تجليات المحكي العجائبي في رواية وادي الظلام لعبد الملك مرتاض.Reality and fantasy interaction in the novel " Valley of darkness" by Abdelmalek Mortadh
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N:02 vol 17-2020

تجليات المحكي العجائبي في رواية وادي الظلام لعبد الملك مرتاض.

Reality and fantasy interaction in the novel " Valley of darkness" by Abdelmalek Mortadh
ص ص 239-248
تاريخ الإرسال: 2018-07-20 تاريخ القبول: 2020-06-02

ربيحة بزان
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يعد "عبد الملك مرتاض" من الروائيين الذين خاضوا غمار التجريب الروائي، من خلال تجاوز النمط التقليدي⁄الكلاسيكي، الذي سيطر على الكتابة الروائية ردحًا من الزمن. فكانت روايته "وادي الظلام" أحد الفضاءات التي كشف من خلالها سبل التجاوز والخلق الفني، عبر المزج بين الواقع والخيال. ويروم هذا المقال الكشف عن تجليات المحكي العجائبي في هذا النص الروائي، من منظور "تودوروف"، هذا الأخير الذي يجمع أغلب الدارسين أنه صاحب السبق في هذا المجال. فما مدى تمكن "مرتاض" من خرق الثوابت التقليدية للكتابة الروائية، وتأسيس رؤية جديدة للعالم والذات، تمزج بين الواقع والمتخيل؟ وماهي الآليات التي يشتغل عليها خطاب مرتاض في فضح المسكوت عنه في الثقافة الجزائرية؟

الكلمات المفاتيح

التجريب الروائي، الواقع، العجائبي، المتخيل، المحكي

Abdelmalek Mortadest l’un des premiers romanciers ayant eu recours à l´expérimentation dans le roman délaissant le modèle traditionnel et classique qui a dominé durant une longue période. Son roman WadiEdhalam« La vallée de l´obscurité » constitue un des espaces à travers lequel il dévoile ce par quoi il se livre à une écriture de la transgression et de la création artistique en mariant le factuel à l’imaginaire.  Cet article vise à montrer les manifestations du conte fantastique dans ce roman selon l’analyse proposée par Todorovqui est considéré par ses pairs comme un précurseur dans ce domaine. En ce sens, nous nous interrogeons alors à quel pointMortadest-il donc parvenu à transgresser les constantes conventionnelles de l´écriture romanesque en vue de mettre en place une vision nouvelle du monde et de soi où se mêlent le réel et l´imaginaire. Nous nous interrogeons également sur les procédés dont a fait usage Mortadpour mettre à nu le non-dit dans la culture algérienne

Mots clés: expérimentationdans le roman, réel, Fantastique, imaginaire, cont

Abdelmalek Mortadh is one of the novelists who tried a new way in narrative writing, by using new creative techniques through experimentation, aiming at exceeding to the classical ones which dominated for a long period of time, and his novel entitled "Wadi Edhalam""Valley of Darkness" reflects on the use of those new techniques and also his style of writing. In this novel Mortadh experimented how to combine between realistic and fantastic worlds in order to get creative writing fiction. This study aims to reveal the miraculous in this novel, from the perspective of Todorov, the latter, who is the pioneer in the field according to the scholars. So, to what extent could Mortadh go beyond traditional narrative writing and establish a new vision for the world and the self, by combining reality and imagination? What are the different tools used by Mortadh in his narrative discourse to reveal the unspoken issues in the Algerian culture? We will try to answer these questions through the following study?

Key words:Narrative Fiction, Reality, Miraculous, Imaginary, Experimentation

Quelques mots à propos de :  ربيحة بزان

 جامعة سطيف 2rbiha2017setif@gmail.com

 تمهيد

يعد "عبد الملك مرتاض" أحد الروائيين العرب الذين أبدعت قرائحهم نصوصًا مختلفة الأشكال، فبعد أن كانت تجربته الإبداعية محصورة في النمط التقليدي، خاض غمار التجريب. وتمثل روايته "وادي الظلام" خروجًا عن السجل التقليدي، الذي هيمن على نسق الرواية الجزائرية لفترة طويلة، من خلال مواكبتها للجديد في مجال الإبداع الروائي، إن على مستوى الشكل أو المضمون، متجاوزة النمط الواقعي. فكان هذا النص الرﱢوائي الرﱠحم الذي انبثق منه الخلق الفني عن طريق التجاوز. وكان ذلك بعد أن ارتادت الرواية العربية ومنها الجزائرية آفاقًا، غيّرت من الحساسيّة الأدبيّةـ، مع وَضع العقل العربي على المحك لمراجعة مكوناته، وآليات تفكيره، وطرق تعبيره، إضافة إلى عوامل تاريخية واجتماعية أخرى(1)، فرضت على الأدباء تغيير وجهة نظرهم للذات والعالم، وإنتاج نصوص بأشكال أدبية لم تعرفها الثقافة العربية من قبل، خاصة بعد هزيمة 1967.

ورغم تعدد المسميات لهذا التحول في أنماط الكتابة الأدبية، إلا أن ما يمكن الاتفاق حوله هو أنّه تكريس لنوع جديد من الكتابة خارق للثوابت التقليديّة، ومتجاوزلتقاليد الكتابة الكلاسيكيّة، الّتي كانت مسايرة للواقع، ناقلة لمجرياته. وقد أثيرت مجموعة من التساؤلات حاول هذا المقال الإجابة عنها، نجملها في ما يلي: ما مدى انزياح الكتابة الروائية "المرتاضية"عن النمط التقليدي، عن طريق توظيف الخارق أو العجائبي، الذي يُعدﱡمن بين آليات التجريب. وما الآليات التي يشتغل عليها خطاب الروائي في فضح اللامقول؟.وستكون المفاهيم التي وضعها "تودوروف" من خلال مؤلفه "مدخل إلى الأدب العجائبي" المحك الذي سيُشتغل عليه، لكشف تجلياتها في هذا النص الروائي، من خلال المغيب في خطابه.

أولا: التجريب الروائي العربي وآفاق العجائبي

إنّ هذا التحول في نمط الكتابة الروائية قد يفاجئ القارئ - الذي ظلﱠإلى عهد قريب حبيس النمط التقليدي-، يستدعينوعًا من القراء المنتجين- المشاركين في الخلق والإبداع على المنوال الذي دعت إليه نظرية التلقي.

وما تجدر الإشارة إليه هو أنّ هذا التجريب قد يشمل جميع مكونات وبنيات النص الروائي، إن على مستوى الشكل أو المضمون فـــــــ «تداخلالنثر بالشعر، من خلال احتفاء المتن السردي بالأسلوب الشاعري، وضياع الشخصيات الروائية، وتداخل العلاقات والمصائر، إضافة إلى احتفاء السّرد بالذات الكاتبة، أو هيمنة السّرد بضمير المتكلم، والاهتمام البالغ بالعوالم الداخلية للذات على حساب العوامل الخارجية للموضوع»(2). ولعلّ هذه التغيرات أفرزتها المراجعة الجذرية للتصورات السائدة، إضافة إلى العلاقة مع الرواية الغربية، والتأثر بالتيارات الروائية الجديدة. فأضحى تمثل العالم أكثر نضجًا وأكثر فنية وجمالية من خلال التداخل بين الواقعي والتخييلي، وتجاوز علاقة المماثلة والمطابقة بين النص والواقع، والدخول في عوالم استيهامية لا معقولة تخرق النظام العادي المتعارف عليه، وترتاد الشخصيات من خلالها عوالم عجائبية، يسودها الغموض والتوتر، تجمع بين المرئي واللامرئي بين المعقول واللامعقول.

إنّ توظيف العجائبي في الرواية العربية بمختلف أقطارها يُعدﱡمن الرهانات التي راهنت عليها وهي تخوضغمار التجريب، بعد أن دبﱠالوهن في أوصالها مع النموذج التقليدي، إضافة إلى محاولة تمرير بعض الانتقادات السياسية والاجتماعية للواقع عن طريق الترميز. وهذا ما يؤكده "شعيب حليفي" إذ يرى أنّ هذا التوظيف «وسيلة فصيحة للتعبير عن الكوابيس اليومية لهزائم فردية أو جماعية، وخوفًا دائمًا ومرعبًا من إمحاء الهوية إثر ضربات خارجية أو داخلية متواليتين»(3). وهو في هذا يكون مخالفًا له في الثقافة الغربية التي لا شك أنّ العربيّ قد اطّلع عليها. غير أنّ هذا لا ينفي وجود هذا الشكل من الكتابة في الإنتاج العربيّ القديم، هذا الأخير الذي نسب إليه" كمال أبو ديب" المشروعيّة والمصداقيّة، في نبرة لا تخلو من الحماسة والانتصار لكلﱢما هو عربيّ(4). وهي؛ أي الكتابة العجائبيّة لا تتحقق «إلاّ في النثر لأنّ القراءة الشعرية ومثلها الرمزية تلغي حقيقة الوقائع»(5) .

 

 

ثانيا: العجائبي في الثقافة الغربية

 تجمع أغلب الدراسات أنّ "تزفيتان تودوروف" (tzevetan todorov) كان له فضل السبق في هذا المجال، فإليه يُعزى ظهور الاهتمام بالأدب العجائبي. غير أنّ ذلك لا يعني انعدام الدراسات قبله، وهو ما أكده في كتابه"مدخل إلى الأدب العجائبي"، فقد أشار إلى الدراسات السابقة له، والّتي كانت منطلقه في البحث. من "كاستكس"(kastix) في كتابه" الحكاية العجائبية في فرنسا"، إلى "لويس فاكس"(luis fax) في مؤلفه" "الفن والأدب العجائبيين"، مرورا بـــ "روجيه كايوا") rouget kaïoua) من خلال كتابه "في قلب العجائبي". وإن كان "تودوروف" يرى أنّ هذه الأعمال تخرج من عباءةٍ واحدةٍ، وهي تشرح بعضها بعضًا. فإنّه يُؤكد على أنّ المخطوطة التي عثر عليها في سرقسطة تمثل تدشينًا لحقبة الأدب العجائبي بتفوقٍ ومهارةٍ. لذلك نجد هناك من يعود بهذا النوع من الكتابة إلى القرن 14، حين ارتبط مفهومه بالأشباح والأرواح. كما أنّه في رأي البعض الآخر لم يكن معزولاً عن التطور العلمي الذي عرفته الثقافة الأوروبية(6).

لقد حاول "تودوروف" وضع تعريفٍ للعجائبي عدﱠﻩ واضحًا كفايةً، فهو «يقتضي أن تكون شروط ثلاثة منجزة، أولاً لابد أن يحمل النص القارئ على اعتبار عالم الشخصيات كعالم أشخاص أحياء، وعلى التردّد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق طبيعي للأحداث المروية، ثمﱠقد يكون هذا التردّد محسوسًا بالتساوي من طرف شخصية. على ذلك يكون دور القارئ مفوضًا إلى شخصية وفي نفس الوقت يوجد التردّد ممثلاً»(7). ولعل مردّ التردّد والحيرة يعود في أصله إلى موضعة هذا النوع بين شكلين آخريين هما: العجيب والغريب، اللذان يندرجان تحت معطف الفانتاستيك بتعبير "حليفي"؛ فهو يميل أكثر إلى العجيب ويبتعد عن الغرائبي الذي يرتبط بما فوق الطبيعي، بينما يرزح "العجائبي" متردّدًا بين الواقعي والما فوق طبيعي.

إنّ هذا المفهوم سيشغل حقل المنظرين، ويمدﱡهم ببوارق جديدة في مجال التحديد، كما باستطاعته أن يفتح منطلقات جديدة، ظلت مجهولة بالشكل الذي اضطلع به "تودوروف"(8). وبقدر ما يؤكد هذا خصوصيةعمله، إلاّ أنّه لا يلغي انطلاقه من الدراسات السّابقة عليه.

انتقل العجائبي إلى الثقافة العربية، مثيرًا عند متلقيه ردود أفعالٍ تراوحت بين الرفض والقبول. خاصة إذا علمنا أنّ البعض قد أرجع أصله إلى الثقافة العربية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك سالفًا. فالأغلب أن لجوء الكتّابإليه كان لما وجدوا فيه من إمكانية التعبير عن الواقع رمزًا، وعن أملهم في مستقبل يتجاوز الحاضر. فــــ« المكون العجائبي يتيح إمكانيات هائلة لتجاوز العالم المألوف وخرق النظم القائمة، وبالتالي إنتاج كتابة باعثة على القلق والحيرة والتردد»(9)، تضع نسبة الأحداث إلى الواقعموضع تساؤل. ومرد ذلك هو الخلط الملحوظ بين المعقول واللامعقول. فيتبدى التداخل بين الواقعي والضبابي جليًّا.

  ثالثا: آليات تحقق العجائبي في النص المرتاضي

إنّ رواية "وادي الظلام" تحاول من بدايتها الكشف عن التداخل الحاصل في بنيتها بين الواقعي والخيالي، فالوادي الذي «يحس الداخل إليه كأنّه في ليلٍ حالك، أو كأنّه سحابة سوداء توشك أن تمطر»، هو منطقة قائمة في الزمان والمكان بشخوصها، وهو أهم مكان تدور فيه الأحداث. فسكان "الجلولية" - الذين يحكمهم "الشيخ همدان" الجاهل الأميﱡ، كما نصﱠعلى ذلك ميثاق المحروسة الذي اتفق عليه شيوخها شفويًّا-، أصبحوا يعيشون الخوف واللاأمن، بعد أن كانت النساء يتحلين «بالحليِّ قبل أن يذهبن إلى قطف الثمار أو استقاء الماء»(10)، دلالة على الأمن. ومردﱡهذا التحول واللااستقرار هو طول عمر شيخ القبيلة، الذي جاوز القرن «وما زال متمتعا بذاكرة قويةٍ ووعيٍّ تامٍ، وحركةٍ رشيقةٍ»(11). هذا، ويظهر وجه العجائبي أكثر في إنجابه لصبيين من امرأة أجنبية (فرناسية)، بعد أن عجزت النساء الجلوليات أن يلدن له، بعد زواجه منهن. كلﱡهذه الأحداث، جعلت صبر الشيخ المنتظر "حمدونه" ينفذ، ليفكر في الاستعانة بـ"أبي الهيثم وجماعته" لينشر اللاأمن في "الجلولية"، ويستفز شيوخها على إقالة "همدان" من منصبه. خاصة بعد اغتيال إمام المسجد، وتعرُض "فيلسوف القبيلة" لمحاولة اغتيال، ليكون اختطاف "عائشة" بنت المعلم القطرة التي أفاضت الكأس. ومن خلالها تمﱠفضح "حمدونة". وما يثير الانتباه في هذا النص الروائيّ، هو حضور العديد من القصص المضمنة التي كان لها الدور في إضاءة بعض شخوص المحكي.

أما إذا أردنا الحديث عن الافتتاح بالنسبة لهذا النص، أو الإطار الأساسي له، الّذي تمﱠمن خلاله العبور إلى العجائبي أو ولوجه، فإنّ "أم زينب" الّتي طُلب منها أن تحكي قصة "الجلولية" لفتيانها وفتياتها حتى تسجل في كتب تاريخ القبيلة ـ قد تقمصت دور الحكواتي، «وقبل أن تشرع في سرد حكايتها التمست من شهود مجلسها أن يوقدوا النيران ويكثروا من المجامر والبخور، لكي يتعطر المجلس إقرارًا بالنعمة الإلهية على القبيلة، وحتى لا تقترب منهم الكائنات الشريرة في هذا اليوم السعيد، مثل الجان والغيلان والشّياطين والشِّق والنسناس»(12). إنّ هذه البداية هي الفضاء الذي بشَّر بملامح الكتابة، وأنبأ عن حضور العجائبي، وهي بذلك تشتغل بعدها موجهًا لأفق الانتظار. 

1-                        الشخصيات بين المفارقة والتحول

يعد الاهتمام بالشخصية من أهم المباحث التي أثارتها السرديات، وإحدى الركائز التقليدية في نظريات الأدب والنقد قديمه وحديثه(13). كما أنها أهم المكونات الأساسية في الأعمال السردية، وذلك لأنها عنصر دينامي وحيوي داخل الفضاء النصي، لاضطلاعها بمختلف الأفعال. وقد اهتم "مرتاض" بها، في رسمه لملامحها، وبيان طرق تفكيرها، فجعل جلهاتنتمي إلى قبيلة "الجلولية"، مع تسجيل حضور شخصيات أخرى من قبيلة "بني حمود"، إضافة إلى "أبي الهيثم" مع جماعته. وقد كان لها دورها البارز في تحريك أحداث الرواية. فالمعلم "أحمد" أو "فيلسوف القبيلة" كما يُلقب- لسعة إطلاعه، وثقافته الموسوعية- من الشخصيات التي كانت فاقدة لكلِّ الخيوط الواصلة بينها وبين مجتمعها، فحكم عليها أن تعيش غرابتها القلقة(14)، إلى أن أدركت ووعت ذلك، فغيَّرت من موقفها. فكلّ الكتب التي قرأها في السياسة والاجتماع والدِّين والفلسفة وغيرها، والتي كانت سببًا في معارضته لكلِّ ما يحصل في القبيلة، لم تمنعه من أن يصبح شخصًا انتهازيًّا، يسعى وراء مصالحه الخاصة، مديرًا ظهره لكلِّ ما كان يؤمن به. وقد ظهر ذلك جليًّا من خلال حديثه إلى زوجته "زليخا": «.. سأتحول في حياتي...سأترك الجمعية والتعليم، وسأحترف حرفة لا يلتفت فيها أحد إليﱠ»(15). فأضحى ممن ينفقون أوقاتهم في عدﱢالأموال بدل إنفاقها في الدعوة إلى القيم. ويلزم التحول في المواقف شخصية أخرى، تربطها علاقة الأبوة بالشخصية السابقة، فـــ"عائشة" التي كانت ترفض الزواج من الشيخ "حمدونة"، لما كانت تراه من فروقات بينهما، أصبحت بعد أن اختطفت، وأضحت سبيَّة، ستتعرض للاغتصاب، تتمنى لو أنﱠذلك الزواج قد تمﱠ. تقول: «يا ليتني كنت تزوجت الشيخ حمدونة على شيخوخته، إذن لكنت الآن معززةً مكرمةً، مدللةً منعمةً، ولكنت متحلية بالذهب رافلة في الحرير يحرسني الحراس»(16). فما السبب الذي جعل "عائشة" تغيِّر من موقفها، وتستبدل الرفض بتمني القبول؟ وهي التي كانت محجمة عن عيش يشبه عيش نساء الجلولية. إنّها الظروف القاسية. وهي التي نعتها أحد رجال أبي الهيثم بأنها "فرخ جان" وليست من البشر، إذ لم يستطع الإمساك بها عند فرارها من المغارة، بعد أن فقأت عين الزعيم اليسرى. أما "الشيخ همدان" الذي كان رافضًا لتواجد قبيلة "بني حمود" على ضفاف الوادي، فقد تحالف معها واجتمعت القبيلتين لأول مرة، من أجل القضاء على الجماعة التي نشرت الفزع في المنطقة. والتي تحول زعيمها "أبو الهيثم" بين يدي "عائشة إلى حمل وديع، بعد أن كان وحشًا مفترسًا. لقد «تضافرت مقومات هذه الشخصيات كما عكسها المجتمع السّردي المتشابك والمعقد، لتضفي عليها أبعادًا تعجيبيّة وتغريبية ترتبط أساسًا بسماتها وطبائعها وصنائعها المتحولة الموسومة بالغرابة والشذود والتمزق والتحول المثير، إلاّ أنّ ما يميز هذه الشخصيات هو كونها لا تنمو بعيدة عن الواقع الذي تحيا فيه»(17). فساهم بقدر في تغيير مواقفها وتحويرها، من خلال المفارقات التي وقعت فيها، والتقلبات المتعددة التي أخضِعت لها.

تمظهرات العجائبي في النص    

لعلّ تركيز "تودوروف" على التردّد كسمة بارزة لتمييز العجائبي عن غيره، جعل منه «ترددًا مشتركًا بين القارئ والشخصية، اللذين لا بد أن يقررا ما إذا كان الذي يدركانه راجعًا إلى "الواقع" كما هو موجود في نظر الرأي العام، أم لا»(18)، وهذا ما تضعنا أمامه هذه الرواية، فرغم أنّها ليست عجائبيّة صرفه، إلاّ أنّها تخلق في نفس قارئها ذلك الشعور، ومردُّه إلى موضعة العجائبي بين نوعين هما الغريب والعجيب. وقد حصر "تودوروف" خصوصيات العجائبي - من خلال وقوفه على مجموعة من النصوص- في مظاهر ثلاثة، سيحاول المقال الوقوف عند تمظهرها في "وادي الظلام".

2-1                   : المظهر اللفظي

- الملفوظ:اهتم الروائي بالصورة البلاغية، فكانت الوعاء الذي فجَّر العجائبي، «ولئن كان العجائبي يستعمل باستمرار صورًا بلاغيةً، فلأنه وجد فيها أصله. إنّ فوق الطبيعي يولد من اللغة، وهو في نفس الوقت نتيجتها ودليلها»(19).بالنظر إلى العنوان الذي يعد العتبة الأولى التي بها نلج النص يتبادر إلى ذهن المتلقي أنّه سيعيش مع شخوص الرواية وسط ظلمة حالكة يفرضها "وادي الظلام". ولكن وبمجرد التعامل مع النص يتبين أن المكان «يجري بالماء الغزير على وجه الدﹼهر، وفيه من مياه وغابات مدهشة من الأشجار المثمرة والمراعي الخصيبة»(20)، ما يجعل منه مليئا بالحياة، مفعما بالحيوية، وأنّ الظلام قد حلَّ به بسبب الأحداث التي وقعت فيه. وقد سجل العجائبي حضوره من خلال الخطاب البلاغي، يقول"مرتاض" وهو يصف الوادي الذي «كانت الأشجار المثمرة وغير المثمرة، لكثرتها في جهلتي وادي الظلام، تتعانق أغصانها المورقة فوق الوادي فيتشابك بعضها ببعض فتسقفه بضلالها، فتشكل غابة عظيمة كثيفة تغطّي فضاء الوادي الأعلى كله منه. فلم تكن الأسافل والدواخل تشهد ضياء الشمس على وجه العام. وكان الداخل إلى الوادي حين يدخل يقع تحت دائرة الظلال الكثيفة التي كانت تحجب أشعة الشمس فتُحيل البطائن إلى ظلام»(21). فأنّى لها أن تتشابك وهو الذي يمتد على مسافات بعيدة من نحو الشمال إلى نحو أقصى الجنوب. كما تجسد العجائبي أيضًا من خلال سلسلة التشبيهات والتعابير البلاغية، فمرتاد الوادي ينتابه شعور «كأنّه في ليل بهيم، أو تحت سحابة توشك أن تمطر»(22). فقد تحول البلاغي هنا إلى عجائبي. كما سجل التصوير البلاغي حضوره في وصف جمال المرأة، ف"عائشة" عند مرتاض «كأنّها عالم كبير تمثل في رأس صغير، ابتسامتها الواثقة، خطواتها الثابتة، شخصيتها الجذابة، جمالها الفتان. تحكّمها في لدّاتها وهي تلاعبهن أو تحادثهن، كأن في لسانها السحر! كأنني بها وقد رويت من العلم حتى الجمام»(23)، وهي حين تمثلها "سعدون" العاشق المحموم، بعد أن رآها «تستعرض خطوات الفتاة الحسناء، الرشيقة الهيفاء، ويتأمل مشيتها وهي تتحرك بخطوات كأنها إيقاع الأنغام، وهي تتكسر في مشيتها كالنخلة العيدانة في تلك المروج الخضراء»(24). يتضح من خلال هذه التعابير وأخرى غيرها، كيف ينزلق التصوير البلاغي الذي يعتمد على التضخيم والمبالغة إلى العجائبي، الذي كان مسبوقًا بسلسلة من التشبيهات والتعابير البلاغية أو الاصطلاحية، والتي يكثر رواجها في اللغة المشتركة بتعبير "تودوروف". إنّ السّارد بعمله هذا يحول تارة البلاغي إلى عجائبي، وتارة أخرى يحقق البلاغي المجازي من خلال العجائبي.

-التلفظ: اهتم "تودوروف" في هذا الشّقِّ من المظهر اللفظي بالسّارد، أو ما سمي بـــــ"السارد المجسد" فهو «يلائم العجائبي، لأنّه ييسر التماهي فيما بين القارئ والشخصيات»(25). وإذا كان "تودوروف" قد وجد ضالته في النصوص التي مثل بها والتي سبقت الإشارة إليها، فإنﹼالنص المرتاضي قد خرق القاعدةـ، ذلك أن السّارد عنده كان مزيجا من ضمير المتكلم والمخاطب والغائب، خاصة إذا علمنا أنّ السّارد في بداية الرواية يسعى إلى تشغيل بعض مقومات السّرد العربي من خلال حضور المسرود له.

يقول: «الجلولية، يا أولادي، وكما تعلمون، تمتد على مساحات شاسعة مما يلي وادي الظلام إلى نهاية، لا نهاية لها في الحقيقة!

نعرف ذلك يا أمّ زينب! »(26).

أمّا ضمير المخاطب فقد كان طاغيًّا على المتن الروائي، من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر:

«هممتِ بالفرار...لولا خوفكِ من أنّ الجريح على ما اعتراه من ضعف بسبب الجراح فإنّه كان سيطلق عليكِ النار، حتما! لأنّكم الآن أنتم بعيدون جدًا عن المحروسة...

وتقضون النهار كلّه في ذلك الكوخ حتى وقت الأصيل... فظلت الحراسة عليكِ مشدﱠدة، وقد كتَّف أفراد العصابة يدﱠيك، وقيّدوا رجليك، برُمتيّن باليتيّن. »(27) .

لكن ذلك لا يعني أنّ حديث الشخصيات غائب، وإنّما في معظم الأحيان، نجد أنّها تتكلم عن نفسها، من خلال طرح مواقفها ورؤاها. أو من خلال حديثها إلى الآخرين، يقول المعلم "أحمد": «ألا تفهم، أيها السّلطان! إنما أريد مغادرة التعليم، نهائيا! كذلك قررت. وقراري نهائي ولا رجعة فيه. ولقد كرهت غبار الطباشير. ولقد كرهت فُساء الصبيان...ولقد ضجرت بملاحظات المدير كلّ صباحٍ ومساءٍ.»(28).

كما لا يفوتنا أن نشير إلى أمثلة عن ضمير الغائب، من ذلك: «سيدي الرئيس! ضربني! قتلني! أهاني! كان سكران فعمل فيّ ما عمل سيدنا علي في الكفار، ما يقبضه في اليوم من عمله المتعب ينفقه في الشراب، ثم يرجع إلى الدّار سكران(29).

2-2: المظهر التركيبي: ربط "تودوروف" هذا المظهر بالبناء أو كما أسماه "البنية" بمعنى ضعيف، فاستند إلى دراسة "بنزولدت"، هذا الأخير الذي خصّصّ لها فصلاً كاملاً. أما عن فحوى الدراسة فهو التدرج الذي يسير وفقه النص ليصل إلى الذروة.

غير أنّ "وادي الظلام" لا يسير وفق هذا التدرج، خاصة وأنّه (تودوروف) يربط هذا المظهر بزمن القراءة أو التلقي. فسحر العجائبي يقترن بالقراءة الأولى، ذلك أنّ القراءات المتتالية بعد ذلك تصبح ميتا قراءة أو قراءة واصفة، همُّها هو البحث عن إجراءات توظيف العجائبي.

ولا يمكن الحديث هنا عن نص يُشَيَّد في خطة متماسكة، ذلك أنّه خرج عن نطاق الكتابة الكلاسيكية، فزاوج بين الهدم والبناء، ولعل غياب "العقدة"، يعود إلى انزياح الأحداث والأزمنة عن المألوف المنطقي، فشكَّل التداخل والخلط بنية هذا النص في جميع مكوناته، فخالف بذلك النص الكلاسيكي القائم على التماسك. ولعل احتفاء النص المعاصر بالعجائبي، جعله يخرج عن الإطار الذي رُسم في النصوص التقليدية، الّتي كانت تقوم على المنطق والسّببيّة.

وبهذا استطاعت الكتابة المرتاضية تقويض النمط السابق، عن طريق الحلم والفعل الاستيهامي، فأضحى الإمساك بخيوطها، ومعرفة ملابساتها، وسبر أغوارها، قراءةً وتأويلاً يحتاج إلى مراس ودرابة، خاصة وأنّه عمد إلى تضمين القصة الإطار الكثير من القصص المضمنة.

2-3: المظهر الدلالي: على الرغم من أنّ هذا النص الذي نشتغل عليه ليس عجائبيًّا خالصًا، وإنما يستثمر هذا النوع من المحكي جنبًا إلى جنبٍ مع مكونات أخرى، إلّا إنّه يسجل حضورًا للكثير من الموضوعات العجائبيّة التي أقرها "تودوروف" في حديثه عن هذا المظهر.

وقد صنفه صنفين: صنف موضوعات الأنا، وصنف موضوعات الأنت.

-موضوعات الأنا: يرتبط هذا الشّقّ من الموضوعات بمجموعة من التحولات والانتقالات، مع انتفاء الصدفة، وترك المجال أمام خضوع كلﱢحدث للسّببية أو الحتمية الشمولية، التي تعني في مستواها المجرد أنّ «الفاصل بين الفيزيائي والعقلي، بين المادة والروح، بين الشيء والكلمة يكف أن يكون حجوزا»(30). غير أنّ التحولات الموظفة في هذا النص، لم تكن جلُّها بالمعنى "التودوروفي"، إلاّ أنّ جزءًا منها كان يحمل سمات ما أقره، خاصة في انتفاء الصدفة. فتواجد "سعدون" قرب وادي الضباع لحظة اختطاف "عائشة" لم يكن صدفة، بل هو موعد العاشق المحموم الّذي يود رؤية محبوبته التي تعودت المرور من ذلك المكان، فحدث ما لم يكن في الحسبان. كما يمكن اعتبار تحول "عائشة" عند هروبهامن المغارة، ومعاناتها مشاق الطريق إلى ما يشبه «الشجرة العيدانة التي تصيبها الريح التي كانت تهب بقوة خارج الكوخ»(31)من الموضوعات التي أشار إليها "تودوروف" ضمن هذا الإطار. فهذا التحول قد كان من الروح إلى المادة.

كما أنّ التحول قد طال الزمان والمكان بمفهومه المتداول في النص التقليدي، خاصة وأنّ وظيفة المكان قد تحولت من مجرد ديكور يؤثث به النص إلى أساس من أساسيات البناء السّردي، فأضحى له علاقة بالعناصر السردية الأخرى كالحدث والشخصيات والزمن، إضافة إلى أنﱠالعلاقة بين المكان والزمان من البديهيات، ذلك أنه يصعب الفصل بينهما، خاصة في العملية السردية. فالشخوص في "وادي الظلام" تؤثر وتتأثر بالمكان، ولا تتواجد منفصلة عنه، بل في أحايين كثيرة هو الذي يحدد هويتها وكينونتها، خاصة وأنّ "مرتاض" قد جعل منه المرتع الذي تؤدي فيه الشخصيات أدوارها، حتى وإن كانت وحيدة تعيش في عالم استيهامي حلمي بعيدًا عن المجتمع الذي تحيا فيه. فالوادي الذي يمثل للجلوليين الفضاء الآمن للعيش الرغد، تحول إلى مكان عدواني، يبعث على الخوف، بعد جملة من الحوادث التي مرت بها شخوصه (المعلم، إمام المسجد). والحديث نفسه ينطبق على الغابة، فبعد أن كانت الملاذ الذي تهواه "عائشة" وتفضل التواجد فيه، لأنّه يمنحها مزيدًا من الحرية التي كانت تعيشها دون نساء الجلولية، باتت كأنّها المحيط الهائج الأمواج، وهي تسبح في ظلماته بتعبير "مرتاض".

إضافة إلى المغارة والدروب الوعرة والكوخ، كلّها فضاءات توحي بالعزلة والنفي والكبت، فالمغارة كانت بالنسبة للجماعة المكان الذي «تنكمش فيه الذات في قوقعتها، لتحمي نفسها من اعتداءات الآخرين، تؤثث مكانها بالذكرى والحلم»(32)، فحلمها باعتلاء "حمدونة" المشيخة هو الذي حملها على كلﱢالأفعال التي قامت بها، والتي مكنتها من الخروج من شرنقتها. فرغم أنّها كانت مكانًا قذرًا، إلّا أنّ الجماعة كانت تستمتع بتواجدها فيه، وتمارس فيه سلوكاتها الشاذة، من خلال الرغبة الجنسية.

-موضوعات الأنت: استطاعت رواية "وادي الظلام" أن تكشف بعض موضوعات الأنا، فالأستاذ كائن تتجسد فيه جميع المبادئ المستخلصة من التحليل السابق، يعيش في عالم الأفكار، إلاّ أنّها أفكار صارت محسوسة فيه. ويقع حدث لم يكن متوقعًا، قرر أن يتزوج، بعد أن تحول من مجرد معلم فقير معدم إلى تاجر غني، لقد وقع في الحبﱢ، إنه يعشق امرأة، ليست حلمًا بل واقعًا، فبهية التي أثارته، وصفت نظرته إليها قائلة: «كان والله ينظر إليَّ نظرة من نار! كان يحرقني وهو يحدق في ملامحي، وفي تفاصيل جسمي...كنت إلى ذلك، أحسّه يعرّيني من فوق إلى تحت»(33). وذلك ما حدث أيضا لــ"سعدون" الذي أثارت غرائزه "عائشة" الفاتنة، وجعلته ينتحل شخصية الراعي من أجل أن يحادثها، ويصارحها بهيامه بها، فقدم حياته من أجل إنقاذها عندما تعرضت للاختطاف. فالرغبة الجنسية تمارس سلطتها على هذه الشخصيات، وتتحكم في الأفعال التي تصدر منها تجاه المحب.

ما يلاحظ على هذا النص الروائي هو أنّه لا يخضع لكلﱢالمقولات التي أقرها "تودوروف" في عمله، فنجد غيابا للسُّحاق، الذي يظهر الالتباس في الجنس، وكذا الحبﱡالمبذول لأكثر من اثنين، رغم ما يلحظ من تعدد الزوجات للرجل الواحد. كما أنّ غياب المراقبة والكبت الأمومي (نسبة إلى الأم)، يجعل من العلاقة مع المرأة تتسم بالشيطانيّة، خاصة إذا ارتبطت بالجنس.

وغير بعيدٍ عن هذا نجد حضورًا لمقولة القسوة المرتبطة باللذة، فــ «مشهد الاغتصاب يقع، بأيّ حالٍ، تحت علامة تجاوز الرغبة بالموت»(34). وتجد هذه المقولة صداها في قصة "رحمة" مع الجماعة في الغابة ـ فهي كانت تموت في كلّ لحظة تتواجد فيها بين يدي رجل من رجال "أبي الهيثم"، الذين تحولوا إلى وحوش تنهشها في كلﱢليلةٍ، ففيما كانوا يستلذون بمضاجعتها، تعاني هي آلامًا، فتجسدها صرخاتها المتوالية طوال الليل.

رابعا: اللغة العجائبية: اللغة بيت الوجود الذي يسكنه الإنسان كما يقول "هيدغر"، فهي أداة للتبليغ والتواصل معًا، وهي المبتغى المرجوّ، لذلك نجد أنّ الأدباء والدارسين أولوها أهمية كبيرة منذ القديم، كما أنها تصنف في مقدمة القضايا التي يدرسونها. وهي تحتل موقعا بؤريًّا فيما يخص العجائبي، وقد نالت اهتمام "مرتاض" في نصه الروائي، فهي تفتن القارئ بسحرها، وتأسره بجمالها، وتحفزه على دخول غياهبها، لسبر أغوارها ـ واكتشاف مجاهلها، عبر انزياحها عن اللغة الوظيفية.

وقد حاول الروائي أن يحقق "شعرية النص" من خلال التلاعب بالألفاظ، بقدرة أكسبته إيقاعا فريدًا، وهو الذي يعدُّها أساس العمل الإبداعي، فإن غاب السحر اللغوي عن العمل الأدبي غاب عنه كلّ شيء(35).

وقد نهضت اللغة في نص "مرتاض" بمهمة إضاءة الحياة الداخلية لشخصوها، عبر التقاط الأحاسيس والتصورات، عن طريق الحوار، الذي كان تارة داخليًّا وكرّة أخرى خارجيًّا، ومن خلاله يتعرف القارئ على أفكارها وأحوالها، وبه تطرح همومها.

كما احتفى النص المرتاضي بالوصف، ففتح أمامه منافذ وجهته نحو خلق عوالم شاعرية(36)، أُضيفت إلى عتبة الواقعية والطبيعية. كما أنّ الطبيعة والأشياء في وصف "مرتاض" وأثناء دمجها في سياق الإبداع أصبحت تساعد الشخوص على قول ما تعانيه وتفكر فيه.

ومارس الكاتب ما يسمى بالسّرد الوصفي، وذلك لأنّه لم يجعل الوصف زمنًا ميّتًا، وإنّما جعله يسير جنبًا إلى جنبٍ مع الأحداث أو الحركات، فـــ "أحمد" الذي فُتن بــ"بهية" وكان يسترق النظر إليها، «لاحظ عجيزتها بعد أن أدبرت عنه، وهي عائدة إلى بيتها موقعة بقدميها مشيَّة خلبت لبه خلبًا»(37). فالوصف في هذا المقطع اقترن بالسّرد، الذي ارتبط بالحركات التي كانت تصدر عن بهية وهي تعود أدراجها إلى البيت. ولم تقتصر تقنية الوصف المرتبطة بالسّرد على ذلك، بل تعدتها إلى وصف وتقديم الشخصيات والأماكن، ف"مرتاض" قبل أن يباشر العملية السردية، ويسمح لها أن تمارس سلطتها، يعمد إلى فسح المجال أمام العملية الوصفية. فهو لم يسرد الأحداث الّتي وقعت في المغارة، إلاّ بعد تقديم وصف تدقيقي عنها. يقول: «مالت عائشة إلى دهليز فيه شمعة ترسل ضوءًا شاحبًا كأنّها كانت تندب حظها العاثر في هذه الليلة...ولاحظت وجود أكياس من الحبوب الجافة، ...وقد كاد يُغمى عليها من رائحة الصِنان والأوساخ»(38).

ولعلّ استخدام هذه التقنية يسمح للقارئ بالتعرف على الأماكن التي ستكون مجرى لسلسة من الأحداث، فيعايشها لحظة قراءتها.

كما أنّ إحالة النصوص الحاضرة على النصوص الغائبة، من التقنيات التي لجأ إليها الكاتب، وتعد الرواية أكثر الأنواع التي تظهر فيها هذه العملية بصورة حادة وقوية، كما يؤكد ذلك "ميخائيل باختين"(39).وقدمثل الاتكاء على الموروث الشعبي الذي عمد إليه "مرتاض" إحدى الدعامات التي شكلت بنية النص، عبر تفجير سكونية اللغة، كما أنّ استثمار هذا الجانب يجعل من الربط بين الماضي والحاضر أمرًا له أهميته في رسم ملامح المستقبل. ولعل تقمص "أم زينب" لدور الحكواتي⁄الراوي ما يوحي بذلك، رغم التحول من الطبيعة الشفوية إلى الكتابية، إضافة إلى تسجيل حضور الكثير من النصوص الشعبية المتداولة من أمثالٍ        وحكمٍ. نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر: «الكلاب تنبح، القافلة تسير»، «فكل من سار على الدرب وصل»، وأيضا قوله: «حبلها على غاربها» ...وغيرها من النصوص التي ساهمت في إثراء النص وجعل الماضي حاضرا من خلالها. 

كما لجأ الروائي إلى النص القرآني، فحضرت الكثير من النصوص المغيبة والتي دلت عليها النصوص الحاضرة، ولعل اختيار اسم "زليخا" زوجة المعلم "أحمد"، والرؤيا التي قصها عليها، ما يوحي بحضور قصة "العزيز" في سورة "يوسف"، إضافة إلى العديد من النصوص التي كانت مرّة مضمنة ومنصصة، ومرّة أصلها غائب تحيل عليها النصوص الحاضرة من ذلك: «فلا يبقى منكم إلاّ العظام النخرة المشتتة في أرجاء المغارة»(37). فهذه العبارات تعود بنا إلى سورة النازعات الآية 11في قوله تعالى: «إِذَا كُنَا عِظَامًا             نَخِرَةً»(38)، وقوله «وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚمِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْشُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ ٧٨» وهي الآية (78) من سورة الحج. كما أن سورة البقرة قد كانت حاضرة من خلال الآية (216) «كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖوَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢١٦». وقد عمق حضور اللغة العجائبية الوظيفة الأدبية، فقدمت حوارًا خصبًا بين الرواية ومتخيل المجتمع.

وما يمكن قوله بعد هذه الرحلة في رواية "وادي الظلام"، هو أنّ هذا النص قد حاول تقديم فهم للواقع الاجتماعي بالكشف عن صراعاته وتغيراته، عبر توظيف العجائبي في تجلياته المختلفة، والتي تمالكشف عنها، متأثرا بالرواية الغربية في بعض وجوهها، ليعبر عن تجربة روائية مغايرة للحبكة السردية التقليدية، منتجالمعانٍ ودلالاتٍ مختلفةٍ اختلاف ترسانة القارئ الثقافية والمعرفية. خالقالنمطٍ روائي مرتاضي منزاح عن الكتابة الكلاسيكية، من خلال الشخوص والتنوع اللغوي، إضافة إلى التعدد الموضوعاتي (الثيمي). وعليه قد تكون كرست تشخيصًا فنيًّا بقيامها على التشويق والإثارة

الهوامش

  • عبد الملك أشهبون: الحساسية الجديدة في الرواية العربية، روايات إدوارد الخراط نموذجا، ط1، دار الآمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان،1431ه-2010م، ص13.
  • عبد الحميد عقار: الرواية المغاربية تحولات اللغة والخطاب، ط1، المدارس للنشر والتوزيع، الدار البيضاء – المغرب، 1421ه -2000م، ص15.
  • شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانتاستيكية، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 1430ه-2009م، ص53.
  • ينظر: كمال أبو ديب: الأدب العجائبي والعالم الغرائبي في كتاب العظمة وفي السرد العربي، ط1، دار الساقي، بيروت- لبنان، 2007، ص 13.
  • لؤي علي خليل: عجائبية النثر الحكائي أدب المعراج والمناقب، د،ط، التلوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق-سوريا، 2007، ص 9.
  • ينظر: عبد القادر عواد: العجائبي في الرواية العربية المعاصرة، أليات السرد والتشكيل، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه، كلية الآداب واللغات والفنون، جامعة وهران،2011-2012، ص ص 66،67.
  • تزفتان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، تر: الصديق بوعلام، ط1، دار الكلام، الرباط- المغرب، 1993، ص 54.
  • ينظر: شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانتاستيكية، ص30.
  • عمرو بنو هاشم: التجريب في الرواية المغاربية الرهان على منجزات الرواية العالمية، د، ط، منشورات دار الأمان، الرباط- المغرب، ص20.
  • عبد الملك مرتاض: وادي الظلام، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، بوزريعة، الجزائر، 2005، ص20.
  • الرواية، ص24.
  • الرواية ص8.
  • ينظر: فيليب هامون: سيميولوجية الشخصيات الروائية، تر: السعيد بنكراد وعبد الفتاح كليطو، ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2013، ص 27.
  • ينظر: عمرو بنو هاشم: التجريب في الرواية المغاربية، ص20.
  • الرواية، ص116.
  • الرواية، ص197.
  • عمرو بنو هاشم: التجريب في الرواية المغاربية، ص34.
  • تزفتان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص65.
  • المرجع نفسه، ص110.
  • الرواية ص ص11،12.
  • الرواية، ص19.
  • المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
  • الرواية، ص66.
  • الرواية، ص 171.
  • تزفتان تودوروف: مدخل إل الأدب العجائبي، ص114.
  •  الرواية، ص 9.
  • الرواية، ص ص 200، 201.
  • الرواية، ص 120.
  • الرواية، ص91.
  • تزفتان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص 143.
  • الرواية، ص 273.
  • حسين علام: العجائبي في الأدب من منظور شعرية السرد، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، 1431ه-2010م، ص 12.
  • الرواية، ص253.
  •  تزفتان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ص 171.
  • ينظر: عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد، د،ط، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ديسمبر1998، ص 114.
  • ينظر: عبد اللطيف محفوظ: وظيفة الوصف في الرواية، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت-لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر، 1430ه- 2009م، ص12.
  • الرواية، ص142.
  • الرواية، ص210.
  • ينظر: تزفتان تودوروف: ميخائيل باختين المبدأ الحواري، تر: فخري صالح، رؤية للنشر والتوزيع، مصر، ص160.
  • القرآن الكريم برواية ورش عن نافع، ط2، اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، 1425ه.  

المصادر والمراجع

المصادر

  • عبد الملك مرتاض: وادي الظلام، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، بوزريعة، الجزائر، 2005.

المراجع

العربية

  • حسين علام: العجائبي في الأدب من منظور شعرية السرد، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، 1431ه-2010م.
  • شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانتاستيكية، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر، 1430ه-2009م.
  • عبد الحميد عقار: الرواية المغاربية تحولات اللغة والخطاب، ط1، المدارس للنشر والتوزيع، الدار البيضاء – المغرب،1421ه -2000م.
  • عبد الملك أشهبون: الحساسية الجديدة في الرواية العربية، روايات إدوارد الخراط نموذجا، ط1، دار الآمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان،1431ه-2010م.
  • عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ديسمبر1998.
  • عبد اللطيف محفوظ: وظيفة الوصف في الرواية، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت-لبنان، منشورات الاختلاف، الجزائر، 1430ه- 2009م.
  • عمرو بنو هاشم: التجريب في الرواية المغاربية الرهان على منجزات الرواية العالمية، منشورات دار الأمان، الرباط- المغرب.
  • كمال أبو ديب: الأدب العجائبي والعالم الغرائبي في كتاب العظمة وفي السرد العربي، ط 1، دار الساقي، بيروت- لبنان، 2007.
  • لؤي علي خليل: عجائبية النثر الحكائي أدب المعراج والمناقب، التلوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق-سوريا، 2007.

الأجنبية

  • تزفتان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، تر: الصديق بوعلام، ط1، دار الكلام، الرباط- المغرب ،1993.
  • تزفتان تودوروف: ميخائيل باختين المبدأ الحواري، تر: فخري صالح، رؤية للنشر والتوزيع، مصر.
  • فيليب هامون: سيميولوجية الشخصيات الروائية، تر: السعيد بنكراد وعبد الفتاح كليطو، ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2013.

الأطروحات الجامعية

  • عبد القادر عواد: العجائبي في الرواية العربية المعاصرة، آليات السرد والتشكيل، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه، كلية الآداب واللغات والفنون، جامعة وهران، 2011-2012.

@pour_citer_ce_document

ربيحة بزان, «تجليات المحكي العجائبي في رواية وادي الظلام لعبد الملك مرتاض.»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 239-248,
Date Publication Sur Papier : 2020-08-18,
Date Pulication Electronique : 2020-08-18,
mis a jour le : 18/08/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7210.