الأنسنة، الابستمية والإسلام، أركون في سياق الكونيةThe Humanization, Episteme and Islam, Arkoun in the context of cosmic
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°03 Vol 16- 2019

الأنسنة، الابستمية والإسلام، أركون في سياق الكونية

The Humanization, Episteme and Islam, Arkoun in the context of cosmic
ص ص 85-96
تاريخ الإرسال: 2018-11-05 تاريخ القبول: 2019-09-24

عبد المالك عيادي
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تمثل الإسلاميات التطبيقية جانبا مهما من مشروع "أركون" الإصلاحي للعقل الإسلامي، لذلك تطلّب منه الأمر لتحقيق هذه المهمّة الاستناد إلى مجموعة من المناهج التي تعتمد عليها العلوم الإنسانية منها الألسنية والتاريخية والابستمولوجية والجينيالوجية والايتمولوجية والأركيولوجية والبنيوية والتفكيكية وغيرها من المناهج الأخرى، من هنا استند إلى النصوص الدينية بما فيها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وتعامل معهما خارج إطارهما التقديسي ووفقا للسياقات التي صنعتهما؛ ذلك لأن القداسة هي العائق الأول الذي يحول بيننا وبين الفهم الصحيح لديننا وتاريخنا وثقافتنا -  كما يرى أركون -  كونها تشكّل سياجا دوغمائيا يغلّف تاريخنا وهو ما يجعله عرضة للزيف والأخطاء. إن الحضور المحتشم الذي ظهر به النقد في البيئة الإسلامية الحديثة واحتكار رجال الدين لفهم النصوص المقدسة هو ما يسميه أركون بالأرثوذوكسية الإسلامية وهو ما ينبغي علينا تجاوزه والعودة إلى التراث الإسلامي في نظر أركون للحفر في طبقاته لاكتشاف ما تمّ نسيانه أو إهماله أو استبعاده، وهو ما وجده في إسلام القرنين التاسع والعاشر للميلاد بالخصوص مع جيل "مسكويه" و"التوحيدي" وغيرهم في مجال الأنسنة والابستمية والنقد والنقاشات العلمية المحتدمة التي ميّزت هذه الفترة

الكلمات المفاتيح: الأنسنة، الابستمية، الإسلام، الأرثوذوكسية، الدوغمائية.

Pour "Arkoun", l'Islam appliqué représente un aspect important du projet de la réforme de l'esprit islamique. Par conséquent, il est nécessaire d’accomplir cette tâche en s’appuyant sur un ensemble d’approches critiques sur lesquelles les sciences humaines, notamment l’Histoire, l’épistémologie, la généalogie, l’étymologie, l’archéologie, le structuralisme, le déconstructivisme et d’autres approches, reposent sur le Saint-Coran. et sur la "sunna" du noble prophète, et les a traités en dehors de leur cadre de consécration et conformément au contexte qui les a créés, c’est que la sainteté est le premier obstacle qui nous empêche de bien comprendre notre religion, notre histoire et nos culture - comme Arkoun le voit -, elle constitue une clôture dogmatique qui enveloppe notre Histoire et la rend vulnérable au mensonge et aux erreurs. La présence faible de critiques dans l'environnement islamique moderne et la monopolisation des textes sacrés par le clergé sont appelés par "Arkoun" l'Orthodoxie Islamique, fait que nous devons dépasser en revenant à l'héritage islamique pour fouiller dans ses couches et découvrir ce qui a été oublié, négligé ou exclu. C'est ce qu'il a trouvé dans l'islam aux neuvième et dixième siècles avec la génération de "Miskawayh" et de "Tawhidi" et d'autres dans le domaine de l'humanisme, l’épistémè, la critique et les débats scientifiques ayant caractérisé cette période

Mots-clés : Humanisme, Epistémè, Islam, Orthodoxie, Dogmatisme.

Applied Islam represents an important aspect of the "Arkoun" reform project of the Islamic mind. Therefore, it is required to achieve this task relying on a set of critical approaches on which the human sciences, including history, epistemology, genealogy, etymology, archeology, Structuralism, Deconstructivism  and other approaches rely, where he depended on the Holy "Quran" and "the Sunnah" of the Noble Prophet, and dealt with them outside their consecrating framework and in accordance with the contexts that created them, that is because holiness is the first obstacle that prevents us from the correct understanding of our religion, history and our culture – As Arkoun sees - ,it constitutes a dogmatic fence  enveloping our history which makes it vulnerable to the falsehood and errors. The poor presence of criticism in the modern Islamic environment and the monopolization of the holy texts by the clergy is what "Arkoun" calls Islamic Orthodoxy, which we must overcome and return to the Islamic heritage to excavate in its layers to discover what has been forgotten, neglected or excluded. This is what he found in Islam in the ninth and tenth centuries with the generation of " Miskawayh "and "Tawhidi" and others in the field of humanism, Episteme, criticism and scientific debates that characterized this period

Keywords: Humanism, Episteme, Islam, Orthodoxy, Dogmatism.

Quelques mots à propos de :  عبد المالك عيادي

جامعة الجزائر 2ayadiabdelmalek77@gmail.com

مقدمة

يأتي هذا البحث الأنسنة، الابستمية والإسلام،  أركون في سياق الكونية ضمن مشروع "محمد أركون" (19282010) الابستمولوجي في قراءته للتراث العربي الإسلامي، يعني قراءة هذا التراث بما فيه القرآن الكريم والسنة النبوية قراءة ابستمية، وهو المشروع الذي يندرج في إطار ما يسميه "أركون" بالإسلاميات التطبيقية، كما أنه بحث في الشروط الاجتماعية، والتاريخية، والنفسية، واللسانية... عبر أدوات وآليات معرفية مصدرها العلوم الإنسانية والاجتماعية كالألسنية، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، والهيرمينوطيقا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع... بواسطتها يفتح العقل الإسلامي أقفال التراث الفكري والديني الذي لا يزال مكبّلا ومغلّفا بمعرفة دوغمائية مشرعنة تحول دون الكشف عن مضامينه الابستمولوجية والأنثروبولوجية ودوافعه التمويهية سلطويا.

    إن إقحام "أركون" ضمن سؤال الكونية في تقديرنا هو نتيجة نظرته للإسلام، والتي كانت عالمية فهو لا يتحدث عن إسلام المعتزلة، أو الشيعة، أو السنة، أو الفلاسفة، أو المتصوفة ... فهو لا يقصي أيّ شكل من هذه الأشكال، كما لا يعدّ أيّ شكل من هذه الأشكال مصدرا وحيدا للمعرفة، كما لا يتحدث عن إسلام جهة أو فترة، بل يتحدث عن الإسلام خارج الدلالات المتعارف عليها في الأوساط الإسلامية، وبهذا لا يمكن أن نصل إلى الإسلام المعقول إلاّ بالدراسة العلمية المتأنية التي تقوم على المناهج العلمية التي تقوم عليها العلوم الإنسانية؛ كالأركيولوجيا، والجينيالوجيا، والتفكيكية ... من هنا لن يتأتى لنا فهما علميا عالميا عن الإسلام ما لم نطبّق عليه مقولات العلوم الإنسانية ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي واللساني.. الذي صدرت منه، وهكذا جاءت مشكلة بحثنا كما يلي: كيف وظّف "أركون" المناهج النقدية للعلوم الإنسانية في الدراسات الإسلامية؟ وما حدود قابليتها لذلك؟ وهل نجحت الإسلاميات التطبيقية في إطار الأنسنة بلوغ مطلب الكونية؟

   مقاربة هذه المشكلات بالاستناد للنص الأركوني موضوع بحثنا ضمن مفصلة عامة للموضوع تقوم على ما يلي: أولا في ابستمية الدراسات الإسلامية عند محمد أركون، ثانيا الإسلاميات التطبيقية ومأزق المقدس، ثالثا أنسنة الدين ومطلب الكونية.

أولا – ابستمية الدراسات الإسلامية عند محمد أركون

نقصد بابستمية الدراسات الإسلامية عند "أركون" ذلك التوظيف للمناهج الغربية الحديثة والمعاصرة في حقل الدراسات الإسلامية، فقد كان استخدام مصطلح الابستمية (1) في مجال العلوم الإنسانية معروفا لدى الفيلسوف الفرنسي المعاصر "ميشال فوكو" (1926- 1984) في صياغته للخطاب العلمي الصارم في كتابه "الكلمات والأشياء" الصادر عام 1966م، أو في غيره من كتاباته الأخرى التي حاول من خلالها التنقيب عن المسكوت عنه، والهامش، والمختلف، والإرجاء... في قطاعات معرفية مختلفة ظلت إلى وقت متأخر من الفترة المعاصرة من الطابوهات، وهكذا اقتحمت كتابات فوكو العيادة، والسجن، والملاجئ، والأرشيف، والجنون، والجنس، والمقدس، والذاكرة، وغيرها من الفضاءات التي حاول الحفر فيها للكشف عن طبيعة الخطاب الذي يحكمها، وما تضمره في بنياتها التحتية التي تغلفت بفعل الطبقات الرسوبية التي تشكلت عليها بفعل المركزية اللوغوسية.

    إن كتب "فوكو" مثل "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" الصادر عام 1961م، أو "مولد العيادة" 1963م، أو "الكلمات والأشياء" 1966م، أو "حفريات المعرفة" 1969م، أو "نظام الخطاب" 1971م، أو "المراقبة والمعاقبة" 1975م، أو "تاريخ الجنسانية" 1984م، كلها حافلة بالمنهج الأركيولوجي الذي يعمل على الكشف عن البنية التي تحكم خطاب العلوم الإنسانية، وإذا كانت هذه البنية المرجع الذي يتأسس عليه هذا الخطاب فهي من طبيعة ابستمية، من هنا كان حضور الابستمية في النص الفوكوي من خلال فتحه للأرشيف الغربي لتلميع المناطق المظلمة ضمن هذا التاريخ المغلف والمتنكر بمسميات مختلفة أُقيمت عليها حراسة مشدّدة، وهكذا ظلت مفاهيم مثل الحقيقة، السلطة، العقل، الوعي، المركز، اللوغوس... بمنأى عن النقد والشك، والريبة، وهو الدور الذي أخذه "فوكو" على عاتقه للكشف عن اللاوعي المتمظهر في صورة الوعي، يقول "فوكو": "إني أحاول الكشف داخل تاريخ العلم وتاريخ المعارف والمعرفة الإنسانية عن شيء ما يكون بمثابة اللاوعي... لقد حاولت الكشف عن ميدان مستقل ذاتيا، قد يكون ميدان لا وعي العلم، أو لا وعي المعرفة، وقد يملك قواعده الخاصة، مثلما يملك لا وعي الفرد البشري، بدوره، قواعده وتحديداته" (2)، تلك هي سمات التحليل الأركيولوجي التي تبحث عن نقاط التماسك التي تتخفى في الابستمية، لتحدّد طبيعة الإرادات المتحكمة في الخطابات.

   لقد انتبه "أركون" للدور البارز الذي أدّته الجينيالوجيا في الثقافة الغربية بخاصة على مستوى الدراسات التاريخية، أو ما يسميه نيتشه بالحاسة التاريخية، فالتاريخ بالمعنى الجينيالوجي ليس إصغاء للترهات أو عبادة للماضي؛ إنه البحث الأفقي الذي يقحم فيه المؤرخ الظروف والملابسات التي تشكّل فيها الحدث بعيدا عن كل توظيف تقديسي، أو إيديولوجي، وهو بلغة الفيلسوف الفرنسي المعاصر "جيل دولوز" (1925- 1995) وبلغة علم النبات جذامير Rhizomes (3)، لكن في المقابل يربط "دولوز" التاريخ الميتافيزيقي كما تنسجه الذاكرة بالمسار الشجيري العمودي، أين كانت صناعة التاريخ دائماً وفق هذا المنطق؛ من منظور الحضر وباسم جهاز دولة موحّد.

   إن ما ينقصنا في نظر "دولوز" هو مذهب البداوة أو الترحال "Nomadologie"، نقيض التاريخ، أي تلك الكائنات التي من قدرها أن لا يكتبها التاريخ، هكذا تلوثت المفاهيم تاريخيا وتكلست عليها طبقات من الدوغمائية والقدسية عبر الأزمنة الغابرة، ولا يمكن تفتيتها إلا بتمريغها في التربة التي نشأت فيها، وهو ما يتيح لنا العودة جينيالوجياً إلى لحظة تكوّنها، من هنا جاءت أهمية الدراسات التاريخية في نظر "أركون" "كدرس جينيالوجي لتحليل مشاكلنا وتشخيصها، من هنا ينبغي أن نشجع هذه الدراسات ونؤسس ورشات جديدة، ونفكر مليا بنوعية الروابط التي يمكن إقامتها بين مختلف المجالات المدروسة بهدف تجنب هذا الضيق في التخصص... أي تكون لدينا إستراتيجية بعيدة عن التلاعبات الإيديولوجية التي تحاول فئات سلطوية خاصة فرضها لعدم خلع المشروعية عنها" (4)، فهذه المحاولة التي تجعلنا نضفي الصبغة التاريخية على ماضينا هي ما يٌصطلح عليه بالأرخنة.

    كذلك من بين المناهج التي استعارها أركون ووظفها في الدراسات الإسلامية نجد تفكيكية الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا"(1930- 2004)، فقد كان التفكيك (5) خلخلة وتصدع في البناء الذي شيدته الأنساق المعرفية الكبرى وآمنت بيقينها بهدف الإفصاح عن مضمراتها، وهو ليس تقويضا أو هدما كما يدل على ذلك المصطلح الفرنسي Déconstruction بقدر ما هو إعادة بناء، أو تصحيح لمسار، لذلك فالتفكيكية تنفي وجود معنى متكامل لنص من النصوص وتعمل على إزاحة هيمنة اللوغوس بتصدع المركز، لكن في المقابل بنقدها للمركزية فهي لا تعمل على تأسيس مركزية جديدة من الهامش وفق منطق الثنائيات التقليدي، إنها تعمل على رج البنية الميتافيزيقية للخطاب ذلك بتشتيته إلى أجزاء متناثرة دون أن تنتصر لأي جزء، إن التفكيك يفتح لنا طرقا جديدة في التأويل ضمن لعبة الكتابة، "إنه استراتيجية في التعرية والغربلة والعزل، إنه دهاء وحكمة ومهارة في التحليل تستهدف الطبقة التحتية، وبالأحرى الطبقات الملتحمة والمتشابكة" (6).  هذا المنهج، أو بالأحرى هذه الإستراتيجية في الممارسة التفكيكية بإمكانها إزاحة التكلسات المتراكمة في جسد النص الديني الإسلامي بالمفهوم الأركوني، فقد تراكمت التأويلات وتزاحمت في فضاء مغلق بالسياج الدوغمائي، لم تثمر إلا مذاهب أرثوذكسية متزمتة.

هذا، وقد شكّلت العودة إلى الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" (1844- 1900) من أوليات القراءة الأركونية للدراسات الإسلامية، باعتبارها عودة لمصدر الأقطاب الفلسفية الثلاثة التي ذكرناها آنفا --- فوكو، دولوز، دريدا --- بحسب استفادة أركون منها وتوظيفه لها، هذه الأقطاب التي شكّل نيتشه مرجعا مهما لها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عودة للمنهج الجينيالوجي الذي استعاره منه أركون ووظفه بشكل أوسع في نصوصه؛ فالجينيالوجيا منهج استعاره "نيتشه" نفسه من علوم أخرى كعلم الحياة في مجال علم النبات، والدراسات التي تهتم بالأسلاف والسلالات ليوظفه في فلسفته كمطرقة يهدّم بها الأصنام التي دأب الإنسان الحديث والمعاصر على عبادتها، وهي كثيرة أصنام في العقل، والدين، والميتافيزيقا، والأخلاق، والسياسة، والثقافة، والعلم، والفن.. إن الجينيالوجيا باعتبارها بحث في الأصل؛ هذا البحث ليس تقديسا للأصل على شاكلة الميتافيزيقا، فالجينيالوجي لا ينظر للماضي إلا للاستخفاف به. إن الجينيالوجي لا يؤمن بالسر العظيم وراء الأشياء على شاكلة الميتافيزيقا وما يقوم به هو نزع هالة القداسة المحيطة بالأشياء للوقوف على طبيعتها والانتصار للحياة، وهو ما طبقه نيتشه في الأخلاق والديانة المسيحية على وجه الخصوص. يقول نيتشه في كتابه "أفول الأصنام": "إن الأخلاق المضادة للطبيعة، أي تقريبا الأخلاق الملقنة، الممجدة، المنصوح بها إلى هذا اليوم، تسير، على العكس تماما، ضد غرائز الحياة..." (7).   

هذا، وإذا كان مضمون هذا العمل تاريخيا فإن المنهج الذي يحقق لنا ذلك هو ما يصطلح عليه بالجينيالوجيا بالمعنى العام للكلمة، لذلك تأتي أهمية الجينيالوجيا في طبيعة المسارات التي تسلكها، فهي لا تبحث عن الشرعية، ولا هي تريد أن ترسم مسارا مستقيما للتاريخ؛ يقول نيتشه: "إن تطوّر شيء من الأشياء أو عرف من الأعراف أو عضو من الأعضاء، ليس كناية عن تقدم تدريجي يجري نحو هدف من الأهداف إطلاقا، ولا هو أيضا تقدم تدريجي منطقي ومباشر يصل إلى غايته بما تيسر من القوى والتكاليف، بل هو تتابع دائم لعدد من ظاهرات التذليل والإخضاع المتفاوتة في مدى عنفها ومدى استقلالية الواحدة منها عن الأخرى" (8).

   إن مقابل ذلك هو الذي يشكل تقدما حقيقيا، فحالة التعطل الجزئي، والتلف، والانحلال، وفقدان المعنى، والغائية، أو حتى الموت، كلها أمور تنتمي إلى شروط التقدم التدريجي الحقيقي، وهو تقدم يؤشر على مزيد من الإرادة والرغبة والقوة على حساب عدد كبير من القوى الدنيا، وبالتالي على المؤرخ الموسوم جينيالوجياً أن لا يهتم "بالسلطة المركزية وكتابة تاريخها وتاريخ القطاعات المدجنة التابعة لها، وإنما ينبغي عليه أن يوسع من فضوله العلمي وأن يكتب تاريخ من لا تاريخ لهم، أي كل الفئات المهمشة والمنبوذة والتي كانت حتى أمد قريب خارجة عن نطاق السلطة المركزية" (9)، لذلك يتعين على هذه القراءة للتاريخ أن تدخل في سجالات مع المدارات المركزية الكبرى التي احتكرت التاريخ لفترات طويلة من الزمن بتأويلاتها المغرضة، وهو ما طبقه "أركون" في مشروعه عن "الإسلاميات التطبيقية" على تاريخ الفكر الإسلامي قرآنا كان أو سنة أو فكرا.

   لقد قدّم "أركون" مشروعه النقدي للتراث الإسلامي ضمن ابستمية قائمة على نقد المنهج الاستشراقي من جهة، والدراسات الكلاسيكية في البيئة الإسلامية من جهة أخرى، "فرفض المستشرقين لأي انخراط ابستمولوجي في موضوع دراستهم واكتفائهم فقط بتجميع المعلومات الوصفية... إن رفض المؤرخ الحديث، وعالم الأنتربولوجيا، وعالم الاجتماع، وعالم النفس، والناقد الأدبي، وعالم السيميائيات، أو الدلالات، أن يحدّدوا التحديات التي يطرحها علينا الخطاب النبوي، وأن يرتفعوا إلى مستواها أو يردوا عليها. يؤدي في النهاية إلى إفقار هذه العلوم بالذات" (10)، فالاستشراق سواء لأغراض امبريالية توسعية أو لأغراض إيديولوجية اعتقادية تحطّ من شأن الوحي وتحتقره في إطار الوضعية فهو لم يتجاوز حدود المنهجية الفيلولوجية الوصفية، فمع أن له الفضل في تحقيق تقدّم في الدراسات العلمية أو التاريخية عن القرآن، لكنه عجز عن استغلال هذه المعلومات من أجل القيام بتفكيك الانغلاقات التراثية المزمنة ونقد العقل الديني، أما نقده من جهة البيئة الإسلامية فهي تعاني من ضعف مستواها المعرفي، إذ "لا يزال المسلمون يفرضون على أنفسهم الكثير من أنواع البتر والردع والمحرَّمات، إلى حد أنهم يصابون بالشلل المعرفي أو الفكري. وهذا ما يزيد من تبعيتهم ومن تأخر الدراسات القرآنية عندهم في آن معاً. فالدراسات التي قدموها عن القرآن منذ القرن التاسع عشر ليس لها أهمية كشفية أو معرفية بقدر ما لها أهمية وثائقية" (11).

   إن ما يبحث عنه "أركون" في هذه العودة للتراث الإسلامي ليس التقوقع فيه كما في حالة الاستشراق الكلاسيكي، أو نظرة الفقهاء المسلمين المعاصرين - الذين يعتبرون أن الدين الإسلامي مكتمل يعلو فوق كل نص، وكل قراءة، وأننا لم نتجاوز عصر المفسرين الأوائل للقرآن الكريم -، كما أنه ليس إقصاء لهذا التراث بتجاوزه واعتباره ليس شيئا ذا أهمية، بالتالي ينبغي تجاوزه، فمحاولة أركون ليست مصادرة لهذا الواقع والذوبان في التيار الاستشراقي الذي يلغي هذا التراث ويحطّ من قيمته كما يتهمه بعض الأصوليين بذلك، إنما تأتي محاولته هذه لتنوير هذا الإرث وصقله وفق مقتضيات العلوم الحديثة، والمناهج النقدية المعاصرة التي استفادت منها علوم كثيرة. لقد وظّف "أركون" الابستمية على التراث الإسلامي ليكشف عن البنية التحتية التي يتأسس عليها هذا الخطاب باعتبارها تمثل نظام الفكر، وهنا يفصل النص عن هالة القداسة التي تحيط به بهدف دراسته دراسة ابستمية، وهو ما يدخل في نطاق ما يسميه "أركون" بالإسلاميات التطبيقية. فكيف واجهت هذه الدراسة فكرة المقدس؟

ثانيا – الإسلاميات التطبيقية ومأزق المقدس

يقدّم "أركون" الإسلاميات التطبيقية كمقابل للإسلام الكلاسيكي الذي قدّمه الاستشراق، أو تلك الصورة النمطية التي قدّمها علماء التفسير في القرون الأولى التي تلت ميلاد الرسالة الإسلامية، أو حتى تلك التي تقدّمها المجامع الدينية في البلاد الإسلامية والتي تحرص أن تحاكي النصوص الأولى دون مراعاة ظروف تكونها. يقول "أركون" عن مشروعه "نقد العقل الإسلامي": "إن مشروعي يُمثّل جزءاً لا يتجزأ من هذا البرنامج الطموح والجديد حقاً والذي يهدف إلى تفكيك مناخين من الفكر وليس مناخاً واحداً فقط. فليس المناخ الفكري العربي الإسلامي هو وحده المستهدف بالنقد أو التفكيك، وإنما المناخ الفكري الغربي أيضا. إني أهدف إلى تجاوز المنهجية الوصفية أو السردية... والمتّبعة من قبل كتابة التاريخ في كلتا الجهتين" (12).

   هذا النقد الذي مارسه "أركون" على تاريخ الفكر الإسلامي أضاء له دروب البحث التطبيقي، وأعطى للإسلاميات التطبيقية نَفَساً جديدا بفعل العلوم الإنسانية والاجتماعية التي قدّمت إضافتها الهامة في ذلك، لقد كان الفكر الإسلامي في نظر "أركون" بمنأى عن النقد والشك وهو ما جعله ضعيفا في جانب الممارسة الثقافية، والعقلانية، والأنتربولوجية، المعروفة في الغرب.

   لقد ظل هذا الفكر في إطار نظري مفارق للواقع المعيش ولم يخرج عن سياجه الدوغمائي المغلق، يقول "أركون" عن أهمية الدرس الأنتربولوجي في الدراسات الإسلامية: "لقد ألححت منذ سنوات عديدة على ضرورة دراسة العلم الأنتربولوجي وتدريسه. فهو الذي يُخرج العقل من التفكير داخل ''السياج الدوغمائي المغلق'' إلى التفكير على مستوى أوسع بكثير... وإذا ما تم الإجماع الكامل على هذا التوجه المعرفي، فلا بد أن نعيد النظر في جميع العقائد والسنن الدينية عن طريق إعادة القراءة لما قدّمه الخطاب الديني عامة والخطاب النبوي الخاص بأهل الكتاب، من القصص" (13)، لأن القرآن نفسه يقرّ بأهمية القصص كوسيلة لتقديم التعاليم الإلهية المتعالية كبديل عن الأساطير.

   لكن هذا القصص في التقليد الأنتربولوجي هو أسطورة يحتاج فهمها إلى التعامل مع الرمز واللغة والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية وكل ما يحيط بالإنسان، ولا يمكن فهم هذا النص القرآني أو الحديث النبوي بالتقوقع داخل بنيته دون تفكيكه وإعادة تركيبه وفق مقتضيات علم الأنتربولوجيا، يقول "أركون": "علم الأنتربولوجيا الحديث يُمارس عمله كنقد تفكيكي، وعلى صعيد معرفي، لجميع الثقافات البشرية المعروفة. إنه يُمارس عمله هذا بعيدا عن التأويلات التاريخانية الإيديولوجية. وقد أثرت الأنتربولوجيا أو أخصبت التفكير الحديث عن طريق بلورة ما أسميته بـ''المثلثات الأنتربولوجية'' Anthropological triangles، وهي مثلثات من نوع: ''العنف والتحريم والحقيقة''، أو ''الوحي والتاريخ والحقيقة''، أو ''اللغة والتاريخ والفكر''" (14)، وكلها بعيدة عن الثقافة الإسلامية ذلك لأن مجتمعاتها بعيدة وسطحية في الإنتاج العلمي المتعلق بعلوم الإنسان والمجتمع.

إن الإسلاميات التطبيقية هي الدراسة العلمية للقرآن والسنة ضمن الحاضنة التي نشأت فيها، ومعرفة بالشروط والظروف التي تكوّنت فيها معرفة ابستمولوجية تاريخية لتجنب السقوط في شراك الأرثوذكسية الإسلامية، والسماح للعقل الاشتغال بهدوء لاستكشاف مناطق جديدة لم ينتبه إليها، يقول "أركون": "إن علم الابستومولوجيا التاريخية هو ذلك العلم الذي يدرس نضالات العقل عبر التاريخ من أجل استكشاف مناطق الواقع الجديدة والتي لا تزال مجهولة. إنه يستكشفها عن طريق طرح فرضيات جديدة ومحاولة تجريبها أو وضعها على محك الواقع لمعرفة مدى صدقها أو كذبها" (15).

   لقد ازدهرت الدراسات الإسلامية عن القرآن أيام المعتزلة عندما كانت النقاشات الفلسفية محتدمة بين المعتزلة والحنابلة، ولكن مأساتنا نحن المسلمين عندما انتصرت أطروحة الحنابلة القائلة بأن القرآن غير مخلوق، وفي المقابل انطفأت أطروحة المعتزلة التي لم تعرف انتصارا إلا أيام المأمون، لذلك علينا أن نمارس حفرا أركيولوجيا من أجل الكشف عن هذه النقاشات الحية في ثقافتنا التي طمسها الانغلاق الأرثوذكسي. فما الذي يعنيه موقف المعتزلة مثلا من القول بأن القرآن مخلوق؟ يجيب "أركون" عن تساؤله هذا في قوله: "إن القرآن بحاجة إلى واسطة بشرية. أن نقول بأن القرآن مخلوق فهذا يعني أنه متجسّد في لغة بشرية، هي هنا اللغة العربية. هذه هي النظرية التي نسيها المسلمون على مدار التاريخ. وبالتالي فلا يمكنك أن تذهب إلى الله أو تصل إليه إلاّ عن طريق لغة بشرية. وكل ما عدا ذلك وهم أو عدم قدرة على التمييز" (16).

   هذا، ويعدّ "أركون" المانع الذي يقف في طريق الإسلاميات التطبيقية ليس ابستمولوجيا أو علميا بل هو نفسي، بمعنى أن القداسة شكّلت طبقات متكلسة على النص المقدس قرآنا كان أم سنة يصعب اختراقها، وهذه العقبة تعود للتنشئة والتربية التي تكوّن فيها التلاميذ في البلاد الإسلامية؛ هذه التي غطت أطروحة المعتزلة عن مسألة قولهم بخلق القرآن وحُجبت عن التناول في المدارس الإسلامية، وهو ما جعلنا ندفع ثمن هذا البتر لأطروحة المعتزلة في مناهجنا التربوية مزيد من الدم والمآسي التي تحصل باسم الأرثوذكسية الإسلامية في نظر أركون. إن نقد "أركون" لما يسميه بالأصوليين – ويقصد بهم كل من يرفض إقحام العلوم الإنسانية بمناهجها في الدراسات الإسلامية – ليس مستورد من الغرب أو من المستشرقين كما يتهمه البعض بل هو وليد الثقافة الإسلامية نفسها، فقد شهد القرنين الثاني والثالث للهجري – الثامن والتاسع ميلادي – نقاشات فلسفية وعلمية كبرى لا مثيل لها في ثقافتنا المعاصرة.

   إن الممارسة الجينيالوجية النيتشوية على النص القرآني باتت أمرا ضروريا في نظر "أركون"، ذلك للعودة للأصل الأول الذي غلّفته القداسة، بيد أن هذه العودة ليست بالأمر الهيّن بل تكلّف الباحث الجينيالوجي مواجهة الأفكار الأصولية، وكلما اقترب من الحقيقة أكثر زادت الأخطار المحدقة به، إذ "كل مفكّر كبير كان يمثّل فضيحة في عصره... ولذلك فعندما يتقدّم في عملية الحفر أكثر فأكثر ويكاد يقترب من منطقة الحقيقة، فإنه يجد كل القوى المحافظة والتقليدية تنهض في وجهه دفعة واحدة، وذلك لكي تمنعه من الوصول إلى هدفه... حذار إذن أن تقترب من الحقائق قبل الآوان!.." (17).

   لقد ظلت العلاقة بين الإنسان والله في الثقافة الإسلامية منفصلة عن الواقع تعود إلى مرحلة القرون الوسطى، وهو الأمر الذي جعل الفكر الإسلامي مسيّجا بأقفال الدوغمائية، من هنا ينبغي إعادة تأويل هذه العلاقة ضمن معطيات الراهن العلمي كمقابل لما كان سائدا في العصور الوسطى، يبرّر ذلك "أركون" بأن "تصوّر العصور الوسطى مرعب ومخيف يشلّ طاقة الإنسان عن الحركة أو يمنع تفتّح طاقاته وتحقيق ذلك على وجه الأرض. هنا يكمن الرهان الأكبر لمراجعة التراث الإسلامي كله ولتأسيس "لاهوت'' جديد في الإسلام... هنا تكمن نقطة التمفصل الأساسية بين اللاهوت والسياسة، بين التصور المرعب للتأليه والتصور المطلق للحاكم أو لأنظمة الحكم" (18).

هكذا ينتهي "أركون" إلى أن تحرير الأرض مرتبط بتحرير السماء، وهو ما يجعل أولية الإصلاح ينبغي أن تنطلق من الدين قبل الجوانب السياسية والاجتماعية والأخلاقية كما حدث في أوروبا، لقد عرفت أوروبا كيف تتحرّر من عقلية القرون الوسطى التي كانت مهيمنة وهو ما جعلها مقبلة على الحياة ومجتهدة في عملها دون خوف أو إحساس بالذنب. إن السبيل إلى ذلك في نظر "أركون" هو تجاوز تصور القرون الوسطى لله واستبداله بتصور أكثر رحابة ومحبة وغفران، وهكذا يتجلى التصور الحديث لله "في الأمل، في الانفتاح على أفق الأمل... هذا هو الله بالنسبة للعالم الحديث والتصوّر الحديث... فإذا كان المجتمع منفتحا، متقدّما، مزدهرا، كان تصوّره لله هادئا، سمحا، وديعا. وإذا كان المجتمع يعاني من الفقر والجهل وهيمنة الأب القاسي أو الحاكم الجائر المستبد، فإن تصوّره لله سوف يكون بالضرورة ضيّقا، عنيفا، قمعيا" (19)، إننا بحاجة للاهوت إسلامي جديد بإمكانه أن يحرّرنا من مأزق الدوغمائية الأصولية كما يتصور ذلك "أركون"، إنه يستحضر التراث الإسلامي بأكمله ويعطي الأهمية للاّمفكّر فيه l’impensé على حساب المفكّر فيهle pensé، ويُحمّلنا "مسؤولية المفكّر فيه واللاّمفكّر فيه اللذين تراكما طيلة القرون الأربعة عشر الماضية، فإننا سنبتدئ ببلورة مفهومي الإسلام والتراث. وندرس بعدئذ وضع التراث والتراثات في المجال الإسلامي. وسوف نحاول أخيرا بلورة مفهوم التراث الإسلامي الكلي استنادا على المعطيات الناتجة والمتجمعة لدينا" (20)، في إطار علوم الإنسان والمجتمع التي توصّل إليها العلم المعاصر.

إن مأزق المقدّس الذي يواجه الباحث في الإسلاميات التطبيقية يمكن تخطّيه في نظر "أركون" من خلال التنشئة التربوية الصحيحة، فإرساء أسلوب الحوار للتلاميذ في المرحلة الابتدائية وتنشئتهم في المراحل القادمة على هذا الأسلوب يجنّبهم الوقوع في الأصولية، ويفتح أمامهم طريقا للبحث العلمي الصارم المسلّح بنتائج العلوم التي توصّل إليها الإنسان في مختلف الميادين الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، من هنا تتحدّد القداسة في شكلها غير المغلّف بطبقات من الإيديولوجيات التي ظلت تحكم هذا التاريخ، ويظهر الإسلام في صورته الإنسانية الكونية؛ لكن كيف يتمّ له ذلك؟

ثالثا – أنسنة الدين ومطلب الكونية

يحتل مفهوم الأنسنة في فلسفة "أركون" موقعا مركزيا، إذ بدأ يتبلور مشروعه في ما يعرف بعد بـ "نقد العقل الإسلامي" من خلال بحثه الذي أنجزه في أطروحته للدكتوراه نهاية العقد السادس من القرن الماضي والذي نشره بعنوان "نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي"، فالأنسنة هي الفكرة الرئيسة التي ألهمت "أركون" البحث في الإسلام بالمعنى الكوني الذي يتوافق مع الأديان السماوية الأخرى، ويتوافق مع ما وصلت إليه أوروبا من تقدّم في تصوّرهم عن الدين الذي استفاد كثيرا من نتائج العلوم الحديثة، لكن قبل الخوض في أهمية الأنسنة في التأسيس للإسلام التطبيقي علينا أن نحدّد مفهوم الأنسنة؛ فما المقصود بها؟ وكيف اعتبرها "أركون" تقويضا للأصولية والأرثوذكسية الإسلامية؟

   يعرف الفيلسوف الفرنسي المعاصر "أندري لالاند" (1867-1963) الأنسنة Humanisme بقوله: "هي مركزية إنسانية متروية، تنطلق من معرفة الإنسان، وموضوعها تقويم الإنسان وتقييمه واستبعاد كل ما من شأنه تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لحقائق وقوى خارقة للطبيعة البشرية، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالا دونيا، دون الطبيعة البشرية" (21)، وهو ما يعبَّر عنه بالمركزية الإنسانية. إن العودة إلى النصوص التأسيسية لنزعة الأنسنة يقودنا إلى بداية عصر النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وظهور فكرة الإصلاح الديني مع كل من "مارتن لوثر" (1483- 1546) و"جون كالفن" (1509- 1564) عندما نشر "مارتن لوثر" في 31 أكتوبر1517 عشية عيد القديسين قضاياه المكتوبة باللاتينية - والمعروفة فيما بعد بالأطروحات الخمس والتسعين- على باب كنيسة القديسين في "فيتبرغ"، وفي اليوم نفسه، أرسل "لوثر" نسخة مكتوبة بخط يده إلى رئيس أساقفة "ماينز" "ألبرت ماغديبرغ"، وهو أحد كبار الداعمين للتكفير بالأعمال عن طريق صكوك الغفران، وفي غضون الأسبوعين انتشرت القضايا في جميع أنحاء ألمانيا وبعد شهرين سادت جميع أنحاء أوروبا، مما يجعلها من أكبر القضايا الجدلية في التاريخ الحديث. كتب "لوثر" "لألبرت ماينز" محتجًا على بيع صكوك الغفران، وقد أرسل للأسقف إحدى نسخ كتبه اللاهوتية. لم يكن "لوثر" ينوي مواجهة الكنيسة بقدر ما كان يُحذّر من خطورة لاهوت التبرير، غير أن هناك الكثير من التحدي يميّز هذه الأطروحات وبخاصة القضية ست وثمانون (86) التي قال فيها، لماذا لا يقوم البابا بالإنفاق من ماله الخاص لبناء "بازليك" "القديس بطرس" بدل استنزاف جيوب الفقراء.

إن اعتراض "لوثر" الأساسي كان ضد لاهوت التبرير الكاثوليكي الذي يمنح المغفرة مقابل تقديم هدايا وأموال بوساطة كنسية بعيدا عن الأعمال الصالحة، من هنا كانت دعوة "لوثر" قائمة على الاتصال بالله مباشرة دون واسطة بشرية (22)، والتأسيس للاهوت أرضي بدل اللاهوت السماوي، فالله للجميع وليس خاصا بأحد. إن هذا السياق كان بارزا في تخلص الإنسان الغربي الحديث من التبعية الكنسية والعودة إلى الأرض لتأسيس مشاريعه التي ظلت معلّقة في السماء، كما يؤسس هذا التصور لحرية الإنسان وبناء العلم الحديث، "إنه زمن استرجاع الكنوز التي أنفقناها في السماء إلى الأرض بتعبير الفيلسوف الألماني الحديث "لودفيغ فويرباخ" (1804- 1872)، وهو صورة الإله الذي مات على يد نيتشه الحالم بمستقبل أفضل للإنسان عندما يستخلفه بالإنسان الأعلى؛ هذا الإنسان الأعلى ليس إنسان أشبه بالله منه بالإنسان، وإنما هو مقدم إنسان لا علاقة له البتة بذلك الإله الذي ما زال يحمل صورته"(23)،

   لكن ظهور فكرة الإصلاح الديني باعتبارها تعميقا للنزعة الإنسانية كانت إرهاصاتها في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاديين؛ والتي عملت على إحياء التراث اليوناني واللاتيني من خلال الاهتمام بآدابهما، وفي ذلك تجلى الاهتمام ب"أفلاطون" من خلال أسلوبه المجازي البياني الحواري على حساب "أرسطو" الذي تتسم كتاباته بالطابع المنطقي الجاف.

    إن أهم الكتابات التي أعطت بريقها الإنساني في هذه الفترة نجد "ديديي ايراسم" ( 1469- 1536) الذي أسس ما يعرف بالتيار الإنساني المسيحي عندما صالح بين الفلسفة اليونانية والمسيحية، وأعطى الاهتمام الواسع لحرية الإنسان من خلال نظرته للعقيدة المسيحية نظرة إنسانية خالصة، كذلك من الكتابات الزاخرة بالنزعة الإنسانية في هذه الفترة نجد تلك الممهّدة لهذه النزعة مثل "فرانشيسكو بترارك" (1304- 1374) هذا الشاعر الإيطالي الذي نالت أعماله الشهرة في كامل أوروبا، كذلك نتحدث عن الشاعر الإيطالي "جيوفاني بوكاتشو" (1313- 1375) ومواطنه الشاعر "دانتي أليغييري" (1265- 1321) المشهور بعمله "الكوميديا الإلهية"، ومن هؤلاء أيضا نتحدث عن "لورانزو فالا" ( 1407- 1457) الذي دافع عن حرية الاختيار كحق طبيعي للإنسان.

   لقد كانت النزعة الإنسانية التي ظهرت مع عصر النهضة واستمرت إلى الفترة الكلاسيكية بخاصة مع فلاسفة العقد الاجتماعي إعلانا عن ميلاد عصر الأنوار الذي يُؤرخ له بداية من عام 1690م مع ظهور كتاب "مقال في الفهم البشري" للفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" ( 1632- 1704)، وهنا تظهر النزعة الإنسانية في السياسة وقضايا المجتمع والاقتصاد... بعدما كانت أكثر في الأدب والفن، وتتصدر العقلانية عرش الفلسفة كمقابل للنزعة اللاهوتية ويظهر أفق التحرر الأكبر للإنسان، "لأن الاهتمام بالإنسان معناه إعطاء الأولوية لعقله في الإدراك والتمييز وبناء الأحكام المعيارية. ومعناه أيضا رفض كل أسبقية دينية أو ميتافيزيقية يمكنها أن تحدّ من إبداعه وفاعليته في التاريخ"(24)، إنه استقلال الذات من كل أشكال التبعية وتحرير للعقل من الأصنام التي دأب على عبادتها بالمفهوم النيتشوي، لكن إذا كانت الأنسنة في الغرب بهذا المفهوم تعود إلى عصر النهضة، فكيف يفهمها أركون في الثقافة العربية الإسلامية؟ وما هي اللحظة التأسيسية لها؟ وبأيّ معنى هي كونية؟

   يشير مصطلح الأنسنة في الثقافة العربية الإسلامية عند "محمد أركون" إلى الأدب بشكله الكلاسيكي العام وليس بالشكل الضيق الذي نعرفه حديثا، "فمصطلح الأدب في التراث العربي الإسلامي كان يعني الثقافة الواسعة الدالة على المجهود المبذول للرفع من الكرامة الإنسانية؛ أي أن الإنسان من حقه أن يحقق أقصى ما يتمناه من خير ومنافع في الحياة الدنيا، وذلك عكس الرؤية التي تحتقر من شأن الحياة الدنيا وتنظر إليها نظرة زهد واستخفاف، وهو تصوّر بالنسبة للإنسانيين أسطوري يتعارض مع أبسط أبجديات العقل الإنساني" (25)، غير أن مصطلح النزعة الإنسانية أو الأنسنة لم يُعرف في الثقافة العربية الإسلامية إلا في نهاية القرن العشرين مع المفكر الجزائري "محمد أركون" في الأطروحة التي قدّمها عن الدكتوراه بعنوان: "نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي"؛ هذه الأطروحة التي استوحاها من الثقافة العربية الإسلامية لجيل المفكرين الأوائل من خلال دراسة الأدبيات الفلسفية للقرن الرابع الهجري الموافق للقرن العاشر ميلادي، ثم تلتها أعمال أخرى في هذا الإطار أين نجد فيها نزعة فكرية متمركزة حول الإنسان في المجال العربي الإسلامي تهتم بهموم الإنسان ومشاكله مثّلها جيل من المثقفين الفلاسفة أمثال "ابن سينا"، و"ابن رشد"... هذه الاهتمامات بالنزعة الفلسفية الإنسانية في الإسلام تجلّت – في نظر "أركون" - في الإنسيّة الدينية، والإنسيّة الأدبية، والإنسيّة الفلسفية.

   أما الإنسيّة الدينية سواء أكانت يهودية، أم مسيحية، أم إسلامية فهي لا تعني التأكيد على مركزية الإنسان كمقابل لله، بل تعني التفتح الكامل في هذا العالم والعالم الآخر والعمل على الدمج بينهما، وكل تعالي للدين على الحياة هو طعن للإنسيّة.

   أما الإنسيّة الأدبية فهي إنسيّة مرتبطة بأرستقراطية الروح والمال والسلطة أين تشكّلت الحركة الإنسيّة الأدبية وتفجّرت في بلاطات الأمراء أو صالونات الأغنياء، وقد شهدت المدن الكبرى كالعراق وإيران ازدهارا ورقيّا لهذا النوع من الدراسات، ودون عناء البحث نجد تقاربا بين النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر ميلادي التي شهدت هذا الانتشار للنزعة الإنسيّة وما عرفته الحضارة العربية –الإسلامية في القرن الثالث للهجري من انتشار للنزعة الأدبية من خلال شخصية الجاحظ، والقرن الرابع للهجري مع "مسكويه" و"التوحيدي" وغيرهما كثير، يقول "أركون": "الحركة الإنسيّة كانت من صنع هذا الجيل الكبير الذي شهد لمعان بعض الشخصيات العبقرية... فالعالم العربي –الإسلامي شهد تيارا إنسانيا وعقلانيا مدهشا قبل أوروبا بسبعة قرون... ولكن الفرق هو أن هذا التيار سرعان ما ذبل ومات في البيئة العربية –الإسلامية، في حين أنه استمر في الصعود في أوروبا حتى ولّد الحضارة الحديثة التي نشهدها حاليا" (26)، وليس بعيدا عن معنى الأدب يأتي المصطلح اللاتيني "humanitas" بمعنى: "وجود ثقافة كاملة أو متكاملة لا يعتريها النقص أي تلم بكل شيء. إنها ثقافة تحتوي على كل أنواع المعارف والعلوم... تهدف إلى توفير الخير لكل الجماعة عن طريق تنمية الإمكانيات الجسدية والمعنوية والثقافية للفرد ومساعدتها على التفتح والازدهار" (27)، وهو المعنى الذي عرفته الثقافة العربية –الإسلامية للأنسنة مع جيل "مسكويه" و"التوحيدي" وغيرهم.

   أما الإنسيّة الفلسفية فهي مزيج بين الإنسيّة الدينية والإنسيّة الأدبية، إذ تعمل على إذابة عناصر كل منهما في الأخرى، لكن تتميز عنهما بنظامها الفكري الصارم والدقيق، وقد تحقق التقارب بين هذه الإنسيات في القرن الرابع للهجري عكس القرون السابقة التي لم تعرف هذا التقارب بين مستوى التعالي الإلهي ومستوى العمل البشري على الأرض، وتحققت إنسيّة متكاملة بعدما حقّق الإنسان نفسه على هذه الأرض في بعديه الأفقي والعمودي بنفس التوتر والكثافة، أي تحقيق التوازن بين الجانب المادي والجانب الروحي، وبين كونه كائنا سماويا وكائنا أرضيا، وبين كونه يعمل لدينه ويعيش دنياه.

   هكذا تجلت خصائص الإنسيّة العربية –الإسلامية في نظر "أركون" من خلال ما يلي:

1 – انفتاح الإنسيّة العربية –الإسلامية على العلوم الدخيلة أو الأجنبية من خلال حاجات المجتمع لها دون اعتراض من أيّ دوغمائية أو لاهوتية.

2 – عقلنة الظواهر الدينية وشبه الدينية عن طريق ضبطها ومراقبتها إلى حد إلغاء المعجزة والأشياء الخارقة للطبيعة والشعوذات، بغرض إفساح المجال للتأويل العلمي أو السببي للظواهر.

3 – إعطاء الأولوية للاهتمام بالمشاكل الأخلاقية – السياسية.

4 – ترقية الفضول العلمي والحس النقدي ما أدى إلى تنظيم جديد للمعرفة.

5 – ظهور قيم جمالية جديدة لم تكن معروفة من قبل كفن الرسم، والعمارة، والديكور، والموسيقى...

6 – سيطرة غير كافية على عالم الخيال. هذه الخصائص جعلت الإنسيّة في الحضارة العربية –الإسلامية تعرف ازدهارا كبيرا وصلت إلى حد انتفاض التوحيدي في كتبه ضد التفاوت الاجتماعي المريع بين طبقات المجتمع ويؤسس للعدالة الاجتماعية من خلال العدالة والحرية والشفافية في ما يسميه هو بالصدق والصراحة وما يندرج اليوم ضمن ما نسميه حقوق الإنسان (28)، لكن هل بقيت هذه النزعة الإنسيّة مستمرة؟ وهل واصل الخَلَف أو على الأقل حافظ على المسار الذي رسمه ذلك الجيل من الإنسيّين؟ يجيب أركون عن ذلك بالنفي: "إنه نسيان العرب والمسلمين للفتوحات الفكرية التي حقّقها "مسكويه" و"جيله". لقد تم نسيان التعددية العقائدية التي كان يتحلى بها التراث الديني الإسلامي إبان العصر الذهبي، وذلك بعد الدخول في عصر الانحطاط بدءاً من موت ابن رشد عام 1198، كما تم نسيان التراث الفلسفي بل وموته منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا" (29)، في جهة الإسلام الأرثوذكسي السنّي أو الشيعي؛ فكلاهما نسي الفتوحات الفكرية الكبرى التي حقّقها الفكر العربي الإسلامي في العصر الذهبي، وهو ما أدى إلى انسدادات تاريخية أنتجت أصوليات دينية توسعت رقعتها وتوزعت في العالم أجمع، ولا مناص لنا من الخروج من هذا الوضع والعودة إلى الإسلام الأول؛ أي إسلام القرون التي تلت مباشرة نزوله إلا بالعودة لمنهجية العلوم الإنسانية، يقول "أركون": "إذا ما طبقنا المنهجية التاريخية والسوسيولوجية نجحنا في جعل ما يبدو أنه فوق التاريخ (أي الإسلام) شيئا إشكاليا، مندمجا داخل الزمان والمكان وداخل الصيرورة التاريخية للوجود. وإلا فإن مفهوم الإسلام سوف يظل مفهوما مجمّداً، تقليدياً، يقف فوق الزمان والمكان وكأن لا علاقة له بالتاريخ" (30)، فارغ من كل معنى نقدي يقف على مستوى الممارسة الصحفية أو التوظيف السياسي كما الحال في الحركات الإسلامية.

خاتمة

إن هذه الصورة المغلقة التي وصل إليها الإسلام المعاصر جاءت نتيجة تراكمات هائلة للأصولية على حساب العلمنة، بالتالي التسلح بالعلمنة يقي الدين من التوجهات الأرثوذكسية شريطة أن نفهم من العلمنة "كموقف للروح تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إليها" (31)، ومعرفة الواقع بشكل صحيح والاندماج فيه، من هنا تأتي العلمنة في نظر "أركون" ليس لإنكار الدين أو النظر إليه نظرة عدائية، إنما لإحيائه وإعطائه صبغته الإنسيّة التي عهدناها مع المفكرين الأوائل مع جيل "مسكويه" و"التوحيدي"، بهذه الصورة فقط تأخذ الإنسيّة الإسلامية بعدا كونيا ضمن المعايشة العلمية التي عرفتها العلوم الإنسانية المعاصرة في إطار مناهجها.  

لقد قدّم أركون مشروعه في الإسلاميات التطبيقية من خلال العودة إلى التراث العربي الإسلامي الزاخر بالمعاينات الميدانية والنقاشات المحتدمة للمسائل الدينية ضمن حاضنتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو ما جعله يُفرد لهذا التراث مكانة خاصة؛ كانت عناوين مختلفة لكتبه. إن إقحام الإسلام في الحياة العامة واعتباره ليس شأنا سماويا مفصولا عن الواقع الذي نزل فيه يجعل منه مدار أبحاث قيمية إيتيقية، وسياسية، واجتماعية، وتربوية... فالاستفادة من هذه التجارب تُعطي للإسلام واقعيته، وراهنيته، وخصوبته، وهو ما حاول "أركون" إقحامه في المعارك العلمية التي تشهدها الساحة المعرفية المعاصرة من ابستميات مفتوحة وتأويلات متصارعة في إطار مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية بداية من التاريخانية إلى اللسانيات، والسيميائيات، والأركيولوجيا، والجينيالوجيا، وغيرها من المناهج الأخرى، لكن بهذا التوظيف للمناهج الغربية التي تأثر بها "أركون" في الدراسات الإسلامية أدمج ثقافات في بيئات غير بيئاتها، وفرض مفاهيم وتصورات على الفكر الإسلامي لم يوفّر الحاضنة التي تنمو فيها، من هنا يقع في الأخطاء التي وقع فيها المستشرقون حينما يستخدمون المنهجية الوصفية التي تفتقر للتحليل الابستمولوجي، بمعنى أن سيادة النزعة الاستشراقية - التي ظلّ ينتقدها - على فكر "أركون" أخفت عنه قيمة بعض الحقائق المقدسة باعتبارها مناطق قابلة للاختراق في نظره باسم الابستمية والنظرة العلمية، وأحكامه عن الدين الإسلامي ليست مستقلة عن نظرته للديانات الأخرى سيما منها اليهودية والمسيحية على وجه الخصوص.

   مع ذلك شكّل البحث في الإسلاميات التطبيقية في إطار الابستمية كوقوف عند البنية التحتية، أو اللاواعية للإطار العام الذي يتحرك فيه الفكر العربي الإسلامي، من هنا يتحدّد المُتاح البحث فيه ضمن قصدية غير معلنة تكون مصدرا لصقل ركائز البناء الإسلامي، بينما تقف في الجهة المقابلة للابستمية الأنسنة كنزعة لتمجيد بطولات الإنسان على الأرض، إنها تأسيس لتاريخانية يكون الإنسان فاعلا فيها، ضمن هذه اللحظة يكون الإسلام ليس ثقلا على الإنسان بل محفّزا له على الإبداع، إن الإسلام في إطار الأنسنة هو العودة بالإنسان إلى الأرض لتنفيذ مشاريعه المعلّقة، إنه صورة الإسلام الذي يؤسس للحضارة الإنسانية الراقية التي تسير في طريق العلم والبناء والتشييد، لا الجهل والتخريب. إن هذا الفهم للإسلام هو الذي يضعه في سياق الكونية

الهوامش

1 – يشير فوكو بمفهوم الابستمية إلى: "مجموع العلاقات التي بإمكانها أن توجد في فترة معينة بين الممارسات الخطابية التي تفسح المجال أمام أشكال ابستمولوجية وعلوم، وأحيانا، منظومة مصاغة صوريا، إنها النمط الذي يتم حسبه الانتقال، داخل كل تشكيلة خطابية، إلى التنظير الابستمولوجي والعلمية والصياغة الصورية، إنها أيضا نمط توزّع تلك العتبات التي يوافق بعضها البعض أو ينضاف إليه أو يبتعد عنه زمانيا، الروابط الجانبية التي يمكن أن تنشأ بين بعض الأشكال الابستمولوجية وبعض العلوم من حيث أن هذه وتلك، تنتسبان لممارسات خطابية متقاربة، لكنها متمايزة... هي مجموع العلاقات التي يمكننا الوقوف عليها في فترة ما بين العلوم حينما نحلل مستوى انتظاماتها الخطابية". ينظر ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 1987، ص 176.

2 -ميشال فوكو، همّ الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، مصطفى كمال، محمد بولعيش، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1 ،2006، ص 32.

3 – الجذامير Rhizomes جمع الريزوم وهي عبارة عن ساق متمحورة تنمو تحت سطح التربة بصورة أفقية، تخرج من هذه الريزومات جذور تتجه إلى الأسفل وأفرع عليها أوراق تتجه للأعلى يتم تخزين المواد الغذائية الضرورية للنمو في الريزومات، هذه الساق أفقية زاحفة مدفونة تحت التربة، وهو خلاف المسار الشجيري العمودي، يقول عنه دولوز: "ليس الجذمور موضع تكاثر، ولا تكاثرا خارجيا مثل الشجرة - الصورة - ولا تكاثرا داخليا مثل البنية–الشجرة، الجذمور هو "جينيالوجيا مضادة" "Anti généalogie إنه ذاكرة قصيرة أو ضد الذاكرة... ما نحن بصدده في الجذمور هو علاقة مع الجنسانية إنما أيضا مع الحيوان، مع النبات، مع العالم، مع السياسة، مع الكتاب، مع أمور الطبيعة والخداع، وهي علاقة مختلفة تماماً عن العلاقة الشجرانية"، ينظر جيل دولوز وفيلكس غتّاري، ألف مسطح "الجذمور"، إشراف ومراجعة مطاع صفدي، ترجمة بحثية جورج أبي صالح، أنظر مجلة العرب والفكر العالمي، العددان الواحد والعشرون (21) والثاني والعشرون (22)، 2007، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، ص 45.

4 - محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، أبريل 1998، ص 71.

5 – يشير دريدا في كتابه "أحادية الآخر اللغوية" إلى التفكيك بكونه "لا شيء بما أنه يحيل إلى لا شيء، وكل شيء بما أنه يحيل إلى لا شيء أيضا، إنه أكثر من لغة. وعلى الرغم مما سبق ذكره، فإن دريدا يصرّ على نفي صفة السلبية عن التفكيك(ية): إن التفكيك هو حركة بنائية وضد البنائية في الآن نفسه، فنحن نفكك بناء أو حدثا مصطنعا لنبرز بنيانه... فالتفكيك من حيث الماهية، طريقة حصر البسيط أو تحليله، إنه يذهب إلى أبعد من القرار النقدي، من الفكر النقدي، لهذا فهو ليس سلبيا مع أنه فسر كذلك على الرغم من كل الاحتياطات..". ينظر جاك دريدا، أحادية الآخر اللغوية أو في الترميم الأصلي، ترجمة عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، الطبعة الأولى، 2007، ص، ص 15، 16.    

6 – شكري الولهازي، دريدا وتفكيك الميتافيزيقا، مجلة الفكر العربي المعاصر، العددان المائة وأربعون (140) والمائة وواحد وأربعون (141)، ربيع – صيف 2007، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، ص 87.

7 – فريدريك نيتشه، أفول الأصنام، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1996، ص 40.

8 - Nietzsche, Généalogie de la morale, Traduction inédite par Eric Blondel, Ole Hansen-Love, Théo Leydenbach et Pierre Penisson, Flammarion, Paris, 1996, p 89.

9 - محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ص 137.

10 - محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1999، ص، ص 70، 71.

11 – المصدر نفسه، ص 71.

12 - محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ص، ص 30، 31.

13 - محمد أركون، القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص 06.

14 – المصدر نفسه، ص 07.

15 - محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ص 220.

16 - المصدر نفسه، ص 278.

17 – المصدر نفسه، ص 280.

18 - المصدر نفسه، ص 281.

19 – المصدر نفسه، ص 282.

20 - محمد أركون، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1996، ص، ص 19، 20.

21 - أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، المجلد الثاني، منشورات عويدات، بيروت، باريس، الطبعة الأولى، 1996، ص 569.

22 – ينظر محمود حمدي زقزوق، دراسات في الفلسفة الحديثة، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1993، ص 20.

23 -  ميشال فوكو، همُّ الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، مصطفى كمال، محمد بولعيش، منشورات الاختلاف، الطبعة الجزائرية الأولى، 2006، ص 30.

24 - مصطفى كيحل، الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، الجزائر،الطبعة الأولى، 2011، ص 59.

25 – المرجع نفسه، ص 60.

26 – محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1997، ص 608.

27 - المصدر نفسه، ص 608.

28 - ينظر محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، ص 619.

29 - محمد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ترجمة وتقديم هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان،ط1، 2011، ص102.

30 - محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب. رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة وإسهام هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط2، 2001، ص 67.

31 - محمد أركون، العلمنة والدين، الإسلام، المسيحية، الغرب، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط3، 1996، ص 10.    

                                                   

@pour_citer_ce_document

عبد المالك عيادي, «الأنسنة، الابستمية والإسلام، أركون في سياق الكونية»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 85-96,
Date Publication Sur Papier : 2019-10-07,
Date Pulication Electronique : 2019-10-07,
mis a jour le : 09/10/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=5986.