وظائف الإعلام الجديد؛ ما مدى الانحراف عن التقليد؟ New media functions; How deviated from tradition?
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 19-2022

وظائف الإعلام الجديد؛ ما مدى الانحراف عن التقليد؟

New media functions; How deviated from tradition?
ص ص 41-55
تاريخ الإرسال: 2020-07-30 تاريخ القبول: 2021-12-15

منـال كبور
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تبحث هذه الدراسة في الوظائف التي يحققها الإعلام الجديد على المستوى الفردي والمجتمعي وعلاقتها بوظائف الإعلام التقليدي من حيث التداخل والانفصال، وتنحني في ذلك للنظر أيضا في عناصر العملية الإعلامية، باعتبار أن البحث في الوظائف يحيل على البحث في العناصر، وتحديدا في طبيعة المتلقي المستخدم بين الإيجابية والسلبية. وقد أسفرت نتائجها عن أن وظائف الإعلامين تتداخلان مجتمعيا وتنفصلان فرديا. وأن مستخدم وسائل الإعلام الجديد يتسم بكثير من صفات المجتمع الجماهيري كما حددتها نظرية الحقنة تحت الجلد؛ حيث تظهر عليه المؤشرات نفسها، فيشكل رفقة غيره من المستخدمين "جمهرة، كتلة، أو حشدا إلكترونيا" مجهول الهوية بالنسبة للوسيلة. 

الكلمات المفاتيح:

الإعلام الجديد، الإعلام التقليدي، عناصر العملية الإعلامية، الوظائف الفردية، الوظائف المجتمعية

La présente étude s'intéresse aux fonctions que peuvent remplir les nouveaux médias au niveau à la fois individuel et social et à sa relation avec les médias classiques du point de vue de leur convergence et divergence. On essaiera en cela de voir de près les éléments du processus médiatique. En guise de résultats nous avons compris que les fonctions des médiateurs se rencontrent socialement et se séparent individuellement. Et que l'usager des moyens des nouvelles communications se distingue par les caractères de La communauté de masse tels qu'ils ont été déterminés par le Modèle d'impact direct.

Mots-clés :Nouveaux médias, médias traditionnels, éléments du processus médiatique, fonctions individuels, fonctions sociétaux

The current study investigates the realized functions by the new media at the individual and the social level and its relation with the traditional media functions in terms of interference and separation. Besides the elements of the media process because investigating the media functions needs researching its elements, exactly, knowing the nature of the receiver user between the positivity and negativity. The results have revealed that the functions of the (new and traditional) media are socially intertwined and individually separated, and the new media user has many characteristics of the mass community as defined by the Direct Effects Model. 

Keywords:The new media, the traditional media, the elements of the media process, the individual functions, the community functions

Quelques mots à propos de :  منـال كبور

جامعة باتنة1، manel.kabour@gmail.com

مقدمة

أدى ظهور مسمى "الإعلام الجديد" إلى توصيف وسائل الإعلام الجماهيرية والوظائف التي تحققها بالتقليدية، إذ بات ينظر إليها باعتباره، لاسيما في الوقت الذي يعمل فيه الأول على تقديم امتيازات لم تكن متاحة سابقا وتحقيق وظائف "جديدة".

تهتم الدراسة بالاتجاه الوظيفي للإعلام الجديد، تتلخص طريقة التفكير فيها في نقطة الالتقاء الناتجة عن النظر إلى الوظائف "الجديدة" عموديا في مواجهة تلك التقليدية أفقيا؛ حيث لا تعمل على تحليل الأخيرة إلا بالقدر الذي يستدعيه تفكيك الأولى؛ فتنساق إليها إما تبريرا، تدليلا، أو حتى تأصيلا، ما يجعل محور البحث هنا غير قطيعي، إذ ينطلق من الإعلام التقليدي لتصور مفرزات الجديد.

تحديدا؛ يتم التركيز على الوظائف الفردية في مقابل المجتمعية، أي بالتي يحققها الإعلام الجديد للمتلقي/ المستخدم كفرد دون الإقصاء التام للفكرة التي تقضي بأن مجموع الوظائف هذه يمثل في ذاته تراكمات لما يتم تحقيقه للمجتمع. وإذ ذاك فهي تحاول النظر في إشكالية الاتصال والانفصال الحاصلة بين ما يحققه الإعلام الجديد من وظائف وتلك المعروفة لوسائل الإعلام الجماهيري؛ مدى انحراف الأولى عن الثانية وحيز التناص الذي يبقى قائما بينهما.

تباعا يزمع الإجابة عن التساؤلات التالية: ما هي الوظائف التي يحققها الإعلام الجديد للأفراد المستخدمين؟ هل يستجيب لرغباتهم أم يشبع لهم حاجاتهم؟ هل يفعل بهم أم يفعلون به؟

لأنه يصعب طبعا النظر إلى وظائف العملية الإعلامية في معزل عن عناصرها، فإن التساؤل الفرعي الأخير يحيلنا بشكل أو بآخر على طبيعة هذه العناصر، فهو إذ يُطرح يرتبط أساسا بإيجابية/ سلبية المتلقي/ المستخدم.

تظهر أهمية الدراسة في تجاوز مستوى التلاقي والتلاغي بين التقليد والجديد إلى الوقوف على معطيات ضمنية تتعلق بالإيجابي والسلبي فيما يخلفه التناظر أو التقابل بينهما، حيث تتخطى بطريقة أو بأخرى ماهية الوظيفة في ذاتها إلى طبيعتها أو فائدتها العملية حين تنظر في التقدم الحاصل، أو بالأحرى في مداه، هل يقتصر على المجال الاستخداماتي أم ينعكس على ذاك الاشباعاتي.

تناولت، في حدود اطلاعنا، قلة قليلة من الدراسات موضوع الوظيفة بين الإعلام الجديد والقديم، ونلحظ أن الاهتمام المتوافر من دراسات هذا النمط من العلاقة البينية يكتفي غالبا بالمفهوم، أو الخصائص والعوامل، أو المداخل النظرية.* ومع ذلك فإنا نجد دراسة لـانتصار إبراهيم عبد الرزاق وصفد حسام الساموك بعنوان "الإعلام الجديد؛ تطور الأداء والوسيلة والوظيفة" ** وقد خصصا فيها فصلا لذلك وُسم بـ "الإعلام الجديد؛ تطور الوظيفة"، تحدثا فيه عن الوظائف التي حددها ولبر شرام WilberSchram***وهارولد لازويلHaroldLasswell****لوسائل الاتصال الجماهيري، ثم عن الوظائف التي يرى بعض الباحثين أن الإعلام الإسلامي يحققها. وبيان كيف أن الوظائف عموما تنطلق من حيث الأهداف التي يريد المصدر تحقيقها في المتلقي وأنه يمكن أيضا تحديدها من وجهة نظر الأخير. كما توقفا عند تطور وظائف الإعلام المعاصر بتطور الحاجات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات، فأصبح يحقق تباعا وظائف تنموية وتعليمية وثقافية وتسويقية، فضلا عن وظيفتي الخدمات العامة وخلق الدوافع وتكوين الآراء والاتجاهات. وأكد الباحثان أن الواقع الموضوعي وانتشار تقنيات الإعلام الرقمي والإلكتروني التفاعلي يستدعي إعادة النظر بوظائفها ومضامينها بطريقة نقدية ورؤى معاصرة. ولكنهما، لما أعادا النظر، حصرا الوظائف التي يحققها الإعلام في العصر الرقمي في وظائف سياسية، وأخرى ديموقراطية فقط؛ تمثلت الأولى حسبهما في أن الإعلام الجديد يبين ما هو مهم وما هو غير مهم وما الذي يستحق أن يكون ذو صلة سياسية بحياة المواطنين، ويرتب الأجندة السياسية لهم، ويحرك الرأي العام، ويكون جمهورا من الأنصار والمساندين، ويتيح للسلطة مواجهة الإعلام المضاد، فضلا عن أنه أداة سياسية للإشهار عن مواقف الدولة. في حين حددا الوظائف الديموقراطية التي يمكن أن تؤديها الاستخدامات الإعلامية للأنترنت في: الشفافية الحكومية، الاتصال بالسلطة، تقليص صلاحيات السلطة، نشر الوعي بالحقوق وصيانتها، تحريك مطالب الإصلاح، والتعامل مع الأفكار المستحدثة. (الساموك، 2011) 

ونلحظ على الدراسة اهتمامها الصرف بالجوانب السياسية لوظائف الإعلام الجديد، في الوقت الذي تُعنى فيه الدراسة الحالية بالوظائف الفردية والمجتمعية للأخير على اختلاف جوانب الحياة اليومية. ومحاولتها النظر في طبيعة هذه الوظائف باتخاذ وظائف وسائل الإعلام التقليدية معيارا واعتماد الملاحظة العلمية المؤسسة منهجا وعقد نوع من المقارنات بحثا في مستويات الاتصال والانفصال بين الإعلامين.

وعليه؛ فإن الدراسة هذه تنتهج أساسا الملاحظة العلمية لفهم مواقف وسلوكيات الأفراد المستخدمين لوسائل الإعلام الجديدة واستخراج المعنى الذي يمنحونه لها ولذواتهم كفاعلين افتراضيين. وكثيرا ما كان نمط الملاحظة التي مُورست في عين المكان (الفضاء السايبري) بالمشاركة ومستترة، وغالبا ما رافقت مناهج لمجموعة من الدراسات التي سبق وأجريناها والتي تدور حول محور الوسيلة نفسه؛ بحيث يمكن الحديث عن طول مدة استغراق الملاحظة (منذ سنة 2013) بالشكل الذي سمح بحصر عناصر الوسط الذي تجري فيه على النحو الذي يجب (مميزات الفضاء، نوع المشاركين، أسباب تواجدهم، نوع العلاقات التي تربطهم، ماهية الظواهر المتكررة، والميزة المثالية للوضع القائم فعلا). (أنجريس، 2006)

أولا: مفاهيم الدراسة

1. الإعلام الجديد

ظهر المصطلح في الجزء الأخير من القرن العشرين، وهو مصطلح واسع النطاق يشمل مختلف التقنيات، حيث يدمج وسائل الإعلام التقليدية مع القدرة التفاعلية للكمبيوتر وتكنولوجيا الاتصالات.

في رأي بعض المتخصصين تعتبر المدونات، البودكاست، ألعاب الفيديو، العوالم الافتراضية، موسوعة الويكي، وغيرها من الأجهزة المحمولة، والتلفزيونات التفاعلية، وحتى مواقع الويب والبريد الإلكتروني؛ وسائط جديدة على حد سواء، ويرى البعض الآخر أن المدونات والعوالم الافتراضية يجب تضمينها في فئة وسائل التواصل الاجتماعي لأنها تشجع على ظهور المجتمعات والشبكات الاجتماعية الافتراضية. (Ciacu, 2008,https://www.researchgate.net/publication/215489586_The_impact_of_new_media_on_society)

وعلى الرغم من الاختلافات، حدد بعض المشتغلين بالبحث العلمي سمتينمشتركتينلغالبية تعريفات الإعلام الجديد. هما:

- نشر المعلومات على عدد من أجهزة الاستقبال النظرية اللانهائية، بطرق مخصصة، اعتمادًا على مواصفات الفئات المعتمدة؛

- وحيازة تحكم غير متساوٍ حول المعلومات الخاصة بكل من المرسلات والمستقبلات.

مع الأخذ في الاعتبار أن الوسائط الجديدة تمثل جميع النصوص والأصوات والصور والأشكال الرسومية Graphicالتي يحولها الكمبيوتر (Ciacu, 2008,https://www.researchgate.net/publication/215489586_The_impact_of_new_media_on_society)والتي يمكن الوصول إلى محتواها في أي وقت وكل مكان، على أي جهاز رقمي، فضلا عن ردود الفعل المتاحة للمستخدم من التفاعلية والمشاركة، نتيجة لرقمنة المحتوى على النقيض من الإعلام التقليدي.  (حقيقة الصراع والتكامل بين الإعلام الجديد والتقليدي؛ الجزيرة نموذجاً - لرؤية التكامل والتطوير بين إعلام الأمس والإعلام الجديد، http://www.alukah.net/Culture/10894/40820)

ونظرا لصعوبة تعريف الإعلامالجديد، يقترح عباس مصطفى صادق عدم البناء في ذلك على الوسائل التي يستخدمها، لأن ما يعد منها جديدا الآن لا يصبح كذلك مع ظهور غيره، بل استنادا إلى مجموع الخصائص التي تميزه، لاسيما مع وجود شبه اتفاق على جملة منها توصفه. إذ يتمتع عما سبقه بدمجه للوسائل القديمة والمستحدثة على منصة الكومبيوتر وشبكاته، ما أدى إلى تغيير انقلابي للنموذج الاتصالي الموروث، بحيث يتبادل الأفراد الرسائل بينهم في اتجاهات واسعة ومتشابكة لا من أعلى إلى أسفل وفقا للنموذج التقليدي.

إن الإعلام الجديدتعددي بلا حدود، متعدد الوسائط، ويؤدي أدوارا جديدة كليا، يقوم فيها على أسس تشمل: الرقمية، التشعبية، التفردية، التخصيص، الجماهيرية، وتزاوج الوسائط والتكنولوجيات. (صادق عباس، 2008)

وتأخذ هذه الدراسة بمصطلح الإعلام الجديد في مجاله الواسع، فتعتبره كذلك كل ما اتصل بالرقمنة على تعدد الوسائط وتشعب المحتويات؛ وإن جاءت شبكات التواصل الاجتماعي في المقدمة.

2. وظائف الإعلام الجديد

تتناول الدراسة وظيفة الوسيلة الإعلامية كدور عام تؤديه للأفراد، إذ تعنى -كما سبقت الإشارة- بالوظائف الفردية، وتصدق بفكرة تراكم هذه الأخيرة في شكل وظائف مجتمعية، مع أنها تنزلق في أحيان أخرى لتشير إلى الجانب الذي ي بخدمة وسائل الإعلام لأدوار حساسة في المجتمع ككيان غير تكتلي -في هذه الحالة- لمجموع أفراد. تبعا لذلك فإنها تلقي الضوء أولا على الوظائف الفردية -من حيث الماهية والطبيعة- ولا يكون الحديث عن غيرها إلا سياقيا.

وعليه فهي تتناول الإعلام الجديد كخدمة ينتقيها الأفراد لإشباع الحاجة لديهم. يتحقق لهم حيال استخدامه إشباعات مقصودة وغير مقصودة. ولا نحاول الوقوف في ذلك على الخط الرفيع بين كل من الوظيفة والنتيجة، بل نسلم ونستسلم للعضوية القائمة بينهما.

3. وظائف الإعلام التقليدي

حددت الدراسات العلمية سبع وظائف فردية للإعلام التقليدي، على تداخلها وتشابكها، تتبناها الدراسة كما هي لتنظر في انزلاقها إلى أو انزياحها عن الإعلام الجديد؛ وهي على النحو الآتي:(Becker , 1987)

- مراقبة البيئة أو التماس المعلومات؛

-تطوير مفهوم الذات؛

-تسهيل التفاعل الاجتماعي؛

-بديل للتفاعل الاجتماعي؛

-التحرر العاطفي؛

-الهروب من التوتر والاغتراب؛

-خلق طقوس يومية تمنح الإحساس بالنظام والأمن.

4. عناصر الإعلام التقليدي:

لا تعنى الدراسة هذه بعناصر الإعلام التقليدي في ذاتها بل في علاقتها بالوظائف أساسا إذ تبقي عليها كشاهد/ معيار للنظر فيها كإشكالية ثانية تفرزها الإجابة عن تلك الأولى، بلغة أخرى ما إذا اتضح أن وظائف الإعلام الجديد لا تتناص بقدر ما تنحرف فإن الدراسة تأخذ منحى مغاير ينظر في علاقة الانحراف الوظيفي بذاك العناصري/ المكوناتي؛ بمعنى ما إذا كان الانحراف قد مس أو هو ينتج -في الأصل- عن العناصر وطبيعتها.

قدم هارولد لاسويلسنة 1948في مقاله الموسوم بـ "هيكل ووظيفة التواصل في المجتمع" بناءً لعناصر العملية الاتصالية يقوم على الإجابة على الأسئلة الآتية: "من، يقول ماذا، لمن، بأي وسيلة، وبأي تأثير؟".

وقد كتب زاكاري سابينزا Zachary S. Sapienzaوزميليه أن إرث هارولدلاسويلفي مجال الاتصال الجماهيري يواجه العديد من المفاهيم الخاطئة، ثلاث منها على وجه الخصوص ساعدت بشكل كبير في تحقيق الارتباك المحيط بإسهاماته؛ فأغلبالباحثين يعتقدون أنه قدم نموذجا بفئات جامدة وثابتة، وأنه ابتكر نسخة مصورة من بناءه، وأنه مجرد نموذج قديم للتواصل. (Sapienza, lyer, & Veenstra, 2015http://dx.doi.org/10.1080/15205436.2015.1063666) وربما تعكس مقالة جرايتوكمانGaye Tuchman(1980) بعنوان "من يهتم بمن قال ماذا لمن...؟" عمق هذه اللامبالاة الأكاديمية.  (Tuchman, 1980)

مع أن هارولدلاسويللم يقدم فئات جامدة، بل شدد على ضرورة وضع سياق للفئة في مناسبات متعددة، وقد أجرى بنفسه تعديلات بالفعل، ففي عام 1968وضع سياقاً لتكوين الاتصال السياسي: "من، بأية نوايا، في أية مواقف، مع أي أصول/ ممتلكات، باستخدام أية استراتيجيات، لأي جمهور، وبأي نتيجة؟" وفي سنة 1952، كتب هو وزملاؤه: شخص ما يقول شيئًا بطريقة ما لشخص ما له بعض التأثير، بحيث تصبح الأسئلة الأساسية هي: من يقول ماذا وكيف ولمن وبأي تأثير؟

شجع هارولدلاسويلأيضًا على استخدام الأسئلة التكميلية ذات الصلة بالتركيز النظري، فاقترح عام 1979، على سبيل المثال، عدة أسئلة إضافية لأعمال الاتصال السياسي، من قبيل: "ما قيمة النتائج التي يتم البحث عنها؟" و "إلى أي مدى كان اتجاه التغيير نحو الأهداف المسطرة أو بعيدًا عنها؟". (Sapienza, lyer, & Veenstra, 2015,http://dx.doi.org/10.1080/15205436.2015.1063666)

وبالمثل فعل العديد من العلماء الآخرين، فقد اقتُرحت الكثير من الإضافات للإدراج، والتي جاءت لملء حاجة نظرية معينة أو لزيادة تطوير القدرات المفاهيمية لبناء هارولدلاسويل. وربما كان ريتشارد برادوكRichardBraddockفي مقاله "امتداد لـ "صيغة لاسويل" (1958) أول من دعا لتقديم فئات إضافية كـ "تحت أي ظروف؟" لجذب الانتباه الواعي لسمات الوقت والمكان، و"لأي أغراض؟" للتأكيد على الجوانب الوصفية للاتصال. (Braddock, 1958)وأضاف جلوزمانGlozmanوتابرTupper(2003) "بأي لغة؟" و "من خلال أي رمز؟'' لإبراز اعتبارات اللغة، أما دنكانDuncanوموريارتيMoriarty(1998) فاقترحا فئة للضوضاء وبَدَلاَ فئة "التأثير" بـ "التعليقات". وفي الوقت الذي يعتقد واطسونWatsonوهيلHill(1997) أن "التعليقات" تقع ضمن "التأثير"، فإنهما يفضلان إضافة فئة "في أي سياق (اجتماعي، اقتصادي، ثقافي، سياسي، جمالي)؟" للتمكن من شرح جوانب جديدة لعملية الاتصال. (Sapienza, lyer, & Veenstra, 2015,http://dx.doi.org/10.1080/15205436.2015.1063666)

أما كولمانL. ColemanومارشMarsh P. فقد حددا خمسة عناصر من خلال تحليلهما لمفهوم الاتصال، يريان أن غياب أي منها يجعل العملية الاتصالية عديمة الفاعلية، وهي:(ابراهيم الدسوقي، 2003)

-  المرسل/ المتصل؛

-الرسالة في حد ذاتها؛

- المستقبل/ المتصل به؛

-الوسيلة المستخدمة؛

-رجع الصدى.

ويضيف بعض الباحثين لهذه العناصر الخمس مكونات أخرى مثل: التشويش، الإطار الدلالي، السياق، والأثر، وإن كانوا جميعا يتفقون على العناصر الثلاث الأولى (المرسل، الرسالة، المستقبل) وكثيرا ما يمس اتفاقهم العنصر الرابع أيضا (الوسيلة).(ابراهيم الدسوقي، 2003)

ثانيا: الاتصال والانفصال بين الجديد والتقليد

1. انحراف عن الحاجة إلى الدافع والرغبة

تستشف الدراسة الوظائف الفردية للإعلام الجديد انطلاقا من تلك السبع التي تخدمها وسائل الإعلام التقليدية. ويبدو أنها تأخذ صفة الكامنة/ المستترة التي لا يتبينها الفرد/ المستخدم فعلا لاسيما وهي التي تتمظهر كنتيجة تأخذ صبغة غير الوظيفية، إذا اعتبرنا هنا أن "الوظيفي" هو "الإيجابي" وصدقنا -في الوقت ذاته- بالعضوية بين الوظيفة والأثر.

تباعا؛ فإن الإعلام الجديد ينحرف عن التقليدي في تحقيقه للوظائف الفردية (أنظر الشكل رقم (1)) على النحو الذي سيتم توضيحه، وسيجري خلال ذلك الترميز لكل وظيفة برقم يتم إيراده في نهاية الفقرات التي تخص شرحها؛ ليتم توظيف هذا الترميز لاحقا في الشكل رقم (2).

الشكل رقم 1: انحراف الوظائف الفردية للإعلام الجديد

01.jpg
المصدر: إعداد شخصي


1-1. بناء بيئة الذاتية:

تقضي الدراسات العلمية في علوم الإعلام والاتصال بأن الفرد يراقب البيئة التي ينتمي إليها من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية ويلتمس المعلومات التي يحتاجها، بوعي أو بدونه، فإن استخدامه يحقق له في هذا الصدد هدفين رئيسين يتعلقان بتوجيه السلوك والفهم.(Becker , 1987)وتعمل وسائل الإعلام الجديدة على تلبية ذات الهدفينولكن في اتجاه نحو تقليص المجال-والإيهام بتوسيعه من ناحية أخرى-لأنها تطرح نفسها كعالم بديل حيث يمكن للفرد بناء بيئة ذاتية خاصة توهمه بأنها تمنحه فضاء مجهزا بـ"كل شيء"، لا يسعه شيئا فشيئا، أو لا يعنيه -وبشكل يصبح غير واع- إلا التماس المعلومات منها، عنها، وحولها وبما يخدمها؛ استخداما لخصائص الوسيلة.

تستثير وسائل الإعلام الجديدة سلوك مستخدمها إلى الداخل بدل توجيهه نحو الخارج؛ فعندما تغمره بكل الخيارات الممكنة ليستمر في استخدامها، هي تعزز الفضول لديه وتضاعفه من خلال خاصية تعدد الاحتمالات والمجالات التي تُمَكنه من الولوج إليها (الاطلاع على صفحة، الانضمام إلى مجموعة، قراءة صحيفة إلكترونية، إرسال رسالة نصية، والاستماع إلى الموسيقى... كله في الوقت نفسه)، فتتجاوز بذلك عقبات الاصطفاء (العوامل الانتقائية) التي تسمه بوصفه مستخدما نشطا في الأساس. وعندها ستجعله أقل قلقا حيال ما يجري في بيئته الطبيعية حين توهمه أنه يفهمها أكثر عبر بيئته الجديدة.

يصبح لدى هذا المستخدم شعورا خفيا بالثقة والغرور حين يلاحظ أنه يشيد بيئة خاصة وفائقة، وفي الوقت الذي يعتقد أنه ينفتح على العالم، يكون متجها إلى الانغلاق على الذات.

تعوض شبكات التواصل الاجتماعي عالما بآخر شبحيغير موجود فعلا، ومع ذلك فهي تمنح مستخدميها أسرة وأصدقاء "مقربين" يُسمح لهم بالاطلاع على كل "مقتنيات" بيئتهم الافتراضية، بينما يُضمَر بعضها عن غيرهم (بقية الأصدقاء) فيما يشبه "رفاق الحي" الذين يظهر أبعد قليلا عنهم بقية أفراد المجتمع ولكن أقرب بكثير مما هم عليه في العالم الطبيعي.

زيادة على هذا التنظيم؛ فإن أفضل ميزات هذه البيئة أنها مستمرة (ومجانية كما تقول دعاية الفايسوك C’est gratuit et ça le restera toujours)، ولديها ذاكرة. إنها تهتم لأمر "قاطنيها"، تذكرهم بذكرياتهم وبدايات صداقاتهم دون أن تنسى طبعا المناسبات العامة؛ العالمية منها والدينية. ونتيجة لذلك فإن المستخدميهرب إلى هذه البيئة ويحن إليها حين يبتعد عنها.

يسمي نصر الدين العياضي كل ماسبق بـ"مملكة الأنا" ويعتبرها سببا في الجنوح إلى شبكات التواصل الاجتماعي والفايسبوك تحديدا.

ومن شأن بقية الوظائف الفردية التي تحققها وسائل الإعلام الجديدة أن تجعل ملامح البيئة الذاتية والطريقة التي تُبنى بها أكثر وضوحا. وسيجري الترميز لهذه الوظيفة بالرقم (1) في الشكل رقم (2).

1-2. التمركز حول الذات

تحقق وسائل الإعلام الجديدة وظيفة تطوير الذات فتنحرف عنها، لأنها تفعل ذلك بفاعلية، حيث لا تفتأ تساعد المستخدم على تطوير ذاته فتضخمها، وتعلي لديه حالات الفردية والتخصيص، فتدفعه بذلك للتمركز -لا شعوريا- حولها.

تجعل شبكات التواصل الاجتماعي مستخدمها يقبع في "سياقه الذاتي"، تمنحه "جدارا" ليشهر عليه حريته، وتعلمه في المسكوت عنه أن الحرية بشكل ما تعني الملكية، فلتكون كذلك -حرا- يجب أن يكون لديك على الأقل جدار "تتكأ" وترجع إليه، تكتب وتعلق عليه، ولك أن تستمر في "بناءه".

يأخذ الجدار صفة القداسة أيضا في بعض الديانات؛ مثل اليهودية التي يمارس معتنقوها شعيرة البكاء عند ما يسمونه بـ "حائط المبكى" (المعروف في الإسلام بـ"حائط البراق") وهي الفكرة التي ستُؤخذ على محمل الجد إذا عرفنا أن أغلب مؤسسي مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر شهرة يهود (جاك دورسي Jack Dorseyمؤسس تويتر، ومارك زوكربيرغ MarkZuckerbergمؤسس فايسبوك).

وبقدر ما تروج فكرة الجدار هذه لمفاهيم العلانية والوضوح، الإعلام والإشهار -وحتى التشهير- للقوة والغنى عن الآخر (لديك جدار قدتقرر أن تستند عليه وتصرخ بأعلى صوتك)، فإنه يقود للنقيض حين يرسم الحدود ويلقن أصحابه ثقافة الإقصاء "لا تتجاوز هذا الجدار، لا تنشر ولا تكتب عليه، أنا فقط من يبنيه"، فيرمي ضمنيا للعزلة والتقوقع على الذات حين يمنحها تقاسيم هويتها الجديدة "هذا جداري.. هذه حياتي".

وتؤيد هذه الملاحظة ما أوردته إلزا غودار ElsaGodartفي كتابها "أنا أوسلفي إذن أنا موجود؛ تحولات الأنا في العصر الافتراضي" عن التسويق الذاتي الذي يتم من خلال السيلفي والذي تصبح معه الأنا ماركة أو منتجا موضوعا للتداول في السوق كما تعتقد أنه فضلا عن كونه إشهارا كما هو الحال بالنسبة للمشاهير، أو هو إن لم يكن كذلك فإنه يعود على تضخيم التقدير الذاتي للأنا ويساعد على ملء فراغ نرجسي، و"بقدر ما يحتفي المرء بأناة، بقدر ما تكون الثقة كبيرة في نفسه".(غودار، 2019)

هذا فضلا عن كون تصميم الوسائل الحاملة لهذه التطبيقات نفسه يساعد/ يدفع إلى هذا التوجه؛ ففي الوقت الذي يأتي تصميم وسائل الإعلام التقليدية في شكل جماعي واجتماعي، فيجمع التلفزيون والمذياع الأسرة حولهما، ويعمل بشكل ما على تفكيك التمركز حول الذات وتعزيز "المركز الجماعي"، وإن كان من بين المحتويات ما يدعو إلى شيء من الفئوية، مثل الفكرة التي تقوم عليها الفضائيات المتخصصة، فإن الإعلام الجديد يتوجه إلى الفرد، ويستدعي كلا على حدى، فيهيأ منذ البدء لمثل هذا التمركز من خلال طبيعة تصميم الوسيلة ذاتها والذي يُمكن المستخدم من حملها في جيبه أو حتى في تجويف أذنه (ترمز برقم (2) في الشكل رقم (2)).

1-3. تمزيق التفاعل الاجتماعي

يحافظ الإعلام الجديد على التفاعل دائما، من خلال خاصية التفاعلية التي تعد إحدى أهم مميزاته، لكنه يحصره في الذاتي منه. حيث يصبح التواصل الاجتماعي من وجهة نظر المستخدمين الشباب (وغيرهم) "نوعا من تمثيل الذات والظهور، يوسع لهم مجتمع "مشاهدي" نبذاتهم الشخصية، كما يمكن النظر إليه باعتباره نوعا مهما من التفاعل الاجتماعي، و"احتياجات الهوية" لديهم على حد تعبير سونيا ليفينجستون Sonia Livingstoneمؤخرا".(برامود كيه، 2017)وهكذا فإن التفاعل الاجتماعي الذي يود المستخدم ويصبح قادرا على إحداثه يدور دائما في فلك الذات؛ ينطلق منها ويعود إليها.

وبذلك تمزق وسائل الإعلام الجديدة التفاعل الاجتماعي الذي كان الإعلام التقليدي يعمل على تسهيله؛ عبر آليتين اثنتين: تتم الأولى بإتاحة كل السبل لتمجيد المستخدمين لذواتهم والتلويح بنبذاتهم الشخصية وعلاماتهم الثقافية وبياناتهم عن الذائقة (التمركز حول الذات) باستخدام خاصية التحديث الفوري، "فيبقون دائما متصلين حتى لو كانت الصلة ذات طابع مجامل محض - تدل على اتصال فارغ وغير محدد، وخال من أي تبادل حقيقي للمعلومات - وليست واقعية".(برامود كيه، 2017)

وتتحقق الثانية بتظافرخاصيتي التفاعلية وغياب سلطة الوسيط/ المرسل، بحيث يتفاعل المستخدم مع الوسيلة ذاتها وليس مع أطراف العملية الاتصالية (تجاوز حدود الاتصال البين شخصي) فيأخذ في إسقاط تصوراته وانطباعاته، بل وحتى أفكاره وآراءه الخاصة على الطرف الآخر من العملية الاتصالية، في محاولة لنسخ الذات على الطرف المقابل (ذات ناسخة وأخرى منسوخة)؛ فيُثير أو يُستثار نوع من الاتصال شبه الذاتي -إن صحت التسمية- لاسيما لما يتعلق الأمر بغرف الدردشة القائمة على الرسائل النصية أو/ والصوتية، وحجرات الحوار الحية، وأحيانا الدردشة داخل البيئات الاجتماعية أو عبر التعليقات التي تُترك على فضائها؛ وهي الأنواع التي تتفق جميعا في كونها مبتورة من سياقها الاجتماعي الخاص. ومع ذلك فكثير ما يُتجاوز عليها فكرة التعبير عن الآراء بأشواط ليتحولالأمر إلى مشاحنات ومعارك افتراضية بأطراف خفية أو غير موجودة تستولي فيها الوسيلة على الموقف الاتصالي برمته؛ فينتقل الاتصال هذه المرة من شبه ذاتي إلى اتصال آلي غايته المثلى إشباع شغف الآلة وتحقيق متعة الاستخدام في أسمى صوره.

وهكذا تتغير مقولة جون نيكولا آرثر رانبو JanNicolla Arture Rinboعلى فضاء الوسائل الجديدة من "أنا هو الآخرje est un autre" لتصبح "الآخر هو أناl’autre est un je"ثم "الوسيلة هي أنا Le médium est je".

وبفضل هاتن الآليتين (تمجيد/ تسويق الذات، إثارة التفاعل شبه الذاتي) تعمل وسائل الإعلام الجديدة على تمزيق التفاعل الاجتماعي بالتأسيس لآخر أجوف مفرع من محتواه ومشبع بالأنية والأنانية (ترمز برقم (3) في الشكل رقم (2)).

1-4. تحقيق التفاصل الاجتماعي

تقدم وسائل الإعلام التقليدية لبعض الناس تفاعلا أو صداقة بديلة، فتجدهم يتعلقون بشخصيات تلفزيونة أو سينمائية ويتوحدون معها في مواقفها المختلفة، لاسيما منهم الأشخاص المنعزلين، أو كبار السن والمراهقين، وغيرهم ممن لا تتاح لهم، لسبب أو لآخر، فرص للتفاعل الاجتماعي الطبيعي. وتنحرف وسائل الإعلام الجديدة مجددا عن ذلك بحيث لا تكتفي بتمزيق التفاعل الاجتماعي بل تساهم وتعمل أساسا على تحقيق التفاصل الاجتماعي بإلغاء فرص التواصل الاجتماعي الطبيعي حتى داخل الأسرة الواحدة.

تشير إلزا غودار، في ذات السياق، إلى أن الهاتف بات الشريك الأقرب للإنسان الحديث، حيث أنه يغير بشكل جذر في علاقته بالعالم العاطفي، وبالعالم بشكل عام؛ مُحدثاً حوله دائرة أولى قبل أي علاقة بشرية، كما أنه يسهّل الانسحاب من عالم هذه العلاقات، وهو ما يمكن ملاحظته في أماكن التجمعات العامة كوسائل النقل أو الخدمات الاجتماعية، فتحضر الأجساد فيما تكون العقول في عوالم أخرى.(بن حسن، 2019،   (https://n9.cl/1ogiz

ونلحظ في هذا كيف أصبحت المجتمعات العربية تمارس طقوس مواسمها الدينية وعطلها الوطنية إلكترونيا، وكيف اختفى التواصل البصري في المُعاش اليومي بين أبناءها وبين أفرد الأسرة نفسها على مائدة الطعام. تعلق شيري توركلSherry Turkleبسخرية عن ذلك فتقول بأن الناس بدأوا يحدثونها عن مهارة جديدة مهمة لإقامة تواصل بصري وهم يبعثون رسائل نصية، ويشرحون لها كيف أنها صعبة ولكنها ممكنة.

ومرة أخرى؛ لأن وسائل الإعلام الجديد تؤسس للتمركز حول الذات فإنها تجعل كل مستخدم غنيا بذاته عن غيره، بل ومغرورا بها، يعتقد أن كل شيء متاح له، ويستطيع أن يصل إليه أنىشاء؛ معلومة، وصفة، نصيحة، قصة... وأن يُسجل إعجابه/ متابعته لـ"القدوة" التي يختار.. ولذلك فهو ينأىعن إقامة أيتواصل أو الدخول في أبسط حوار في العالم الطبيعي الذي بات في نظره باهتا، بطيئا، ومتثاقلا. ويفضل بدلا عن ذلك الاستمرار على فضاء هذه الوسائل أين يمكنه أيضا الحصول على كل "ممنوع اجتماعي"؛ حب، وخز Poke، وعناق افتراضي (أطلق فايسبوك مؤخرا سترة ذكية تسمح باستقبال إشارات من هواتف المستخدمين؛ من شأنها أن تمنح مرتديها نفس شعور العناق الطبيعي بانتفاخها إذا حصل على عناق افتراضي عبر صفحته الشخصية).

لقد كانت وسائل الإعلام التقليدية تزود الأفراد بأرضية مشتركة للمحادثات استنادا إلى المعلومات التي يستقونها منها. وعوضت وسائل الإعلام الجديدة هذه الأرضية بـهاشتاج Hashtagاختزلت فيه كل المحادثات الممكنة؛ إذ يكفي للمستخدمين أن يعيدوا كتابة بضع كلمات أساسية للموضوع وجعلها قابلة للنقر لتصبح علامة تصنيف يمكننا عبرها التعرف على درجة تفاعلهم مع قضايا العصر عدديا؛ إنه نوع من التعليب الكمي والتقزيم الرقمي لإنسانيتهم وإنسانية قضاياهم. وفيما عدا هذه الموضوعات الأكثر تداولا Trending، فإن كل مستخدم يتصل بفضاء خاص على وجهة ما أين لا يمكن لأخيه نفسه أن يعثر عليه (ترمز برقم (4) في الشكل رقم (2)).

1-5. التعري العاطفي

تتعدى وسائل الإعلام الجديدة وظيفة تحرير الفرد عاطفيا إلى تعريته، لأنها تطور ذاته حتى لتصبح أكبر منه، تضعه في "سياقه الذاتي" الخاص، وتوهمه بـ"عزله" عن الآخر بـ"جدار"، فتدفعه ضمنيا إلى التساؤل "ما الذي يمنعني من التعري؟". يتحول كثير من مستخدميها إلى عرايا افتراضيين، يحملون أسماء مستعارة وينشئون صفحات مزيفة يكتبون عليها، يعلقون، ويشاركون صورا وفيديوهات تتماشى ورغباتهم العاطفية الدفينة، في حين لا يتحرج البعض الآخر من استخدام هويته الحقيقية بإظهار وجهه وتقديم نفسه ومن ثم التعري على الملأ الافتراضي والخروج إلى الواقع الاجتماعي بكل أريحية؛ ويكفي أن تدخل موقع يوتيوب لتقرأ عناوين من قبيل (روتيني الصباحي وروتيني المسائي، وسر نجاح أو سبب فشل حياتي الزوجية) وأكثر... من مواضيع خاصة جدا وحميمية.

ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، لأن هؤلاء يخرجون أيضا على ذات الوسائل ليعيدوا تعريف الخصوصية ومفاهيم مثل الحياة الخاصة، والحياة الزوجية، والأسرار العائلية؛ حين يدعون بأن حياتهم الخاصة أبعد بكثير عن هذا الذي يصورونه لمتابعيهم. وبذلك فإن وسائل الإعلام الجديد منحتهم فرص التعري العاطفي والقدرة على تقنينها؛ فهم يسنون عبرها آدابا اجتماعية بديلة للتعامل ويضعون أخلاقا افتراضية جديدة للتحلي يوسم المتوجس منها بالمتخلف عنها بوصفه تقليديا متعصبا ومتطرفا.

ويعتقد عبد الرحمن بسيسو أن توسيع شساعة الكون الافتراضي الكلي الأكبر، وتكريس هيمنته وترسيخها، إنما يتأسسان على "تذويب الخصوصية في العمومية، وإبدال الانفتاح الذاتي الطوعي، أو شبه الإلزامي المُمَلى بأوامر إلكترونية تطلب رفد هذا التطبيق أو ذاك بمعلومات خاصة وبسرعة بوح وإفضاء يستجوبها الاستمرار في استخدامه والإفادة من منافعه وخدماته".(بسيسو، 2020)

وكأن وسائل الإعلام الجديدة في طبيعة تصميمها نفسه وشروط صناعة محتوياتها تجر مستخدمها منذ البدء إلى تقبل ثقافة البوح إيهاما له بأنه لا يعدو أن يكون بوحا للآلة (ترمز برقم (5) في الشكل رقم (2)).

1-6. تعزيز التوتر والاغتراب

نجحت وسائل الإعلام الجديدة في إزالة التراتبية بين المشاركين في الاتصال، حيث أرست صفة المساواة والتماثل بين المرسل والمتلقي، كما أولت أهمية خاصة للمشاركة الديموقراطية المفتوحة من خلال الاتصال التفاعلي بحجرات المحادثة المباشرة Onlineوحلقات الحوار الحية Chat roomومواقع تبادل رسائل البريد الإلكترونية الحالية Online Email Sites.

وهي الخصائص التي جعلت مستخدمي هذه الوسائل يعتقدون فعلا بأنهم سواسية ينعمون بالصلاحيات والميزات نفسها في فضاء تنعدم فيه الطبقية وتسوده المساواة وتكافؤ الفرص. وفي الوقت الذي يستأنسون فيه أكثر بفضاء هذه الوسائل وواقعها الافتراضي يزيد اغترابهم عن واقعهم الاجتماعي؛ فيصبح المكان الذين يسكنون فيه ليس هو الذي يستكينون إليه.

والحقيقة أن الألفة التي يستشعرونها حيال هذه الوسائل زائفة، بيد أن الانفصال العاطفي الذي يحققونه مع مجتمعاتهم حقيقي؛ وذاك لأنها مبنية على وهم المساواة والتماثل وليس على مساواة حقة. إن فضاء هذه الوسائل وإن كان يضع حساب المستخدم جنبا إلى جنب مع حساب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية؛ فيمكنه أن يسجل إعجابه به، يعلق عليه، أو يحضره، فهو أيضا يسن -في المسكوت عنه- قوانين لـ "يراك"؛ حيث ينتظر منه بالمقابل أن يكون متحدثا فذا، أو متهكما لاذعا، أو موهوبا بارعا، جميلا، أو أنيقا، أو ذولياقة بدينة... باختصار يجب عليه إلزاما أن يكون لديه شيءيميزه ليتميز، ليسجل وجوده، ودون ذلك؛ فإن شهوة الحضور التي ترافقه لن تثمر أبدا. وعليه فإن وسائل الإعلام الجديد تؤسس منذ البدء لثنائية المركز والهامش، بيد أنها تجيد إشاعة ثقافة الوهم.

تزيد حدة الاغتراب الذي تعززه هذه الوسائل لدى سكان العالم الثالث، ذاك أنها توهمهم أنها تمنحهم عالما ديمقراطيا، يمتلك فيه الجميع المعلومات والمعرفة، المتعة والرفاهية... على قدر سواء، والأمر قطعا ليس ذلك. وتصبح هذه الحقيقة أكثر سلبية على المدى البعيد حين تُلغي الشعور بالتخلف والجهل (أو التغييب) لديهم بحيث يقل ضغط الأزمة، ثم ضغط الضغط، ويرتفع إحساس مواز بالتقدم ويتصاعد شيء من الوهم حد التفاقم.

أما عن التوتر، فتشير دينا إستراتوفاDina Istratovaفي تقرير نشر على موقع إف بي آر الروسي أن الإدمان على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي وإمضاء وقت طويل في تصفحها دون ممارسة أي نشاط آخر، يجعل المرء في تبعية مطلقة للإعجابات والتعليقات الإيجابية التي يتلقاها من بقية المستخدمين. كما نبهت إلى أن تحديث الصفحة يؤدي إما إلى شحن صاحبها بمشاعر إيجابية تزيد من نسبة الدوبامين في جسمه، أو إلى إصابته بخيبة أمل في حال لم يحصل على النتيجة التي كان يتوقعها. وعموما، إن عملية تحديث مواقع التواصل الاجتماعي غالبا ما تسبب القلق بسبب الخوف من آراء الآخرين وتعليقاتهم. (كيف تضر شبكات التواصل الاجتماعي بالصحة العقلية؟https://cutt.us/DvQqy)(ترمز برقم (6) في الشكل رقم (2)).

1-7. توريط الحواس وتبديد الذوات

تساعد وسائل الإعلام التقليدية على تنظيم حياة الأفراد اليومية وجدولتها بخلق مجموع عادات أو طقوس يحرصون على المحافظة عليها، مثل الاستماع إلى أخبار الراديو والتلفزيون في ساعة معينة، والذهاب إلى السينما أو قراءة المجلات في وقت محدد.(Becker , 1987)

وتستطيع هذه الوسائل تحقيق ذلك لأنها تقوم على ثقافة الزمان والمكان، في حين تدمج الوسائل الحالية هذين البعدين وتجعلهما يقعان معا في كف المستخدم، أو عينه، أو أذنه، فتعمل على تبديل الواقع بآخر خلقي تجر مستخدمها إليه من خلال توريط جميع حواسه في الاستخدام.

وهكذا تلغي وسائل الإعلام الجديد العتبة بين الوسيلة والفرد، في محاولة واضحة لمزجهما معا، وكأنها بذلك تنتقل من تضخيم الذات إلى تبديدها بإقحامها بالكامل في فضاء الوسيلة فتضيع في فوضى الذوات وفوضى الوجود الافتراضي وطقوسه (ترمز برقم (7) في الشكل رقم (2)).

بالنظر إلى مجموع هذه الوظائف نلحظ أن هناك اتجاه إلى الانحدار نحو التوحد أو الذاتوية،***** إذ يتعلق الأمر أولا بتضخم الأنا، ثم التمركز حولها، والانتقال إلى أزمة ستعانيها بين الواقعي والافتراضي -لما يتيحه الفضاء الأخير من امتيازات لا تتوافر للأول- لينتهي بتوحدها (الأنا/ الذات) مع وسائل هذا الفضاء الجديد.

تزيد حدة "أزمة الأنا" هذه في ظل الحاجات الجديدة التي يخلقها الإعلام الجديد لمستخدميه، كالحاجة إلى المشاركة مثلا، ومشاركة اليومي تحديدا بأدق تفاصيله كأنها حاجة إلى التعري والانصهار في الآخر الغائب عبر حضور الوسيلة، أو الحاجة إلى الشهرة التي تعتمد اليومي مرة أخرى أداة لتلبيتها، وتضغط عليه، تُغير فيه، تُشوهه، وتصطنعه غرض تحقيق هذا الإشباع.

لا تفتأ مثل هاتان الحاجتان أن تزيدا إلحاحا حتى أصبحتا من الحاجات الأساسية في حياة الإنسان التي يمارس بها شهوة الحضور ويتخلص من تهمة الغائب والمغيب الافتراضي، فلم يعد غريبا على المخيال الجمعي إطلاق شعارات من قبيل "الكل بدو يغني" أي الجميع يريد أن يغني، وهو الشعار الذي تطلقه كثير من برامج اختبار الأداء والمواهب الفنية في الوطن العربي.

و"يغني" الجميعفعلا على وسائل الإعلام الجديد، لكن من يستمع؟ إنهم يغردون ويكتبون باستمرار، ويستطيعون أن ينشؤوا المجموعات Groupes، الصفحات Pages، والقنوات Chaines، ومن ثم يترأسونها ويسنون قوانينها وآدابها. إن المنصة على مسرح هذا الإعلام تسعهم جميعا مرة واحدة، ولكن السؤال؛ هل توجد أية مقاعد للمتفرجين؟

لم يعد الإعلام الجديد إعلام النحن بل "إعلام الأنا" بجدارة، إنه يغذي الثقة لدى مستخدميه حتى لتصبح زائدة، ويتفق في تصميمه ورغباتهم، ويصنع محتويات تتماشى معها؛ فينحرف في خدمته عن إشباع الحاجة لديهم استجابة للدافع وانصياعا للرغبة.

2. حيز التناص

حدد صمويل بيكر Samul Beckerدور وسائل الإعلام التقليدية في خدمة النظام السياسي من خلال أربع وظائف أساسية؛ هي: تسهيل التماسك الاجتماعي، تفسير المجتمع لنفسه، خدمة النظام الاقتصادي، ودمج السكان الجدد في المجتمع.(مكاوي و حسين السيد، 1998)

إسقاطا لهذه الوظائف على الإعلام الجديد وفي غض النظر عن مدى التصديق بالتحامها معا لخدمة النظام السياسي، يمكن رصد التداخل الذي يبقى قائما بين الإعلامين، حيث تتناص وظائفهما مجتمعيا رغم الانحراف الذي سُجل على المستوى الفردي.

وستشير ثنائيات الأرقام المدونة بين قوسين في نهاية سرد كل وظيفة إلى علاقةالوظائف الفردية السالفة الذكر بالمجتمعية لتبين صلة التناص بالانحرافكما سيوضحه لاحقا الشكل رقم (2) ويتم شرحه خلال ذلك.

2-1. تسهيل التماسك الاجتماعي الظرفي

يبدو للوهلة الأولى أن الإقرار بهذه الوظيفة للإعلام الجديد لا يتفق والاعتراف له بإلغائه للتفاعل الاجتماعي أو بالأحرى تحقيقه للتفاصل الاجتماعي، وليس الأمر ذلك، فهو يقلص فعلا على المستوى الفردي الاتصال الشخصي بين الأفراد حد إزالته، حيث يلتقون ويتناقشون لفترات أطول استخداما لوسائله منه في الواقع اليومي المُعاش. في حين ترتبط الوظيفة هذه بالمستوى المجتمعي، لاسيما في الظروف الاستثنائية.

يساهم الإعلام الجديد حقا -وقد فعل- في تكوين نوع من الإجماع الظرفي بتقديم معلومات أساسية مشتركة تزيد من انتماء الأفراد لمجتمعاتهم وتقلل فرص الصراع داخلها؛ فهو يتيح خاصية "المشاركة Partager" فتنتقل المعلومة بين أفراد المجتمع خدمة لهدف محدد مسبقا كما فعل شباب الثورات العربية. هذا مع التصديق دائما بالفكرة التي ترفض اعتبار الفضاء الذي يفتح عليه الإعلام الجديد عموميا، إذ يعد خصوصيا في الأساس لأنه يجمع أصحاب الأذواق، الأفكار، والأيديولوجيات المتشابهة في وعاء واحد (صفحة، مجموعة)، وإن أسفر عن تماسك ظرفي، تغذيه غالبا نشوة "اللحظات" الوطنية أو الأحداث العالمية الاستثنائية ثم لا يفتأ أن يتلاشى ما إن يختفي الهاشتاج Hashtagالخاص به من قوائم الترند العالمي والمحلي (1-4).

2-2. تفسير المجتمع لنفسه

يساعد الإعلام الجديد المجتمع على التعبير عن قيمه، عاداته، ومعتقداته، بل ويساهم في خلق نمط جديد من الترفيه أو الطرفة الشعبية التي تنضج أكثر وقت الأزمات (عملا بفلسفة شر البلية ما يضحك)، حيث بات هناك نوع من المواد/ المحتويات الساخرة التي يصنعها الشباب خاصة، وتنشرها كل فئات المجتمع على شبكات التواصل الاجتماعي، والتي كثيرا ما تتحول إلى نوع من التهكم الأسود وتأتي غالبا في شكل صور أو فيديوهات قصيرة. يتم من خلالها التعبير والتنفيس عن قضايا عامة أو تفاصيل دقيقة لمجتمعات بعينها.

تعكس هذه النماذج نوعا جديدا من النقد، ساخرا وسريعا وسهل التداول، وهي بشكل ما طبعا تعبر عن الوعي واللاوعي الاجتماعي لدى الشباب المستخدم. وإن كانت -من زاوية أخرى- تساهم أيضا في تعليبه وتسليعه.

وتحيل وظيفة التمركز حول الذات على المستوى الفردي إلى هذه الوظيفة على المستوى المجتمعي؛ بحيث تمتد إلى التمركز حول الذوات الثقافية أو الدينية أو الجندرية... إشاعة لتفسير المجتمع لنفسه انطلاقا من فلسفة المركزيات والغيرية (2-2).

2-3. خدمة النظام الاقتصادي

يؤدي الإعلام الجديد هذه الخدمة، شأنه في ذلك شأن التقليدي، بل ويقوم بها بنجاعة من خلال ذكاء استراتيجيات التسويق الالكتروني التي يعتمد في الإشهار على "مقاس" الخصائص الفردية والاجتماعية لكل مستخدم، بحيث تلاحقه وتغمره الإعلانات الإلكترونية الموجهة أينما تحرك على الانترنت، التي تتوافق موضوعاتها غالبا مع رغباته وتقترب كثيرا من اهتماماته، بوصفها تتقفى آثار تصفحه للمواقع الإلكترونية وتأتي متناسبة مع معاير بحثه؛ ما يعتبره البعض انتهاكا سافرا للخصوصية.

وبقدر ما تخدم وسائل الإعلام الجديدة هذه الوظيفة، تعزز مرة أخرى الشعور بالتوتر والاغتراب على المستوى الفردي خاصة ومجددا لدى أفراد العالم الثالث، لأن أغلب الإعلانات على الانترنت تعكس حياة تبتعد عن التي يعيشونها بمسافات وتدعوهم ضمنيا إلى استهلاك قيم وعادات جديدة؛ تأسيسا لفكرة البيئة الفائقة التي يطمحون إليها (3-6).

2-4. دمج السكان الجدد في المجتمع

يخدم الإعلام الجديد هذه الوظيفة نسبيا، لأنه يثير التفاعل شبه الذاتي (الآلية الثانية لتحقيق وظيفة تمزيق التفاعل الاجتماعي) على المستوى الفردي؛ أي أن هذه الوظيفة الفردية التي تأخذ صفة السلبية، قد تصبح إيجابية في تراكماتها على المستوى المجتمعي. فإذا قدرنا بأن هناك مجموعة من الأفراد يسعون إلى الاندماج في مجتمع معين، فإن مناقشاتهم ولقاءاتهم الافتراضية مع أفراد من المجتمع محل الاهتمام تجعلهم أقل قلقا وأكثر ألفة لبيئة لم تطأها قدمهم بعد، لأنهم يسقطون ذواتهم عليها، فيُخيل إليهم أن هذه الشخصيات التي يدردشون معها إنما هي امتداد لهم ليس إلا، إذ يميل الفرد المستخدم للإعلام الجديد إلى الاعتقاد بأن"الآخر هو أنا l’autre est un je"، كما سبقت الإشارة.

كما يمكن أن تسبب وسائل الإعلام الجديدة أيضا خللا وظيفيا على المستوى المجتمعي مثل التخدير الذي أقره بول لازرسفيلد Paul Lazarsfeldوروبرت ميرتون Robert Merton.(مكاوي و حسين السيد، 1998)فهي تساهم بدرجة كبيرة في تحويل معرفة الأفراد إلى سلبية، من خلال "جرعات المعلومات الزائدة"، وتجعلهم بالتالي غير مبالينبالوضع السائد، أو محايدينإزاءه وإن كان يعنيهم. يتصل هذا الخلل بالانحدار نحو الذاتوية، إذ تساهم هذه النتيجة الفردية في تخدير المستخدمين فكلما أصبحوا متوحدين ذاتيا على الوسيلة تخدروا اجتماعيا، فتصبح لديهم صورة طيفية عن الواقع الاجتماعي (4-3).

يوضح الشكل التالي العلاقة بين الإعلام الجديد والتقليدي في انحراف الفردي وتناص المجتمعي:

الشكل رقم 2: علاقة التناص بالانحراف الوظيفي عن التقليد

02.jpg
المصدر: إعداد شخصي


يوضح الشكل أعلاه ترتيب الوظائف الفردية التي يحققها الإعلام الجديد انحرافا عن الإعلام التقليدي، وعلاقة بعضها بالوظائف المجتمعية التي يتناص فيها الأول مع الثاني. بحيث تتشكل الثنائيات التالية: (تسهيل التماسك الاجتماعي الظرفي، تحقيق التفاصل الاجتماعي)، (تفسير المجتمع لنفسه، تحقيق التمركز حول الذات)، (خدمة النظام الاقتصادي، تعزيز التوتر والاغتراب)، (دمج السكان الجدد في المجتمع، إثارة التفاعل شبه الذاتي)؛ بحيث تظهر هذه الثنائيات في الشكل رقم (2) على التوالي: (1، 4)، (2، 2)، (3، 6)، (4، 3).

تنحرف وسائل الإعلام الجديد وظيفيا عن وسائل الإعلام التقليدية حتى لتصبح زاوية النظر إلى العلاقة بينهما "منفرجة"، أي أن الانحراف عن المحور القائم يجعل المجال الإشباعاتي منفرجا بين التقليد والجديد، ذاك أن ما يتيحه الثاني من استخدامات للفرد يتجاوز بمسافات "الممكن" على الأول. يزيد هذا "الانفراج" في الاستخدام احتمالات الإبداع والخلق، بيد أنه يؤدي إلى الانحدار نحو الذاتوية والتخدير ويسمح في الوقت نفسه بـ"الانحلال" و"التسرب" الاجتماعي، وإن كان التماس بين الإعلامين -كما يبينه الشكل رقم (2) دائما- يتمظهر مجتمعيا ويمس الانحراف المستوى الفردي فقط؛ أي الإعلام الجديد يبقى مؤازرا -نوعا ما- للإعلام التقليدي على تحقيق الوظائف المجتمعية، فكيف يقود ذلك إذن إلى "التسرب الاجتماعي"؟

خاتمة

الإعلام الجديد؛ هل ينتج متلقيا/ مستخدما "قديما"؟

تمثل عناصر العملية الاتصالية في هذه الدراسة عامل قياس لمفهمة المدى ومعيرته؛ حيث يتم الاحتكام إليها لتحديد أسباب هذا المدى في الانحراف. ولا يفضي التساؤل الفرعي الأخير (هل يفعل المستخدمون بوسائل الإعلام الجديدة أم تفعل بهم؟) على ماهية العناصر بقدر ما يستقصي طبيعتها، لأنه أولا يصدق ضمنيا بفكرةتقليص الإعلام الجديد -وإن ظاهريا- لمكونات العملية الاتصالية في طرفيها، وتعويضه للطرف الأول (المرسل) بالوسيلة اختزالا له فيها،ثم يقف ثانيا عند الفعل الاتصالي بين طرفي العلاقة البينية (وسيلة، متلقي).

وعليه؛ فإن الدراسة تعيد النظر -بشكل ما- في السؤال المعارض -الذي طرح في السبعينيات من القرن الماضي- "ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام؟"(أرمان، 2005)ألا يستدعي السياق الاتصالي الحالي بخصائص التعدد، التدفق، الاندماج، والتفاعلية السؤال القديم: "ماذا تفعل هذه الوسائل بالجمهور؟"، لاسيما وقد باتت الآن "جديدة".

يتعلق "الفعل" في الحقل المعرفي لعلوم الإعلام والاتصال بنشاط المتلقي/ المستخدم، وقد أبرز هذا النشاط، خلال سنوات عديدة، جوانب مختلفة كالاصطفائية، القصدية، النفعية، والتصدي للتلاعب الإعلامي، إذ أن تحديد المتلقي النشط يمثل البعد الأساسي لتبدل الأنظمة الإعلامية ونماذج استهلاك المضامين.(مهنا، 2007)فهل يعدالمتلقي/ المستخدم لوسائل الإعلام الجديدة نشطا؟

ينحرف الإعلام الجديد عن إشباع الحاجة إلى رغبات ما بعد الاستخدام، أي تلك المرتبطة بالحاجات الجديدة، بالشكل الذي يؤشر على هيمنة الوسيلة. يسعى المتلقي/ المستخدم في مراحل لاحقة إلى تلبية الأخيرة لا شعوريا، لأنه يفتقد كلما ابتعد: بيئته الذاتية، التمركز حول ذاته، تمجيد أناه وتفاعله شبه الذاتي، تحررهالعاطفيومكاشفاتهاللامنتهية، شعوره بالمساواة واستمتاعه بالديمقراطية الافتراضية، وأخيرا واقعه الخلبي الجديد الذي يتحول إلى معيش من خلال تورط كافة حواسه فيه.

تكفل هذه الوظائف (الكامنة) التي يخدمها الإعلام الجديد مجتمعة نوعا من "المتعة" التي يسعى خلفها المتلقي/ المستخدم باعتبار أن كل ممتع ممكن والعكس على فضاء الوسيلة التي يستخدم، فيأخذ في ممارسة أحلامه، حيث تتثاقل إرادته، تتملكه الغريزة، يعتريه الشغف، ويعتليه الهو، فيتمدد ويتجرد من كل المسؤوليات والتبعات.

يتسم المتلقي/ المستخدم للإعلام الجديد بكثير من صفات المجتمع الجماهيري كما حددتها نظرية الحقنة تحت الجلد؛ حيث تظهر عليه المؤشرات ذاتها على النحو الآتي: (أحمد رشتي، 1978)

-الانطواء في عزلة نفسية عن الآخرين.

-انعدام المشاعر الشخصية حيال التفاعل الاجتماعي.

-التحرر نسبيا من الالتزامات الاجتماعية العامة.

تباعا يمكن القول أن مستخدم الإعلام الجديد سلبي لأن الوسيلة تفعل به، تتحكم فيه، تأسره وتخلق له حاجات جديدة هو في غنى عنها، ثم تقوي دوافعه إزاءها وتنمي رغبته في إشباعها. فهو يشكل رفقة غيره من المستخدمين "جمهرة، كتلة، أو حشدا إلكترونيا" مجهول الهوية بالنسبة للوسيلة التي تختزل فيها المرسل/ الوسيط، والتي يبقى مشدودا إليها منبهرا بها. يقود هذا الانبهار من ناحية، وغياب أرضية مشتركة للمعرفة من الوسيلة من جهة أخرى إلى تخفيض تفاعله الاجتماعي الفعلي، فهو لا يتبادل مع غيره الخبرة أو المشورة، إذ تتوجه إليه الوسيلة كذرة تفصله عن بقية الذرات، حيث تُستخدم وسائل الإعلام الجديد عموما فرديا، بل وتُصمم في الأساس لذلك (حاسوب، هاتف ذكي، نظرات تلفزيون ثلاث أبعادHDTV...) فيعبر عن تجربة فردية لا جماعية مع الوسيلة.

وعليه؛ فإن الوسيلة تركز على المتلقي/ المستخدم كتركيز الضوء تماما من خلال العدسة، فتهيمن وتتسلط بتجميع الأشعة (التدفق الإعلامي) حوله وقصرها عليه، وتدفعه إلى الاعتقاد -لا شعوريا- بـ "قيمته" كفرد وحيد، تتعامل معه لذاته وفي ذاته، بما يؤدي في مراحل لاحقة إلى "تسربه اجتماعيا" عن السياق وتفكيك ارتباطاته به.

يمارس المتلقي/ المستخدم نوعا من اللاشعور الفردي ويجسد كثيرا من اللاوعي الاجتماعي على فضاء الإعلام الجديد؛ حيث يتحول "الممنوع الاجتماعي" إلى مسموح في الواقع الخلبي الذي يطرحه. ينكمش "أنا" المستخدم و"أناه الأعلى" في عقله الباطن فيصبح سلبيا بالمفهوم الاجتماعي -الذي تستعيره كما هو أدبيات علوم الإعلام والاتصال لتحديد نشاط الجمهور- وإيجابيا إزاء ذاته التي يُحقق لها رغباتها الداخلية الدفينة بما يجعله أكثر إبداعا وخلقا.

تعد الحقنة تحت الجلد -بشكل ما- نظرية في العقل الباطن، تفسر بفعالية سلوك التعرض/ الاستخدام لوسائل الإعلام الجديدة، التي تشكل مجتمعا جماهيريا حولها، يبحث لا شعوريا عن اللذة والمتعةبما يؤسس لنوع من "اللاوعي الاتصالي".

يتحول الإعلام الجديد إذن إلى غاية في حد ذاته بدل النظر إليه كوسيلة، بحيث تبدو الوظائف الفردية التي استشفتها هذه الدراسة لمستخدميه نتائج تلحق بهم جراء الفعل الاتصالي المُمارس أكثر منها خدمات عامة تُعنى بها الوسيلة. إذ يسعى الأفراد المستخدمين لا إراديا إلى تحقيق هذه النتائج التي تأخذ صيغة "المُشبعات الخفية" لديهم.

تفتح الدراسة على البحث في كل وظيفة من الوظائف الفردية المقترحة على حدى، ثم في العلاقة التي تحافظ عليها، وإن ظرفيا، مع الوظائف المجتمعية. ولكن بطرح مزيد من الأسئلة في صميم التغير الاجتماعي الحاصل وباستخدام مناهج الإنسانيات الرقمية وأدوات البحث السايبري لتحديد الوسط الرقمي محل الاهتمام بشكل أفضل، واستقصاء وفهم الهويات الآلية بأسلوب أدق

أنظر الدراسات:(بن عبو، 2020) ، (مدفوني، ديسمبر)، (علاوة، 2017).

** كما وقعنا على دراسة لـ (خلفاوي ضيات، 2015)، لكنها أحالت في جل ما تناولته عن الوظائف محل الاهتمام إلى دراسة انتصار إبراهيم عبد الرزاق وصفد حسام الساموك"الإعلام الجديد؛ تطور الأداء والوسيلة والوظيفة" نفسها.

*** حددولبرشرامأربععشرةوظيفةأومهمةرئيسةأو فرعيةلوسائلالاتصالالجماهيريوهي: مراقبةالناسوالتعلممنهم،توسيعآفاق التعرفعلىالعالم،توسيعالتركيزوالاهتمام،رفعمعنوياتالناس،خلقالأجواءالملائمة للتنمية،المساعدةبصورةغيرمباشرةعلىتغييرالاتجاه،تغذيةقنواتالاتصالبين الأشخاص،تدعيمالحالةالاجتماعية،توسيعنطاقالحوارالسياسي،تقويةالمعايير الاجتماعية،تنميةأشكالالتذوقالفنيوالأدبي،التأثيرفيالاتجاهاتالضعيفةوتقويتها، والمساعدةفيجميعأنواعالتعليم. أنظر: (الساموك و إبراهيم عبد الرزاق، 2011).

**** حدد هارولد لازيول أربع وظائف لوسائل الإعلام هي: وظيفة المراقبة والإشراف، الترابط، نقل التراث الاجتماعي، وظيفة الترفيه، وأضيفت لها فيما بعد وظيفتا الإقناع والحوار؛ ليعتمد الوظائف الست خبراء الإعلام في اليونسكو، وتصبح محور معظم الأدبيات الإعلامية في نهاية القرن الماضي. أنظر: (الساموك و إبراهيم عبد الرزاق، 2011)

***** تمثل الذاتوية إحدى حالات الإعاقة التي تؤثر على النمو الطبيعي في مجال الحياة الاجتماعية ومهارات التواصل مع الآخر، إذ تعبر عن التقوقع على الذات، وتأتي في هذا السياق للتعبير عن توحد الذات مع الذات على الوسيلة. أنظر:(L’autisme et les troubles envahissants du développement (TED), http://www.autisme-montreal.com/freepage.php?page=48.21)

قائمة المراجع

  1. Becker, S. 1987, Discovery Mass Communication, Scott. Foresman & Company.
  2. غودار، إلزا. 2019، أنا أوسلفي إذن أنا موجود؛ تحولات الأنا في العصر الافتراضي، ترجمة: بنكراد، سعيد، المركز الثقافي للكتاب، المغرب.
  3. أحمد رشتي، جيهان. 1978، الأسس العلمية لنظريات الإعلام، دار الفكر العربي، القاهرة.
  4. عماد مكاوي، حسن. حسين السيد، ليلى. 1998، الاتصال ونظرياته المعاصرة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة:
  5. ابراهيم الدسوقي، عبده. 2003، وسائل وأساليب الاتصال الجماهيرية والاتجاهات الاجتماعية، دار الوفاء، الإسكندرية.
  6. مهنا، فريال. 2007، علوم الإعلام والاتصال والمجتمعات الرقمية، دار الفكر دمشق.
  7. أرمان، ماتلار. 2005، تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة: لعياضي، نصر الدين والصادق، رابح، المنطقة العربية للترجمة، بيروت.
  8. صادق عباس، مصطفى. 2008، الإعلام الجديد؛ المفاهيم والوسائل والتطبيقات.
  9. أنجريس، موريس. 2006، منهجية البحث العلمي في العلوم الإنسانية؛ تدريبات عملية، دار القصبة للنشر، الجزائر.
  10. برامود كيه، نايار.2017، مقدمة إلى وسائل الإعلام الجديدة والثقافات الإلكترونية، ترجمة: جلال الدين عز الدين علي، مؤسسة الهنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة.
  11. Braddock, R. 1958, "An extension of the Lasswell formula".
  12. Ciacu, N. (2008, junuary), "The impact of new media on society", https://www.researchgate.net/publication/215489586_The_impact_of_new_media_on_society.
  13. Tuchman, G. 1980, "Who cares who says what to whom ... ? ", JAI Press, CT. Greenwich.
  14. Sapienza, Z, lyer, N & Veenstra, A. (2015, June), "Reading Lasswell's Model of Communication Backward: Three Scholarly Misconceptions", Mass Communication and Society.
  15. الساموك، صفد حسام. إبراهيم عبد الرزاق، انتصار. 2011،"الإعلام الجديد؛ تطور الأداء والوسيلة والوظيفة"، سلسلة مكتبة الإعلام والمجتمع، (1).
  16. بسيسو، عبد الحمان. مارس 2020،" العاري لا يعرى"، مجلة الجديد، (62).
  17. بن عبو، وليد. مارس 2020، "الإعلام الجديد؛ المفهوم، المداخل النظرية، نظرة في الخصائص والعوامل"، مجلة الراصد العلمي، 7(1).
  18. خلفاوي ضيات، شمس. جوان 2015، "الإعلام الجديد؛ قراءة في تطور المفهوم والوظيفة"، مجلة علوم الإنسان والمجتمع، (15).
  19. علاوة، محمد. جوان 2017، "الإعلام الجديد؛ المفهوم، الخصائص والعوامل، التي تميزه عن الإعلام التقليدي، وطبيعة العلاقة بينهما"، مجلة الرسالة للدراسات الإعلامية، 1(1و2).
  20. مدفوني، جمال الدين. ديسمبر2019، "الإعلام الجديد؛ قراءة في المفهوم وبحث في الأشكال وأهم المداخل النظرية". مجلة الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية، 4(4).

المواقع الالكترونية

  1. L’autisme et les troubles envahissants du développement (TED), http://www.autisme-montreal.com/freepage.php?page=48.21
  2. حقيقة الصراع والتكامل بين الإعلام الجديد والتقليدي؛ الجزيرة نموذجاً - لرؤية التكامل والتطوير بين إعلام الأمس والإعلام الجديد.  بلا تاريخ، http://www.alukah.net/Culture/10894/40820
  3. شوقي بن حسن. 2سبتمبر 2019، إلزا غودار؛ التحليل النفسي في زمن "السيلفي"، العربي الجديد: https://n9.cl/1ogiz.
  4. كيف تؤثر شبكات التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية؟ بلا تاريخ، الجزيرة: https://cutt.us/DvQqy.


@pour_citer_ce_document

منـال كبور, «وظائف الإعلام الجديد؛ ما مدى الانحراف عن التقليد؟ »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 41-55,
Date Publication Sur Papier : 2022-04-27,
Date Pulication Electronique : 2022-04-27,
mis a jour le : 08/05/2022,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=8493.