فلسفة التغيير الاجتماعي عند مالك ابن نبي
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°19 Décembre 2014

فلسفة التغيير الاجتماعي عند مالك ابن نبي


pp : 25- 35

الداودي قرواز
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يقتضي واقع الأمة البحث عن الاستراتيجيات التغييرية المستنبطة من الرؤى الموضوعية للوجود والمعرفة والإنسان، والتي تتناسب وخصوصيات كل مجتمع، وهذا لأجل تجاوز المأزق الحضاري، لتحقيق التغيير الاجتماعي المنشود، المبني على أساس من التوازن الواقعي بين الروحانية والمادية، وبين أخلاق الحق والتزامات الواجب، ولعل ما يطرحه المفكر الجزائري مالك بن نبي من رؤى فيما أسماه بمشكلات الحضارة، كفيل بتحقيق هذا الطموح، ولاسيما أنه يحدد بعمق أسباب هذا التراجع الحضاري،والعجز الاجتماعي، استناداالى التشخيص الدقيق للمرض الذي أصاب روح الأمة، وأقعدها عن الإقلاع الحضاري.

الكلمات المفاتيح:التغيير الاجتــــــــماعي، الـــــــــدين، الحضــــــــارة، الاستراتيجيات التغييرية، المأزق الحضاري.

La situation critique que traverse notre nation exige une connaissance des stratégies de transformation découlant des conceptions objectives de l’existence, de la connaissance et de l’être, qui correspondent aux particularités de chaque société. Et ce afin de faire sortir la nation  de cette impasse critique pour  réaliser le changement social souhaité, basé sur un équilibre  entre le  matériel et le spirituel, ainsi qu’entre l’étique des droit et les obligations du devoir. Les réflexions développées par   le penseur algérien Malek ben nabi  à propos de  certaines visions appelées problèmes de la civilisation,    pourraient  atteindre cette ambition  car il détermine en profondeur les causes du déclin de la civilisation et des déficits sociaux sur la base d’un diagnostic précis de la maladie, celle-ci  a atteint l’esprit de la nation l’empêchant ainsi de se développer.

Mots clé : Changement Social, Religion, Civilisation.

One of the necessities needed by the critical situation of our nation is the search for strategies to change which is derived from objective views of living, knowledge and man and which is suitable to the specifics of every society. All this is to avoid the civilization problem, to reach (gain) the wanted social change, which is built based on equilibrium between morals and duties. Perhaps the views of the Algerian thinker Malek ben nabi under the title of: the problems of civilization, will realize this ambition, especially which it defines deeply the reasons of this civilization decline, and social defects, by an exact examination to the disease of our nation.

Key words: Social Change, Religion, Civilization.

Quelques mots à propos de :  الداودي قرواز

[1]أستاذ مساعد " أ"  بقسم الفلسفة كلية العلوم الاجتماعية جامعة محمد لمين دباغين سطيف2.

مقدمة

 تعيش اليوم الأمة العربية والإسلامية حالة من الإحباط بسبب الاهتمام والهوس الكبير بالفكر التغييري الذي يشهده العالم الغربي المعاصر وتفتقد هي إليه على الرغم من هبوب رياح التغيير على بعض الأوطان العربية، والتي لم تنجب إلا حالات مزرية من الاحتقان الاجتماعي والسياسي، وحتى الصراع الحضاري مع العالم الغربي لما له من أغراض ومصالح في ذلك.

وإذا كان أغلب المفكرين وفلاسفة التاريخ يرون أن التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري الذي تشهده الأمم يقوم في أساسه على مدى ارتباط هذه الشعوب بماضيها وهويتها فهما ووعيا واهتداء، فان إدراك المقومات الحضارية للشعوب الأخرى لا يقل أهمية أيضا في تحقيق الإقلاع الحضاري والمشاركة في تغيير كل ما يسيء إلى الحضارة الإنسانية جمعاء، ولعل هذا ما جعل معظم الدراسات والكتابات المعاصرة تأتي في إطار الإجابة عن أسئلة الراهن التي تصب أغلبها في قالب النهضة والتنمية البشرية بوجه عام.

 والمفكر الجزائري مالك ابن نبي* رحمه الله يعد بحق من أبرز أعلام نهضتنا المعاصرة، وخاصة في مجال الفكر التغييري وتطبيقاته الاجتماعية والحضارية في واقع امتنا الهزيل، لهذا يعتبر من القلائل الذين استطاعوا أن يقدموا دراسات علمية هي في تصوري تستحق التأمل والاستقراء على وجهها الصحيح لعلها تقدم حاجة لهذه الأمة وحتى للإنسانية، وهذا لما لها من فهم وتحليل للواقع بعيدا عن الغلو وتمسكها بالوسطية والاعتدال.

 وعليه فإن الحديث عن المشكلات التي تتخبط فيها امة الإسلام هو في الأساس حديث عن مشكلات الحضارة كما يسميها مالك بن نبي، فما تعانيه هده الأمة من تخلف وجهل وانحطاط، وتنازل عن القيم الروحية والإنسانية، فيه ما يكفي للكشف عن مكانة هذا الدين في النفوس أولا ثم بعدها في معادلة الحضارة كسنة من سنن الأنفس والآفاق التي أقرها لله عز وجل إذ يقول: "ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٥٣"(الأنفال الآية: 53)، فأي تغيير وأي حضارة ونهضة لهذه الأمة والأنفس مهزومة مستعمرة؟ فهو الانتكاس أو المأزق الحضاري لمجتمع ما بعد الموحدين، إنه القدر المحتوم أو القابلية للاستعمار كما يسميها مالك بن نبي1. لهذا فالإشكالية التي نقصد إلى طرحها ومعالجتها في هذا المقال هي:إذا كان الرأي الغالب عند فلاسفة التاريخ والحضارة ** أنهم يقدسون العامل الروحي في بعث الحضارات من جديد، فما هي الإستراتجية التي يبني عليها مالك بن نبي فلسفته في التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري؟

أولا: الفكرة الدينية هي الأرضية الصلبة لفلسفة التغيير

 إن الإنسان المسلم أصبح اليوم مريضا فقد أصابه الوهن، وهو استسلام نابع من الداخل انهارت معه العزائم وتقيدت به الحريات، ورسمت معه الحدود،وتحدد ت أمامه الأفكار والحركات؛ فكانت النتيجة الحتمية التقاعس والتقاعد عن أداء المهام فبدل المقاومة حل الانهزام، وبدل النشاط والهمة تسلط الجهل والانحطاط، الرذيلة وفساد الأخلاق، التفرقة وتشيّع الأفراد والأحزاب والمجتمعات2.

 وعليه فالأمة اليوم تحتاج -أكثر من أي وقت مضى-إلى تطهير النفوس لتستقر فيها عقيدة الإسلام الصافية والنقية، التي تحمّلنا كل المسؤولية حين تقول: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع،والبداية بقيمة الزمن والإحساس الراقي بالوقت (عن عمره فيها أفناه)، على الرغم من كل الوسائل والطاقات المتوفرة لذلك. الصحة والفراغ، التراب وما فيه من ثروات وأموال، (وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل به وفيه، إذن "فغياب آلية المراجعة والتقويم العلمي الموضوعي لحركة البناء الحضاري للأمة، أثر بقوة على سير حركة التجديد الحضاري، عندما حرمها من فرز ما هو ايجابي مما هو سلبي في منظومتي المفاهيم ومنهجية الإنجاز، ولم يسمح للوعي الحضاري بالانتشار في الأمة لتخليصها من الفكر الطفيلي المأزوم، وتحريرها من الكوابح الفكرية والنفسية والاجتماعية التي أثقلت كاهلها، وحدّت من فعاليتها الحضارية"3قال تعالى: "وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ ٣٤"(سورة إبراهيم، الآية: 34).كل هذا فيه إشارة إلى أن جوهر التغيير في هذه الأمة مشروط بالعقيدة النقية التي تحترم العمل وتحض عليه، وتقدس اليد العليا وتحط من اليد السفلى؛ ألم يقل الرسول عليه الصلاة و السلام "اليد العليا خير من اليد السفلى، ويرفع اليد خشنة الملمس من العمل ويقول: هذه يد يحبها الله ورسوله4؟

أ‌-  فقه الأولويات

 لهذا كان مالك بن نبي دوما متمسكا في دعوته إلى التغيير بفقه الأولويات،فالذي يريد أن يقدم خدمة لهذه الأمة عليه أولا أن يحارب حرية اللامبالاة في السلوك، فقلة الوعي وعدم الاكتراث والإهمال في العمل علامات على الصبيانية في التفكير، والافتقار إلى الرجولة؛ وفي ذلك خيانة للعهد مع الله ومع الوطن والأمة، وهي علامات على الهبوط الخطير في الطاقة الكامنة للمجتمع الإسلامي5.فأين هم الرجال الذين قال فيهم تعالى؟:"مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٢٣"(سورة الأحزاب،الآية: 23).

وعليه يقول مالك بن نبي" فالمسالة لا تتمثل في تلقين أو إعادة تلقين المسلم عقيدته، ولكنها تتمثل في إعادة تلقينه استخدامها، وفعاليتها في الحياة "6،فالتغيير الاجتماعي المنشود عنده؛ هو بالأساس تغيّر على مستوى السلوك الفردي. فكل عمل على تغيير الواقع المريض لهذه الأمة لا طائل منه، ما لم يوجه إلى إصلاح الفرد في أخلاقه وعقلانيته وسلوكه؛ فصلاح المجتمع مشروط بصلاح أفراده، وتغيير الواقع الفاسد مشروط بصناعة الإنسان كمحور أساسي في معادلة الحضارة الإنسانية وحركة التاريخ7.

ب-إستراتيجية التغيير

ومن هنا نقول بأن التغيير الذاتي الذي يتعرض له الأفراد هو الذي يصنع التاريخ،إذن لابد من وضع-كما يشير مالك بن نبي-إستراتيجية محكمة لهذا التغيير تخص المجال الذي يحيط بالذات، والذي يخضع لتأثير عوالم اجتماعية ثلاثة:

-   أولا: تأثير عالم الأشخاص.

-  ثانيا: تأثير عالم الأفكار.

-  ثالثا: تأثير عالم الأشياء.

 هذه الطوائف تعمل في نظره مع بعضها البعض وبتوافق وفق نموذج إيديولوجي يلقيه عالم الأفكار ويستقبله عالم الأشخاص يحدد له غاية ليتم تنفيذها بوسائل من عالم الأشياء،فالتغيير ورغم توافق هذه العوالم في وحدة لن يتحقق ما لم يوجد عالم رابع هو مجموعة العلاقات الاجتماعية الضرورية المعبرة عن العمل الاجتماعي المشترك المنجز بعد التوافق بين تلك العوالم الثلاثة، لأن غايته الاسمي تغيير وجوه الحياة وهو ما يسميه مالك بن نبي تطور المجتمع8.

 لكن وبحكم أن شبكة العلاقات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي قد تمزقت كما يؤكد مالك بن نبي أصبح لا بد على هذه الشبكة أن تعمل من جديد على صنع التاريخ الأول الذي يقوم به المجتمع لحظة ميلاده مرة أخرى وفي هذه الحالة يكون الشخص في ذاته ليس مجرد فرد من جماعة، بل هو الكائن المعقد الفعّال الذي يحدث التغيير، وينتج الحضارة التي يدين لها بكل ما يملك من أفكار وأشياء، لهذا يمنح مالك بن نبي الأولوية للإنسان في معادلة التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري لكونه اللبنة الأساسية في بناء المجتمعات وتكون الحضارات مع التأكيد على أن العمل الأول في طريق التغيير - في تصوره- هو الذي يغيّر الإنسان من كونه "فرداindividu »- ليصبح شخصا personne"وهذا لن يتم إلا بتغيير صفاته البدائية التي تربطه بالنوع إلى نَزَاعَات اجتماعية تربطه بالمجتمع، وتؤهله إلى ربط علاقات ضرورية خاصة بين الأفكار والأشياء تتحكم فيها أصوله الثقافية مادامت الثقافة: هي المحيط الذي يتشكل فيه كيان الفرد المؤسس على مجموعة من القواعد الأخلاقية والجمالية وغيرها9.

ثانيا: إدراك واقع الأمة المريض ( تشخيص الأزمة وسبل تجاوزها)

وعليه كان لا بد علينا قبل الحديث عن التغيير الاجتماعي البدء بالتشخيص، ما طبيعة المرض الاجتماعي الذي يعانيه جسد هذه الأمة؟ ثم ما هي أسبابه وأبعاده وأعضاؤه؟ أليس التغيّر من حال إلى أخرى؛ هو دائما ما يحصل من تطور كما وكيفا في شبكة العلاقات الاجتماعية، مع العلم أنأي ارتخاء في هذه الشبكة يجعلها عاجزة عن الفعل والفعّالية؛ وذلك في نظره علامة على أن المجتمع مريض وأنه ماض إلى الزوال وإن كان متخما بالأشخاص والأفكار والأشياء10.

ومن هنا نقول إن مالك بن نبي في نظرته التفسيرية للمجتمعات يركز أساسا على المشكلات الواقعية لإيجاد الحلول المناسبة لها وليس البراهين الدالة على وجودها، وهذا قصدا منه إلى تجاوز المشكلات الخيالية التي وقع فيها فقهاء عصر الانحطاط، الذين تحول معهم الدين من وسيلة للعلاج تشكل نظام اجتماعي يصبح فيه الفرد أمة "إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٢٠" (سورة النحل: الآية 120) ويعبر عن حركة تطور اجتماعي وتاريخي، إلى علاقات دينية مفككة تشير إلى درجة الفراغ الاجتماعي في بنيان الأمة.

واستنادا إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا"11أصبح مالك بن نبي ينظر إلى الدين على انه الفكرة الأساس في إحداث أي تغيير اجتماعي يؤسس لحضارة جديدة لهذه الأمة؛ فهو الذي يبني الأشخاص روحيا، ويولّد فيهم الشعور الاجتماعي الموحد الذي يمكن من خلاله القيام بعمل مشترك بناء قادر على صنع الحضارة. فهي في نظره " نتاج فكرة حية تُطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر، إنها الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ، فيبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقا للنموذج المثالي الذي اختاره، وعلى هذا النحو تتأصل جذوره في محيط ثقافي أصيل يتحكم بدوره في جميع خصائصه التي تميّزه عن الثقافات الأخرى، والحضارات الأخرى"12.

ومن هنا نقول أن الحديث عن الحضارة هو في الأساس حديث عن التغيير الاجتماعي، والحديث عن هذا الأخير يقتضي الحديث عن دور الدين في تحقيقه، لأنه ما من حضارة قامت على الدين إلاّ وتولد مرتين، مرة عند نزول الوحي، ومرة أخرى عندما تسجّل الفكرة الدينية، في نفوس معتنقيها، لأن الدين قابل للتطبيق على الدوام ذلك أن قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين، وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ فجوهر الدين حسب العبارة الشائعة؛ مؤثر صالح في كل زمان ومكان 13، لكن هذا التركيب الذي يتفق من الوجهة التاريخية مع ظهور حضارة معينة لا ينتُج تلقائيا، بل لابد من حدوث عارض غير عادي يعبر عن - ظرف استثنائي- يتفق مع بروز دور الفكرة الدينية في تفجير الحضارة من جديد.

وإذا كان هذا هو جوهر فلسفة التغيير الاجتماعي عند ابن نبي، فقد يسأل السائل هنا فيقول:ما علاقة التغيير الاجتماعي بالدين؟ وما هي الكيفية التي يعبر بها مالك بن نبي عن دور التغيير الاجتماعي في صناعة التاريخ، وبالتالي الاستشراف الحضاري؟

 كما أسلفنا الذكر نعود مرة أخرى لنقول: بالفعل جوهر التغيير الاجتماعي هو المشاركة في صناعة التاريخ تبعا لتأثير عوالم اجتماعية أربعة:

1-  تأثير عالم الأشخاص.

2-   تأثير عالم الأفكار.

3-   تأثير عالم الأشياء.

4-   تأثير عالم شبكة العلاقات الاجتماعية (وهي التي تعطي للإنسان الفعّالية النموذجية القصوى).

بمعنى آخر أن كل معرفة أو حقيقة لا تؤثر في هذه العوالم هي حقيقة ميّتة لا تغني شيئا في حركة التاريخ14.

 يفهم من هذا أن جوهر التغيير الاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا بفكر فعّال يجيب عن كل المشكلات التي تواجه الإنسان بصورة تجعل حركته في التاريخ تنسجم مع السنن الإلهية للكون. وهذا يعنى عدم بقاء التغيير كتأمل في عالم الأفكار دون تحويله إلى واقع اجتماعي يجسد طموحات الإنسان في عالم الأشياء وفق قانون التوازن والوسطية الذي يحقق إشباعا للحاجات الجسدية والروحية على حد سواء مصداقا لقوله تعالى: «وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُٱلدَّارَٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٧٧»(سورة القصص، الآية:77).

أ‌-  أزمة ثقافة القابلية للاستعمار وكيفية تجاوزها

 وعليه فإن أي إخفاق يسجله المجتمع في إحدى محاولاته، إنما هو التعبير الصادق على درجة أزمته الثقافية15لأن التفكير الاجتماعي هو في الأساس فعل حضاري قائم على فعل ثقافي، وأن كل واقع اجتماعي هو في الحقيقة قيمة ثقافية محققة في واقع الإنسان، وعليه فمشكلات الإنسان هي في الأساس مشكلات الحضارة والتفكير فيها هو تفكير في مشكلات الثقافة باعتبارها المدخل إلى كل تغيير اجتماعي أو بناء حضاري.

 لهذا يبدأ مالك بن نبي في تشخيص الأزمة بعالم الأشخاص وذلك بتخليص الإنسان من فكرة القابلية للاستعمار، كما يركز على تصفية الاستعمار في الإنسان أولا لأن ذلك شرط لتصفيته على الأرض، والثورة لا تستطيع الوصول إلى أهدافها، إذا لم تغيّر الإنسان بطريقة لا رجعة فيها، من حيث سلوكه وأفكاره16، وهذا انسجاما مع القانون الإلهي للحضارة «لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّندُونِهِۦ مِن وَالٍ ١١» ( سورة الرعد، الآية: 11)، فالتغيير الذي يطال نفسية الفرد هو الذي يمهد لكل تغيير اجتماعي17.

وهنا لا بد أن نشير إلى السبل التي حددها مالك بن نبي لتحقيق ذلك،ونعتقد انه قد اختزلها في أربعة محاور أساسية:18

أولا: محور بناء منظومة العالم الروحي: والأساس فيها التوجيه الأخلاقي في عملية تكوين الصلات الاجتماعية.

ثانيا:محور بناء منظومة العالم المعرفي: وذلك عن طريق تزويد الأفراد بالأفكار والمعارف السليمة.

ثالثا:محور بناء منظومة العالم السلوكي: عن طريق الخضوع للمنطق العملي في تحديد النشاط العام.

رابعا:محور بناء منظومة الخبرات الإنجازية: وهذا لن يتحقق إلا عن طريق الصناعة أو ما يسمى بالفن التطبيقي الملائم لكل نوع من أنواع المجتمع.

والسؤال هنا بدون شك: كيف نحقق هذا العمل الجبار؟ (مشروع بناء الإنسان المؤهل للحضارة استنادا لهذه المحاور).

والبداية طبعا كيف نبني العالم الروحي؟(إنسانية الإنسان): جوهر الاستخلاف في الأرض؛ في البدء كانت الروح كما يقول مالك بن نبي ، والمرحلة الروحية عنده يكون فيها الفرد في المجتمع بأعلى درجات التوتر الإيجابي والعطاء الاجتماعي، وهذا ما يسمى بالفعّالية التي يصبح معها الفرد أمة19« إنّ إبراهيم كان أمة» (سورة النحل: الآية 119)، إذن بناء العالم الروحي للإنسان جوهره الفعّالية الفردية التي تقود إلى فعّالية المجتمع؛ وهي مرحلة العطاء النموذجي التي تقوم على الإخلاص والمراقبة، المحاسبة والتوبة، وحسن التوكل على الله، وهنا يقول ابن نبي:" ليست المشكلة أن تعلّم المسلم عقيدة هو يملكها وإنما المهم أن ترد لهذه العقيدة فعّاليتها وتأثيرها الاجتماعي"20.

 ثم العالم المعرفي: والشرط الأساس فيه التزود بالمعارف الصحيحة وآليات تحصيلها حتى يكون التغيير موجه إلى تحسين الأداء الاجتماعي، لهذا يدعو مالك بن نبي إلى تصفية منظومتنا المعرفية مما يشوبها من أفكار ميّتة أو مميتة واستبدالها بأفكار حية أو محيية، وهذا لن يتحقق إلا بفكر جديد يجعل العقل المسلم مسلح "بالحس ألسنني" الذي يصفو معه الجو للعوامل الداعية للحياة الخالية من الأوهام والخرافات21. لهذا اعتبر مالك بن نبي الأفكار بمثابة الميزان الذي نقيس به فقر المجتمعات أو غناها حيث يقول: " لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من أشياء بل بقدر ما فيه من أفكار"22، وبالتالي فهو يؤكد على أن التغيير الاجتماعي الذي يحقق البناء الحضاري هو الذي لا يهتم بتجديد الأشياء بل بتجديد الأفكار المهزومة بأفكار منتصرة قوية ترفع الإنسان إلى قمة التحدي للمشكلات؛ وذلك وفق المنهج السليم بعيدا عن العشوائية والارتجال.

 إن الإنسان إذا لم يكن طموحه متوجها إلى الخلق والإبداع ولا يستند على نظرية أو منهج فلن يحقق النجاح. إن الخطأ المنهجي خير من الصواب الفوضوي23، والأساس المنهجي عنده يقوم على النقد والتناصح لتطهير النفوس والعقول من أسباب الضعف والاختلال، فبدونه تجمّد الأفكار والطاقات، وتعطل حركة التقدم في المجتمعات24.

بعدها الانتقال إلى بناء العالم السلوكي: وهو أهم هذه العوامل التي انحط فيها الفرد المسلم، وفيه يتم الارتقاء بالسلوك الإنساني فردا كان أو جماعة إلى قمة الإحسان باعتباره غاية الارتقاء المعرفي والروحي السابق ذكرهما كوسائل، فثقافة الفرد والجماعة كما يؤكد مالك بن نبي هي جوهر السلوك، والثقافة في نظره: نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة. والعلم بلا عمل لا يجدي نفعا25؛ لهذا يشرط علينا أُسسا صلبة لبناء العالم السلوكي وهي:

1-المنطق العملي: ومعناه قصد الفرد والمجتمع إلى استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من الوسائل المتاحة 26، فالمرء عليه ألا يضيّع الوقت في انتظار المعجزات؛ لأن ذلك يجعل حياته اليومية تعاني من اللافعّالية وبالتالي فتجسيد المنطق العملي في حياتنا السلوكية يعد قضية تربوية نربط فيها كل حركاتنا بين العمل والأهداف المسطرة له، وبالتالي بين الأفكار وطرق تحقيقها. فالقضية إذا مشروطة بالعمل الذي يخضع للمنهج العلمي المدروس27.

2-الذوقالجمالي: وهو إحساس في النفس يشعر به الفرد، ويدفعه باستمرار إلى الارتقاء بالعمل إلى درجة الإحسان حيت لا يبقى معه مجال للقبح واللامبالاة، لأنه منبع الأفكار ومحرك الأعمال، لهذا يقول: "إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة "28.

3-الاستقلال الذاتي ( الطموح ):ويعني به تخليص الفرد المسلم من عقدة النقص، وفي ذلك دعوة للإبداع والمنافسة بدلا من التقليد والوصاية، حيث يقول:" إن التاريخ لا يُصنع بالاندفاع في دروب سبق السير فيها، وإنما بفتح دروب جديدة" 29، وعليه فالتغيير الذي يجب أن يطال العالم السلوكي للفرد المسلم يجب أن يكون بتعليم الجيل الناشئ القواعد التي يستطيع بها أن يبتكر طرقا لقيادة الإنسانية بدلا من تعليمه كيف يتبع خطى الآخرين30.

4- النزوع إلى التعاون: ومفاده القدرة على الانسجام الاجتماعي؛ بمعنى أن يصبح الفرد عنصرا فاعلا مندمجا في شبكة العلاقات الاجتماعية الهادفة إلى ترقية المجتمع والنهوض به، وهذا ما يسميه مالك بن نبي" بالروح الجماعية" التي فقدها المجتمع الإسلامي اليوم وصارت سببا جوهريا من أسباب نكساته 31حتى أصبح مجهودنا الاجتماعي متفكك الأجزاء، يفتقر إلى روح المتابعة يبدأ فجأة ويذهب كذلك32.

5-روح المسؤولية:ومعناها القيام بالواجب قبل المطالبة بالحق فالإقلاع الحضاري في نظره يبدأ من إحساس فردي أو جماعي تقدم فيه الواجبات على الحقوق، فكلما تفوقت الواجبات على الحقوق إلا وظهرت معها علامات التقدم والمجد، والسياسة الناجحة هي التي تحدّث الشعوب عن إتقان القيام بالواجبات 33، لهذا يدعو مالك بن نبي إلى تحويل عادات وطبائع الناس عن طريق التحويل الثقافي الشامل للمجتمع وبرمجته على محور الواجبات34.

وأخيرا بناء عالم الخبرات الإنجازية: ويعني به كل ما يساعد على تحسين الأداء الاجتماعي لدى الأفراد، ويرفع من مستواهم في استغلال الإمكانات والظروف (الخبرات التقنية والبشرية.... وغيرها)، فهذه الخبرات تعمل على اختزال الزمن وطي التاريخ، وبالتالي توفير الجهد والوقت 35؛ ومن هنا فمالك بن نبي لم يتجاهل دور الوسائل في إحداث التغيير، ولكنه اشترط لها شروطا أهمها:

1-التخطيط والتنظيم (الإستراتيجية في التجديد الحضاري).

2-حسن الإدارة والتسيير ( القانون بدلا من الفوضى).

3-الأخذ بالتجارب الناجحة في العصر ( بلا استعلاء ولا انهزام)، ولكن بشروط دوما لأن: " جميع أنواع الحلول ذات الصبغة الاجتماعية التي نقتبسها عن بلاد أخرى ثبتت لها فيها صلاحيتها، هي صحيحة في هذه البلاد على وجه التأكيد، لكنها تقتضي عند التطبيق عناصر مكملة لا تأتي معها من حيث كانت. لا يمكن حصرها، ولا يمكن فصلها عن المحيط الاجتماعي في بلادها؛ أي لا يمكن فصلها عن روحها" 36

وهذا يجعلنا نستنتج أن العالم الإسلامي اليوم يقف على مفترق الطرق، بمعنى آخر هل يسلك سبيل الأخذ من حضارة العصر وذلك باستيراد منتجاتها؟ أم يرجع في إقلاعه إلى الأفكار التي قامت عليها حضارتنا الأولى؟

ب- صناعة التاريخ إنتاج للحضارة قبل استهلاك منتجاتها

 لقد ظل العالم العربي والإسلامي دهرا طويلا خارج التاريخ وكأن أمر النهضة والتقدم لا يعنيه، والسبب انه كان يجهل الأهداف، وعندما خرج من سباته العميق سارع إلى النهوض المفاجئ، والنتيجة بداية حقبة تاريخية استهلاكية وليست إنتاجية تعالج الأعراض وتترك الأمراض "هذا شأن العالم الإسلامي انه دخل إلى صيدلية الحضارة الغربية طالبا الشفاء، ولكن من أي مرض؟ وبأي دواء؟37

إذن فنظرة مالك بن نبي إلى الفرد في علاقته مع المجتمع هي نظرة إلى المستقبل، يعني أنها تتصل بالشروط النظرية التي يجب أن تستجيب إليها النهضة لكي تحقق مصير الأمة العربية، وحتى الإسلامية، وتسهم في تحقيق نصيب من مصير الإنسانية.

وعلى أساس هذا الطرح يقول بن نبي:" فالإنسان الذي لا يكون مجتمعه مجتمع حضارة معرض للحرمان من الضمانات الاجتماعية. فأنا حينما أحاول تحديد مجتمع أفضل فكأنني أحاول تحديد أسلوب حضارة، إذ أنني حينما أحقق الحضارة، أحقق جميع شروط الحياة، والأسباب التي تأتي بمتوسط الدخل المرتفع؛ بمعنى أنني أحقق الخريطة الاقتصادية، ونتائجها الاجتماعية والثقافية أيضا"38.

 لكن قبل الأخذ بهذه الشروط العامة، يجب أن نحدد أولا أسباب تخلف الأمة العربية، فما هي هذه الأسباب يا ترى؟

 في الحقيقة يوجد سبب رئيس هو "مرض الوهن "أدى إلى ظهور أسباب أخرى، لكن نتساءل أولا فنقول:

ماذا يعني الوهن؟:هو ما أشار إليه الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله:" يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها*،قالوا: أؤمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟قال: لا،بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل،ولينزعنّ الله من صدور أعدائكم المهابة منكم،وليقذفن في قلوبكم الوهن،قيل: وما الوهن يا رسول الله...؟، قال: حب الدنيا وكراهية الموت"39.

 معنى هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد تنبأ بصورة العالم العربي الإسلامي التي هو عليها اليوم والذي أصبح مجرد تجمعات لا وزن لها في وضع القرار كغثاء السيل، لأنه مصاب بالوهن الذي نتج كما أشار الحديث عن: حب الدنيا والترف فيها والجري وراء زينتها، والتزاحم على الحقوق واستهلاك أشيائها، ونسيان الواجب كما عبر عن ذلك الحديث في طرفه الثاني بكراهية الموت الذي هو أيضا عنصر آخر للوهن الحضاري الذي يعبر عن غياب روح التضحية والإيثار، والقعود عن العمل والإنتاج والتدافع على الاستهلاك والامتلاك40.

 إذن امتنا اليوم حقا مريضة مرض الوهن الحضاري الذي أشار إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يكشف عنه الواقع بظهور الإنسان المستهلك الذي لا يفكر إلا في حقه، إنسان الزوال والاستمتاع، الذي لم يدرك معنى قوله تعالى:« يَٰٓأَيُّهَاٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨» ( التوبة: الآية: 38)، إذا الوهن الحضاري هو الوباء الاجتماعي الذي يعتري روح الأمة وحطم فعاليتها وأقعدها عن حمل رسالتها في التاريخ41

 ولقد نتجت عن هذا الوهن الحضاري عدة أسباب أخرى تعاونت فيما بينها فأقعدت المجتمع العربي الإسلامي عن الصعود في ركب الحضارة التي يعرفها العصر، وهذه الأسباب هي:

1-تمزق شبكة العلاقات في المجتمع الإسلامي

لقد أكد مالك بن نبي كما أسلفنا الذكر على أن تطور مجتمع ما هو ناتج التطور الكمي والكيفي في شبكة علاقاته، لكن عندما تصاب خيوط الشبكة بالارتخاء، فتلك علامة على أن المجتمع مريض وانه في طريق الزوال، والأكثر من هذا أن الحالة التي يصل إليها المجتمع العربي الإسلامي اليوم هي تفكك الشبكة نهائيا، حيث أصبح عاجزا عن أي نشاط مشترك وهي حالة التمزق التي أشار إليها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والتي وصفها بالوهن42

2-انعدام التآلف والجهد المشترك

 كما أن ابن نبي أكد على أن العلاقة بين الفرد والمجتمع لا يمكن التحدث عنها إلا في حالة ارتباط الفرد بمجتمع تاريخي حضاري، يتحول من خلاله الفرد إلى شخص اجتماعي يساهم في بناء شبكة العلاقات وصنع الحضارة. وهذا واضح في تعريف بن نبي للمجتمع: بأنه ليس مجرد مجموعة من الأفراد بل هو تنظيم إنساني ينشأ عن عناصر ثلاثة هي: الحركة، وأسبابها التي نتجت عنها واتجاهاتها التي تسعى إليها، باعتبار أن الحركة مقياس لكسب الجماعة الإنسانية صفة المجتمع، وتمهد الطريق لتطوره وفقا للجهد المشترك الذي لا يقوم إلا على التآلف بين الأشخاص والأفكار والأشياء، لتكون بذلك مرحلة الأفول الراهنة هي نتيجة حتمية لتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية وتفكك التآلف بين هذه العناصر.

ادن فشرط العودة إلى الحضارة هو إحياء مثل هذا التآلف ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية43.

3-طغيان شعور العظمة

 وكذا تجاوز فكرة أننا امة الإسلام أناس كاملون وأننا خير امة أخرجت للناس، لأن ذلك أخرجنا عن مجتمع الجد (مجمع الموحدين) وأقعدنا عن العمل والاجتهاد، وبالتالي الاكتفاء بتعظيم الماضي وتمجيده حتى أصابنا العجز والشلل في مختلف نواحي الحياة، سواء الخلقية أو الاجتماعية وحتى العقلية، والأخطر أننا فقدنا الروح التي كان يملكها رواد الحضارة الأوائل من امتنا الإسلامية فسقطنا في فيضان التعالي والغرور بدل العمل والإبداع، وكأن الرجل فينا بتأديته الصلوات الخمس قد بلغ ذروة الكمال44.

وعليه نقول علينا أن نعرف قدرنا ومكانتنا الحقيقية أمام الشعوب الأخرى، فالحضارة الغربية وان كانت تمثل اليوم أرقى ما وصل إليه الإنسان من رفاهية وتطور في الحياة المادية إلا أنها لم تحقق السعادة الأبدية التي تطلبها الإنسانية، وخاصة الخلاص من المعاناة والخوف في الدنيا والآخرة، التي تتطلب الموازنة بين الجانبين الروحي والمادي، لقد انهارت معها القيم الروحية كما تشتت العلاقات الاجتماعية وكل هذا بسبب طغيان الغريزة المادية وفقدان التوازن الروحي-المادي، ومن ثم لا مكان لإنسانية الإنسان، إنها الرسالة الملقاة على عاتق الإنسان المسلم، وبلا شك ليس هناك من يستطيع القيام بهذا الدور المرتقب غير امة الإسلام لقوله تعالى: "وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤" (آل عمران،الآية:104)؛ ولكن بعقيدة صحيحة نقية، وبروحانية ايجابية بناءة اثبت قدرتها في الماضي على إنشاء الحضارات45.

 لهذا كان مالك بن نبي اشد الناس انبهارا بالقرآن الكريم، الذي خصص له كتابا اسماه الظاهرة القرآنية، ليبرز فيه مدى التكامل الإنساني الذي حققه المجتمع الإسلامي الأول بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا المجتمع الذي احدث ثورة في مجال تغيير الإنسان وفق الأسس التي جاء بها الإسلام، هذا الدين الذي احدث ثورة غيرت كل البناءات السياسية والأخلاقية والحضارية، انه النمو الثوري في أدق ما في هذه الكلمة من معنى، لأن الثورة لن تستطيع أن تغيّر الإنسان ما لم تكن لها قاعدة أخلاقية قوية، كما أن الثورة لا تستطيع أن تصل إلى أهدافها إذا لم تغيّر الإنسان بطريقة لا رجعة فيها من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته، ونمط حياته واستهلاكه46

خلاصة ونتائج

 ما يمكن أن نخلص إليه في هذا المقال، هو عبارة عن نتائج منطقية توصل إليها ابن نبي، لكننا نعتبرها كأهداف ضرورية يطمح إلى تحقيقها كل مجتمع يسير نحو البناء والتشييد، انطلاقا من المعادلة التحليلية للحضارة:

منتوج حضاري = إنسان ( فعّال) + تراب ( مستغل)  +  وقت (محترم).

أولا: النظر إلى الإنسان على انه العنصر الديناميكي في إنتاج الحضارة، وبالتالي كان–حسب ابن نبي -لا بد عليه أن لا يدخل العمليات الاجتماعية بوصفه مادة خاما، بل يدخل في صورة معادلة شخصية صاغها التاريخ، وأودع فيها خلاصة تجارب سابقة وعادات ثابتة؛ إذن فلا يكفي أن ننظر إلى المستقبل نظرة مجردة لأن الإنسان جهاز دقيق أدق من كل شيء نتصوره في الميكانيكا الدقيقة، ولكنه جهاز تخضع حركاته إلى قانون صاغه ماضي أمته وثقافته، ولا بد من نظرة إلى ماضي هذا الجهاز لنعرف مدى فعاليته وصلاحيته في العمليات الاجتماعية، والمشروعات المخططة القائمة عليه، وهذا يتطلب الإجابة عن السؤال التالي: أين تكمن مواطن الضعف والقوة لدى الإنسان بصورة خاصة والمجتمع بصورة عامة؟

ثانيا: كما بينا في التحليل السابق أن فعّالية الإنسان مرتبطة بجوانب اجتماعية ثلاثة، بداية بعالمه الشخصي ثم عالمه الفكري وصولا إلى عالم الأشياء.

 وقد وضحنا الكيفية التي يتحرك بها الإنسان بفعالية، حيث أكدنا على أن ابن نبي يرى في العنصر الديني المنشط الأوحد لفعّالية الإنسان. لكن هل هذا يعني أن الإنسان بهذه الفعّالية وحدها قادر على تحقيق نهضة أمته المتخلفة؟ ليس بكل بساطة،بل لابد أيضا -كما يقر ابن نبي طبعا-من المرور بمراحل ثلاث وهي:

1-   تشخيص أبعاد النهضة تشخيصا صحيحا.

2-   تشخيص المشكلات الاجتماعية تشخيصا صحيحا.

3-   تحديد الوسائل تحديدا يناسب الغاية المنشودة والإمكانات.

 وتأسيسا على ذلك نقول: هل توفّر هذه الشروط يعني القدرة على النهوض والتحضر؟ طبعا الإجابة دائما لا؛ لأننا لم نصل بعد إلى تجاوز مشكلات ثلاث وهي:

أ-مشكلة الإنسان وتحديد الشروط اللازمة لانسجامه مع صيرورة التاريخ.

ب-مشكلة الوقت واعتباره ودلالته في نفسية الفرد، وبث معناه في روح المجتمع.

ج-مشكلة التراب وشروط استغلاله في العملية الاجتماعية.

بهذه الإستراتجية نستطيع أن نصنع جيلا يكون حدا فاصلا بين عهد الرداءة والكساد وعهد الوعي والإدراك الذي يمهد الطريق لعملية التحول الحقيقي نحو المدنية والتحضر.

 وبهذا اعتقد أن ما قدمه مالك بن نبي من أفكار حول مشكلة التغيير الاجتماعي،يعد من الأولويات الضرورية التي يقتضيها العصر كمطلب أساسي للتحضر، خاصة وأنها تستند إلى مبررات منطقية وواقعية في آن واحد، كيف لا وهو يركز على تغيير الأفراد أولا والنتيجة حتما مجتمع يمتلك مؤهلات البناء الحضاري المحصّن بالثقافة التغييرية البنائية، أليست المشكلة الأساس العمل على إيجاد واقع اجتماعي وثقافي محمود؟إن الطموح كل الطموح تحرر العقول والأبدان قبل التفكير في استقلال الأوطان، ما الفائدة من الحرية ونحن نكابد القابلية للاستعمار ونعيش الانهزامية والاستسلام والتبعية في كل شيء، إنها صفات تأصلت في النفوس حتى أصبحنا ننعت بالشعوب غير القابلة للحضارة، هكذا يقول قادتهم من أرنست رينان إلى صموائيل هندكتون.

 لهذا كان لابد علينا اليوم من شحن النفوس بالقيم الأخلاقية حتى تستيقظ من سباتها لتعود لها الحياة من جديد فيبرز معها المجتمع العربي والإسلامي في جميع مجالاته، وبالتالي لا مجال للانهزام والتفكك وقتل الطاقات التي تتوفر عليها الأمة.

وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها بعض المفكرين لنظرية التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي إلا أن صداها على الأقل ما زال يوقظ عقول بعض الباحثين في هذه الأمة حتى يعيدوا النظر في شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تكاد تتمزق بفقدانها أهم عنصر لتماسكها وهو الدين الإسلامي الحنيف، فمتى نعيد لهذه الرؤية الإستشرافية دورها في تغيير واقعنا الراهن يا ترى؟

 الهوامش

*مالك بن نبي أحد المفكرين العرب المسلمين الذين وهبوا أنفسهم لخدمة هذه الأمة، اهتم بمشكلة العالم المتخلف وخاصة العالم الإسلامي،فكانت اغلب مؤلفاته تدور حول مشكلة الحضارة، كيف لا وهو من قدم أفضل الرؤى لنهضة امة الإسلام على هدي من القرآن والسنة والخروج بها من مأزق التخلف والانحطاط والتبعية، ولد بالشرق الجزائري بمدينة قسنطينة سنة1905م، وتوفي 31_10_1973م في الجزائر.

**  انظر: المقدمة لابن خلدون، وحوار الحضارات لروجيه جارودي، وتدهور الحضارة الغربية لأزوالد شبنجلر، وفلسفة الحضارة لألبرت شفيتزر، ودراسة ممهدة لتاريخ الأديان لمحمد عبد الله دراز، ومشكلات الحضارة للسيد قطب، واليهود في تاريخ الحضارات الأولى لجوستاف لوبون، واغلب مصادر المؤرخ وفيلسوف الحضارة ارنولد توينبي وغيرهم كثير ممن اهتم بإبراز دور الين في بناء الحضارات.

1.مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصابور شاهين،دار الفكر، ط5، الجزائر، 1986، ص99.

2.شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي، دار الفكر، ط4، الجزائر، ،1987، ص 206ما بعدها:مالك بن نبي

3.الطيب برغوث: موقع المسألة الثقافية من التجديد الحضاري عند بن نبي، دار الينابيع للنشر، ط1الجزائر،1993ص 7.

4.رواه مسلم: باب اليد العليا خير من اليد السفلى والنهي عن المسألة.

5.مالك بن نبي:آفاق جزائرية، ترجمت الطيب شريف،دار الفكر بيروت، 1977، صفحة171.

6.المصدر نفسه: ص216

7.مالك بن نبي: ميلاد مجتمع،ترجمة عبد الصابور شاهين،دار الفكر،ط3، الجزائر،1986،صفحة 27.

8.المصدر نفسه: ص 28وما بعدها

9.المصدر نفسه: ص 35وما بعدها

10.  المصدر نفسه: ص 49وما بعدها

11.    رواه مسلم: كتاب البر، باب تراحم المؤمنين.

12.   مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي،ت بسام بركة،دار الفكر، ط1، الجزائر.1992، ص48وما بعدها.

13.  مالك بن نبي:شروط النهضة،ص 82وما بعدها

14. مالك بن نبي:ميلاد مجتمع، ص: 93

15.مالك بن نبي:مشكلة الثقافة،ترجمة عبد الصابور شاهين،دار الفكر، ط4، الجزائر،1984، ص: 92.

16.مالك بن نبي:بين الرشاد والتيه،ترجمة عبد الصابور شاهين،دار الفكر، ط2، الجزائر، 1988.ص46

17.مالك بن نبي:ميلاد مجمع، ص:73

18.مالك بن نبي:شروط النهضة، ص:132.

19.المصدر نفسه: ص (75-101)

20. مالك بن نبي: وجهةالعالم الإسلامي، ص:55.

21.  مالك بن نبي:مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص:197.

22. مالك بن نبي:ميلاد مجتمع: ص34

23. مالك بن نبي:بين الرشاد والتيه،ص: 78.

24.  مالك بن نبي:في مهب المعركة،ترجمة عمر كامل مسقاوي، دار الفكر، ط1، الجزائر، ،1991، ص: 141.

25.  مالك بن نبي:شروط النهضة،ص: 124.

26. المصدر نفسه:ص145

27. مالك بن نبي:بين الرشاد والتيه،ص:37

28.مالك بن نبي:شروط النهضة، ص:143.

29. مالك بن نبي:مشكلة الأفكار، ص:220.

30.مالك بن نبي:مشكلة الثقافة، ص: 118.

31. مالك بن نبي: مذكرات شاهد القرن، ترجمة عمر كامل مسقاوي، دار الفكر، ط2، دمشق ،1984ص:225.

32. مالك بن نبي: في مهب المعركة،ص: 115.

33.مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي،ص:164.

34. مالك بن نبي:المسلم في عالم الاقتصاد،دار الفكر الجزائر، ط3،1987، ص: 108.

35.  مالك بن نبي:شروط النهضة،ص: 148.

36.  مالك بن نبي:ميلاد مجتمع، ص: 96.

37.مالك بن نبي:شروط النهضة،ص:46.

38. مالك بن نبي: تأملات، دار الفكر، ط5الجزائر،1991، ص:163.

*يشير الحديث بهذا التمثيل إلى مرحلة القصعة وهي مرحلة التشاؤم والإعياء التي صار عليها المجتمع الإسلامي اليوم، حيث أصبح يشعر باستحالة اللحاق بقافلة الحضارة المعاصرة.

39.مالك بن نبي:ميلاد مجتمع، ص:29

40.                      محمود محمد سفر: دراسات في البناء الحضاري: رئاسة الشؤون الدينية والمحاكم الشرعية، قطر، ط1، 1989،ص: 08

41.  مالك بن نبي:المسلم في عالم الاقتصاد،ص: (87-88)

42. مالك بن نبي:ميلاد مجتمع: ص 42

43. علي القريشي: التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، ط1، 1989، ص: 300

44. مالك بن نبي: دور المسلم ورسالته،ترجمة عمر كامل مسقاوي، دار الفكر، ط1، دمشق،1978، ص:44ومابعدها

45. مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا،مطبعة دار الصديقية الجزائر، (ب ط)، 1980، ص17وما بعدها

46.عبد اللطيف عبادة: صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، دار الشهاب للطباعة، ط1الجزائر، 1984م، ص:92


@pour_citer_ce_document

الداودي قرواز, «فلسفة التغيير الاجتماعي عند مالك ابن نبي »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp : 25- 35,
Date Publication Sur Papier : 2015-05-05,
Date Pulication Electronique : 2015-05-06,
mis a jour le : 03/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=1260.