَّ... والحِكمة في الذَّودِ المذْكورِ أنَّه صلّى الله عليه وسلّم يُريدُ أن يُرْشِد كُلَّ أحدٍ إلى حوضِ نبيِّه لِما وردَ من أنّ لكُلِّ نبيٍّ حوضا أو أنّ المذودين هم المنافِقون أو المُبْتَدِعون أو المرتَدُّون الذين بدلوا.»(المرجع نفسه، ج4/ الإحالة: 1، ص62)، وقد جاء في ذِكرِ الحوض عدَّةُ أحاديث نذكُرُها بين ثنايا التّحليل.

مورِدُ الحديث وطاقَتُهُ الإقناعيّة

ينتزِعُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الصّورة مرّةً أخرى من عُمقِ البيئة العربيّة،فهو يمثِّلُ ذودَه للمنافِقين والكُفّار عن حوضِه الشّريف، بحالٍ تُشابِهُ هيئَة الرّاعي الذي ورَدَ بإبِلِه مورِدًا أو حوضًا، فإذا ما أرادت غريبة من الإبل الاختِلاط بها، أبعَدها وظلَّ يذودُها عن إبِلِه، وكأنّهصلّى الله عليه وسلّم راعٍ لأمّته يتعهّدُها بالرّعاية عندَ حوضِه الشّريف، تمامًا كما يتعهّدُ الرّاعي إبِله بالحِفظ وذودِ كلِّ خطرٍ وغريبٍ عنها،وقد جاء عن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ قَدْرَ حوضي ما بين أيْلَةَ(أيْلَة: بلدة بين مصر والشّام) وصنعاء من اليمن. وإنَّ فيه من الأباريق كعدد نجوم السَّماء»(زاد المُسْلِم، ج1/ ص80)، وفي حديثه صلّى الله عليه وسلّم تشويقٌ وجذْبٌ للانتباه لما يكون عليه حالُ النّاس يوم القِيامة. أمّا المؤمنون فلا خوف عليهِم ولا هم يحزنون، وأمّا المنافقون والكفّار فتراهم في رهبة يقولون: "يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ ١٣" (الحديد 13).

ونجِدُهُ صلّى الله عليه وسلّم أحكم التّمثيل بأن جعلَ الصّورتين متَناسِبَتَيْنِ. ويظهرُ ذلك من خِلال حرصِ كُلٍّ من النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك الرّاعي، على ما يتعهّدانِه بالرِّعاية والحفظ،فالنّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما أتى بهذا المُسْتأنسِ من المشهود المحسوس في البيئة العربيّة، ليُعبِّر عن غيْبِيٍّ لا يعلمُ حاله ومُسْتَقَرّهُ إلا الله،وهو بهذا يجْعَلُنا نتخيّل الوضع،حيثُ الكلّ منشَغِلٌ بنفسِه، لا يُريد في ذلك الموقِف إلاَّ أن يروي ظمأه،وهيهات أن ينال الجميع شِربة من حوضِه عليه السّلام،وبذلك يكونُ الـمُبْعَدُ من منافِقٍ وكافِرٍ كمثل الغريبة من الإبل، يذودُها الرّاعي لاختِلاطِها بإبِلِه.

يُقرِّبُ عليه السّلام من خلالِ هذا التّمثيل مشهدًا وموقِفًا من مواقِف القيامة،وكلّ ما يحمِلُه من ألفاظٍ سِيقَتْ على وجْهٍ مخصوصٍ، يجْعَلُنا نتلمّسُ في أعماقِنا هولاً لاَ يُتَّقى إلاّ بفضْلٍ من الله وهدايَتِه،وكأنّ التّمثيل هنا أيضا جاءَ لغرض التّرغيب والتّرهيب،فالتّرغيبُ إنّما هو في اتّباع المُصطفى، ومن ثمَّ الظّفرُ بشفاعتِه والاستئناس بقُربِه،وقد أتى حديثٌ له عليه السّلام في وصفِه لحوضه الشريف، حيثُ تتعالى معاني التّشويق،يقول: «حوضي مسيرة شهرٍ وزواياه سواء، وماؤه أبيضُ من الورِقِ وريحُهُ أطيبُ من المِسْكِ وكيزانُه كنجوم السّماء فمن شرب منه فلا يظمأ بعدَه أبدا»(المرجع نفسه، حر: 416، ج1/ ص174-175).، أمّا التّرهيبُ فمِن يومٍ لا ينفَعُ النّادِم ندَمُه،فنقلُ المعقولِ إلى المحسوس، وتصويرُ المعاني، وطبْعُها في النّفوس، بشيء ممّا احتضنته البيئة العربيّة وألِفَه البدويّ كلُّها دلائِلٌ تمتَزِجُ فيها جودة الانتِقاء وسلامة القياسِ والمناسبة لتتجلّى من خِلالِها إقناعيّة التّمثيل.

وخيرُ ما يُختتم به تصديقٌ من المولى لكلامِه عزَّ وجلَّ وهو ما يزيدُ تمثيلَه صلّى الله عليه وسلّم إقناعيّة وتَحَقّقًا،يقول تعالى: "إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ ١" (الكوثر 01). وقد جاء في تفسيرِها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "أتَدْرون ما الكوثَر؟" قُلْنا: الله ورسولُهُ أعلم. قال: "فإنَّه نهرٌ وَعَدَنيه ربّي ـــ عزّ وجلّ-  عليه خيرٌ كثير، هو حَوْضٌ ترِدُ عليه أمّتي يوم القِيامة، آنيتُهٌ عدد النُّجوم، فَيُخْتَلَجُ العبد منهم، فأقولُ: ربِّ إنَّه من أمَّتي. فيقولُ: إنّك ما تدري ما أحدث بعدك.»«(ابنكثير، المرجع السّابق، ج14/ ص475-476)، ولا بُدَّ أنّ هذا الصِّدق في الوعد يزيد النفسَ تشوُّقًا لما عِند الله لعبادِه المُؤمِنين،ويُسْهِمُ هذا التّرابُط بين قول المولى عزّ وجلّ، وبين الحديث النّبوي، في تحقيق التّمكين لخطاباتِه صلّى الله عليه وسلّم من حيثُ الإبلاغ والإقناع.


ويمكن التّمثيل للصّورة بالسّلّم الآتي:

  1. الحدادة والعطارة
  2. عن أبي موسى رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّما مثل الجليس الصالح وجليس السّوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يُحذيك وإمّا أن تبتاع منه وإمّا أن تجِد منه ريحا طيّبة، ونافِخُ الكير إمّا أن يُحرق ثيابك وإمّا أن تجِد منه ريحا خبيثة» (زاد المسلِم، ح260، ج1/ ص.98).

 

شرح الحديث

يشبِّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الجليس الصّالِح بحامِلِ المِسْكِ الذي لا ينالُ مرافِقُه منه إلا كلَّ طيِّب،ويجعل رفيق السّوء كمثلِ نافِخِ الكير الذي إن لم يُحْرِق ثيابَك أصابك من دُخّانه،وفيما يلي تفصيلٌ في معنى الحديث والصّورة التي أتى عليها.

مورِد الحديث وطاقته الإقناعيّة

في هذا الحديث ينقُلُنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى جانب العلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة وما يكون بين البشر منها،ولا بدّ أنّ ما يكون من هذه العلاقات مُتبايِنٌ مُختلِف من حيث الحُسْن والسّوء،والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يضرِبُ لنا مثلا في الرّفقة الطيّبة، التي تكون كالمِسك وهو معروف بطيبِ رائحتِه، ويضرِبُ لنا مثلاً في رِفقة السّوء ويجعَل الجليس السّوء في صورة نافِخِ "الكير"(شعبان عبد العاطي عطية وآخرون، 2004م، ص807)، والجميل أنّه عليه السّلام لا يخرج بهذه التمثيلات عمّا عهدته وأَلِفَته العرب. يقول كمال عبد الغني: «والحديث فيه تمثيل مُتَضادّين- هما الجليسُ الصّالح والجليس السُّوء، حيثُ جعَل هذا في مقابل هذا- وكِلاهُما مشبَّه، ثمَّ جاء بالمشبّه به المناسِب للأوّل وهو (صاحب المسك) ثمّ بالمُشبّه به المُلائم للثّاني وهو (كيرُ الحدّاد) ثمّ وجه الشّبه المُتمثّل في النّفع الحاصِل من الأوّل، والضّرر الحاصِل من الثّاني. فالمشبّه والمشبّه به حِسّيّان، ووجه الشّبه معنوي مفصَّل مُنتَزَع من متعدّد» (كمال الدّين عبد الغني، المرجع السّابق، ص62).

لمّا كان تحرّي صُحْبة الصّالحين الأخيار ومُجالَسَتِهم أمرا من الأهمّيّة بمكان قصد صلّى الله عليه وسلّم التّنبيه إلى ضرورة الحرص في انتقاء الجُلساء،ولمّا كان الصّاحِبُ ساحبا كانت رِفقة الصّالِحين مجلبة لكلّ خير، لذلك شبّهه الرّسول الكريم بِحامِل المِسْك، فحامِلُ المِسْكِ ريحُهُ طيّبَة وفي هذا (والله أعلم) إشارة إلى صِيتِ وسُمعة الجليس الصّالح، التي لا تفوح إلّاّ بشذى طيّب بين النّاس، فإن جالَسْته لمست ذلك وإن اقتديت به أخذت منه الكثير ممّا فيه نَفْعُك،لذلك قال عليه السّلام: "فحامل المسك إمّا أن يُحذيك وإمّا أن تبتاع منه وإمّا أن تجِد منه ريحا طيّبة" فأيًا كان ما يربِطُك به فهو لك زيادة في الصّلاح والفلاح،على عكس الجليس السّوء الذي لا يكون لصُحْبَته إلا ما يكون للبهيمة من جرب أخواتِها،ومن وقع في جُلساء السّوء وهبّ معهم أينما هبّوا لا بدّ أن يأتي يوم لا تنفعُه فيه حسرة ولا ندم؛ يقول الله تعالى في بيان ذلك: "وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلٗا ٢٧يَٰوَيۡلَتَىٰ لَيۡتَنِي لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِيلٗا ٢٨لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِيۗ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِلۡإِنسَٰنِ خَذُولٗا ٢٩" (الفرقان 27-29)، والوارد أنّ الآية نزلت في عقبة بن أبي مُعيط، جاء في أضواء البيان: «من المشهور عند علماء التّفسير أنَّ الظّالم الذي نزلت فيه الآية هو عقبة بن أبي معيط، وأنّ فُلانا الذي أضلّه عن الذّكر أميّة بن خلف، أو أخوه أبيّ بن خلف... وعلى كُلِّ حال فالعبرة بعموم الألفاظ لا بِخُصوص الأسباب، فكلُّ ظالم أطاع خليله في الكُفر، حتّى مات على ذلك يجري له مِثل ما جرى لابن أبي مُعيط.»(محمّد الأمين  بن محمّد المُختار الجكني الشّنقيطي، 1426هـ، ص347)، والآية الكريمة تبيّن أنَّه لا جدوى من الحسرة والنّدم في مثل هذا اليوم.

والواضِحُ أنّ النّبيّ عليه السّلام أتى بالتمثيل منذ بداية حديثه وامتدّ إلى آخر الحديث،وفي مقدّمة كلامِه عرضٌ لحُجّته عليه السّلام والتي يبتدِئها بأداة التوكيد إنّما،ثم يقدِّمُ صورة الرّفقة الطيّبة ورفقة السّوء على سبيل التمثيل بحامِل المسكِ ونافِخ الكير،فقد قام التّمثيل هنا أيضا على علاقةٍ قياسيّة بين الأطراف.

يمكن التّمثيل للصّورة بالسّلّمين الآتيين:

 

 

  1. النّهر
  2. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أرأيت لو أنّ نهرا بباب أحدِكم يغتسِلُ منه كلّ يوم خمس مرّات، هل يبقي من درنه شيئا؟، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصّلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا"(البخاري، ج01/ ص: 197).

شرح الحديث

يتطرّق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث إلى فضل الصّلوات الخمس في تطهير النّفس البشريّة من الخطايا، ويُقدّم لنا هذا الفضل المعنويّ في صورة محسوسة تُزاوِجُ بين الجماليّة والمقبوليّة، لاسيما وأنّ المُشابهة التي عقدها المُصطفى لا تخرق المنطق في شيء، وإنّما تُقرّب التّصوّر بشيء من الموضوعيّة التي تدحض أيّ اعتراض، فالمُتّفق عليه أنّ النّهر مصْدَرُ خصْبٍ وخير ونماء، وماؤه العذبُ فيه طهارة للعباد وما يتّصل بهم من ملبس وغيرها، وذلك معنى الدّرن، فالدَّرن الوسخُ، وكذلك الأمر بالنّسبة للصّلاة التي تُطهّر النّفوس من الدّنايا، فالصّلاة تنهى عن المنكرات من الأقوال والأعمال يقول الله تعالى: "ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥" (العنكبوت-45)، وهي من التّمثيلات البديعة للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث شبّه الصّلوات الخمس بالنّهر الجاري.

مورد التّمثيل وطاقته الحجاجيّة

أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحد الأساليب التّعليميّة الهامة، وهو السّؤال أو الاستفهام، حيثُ يتّخذه صلّى الله عليه وسلّم "بابا واسِعا لتقرير المعاني وزيادة الإيضاح، فكم جاء استِفهامه تشويقا للسّامع وقسرا لانتباهه، أو استدراجا وتقريرا، ليصل عن طريق الاعتراف إلى الاقتناع بخطأ أو صواب، أو غير هذا"(كمال عز الدين السّيّد، 1984م، ص: 361)، وهو في هذا الحديثاستدراج وتقرير في الآن ذاته، فهو يستدرجُنا إلى الاقتناع بفحوى خطابه من خلال التّرغيب، ويشوّقنا من خلال الصّورة التي تستدعي تتبّعا لأجزائها المُترابطة، ليُقرّ بعدها أمرا في غاية الأهميّة وهو فضل الصّلاة على العبد ونفسه، "والاستفهام من الأساليب الإقناعيّة العظيمة في مُخاطبة العقول وصرفِها إلى الأمر المُستَفهم عنه بكلّ روعة وجمال، وبدون تكلّف وتصنّع يُتعِب المُتكلّم والمخاطب.. والاستفهام بالهمزة يأتي دائما وغالبا للدّلالة على شيء يثبتُ في النّفسِ حُكمُه، أمّا (هل) فيُستفهم بها عمّا يترجّح فيه نفي ولا إثبات"(طه عبد اللّه محمّد السّبعاوي، ص: 262).

وقد وضع السّامِعَ أو المُخاطَب أمام مشهد يصوِّرُ له هذا النّهر الجاري العذب، اللّصيق ببيتِ الإنسان، إذ لا يخرُجُ من بيته إلا وينغمِسُ فيه حتّى إذا خرج منه خرج نظيفا نقيّا طاهرا، لتأتي قيمة السُّؤالِ في بيان أن حقيقة الماء العذب الصّافي الجاري، هي التّطهير، ثمَّ يصرِفُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مُخاطَبيه عن هذه الصّورة إلى صورة أخرى تُماثِلُها، والأولى أصلٌ في بيان وتوضيح الثّانية، فيقول: "فذلك مثل الصّلوات الخمس.." فانتقالُه بين الصّورتين برابط التّفسير (فذلك) والذي تلاه مُباشرة لفظ (مثل) يجْعلُ المُخاطِب ينتقِلُ تِلقائيّا إلى المُشابهة التي بناها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإذا كانت الصّلاة مثل النّهر وكان النّهر مُطهّرا من الدّرن فالصّلاة أيضا مُطهّرة ولكن لمَ؟ تأتي الإجابة من المصطفى أنها تمحو وتُطهر من الخطايا،وهذا أساس المشابهة بينهما،وقد استعمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حديثه النّهر دون غيره لمقصدٍ تقصّاه صلّى الله عليه وسلّم بحكمة بالغة، فمعلوم أنّ مياه الأنهار الجاريَة من أعذب المياه، والماء لا جرم جوهرُ الحياة البرّاق يقول الله تعالى: "أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ ٣٠" (الأنبياء 30). فالماء رمزٌ للحياة والنَّماءِ والخَصْب، وقد اقترن ذِكْرُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالفعل المضارع "يغتسِلُ" للدّلالة على التّجدد الدّائم، والتَّكرار، وكأنّي به يقول: لكم في الصّلاة الدّائمة المُتكرّرة في أوقاتها طهارة من الخطايا، وتجديدٌ للحياة، كما للعالمين من الماء حياة، وما أطيبها وما أعذبها من حياة.

تحمِلُ الصّورة المتحرّكة النّابضة بالحياة التي رسمها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم معاني إيحائيّة فائقة الرّوعة وصالحة لكلّ زمان ومكان، فإذا كان العربيّ قديما يتتبّعُ مساقِط الغيثِ ومَنابِتَ الكلأ، فلا أحبَّ إليه من أن يقع على أرضٍ بها الماء، كيف إذا كان الماءُ نهرا مُتدفّقا عذبا، يُعينه على أمور دنياه من مغسل ومشرب وموردٍ وغيرها،"ولا شكّ أنّ النّهر بقربه من دِيارِهِم يُشْعِرُ بالطُّمأنينة وقُرْبِ المغفرة، وسُهولة الحوذة عليها، فيبدو هذا الجمادُ في صورة آلةٍ تُخلِّصُ المَشْهَدَ من البُقع السَّوداء التي هي الخَطايا، حتّى ترتسم أمامنا صفحة بيضاء... والحديث يستحضِرُ الرُّؤية من أوّله، إذ بدأبـ (أرأيتم)، ثمّ تكون إجابة التّقرير بالحُجّة الواضحة" (أحمد زكريا ياسوف، المرجع السّابق، ص: 344-345.)، لا بُدّ إذن أنّ هذه المعاني التي حملتها الصّورة النّبوية، تدّخر طاقاتٍ حجاجيّة وإقناعيّة هائلة يُمكنُ إدراجُها في السّلّم الحجاجي الآتي:

 
  1. الدِّرع

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثلُ البخِيلِ والمُنْفِق كمثلِ رجُلين عليهِما جُبَّتانِ من حديد من ثُدِيِّهِما إلى تراقيهِما فأمّا المُنفِقُ فلا يُنْفِقُ إلَّا سَبَغَت أوْ وَفَرَت على جِلْدِه حتّى تُخْفِيَ بنانَه وتَعفُوَ أثَرَهُ وأمّا البخيلُ فلا يُريدُ أنْ يُنْفِقَ شيْئا إلاّ لَزِقَتْ كُلُّ حلَقَةٍ مكانَها فهو يوسِّعُها فلا تتّسِع»(زاد المُسلم، ح ر: 731،ج2/ ص377-381).

شرح الحديث

أتَتْ في الحديث شرُوحٌ عِدّة،ولكنّ أهمّ ما يُسْتَخلَصُ من بينِها هو أنّ الصّدقة والإنفاق لوجه الله تعالى تستُرُ الخطايا والذّنوب تمامًا كما يَسْتُر الثّوب الجسد، وأضاف كلمة "سبَغَت/ وفرت" والثّوب السّابغُ طويل يُجَرُّ ولا يتْرُك أثرًا لمشيِ صاحِبِه لذلك أُرْدِفَت فيما بعد بـــ "وتعفوَ أثَرَه". أمّا البَخيل فتضيق نفسُهُ بالصّدَقة فيكون كمن أراد لِبس جُبَّةٍ فعَلَقَت برقبَته وهي إلى ضيقٍ عليه، هذه الجبّة التي كانت من الثُّديِّ إلى الترقوة أصبحت طويلة الكمّين إلى أن غطّت أصابِعه، وكذلك طالت حتى أسبَغَت وهي مثال المنفق،بالمقابل تضيق جُبّة البخيل حتّى تثْقِلَ على صاحِبِها (البخيل) يقول الخطّابي: «حقيقة المعنى أنّ الجواد إذا همَّ بالنّفقة اتّسَعَ لها صَدْرُه وطاوَعته يَدُه فامتدّت بالعَطاء والبخيلُ يضيقُ صَدْرُه وتنقَبِضُ بها يَدُه..»(المرجع نفسه، ج2/ ص378).

مورِد الحديث وطاقته الإقناعيّة

هذا الحديثُ الجليل هو مِن قبيلِ التّشبيه التّمثيليّ، وقد انتَزَع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذه الصّورة مِن مألوفٍ لدى العرب،وتُظهِرُ هذه الصّياغةُ والجوْدَة في رَبْطِ العلاقات والتّصْوير خِبْرَتهُ صلّى الله عليه وسلّم بلِباسِ الحرب، وقُدرَته على توظيفِها في مقَامٍ كهذا،لذلك ضُرِبَ المَثَلُ لمن يُنفِقُ في سبيل الله بالدِّرْعِ التي كلَّما كان الإنفاق عن طيبِ خاطرٍ كان أشْبَه بالدِّرْعِ المُتَّسِعة المُسْبِغَةِ على صاحِبِها والواقِيَة له،وكُلَّما استحكم البُخْلُ بالنّفسِ كان كدِرْعٍ ضيِّقة تكبِّلُ يديْ صاحِبِها فلا هو يسْتطِيع حَرَاكَها ولا هو يسْتطيع توسِعَتَها ليُرْفَعَ عنه الضّيق.

والغرَضُ من وراء الحديث هو الإقناع والإفهام وكذا التّرغيب والحثّ على الإنفاق من جِهة، والتنفير من البُخل من جهةٍ أخرى،وقد ضَرَبَ صلّى الله عليه وسلّم المثل بالدِّرعِ لما في ذلك من مُناسَبَةٍ لفحوى خِطابه،وفي الحديثِ تلميحٌ إلى حالِ المؤمن الذي يكون دائمًا «في حالة حرْبٍ مع نَفْسِه الأمّارة بالسُّوء والتي تدعو دائمًا إلى التّقتيرِ والإمساكِ عن النَّفَقة،فكيف يُحارِبُ وهو يُعاني من دِرْعِه الضّيّقة التي تُعيقُ تصرُّفَه ثمَّ هي في النِّهايَةِ تصرَعُه.»(كمال الدين عبد الغني، المرجع السّابق، ص56)، وقد نهى الله عزّ وجلّ عن البُخْلِ في قوله: "وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا ٢٩إِنَّ رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ٣٠" (الإسراء 29-30)، وإنّنا نجدُ ابن كثير يُفسِّرُ هذه الآية إلى أن يأتي على ذِكْرِ الحديث يقول: «يقول الله تعالى آمِرًا بالاقتِصاد في العيش ذامًّا للبُخْلِ ناهيك عن السَّرَف: ""وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ" أي: لا تكُن بخيلاً منُوعًا لا تُعْطي أحدا شيئًا.. وقوله: " وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ"، أي: ولا تُسْرِف في الإنفاق فتُعطي فوق طاقَتِك وتُخْرِج أكثر من دَخْلِك فتَقْعُدَ ملومًا محسورا» (ابن كثير، المرجع السّابق، ج8/ ص476)، فالإنفاق إذًا من صَنائِعِ المعروف التي تقي أصْحابها مَصارِع السّوء. ولا بدَّ أنَّه على درجاتٍ، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم إنّما يرغِّبُ في المحمود منه،وقد يسأل السّائلُ: وهل مِنَ الإنفاق مذموم؟ ربّما كانت الإجابة أنَّ الإنفاق إذا ما زاد عن حدِّه انقلب تبذيرًا،وقد نهى دينُنا الحنيف عن التّبذير يقول تعالى: "إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧" (الإسراء 24)،

ويمكن التّمثيل له حجاجيّا بالسّلّمين الآتيين:

 

إنّ كلّ ما يُحدِثهُ التّمثيل في هذا الحديث من تأثير، يزدادُ تحقُّقُه من خِلال أخلاق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الذي يأمر بالكرم والإنفاق ولا يأتي بخُلُقٍ ذميم كالبُخل وحاشاه أن يكون بخيلا،بل وكان يدعو الله «أعوذُ بك من البُخلِ والكسَلِ وأرذَلِ العمر وعذابِ القَبْرِ وفِتنةِ الدّجّال وفِتنة المحيا والممات»(زاد المُسْلِم، ح ر: 1083، ج5/ ص33-35).

خاتمـة

في ختام هذا العمل يُمكن إيراد النّتائج الآتية:

  • إنّ الحديث النّبويّ من الخطابات الكونيّة التي سعى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من خلالها إلى ترسيخ عقيدة ربّانيّة، أسعفته في ذلك حكمته، وبصرُه بمواطن الفرصة، ووسائلالحُجّة، فناهض أرباب البيان وأرسى عقيدة التّوحيد بالحجّة والبيان.
  • لا تتّصف الصّورة بالتّعليل المنطقي، غير أنّها تمتلك القدرة على التّأثير المُقنع ما لم تكُن وهما أو مُغرقة في التّخييل.
  • كانت استخدامات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للصّورة متفرّدة تعكسُ وعيه بوظيفتها الفاعلة في إرساء المعاني وتثبيتها، ولمتتبّع الصّورة النّبويّة أن يلمس ذلك النسيج المحكم الذي تترابط فيه أجزاؤها، لتُفضي إلى النّتيجة المُبتغاة.
  • كان توظيف الصّورة في الحديث النّبويّ مقصودا، كونها وسيلةمن وسائلالإقناع التي تشغل الفكر والنّفس معا، لما تتمتّع به من طاقات حجاجيّة، لها القدرة على إعادة توجيه الفكر طواعية بعيدا عن الإكراه.
  • للصّورة التّشبيهيّة النّبويّة أبعاد حجاجيّة، تنقل المعاني من التّجريد إلى التّجسيد، في قالب بيانيّ يتوسّل به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترجمة حقائقه وصياغة تصوّراته،وقد استخدمها كوسائط تبليغيّة إقناعيّة توجّه مسارات الخطاب إلى نتائج ليس للخصم الاعتراض عليها، لما له من شراكة في استخلاص المعنى المُتوصَّل إليه.
  • نوّع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مشارب التّمثيل في حديثه، فاستمدّ من المستأنس ما يراه خادما للموقف والحال، وقد كان لعناصر الطّبيعة حضورا لافتا في الصّورة التّشبيهيّة النّبويّة عموما لاسيما التّمثيليّة منها، فنراه يلج بنا أعماق البيئة العربيّة، تارة مع الإبل والفلو والفرس وغيرها، وتارة مع فصائل النّبات من خامة الزّرع والنّخيل والشّجر، وتارة مع الأترج والحنظلة، أمّا الطّيب الدّال على الخصب والنّماء فما قرنه عليه السّلام إلاّ بطيّب، وكان الخبيث منها ملائما لأحوال المنافقين وسيء الأحوال والأفعال لما في ذلك من خبث.
  • يحمِلُ التّمثيلُ في الحديث النبوي شُحْنَةً تخيِيليَّة تستدعي جانِبَ تَتَبُّع أجزائِه ومفاصِله، ومن ثمَّ ربْطِ العلاقاتِ ربطًا منطِقيًّا يستجيب لفحوى خِطابِه عليه السّلام، وبذلك يتحقّق الاقتناع لدى المُخاطب.
  • اتّخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السُّؤال أداة تعليميّة تقريريّة، حرّك من خلالها الأذهان، وشوّق إلى معرفة الحقائق، كما كانت بابا للحوار الذي يجعل المُخاطَب شريكا في التّوصّل إلى النّتائج.
  • لم ينحُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في نسج صوره إلى الغرابة والتّعقيد، بل كانت صوره واضحة دقيقة.

التّمثيلات النّبويّة تتقارب والتّمثيلاتِ القرآنيّةَ التي حملت هي الأخرى المعانيَ بصور بديعة قريبة من النّفس



أيْلَة: بلدة بين مصر والشّام

للمُتفحِّصِ أن يرى عظَمَ ما يتحدّثُ عنه النّبيّ e.وقد عزّ عليّ أن أمُرَّ مرور الكِرام على هذا التّعبير المحْكم. فإذا كان الفلكيّون لا يستطيعون تحديد عددِها بل ويقومون بمُقاربات وتقديرات عدديّة. وذلك بقياس كمّيّة الضوء والتّأثيرات الأخرى النّاتِجة عن عدد غير معروف من النُّجوم، ومُقارَنَتِها مع التأثير الكُلّي. ثُمَّ إن بعضهم يُصَرّح أنّ درب اللبّانة وحدها يحتوي على ما يفوق المائة بليون نجم. مع العِلم أنّ هذه الدّرب لا تتألّف إلا من النّجوم الأقرب إلينا. فلك أن تتصوّرَ عُمْقَ تشبيهه eوعِظَمَه. يُنظر هذه المعلومات الفلكيّة التي أردْتُ ربطها بالحديث لبيان عِظم ما ينقُلُه e: أطلس دُول العالم الكبير مغامرات مُشَوّقة في الجُغرافيا، بيروت لبنان، د ط، ص43

قيل ثوبٌ مخصوص ولا مانِع من إطلاقِه على الدّرع، وفي رِوايَةٍ جَنّتان والجنّة في الأصل الحِصْن وسُمِّيَت بها الدِّرْعُلأنّها تجنُّ صاحِبَها أي تُحَصِّنه وتَسْتُره. يُنظر: زاد المسْلِم: ج2/ ص377.

اقتِباسٌ للفظ رسول الله e. عن أمِّ سَلَمة رضي الله عنها أنّ رسول الله eقال: "صنائِعُ المعروفِ تقي مصارِعَ السّوء والصّدقة خفيًّا تُطْفئ غضبَ الرّبّ، وصِلَةُ الرَّحِم زيادَةٌ في العمر، وكُلُّ معروفٍ صدقَة، وأهل المعروفِ في الدُّنيا هم أهلُ المعروفِ في الآخِرة، وأهْلُ المُنْكر في الدُّنيا هم أهْلُ المُنْكَرِ في الآخِرة"

المصادر والمراجع

       القرآنالكريم برواية حفص عن عاصم

  1. إحسان عبّاس، فنّ الشّعر، د ط، دار بيروت للطّباعة والنّشر، 1955م.
  2. أحمد الشّايب أصول النّقد الأدبي، د ط، مكتبة النّهضة المصريّة، القاهرة، 1973م.
  3. أحمد بن فارس بن زكريّا، معجم مقاييس اللّغة، تح: عبد السّلام محمّد هارون، د ط، دار الفكر، د ب ن، 1979م.
  4. أحمد زكريا ياسوف، الصّورة الفنّيّة في الحديث النّبويّ الشّريف، تق: محمد سعيد رمضان البوطي وعصام قصبجي، ط2، دار المكتبي، سوريّة، 2006م.
  5. الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمّد الرّغب، المفردات في غريب القرآن، تح: محمّد سيّد كيلاني، د ط، د ب ن، دس ن،
  6. البخاري، الصّحيح، تح: مصطفى البغا، ط1، مطبعة الهندي، دمشق 1976م.
  7. بشرى موسى الصّالح، الصّورة الشّعريّة في النّقد العربي الحديث، ط1، المركز الثّقافي العربي، الدّار البيضاء وبيروت، 1994،
  8. جابر عصفور، الصّورة الفنّيّة في التّراث النّقدي والبلاغي عند العرب، ط3، المركز الثّقافي العربي، بيروت، 1991م.
  9. الجاحظ أبو عثمان بحر بن عمر، الحيوان، تحقيق: عبد السّلام محمّد هارون، ط2، د د ن، 1965م.
  10. الجرجاني عبد القاهر بن عبد الرّحمن بن محمّد، أسرار البلاغة، تع: محمود محمّد شاكر، دار المدني، جدّة، د س ن.
  11. الحصري أبو إسحاق إبراهيم بن علي القيرواني، زهر الآداب وثمر الألباب، تق: صلاح الدين الهواري، ط1، المكتبة العصريّة، صيدا بيروت،2001م،
  12. دريدي سامية، الحجاج في الشّعر العربي القديم، عالم الكتاب الحديث، أربد لبنان، د س ن.
  13. الدّينوري أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، عيون الأخبار، كتاب العلم والبيان، ط2، دار الكتب والوثائق القوميّة، القاهرة، 1996م،  
  14. الرافعي، تاريخ آداب العرب، مر: عبد الله المنشاوي/ مهدي البحقيري، د ط، مكتبة الإيمان، د س ن.
  15. الزّبيدي محمّد مرتضى الحسيني، تاج العروس، تح: مصطفى حجازي، مطبعة حكومة الكويت، 1973م.
  16. شعبان عبد العاطي عطية وآخرون، المعجم الوسيط، ط 4، مكتبة الشروق الدّوليّة، 2004م.
  17. الشّنقيطي محمّد الأمين بن محمّد المُختار الجكني، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقُرآن، إش: بكر بن عبد الله بن زيد، ط1، دار عالم الفوائد، مكة المكرّمة، 1426ه.
  18. الشّنقيطي محمّد حبيب الله، زاد المُسْلِم فيما اتّفق عليه البُخاري ومُسْلِم، د ط، دار إحياء التّراث العربي، بيروت، دس ن.
  19. طه عبد الرحمن، اللّسان والميزان أو التكوثر العقلي، د ط، المركز الثّقافي العربي، الدّار البيضاء، 1997،
  20. طه عبد الرّحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، د ط، المركز الثّقافي العربي، الدّار البيضاء، 2000م.
  21. طه عبد اللّه محمّد السّبعاوي، أساليب الإقناع في المنظور الإسلامي، د ط، دار الكتب العلميّة، بيروت لبنان، دس ن.
  22. فائزة بنت سالم صالح أحمد، تأمُّلات بلاغيّة في التّشبيهات التّمثيليّة في الصّحيحين، ط1، دار الخراز، جدّة، 1430هـ
  23. فرانسوا مورو، الصّورة الأدبيّة، تر: علي نجيب إبراهيم، ط1، دار الينابيع، دمشق، 1995م.
  24. فنسنك ولفيف، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ط1، مطبعة بريل، لندن، 1955م.
  25. ابن كثير الحافظ عماد الدّين أبو الفِداء إسماعيل، تفسير القرآن العظيم، تح: مصطفى السّيّد محمّد وآخرون، ط1، مؤسّسة قرطُبة، د ب ن، 2000م.
  26. كمال الدين عبد الغني، الأمثال في الحديث النّبوي الشّريف، ط1، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية، 2001م.
  27. كمال عز الدين السّيّد، الحديث النبوي من الوجهة البلاغيّة، ط1، دار اقرأ، دب ن، 1984م.
  28. المقري الفيّومي أحمد بن محمّد بن علي، المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير للرافعي، ط1، مطبعة التّقدّم العلميّة، 1363هـ
  29. ابن منظور، لسان العرب، تح: عبد الله علي الكبير وآخران، دار المعارف القاهرة، طبعة جديدة، د س ن.
  30. نعيم اليافي، مقدّمة لدراسة الصّور الفنّية، ط1، وزارة الثقافة، دمشق، 1982م،
  31. نعيم اليافي، أوهاج الحداثة دراسة في القصيدة العربيّة الحديثة، ط1، إتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1993م.
  32. مكتبة الصغار، أطلس دُول العالم الكبير مغامرات مُشَوّقة في الجُغرافيا، بيروت لبنان، د ط، 1999م.

@pour_citer_ce_document

فايزة بوراس, «الأبعاد الحجاجيّة للصّورة التّمثيليّة في الحديث النّبوي الشّريف»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 256-269,
Date Publication Sur Papier : 2021-06-30,
Date Pulication Electronique : 2021-06-30,
mis a jour le : 30/06/2021,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=8418.