التأويل في الفلسفة الحديثة والمعاصرة ومنطق التعامل مع إبهام المقدس الديني من منظور بول ريكورReading in Modern and Contemporary Philosophy and the Logic of Dealing with the Sacred Religious Thumb from Paul Ricoeur’s Perspective
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°26 Vol 15- 2018

التأويل في الفلسفة الحديثة والمعاصرة ومنطق التعامل مع إبهام المقدس الديني من منظور بول ريكور

Reading in Modern and Contemporary Philosophy and the Logic of Dealing with the Sacred Religious Thumb from Paul Ricoeur’s Perspective
pp 130-140

وليد بن هلال
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يأتي هذا المقال للبحث في مفهوم التأويل وقيمته في الفلسفة الحديثة والمعاصرة وكذا تعامله مع المقدس الديني من زاوية نظر تأويلية عند أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين الفرنسي بول ريكور، كما حاولنا الوقوف في هذه الدراسة  على دلالات التأويل أو التوظيف المنهجي المزدوج للهرمينوطيقا في فهمها للظاهرة الدينية أو الدين كظاهرة، أي بين الـتأويل بوصفه كاشفا للوهم وللشُبْهَة والذي يستند بالأساس إلى الشكاك الجدد(ماركس- نيتشه- فرويد) من ناحية، وبين التوظيف الآخر للتأويل الذي يستمد مشروعيته من إحياء واستعادة المعنى الديني مجددا، والذي لن يتأتى إلا بالاستعانة بالرؤية الفينومينولوجية للدين (مرسيا إلياد- موريس لينهارد-فان درليو) من ناحية أخرى.   

الكلمات المفتاحية: هيرمينوطيقا الارتياب: العصر الـتأويلي للعقل: فينومينولوجيا المقدس: الـتأويل الفلسفي: الانتقاد والاعتقاد.

Cet article propose de discuter le concept d'interprétation et sa valeur dans la philosophie moderne et contemporaine, ainsi que sa relation avec le religieux sacré chez Paul Ricœur. Nous avons tenté de nous focaliser sur les conséquences de l'interprétation ou l'emploi systématique pour l’herméneutiquedans leur compréhension du phénomène religieux, à savoir entre l'interprétation en démythiser et la suspicion, qui repose principalement sur les néo-douteur (Marx- Nietzsche- Freud) d'une part, et l'autre emploi à l'interprétation, qui tire sa légitimité de la rennaissance et de la restauration du sens religieux une fois de plus, ce qui ne sera possible qu'avec l'aide de la phénoménologie de religion avec (Marcia. Eliad - Maurice Leenhardt-van Derliau) d'autre part.  

Les mots clés :L’Herméneutique du soupçon, L’âge herméneutique de la raison ,La phénoménologie du sacré , L’interprétation philosophique , La critique et la conviction.

 This article discusses the concept of interpretation and its value in modern and contemporary philosophy as well as its dealing with the religious sanctuary from the point of view of the interpretation of Paul Ricœur, and we tried to stand in this study on the implications of interpretation or systematic method of double Hermeneutic in its understanding of the phenomenon of religion or Religion as a phenomenon, that is, between interpretation as a manifestation of delusion and absurdity, which is based primarily on the new skeptics (Marx-Nietzsche-Freud) on the one hand, and the other of the interpretations that derive legitimacy from the revival and restoration of the religious meaning, which can only be achieved by using Vision Phenomenology of the religion (Marcia. Eliad - Maurice Leenhardt  -van Derliau).

Keywords: The Hermeneutics of Suspicion, The Hermeneutic Age of Reason, The Phenomenology of the Sacred, The Philosophical Interpretation,Criticism and Belief.


Quelques mots à propos de :  وليد بن هلال

جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2،Benhellalwalid19@gmail.com

  مقدمة:

لقد أمست الحاجة للتأويل أمرا مفروضاً وملحاً أكثر من أي شيء ومن أي وقت في الفلسفة اليوم، إن الاستعانة بالممارسة التأويلية كمنهج وكتقنية وكفلسفة كونية قد تساعدنا على فهم العديد من القضايا الفكرية وعلى تفسير ضروب المعرفة المختلفة، ولكن بأي معنى يمكن لنا تحديد مفهوم الـتأويل وهل يقتصر على تطبيق واحد محدد ومعين هو النص _سواء  أكان هذا النص في الأدب أو في الدين أو في القانون_، أم أن الأمر على خلاف من ذلك إذ غدت الـتأويلية مساحة كونية واسعة في الفكر الفلسفي المعاصر يمكن بها وعن طريقها تأكيد أنه لا وجود للحقيقة وأن كل شيء يجري تحت فلك التأويل،  من دون شك أن ضبط معنى التأويل وقيمته قد يختلف من لحظة فلسفية إلى أخرى، وقد يختلف من فيلسوف لآخر، إلا أنه يبقى غرضنا الأساسي في هذه المحاولة الوقوف على دلالات التأويل والنظر في زاوية تعاملها مع الظاهرة الدينية، وكذا بيان مدى الصراع الفلسفي التأويلي الموجود  بين قطبي التأويلية الفلسفية التي صاغها ريكور، وعليه وُجب منا طرح المشكلة الرئيسية للبحث:  كيف استعاد ريكور سؤال الدين انطلاقا من أرضية تأويلية معاصرة وجديدة جمعت في داخلها أنماطً فلسفية تبدو متناقضةً في مضامينها؟     

أولا– مفهوم التأويل باعتباره اللغة السائدة في زماننا  

لقد أضحى الـتأويل اللغة الشائعة للعصر-على حد تعبير جياني فاتيمو( Vatimo Gianni/)-1إذ لم يعد جهداً مخصوصاً ولا محصوراً على حقل معين من الدراسة سواء تعلق الأمر بالنصوص الدينية والأدبية، بقدر ما بلغ فيه أفق الاتساع والانفتاح نحو مناطق فكرية وفلسفية أخرى لم تُطْرَق من قَبل، ولم يكن باب الـتأويل مفتوحا فيها على مصرعيه كما هو الحال اليوم.

نحن هنا لا نتحدث عن "الهرمينوطيقا" بوصفها احترازا منهجيا وموضوعيا كما عرفها لالاند:  "على أنها تأويل للنصوص الفلسفية أو الدينية وللإنجيل على وجه الخصوص أو التخصيص ...وينطبق هذا التعريف خاصة على تأويل كل ما هو رمزي في النص الديني"، لما في هذا التعريف من طابع الاختزال في ضبطه وتعامله مع  مفهوم الـتأويل، فالأصل كما يقول مارتن هايدغر Heidegger Martin(1889-1979):"في أن ما هو هيرمينوطيقي لا يعني التأويل بَدْءًا بل هو قبل ذلك ذاته: إنباء وإخبار"2، ولذلك فالتأويل لا يرتبط بمجال واحد ولا ببعد واحد، إنه ضرب من النشاط الفكري و الفلسفي الذي يستهدف البحث عن فهمِ للحياة عن طريق استعادة التجربة الإنسانية، إننا -ومنذ قرنين- إزاء عصر يَحْكُمُه البراد يغم التأويلي، سماه جون غرايش Greisch Jean)ولد سنة1942)بالعصر التأويلي للعقل.3

 أ/ التأويل كمصطلح:

قد تختلف الترجمات الفلسفية فيما بينها وتتعدد في تعاملها مع مصطلح "الهرمينوطيقا" باعتباره المرجع الأساسي لأصل التأويل وظرفيته الأولى عبر تاريخ الفلسفة، وذلك راجع بدرجة كبيرة إلى تعدد الرؤى المعرفية لكل مترجم واختلافها، إذ أضحت الترجمة في حد ذاتها تأويلا مغايراً للأصل، أو قراءة تتحول بدورها إلى نص متحول يحتاج إلى تأويل4، ولا ضير أن نقف على أهم الترجمات التي مست لفظة "هرمينوطيقا" "herméneutique"، لأن ذلك قد يسمح لنا بفك الالتباس الموجود بين مصطلح الهرمينوطيقا والمصطلحات الأخرى المتاخمة له.

إن لفظة "هرمينوطيقا" (Herméneutique) في الأصل مشتقة من اليونانية ( Hermeneia)، وقد تترجم _حسب العديد من المترجمين والباحثين_ في اللغة العربية  إلى "فن التأويل"، تمييزا لها عن المفردة" التأويل" التي قد تقابل في الغالب اللفظ الفرنسي"Interprétation" ،كما يفضل البعض الآخر بترجمتها إلى "علم التأويل"، وهناك من يتركها كما هي "الهرمينوطيقا" معتبراً أنها إلى جانب العديد من المفردات كالفينومينولوجيا أو الميتافيزيقا من المتعذر ترجمتها إلى لغات أخرى مخالفة عن اللغة الأصلية، ولذلك يتم الاحتفاظ بها كما هي دون زيادة ولا تغيير.5

تجدر الإشارة أيضا إلى وجود ترجمة أخرى للهرمينوطيقا في المجال التداولي العربي ضمن ما يعرف بـــ"نظرية التأويل" وهي نفس الترجمة التي تعاملت مع أحد الكتب الميزة لـريكور و الذي ترجمه سعيد الغانمي تحت عنوان "نظرية الـتأويل، الخطاب وفائض المعنى"، كما قد نقف على ترجمة أخرى لـطه عبد الرحمن في كتابه "فقه الفلسفة" "للهرمينوطيقا" على أنها تقابل مصطلح التأويليات "بالجمع"، إذ تعني التأويليات في الأصل النظر في وجوه تحصيل الفهم للنصوص"، وقول طه في ذكره أن التأويليات جاءت بصيغة الجمع بيان على أن "الهرمينوطيقا" لم تكن شكل واحدا ولا مدرسة واحدة وإنما هناك اختلاف وتعدد في اتجاهاتها ودروبها.6

ب/ التأويل في اللغة:

ما نلمسه حقيقة من خلال محاولتنا تفقد المعاجم العربية و الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية) المحيطة بلفظ "التأويل" ذلك التعدد والاختلاف في دلالات استعماله، والتنوع الكثيف في اشتقاقاته.

تجدر الإشارة إلى أن الاشتقاق اللغوي لكلمة "الهرمينوطيقا" في اللغة الإغريقية يحيل إلى الكلمة « tekhnè » أي الفن بمعنى الاستعمال التقني لآليات ووسائل لغوية ومنطقية وتصويرية و استعارية ورمزية، وبما أن "الفنّ"هو الآلية التي لا تنفكّ تبحث عن الغائية فإن الهدف الذي لأجله تُجنّد هذه الوسائل والتقنيات هو  الكشف عن حقيقة شيء ما7، وتنطبق هذه الوسائل على النصوص قصد تحليلها وتفسيرها وإبراز القيم والحقائق التي تختزلها والمعايير والغايات التي تحيل إليها، وعليه تعني "الهرمينوطيقا" فن تأويل وتفسير وترجمة النصوص، والتأويل في أصله الأول عبارة عن فن.8  

يذهبابن منظور إلى القول:"بأن التأويل هو المرجع والمصير، المأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه، وأولته : صيّرته إليه"، كما بّين أيضا في ذات الموضع من مؤلفه اللسان إلى أنه: " سئل العباس بن أحمد بن يحي عن التأويل، فأردف قائلا أن التأويل يؤخذ بالمعنى والتفسير "، وقال أيضا:"التأول والتأويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه، ولا يصح إلا ببيان غير لفظه"9.

كما قد يعبر التأويل في اشتقاقه اللغوي على الرجوع والعودة، وهو ما نجده  مبثوثاً في معجم مقاييس اللغة لابن فارس: "آل اللّبن يؤول أولا و أوولاً: أي رجع وصار خاثراً"، وقد نجد في اشتقاقات كلمة "تأويل" الآل بمعنى عَمَدَ الشيء الذي يستند إليه 10، ويرد الآل هنا أيضا بمعنى السّراب، كما يشير الآيل في اللغة العربية إلى اللبن الخاثر، وهذا المعنى قد حظّر في ذكر الأصفهاني لشرح التأويل من الناحية اللغوية بقوله: " آل اللبن يؤول إذا خثر، فكأنه رجوع إلى نقصان، ولقوله في الشيء الناقص راجع" 11،في حين ترد لفظة العاقبة كمرادف للتأويل في تفسير يحي بن زكرياء الفراء لمعاني القرآن الكريم في قول الله عزوجل "هَلْ يَنْظُرونَ إلّا تَأْوِيلِهْ "(الأعراف 53) والهاء هنا في تأويل(ه )تعود للكتاب، إذ يريد عاقبته وما وعد الله فيه".12         

والتأويل يكون مراعيا لجهتين اثنتين أساسين –على حسب حمو النقاري- من ناحية كونه يكون مراعيا لأمر "التدبير" و"التقدير" من جهة، فيقول في اللغة "أَوَّلَ" الكلام و"تَأَوَلَهُ" بمعنى "دَبَّرَهُ" و"قَدَرهُ"، ومن كونه حافظا لأمر "التفسير" و "البيان" من خلال تأكيد الكلام على أنه يقال: "أَوَلَ" الكلام بمعنى "فَسَرَهُ"، كما يقال تأويل الشيء أي تفسير و تبيين ما يؤول إليه ذلك الشيء.13

ج / التأويل كمفهوم فلسفي:

لو عدنا جزافا للتأويل في تمظهراته الأولى أي للبيئة اليونانية الأولى بما هو مفهوم استشكالي قد يحيلنا إلى الفعل اليوناني "هيرمنيون" ( Hermeneuein ) الذي يعني في اللغة العربية "يفسر"، في حين يترادف  الاسم"هيرمينيا" (Hermeneia)مع لفظ التفسير، أما عن الأصل اليوناني للفظة "الـتأويلية" (Herméneutics) فقد يعبر عن عملية الفهم والإفهام التي أساسها المحوري هو اللغة باعتبارها الوسيط الأساسي في عملية الفهم من جهة، وباعتبارها (اللغة) العنصر المشترك بين المعاني الثلاث الأساسية للفظة التأويلية في الاستخدام اليوناني القديم من جهة أخرى، وهذه المعاني لا تخرج عن ثلاث وهي:

1.يعبر بصوت عال في كلمات أي يقول أو يتلو.

2. يشرح، كما في حالة شرح موقف من المواقف.

3. يترجم، كما في حالة ترجمة من لغة إلى لغة أخرى أجنبية أي عمل المترجم.14        

كما تتضمن الكلمة "هرمينويين"(Hermeneuein) من ناحية أخرى وفي الجذر اليوناني أيضا، معاني البيان، التوضيح والتفسير، وكذا الترجمة، وهي معاني لا تخرج في مجملها عن مفهوم الـتأويل، لأننا إزاء تبديل أو شرح عمل خفي ومبهم إلى عمل واضح وجلي، ولا يتم ذلك إلا عن طريق لغة تفهم المعنى وتنقله للآخرين، وهاته العملية قد تستدعي دائما فرض الواسطة التي تنقل المعنى من فضاء المتن أو النص الأصلي إلى فضاء آخر.15

إن هذه الواسطة هي الإله "هرمس" (Hermes) رسول الآلهة للبشر أو إله الرسائل المتنقل بين الآلهة والبشر، و"هرمس" على حسب الأسطورة اليونانية هو إله الكلمة الفصيحة والبيان عند الإغريق، فهو ابن الإله "زيوس" والإله "مايا"، إذ نبغ منذ الصغر على صفة المكر والخديعة، كما كان ذكيا ومحتالا، ليحمل في ذاته  صفات الكلمة بكل معانيها المتعددة و المتصارعة في الوقت عينه، من الحقيقة إلى الكذب، إلى الحكمة والعلم وكذا النظام والفوضى، والشك واليقين، لقد كان هذا الرسول الإغريقي بمثابة الكلمة التي تصل بين البشر، وتصل البشر بالمكان، ليمثل "هرمس" إله اللصوص والمسافرين والتجار، وهو إله الطرق والأسفار والمرشد إلى كل الاتجاهات، والداعي إلى البحث عن الآفاق الجديدة .

إن عَّمل "المفسر" أو "المؤول" يكون مشابها أو غير بعيد عن عمل "الإله هرمس" من ناحية سعيه نحو كشف معاني الكلام والنصوص والخطاب، باعتباره وسيطاً يتولى نقل هاته الأمور،ويكون وكيلاً بتبليغها من قبل طرف الآلهة، كما أنه قد يقوم بمهمة الشرح والتوضيح لمضمونها16،فالتأويل كما يصفه "سلفرمان" هو في حقيقته تحديدٌ أو تموضعٌ في منطقة أو مكان في "المابين"، فهو (أي التأويل) يعبر بوضوح شديد عن الرسول "هرمس" الذي يروح ويغدو بين "زيوس" والآلهة الأخرى، أو بين "زيوس" والبشر للبحث عن المعرفة وتوصيلها، والهرمينوطيقا في مفهومهما الأصلي هي فلسفة التجول والترحال في هذه المابينية (betweeness)، فهي لا تتحدث وهي في متربعة على العرش،بل إن الحقيقي هم حمل الرسالة وإظهار الكلمة، وكشف غير المقول، وتعرية ما يقبح تحت السطح، إن مهمة الهرمينوطيقا-بحسب سلفرمان- هي الاشتغال في فضاء الاختلاف بين الذات والموضوع، بين الأساس واللا أساس، بين المفكر والفكر، بين المتكلم والمتكلَّم عنه، بين العارف والمعروف17.  

 

 

ثانيا: المحطات الكبرى للتأويلية

           يرى بول ريكور "بأنه ليس هنالك هرمينوطيقا عامة، وليس هناك قانون كلي وشامل للتفسير، هناك فقط نظريات منفصلة ومتعارضة بشأن قواعد التأويل "18، فالصراع الموجود فيما بين هاته النظريات لا يقتضي منا البحث عن مدى توافقها أو تجانسها، بل يرجو رصد الأرضيات و المستندات التي تقف خلفها، كما يقر على أن النظرية التأويلية من الناحية التاريخية قد مرت بثلاث مراحل أساسية وكبرى ساهمت في تطورها :    

اللحظة الأولى: الفلسفة الكلاسيكية الإغريقية وتأثيرها

نجد تأثير الفلسفة الكلاسيكية اليونانية كبير في بلورة مفهوم الـتأويل /الهرمينوطيقا، سواء تعلق الأمر بالحضور الكثيف في الميتولوجيا الإغريقية وارتباطها بالإله "هرمس" أو ارتباطها أيضا بالتفسيرات الهوميرية (نسبة للشاعر هوميروس)، لكن تبقى محاورة "أيون" الأفلاطونية أحد أهم النصوص في رصد تشكل مصطلح الهرمينوطيقا، والتي كانت بمثابة القاعدة والفضل في ظهور ما يعرف اليوم بمنهج تفسير النصوص الدينية أو نظرية التأويل أو فن الفهم، حيث يؤكد أفلاطون  Plato(عاش بين 427ق.م-347ق.م)فيها على اعتبار الهرمينوطيقا هي فن وأن الماهر فيها هو الذي يظهر في أحسن صورة ويجعل من المعنى المقصد الأسمى بقوله على لسان سقراط: "كأن فهم هوميروس ليس مجرد حفظ كلماته عن ظهر قلب، ولن يتسنى ذلك لإنسان أن يكون قصائد ملمحية ما لم يفهم المعنى الذي يرمي إليه الشاعر لأن الراوي عليه أن يؤول عقل الشاعر لمستمعيه ، و ما كان له أن يؤوله حق تأويله ما لم يعرف ما يعنيه"19.

كما بين أيضا أرسطو Aristote(عاش بين 384ق.م-322ق.م)"في العبارة"De l’interprétation وهو الكتاب الثاني في مجموعة كتب المنطق على أن التأويل هو:" قول شيء عن شيء ما هو بالمعنى الكامل والقوي للكلمة التأويل "20، لذلك فالمستندات الأفلاطونية والأرسطية كانت ضرورية للوعي بمفهوم التأويل عند الفلاسفة .

اللحظة الثانية: الكتاب المقدس (اليهودية والمسيحية) والبحث عن نظرية في الـتأويل

باتت ضرورة الحاجة إلى منهج التأويل ملحة، ضمن إطار تفسير الكتاب المقدس في القرون الوسطى، لكن هاته الحاجة تركت وراءها السؤال حاضرا حول  كيفية فهم مقصد الكتاب المقدس الذي قامت عليه الأجيال التاريخية من اليهود و المسيحيين بإعادة تدوينه على فترات ،لذلك اقترحت النماذج التأويلية في مرحلة التعامل مع التراث المسيحي واليهودي، وخير مثال على ذلك كتاب "تعاليم المسيحية "للقديس "أوغسطين"Augustin(عاش بين 354-430م)والدافع وراء هاته المحاولة التأويلية هو اجتياز المسافة التي تنشأ عن التفسيرات الثقافية والتاريخية المتعاقبة من أجل تجديد المعنى الأصلي في نصوص "سفر الرؤيا"، جاعلا القديس أوغسطين روح الماضي الدينية تعاصره قراءة الحاضر التفسيرية، مميزا بين نوعين من العبارات التي تحتاج إلى التفسير، العبارات الغامضة، حيث يكون المعنى مستترا ومغلفا بعناصر تاريخية وصيغ لغوية، وعبارات عجائبية أو غرائبية، متعلقة بالمعرفة اللاهوتية القاصرة على علماء اللاهوت دون غيرهم من عامة الناس .21

وهو ما حدا ببول ريكور إلى الاستعانة بمفهوم التفسير التوراتي والذي يهتم بموضوع قواعد التفسير الخاصة بالكتابة المقدسة، لذلك يرى هذا الأخير: "أنه ليس هناك علم تفسير عام ولا شرعية كلية لتفسير واحد، بل هناك نظريات منفصلة ومتقابلة خاصة بقواعد التفسير، وبذلك ينشط في مفهوم التفسير ضربان من السعي الفكري سعي الشرح والتفسير الذي به يتطلب الفكر المعنى المحجوب في مطاوي العبارة الخارجية، وسعي الإظهار والتعبير الذي ينشد الفكر انكشاف المعنى الداخلي والإفصاح عنه".22

اللحظة الثالثة: اتساع البراد يغم التأويلي إلى أفاق أخرى مع عصر التنوير.

أول من اتجه نحو هذا الوعي الحديث في استخدام الهرمينوطيقا هو فريدريك شلايرماخر (1768-1834Schleiermacher Friedrich /)، حيث فتحت إسهاماته في التأويل أفقا جديدا وواسعا في تطور هذا الحقل من المعرفة، ليصبح غير مقصورا فقط على تفسير الكتاب المقدس بل تعداه الأمر إلى البحث عن نظرية عامة للتأويل بوصفه علما وفنا في الوقت ذاته تعكف على دراسة أشد الخطابات اختلافا، وتسعى إلى أن تبرز من الشروط العامة التي تمنحها اللغة في مفاهيم جديدة .23

كما يعتبر ويلهم دلتاي (1833-1911Dilthey Wilhem) تلميذ شلا يرما خر، من المنتمين أيضا لمجال الهرمينوطيقا في أفقها التنويري الجديد، مستندا في ذلك لتصوره لـ"الفهم "والذي يمثل مقولة جوهرية وأساسية في كل مؤلفاته، حيث يلخص المشكلة في كتابه "أصل الهرمينوطيقا"في السؤال التالي: كيف يمكن أن تكتسب العلوم الإنسانية والتاريخية منهجية في التأويل تختلف عن فلسفة العلوم الطبيعية الوضعية؟ كما يتساءل عن الكيفية التي يمكن بموجبها لعلم إنساني متميز أن يكون في مقابل سيطرة الموضوعية التجريبية ؟.24

وهو ما عمل عليه دلتاي من خلال تطوير نموذج جديد يؤخذ بعين الجدة المظهر الموضوعي والتاريخي لما يسمى ب"الطبيعة الإنسانية "، وتأكيده على تاريخية الوجود الإنساني وعلى ضرورة فهم الإنسان بوصفه موجودا تاريخيا في جوهره، يتألف وجوده من سلسلة متصلة تحتوي على ماض وحاضر و مستقبل، وتقع في علاقات مع الآخرين ومع الطبيعة، وهو بذلك إنما سعى كما يقول ريمون أرون إلى إقامة "فلسفة للإنسان ككائن تاريخي "يكون في التأويل هو النهج الأساسي لكل العلوم التي تدعى ب"الروحية ".25

إن الحديث عن تطور تاريخ التأويلية، لم يكن من باب الصدفة فتحديد مفهوم التأويل عند ريكور يستمد مرجعيته من هذا التاريخ، لذلك ينطلق ريكور في عرضه لمفهوم التفسير من وجود ضربين يعكسان اتساع مفهوم التفسير، أولا من خلال تعريف أرسطو "في العبارة"، للتفسير على أنه" قول شيء عن شيء"، وثانيا من خلال التفسير التوراتيبموضوع قواعد التفسير للكتابة المقدسة، لذلك يرى ريكور أنه ليس هناك علم تفسير عام ولا شرعية كلية لتفسير واحد، بل هناك نظريات منفصلة ومتقابلة خاصة بقواعد التفسير، وبذلك ينشط في مفهوم التفسير ضربان من السعي الفكري سعي الشرح والتفسير الذي به يتطلب الفكر المعنى  المحجوب في مطاوي العبارة الخارجية، وسعي الإظهار والتعبير الذي ينشد الفكر انكشاف المعنى الداخلي والإفصاح عنه، لذلك يقر ريكور أن علينا أن نضع هاذين التفسيرين في مواجهة المزدوجة فهذا التوتر وهذا الشد الأقصى هو التعبير الأكثر صحة على حداثتنا، هذا المطلب المزدوج، فمن جهة هو تطهير القول في إمكانياته، ومن جهة أخرى هو الإنصات و الإصغاء.

لذلك تظهر مهمة  الهرمينوطوقيا عند ريكور في دورين أساسين هما : الأول يتعلق بمهمة إزالة الأصنام أي أن نصبح على وعي نقدي بأنفسنا عندما نسقط رغباتنا و فهومنا الذهنية على النصوص وبهذا الوعي النقدي، لا تعود إسقاطاتنا الذاتية تخاطبنا من خارج أنفسنا على أنها أخرى، والثاني يتعلق بالحاجة إلى الإصغاء بانفتاح إلى الرمز وإلى السرد ولإحداث خلاقة  أمام النص لتمارس تأثيرها علينا.

ثالثا: أنماط التأويل والصراع حول فهم المقدس:

1-تأويلية النقد بما هي ارتياب نحو الحقيقة الدينية

 لقد أعاد كل من كارل ماركس Marx .K(1820-1889)و فريدريك نيتشهNietzsche .F(1844-1900)وسيغموند فرويدS. Freud(1856-1939)أي ممثلو "مدرسة الارتياب "L’école Du Soupçon  حسب وصف بول ريكور، طرح مسألة الشك ونقلها إلى صميم الحصن الديكارتي، فالديكارتية تثبت أن الأشياء مشكوك فيها، وبالمقابل تنكر أن يكون الشعور مخالفا لما يبدو عليه، حيث أن هناك توافق بين المعنى والوعي بهذا المعنى.

وعلى خلاف ذلك ترى مدرسة الارتياب أو التظنن أن التحول يكون من مجال الشك في الشيء إلى مجال الشك في الشعور ذاته، عبر وضع مشاريع في سياق براد يغم التأويل كتقنية معرفية ومنهجية تتضمن مقصدا مشتركا في أساسه وهو أن الشعور الإنساني في مجموعه مزيف، وهنا تكمن نقطة الالتقاء بين الدلالة الجديدة لمفهوم الــتأويل ليس فقط كمدرسة فكرية بل كروح فكرية داهمت الحقبة المعاصرة للفلسفة، وبين الارتياب في لون أخر يكاد يكون نظام معرفي أو ابستيمي بتعبير "ميشالفوكو" Foucault Michel(1926-1984) يرسم حدود الفكر ونواتجه، باسطا سلطانه على عناصر الثقافة وجذورها من الدين إلى الأخلاق إلى الفن والسياسية ...الخ، لذلك تتحدد الصلة الحميمية بين التظنن والـتأويل في قول نيتشه: "لا وجود لوقائع / حقائق، إنما ما يوجد تأويلات فحسب ....والذات ليست شيئا معطى أبدا، إنما هي مفهوما مضافا ومفترضا، هل ينبغي علينا أن نفترض المؤول وراء التأويل ؟إذن هذا شعر وافتراض".26

إن التأويل حسب نيتشه باعتباره الأب المفصلي لفلسفة التظنن، هو فن التفكير خارج الأطر الميتافيزيقية الموروثة، بما فيها التمظهرات الدينية والأخلاقية التي حولت التأويل إلى فن القراءة المريضة، يقول: "إن الطريقة التي يؤول بها اللاهوتي...... هي دائما طريقة تحكمية، بحيث تجعل الفيلولوجي فاقدا للصبر مجنونا".27    

كما يدعو  نيتشهأيضا من جهته إلى التعامل مع الأفكار والحقائق والقيم الدينية، على أساس أنها لا تعبر عن جوهر فكري واع، بقدر ما تعكس أعراضا وعلامات على إرادة متخفية، وهذه الإرادة، إما أن تكون إرادة قوة تنادي بقيم الانتصار والتعالي، وإما أن تكون إرادة ضعف تستكين لقيم الرحمة والتسامح والتعاطف، فالهدف الحقيقي- حسب نيتشه- للدين هو أن ترفع الضعفاء إلى موقع القوة، وتجعل من الضعف فضيلة، وهو هدف يكذب هدفها الظاهري وهو أن تجعل الحياة أكثر احتمالا بالنسبة إلى الضعفاء وذلك بتدعيم فضائل من قبيل الشفقة والكدح والتواضع والود، وغير ذلك هو ما أسماه أخلاق العبيد هكذا أزال نيتشه القناع على الدين وكشف أنها مهرب الضعفاء وملجأ العجزة28.

أما تحليل ماركس للدين، فقد أفضى به إلى نتيجة مؤداها، أنه بينما يبدو الدين  معنيا بموضوعات رفيعة من السمو الروحي والخلاص الشخصي، قد كانت وظيفته في حقيقة الأمر هي التعميم على الأحوال غير الإنسانية للعمل الإنساني، وجعل بؤس الحياة أكثر احتمالا و مقبولية، وبهذه الطريقة كان الدين يستخدم كأفيون للشعوب  من ناحية، وعلى أنه نتاج اجتماعي لوجود أملاه تضارب في المصالح وصراع بين طبقات، يقول ماركس: " إننا ننطلق من النشاط المادي للبشر لنبين من خلال صيرورة وجودهم الفعلي نشوء منعكسات هذه الصيرورة وأصدائها، بحيث إن الكينونة ترتبط بالظروف المادية لإنتاجهم ."29

وأما فرويد فقد مارس نفس العملية الإرتيابية التي تعمد إلى إزالة الأقنعة وكشف الحقيقي من السطحي، فقد خلص في تحليله إلى أنه بينما يدرك الدين كمصدر لمشروع للسكينة والأمل، عندما يواجه المرء مصاعب الحياة، فإنه في حقيقة أمره هو عبارة عن "وهم" لا يعدوا أن يكون تعبيرا عن رغبة المرء في أب- إله،حيث يقول :"إذا كان اهتمامي بالمصادر العميقة والبارزة للأساس الديني موجود، فإنه  أقل بكثير من اهتمام ما يتصوره الإنسان العادي عندما يتحدث عن دينه، وملته، وعن هذا النسق من المذاهب والوعود التي تدعي من جهة، تفسير كل ألغاز هذا العالم تفسيرا كاملا ومرغوبا فيه، وتطمئنه، من جهة أخرى، بأن ثمة قوة متعالية أو عناية ألاهية كاملة تسهر على حياته وستعمل في الآخرة على تعويضه عن الحرمان، الذي يعانيه على هذه الأرض .30

يقول فوكو:" إن هؤلاء المفكرين الثلاث (نيتشه- فرويد- ماركس )لم يقدموا دلائل جديدة للفكر الغربي ،وإنما غيروا طبيعة الدليل والكيفية التي كان يؤول بها ".31

هذا النمط من الـتأويل النقدي السلبي لموضوعة الدين  قد نجد نظيراً مشابها ومرادفا  له في مقاربة باروخ سبينوزاSpinoza .B(1632-1677) من خلال كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسية"، الذي عرف تحولا جذريا لبراد يغم التأويل، فبعد هيمنة رجال الدين للمعيار التأويلي واحتكاره في تفسير الكتاب المقدس استعادت اللحظة السبينوزية بزوغها من خلال فتح الباب حول الارتياب في أنماط التأويل الديني ودعت إلى إعمال العقل في فحص قوانينه، يقول سبينوزا: "إنني لا أستطيع أن أكتم دهشتي البالغة عندما أجد أحدا يريد إخضاع العقل، هذه الهبة العليا، وهذا النور الإلهي، لحرف مائت استطاع الفساد الإنساني تحريفه، وعندما أجد أحد يعتقد أنه لا يرتكب جرما حين يحط من شأن العقل، وهو الوثيقة التي تشهد بحق على كلام الله، ويتهمه بالفساد والعمى والسقوط على حين يجعل من الحرف المائت، وصورة كلام الله صنما معبودا، ومن ثمة يعتقد أن أشنع الجرائم هو وصف هذا الحرف بالصفات السابقة ".32

   عندما تطبق مثل هذه الهرمينوطوقيا على نص من النصوص فإنها تفضي إلى أماكن الوصول إلى ما أسماه ريكور" براءة ثانية" والتي يمكن بواسطتها تحقيق هدف التأويل وهو إيجاد عالم أمام النص، عالم يفتح إمكانات جديدة للوجود إن من أيسر الأمور وأكثرها رجحانا عندما يقرأ المرء نصا من النصوص " وليكن نصا إنجيليا" وبخاصة إذا كان نصا مألوفا أن يفعل ذلك بتصلب ورضا ذاتي يميل إلى تجميد معنى النص تجميدا لا رجعة فيه، ويبدوا أن مقاربة النص بارتياب معين أي يتساءل عما إذا ما يبدوا أن النص يقوله هو مطابق حقا لرسالته الحقيقية التي يريد إبلاغها هو عملية تأويلية صحيحة وضرورية أيضا33.

يؤكد ريكور على أن ثمة نقطة أخرى أوضحها أساتذة الارتياب الثلاثة وهي أن الارتياب يجب أن يكون مزدوجا يتوجه إلى المشاركين (المجتمع وأفراده) وإلى النسق "الدين"، كذلك يجب أن يكون الارتياب مزدوجا في تناول أي نص من النصوص أي على نفسي وعلى النص، يقول ريكور:" أن كلا قطبي الارتياب صحيح وضروري إذا شئنا أن نصغي إصغاءا جيدا لما يرد الرب أن يقوله لنا".34

هكذا يضع ريكور الوجه الأول من قطبي التأويل داخل مناظرة كبرى تجمع بين التفسير/التأويلبوصفه ممارسة الشبهة، غايته في وضعه تقليص أوهام الوعي وأكاذيبه، وبين وجه آخر يرتسم في شكل التقابل الجدلي معه يتمثل في التفسير/التأويل بوصفه جني المعنى مجددا أو الإيمان بعد النقد ليرصد نوعا من إرادة الإصغاء واضعا له أعلام أخرى"موريس لينهاردM. Leenhardt(1878- 1954)،مرسيا إلياد M. Eliad  (1907-1986) جيرارد فان درليوJ.V. Derliau (1890- 1950)" تستخدم الفينومينولوجياكأداة منهجية لبيان رحابة المعنى الديني  وإحيائه.

2-تأويلية الإثبات بوصفها كشف لقيمة الاعتقاد الديني.

هكذا و بعد توضيح الموقف الأول أو التوظيف الأول للهرمينوطيقا بوصفها محاولة لإزالة التضليل وتقليص الوهم، يتجه ريكور إلى التوظيف الثاني المتقابل مع التوظيف الأول، إنه مسلك إحياء المعنى و إظهاره والذي سيقوم على التضاد مع الرهان التحليلي النفسي للثقافة ومدرسة الشبهة ليقوم في نوع مضاد معها إنه الإيمان كمقابل للشبهة، الإيمان البعد النقدي والذي يأتي بعد الممارسة الإرتيابية إنه الإيمان الثاني للعالم في علم التفسير، يقول ريكور: "فلكي نفهم يجب أن نؤمن، ولكي نؤمن يجب أن نفهم ".35

    يركز بول ريكور جهوده من خلال إبراز وجود ثلاث دعائم أساسية تطرحها فينومينولوجيا الدين، كنوع من الثقة، في حين آخر مقابل يضعها أنصار الإرتيابية موضع شك وتساؤل، إنها الإيمان بالرمزية الدينية التي تنشأ ضربا من الإصغاء أولا في هاجس الموضوع انطلاقا من تحديد موضوع فينومينولوجيا الدينية، وثانيا في بعث مسألة التعددية في وجود التفسيرات للعالم وثالثا في درب النزاهة الفكرية وطريق التوضيح المعرفي.

1-في هاجس الموضوع:

يرى بول ريكور أن التحليل الفينومينولوجي يظهر على أنه ضرب من التجلي بالكلام، ليماثل مواصفات إرادة حيادية، تستخدم المنهج الوصفي لتفسير الظاهرة الدينية بالأساس، لا عن طريق الاختزال الأركيولوجي الذي يبدو معاكسا لها تماما، فإذا التأويل الارتيابي يبحث في أصله عن  الأسباب السيكولوجية والاجتماعية والنشوء الفردي والاجتماعي، وبالوظيفة الاجتماعية والإيديولوجية، فإن التصور الفينومينولوجي يبحث بالأساس عن الموضوع الضمني الموجود في ممارسة الطقوس في الأسطورة والاعتقاد،" لذاك تتجه فينومينولوجيا الدين  في البحث عن الشيء المنشود في الفعل الطقسي وفي الكلام الأسطوري وفي الاعتقاد أو العاطفة الصوفية36، لتكمن مهمتها في أن تكشف مضمون هذا الموضوع في نوايا التصرف والقول والانفعال، واصفة  هذا الموضوع دون أن تحكم حكما مسبقا على طبيعته، سواء كان النوراني المرهوب عند لينهارد، أو القوي لدى فان درليو، أو الزمان الأساسي لدى مرسيا إلياد37.

ففينومينولوجيا الدين يبقى هدفها الأساسي فيها أنها لا تريد أن تفسر، بل أن تصف، لأن التفسير يعني إرجاع الظاهرة الدينية لأصولها وأسبابها -كما عمل فلاسفة الشبهة –في حين أن الوصف هو إرجاع الظاهرة الدينية إلى موضوعها كما هو معطى في العبادة، ممارسة الطقوس، الصلاة.

2-في إظهار مسألة التعددية في طرح التفسيرات حول الرمز الديني:

يرى بول ريكور بأن "فينومينولوجيا الدين" تكون ممكنة، بقدر ما تعرض نفسها على عدة دروب لإعطاء المقاصد المتنوعة في دلالتها، لتتوافق مع سعة المناطق المتنوعة للموضوع الديني، وهنا يتجه ريكور إلى محاولة إرسائه لتعدد دوائر الحقيقة، هذا التعدد يجد سبيل مثاله- حسب ريكور- في عمل مرسيا إلياد المطول والذي يحمل عنوان" التاريخ العام للأديان"، الذي يظهر فيه أن "قوة الرمزية الكونية تكمن في العلاقة غير الاعتباطية بين السماء المرئية والنظام الذي تظهره :فهي تتكلم عن الحكيم ، والعادل، وعن الواسع ،والمنظم ،بفضل القدرة التناظرية التي تربط معنى بمعنى أخر"38، مبيناً إلياد من خلال الحديث عن الرمز على درجة ارتباطه بمعنى مزدوج ومتعدد، لذلك نجد أن المقدس من جهة، يتجه نحو دلالته الحرفية الأولية، المحسوسة، ومن جهة أخرى يرتبط بقدرته الكاشفة التي يضعها المعنى الرمزي والذي يكمن فيها39.

3-في درب النزاهة الفكرية والموضوعية الحيادية:

   يؤكد ريكور على أن هذه الخطوة لا تمثل إلا نتيجة لمقدمتين سابقتين تخضع لها فينومينولوجيا الدين في تفسيراتها للإيمان، لتبرر وكأنها قاعدة يبلغها العالم، في نهاية المطاف، في حديثه عن الرمز وفي بيان مدى  رحابته، ليعبر عن رغبة جديدة يكون المرء إزاءها في  موضع استجواب ويكون هذا التوقع لكلام جديد تطرحه فينومينولوجيا الدين هو الفكر الضمني لكل فينومينولوجيا للرموز، تتشدد على الموضوع أولا، لتلفت النظر إلى كماله وترحب بقدرته الكاشفة للكلام الأصلي.40

  هكذا يحاول بول ريكور إيجاد الخيط الناظم بين التفسير بوصفة ممارسة للشبهة عن طريق تطهير القول وتحطيم الأصنام وبين الباعث العميق لعلم التفسير أو التفسير بوصفه جني المعنى وإحيائه انطلاقا من إرادة الإصغاء، هاته المحاولة - حسب ريكور- ما تكاد تتطور لتنقل إلى مستوى أعمق هو مستوى المناظرة بين الفلسفة(ممارسة الشبهة) وبين أعلام الدين أو المقدس ( كإرادة للإصغاء) في صراع وتقابل جدلي، والتي أفضت - بعبارة ريكور- إلى متاهات ينبغي للمرء درء التعارض الموجود والتي سماها بالوساطات غير المكتملةلتجاوز الصراع المشحون بين الارتيابية و الاعتقادية من جهة، ولتأسيس لفضاء رحب قائم على الحيوية السجالية، وفاتحا لآفاق الحقيقة وتعدد دوائرها.

خاتمة:

إن رهان الـتأويل على حسب- ريكور- يقتضي منا خوض معركة فكرية نستعيد بها الماضي ونحييه من جهة، وبين الكشف عن أفق استكشافي ينبغي البحث و العثور عليه في أعماقنا، إنه الرد على المد الإنتقادي الارتيابي والدفاع عن روح الاعتقاد الإيماني، فقيم الحياة في الحضارة الإنسانية تزداد انهيارا واختناقا، بسبب عدمية تقضي على كل اعتقاد و لتأتي على الأخضر واليابس، وبسبب عقلانية تكتفي بإضفاء الشرعية على الهيمنة والعبودية .

كما أن فهمنا للظاهرة الدينية قد يستدعي منا التوظيف المزدوج للهرمينوطيقا بوصفها ممارسة إرادة الشبهة (كما فعل ماركس - نيتشه - فرويد) من جهة، وكونها استعادة المعنى وجنيه مجددا (كما أراده ريكور من خلال الاستمداد بإلياد - فان درليو -وموريس لينهارد، ولذلك يبقى مشروع الحقيقة كإمكان تأويلي، يقتضي منا النظر إلى تعدد دوائرها وتعدد زوايا النظر فيها، والتحقق من اعتبارها أفق، لا يعد البحث فيها عن أوجه المطابقة و التناهي بين الشيء واسمه أمرا صحيحا، فلم تعد الحقيقة نتاج العقل والتعقل، وإنما هي نتاج الفعل والتواصل والحوار والتفاعل، فالحقيقة ليست وليدة مصانع اللوغوس، الحقيقة هي الأمل والعمل

1. Vatimo (Gianni), Au-delà de l’interprétation : la signification de l’herméneutique pour la philosophie, Bruxelles /Paris, éd. De Boeck-Université,1997.

2.  74.أورده : عبد العزيز العيادي في كتابه "فلسفة الفعل"، مكتبة علاء الدين، 2007،تونس،الطبعة الأولى، الصفحة

3. Greisch (Jean), l’âge herméneutique de la raison, Paris, éd. Du Cerf ,1985.

4. عبد الغاني بارة ، فلسفة الـتأويل(الأصول والمقولات)-قراءة في أنظمة المصطلح المعرفية-، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى، 2008، الصفحة 82.

5.عمارة الناصر، الهرمينوطيقا والحجاج –مقاربة لتأويلية بول ريكور، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى، 2014،الصفحة 22.

6. طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة، الجزء الأول،المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 2000، الصفحة 38.

7.ورج هانس غادامير، فن الـتأويل، ترجمة: محمد شوقي الزين، مجلة كتابات معاصرة، العدد 37، مارس جوان 1999، الصفحة 73.

8.محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات –فصول في الفكر الغربي المعاصر-، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى 2015، الصفحة 31. 

9. .بن منظور محمد، لسان العرب، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت،1995،الصفحة 34.

10.ابن فارس أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، القاهرة، 1979، الصفحة160.

11.  لحسين بن محمد الأصفهاني، المفردات، تحقيق كمحمد سيد الكيلاني، دار المعرفة، بيروت، الصفحة 30.

12. حي بن زكرياء الفرّاء، معاني القرآن، تحقيق النجار، مصر، 1955، الجزء الأول، الصفحة380.

13. . مو النقاري، معجم مفاهيم علم الكلام المنهجية، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، 2016، الطبعة الأولى ، الصفحة 151.

14.  التأويلية والمنهجية في العلوم الإنسانية، خدايار مرتضوي، قراءات معاصرة،مؤسسة مثل الثقافية،العراق، العدد الأول،2015،الصفحة78.

15.ا لمرجع نفسه، الصفحة 56.

16.ا لمرجع نفسه، الصفحة 21.

17.ج.هيو سلفرمان، نصيات بين الهرمينوطيقا والتفكيكية، ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى، الصفحة 61.

18. ريكور بول : :في التفسير، محاولة في فرويد ،ترجمة وجيه اسعد ، الطبعة الأولى 2003، الصفحة 55.

19. أفلاطون ، محاورة أيون ، ترجمة عادل مصطفى ، مأخوذة من كتابه فهم الفهم ، مدخل إلى الهرمينوطيقا ، رؤية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 2007، ص 480.

20. نقلا عن بول ريكور :نظرية التأويل،الخطاب وفائض المعنى،ترجمة سعيد الغانمي ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، 2008، الصفحة 31.

21.ريتشارد كيرني :دوائر الهرمينوطيقا عن بول ريكور ، ترجمة سمير مندي ، أزمنة للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن ،الطبعة الأولى،2009،الصفحة 38.

22.ريكور بول : صراع تأويلات ، دراسات هيرمينوطيقية ،ترجمة منذر عياشي ،تحقيق جورج زيناتي ،دار الكتاب الجديد المتحدة،بيروت،الطبعة الأولى ، 2005،الصفحة 374.

23. Paul Ricœur :Du Texte A L’action, Essais d herméneutique, Editions Du Seuil, paris, 1986, p78.                     

24. ريتشارد كيرني :دوائر الهرمينوطيقا ، مرجع سابق ، الصفحة 39. 

25.نبيهة قارة:الفلسفة والتأويل، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1998، الصفحة51.

26.Nietzche, La volonté De puissance tom 1 ; trad, G, Bianquis, NRF.Galimmard, 1948, p238.                                                       

27.نقلا عن : عبد الرزاق بلعقروز : المعرفة والارتياب ، المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه و امتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر، مندى المعارف ،بيروت ، الطبعة الأولى، 2013،الصفحة148.

28.عادل مصطفى: فهم الفهم، مرجع سابق، الصفحة 463.

29.كارل ماركس: نقد الاقتصاد السياسي، ترجمة راشد البراوي، النهضة العربية، القاهرة، 1969، الصفحة89.

30.سيغموند فرويد: قلق في الحضارة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1980، الصفحة 20.

31.ميشيل فوكو: جينالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، ط2، 2008، الصفحة 49.

32. ار الفارابي، بيروت، 2005، الصفحة375.   سبينوزا باروخ : رسالة في اللاهوت والسياسة،

33. عادل مصطفى: فهم الفهم، مرجع سابق، الصفحة 465.

34.بول ريكور:  في التفسير محاولة ، في فرويد،مصدر سابق، الصفحة285.

35.  بول ريكور:  في التفسير محاولة ، في فرويد، الصفحة 33.

36. المصدر نفسه،الصفحة34.

37. بول ريكور:  في التفسير، محاولة في فرويد،مصدر سابق، الصفحة36.

38. ا لمصدر نفسه، الصفحة 41.

39.المصدر نفسه، الصفحة نفسها .

40.ريكور بول : صراع تأويلات، مصدر سابق، الصفحة 503.

@pour_citer_ce_document

وليد بن هلال, «التأويل في الفلسفة الحديثة والمعاصرة ومنطق التعامل مع إبهام المقدس الديني من منظور بول ريكور»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp 130-140,
Date Publication Sur Papier : 2011-09-20,
Date Pulication Electronique : 2018-05-14,
mis a jour le : 11/07/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=2839.