إشكالية العنف: دراسة في أهم المقاربات النظرية
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°21 Décembre 2015

إشكالية العنف: دراسة في أهم المقاربات النظرية


غزالة ابن فرحات
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

رغم كون العنف يعتبر من أقدم الظواهر الاجتماعية المميزة للتفاعل البشري، إلا أن الاهتمام به والبحث فيه لم يجد السبيل إلى الظهور إلا في منتصف القرن العشرين، ورغم مرور عدة عقود على ذلك، إلا أننا نلاحظ أنه لا يوجد لحد الآن إجماع بين مختلف التخصصات والفروع العلمية حول تحديد دقيق لهذه الظاهرة ومميزاتها، كون كل تخصص قد حاول تفسيرها انطلاقا من مجال اهتمامه وأهدافه. لذلك حاولنا من خلال هذا المقال، تقديم أهم المعاني والتفسيرات المرتبطة بظاهرة العنف، حتى نبرز الاختلافات الموجودة في تعامل كل تخصص مع هذه الظاهرة، ومن ثم البحث في توحيد الرؤية إزاء ظاهرة العنف التي أصبحت تهدد كيان المجتمع.

المقاربات النظرية، العنف، الأذى، القوة، العدوان.الكلمات المفاتيح: 

Malgré l’existence du phénomène de la violence depuis la nuit des temps, étant considérée comme une des caractéristiques propres aux interactions sociales, elle n’a commencé à attirer l’attention des scientifiques que récemment. Un consensus autour d’une définition propre au phénomène "Violence", ses caractéristiques, causes et effets a été quelque peu freiné. Il est important d’observer que l’intérêt que porte chaque discipline scientifique au phénomène "Violence", a toujours été conditionné par les objectifs de cette dernière, indépendamment des autres disciplines. Raison qui nous a poussés à travers cet article, à essayer de présenter les différentes définitions et explications données à la "Violence", afin d'attirer l’attention sur la difficulté de trouver une définition consensuelle à ce phénomène.

Motsclés:Approches théoriques, La violence, Dommage, Laforce, L'agressivité.

Despite the existence of the phenomenon of violence since ever and that it is considered one of the characteristics of social interaction, it has not begun to attract the attention of scientists until recently. A fact that diminished the idea of a consensus on a specific definition of the phenomenon, its characteristics, and its causes and effects. It is important to note that the interest of each scientific discipline to "Violence", has always been conditioned by the objectives of this discipline, independently of other disciplines. This is what led us, through this article, to present the different definitions and explanations of "Violence" in order to draw attention to the difficulty of finding a consensual definition for this phenomenon.
Keywords: Theoretical approache, Violenc, Damage, the force, Aggression
 

Quelques mots à propos de :  غزالة ابن فرحات

طالبة بدكتوراة قسم العلوم الاجتماعية جامعة باجي مختار عنابة، أستاذ مساعد أ، جامعة  8 ماي 45 قالمة

مقدمة

يعد العنف ظاهرة اجتماعية عالمية لا يكاد يخلو منها أي مجتمع إنساني، فهي تتنوع من حيث طبيعتها، أشكالها وأنواعها، ومن حيث الأساليب المستخدمة في ممارستها حسب المجتمعات والأوقات، تبعا لتنوع الظروف والأوضاع الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. والعنف ظاهرة اجتماعية مرتبطة تمام الارتباط بوجود المجتمع، فقد برز عندما شعر الأفراد بضرورة التعاون فيما بينهم من أجل تحقيق مصالحهم وإشباع حاجاتهم المتزايدة، مما نتج عنه إلزامية الكشف عن مشاعرهم وبالتالي بروز بعض نزاعاتهم الفردية، مما استدعى تدخل المجتمع لتجريم الأفعال التي تسعى الى تحقيق رغبات فردية معارضة لمصلحة المجتمع.1ويعد العنف ظاهرة اجتماعية سايرت التطور التاريخي للمجتمعات وتأثرت بطبيعة العلاقات التي تميزت بها كل مرحلة تاريخية، إذ كلما زادت هذه الأخيرة تعقيدا زادت معها مظاهر العنف تنوعا وانتشارا. وقد يكون ذلك هو السبب الذي دفع بمختلف العلوم والتخصصات إلى الاهتمام به والبحث فيه، من خلال وضع الفرضيات والتفسيرات حول مصدره الذي ظل مركزا للعديد من التساؤلات التي تدور حول: هل أن العنف غريزة إنسانية أم أنه ينتج من خلال البيئة المحيطة بالفرد، أم أنه سلوك متعلم؟ وقد تعددت واختلفت الإجابات على هذا السؤال باختلاف التخصصات والمقاربات التي اعتمدت في معالجة هذه الظاهرة ومحدداتها، سنحاول في هذا المقال إدراج أهمها.

المقاربة البيولوجية

اختلفت محاولات البيولوجيين في إيجاد تفسير لظاهرة العنف، فهناك من يربط الظاهرة بالبنية البيولوجية أو الحيوية للفرد وبالتحديد شكل الكروموزومات Les chromosomes، مبرزين تأثير العوامل الوراثية في ممارسة السلوك العنيف "Facteurs génétiques" والمتمثل في وجود كروموزوم XYYلدى الذكور. خاصة بعد أن وجد هذا التركيب عند كثير من السجناء خلال إحدى الدراسات التي استهدفتهم سنة 1966م بالولايات المتحدة الأمريكية.[…] ومع ذلك يبقى هذا العامل وحده غير كاف لتفسير وتعليل السلوك الإجرامي، ويتطلب مثل هذا التفسير دراسة التركيب البيولوجي لكل الأشخاص المدانين في جرائم العنف. 2من جهة أخرى هناك من الباحثين من يشير إلى وجود منطقة في المخ إذا أثيرت دفعت الحيوان إلى الهجوم على أقرانه وإذا تم إزالتها قل عنده السلوك العدواني.

وقد اهتم المنظرون البيولوجيون بإبراز تأثير العوامل البيولوجية كالهرمونات والصبغيات الوراثية في سلوك الفرد، فنجدهم مثلا يربطون بينها وبين العنف الجنسي كالاغتصاب، الاستغلال والاعتداء الجنسي على المحارم. فهم يرون وجود علاقة بين الإساءة الجنسية للطفل وارتفاع مستوى الهرمون الجنسي الذكري (التستوسترون testostérone) الذي يفرزه جسم الذكر، حيث وجد أن سلوك بعض الأفراد المولعين بالاتصال الجنسي بالأطفال (البيدوفيليا La pédophilie)، غالبا ما يكون تعبيرا عن ارتفاع مستوى هذا الهرمون الجنسي لديهم. كما أنهم يرون أن السلوك الجنسي المنحرف يرتبط بوجه خاص بدور الهرمونات الجنسية لدى الذكور، وأن إفراز هذه الهرمونات يتم التحكم فيها عن طريق الهيبوثلاموس والغدة النخامية التي تعد مساهما مهما في مخرجات هرمون الذكورة في الجسم. فعندما يصل الذكور إلى سن البلوغ، توجد لديهم زيادة رئيسية في مستوى هرمون الذكورة، لأن الحافز الجنسي لديهم يزيد في نفس الوقت. وهناك اعتقاد عام يشير إلى وجود علاقة بين مستوى هرمون الذكورة والحافز الجنسي للفرد، وبذلك يصبح هرمون الذكورة يمثل العامل البيولوجي الأول والمسؤول عن السلوك الجنسي السوي والشاذ للفرد، مما يؤكد العلاقة بين مستوى هذا الهرمون والنشاط الجنسي. فقد أشار برلين Berlinسنة 1983م إلى جملة الأعراض klinefilterالتي تشير إلى وجود نزعة واستعداد لدى الذكور نحو السلوك المسيء جنسيا، وأن الذكور الذين يعانون هذه الحالة، تظهر لديهم مشكلات تتعلق بالتوجه الجنسي وطبيعة الرغبات الجنسية لديهم.3

على الرغم من المجهود الذي بذل في هذا المنحى، إلا أنه من الجدير الإشارة إلى كون  التفسير البيولوجي قد أثار الكثير من الانتقادات، أهمها محاولة فرض وجهة النظر القاضية بحتمية الحياة المتجذرة في البيولوجيا وعلم الوراثة، مما يعني بالنسبة لعامة الناس "حتمية" مثل هذا السلوك. فالجينات تعني الأمور التي لا يمكن تغييرها وبالتالي فإن أي محاولة لإصلاحها أو تحسينها يندرج في خانة تضييع الوقت والطاقة، فهي محتومة لا مفر منها ولا يمكن تغييرها. وعليه فإن العنف وفق هذا المنظور يصبح مشكلة غير قابلة للحل وهذا خطأ.

   أما عن الرأي القائل بأن السلوك البشري قد يتحدد قبل الولادة كجزء من الخريطة الوراثية البشرية التي تدعم بنيتنا الجينية وأن التجارب لا تستطيع تغيير بنية وعمل العقل البشري، فإن الباحثين يشيرون إلى ضعف هذا التأثير، حيث بين المسح الشامل الذي قام به ويتكنWitkin   سنة 1976م، أن الأشخاص الحاملين لكروموزوم XYY، لم يكونوا ميالين إلى ممارسة العنف والعدوان وإنما كانوا أقل ذكاء، وبالتالي فهم لا يختلفون عن أولائك الذين يحملون كروموزوم XY. من جهة أخرى فقد أثارت فكرة وجود منطقة في مخ الحيوان مسؤولة عن العنف والعدوان جدلا كبيرا، لأنه من الصعب إيجاد هذه المنطقة لدى كل الأشخاص الميالين إلى العنف ومطابقة هذه التفسيرات عليهم، فذلك يستحيل علميا لعدة اعتبارات أهمها أن البرهنة على هذا التفسير تتطلب عملية جراحية صعبة ولكونه أخلاقيا مرفوض.4  كما أنه لا يمكن مطابقة السلوك الحيواني على السلوك الإنساني نظرا لعدة اعتبارات أهمها وعي الإنسان ككائن اجتماعي بغرائزه البيولوجية على عكس الحيوان: فإذا كان الحيوان يحافظ على وجوده ويسعى لتحقيق غرائزه بالعدوان، فإن الإنسان يحافظ على وجوده ويستعمل عدوانه ويوجهه من خلال وعيه وإدراكه للواقع الاجتماعي، من أجل تحقيق هدف معين أو الرد على أذى يصيبه. وبذلك يصبح العنف ليس بغريزة وإنما يفسر من خلال ما هو موجود في الواقع الاجتماعي وما هو مناقض لهذا الواقع، خاصة وأن العديد من الدراسات والملاحظات اليومية والإكلينيكية تشير إلى أن التعبير عن العنف هو سلوك مكتسب، أي أنه يمكن تعلمه إما بالملاحظة أو من خلال التقليد. فكلما عُزز أو أُثيب صاحب هذا السلوك بشكل مباشر أو غير مباشر، كلما زاد احتمال ظهور العنف عنده.

المقاربة السياسية والقانونية

يرتبط العنف السياسي بفكرة الحصول على السلطة أو الاحتفاظ بها لذلك اعتبرت العلاقة بين العنف والسياسة قديمة قدم المجتمع الإنساني. فالعنف السياسي كان ولا يزال يعتبر وسيلة للتعبير عن الرأي السياسي والحصول على الشرعية ويمثل وسيلة للانتصار السياسي على الخصم. ويعتمد مثل هذا السلوك لعدة أسباب: فقد يكون لتحقيق هدف سياسي أو للتعبير عن موقف سياسي أو كذلك ردا على موقف أو حالة أو عنف سياسي مسلح، وثمة شبه اتفاق بين أغلب الدارسين لظاهرة العنف على أنه يصبح سياسيا عندما تكون أهدافه أو دوافعه سياسية (رغم وجود اختلاف في تحديد طبيعة هذه الأهداف، نوعيتها وطبيعة القوى المرتبطة بها). من هنا عرف العنف السياسي بأنه " قوة من أي طبيعة كانت، يستعملها فرد أو مجموعة أو دولة ضد فرد أو مجموعة أو دولة أخرى. وتتقلص الاستقلالية الذاتية لكل منها بداعي الخوف الناتج عن هذه القوة. ويمكن أن يكون العنف من فعل الحكام مثلا: الاستبدادية، الديكتاتورية والطغيان، أو كذلك من فعل المحكومين مثل: الانتفاضة، الثورة والإرهاب. كما توجد بعض الحركات السياسية التي تدعوا إلى العنف كالنظرية الماركسية، التي تؤكد أنه لا يمكن الانتقال من الرأسمالية إلى البروليتاريا إلا باستعمال العنف. ويصبح بذلك العنف مشروعا إذا كان يؤدي إلى ولادة حكومة جديدة يوافق عليها الشعب بعد استشارته ديمقراطيا".5

وقد اعتبر العنف الثوري أو العنف التحرري مبررا تاريخيا لأنه يحدث من أجل تقرير المصير وتحقيق الاستقلال وإنهاء التبعية، بناءا على قرار هيئة الأمم المتحدة رقم 1514لعام 1960م والقرارات اللاحقة. وما العنف السياسي إلا نتيجة حتمية لأعمال القمع والإرهاب التي تقوم بها الأنظمة الاستعمارية والعنصرية ضد أبناء البلد. وعموما يحرم القانون الدولي العام استعمال القوة، حيث تنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على أنه: "يمنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية من التهديد باستعمال القوة، أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".6فالعنف سواء صدر عن الحاكم أو المحكوم وبجميع أنواعه وصوره، ساهم تاريخيا في وجود تراكم ثقافي يؤسس له ويبقيه، لذا فإن بناء استراتيجية لمحاربته ينطلق من تأسيس ثقافة معاكسة لثقافة العنف، ينتج عنها سلوكات تختلف عن ممارسات الجاهلية، كتلك التي حاربها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلم والسلام. فمثل هذه السلوكيات كالحمية الجاهلية والتعصب العنصري، كانا مسيطرين على تعامل الناس وعلاقاتهم وأدى بهم إلى حروب وصراعات دامية. فجاء الإسلام وأسس لثقافة حرمة الدماء وعدم هدرها، تماشيا مع الرغبة الإلهية التي عادلت قتل النفس الواحدة بقتل البشرية كافة في قوله تعالى: " مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ ٣٢

 ".7(المائدة الاية 32)

أما رجال القانون فلهم وجهة نظرهم الخاصة في الموضوع، إذ غالبا ما تغفل تعريفاتهم للعنف الظروف البيئية والمجتمعية المحتمة لظهور وانتشار مثل هذه الظاهرة. فقد عرفه أحمد جلال عز الدين في كتابه "الإرهاب والعنف السياسي" على أنه: "الاستخدام الإنساني للقوة بغرض إرغام الغير وإخافته وإرعابه، أو الموجه إلى الأشياء بتدميرها أو إفسادها أو الاستيلاء عليها. ذلك الاستخدام الذي يكون دائما غير مشروع ويشكل في الأصل جريمة.8أما حسنين توفيق إبراهيم فيشير إليه في كتابه "ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية"، على أنه: "ظاهرة مركبة لها جوانبها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والنفسية، وهو ظاهرة عامة تعرفها كل المجتمعات البشرية بدرجات متفاوتة". كما جاء في كتاب "العنف والشريعة في مصر: دراسة قانونية"، بأن جانبا من الفقه يرى في العنف أنه الاستخدام الفعلي للقوة أو التهديد لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص والإتلاف بالممتلكات، بينما يرى اتجاه آخر أن العنف ما هو إلا تعبير عن أوضاع هيكلية بنائية، أي مجموعة من المقومات والسمات الكامنة في البيئة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.9

في معالجتها لقضايا العنف من وجهة النظر القانونية تبرز مختلف الأدبيات الخاصة بالموضوع وجود تيارين أساسيين ومتناقضين حول مفهوم العنف: التيار الأول ويوصف بالتقليدي، يأخذ بالقوى المادية عبر التركيز على ممارسة القوة الجسدية ضد الآخر. أما التيار الثاني وهو أكثر حداثة، فيأخذ بمبدأ الضغط والإكراه الإرادي دون التركيز على الوسيلة، وإنما على النتيجة المتمثلة في إجبار إرادة الغير بوسائل معينة على إتيان تصرف معين. وعليه يعرف العنف بأنه المس بسلامة الجسم ولو لم يكن جسيماً بل في صورة تعد وإيذاء. وعموما فقد اعتبر العنف من وجهة النظر القانونية: استخداما للقوة ضد النظام أو القانون. ففي القانون المدني يعتبر سببا لفسخ العقود لأنه ليس إلا محاولة لممارسة الضغط على الشخص العاقل، مما يمكن أن يوحي بالإكراه وبالتالي يعرض هذا الشخص أو ثروته للخطر. فهو عبارة عن ممارسة الإنسان للقوى الطبيعية للتغلب على مقاومة الغير بكل الأساليب والوسائل. لكن يبقى هذا التفسير مقتصرا على الجانب السياسي والعلاقات العمومية بين الأفراد أو الدول، ويتجاهل ظاهرة العنف التي قد تحدث في الإطار الضيق كالأسرة مثلا.

على ضوء ما سبق يتضح أن السلطة السياسية قد تمارس العنف لغاية إخضاع خصومها أو ضرب القوى التي تمثل تحديا لها. من جهتها قد تلجأ القوى المعارضة إلى العنف السياسي وذلك لتحقيق غاياتها في الوصول إلى السلطة، وتبقى الحقيقة الأساسية التي يجب عدم إغفالها، هي أن العنف أداة يستعين بها الحاكم والمحكوم وإن كان ذلك بمقادير مختلفة ولغايات متباينة. وعليه تصبح القوة ليست غاية في ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق غاية سياسية، لذلك كان لا بد من وضع ضوابط لممارسة القوة والإكراه تظهر في شكل قوانين. فالقانون ليس إلا مجموع القواعد الحقوقية التي تضعها السياسة من أجل استعمال القوة في خدمة هدف السياسة بشكل أكثر فاعلية. فبدون القانون تصبح القوة غاية بذاتها تتناقض مع غاية السياسة، وبدون القوة يصبح القانون مجرد قواعد لا قيمة لها عمليا، فالقوة والقانون ليسا سوى وسيلتين يتحقق معناهما بالهدف الذي يطمح الإنسان إلى تحقيقه عبر التنظيم السياسي. 

المقاربة الاقتصادية

لا يمكن لأي أحد منا أن ينكر دور الظروف السوسيو اقتصادية في تحديد سلوك الفرد، فهذا الأخير لا يمكن أن يعيش في فراغ وفي بيئة معزولة، ومهما كانت محاولاته للانفصال عن الأفراد أو المجتمع، فسيكون مآلها في النهاية الفشل لا محال. الأمر الذي دفع بالمختصين إلى التركيز بشكل كبير على الدور الذي تلعبه البيئة بمفهومها الواسع، في تزويد الفرد بآليات التكيف مع محيطه. إذ كلما كانت هذه البيئة تتسم بالتوازن والانسجام وتحاول أن توفر لأفرادها جوا نفسيا واجتماعيا سويا، كلما ساعد ذلك في تحقيق شخصية قوية قادرة على مجابهة مختلف الصعاب. فالصراعات المتعددة وعدم توفر الجو النفسي المريح، من شأنه أن يجعل الفرد سريع التوتر غير قادر على الإدراك السليم لمحيطه، مما يجعله عرضة للاندفاع لأتفه الأسباب، مما يفسر موقف الباحثين بالتركيز على العنف والكشف عن وجوهه المتعددة، أسبابه، مساراته، وتجلياته المختلفة ولاسيما قضية العلاقة أو الارتباط بين الوضع الاقتصادي للمجتمعات أو الأفراد والميل لاستخدام العنف.  

وقد شهد مجال البحث في موضوع العلاقة بين الوضع الاقتصادي والعنف منذ منتصف التسعينيات انقساما حادا إلى تيارين أساسيين: ففي طرف، توجد النظرة "الاقتصادية" المستندة إلى نظرية الاختيار الرشيد النيوكلاسيكية، والتي ترى أن العنف ينشأ مثله مثل أي نشاط اقتصادي آخر، من محاولة الفرد وسعيه لتحقيق المنافع وتعظيمها. وعليه يحدث كل من العنف والحرب الأهلية (بشكل خاص) نتيجة للطمع والجشع أكثر من الإحساس بالظلم أو القهر. وبذلك يصبح الدافع إلى العنف والتمرد هو حجم المكاسب المنتظرة، لا حجم المظالم الواقعة التي يرغب الناس في الخلاص منها. ووفقا لهذه النظرة، فإنه حيثما تزيد فرص تحقيق الربح على التكلفة المرتبطة بالعنف والتمرد، فسوف يتجه الأفراد للعنف والتمرد وتشكيل منظمات تخوض الحرب الأهلية. وهناك من يعتبر القهر الاجتماعي من أهم مقومات العنف ليس للفرد فحسب، بل في المجتمع أيضا. إذ أن مسألة الازدراء والسخرية وتدني الظروف الاقتصادية للفرد والتي قد تتأثر كذلك بالظروف الصعبة للبلاد، قد تحول دون توفير الإمكانيات المادية التي تحقق له مستوى معيشي لائق، وبالتالي الاستقرار العاطفي والشعور بالتقبل والأمان. فكل هذه العوامل قد تؤدي إلى بروز العدوانية في الفرد ومنه الإحساس بالحقد والكراهية. كما قد تؤدي به إلى استخدام القوة للرد ورفع القهر الناتج عن هذه الوضعية، الأمر الذي دفع برجال الاقتصاد إلى اعتبار العنف: "محصلة الفجوة غير المحتملة بين إرضاء الناس لحاجاتهم المتوقعة، وبين إرضائهم لحاجاتهم الفعلية. بمعنى آخر هو الفرق بين الواقع والمتوقع من الناحية الاقتصادية".10من جهته فقد قدم بونجر Bongerنظرية اقتصادية ترى أن الجريمة في علاقة وثيقة بالحالة الاقتصادية السيئة للمجتمع، التي تنجم عن النظام الرأسمالي المستغل للأفراد، خصوصا أفراد الطبقة الدنيا الفقيرة. حيث أن العمل المرهق بأجور ضئيلة والذي يقوم به أبناء طبقة اجتماعية محددة لدى الطبقة المتحكمة في وسائل الإنتاج، يجعل الأفراد يبتاعون قوتهم الجسدية بمقابل مادي عقيم ومقابل معنوي ضئيل. وهذا العمل اللا أخلاقي والظلم الصارخ، تظهر آثاره الضارة لدى صفوة الطبقة الكادحة. لذلك نجد بونجر يؤكد بأن الحد من انتشار الجريمة لا يتحقق بوضع مصادر الثروة تحت سيطرة الدولة.11لأن الأضرار المرتبطة بالحرمان من الحقوق عن طريق الاستخدام غير العادل للسلطة، سوف يتمحور في شكل سلوكات عدائية تشير جميعها إلى الهجوم والعدوان باستخدام الطاقة الجسدية ورفض الآخرين بشتى الصور والأشكال.

أما الطرف الثاني لهذه النظريات، فقد تبنى تفسيرا مختلفا ينعته البعض بـ "النظرة السياسوية"، والتي ترى أن العنف والتمرد والإرهاب ليسوا سوى تعبيرا عن سخط الطبقة الوسطى بشكل خاص، وهي الطبقة المتعلمة التي أقصيت أو استبعدت أو حرمت من المشاركة السياسية. لذا نجد هذه الطبقة تهدف إلى التقرب من الجهات القائمة بالعنف لهذا السبب وحده دون غيره، إذ إنها طبقة ليست لديها شكاوي اقتصادية كما تدعي نماذج نظرية الاختيار الرشيد، وإنما هدفها الأسمى هو الوصول إلى الحكم بشتى الطرق، حتى وإن تطلب الأمر استخدام العنف. 

رغم أهمية العامل الاقتصادي وتأثيره الكبير في حياة فرد القرن العشرين والواحد والعشرين، إلا أنه لا يمكن اعتباره مبررا كافيا ولا الدافع الوحيد الكفيل باندلاع العنف الذي قد يسلكه الفرد في تعاملاته العامة (الأماكن العمومية) أو الخاصة (الأسرة). فكم من أسرة عانت ويلات الفقر لكنها لم تتمرد أو يسلك أفرادها طريق العنف والعدوان. وكم من أسرة ميسورة الحال لكن ذلك لم يمنع أفرادها من ممارسة العنف بشتى أشكاله. ومع ذلك يجب الإشارة إلى أن نتائج الدراسات الميدانية التي اهتمت بالعنف الأسري، تشير أن هذا الشكل من العنف ينتشر بنسبة أكبر ضمن الفئات الاجتماعية الضعيفة اقتصاديا (الفقيرة). لكن ذلك لا يعني اقتصاره عليها، فالفقر والإحباط الناتج عنه قد يوفر الظروف لبروز العنف لكنه لا يتسبب فيه.  

من جهته فإن الحرمان وحده لا يكفي لإحداث العنف وإلا فقد تصبح كل المجتمعات في حالة تمرد دائم. فالبحث لم يسفر في نهاية المطاف عن نتائج حاسمة وقاطعة حول مدى تأثير المصالح أو المشكلات الاقتصادية أو غياب العدالة الاجتماعية، في الحث على ممارسة العنف، سواء كان بين الدول في شكل حروب، أو كان بين أفراد المجتمع الواحد في شكل حروب أهلية أو ثورات أو تمرد مسلح. ويبقى شرط تفعيل العوامل الاقتصادية مرتبط بترافقها مع عدة ظروف أخرى سياسية، تاريخية أو ثقافية، لاسيما تلك المتعلقة بطبيعة نظام الحكم ودرجة تطور الثقافة السياسية، أو مستوى التطور الديمقراطي الذي تمر به البلاد، ومدى انتشار الفساد، والرشاوى، والمحسوبية... الخ. الفرضية إذن باختصار هي أن الوضع الاقتصادي يعد الشرط الموضوعي الذي قد ينمحي أثره في غياب شروط ذاتية تدفع نحو اللجوء إلى العنف كوسيلة للتغيير السياسي، أي أن العوامل الاقتصادية تعد شرطا ضروريا للحث على العنف، ولكنها لا تعد بذاتها شرطا كافيا لحدوثه.

المقاربة الإعلامية وعلوم الاتصال

تعددت الاتجاهات والمداخل النظرية المفسرة لعلاقة كل من الاتصال والإعلام بالسلوك الإجرامي والعنف. فما يرسله الإعلام من برامج ومعلومات ومواد إخبارية يتلقاها الأفراد بطريقة مباشرة ومتشابهة، يؤدي إلى إحداث استجابات فورية لديهم نتيجة تعرضهم باستمرار لهذه الرسائل الإعلامية. وترى النظريات الحديثة أن وسائل الإعلام تتمتع بقوة مطلقة على جمهورها، حيث أنها تقوم بإرسال برامجها إلى الجماهير دون أن يوجد حائل بينهما. وهذا ما يؤكد مدى قوة وتأثير وسائل الإعلام، خاصة وأن البحوث والدراسات قد أثبتت أن التعلم يكون من خلال الخبرات المكتسبة الناجمة عن التعرض المتكرر للمثيرات البيئية المختلفة.12فلا يختلف اثنان حول الآثار المتعددة للإعلام المعاصر على الفرد والمجتمع على حد السواء، ولعل أهمها قدرته على إكساب الفرد جملة من الخبرات التي تختلف في محتواها وطبيعتها، خاصة وأن عملية اكتساب الخبرات تمثل خطوة أساسية لتنمية القدرات والمهارات في التفكير.

وتتأرجح آثار وسائل الإعلام بين الإيجاب والسلب، فالتلفزيون الذي يعد الوسيلة الأكثر تأثيرا في المجتمع بصفة عامة والأطفال بصفة خاصة، دفع بالباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية إلى إيجاد تفسير ثقافي نفسي لظاهرة "جنون الأسلحة"، من خلال نتائج الأبحاث التي أكدت الدور الإيحائي الذي تلعبه البرامج التلفزيونية وخاصة الإعلام في ارتكاب الجرائم. وأشهر الحوادث التي كرست هذا الارتباط، هي حدوث عشر 10جرائم قتل منها خمس 05بالولايات المتحدة الأمريكية، تحت التأثير المباشر لفيلم "قتلة بالفطرة" للمخرج أوليفر ستون.13

ووفق اتجاه آخر، يرى مجموعة من الباحثين أن الجمهور يتكون من مجموعة من الأفراد والجماعات المنعزلة اجتماعيا فيما بينها، لا يربطهم سوى التجمعات البسيطة المتمثلة في المدرسة، النادي، الجامعة، الجمعيات أو المؤسسات الاجتماعية، لذلك تقوم وسائل الإعلام بخلق نوع من العلاقات الاجتماعية بينهم، عن طريق استقبال هؤلاء الأفراد لرسالة إعلامية موحدة، يتم نشرها بشكل انتقائي. وبذلك فالأفراد يستطيعون استخدام وسائل الإعلام كمصادر يحصلون منها على إرشادات للسلوك المناسب سواء حدث ذلك عمدا أو بدون إدراك واع.14فإذا علمنا مثلا أن مركز الإعلام والشؤون العامة الأمريكي قد أحصى 2605مشهدا للعنف في تجربة استهدفت المشاهدة العشوائية لعدة محطات تلفزيونية خلال مدة محصورة حددت بـ 18ساعة فقط.15فإن ذلك يوحي لنا ولو بفكرة متواضعة عن الآثار المباشرة أو غير المباشرة لمثل هذا التعرض الكبير، خاصة وأن الأخصائيين يؤكدون أن العنف لا يكون دائما نتيجة التعرض المباشر للمشاهد العنيفة، بل قد يحدث بشكل غير مباشر، لأن المشاهد العنيفة ثلاث أنواع: منها ما يشمل التهديد، ومنها ما يشمل السلوكات العنيفة، أما الشكل الثالث فيضم النتائج الضارة لحادثة عنف أو تأثيراتها، حتى وإن لم تظهر على الشاشة. وبالطبع فإن التعرض لكل نوع منها، له تأثيره ودرجة خطورته خاصة على الأطفال.

رغم أن معظم هذه الدراسات تؤكد على العلاقة القائمة بين مشاهدة البرامج التليفزيونية العنيفة وظهور السلوك العدواني للأطفال والكبار على حد السواء، إلا أنه لا يمكن اعتبار وسائل الإعلام وحدها مصدرا للسلوكات العنيفة، نظرا لوجود متغيرات عديدة تؤثر فيه سواء بزيادة أو خفض نسبتها. وبشكل عام فإنه لمن الصعب عزل تأثيرات وسائل الإعلام عن باقي العوامل الأخرى التي تؤثر في سلوكنا: فتأثير وسائل الإعلام كما يرى باحثون في علم النفس الاجتماعي، محدود جدا إذا ما قورن بالتأثير الذي تحدثه عوامل أخرى أطلقوا عليها تسمية "العوامل الوسيطة"  كالأسرة، اتجاهات الفرد، قادة الرأي، الأحزاب، وعوامل أخرى كثيرة تحول دون التأثير المطلق أو القوي لهذه الوسائل على الفرد.

من جهة أخرى فإنه حتى وإن وجد إجماع على الاعتراف بأهمية الإعلام في حياة الفرد الحديث (فقد أصبح من أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية)، إلا أنه لا يمكن إلقاء كل اللائمة عليه واعتباره المسؤول الوحيد على انتشار العنف في مجتمعاتنا، حتى وإن كان له دور في تطبيع مشاهد العنف والإثارة (الأمر الذي لا يمكن نفيه أو تجاهله). فيجب الا ننسى الدور الكبير الذي تلعبه هذه الوسائل بكل أشكالها في تنمية الوعي بمشكلة العنف وتأثيراتها السلبية على الفرد والمجتمع، واجتهادها في تحقيق الهدف المتمثل في تغيير سلوكات الأفراد اللامسؤولة وإكسابهم سلوك حضاري يتميز باستخدام العقل واللجوء إلى الحوار عند التعامل مع الآخرين في حل المشكلات. وكما يقول أصحاب الاتجاه المعتدل، فإن تأثير الوسائل الإعلامية على الفرد يرتبط بعوامل ومتغيرات كثيرة أهمها البعد النفسي، أي أسلوب الأفراد في التعامل مع ما تقدمه وسائل الإعلام، مما يجعل تأثيرها معتدلا نوعا ما. فمثلا آخر موضة على الشبكة العنكبوتية Internetتتمثل في نشر مواقع تصور عمليات قتل أو موت على المباشر، وبالطبع فإن مثل هذه المواقع تسجل في كل مرة أرقاما قياسية في أعداد متصفحيها، لكن ذلك لا يعني حتما أن هؤلاء المتصفحين سوف يقدمون على انتهاج نفس السلوك. 

المقاربة السيكولوجية

لقد كانت لأعمال سيجموند فرويد Sigmund Freud  وهو أب التحليل النفسي، الأثر الكبير في تقدم هذا التخصص من جهة، وفي تطوير التحليلات المفسرة لظاهرة العنف من جهة أخرى. حيث نجده يقسم الجهاز النفسي إلى ثلاث أقسام: "الهو" القسم الذي يحوي الميول والاستعدادات الفطرية والموروثات والنزعات الغريزية والذي يطلق عليه اللاشعور. والقسم الثاني "الأنا" وأطلق عليه الشعور أو الجانب العاقل من النفس الذي يرتبط بالواقع ويصارع النزعات الغريزية، العادات، التقاليد والمبادئ الاجتماعية. وأخيرا "الأنا الأعلى" وأطلق عليه "الضمير، وهو الجانب المثالي من النفس البشرية. فهو يحوي القيم الدينية، الأخلاقية والمبادئ السامية.16ووفقا لهذا التقسيم يصبح السلوك العنيف والإجرامي، ليس إلا نتيجة للصراع الذي يحدث للفرد عند عجز "الأنا" تكييف الميول والنزعات الغريزية مع متطلبات عادات وتقاليد الحياة الاجتماعية، فيتم كبتها في اللاشعور. أو كذلك عند غياب الضمير "الأنا الأعلى" أو كذلك عجزه عن أداء وظيفته في الرقابة والردع. وفي كلتا الحالتين تنطلق الرغبات التي تلتمس الإشباع عن طريق السلوك الإجرامي.17

ولا يقتصر علم النفس في تفسيره لظاهرة العنف على التحليل الفرويدي الذي كان يعتبر العدوان أمرا فطريا أصيلا في بني آدم، بل هناك توجهات ونماذج أخرى ظهرت خلال القرن العشرين أهمها النموذج الذي يعتبر العنف والسلوك الإجرامي مهنة يتعلمها الطفل في البيئة المحيطة به، من خلال المحاكاة لأهله وعشيرته أو كذلك أصدقاء السوء. وبذلك يصبح العنف خلقا يتطبع عليه الفرد اجتماعيا منذ الصغر. فالطفل الذي يعيش في وسط عنيف يتبنى القسوة والاستهتار وعدم التقيد بالمعايير الاجتماعية والأعراف، فلا يجعل لها وزنا يذكر في التعامل مع الآخرين ويكون سلوكه متصفا بالنزعة العنيفة، فيعبر عن طلباته بطرق فيها الكثير من الغلظة والشدة، فيصبح بذلك العنف سلوكا طبيعيا خاصة أن جل الدراسات النفسية تؤكد على مفهوم المحاكاة والتقليد الذي يعد عاملا أساسيا في نمو الطفل. فحسب رأي العالم وليم ماك دوجل Mc Dogalفإن السلوك الإجرامي العنفي ليس إلا نتيجة للمظاهر الطبيعية غير المقيدة للدوافع الغريزية.18وبذلك يصبح العنف نتيجة لطاقة غريزية زائدة عن المعتاد، لم تجد من يكبحها.

وهناك من يفسر العنف على أنه نتيجة للصراع الذي يستقر في نفوس الأفراد لدرجة أنهم يعجزون عن اتخاذ موقف لحسمه، ويؤدي الإحباط الناجم عن هذه الحالة إلى ظهور العنف، وبذلك فإن كل عنف يسبقه موقف إحباطي. فبدراسة نمو الطفل نجد أن أي حاجز يحول دون تحقيق إشباع لرغباته البيولوجية وحاجاته الغريزية، يولد لديه الشعور بالإحباط ويؤدي به إلى انتهاج سلوك عدواني كتحطيم اللعب مثلا. وقد يستمر هذا السلوك مع الطفل ويترسخ فيه أكثر فأكثر، إذا ما وجدت الظروف المعززة لذلك. ويدمج ضمن هذا التوجه كذلك نظرية المهمشين التي تؤكد أن البيئات الهامشية تحبذ ظهور مثل هذا السلوك، فالأحياء الهامشية التي تنشأ بضواحي المدن والقرى وتعاني من إهمال الدولة، يتولد لدى قاطنيها الشعور بالتجاهل، وبالتالي فإن شعورهم بالحرمان والضعف من شأنه أن يولد في نفسيتهم الرغبة في الانتقام، الذي لا يكون إلا عن طريق العنف. فهم يشعرون بأنهم محبطون ومكبوتون وتصبح وسيلتهم اللاشعورية في تفريغ هذا الكبت هي الجريمة.19وهذا ما أكده الفرد آدلر  Alfred Adlerحين قال أن العنف هو بمثابة استجابة تعويضية عن الإحساس بالنقص والضعف.

مهما تكن تفسيرات علماء النفس للعنف، فمن الضروري الإشارة إلى كونها غير كافية لتسليط الضوء على هذه الظاهرة، وذلك لعدة اعتبارات تتعلق بهذه التفسيرات. فمثلا نلاحظ أن تيار التحليل النفسي يعتبر العنف استجابة طبيعية، ورغم الوضوح الذي يتميز به هذا التحليل، إلا أنه ما يعاب عليه هو عدم استناده إلى بيانات مستقاة من الواقع، فهي تفسيرات مقامة أساسا على مجموعة من المسلمات والمقولات التي لا يمكن اختبارها وتعريضها للتجربة أو مقارنتها بوقائع، لأنها طورت في شكل مقولات فلسفية ولم تبن على ضوء بيانات يمكن ملاحظتها. فالقول بأن العدوان لا تحركه إلا دوافع غريزية يجعلنا نتوقع نفس الاستجابة من مختلف الأفراد الذين يتعرضون لنفس المثيرات، وهذا لا يحدث في الواقع.20كذلك الحال بالنسبة للتفسيرات المركزة على إثبات وتأكيد علاقة العنف والعدوان بالإحباط، حيث يتوقع أن يعبر الفرد بنفس الاستجابة كلما تعرض إلى إحباط، ويصبح رد الفعل وفق هذا التفسير عبارة عن استجابة آلية وكأن الفرد لا يفكر ولا يقدر على ذلك وهذا كذلك لا يحدث في الواقع. فالآراء الأكثر حداثة في هذا المجال تؤكد عدم ثبات هذه العلاقة، كون الإحباط لا يؤدي دائما إلى ممارسة العنف، كما أن العدوان لا يأتي دائما نتيجة للإحباط. فليس كل محبط عنيف وكذلك ليس كل عنيف محبط، لأن هذه العلاقة تتأثر بشكل كبير بالخبرة الفردية والتعلم والثقافة والتدريب.

من جهتها فقد بينت الدراسات الحديثة أن العدوان موجود بداخل كل فرد منا، فهو بذلك يصبح أمرا طبيعيا بل وضروريا بالنسبة للفرد حتى يعيش حياة سليمة. لكن ذلك لا يعني أن هذا العدوان سوف يؤدي حتما بصاحبه إلى انتهاج سلوكيات عنيفة، وإلا أصبح كل البشر عنيفين وهذا خطأ. كما أن الفرد بحكم وجوده ضمن جماعة وداخل مجتمع، فإنه لا يمكن حصر تفسير مثل هذه الظاهرة على جانبه الداخلي النفسي والانفعالي، وإهمال تأثيرات العوامل الخارجية والبيئية التي ينمو ويعيش فيها، كالتمييز والاختلافات الاجتماعية والاقتصادية، أو كذلك الإكراهات الثقافية التي تفرض عليه. فمثلا على المستوى الفردي فإن التربية السيئة للفرد منذ الصغر والإهمال وعدم الرعاية بإمكانها أن تكون مصدرا للعدوان. كما أن الأزمات طويلة الأمد على المستوى المجتمعي العام كالأزمات الاقتصادية والاجتماعية وما تتسبب فيه من معاناة جماعية وإحباط، قد تؤدي في لحظات ما إلى العنف الشامل، وبالتالي فإن التحكم بهذه العوامل والسيطرة عليها ممكن أن يؤدي إلى الحد من العنف.

المقاربة التربوية

التربية من العناصر الأساسية التي يتم بها تأهيل الفرد للاندماج والتكيف مع وسطه الاجتماعي، فهي المنبع الذي يتعلم من خلاله الفرد كيف يتكيف مع مجتمعه المباشر وغير المباشر. كما أنها العملية التي يتم بها دمج ثقافة المجتمع في الفرد ودمج الفرد في ثقافة المجتمع. وعليه فإن التربية هي التي تربط بين الفرد، الثقافة والمجتمع. من جهة أخرى ومن خلال سيرورة التنشئة الاجتماعية، فهي التي تتكفل بتحويل الفرد من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي. هكذا يصبح للتربية دورا حساسا في بناء الشخصية الاجتماعية للفرد، خاصة إذا علمنا أن بعض الممارسات المدرسية سواء صدرت عن المعلمين، المراقبين أو التلاميذ، من شأنها أن تولد لدى الفرد سلوكات عنيفة قد تكون آنية أو متباعدة في الزمن.

ففي بعض الأحيان تصدر عن المدرس أو المراقب أو حتى الإدارة جملة من السلوكيات التي تخلق لدى الطفل درجة من الإحباط والشعور بالدونية وعدم الأهمية، من خلال تعرضه لبعض الأساليب التي تعتمد على التخويف والتهديد وحتى الضرب. بالإضافة إلى أن اعتماد بعض الأساتذة على طرق تدريس تقليدية بعيدة عن كل حيوية، من شأنها أن تجعل من الفصل الدراسي أداة منفرة مؤدية إلى التوتر النفسي، ومصدرا للقلق أكثر منها فضاء تربويا. وقد يكون لبعض أساليب الأساتذة في التعليم الآثار الخطيرة على نفسية الطفل، خاصة إذا كان يشوبها نوع من التفضيل غير الموضوعي بين التلاميذ أثناء عمليات تقويم وتقدير منجزاتهم وأعمالهم، مما قد يولد في نفسية الطفل الإحساس بالقلق والنقص، ينتج عنه إفراز ردود فعل مختلفة تبدأ بالانطواء لتنتهي باستخدام العنف سواء مع الزملاء أو حتى مع المدرسين.21نشير هنا إلى كون وسائل الإعلام وخاصة منها المكتوبة، ما فتأت في السنوات الأخيرة تنقل لنا حوادث عن حالات عنف تقع في الوسط التربوي وصل فيها البعض إلى حد القتل.

من المظاهر الشائعة كذلك في المجتمع، انتشار استعمال القمع والتسلط والإكراه في التربية، حيث تقوم هذه الممارسة على المبدأ القائل أن الطفل ليس له القدرة على تحديد ما يصلح له، بل يجب أن يخضع بشكل كلي لرغبة المدرس، الشيء الذي يتناقض والمبدأ الأساسي للتربية الحديثة المؤكد على ضرورة احترام شخصية المتعلم واعتبارها مركز أي عملية إعداد وتكوين، بهدف خلق روح الابتكار والإبداع. وفي هذا الإطار يقول فروق خورشيد: "إن تلاميذنا يعيشون جملة من الضوابط المتناقضة، مما تجعلهم غير قادرين على تحقيق توازنهم النسبي والاجتماعي. وهذا ما يؤدي في بعض الأحيان إلى ظهور السلوك العنيف لديهم. ومن بين هذه التناقضات، نجد الازدواجية اللغوية، الفكرية والاجتماعية. وهذه الازدواجيات تؤثر سلبا على بنتيهم العقلية، السلوكية والانفعالية.22فبعض الدراسات تشير إلى أن نسب جنوح الأحداث الناتجة عن العنف، تزداد بمقدار سبعة أضعاف بين الأطفال الفاشلين دراسيا مقارنة مع الأطفال الأسوياء غير الفاشلين.

من جهتها تعتبر نظرية التعلم الاجتماعي إحدى أهم النظريات الحديثة المفسرة للعنف الذي قد يسلكه الأفراد حيث توضح أن العنف يتم تعلمه بتوفر مجموعة من الظروف الخاصة، وتنقد أي طرح يعتبر العنف والعدوان ظاهرة فطرية ترتبط بالغرائز. كما تؤكد  على خطورة انتقال مثل هذه السلوكات من جيل لآخر حيث أشارت في كثير من دراساتها إلى كون معظم المسيئين لزوجاتهم قد تعرضوا لشكل من أشكال الإساءة في طفولتهم، كما أنهم أكثر إساءة لأطفالهم إذ يؤكدون لجوءهم لاستخدام العنف ضد أبنائهم في حالة عدم طاعتهم للتعليمات الموجهة لهم. ووفق هذا الطرح، فإنه يمكن التخفيف من حدة هذه الظاهرة باقتراح إمكانية تقوية عامل الكبح على حساب دافع التعبير، ويكون ذلك من خلال برامج التنشئة الاجتماعية التي يمكن أن توجه نحو تقوية الرغبة لدى الفرد لحجب أو إعلاء أو كبح مؤشرات أو مكونات التوتر الذي يقود إلى إثارة العدوان.23وعليه يتم تخفيض درجة الإثارة لدى الفرد، عن طريق تزويده بالمعارف والخبرات التي تضمن له إشباع حاجاته الأساسية بالوسائل السليمة أولا والتعبير بصراحة على ما يقلق باله بشأن طرق الإشباع ثانيا. والملاحظ أنه قد أعيد طرح أفكار هذه النظرية من طرف الذين يعارضون فكرة سجن الرجال العنيفين وهم يتساءلون عن جدوى هذه العملية خاصة وأن السجن يعتبر مدرسة للعنف أكثر منه مؤسسة لعلاجه، مما يدفع للتساؤل عن كيفية مساهمة هذه المؤسسة في القضاء على هذه الظاهرة وحل مشاكل الأفراد. وفي محاولة لنقد هذا الطرح، نجد دنكوورت Dankwortيعاتب على الفاعلين الاجتماعيين الموالين لهذه النظرية حيادهم التام وعدم إصدارهم لأي حكم على الأفعال والسلوكات التي ينتهجها الفرد العنيف، ظنا منهم أن ذلك سوف يساعده على قبول التغيرات مما يؤدي به إلى علاجه. وهذا خطأ وفق نفس الباحث لأن كل هذه المواقف سوف تزيد من إحساسه بالأمان مما قد يدفع به إلى التمادي في سلوكه.24فرغم الدور الكبير الذي تلعبه التربية وأساليبها في بناء شخصية الفرد ورغم أهمية "نظرية التعلم الاجتماعي"، فإن ذلك لا يعني حتمية هذه العلاقة، حيث لا يوجد فرد منا لم يتعرض في حياته للعنف إما بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن ذلك لم يجعل منا أفرادا عنيفين. الأمر الذي يؤكد تعقيد ظاهرة العنف التي لا يمكن ربطها بعامل التربية فحسب.

كما يمكننا أن نقر بإمكانية أن يكون الإنسان عنيفا متى تواجد في مجتمع يعتبر العنف سلوكا مسموحا وممارسة متفق عليها ولو كان ذلك بشكل ضمني، وما هذه الفكرة إلا تأكيد لفكرة أخرى مفادها أن " العنف ينتج العنف ". فإذا كانت البيئة خارج المدرسة عنيفة فإن المدرسة ستكون بدورها عنيفة. كما أن التلميذ ضحية عنف أهله والمجتمع المحيط به، سيلجئ إلى تفريغ مكبوتاته في شكل سلوكات عدوانية تجاه زملائه أو حتى تجاه معلميه بغاية رد الفعل ولفت الانتباه. فرغم أنه في زمن ليس بالبعيد كان ينظر للمدرسة بشكل من التقديس والاحترام، إلا أنه قد صار من الضروري أن نعترف أننا أصبحنا في وقت ينظر فيه لوظائف المدرسة بشكل مغاير، فهي لم تعد ذلك الكيان المقدس والمحصن من كل ما يشوب محيطها من تحولات وهزات، كما أن تلاميذها ليسوا بالضرورة رواد علم ومعرفة. فهم نتاج المجتمع وما يفرزه من قيم وممارسات مرجعية. وبما أن العنف المدرسي كأي سلوك آخر يتشكل وفق صيرورة حضارية وثقافية متغيرة باستمرار تتصرف إزاءه المجتمعات وفق قيمها ومرجعياتها المختلفة، كان من الضروري الإشارة إلى أنها (المجتمعات) تتسم بكثير من الحراك والتطور في مستوى تكييفها للفعل العنيف وللطرق والآليات الكفيلة بمعالجته. فإذا كانت الشدة والحزم هي الغالبة في مواجهة العنف قديما، فإن المقاربات الحديثة تميل أكثر نحو مزيد من الفهم والتفهم والتواصل والتوعية.     

المقاربة السوسيولوجية

يعيد الباحثون الاجتماعيون ظاهرة العنف إلى البيئة الاجتماعية والظروف التي يعيشها الفرد الفاعل، كما يذهب إلى ذلك هربرت ماركيوز الذي يربط العنف بطبيعة النظام الرأسمالي، حيث يرى أن العنف يظهر في العدوانية المتراكمة التي تسود كل أوجه النشاط الرأسمالي الاحتكاري. كما يلاحظ إريك فروم أن الطفل الخاضع لأوامر أبيه الصارم يسيطر عليه الخوف لدرجة أنه لا يستطيع مخالفته، لكنه في حقيقة الأمر يكيف نفسه مع ضروريات الموقف ظاهريا وفي الداخل تتولد لديه مشاعر العداوة ضد أبيه غير أنه يقهرها ويكبتها. وسرعان ما يصبح هذا الكبت عاملا ديناميا في بناء الشخصية، ويؤدي إلى نشوء قلق جديد وخنوع أعمق نحو الأشياء والعالم المحيط به.25

فحسب الاتجاه الوظيفي تحدث ظواهر الانحراف والسلوك المنحرف على الخصوص، عند عدم القدرة على تجاوز الاختلال الوظيفي الذي يحدث بين الوحدات والعناصر المكونة للبناء الاجتماعي. أي أن العنف يرتبط ارتباطا أساسيا بالبناء الاجتماعي وليس بالأفراد، كما يدل على ذلك إميل دوركايم Durkheim E.. فهو يشير إلى أن هذه الظواهر تظهر من خلال الأفراد لأنها تتخللهم كأداة للتعبير عن نفسها، فهي تعتمد على مدى تفكك أو تماسك وحدات هذا البناء الاجتماعي. وقد أشار إلى أن ظواهر الانحراف هي أفعال تتضمن معنى انعدام الشعور بالتضامن الاجتماعي لدى الأفراد. وهي بدورها تصدم الضمير الجمعي، تنتهكه، وتهدد التماسك الذي يعد الوجود الحقيقي للمجتمع.26انطلاقا من فكرة مشروعية السلوك أو عدم مشروعيته التي تكتسب انطلاقا من السياق الاجتماعي الذي يحدث فيه، يصبح الأفراد المسالمون قادرين على الاندفاع للقيام بأفعال همجية قد لا ترتضيها فرديتهم، شرط أن يتم ذلك في إطار جماعي. وقد أشار دوركايم.Durkheim Eإلى أنه ليس من الضروري أن تكون الظاهرة سوية حتى يستفيد منها المجتمع وظيفيا، بل "إن الجريمة ظاهرة طبيعية صحية وضرورية مرتبطة بالشروط الأساسية لكل حياة اجتماعية. وعلى ذلك فهي ظاهرة مفيدة تمكن المجتمع من تحقيق التطور الطبيعي للأخلاق والقانون".27هكذا يصبح للجريمة وظائف إيجابية مهمة، تكمن في تقوية النظام الأخلاقي والضمير الجمعي، كونها تدفع بالأفراد إلى فهم وإدراك أهمية القوانين التي يتم انتهاكها.

أما بارسونز Parsons T. فيرجع ظهور السلوك المنحرف إلى الاختلال في التوازن الذي يكون سببه بالدرجة الأولى صراع الأدوار وكل ما يشمله من صعوبات يقابلها الفرد في القيام بالدور المتوقع منه في المراكز المختلفة التي يوجد فيها خلال أوقات حياته. فكلما كانت قيم الأدوار المختلفة أكثر تداخلا واندماجا، تعرض الفاعل لصراع داخلي قد يؤدي به إلى الهروب، الكتمان أو إعادة تحديد الموقف. والمقصود بالدور هنا، تلك التوقعات التي يكونها الآخرون عن السلوك، أو مجموعة القواعد التي تحكم وضعا معينا في البناء الاجتماعي. وتشتمل هذه التوقعات على كيفية معاملة الفرد للآخرين أثناء تأديته لدوره وتوقعاته عن سلوك الآخرين تجاهه. وأي انحراف طفيف في السلوك قد يؤدي إلى الخلل.28هكذا يصبح كل خلل في الدور ينشأ عنه توتر وتفكك في النسق، الذي يفرز بدوره عنفا. هذا الأخير الذي يعتبره الوظيفيون ذا دلالة داخل السياق الاجتماعي، لأنه قد يكون نتاجا لفقدان الارتباط بالجماعات الاجتماعية التي تنظم وتوجه السلوك. كما قد يكون نتيجة اللامعيارية وفقدان التوجيه والضبط الاجتماعي الصحيح، المؤدي إلى ظهور العنف والجريمة.29

ووفق توجه آخر يرى ماركس في نظريته للصراع أن طبيعة المجتمع تتمثل في كونه نظام ينهض على أساس شكل من أشكال التوازن للقوى بين الجماعات والتنظيمات المتعارضة والمتصارعة. وحيث أن الطبيعة الإنسانية تتميز بالسلبية إلى حد كبير، فإن أغلبية الناس محكومون بواسطة القلة. وبحكم قلة امتيازات الثروات وعدم العدل في توزيعها، تتطور خاصية التنافس والصراع الذي يعتبر الميكانيزم الأساسي في النسق الاجتماعي، والمحرك الرئيسي للسياق الاجتماعي العام.30وقد اتفق الرواد المعاصرون للاتجاه الماركسي أمثال رايت ميلز Mills R. وغيره على الوظائف التكاملية للصراع، بوصفه يؤدي إلى التكامل الاجتماعي وليس إلى التفكك والتحول. وقد اعتبروا العنف سلاحا يستخدم في الحرب بين أي طرفين حتى الرجل والمرأة، كونه يمثل أحد وسائل السيطرة، القهر والإلزام. وقد عرف كوزر Cozerالصراع بأنه عملية اجتماعية ضرورية لفهم العلاقات الاجتماعية، واعتبره نضالا وكفاحا حول القيم، المكانات ومصدر القوة. الأمر الذي يتفق مع ما دل عليه سيمل  Simmelمن قبله حين اعتبره عملية من عمليات التفاعل الاجتماعي. كما اتفق معه كوزر Cozerعندما أشار إليه بأنه يساهم في إقامة الوحدة والاتساق داخل الجماعة المهددة بالمشاعر العدائية بين أعضائها.[...] فالصراع الذي تمارسه المجتمعات خاصة المجتمعات المفتوحة البناء، يخفف أولا من حدة التوتر بين أطرافها المتصارعة، ويعمل على تقليل أسباب التفكك وإعادة الوحدة والترابط.31هكذا يستمر الصراع بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية ليعيش المجتمع في تغير مستمر. ويصبح على ذلك القهر والإلزام هما الوسيلة الأساسية لتحقيق التضامن الاجتماعي، مما يكرس سيطرة الطابع الإلزامي على كافة أنواع الحياة الاجتماعية. فالقهر شيء عادي ومألوف في حياة كل مجتمع.32

أما النظريات الحديثة فهي تركز في دراسة العنف على التناول غير التقليدي لهذه المشكلة الاجتماعية وما يرتبط بها من أطر تصورية ومصطلحات جديدة، مع التركيز على القضايا التي تبرز تأثير العنف (خاصة العنف الجسدي) على الضحايا، لكن من الجانب الانفعالي والعاطفي لها. ومن أهم هذه النظريات نجد النظرية الظاهراتية (الفينومينولوجية) التي تركز على الخبرة الذاتية للحياة اليومية للمرأة الضحية أو الطفل الضحية، من خلال اهتمامها بمجموعة من القضايا كالقصدية في الوعي باعتبارها موجها نحو العنف، أو كذلك التحليل الاجتماعي للاستعدادات الداخلية للأفراد، كاحترام الذات، الخضوع، الدافع الأبوي، والميل إلى الصراع...إلخ. فهي تهتم بدراسة العنف والعدوان من خلال الخبرة الشعورية للفرد الذي يتعرض له، وليس من خلال الانعكاسات الظاهرية الملموسة للعنف كالسلوك.

أما النظريات النسوية الماركسية والراديكالية فقد طورت مدخلا نظريا جديدا أطلقت عليه تسمية "نموذج النوع "  Le Modèle du Genreلتوضيح الفوارق الملحوظة بين المكانة الاجتماعية لكل من الرجل والمرأة في المجتمع والعنف الذي ينتج عنها. حيث ترجع الاختلاف في الأدوار بين كل واحد منهما إلى الثقافة السائدة، من خلال عملية التنشئة الاجتماعية وليس من خلال الخصائص البيولوجية. فأصحاب هذا الاتجاه يرون أن العلاقات الاجتماعية في جميع المجتمعات مبنية على سيطرة الرجل وتقوم على أساس التقسيم النوعي اللاطبقي، الأمر الذي يؤدي إلى رؤية المجتمع الحديث من المنظور الأبوي القديم، ويجعل الأسرة لا تتشكل إلا بناء على أوامر أبوية، ويستمر ذلك عبر التنشئة الاجتماعية للأطفال، التي تبنى على أساس يدعم التباين النوعي للأدوار. وبذلك كان على المرأة أن تكافح كي تنشئ نظاما اجتماعيا مبنيا على المساواة في النوع.33

الخاتمة

لقد مكنتنا عملية طرح أهم المقاربات التي عالجت موضوع العنف من ملاحظة كيف أن محاولات تحديد مفهوم العنف وتفسير الظاهرة العنفية قد اختلفت وتعددت باختلاف التخصصات والاهتمامات، فكل واحد يحاول التركيز على جانب اهتمامه وموضوع دراسته دون غير. وفي هذا السياق نجد أن علماء الاجتماع بالرغم من عدم تجاهلهم لمقولات علم النفس والطب النفسي والبيولوجيا عن الأسباب التي تكمن وراء ظاهرة العف، إلا أنهم قد ركزوا هم كذلك على العوامل الاجتماعية دون غيرها. حيث نجد اتجاهان رئيسيان في التفسير السوسيولوجي للعنف: الأول يتم في ضوء النظرية الكبيرة المدى Macro théorieالتي تتجه إلى تحليل ظروف المجتمع وترى العنف وكأنه استجابة غير مباشرة للبناء الاجتماعي، سواء بسبب الإحباط الناتج عن الضغوط الاجتماعية الشديدة والفرص غير الملائمة، أو بسبب الفوضى وعدم النظام الذي ينتج عنه خلل في أساليب الضبط الاجتماعي. أما التوجه الثاني في التفسير، فهو ما يطلق عليه النظرية الصغيرة المدى Micro théorieالتي تتعامل مع الأفراد والجماعات الصغيرة، وتركز على إطار التفاعل الاجتماعي المتعلق بالفرد الممارس للعنف نفسه، حتى تتمكن من تسليط الضوء على الأساليب التي يتم من خلالها تعلم العنف من الآخرين.

   ‘لى ضوء ما تقدم يمكن اعتبار العنف بوصفه ظاهرة فردية أو مجتمعية، تعبير عن خلل ما في سياق مرتكبه سواء على المستوى النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، يدفعه نحو استخدام العنف، متوهماً أن هذا الخيار سيوفر له كل متطلباته أو يحقق له كل تطلعاته وأهدافه. وفي حقيقة الأمر إن استخدام العنف والقوة في العلاقات الاجتماعية تحت أي مبرر كان، يعد انتهاكاً صريحاً للقواعد الاجتماعية التي حددت نمط التعاطي والتعامل في هذه العلاقات. وحيث أنه يحدث داخل سياق اجتماعي كبير ومعقد، فهو ظاهرة لا تقبل التبسيط ولا يمكن في أي حال من الأحوال التقليل من شأن الظروف المجتمعية، النفسية، البيئية وحتى البيولوجية التي يمكن أن تشجع أو لا تشجع عملية التعبير عن نوع معين من السلوك. لذلك جاءت هذه المداخل النظرية المتعددة لتتكامل محاولة بذلك إلقاء الضوء على مختلف جوانب العنف الاجتماعي. فالمتأمل في مختلف المداخل النظرية المطروحة أعلاه، حتما سوف يحتار في اختيار أفضلها وأصلحها لتفسير ظاهرة العنف، ذلك أن كل واحدة منها قد أصابت في تفسيرها وتحليلها رغم الانتقادات الموجهة لها. من جهة أخرى يجب علينا الاعتراف بمحدودية هذه التفسيرات وصعوبة إعلان أحقية نظرية بالتفسير دون الأخرى، مما قد لا يترك أي مجال لحدوث إجماع حول الظاهرة.

   ورغم أن مهمة إحداث الإجماع قد تكون صعبة وتكاد أن تدرج ضمن المهام المستحيلة، إلا أن ذلك قابل للحدوث (حسب رأينا)، من خلال البحث والعمل على بناء نظرية متعددة الأبعاد Multi Factorielle، تسمح بتناول هذه الظاهرة بالدراسة من كل الجوانب التي كانت قد تعرضت لها المداخل السابقة الذكر على انفراد، وذلك من خلال تناولها في وقت واحد وضمن نفس التفسير. فكما سبق وأن رأينا إن العنف يختلف في مظاهره ومسبباته، مما يصعب من قدرات الباحث في تحديده وتفسيره نتيجة تأثير عوامل ومتغيرات مختلفة قد حاولنا إدراجها في هذا المقال. لكن ما يجب التركيز عليه بالدرجة الأولى، هو محاولة التشخيص الجاد لما يحدث في مجتمعنا وفقا لواقعنا وظروفنا، وهذا لا يمكن أن يحدث في غياب أجهزة مسئولة ومهتمة بالظاهرة بصفة دورية ومستمرة. فعلى سبيل المثال لا يمكن ترك الإحصائيات والأرقام الخاصة بالعنف مغيبة الآن.

1. فتحي حسين عامر؛ 2006؛ "جرائم الأسرة: بداية الانهيار"؛ مركز الحضارة العربية؛ القاهرة؛ ص 08.

2. عبد الرحمن محمد العيسوي؛ 2001؛ "مجالات الإرشاد والعلاج النفسي"؛ ط1؛ دار راتب الجامعية؛ بيروت؛ ص– ص 131– 132.

3.طه عبد العظيم حسين؛ 2008؛ "إساءة معاملة الأطفال: النظرية والعلاج"؛ ط1؛ دار الفكر؛ الأردن؛ ص 97.

4.بلقاسم سلاطنية وسامية حميدي؛ 2008؛ "العنف والفقر في المجتمع الجزائري"؛ دار الفجر للنشر والتوزيع؛ القاهرة؛ ص 26.

5. كاظم الشبيب؛ 2007؛ "العنف الأسري: قراءة في الظاهرة من أجل مجتمع سليم"؛ المركز الثقافي العربي؛ بيروت؛ ص- ص 96-97.

6.نفس المرجع؛ ص 97.

7.سورة المائدة: آية 32.

8.أحمد جلال عز الدين؛ 2002؛ "الإرهاب والعنف السياسي"؛ المكتبة الأنجلو المصرية؛ القاهرة؛  ص 322.

9.محمود سعيد الخولي؛ 2006؛ "العنف في مواقف الحياة اليومية: النطاقات والتفاعلات"؛ دار مكتبة الإسراء؛ القاهرة؛ ص 38.

10.نفس المرجع؛ ص 40.

11. سامية حسن الساعاتي؛ 1982؛ "الجريمة والمجتمع: بحوث في علم الاجتماع الجنائي"؛ ط1؛ المكتبة الأنجلو المصرية؛ القاهرة؛ ص- ص 116-117.

12.محمد عبد الحميد؛ 1997؛ "نظريات الإعلام واتجاهات التأثير"؛ ط1؛عالم الكتب؛ القاهرة؛ ص- ص167-174.

13.مصمودي زين الدين؛ "مدخل نقدي لتفسير ظاهرة العنف من خلال: التنشئة الاجتماعية بين تبريرات الواقعوالنموذج المعياري"؛ في: المجتمع والعنف: مداخل معرفية متعددة؛ أعمال الملتقى الدولي الأول 09-10مارس 2003؛ جامعة محمد خيضر بسكرة؛ ص- ص 52-53.

14.سوزان القليني؛ 1998؛ "الاتصال ووسائله ونظرياته"؛ دار النهضة العربية؛ القاهرة؛ ص- ص 161-162.

15. مصمودي زين الدين؛ مرجع سابق؛ ص 53.

16.  أحمد زايد؛1984؛ "علم الاجتماع بين الاتجاهات الكلاسيكية والنقدية"؛ ط2؛ دار المعارف؛ القاهرة؛ ص 138.

17. فرانك بي وليامز ومادلين ديماشانس؛ 1994؛ "السلوك الإجرامي: النظريات"؛ ترجمة: عدلي السمري؛ دار المعرفة الجامعية؛ الإسكندرية؛ ص 79.

18.  سامية حسن الساعاتي؛ مرجع سابق؛ ص- ص 11- 119.

19. إقبال السمالوطي؛ "العنف نحو المرأة والطفل"؛ في: المؤتمر السنوي الثاني: الجمعية المصرية للنزاعات الأسرية؛ القاهرة؛ أفريل 1997؛ ص 145.

20.مصطفى عمر التير؛ 1997؛ "العنف العائلي"؛ أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية؛ الرياض؛ ص 31.

21. مصمودي زين الدين؛ مرجع سابق؛ ص49.

22. فاروق خورشيد؛ 1991؛ "هموم كتاب العصر"؛ دار الشروق؛ بيروت؛ ص 64.

23.مصطفى عمر التير؛ مرجع سابق؛ ص 38.

24.  Dankwort Jurgen; "Une conception alternative de la violence conjugale: Vers une intervention efficace auprès des hommes violents"; in: Service Social: par delà les Barrières des sexes; Québec; vol 37; n° 1et 2; 1988; P-P 188- 120.

25. أحمد الأصفر؛ "بنية الثقافة العربية وانتشار ظاهرة العنف في المجتمع العربي"؛ في: العنف والمجتمع: مداخل معرفية متعددة؛ أعمال الملتقى الدولي الأول 09-10مارس 2003؛ جامعة محمد خيضر بسكرة؛ ص- ص65- 66.

26. علي ليلة؛ 1982؛ "البنائية الوظيفية في علم الاجتماع والانتربولوجيا: المفاهيم والقضايا"؛ ط1؛دار المعارف؛ القاهرة؛ ص- ص 103- 104.

27.علي ليلة؛ 1990؛ "النظرية الاجتماعية المعاصرة: دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع: الأنساق الكلاسيكية"؛ ط3؛دار المعارف؛ القاهرة؛ ص 269.

28.محمد الجوهري؛ 1992؛ "علم الاجتماع: النظرية والموضوع والمنهج"؛ ط1؛دار المعرفة الجامعية؛ الإسكندرية؛ ص 311.

29.علي ليلة؛ "النظرية الاجتماعية المعاصرة: دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع: الأنساق الكلاسيكية"؛ مرجع سابق؛ ص 182.

30.محمود عودة؛ دون تاريخ؛ "أسس علم الاجتماع"؛ ج1؛ دار النهضة العربية؛ بيروت؛ ص 136.

31. أحمد زايد؛ مرجع سابق؛ ص-ص 166- 163.

32.محمد الجوهري؛ مرجع سابق؛ ص 183.

33. إجلال إسماعيل حلمي؛ 1999؛ "العنف الأسري"؛ دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع؛ القاهرة؛ ص- ص 49- 66.


@pour_citer_ce_document

غزالة ابن فرحات, «إشكالية العنف: دراسة في أهم المقاربات النظرية »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ,
Date Publication Sur Papier : 2016-10-08,
Date Pulication Electronique : 2016-10-08,
mis a jour le : 17/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=1550.