براغماتيات الحقيقة عند ريتشارد رورتيThe pragmatics of truth according at Richard Rorty
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°03 Vol 16- 2019

براغماتيات الحقيقة عند ريتشارد رورتي

The pragmatics of truth according at Richard Rorty
ص ص 156-174
تاريخ الإرسال: 2017-06-06 تاريخ القبول: 2019-09-24

هاجر طالب
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يسعى هذا المقال الى تسليط الضوء على إشكالية الحقيقة بإعتبارها مطلبا إنسانيا ،وهذا من خلال استخداماتها براغماتيا عبر تاريخ الفلسفة وفقا لنماذج فلسفية مختارة بدء من أفلاطون و تصوره الماهوي وصولا إلى الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي في البرغماتية الجديدة لبيان الدور الذي لعبته هذه المقاربات عبر الفلسفات بدءمن التصور المثالي إلى المدرسة الماركسية مع ماركس لتغدو  تطبيقا ثم مدرسة التحليل النفسي مع سيغموند فرويد إلى الهيرمينوطيقا مع غادامار، مرورا بالتصور العدمي مع نيتشه وصولا إلى رورتي في تشكيل التصور البراغماتي للحقيقة وفق سياقها الفلسفي والتاريخي.كلها تشكل مقاربات لمقولة الحقيقة براغماتيا سواء كان هذا بطريقة واعية أوغير واعية بما يخدم الفرد عمليا للاعتبارات النسبية لمقولة الحقيقة أو اليقين  .

الكلمات المفاتيح:

  البراغماتية، البراغماتية الجديدة، الحقيقة،  الماهية ، التطبيق، اليقين

Cet article traite la problématique de la réalité en tant qu'un  but humanitaire et ceci à travers ses usages pragmatiques dans l'histoire de la philosophie selon quelques exemples  sélectionnés et les différentes philosophies depuis l'époque de Platon et son idéalisme à l'école marxiste pour devenir une application ainsi l'école psychanalytique avec Sigmund Freud à l'herméneutique avec Gadamar en passant par la perception nihiliste de Nietzsche arrivant jusqu'à Rorty dans le neopragmatisme ,ce dernier a orchestré entre la réalité et les avantages de l'utilisation de la vérité pragmatiquement dans le but de servir l'individu ,ces approches représentent des usages de la vérité ou la certitude inconsciemment

Mots clés:  Pragmatism,Néopragmatisme,La vérite,  L'essentialisme,L'application,la Certitude.

This article tackels the Ritchard Rorty  issue about modern pragmatic,and the role of truth used over all philosiphical studies from ploto and his essentialism to marksism for becaming an application  till freud without forgetting nitcha, since these hyporhedis a source of understanding truth,because according to Rorty Combining truth and benefit led to have an appropriate use of pragmatism in the sence that human will be benefited since it s relative meaning is to move from truth and certainty to imagination

Keywords:     Pragmatism,Newpragmatism,the truth, The essentialism, Application,certainty.

Quelques mots à propos de :  هاجر طالب

جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2hadjorataleb@gmail.com

مقدمة

تعد الحقيقة مطلبا بشريا ينشده الإنسان وهوما ميز الفكر الفلسفي عبرمحطاته التاريخية الذي ظلّ يحاول البحث عن الحقيقة مراجعا لأسسها ومنطلقاتها سواء ما تعلق بالجانب الميتافيزيقي أوالجانب العملي الواقعي؛ غير أن مقاربات الحقيقة إختلفت بين ما هو علمي وماهو ديني وما هو فني .

وتعددت التصورات والآراء بتعدد رؤى العالم، حسب كل فيلسوف أو مفكر لهذا فالتحولات المفاهيمية في الفلسفة لم تكن نتاج اكتشاف نظريات جديدة بقدر ما كانت اكتشافا لمناهج وحفريات جديدة بلغة الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال فوكو (Michel Foucault)، فلا يمكن أن نقر بإمكانية تحديد الدلالة الفلسفية لمجموعة من المفاهيم، إلا في خضم فهم السياق الابستيمي والمنهجي الواردة فيه. وقد اخترنا  أحد أهمها ألا وهو الحقيقة. هذه الأخيرة التي  لطالما استندت على معايير وأسس أبرزها المعيار الواقعي الذي نقيس به ما هو خاطئ وما هوصحيح، وهذا ما يستدعي منا طلب مفهوم الحقيقة خاصة في الفلسفات العملية الجديدةوقد ساد قبله إعتقاد يولي أهمية بالغة لما هومتعالي عقلي بعيدا عن المعيش؛ بالنسبة للتصور الأول نجد البراغماتية ذائعة الصيت في المقاربة والطرح العملي الواقعي سواء منها الكلاسيكية أوالجديدة مع الفيلسوف الأمريكي المعاصر ريتشارد رورتي فلم  تتراجع مكانة الحقيقة بعد ارتباطها بنظرية المعرفة حسب المحطات الفلسفية الكبرى وهنا نجد انفسنا امام مفهومين فلفسيين اثنين هنا : الحقيقة والبرغماتية . ولكي تتضح لنا طبيعة العلاقة بين كل منهما إرتاينا عرض  أهم الرؤى الفلفسية التي استعملت مفهوم الحقيقة براغماتيا إنطلاقا من الفلسفة اليونانية خاصة مع أشهر وأبرز فلاسفتها صاحب مذهب المثُل، ألا وهو أفلاطون، مرورا بالفلسفة الحديثة مع رائد الجدلية المادية العالِم والفيلسوف الألماني كارل ماركس، كذلك عالم النفس التحليلي النمساوي سيغمنود فرويد، إضافة إلى الفيلسوف العدمي الألماني فريدريك نيتشه، ولدى مواطنه صاحب التأويلية الفلسفية هانز جورج غادامير، وصولا في الأخير إلى أحد  

أقطاب البراغماتية المعاصرة الأمريكي ريتشارد رورتي، ونشير هنا إلى العودة القوية لهذه المقولة في الساحة الفلسفية المعاصرة، لأن هناك استدعاء لها لما تقتضيه الظروف الفكرية الحالية للإنسان. فلابد من العودة إلى المحاكمة والمراجعة لما هوحقيقي صادق؛ لعله يساهم بشكل من الأشكال في علاج الأزمات الواقعية اليوم، والإشكال الذي نطرحه في هذا المقام، يمكن صياغته كالتالي: هل يمكن القول بأن طبيعة هذا الطرح أي خدمة الحقيقي للواقع الإنساني سمة للفسلفة الأمريكية فحسب؟ولأي مدى يمكن الإقرار بصحة التطابق في الصحة والخطأ؟ ما معيار التفاضل بين الحقيقي واللاحقيقي؟كيف تحيّن مفهوم الحقيقة من المثالية إلى الواقعية؟

ألا يمكن الحديث عن حقائق متعددة بلا من حقيقية واحدة من خلال مجموع الدلالات العديدة- سواء كانت؛ فكرية، فلسفية، أو نفسية، أو مادية، عبر التاريخ الفلسفي- المقدمة لمفهوم الحقيقة حيث جعلت منها ركنا متعاليا في سقف الوعي ؟ ماالقيمة التي أسس عليها  الفلاسفة السابق ذكرهم خطابهم الفلسفي حول الحقيقة؟  ألا يمكن الاقرار أن البراغماتية كطريقة تفكير وجدت في المتون الفلسفية في علاج مختلف الإشكالات؟  وكيف يمكن الاستفادة من هذا الإجراء في واقع اليوم على مختلف مجالات الحياة؟ وما الخطر الذي يشكله هذا الهاجس الدائم بحثا عن الحقيقي في معانيه وغاياته ؟

أولا: التأسيس المفاهيمي يكون من الصعب التماس الصورة السياقية والمفاهيمية لمدلول فلسفي معين دون استدعاء مطلب التحليل الفلسفي للمفاهيم فالقضية ليست مجرد اختزال وشرح للكلمات بل هو أخذ المفاهيم وخصوصيتها بعين الاعتبار وفق المحطات الواردة فيها وهذا لا يعني التسليم الكلي والنهائي بها وإنما التأكيد بنسبيتها، وتجددها وفق الطروحات الفلسفية باعتبار التفكير الانساني تفكير متجدد تحكمه رؤى معرفية فالأساس هو الضبط الاجرائي المراد تحقيقه في ضبط المصطلحات، فماهي البرغماتية؟ وما هو مفهوم الحقيقة؟ 

1.1:مفهوم البرغماتية: لغة واصطلاحا

 عُرّفت البراغماتية بأسماء عديدة وكثيرة منها: الأدائية، والوظيفية، والذرائعية أو الوسيلية... الخ.1 ونقول ذريعي أومذهب الذرائعية وذريعي أو ذرائعي عملي أو براغماتي وبراغما فعل وخصوصا شيء ولها عدة معان:

·  ما يختص بالعمل أو بالنجاح بالحياة سواء في مقابل المعرفة النظرية والعقلية أم مقابل الواجب الأخلاقي2، ويطلق كانط اسم إيمان أو اعتقاد وذريعي على التبني الحازم، ولو عشوائيا لقضية أو لمقترح بحكم ضرورة التصرف مثلا: التشخيص الذي يتعين على الطبيب أن يجريه للمرض والذي لا يمكنه من دون أن يعالجه.

·  بالمعنى المدحي حقيقي فعّال، قابل لاستعمالات نافعة مقابل ما هو فارغ وعليه فإن أصل الكلمة يوناني براغما (Pragma) ومعناها: العمل وهي مذهب فلسفي يُقر أن العقل لا يبلغ غايته الا إذا قاد صاحبه الى العمل الناجح، فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة أي؛ الفكرة التي تحققها التجربة، فكل ما يتحقق بالفعل فهو حق، ولا يقاس صدق القضية إلا بنتائجها العملية ومعنى ذلك كله أنه يوجد في العقل معرفة أولية، تُستنبط منها نتائج صحيحة بصرف النظر عن جانبها التطبيقي، فليس المهم أن يقودنا العقل إلى معرفة الاشياء و إنما المهم أن يقودنا إلى التأثير الناجح فيها، وقد استخدم هذه الكلمة شارل سندرس بيرس في كتابه كيف نجعل أفكارنا واضحة؟.3

كما توصف هذه الفلسفة، بفلسفة النجاح والأثر المتولدين عن العقل والتجربة،مما يحملانه من مبادئ خاصة بالنسبة للحرية وللعمل وللمبادرة وللعقيدة،من هنا كان شعار هذه الفلسفة الفاعلية والأثر كمعيارين لكل حقيقة ولكل عمل. لذلك جاءت البراغماتية البيرْسية معبرة عن الواقع الاجتماعي الخاص بأمريكا، المتعددة الأجناس والعقائد،والثقافات والحضارات، التي شكلت الأساس الأول لما يسمى بالعالم الجديد.4

ولا بد للإشارة أن هناك من نسب المنفعة إلى البراغمايتة فكثيرا ما يفسر المذهب البرغماتي أنه مذهب نفعي وفي هذا الصدد كتب جون ستيورات مل كتابه النفعية موضحا ماهية المنفعة أو النفعية بقوله: "إنّ كل ما يمكن تقديمه لجاهل يعتقد أن الذين يدافعون عن المنفعة كمقياس للخير والشر هو استخدامهم للفظ في معنى ضيق وشائع، يجعل فيه المنفعة مقابلة للذة ربما هو مزج ناجم عن سوء فهم خال من المعنى وهو اتهامهم بإرجاع كل شيء إلى اللذة في أبشع مظاهرها،إنّ الذين لهم أدنى معرفة بهذا الموضوع يدركون أن كل كاتب من عهد أبيقور إلى بنتام ممن تبنى نظرية المنفعة لم يقصد منها شيئا ما مقابلا للذة، بل قصد اللذة عينها في غياب الألم، وبدلا من المقابلة بين ما هونافع وماهو ممتع، أو مجمل كانوا دائما يقرون بأن النافع هو وسيلة لكل ذلك، من جملة أشياء أخرى"5. وهنا نجد الفيلسوف الإنجليزي جون سيتورات مل (John Stuart Mill)  (1806-1873) قام بالإشارة إلى المفاهيم الخاطئة التي تعتري العقول، فيما يخص لفظ المنفعة، موضحا أنها لا تقابل اللذة، ولابد أن النفعية كذلك تهتم بالنتائج فاذا كانت نتيجة عمل ما تزيد في المتعة وتقلل من الألم فسيكون هذا الفعل صالحا، والفلسفة النفعية فلسفة تلذذية في جوهرها، وقد ربطت بالجانب الأخلاقي للأفعال. وهذا يحيلنا إلى التشارك بينها وبين البراغماتية في ضرورة تقدير معيار الفعل والنتائج المترتبة عنه.

 غير أن السياقات الفكرية   والتاريخية بينهما تختلف.6بالإطلاع على التاريخ الابستيمي والتاريخي للفلسفة الأميريكة -أقصد البرغماتية-نلمس التقاطع بين النفعية و/ البرغماتية نتجية تأثر الفلسفة الاميركية بالفلسفات السائدة أنذاك والنصووص الفلسفية خير دليل على إستعارة النفعي أوالصالح بربط الفلسفة مع الواقع.

ترتبط البراغماتية كذلك بالفيلسوف الأمريكي ذو الإتجاه النفعي وليام جيمس (  James William) (1842-1910)، حيث تعد المرحلة الثانية من فكره، وحسب اعتقاده فإن فكرة الحقيقة ليست بمثابة صورة مطابقة للشيء، بل هي بالأحرى؛ عبارة عن فكرة من شأنها أن تقودنا إلى إدراك ذلك الشيء.7وقد يحيل هذا إلى ومفهوم المطابقة في عملية الوصول إلى ماهو حقيقي  وهذا ما سيتم عرضه لاحقا.

وقد أورد جيمس في إحدى محاضراته أن الكلمة ذات اشتقاق يوناني والتي تعني -كما أشرنا سابقا- العمل (Pragma)  ومنها  (Practice)  أي يمارس عملاً. حيث سبقة مواطنه تشارلز ساندرس (Charles Sanders Peirce) (1839-1883) إليها وقد أشار بيرس أنه بعدما نوضح بأن معتقداتنا هي في حقيقة الأمر قواعد للعمل، ولكي نطور معنى فكرة ما، علينا أن نحدد السلوك المناسب الذي انتجته.8 كما أن جيمس أضاف أن الطريقة البراغماتية هي شكل رئيسي وطريقة لتسوية نزاعات ميتافيزيقة قد تكون بخلاف ذلك نزاعا طويلا لا نهاية له.9 وهذا يشير إلى أن البراغماتية ليست كلمة بل هي منهجية يعتمدها الفلاسفة في عرض طروحاتهم وهذا ما سنتوصل إليه في نهاية البحث.

والبراغماتية كما يتصورها بيرس ليست رؤية للعالم، بل هي منهج للتفكير من أهدافها أن تجعل الأفكار واضحة، ولذلك فإنها تنتمي إلى علم المناهج؛ إلى ما يسميه بيرس بالمنهج Méthode  ولأنه يشدد على الأسس المنطقية وعلاقات البراغماتية.10 وقد عدّها جيمس كذلك حالة تجريبية أو منهجية من خلال قوله: "[...] البراغماتية في الوقت عينه لا ترمز إلى أي نتائج خاصة،هي منهجية فقط، لكن انتصار هذه المنهجية العام سوف يعني تغيرا هائلا".11

أما بالنسبة لجون ديوي J.Dewey فقد أشار: "أن أصل كلمة براغماتية يرجع إلى بيرس، لقد عرف كلمة براغماتية من دراسته لكانط  (Immanuel Kant)(1724-1804)، وهذا يخالف الرأي السائد الذي يذهب إلى اعتبار البراغماتية نظرية أمريكية خالصة، ففي كتاب ميتافيزيقا الأخلاق ميز كانط بين ما هو "براغماتي" و بين ما هو "عملي".12 وفي سياق آخر ذكر أن البراغماتية كاتجاه تمثل ما وفق بيرس أعظم توفيق في تسميته(العادة المعملية للعقل) ،وقد امتدت لشمل كل ميدان في وسع البحث أن يجري فيه بثمرة و فلاح.13

فالانتقال من الفلسفة التقليدية إلى الفلسفة البراغماتية هو انتقال من أمس إلى الغد، فبعد أن كان أساس الحكم على قول ما بالصدق أو البطلان هو الرجوع إلى الأصل الذي بعث على تقرير ما يقرره القول، أصبح الأساس هو النتائج التي تترتب عليه، فالكلام: صواب أو خطأ، والنظرية من نظريات العلوم: حق أو باطل بمقدار ما يعين ذلك الكلام أو هذه النظرية على رسم طريقنا في الحياة العملية، لا بمقدار تطابقها مع الواقعة التي تصورها واتساقها مع غيرها من الأفكار.14

والبراغماتية فلسفة معبرة وإلى حد كبير عن الواقع الاجتماعي والثقافي والديني، الذي بناه أولئك المهاجرون إلى أمريكا، وعن أبعاده الانسانية منها، الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، والعقائدية، والثقافية المتميزة بذلك لهذا كانت البراغماتية أقرب فلسفة إلى المواطن الأمريكي المسكون بهاجس التفوق والنجاح والقوة المادية خاصة. إن هذه المكانة التي تحتلها البراغماتية في الفكر وفي الحياة الأمريكية لا تزال فاعلة، بالرغم من انصراف الشباب الأمريكي اليوم عنها.15 وعليه كان مفهوم الحقيقة يتأرجح وفق رؤية كل من الأعلام الثلاثة للبرغماتية بيرس وجيمس وجون ديوي ، ورغم اختلاف تعاريف الفلاسفة للبراغماتية  إلا أنّ مفهوم الحقيقة عندهم تلون بلون مفهوم البرغماتية مما يدفعنا للاستنتاج أنها تيار فلسفي عرف في أمريكا، ونميز منه البراغماتية  الكلاسيكية والبرغماتية الجديدة-سنعرضها لاحقا-

1. 2:مفهوم الحقيقة  لغة واصطلاحا

لفظ الحقيقة هو سمة ما هو حقيقي، وهي عبارة صحيحة عندما يكون حقيقة واجبة يمكننا أن نجد علتها بالتحليل، فنحللها إلى أفكار و حقائق أبسط منها، حتى نصل إلى الحقائق القديمة. كذلك لها معنى آخر، فهي: ما جرى التحقق منه علميا/ ما جرى وقوعه أو لحظه من قبل شاهد يرويه.16 ويطلق الفلاسفة الحقيقي على عدة معان:

·  الحقيقي هو الواقعي أي الشيء الموجود بالفعل.

·  الحقيقي و هو الصفة الثابتة للشيء مع قطع النظر على غيره.

·  الحقيقي ضد الممكن والخيالي، ويطلق على الشيء الموجود كما هو مع قطع النظر عن وجود وجوب وجوده.

·  الحقيقي هو الأمر المتعلق بالأسماء لا بالأشياء.

·  كما أن الحقيقي مرادف للحق باعتباره صفة.17

وقد ورد في معاجم أجنبية أن الحقيقة تطبيق الأحكام والاقتراحات الصحيحة سواء كانت أشخاص أو أشياء أو أعمالا أو أحداثا،كما يمكن أن تعني المثالي.18 أما فيم يخص المعنى للحقيقي الذي سنقوّم بناءه من خلال هذا التحليل هو الصحيح أو المثالي كما كان رائجا في الفلسفة الغربية، حيث عدّت الحقيقة مقولة فلسفية شغلت اهتمام كثيرين عبر تاريخ الفلسفة، ولطالما ارتبطت الفلسفة بمقولة الحقيقة باعتبارها ضالة البحث الفلسفي وغايته المنشودة.

فكيف يمكن حصر التحولات المفهومية لتصور الحقيقة عبر تاريخ الخطاب الغربي وصولا إلى البراغماتية الجديدة مع رورتي؟

قبل هذا لا بد من معرفة العلاقة بين الحقيقة والابستمولوجيا باعتبار الفلسفة البراغماتية قوضت الخطاب الابستمولوجي الغربي بالانتقال من الحقيقة الى اللاحقيقة. فالفلسفة الغربية أخذت الابستمولوجيا أو نظرية المعرفة، باعتبارها بحثا عن الحقيقة فما مفهوم الابستيمولوجيا لمعرفة أسباب إتخاذها نظرية في المعرفة في فترة ما.

 وتتأتى هذه الاشكالية استنادا الى بعض الأفكار والمحطات الموجودة في مشروع رووتي الذي حاول أن يؤسس مقولة فلسفية جديدة ،وهي الحقيقة  على أنقاض بعض النماذج الموجودة عبر تاريخ الفلسفة. فما مفهوم الابستمولوجيا في علاقتها بالحقيقة؟

الابستمولوجيا 19  نجد في المعاجم الفلسفية أن ما يقابله فلسفة العلوم وهو لفظ يتكون من جذرين يونانيين هما دراسة العلم أو نظرية المعرفة في الانجليزية تعنيTheory Of Knowldge  وتعني  في الفرنسية معنى أهم و هو فلسفة العلوم (Philosophie des sciences) التي تشمل نظرية المعرفة.20 وفلسفة العلوم أو الابستومولوجيا تعالج مبادئ  العلوم وموضوعاتها وطرقها وقوانينها ويدرسها دراسة نقدية؛ أي تبرر أصولها المنطقية والعلمية ومدى شغوفها عن الحقيقة ودرجة اليقين فيها، بحيث تدرس نظرية المعرفة منشأ المعرفة عامة وطبيعتها وقيمتها وحدودها.21

وتكمن العلاقة بين الابستمولبوجيا والحقيقة ضمن نظرية المعرفة، من خلال ترادفها معها اصطلاحا في اللغة الانجليزية التي تبحث سؤال المعرفة، الذي بدوره ينشد الحقيقة هذا من جهة، ومن جهة أخرى من المعروف أن مسألة الحقيقة أخذت حيزا كبيرا من انشغالات الفلاسفة ولما لا نقول أنها كانت أهم مسألة لديهم؛ إذ أصبحت عنوانا لأبحاثهم و تأملاتهم، وصارت الفلسفة في التعريفات الجارية على الألسن أن الفلسفة بحث عن الحقيقة.

وعليه نخلص أن العلاقة بين الحقيقة وبين الابستمولوجيا باعتبار أن كل ما هو إبستيمي معرفي في الخطاب الغربي رشح نفسه أنه الحقيقة والمطلق والمناسب واليقيني. كذلك تعد الابستمولوجيا كحقل فلسفي بحث في أحد الأسئلة المهمة ألا وهي غاية المعرفة أو هدف الإشكال الفلسفي الذي تترتب عنه مقولة الحقيقة باختلاف أصنافها أو مجالاتها سواء كانت كقيمة أو غاية.كما أنها تجد من التعالق ما يربطها مع البراغماتية وهو إستعمالها مفهوميا بما يخدم رؤية الفيلسوف، وتصوراته، وهذا الذي سنفصل فيه في العنصر الموالي،وحتى لا نضيع في التأسيس المفهومي سننتقل إلى تأسيس الفلاسفة لهذا التعالق بين المفهومين ضمن أنساقهم الفلسفية.

ثانيا :الحقيقة من أفلاطون إلى غادامار

تنوعت المفاهيم في سياقات فلسفية دلت بشكل أو بآخر على التراكم الواعي أو اللاواعي لبعض المفاهيم أو الاستعمالات الفلسفية ،وهذا ما يدفعنا الى التقصي الكرونولوجي لبعض النماذج الفلسفية كنقطة تأسيسية لغايتنا المنهجية من خلال هذا التحليل  بتتبع مسارات الحقيقة ومقارباتها لادراك التأثير و التأثر بين كل مرحلة وأخرى تليها .بدء بأفلاطون بحقيقته المتعالية مرورا بماركس الى مؤسس اللاشعور فرويد ثم فيلسوف العدمية نيتشه للانتقال الى غادامار نهاية الى رورتي ،فماهي القواعد والأسس التي اعتمدها كل من هؤلاء في التأسيس الابسيتيمي أو المنهجي لمفهوم الحقيقة؟

2 . 1 :الحقيقة عند أفلاطون

هناك اعتبارات منهجية دفعتنا إلى اختيار افلاطون، وذلك باعتباره ضمن المؤسسين الأوائل لمقولة الحقيقة مثاليا أوميتافيزيقيا. كما أن الفلاسفة البراغماتيين المعاصرين، خاصة منهم جيمس ورورتي قاموا بدراسة الفلسفة اليونانية وتجاوزوها بالنقد. ضف لذلك أن تصور أفلاطون للحقيقي المطلق يشكل تصورا فلسفيا محفزا للنقد من طرف الواقعيين والتجربيين كما أنه أسفر عن كثير من الاجتهادات التي حاكت التقسيم الأفلاطوني.فما مفهوم الحقيقية باعتبارها آليثيا؟

يلاحظ أن أفلاطون كثيرا ما يستعمل عبارة آليثنون،والتي تعد هذا الشيء الخارج عن كل انسحاب والذي يكون تقريبا من جهة أخرى المكون من غير انسحاب أي ماهو خارج عن كل انسحاب الخاص بالكائن ،من المثل أوالكينونة تمسح بالمرور إلى الكائن،تفتح المثل الطريق .ويجعل النور ماكان من قبل خفيا قابلا للرؤية22 .فالحقيقة تنسحب من فوق إلى تحت-من عالم .المثل إلى العالم الواقعي- فدور الانسان يكشف المثل ويدركها .

يرى أفلاطون أن طريق بلوغ الحقيقة هو التأمل العقلي الذي يمكّن الفيلسوف من تجاوز الآراء والمعتقدات السائدة، والارتقاء إلى عالم المثل من أجل إدراك الحقائق اليقينية والمطلقة وهكذا فالحواس لا تمدنا سوى بالظلال والأوهام التي هي مجرد أشباه حقائق، أو آراء ظنية صادرة عن عامة الشعب، بينما تُعد الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة، وهي تعتمد على الجدل الصاعد كمنهج تأملي يتعارض تماما مع الآراء الظنية السائدة ؛فلإدراك الحقيقة من طرف الفيلسوف يقتضي منه بالضرورة تجاوز الآراء السائدة لدى الناس،عن طريق التأمل العقلي وهذا ببلوغ الحقيقة الموجودة في عالم المثل والتي تشكل قطيعة مع الآراء السائدة والتي تظل مجرد أوهام أو أشباه حقائق2..وهذا يوحي إلى صلة المثال بصلة الحقيقة فبالتمييز الأنطولوجي لأفلاطون بين عالمين فالأول عالم المحسوسات و/عالم المثل فالأول زائف ومحسوس،متغير،موجوداته ظلال وأشباح لما هو موجود في عالم المثل،وهذا الأخير معقول ثابت وكامل ،يحوي النماذج العليا لكل الموجودات،وتتلخص العلاقة بينهما علاقة خيال أوشبح بالحقيقة ،وهذه الاخيرة تتميز بالمطلقية يجسدها عالم المثل من خلال الجدل الصاعد أي الانتقال من المحسووس إلى المجرد، وهذا التراتب بين الحقيقي و/الزائف يوضح ضرورة المفاضلة بين التصورات العامية والتصورات الفلسفية -الحقيقية- كونها مؤسسة على منهج عقلي يوصلنا إلى التمحيص والكشف عن الزيف أواللا حقيقة.ونفهم من تصور أفلاطون أن الحقيقة مرتبطة بالعقل لا بالواقع يرصدها الإنسان بالنظر خارج الكهف والابتعاد عن الظلال أي بالسمو والتعالي.

2. 2: الحقيقة عند كارل ماركس  

إن الانتقال إلى الفلسفة الحديثة دون ذكر الأب الروحي روني ديكارت ضرورة منهجية-غير أن هناك بعض التشابه 3موقف ديكارت وأفلاطون بربط مفهوم الحقيقي بملكة العقل -  سنقوم برصد نموذج فلسفي تناول الحقيقة من ناحية أخرى ليست ميتافيزيقية فربطها بالواقع، ألا وهو الفيلسوف الألماني كارل ماركس، هذا الأخير الذي مثل وجها جديدا من وجوه الاتجاه الجديد في علم اجتماع المعرفة، لتغدوا الحقيقة أو المعرفة في الخط الاجتماعي الواقعي أي إنزال المعرفة والحقيقة من سماء الميتافيزيقا إلى الواقع .

نظر ماركس إلى الوعي الانساني باعتباره انعكاسا للوجود الاجتماعي، إذ ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي الذي يحدد وعيهم، لأن أساس الابداع التاريخي لا يمكن في وعي الفرد المنعزل أو الوعي بصفة عامة وإنما هو تعبير عن النشاط الانساني الاجتماعي الذي يؤكد الانسان وعيه من خلاله.

وذهب ماركس أن التكنولوجيا التي صنعها الانسان هي التي تحدد أفكاره وتشكل حياته لا بالعكس، فالحاجات هي المحددة للأفكار وليست الأفكار هي التي تحدد الحاجات.4ويرى ماركس أن حياة الناس العقلية التي تتخذ أشكالا ملموسة في الأعمال، والنُظم الأخلاقية، والفلسفية والسياسية، والقانونية، والدينية، والفنية لا يمكن أن تفهم إلا باعتبارها جزء من حياة المجتمع كلها.5

ولا يمكن فهم المعرفة أو ميزة الحقيقة إلا بفهم النظرية الدياليكتيكية Dialectique، وهذا ما يحيل إلى أذهاننا مصطلح المادية الدياليكتيكية6 عنده حيث نجده يقول: "إن طريقتي الدياليكايكية لا تختلف عن الطريقة الهيغلية من حيث الأساس، بل هي ضدها تماما فحركة الفكر،هذا الفكر الذي يشخصه هيجل ويطلق عليه اسم الفكرة هي وفي نظره خالق الواقع و صانعه، فما الواقع إلا الشكل الحادثي للفكرة، أما في نظري فعلى العكس ليست حركة الفكر سوى انعكاس للحركة الواقعية منقولة إلى دماغ الانسان ومستقرة فيه".7

 والقضية الأساسية التي يقدمها ماركس هي أن كل ما يفكر فيه الانسان ويريده ويرغب فيه، ما هو إلا في النهاية نتيجة حاجاته الاقتصادية التي تحددها طرق الانتاج، والعلاقات الاجتماعية التي يخلقها هذا الانتاج، ويتطور بطريقة جدلية تعبر عن نفسها في قانون الصراع الاجتماعي بين الطبقات، والفكرة الجوهرية عند ماركس هي أن كل مضمون الوعي الإنساني يحدد المجتمع، وهذا الوعي يتعدل، ويتغير، ويتنوع، بحسب التطور الاقتصادي.8

وهنا يتجلى مفهوم الحقيقة في المادية الماركسية باعتبار أن المادة هي كل الوجود، وأن كل ما هو عقلي يتطور بحسب ما هو مادي ولابد أن يفسر العكس على أساس طبيعي. وهنا نجد النقلة النوعية لمعنى الحقيقة من النموذج الأفلاطوني إلى النموذج الماركسي.

2. 3 الحقيقية عند سيغموند فرويد: (Sigmund   Freud)

يمثل البحث في البنية النفسية للإنسان الموضوع الأكثر أهمية في التحليلي النفسي والذي قام فرويد باعتباره مصدر الحقيقة الانسانية9.

حيث سعى جاهدا من أجل الكشف عن الجانب الخفي اللاشعوري في الفرد لما له من تأثير على سلوكاته وحياته السوية، أو المرضية لهذا فقد بحث فرويد في الدوافع الداخلية والقوة المحركة في الانسان الكامنة خلف أفعال الفرد، كما بحث عن سبب ظهور النزاعات والصراعات الداخلية في النفس البشرية، فكانت القضايا التي أثارت اهتمامه هي تتعلق بتأثير الوجود البشري، وضمن تحليلاته النفسية توصل إلى أن هناك ثلاث أنظمة للبنية النفسية للإنسان، وهي:  الهو Le Ça) (والأنا  (Le Moi) والأنا الاعلى (Le Surmoi). والتي تمثل المنطلق لفهم كيفية تكون الشخصية. وتقع هذه الأنظمة موقع ترابط وتتابع فالهو هو الجانب اللاشعوري ومضمون كل ما هو موروث، كل أنا يظهر عند الميلاد، فهو يتألف أو وقبل كل شيء من الميول الغريزية التي تصدر عن التنظيم الجسمي.10

أما الأنا فهو شخصية المرء المعتدلة، فلا يميل فيها الفرد إلى الهو، أو إلى الأنا الأعلى ميلا كاملا، و إنما يقف وسط بينهما، حيث تخضع الشخصية لضوابط أخرى خاصة الاجتماعية... فالفرد هنا ليس منفصلا انفصالا تاما عن الهو بل هناك جزء سفلي.11

أما الأنا الأعلى يتجاوز ذلك كله ليمثل صورة الشخصية الأكثر تحفظا وانضباطا بالقيم الأخلاقية والقوانين الخاصة بالمجتمع، وإقصاء الجانب الشهواني الغرائزي بشكل نهائي فلا تحمل الشخصية هنا إلا ما هو مثالي، بعيد كل البعد  عن اللذة .... .12

 وهذه العملية التحليلية للقوى النفسية توضح التكوين المتداخل للنفس البشرية كما أنه يكشف خفايا وأسرار حقيقة السلوكات والأخلاق التي يمارسها الفرد وبالتالي تتحكم في حقيقة وجوده مما لا شك فيه. فحقيقة الانسان هي كونه ميدان المعركة التي تتلاقى فيها قوتان تتساويان في القدرات، الدافع إلى الحياة والدافع إلى الموت.13 ومن هنا نجد أن فرويد شك في قيمة الحقيقة وقام بتقويض مقولة الحقيقة في الخطاب الغربي، ونقلها إلى اللاوعي وهناك مفاهيم زائفة للحقيقة لا مطلقة حيث يرى أن الناس عامة لا يعرفون عطش الحقيقة وإنما كلهم يطلبون الأوهام.

كان هذا تصور فرويد الذي نقل الحقيقة من عالم المثل عند افلاطون ورفض التصور المادي عند ماركس ونسبها إلى اللاوعي والنفس البشرية .

2. 4: الحقيقة عند فريديك نيتشه

كان القرن الثامن عشر العقد الزمني للتفاؤل والتقدم والتطور، ومنذ تلك الحقبة ذاتها تمكن نيتشه من اكتشاف مروع وهو أعظم حدث في الأزمنة الحديثة وهو أن الله قد مات ،وأن ذلك الايمان بالله المسيحي صار لا قيمة له، بدأ يلقي بطلاله في أروبا.14وعاد فيسلوف العدمية الى هذه المطرقة لوصوله إلى نتيجة العدمية في أروبا التي تغذت على على أخلاق العبيد لصالح السادة فقضى على التصور العدمي الذي يقضي على فاعلية الإنسان . ولعل هذا أول تمويه بعدم الميتافيزيقا في الخطاب الفلسفي الغربي، وارتجاج المقولات التقليدية وتمومقع العدمية في الحياة الأوربية،وبالتالي الثورة ضد المفهوم الكلاسيكي للحقيقة باعتبارها مفهوما مطلقا، وصعوبة موضوع الحقيقة تزداد بصفة خاصة مع نيتشه الذي أنجز فلسفة المختصرات وعرضها في صيغة جديدة في التفكير والنقد.15

ووظف نيتشه فكرة موت الإله من أجل البعث الجديد للإنسان فالميتافيزيقا أفرغت هذا الأخير من محتواه فتخلى عن إنسانيته وأصبح مستغلا تحت غطاء الخطابات الميتافيزقية.

ويمكن الاطلاع على موقف نيتشه العام في واحد من أكثر كتبه "هذا الإنسان" حديثا عن الحقيقة فقد قال: "قبلي كان كل شيء مقلوب رأس على عقب... تعني كلمة أصنام على  الغلاف. ما كان سمي حقيقة وتدل عبارة توراي الأصنام في ترجمتها على أنه قريب ستزول حقائق الماضي... أنا أول من يمتلك مقياس الحقائق. وأول من يقدر على الاقرار أنها كذلك".16 وهنا تظهر لنا ثورة نيتشه ورفضه لمقولات المثالية التي صورت لنا الحقيقة، فاعتبرتها وهما وأصناما لابد لنا من تحطيمها والثورة عليها.

وهو نفسه يعترف أن فلسفته لا تؤلف نسقا أو نظاما أو منهجا، ويشرح السبب ويغتبط له ويصرح في كتابه "أفول الأصنام" بأنه "محاط من صانعي الأنظمة واتخاذ شكلهم، لأن إرادة النسق افتقار للأمانة".17

أخيرا فموقف نيتشه ليس نسقي كسابقيه، وإنما كتابة شذرية Aphorisme)  (أو شذرات متفرقة، تعكس لنا عدم اقتناعه بالأسس الأكثر بروزا للخطاب الميتافزيقي حول الحقيقة، وهدمه لمرتكزات هذا الخطاب، ويتجلى هذا في قوله: "إن الحقيقة طرحت دائما بوصفها كنها وإلها، ونصابا رفيعا".18فالعدمية نظرة تحرر العالَم من الوهم، ففكرة موت الإله توقظ فهما جديدا لعالم لا بداية له، ولا هدف، لذا إذا مات الله فإن أساس الأخلاق والحقيقة يتداعى، فلا شيء حقيقي ولا شيء جائز.19

فالإدراك الغربي ناف للحياة ويظهر هذا في المسيحية و الميتافيزيقا الغربية، ففهم ما هو حسّي وأرضي في ضوء أفكارأو في ضوء الله. وفي ضوء عالم سماوي أصلي وحقيقي. فما هو أرضي جرد قيمته بوصفه غير حقيقي أو مزيف وتركيز نيتشه كان موجها بقلب هذه النظرة رأسا على عقب.20

يتجاهل نيتشه المطلق، ويرجع بالحقيقة إلى مجراها الطبيعي أي الصيرورة وذلك لارتباطها بالحياة، فالحقيقة كـ "ماهية أو جوهر" تنسب إلى شروط الحياة؛ أي تبدو براغماتية فماهيتها في تصورها، وبالتالي فممارستها مستغلة ومستمرة، انطلاقا من الحياة التي تقودها وتوجهها.21 وهذا يفسر علاقة الحقيقة بالحياة، من حيث إنّها تعبر عن الصيرورة أو النهر الذي ينقطع، فكل شيء ينزلق ويمضي ويغيب باستمرار،  والقانون الذي يحكمها هو قانون الصدفة.22ومنه نجد أن موجه الحياة هو الصدفة فلا غاية تحكم هذا العالم ولا يمكننا أن نعيش في هذه الحياة ولا الإطمئنان لها.

ونلمس هنا اعتقاد نيتشه الذي ربط بين المعرفة والمصلحة، ففي لحظة إنكارنا للإيمان المقدس فإن مسألة جديدة تنشأ إذا ستوضع قيمة الحقيقة بشكل مؤقت موضع الشك، فبعض التأويلات تخدم الحياة، فهي نافعة للحياة ولتأكيد الحياة. فقد شَخَّصَ الحقيقة هنا باعتبارها نافعة، وهنا يُعرِّفها نيتشه باعتبارها نوعا من الخطأ، لا يمكن لنوع معين من أنواع الحياة أن يعيش دونه، فقيمة الحياة هي القول الفصل في نهاية المطاف.23

وتتأكد الصفة النسبية للنافع الحقيقي باعتباره مفهوما رجراجا يختلف من فرد لآخر عند نيتشه،فهو لا يريد الحقيقة لذاتها بقدر الطمع في عواقبها الممتعة والنافعة .

2. 5: الحقيقة عند غادامار

نحن مدينون لجورج هانز غادامار بهذا التكامل العظيم الذي أنجزه في فن التأويل،ذلك الفن الذي أشاع  الحياة في الجدال الفلسفي في الوقت الحاضر، والذي ترك أثرا ملموسا في كثير من الميادين خارج ميدان الفلسفة، كالأدب والفن والتاريخ،فكتابه العمدة الحقيقة والمنهج ( Vérité et Méthode) يقيم بناءه أساسا على استبصارات أستاذه هيدغر الأخيرة.24

ومشكلة التأويل في نظر غادامار ومن ثم مشكلة الفهم بصفة عامة لا تكفي بإستقصاء علاقات الإنسان بالعالم والأشياء على أهمية هذه العلاقات، وإنما يعمل على بلوغ الخصوصية والاستقلالية داخل المنهج العلمي الذي يجعله تجليا من تجلياته المتعددة ،ومن هنا إذا كان التأويل من جهة دعوة إلى الحوار والتفاعل مع العلوم  الانسانية والعلوم العامة، فإنه من جهة أخرى دعوة إلى مقاومة الانحلال والذوبان في هذه العلوم كما هو الشأن عند بعض المغالين في التشبث بالنزعة المنهجية للعلم، والعمل على جعلها مقياس المعرفة الأوحد، وما كتاب الحقيقة والمنهج إلا دعوة ملحة لهذه المقاومة من الداخل، ذلك بتجديد معنى الحقيقة  ومعنى المنهج في آن واحد.25 ونفهم من هذا أن مفهوم الحقيقة عنده لا يرتبط بالضرورة بمفهوم المنهج باعتباره وسيلة للتنقيب والكشف على ما هو حقيقي وصحيح، فهو قد سعى إلى فك الارتباط التعسّفي الحاصل بينهما. وفي الحقيقة فالعلوم الإنسانية تعتمد أكثر على الذوق المكتسب ضمن إطار التراث أكثر من اعتمادها على مراقبة وملاحظات المنهج، ومن " المؤكد أن العلوم الإنسانية تتقدم بطريقة مختلفة جدا. بل هي شيء مثل الذوق والبراعة أو الحساسية النفسانية التي تسمح لها بتحقيق معارفها."26 وبهذا يكون نمط المعرفة في العلوم الإنسانية يتوقف على الحس المشترك الذي يغذي ارتباطا وثيقا بالحقائق الأخلاقية والسياسية والتاريخية. لهذا يجب علينا –حسب غادامار أن نؤسس العلوم الإنسانية على هذا النوع من المعرفة التاريخية، والتأويلية، وذلك ففيما " يتصل بموضوعها، يحدد الحسّ المشترك قطعاً الوجود الأخلاقي والتاريخي للبشرية كما يتجلى [هذا الوجود] في كلماتنا وأعمالنا."27

فبرجوعنا إلى كتاب الحقيقة والمنهج لغادامار نجد أنه خصص بابا بعنوان سؤال الحقيقة في تجربة الفن ،وهذا ما يحيل إلى ارتباط الحقيقة بالعلوم الانسانية على غرار العلوم الطبيعية، التي أوهمتنا سابقا بقبضها على الحقيقة والصدق، ولا يتم هذا إلا من خلال المهمة الجديدة، وهي التأويل.

وأهمية التأويل الفلسفي في قراءة التراث الإنساني في كل جوانبه الأدبية، والفنية، و الفلسفية والروحية، أي فهم محتويات النظرية ومضامين الرمزية. وينفتح التأويل على الفهم، فهو يستعمل إذن آليات ومفاتيح لغوية و رمزية و ابستمولوجية  في ادارك حقائق هذه الأجزاء والمكونات في سبيل فهم التراث برمته28. ومفتاح التأويل إذن هو اللغة وعليه يمكن أن نلخص مفهوم الحقيقة عند غادامار في ثلاث مراتب، وكل هذه الحقائق يتم كشفها عن طريق الـتأويل:

·  اللغة Langue

·  الفن Art

·  التاريخ Histoire

ثالثا:  الحقيقة براغماتيا عند ريتشارد رورتي.

3. 1: نقد ريتشارد رورتي:  Ritchad Rorty(1931-2007) للنظرة الحديثة حول الحقيقة:

لقد وضع رورتي نفسه في وعي تام ضمن مجموعة معينة من الأفكار الأمريكية التي يعود تاريخها إلى المفردات الشعرية لرالف والدو إمرسون (Ralph Waldo Emerson) ووالت ويتمان (Walt Whitman) وكذلك البراغماتية الفلسفية لكل من ويليام جيمس (William James) وجون ديوي (John Dewey). هذا النسب العملي الواقعي الذي تبناه رورتي محاولاً بذلك مواصلة السير في هذا النهج (رورتي هو أيضًا وريث كانط وهيجيل ونيتشه). ويندرج عمل رورتي ضد المفاهيم المطلقة للحقيقة، حيث عبّر عن موقفه المعادي للابيستيمولوجيا والمضاد للميتافيزيقا وهو ما يشار إليه بشكل عام باسم معاداة الأفلاطونية القوية. قد يمثل هذا الجانب الأقل إثارة للاهتمام في مشروعه الفلسفي العام، على الرغم من أنه عنصر ضروري وهام في عمله، فهو يُمثل النقد السلبي الذي يحتاج لطرحه من أجل تمهيد الأرضية لآفاقه الطوباوية الأكثر تفاؤلاً، والشعرية أيضاً حول الحقيقة، في الوقت نفسه، من وجهة نظر براغماتية تمامًا، أصبح هذا النقد السلبي عنصرًا ضروريًا وحتى أساسيًا في كثير من أعماله. وعندما يقرأ المرء رورتي على الرغم من انتماءاته الأدبية المعلنة، هناك دائمًا شعور (على الأقل) بأن الفيلسوف يقرأ الفلسفة، باعتبارها مؤسسة كبيرة قائمة على الانضباط، لا يتم التحايل عليها بسهولة إذا كان لديك ما تقوله حول الأمور الفلسفية التقليدية، سواء أكانت جيدة أم سيئة. لهذا لا يجب أن نقلل من مقدار الدقة (واللعب) حول الطريقة التي يستخدم بها رورتي المفاهيم والمصطلحات، للتعبير عن مواقفه والردّ على خصومه،  فرورتي يكافح لاستبدال رؤية الحقيقة السابقة برؤية جديدة، يجدها أكثر إثارة للاهتمام والتي تُفضي في الأخير إلى التغيير الاجتماعي.

إنّ إستراتيجية رورتي في مهاجمته للرؤى التقليدية القديمة التي عفا عليها الزمن للحقيقة كانت أساسًا بغية تفكيك الثنائيات المرتبطة بهذه الفكرة. لهذا فنحن بحاجة إلى أن نضع في اعتبارنا أن رورتي يستخدم نموذجًا خاصًا جدًا من التفكيك (مأخوذ من أفضل جزء من تفكير دريدا) ليس كطريقة منهجية معينة ولكن فقط بشكل مؤقت. فرورتي ينتقد هذه الثنائييات (الواقع / المظهر الذات / الموضوع، العالم / اللغة، الوجود / العدم، الحرفي / المجازي، المنطقي / الخطابي)، التي غذت بشكل فعّال التقليد الفلسفي الغربي من خلال بنيته المعرفية المُسيجة بالميتافيزيقيا. ويشكل تفكيك هذه الثنائيات والتي تُعدّ قديمًة في كل مرة تجاوزًا لها، وذلك لصالح مفهوم جديد، أو ثنائية جديدة، أو كليهما معاً. حيث استبدل رورتي ثنائية الموضوعية /الذاتية بمفهوم البينذاتية أو التذوات وثنائية النسبية /المطلقة بالعرقية المفترضة؛ إضافة إلى ثنائية الطبيعة / الاتفاق، بثنائية بين الكلام العادي/ والكلام غير الطبيعي، ومفاهيم إعادة الوصف المجازي، وثنائية المظهر- الواقعية بواسطة ثنائية بين الكلام الأكثر فائدة والكلام الأقل فائدة ومفهوم البراغماتية بالنسبة لكل علاقة ثنائية مذكورة أعلاه، يريدنا رورتي أن نكون على دراية بأن التقليد قد ميز التسلسل الهرمي للمفاهيم السابقة في كل مجموعة، وأنه في هذه الفترة التي تسمى ما بعد الحداثة، لا توجد أسباب وجيهة للقيام بذلك. فرورتي يهرب من التورط المنهجي للتفكيك الذي يؤكد أنه حتى دريدا كان عرضة له، من خلال إضفاء الطابع التاريخي على كامل اللعبة الفلسفية التي تمنح الماضي الهرمي للمشاريع الإبستمولوجية والميتافيزيقية السردية، بدلاً من الوضع الموضوعي.

إنّ العملية التي تعرّف بها الإنسان على الكون هي من وجهة نظر واحدة معقدة للغاية. يمكننا أن نلاحظ تقدمًا أحادي الاتجاه. في البداية يبدو الكون مليئًا بالإرادة والذكاء والحياة والصفات الإيجابية؛ كل شجرة حورية وكل كوكب إله. الرجل نفسه يشبه الآلهة. لكن تقدم المعرفة أفرغ تدريجياً هذا الكون الغني والناعم: أولاً من آلهة، ثم من ألوانه، ورائحته، وأصواته، وأخيراً صلابته نفسه كما كان يتخيل الصلابة في الأصل. نظرًا لأن هذه العناصر مأخوذة من العالم، تمّ نقلها إلى جانب الاعتقاد الشخصي:  يتم تصنيفها على أنها أحاسيس أو فكر أو صور أو عواطف. يصبح الموضوع متضخمًا، على حساب الذات. لكن المسألة لا تتوقف هنا فقط، فبنفس الطريقة التي أفُرغ العالَم من دلالاته، الآن نشرع في تفريغ أنفسنا.  وفقًا لرورتي ، فإن فكرة الطبيعة تلحق أضرارًا مثل مفهوم الموضوعية وفكرة المطلق، فهو يعطي انطباعا بأنه من أجل الحكم على رؤية جديدة للأشياء، يجب على المرء محاولة معرفة ما إذا كان يدمر الاتفاقيات المشوهة "الخطاب العادي (وهو تعميم كُون للعلم العادي) وهو أي خطابٍ، سواء أكام علمياً أم سياسياً أم لاهوتياً أم غير هذه، يجسِّد معايير تمت الموافقة عليها بغية الوصول إلى اتفاق. أما الخطاب غير العادي، فهو أي خطاب يفتقر لمثل هذه المعايير."29

يقدم ريتشارد رورتي في كتابه العمدة "الفلسفة ومرآة الطبيعة" (Philosophy and the Mirror of Nature) (1979)، انتقادات حادة للفلسفة الحديثة التي اهتمت بمحاولة اكتشاف الحقيقة حول الأشياء "الفلسفة التقليدية هي اعتبار العقل كمرآة كبيرة تشتمل على أشكال تمثيل مختلفة، بعضها دقيق وبعضها ليس دفيقاً، يمكن درسها بمناهج غير تجريبية حسيّة (nonempirical).''30 وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث أصبحت الفلسفة أكثر صرامة وعلمية، فقد فقدت مكانتها كمدرس أخلاقي، وأصبحت علاقتها جدُّ محدودة مع فروع الثقافة المختلفة: "وقد استُهجنت محاولة الفلاسفة التحليليين والفنومينولوجيين لتأسيس هذا ونقد ذلك من قِبَل أولئك الذين تمّ تأسيس نشاطاتهم أو نقدها، فالفلسفة ككل صارت موضع استهجان ولا مبالاة ممّن أراد أيديولوجيا أو صورة عن الذات."31

على ضوء هذه الخلفية، حاول مجموعة من المفكرين المختلفين على ما يبدو التحرر من السعي الفلسفي التقليدي المتمثل في البحث عن أسس تستند إلى نظرية تمثيلية للعقل. وبدلاً من ذلك، حذر هؤلاء المفكرون – وعلى رأسهم فيتجنشتاين وهايدجر وديوي - من إغراءات تصور الفلسفة بطريقة تقليدية. إن الأعمال اللاحقة لكل من هؤلاء المفكرين هي "شفائيّة ولم تكن إنشائية، وتهذيبيّة لا منسّقة، ومصمّمة لجعل القارئ يسائل دوافعه الخاصة للتفلسف وليس لتزويده ببرنامج فلسفي جديد."32 لقد تخلى هؤلاء المفكرون عن المحاولات التقليدية لتأسيس المعرفة، ووضعوا جانباً نظرية المعرفة والميتافيزيقا باعتبارهما كتخصصات ممكنة. لقد انتهى الأمر بمفكرين إنشائيين ومنهجيين مثل كانط، الذي "لم يتّحذ هذا التحوّل البراغماتي، فقد تحدَّث عن أشكال التمثيل الداخلية وليس عن الجمل. وفي الوقت نفسه قدَّم لنا تاريخ الموضوع، وثبّت إشكاليته، وجعله مهنيّاً "قدم لنا في وقت واحد تاريخًا من موضوعنا ، وحدد إشكالاته وأضفى عليه طابعًا احترافيًا."33

لا يهتم فلاسفة التنوير بمثل هذه الأمور: إن مشروع الفلسفة التنويرية ليس البحث "عن البنية الثابتة التي يجب أن تحتوي في داخلها المعرفة، والحياة، والثقافة.''34 لا يوجد افتراض مسبق لـ "مصفوفة نَسَقية تربط بين المتكلمين، ... [لا] أمل في اكتشاف أرضيّة مشتركة قائمة سابقًا ... [لا] مجموعة خاصة من المفردات يجب صياغة كل الاسهامات في المحادثة بها."35 تندرج مطالب الفلسفة التقليدية هذه في "فكرة أن النشاط الإنساني، أي البحث عن المعرفة، يحصل ضمن إطارٍ يمكن عزله قبل الوصول إلى نتيجة البحث."36

إن رورتي يريد منا إعادة النظر في التوقعات النظرية لدينا، الأمر الذي يُفضي إلى ضرورة التخلي عن سراب المطلق، والتخلي عن المثل الأعلى للاتفاق الشامل، ولكن دون بقدر ما خلص إلى أن جميع وجهات النظر يجب النظر فيها على قدم المساواة. بدلا من ذلك، يمكن للمرء أن يستنتج أن الفرد كعضو في المجتمع لديه تفضيلات مشروعة، والتي لا تأخذ مشروعيتها إلاّ من  خلال الاعتماد (بشكل دائري) على السياق الاجتماعي. 

وقد إنصب تركيز نقد رورتي على الجانب التحليلي للنزعة العلميّة، في محاولتها لتحويل الفلسفة إلى بيانات محكمة الصياغة حول الواقع الخارجي. ومن وجهة نظر رورتي، ما يمكن للفلاسفة فعله حقاً هو الوصف؛ أين تخضع جميع الأوصاف للتأويل، ويتم هذا التأويل داخل المجتمعات اللغوية. ومن ثمّ تكون الأحكام حول ما هو حقيقي وصحيح مشروطة من قبل المتحدثين، وليس عن طريق مرجع موضوعي خارجي للمحادثة. فالحقيقة و/الواقع وكل هذه المساهمات لها معنى، بحكم الإجماع الحالي لمستخدمي تلك المصطلحات. في الواقع، فإن ما يشكل "الشيء" الذي قد يكون شيء ما أو موضوعًا محددًا، على وجه الخصوص - هو نتاج عمليات تاريخية وذاتية، أي هو نظرية محملة بالتقاليد التاريخية. بالنسبة لرورتي ، لا مفر من الدائرة التاريخية التأويلية، وهذه الدائرة لا يمكننا أن نخلّص أنفسنا منها، وفقًا له، فإن معظم الفلاسفة توصلوا إلى الفلسفة كمناقشة للمشاكل الأبدية الدائمة. على هذا النحو، فإن سعيه يكمن في اكتشاف أسس المعرفة والتي سوف تسمح للفلسفة بالفصل في مزاعم العلم والأخلاق والفن والدين، ساعياً بذلك إلى تهديم العرش الذي يجلس عليه الفلاسفة المضللون بينما يتظاهرون بتوزيع المراسيم والأحكام حول ما هو "حقيقي"، "ما هو صحيح"، مع التظاهر بالتفكير في ما هو "حقيقي"، وأداة تفكيكه الرئيسية هي التاريخية: فهو يسعى إلى سرد التاريخ حول كيف أتى الفلاسفة بطريق الخطأ إلى الاعتقاد بأنهم خبراء في "المعرفة" "إنها الصور، وليس القضايا المنطقية (propositions)، والاستعارات وليس الجمل الخبرية (statements)، التي تحدُّ معظم معتقداتنا الفلسفية. والصورة التي سجنت الفلسفة التقليدية هي اعتبار العقل كمرآة كبيرة تشتمل على أشكال تمثيل مختلفة، بعضها دقيق وبعضها ليس دفيقاً، يمكن درسها بمناهج غير تجريبية حسيّة وبغير مفهوم العقل الذي يعتبره مرآة، لم يكن ممكنناً أن يقدم مفهوم المعرفة المفيد بأنها دقة التمثيل نفسه.''37

نظرًا إلى الفلسفة على أنها محادثة من خلال طرق الحوار المثمرة ، يبدو أن رورتي عالق في حالة من عدم اليقين، غير راغب في متابعة أو الالتزام بأي خط لحوار معين خوفًا من إغلاق نفسه في خطابات بديلة. لقد التزم بعدم الالتزام، أو "قرر عدم اتخاذ قرار".  ومثل هذا الالتزام أو هذا القرار ليس محايداً بأي حال من الأحوال، لأنه يحاول تطبيق بمقتضى أخلاقي  مفردات جديدة تنظر إلى الفلسفة على أنها محادثة بين المتكلمين، مع مجموعه كاملة من الالتزامات والتبعات المتضمنة. وهكذا، فإن البديل الرورتي، مثل البدائل التي ينتقدها، يلعب دور "المشرف الثقافي الذي يعرف الأرضيّة لكل إنسان، مثل الملك الفيلسوف الأفلاطوني  الذي يعرف ما يفعله البشر الآخرون كلهم، سواء أعرفوا "هم" بذلك أم لم يعرفوا، لأنه يعرف السياق الأخير ... الذي فيه يعلمون."38

مع تزايد اهتمام الفلاسفة بالحكم على قيم الحقيقة والمنطق وتماسك العلاقة مع العلماء، أصبحت نظرية المعرفة (الابستمولوجيا) بالنسبة إليهم ملكة العلوم الحاكمة، خلفًا لللاهوت. وتم ترجمة البحث التقليدي عن الحقيقة الأبدية التي ترتكز على الإنسان الفائق إلى البحث عن "تمثيلات دقيقة" و "الانعكاس العقلي" للعالم كما يدرسه العلماء، مستندين في ذلك على أساس التجربة "وبغير هذا المفهوم الأخير، لا يكون معنى لإستراتيجية ديكارت وكَنْت المشتركة، وهي الحصول على أشكال تمثيل أكثر دقةً، بفحص المرآة وترميمها وصقلها. وبغير هذه الإستراتيجية في العقل، لا يكون معنى للآراء الحديثة عن أن الفلسفة يمكن أن تتألف من تحليل للتصورات أو تحليل للظواهر أو شرح للمعاني أو فحص لمنطق لغتنا أو لبنية النشاط التكويني للوعي."39

إنّ الفلاسفة المعاصرين، حسب رورتي اعتقدوا بأنهم يخلصون أنفسهم من الهراء الميتافيزيقي للفلسفة الكلاسيكية والعصور الوسطى، لكن هم في الواقع يتمسكون بالمضمون، بينما يرفضون أشكال الميتافيزيقا التقليدية. وحسبه فالبرنامج التجريبي - الوضعي، وكذلك نقاده التحليليين، لا يزالون غير بعيدين عن الميتافيزيقية، ولا يزالون يؤمنون بالعقل كمرآة ، "الجوهر الزجاجي" الذي يمكن أن يعكس الواقع الموضوعي: "وما همُّ الفلسفة إلاّ أن تكون نظرية تمثيليّة عامة، أي نظرية تقسيم الثقافة إلى مناطق تمثِّل الواقع خير تمثيل، وأخرى تمثل الواقع تمثيلاً دون الجودة القصوى، وأخرى لا تمثل الواقع إطلاقاً، بالرغم من تظاهرها بخلاف ذلك."40

3. 2: مفهوم الحقيقة عند رورتي 

نقول البراغماتية الجديدة أو النيوبراغماتية ، ويرتبط اسمها دائما بالفيلسوف الأمريكي ريتشاد رورتي، الذي رغم أنه جاء بتصور جديد لثقافة ما بعد الفلسفة،حيث اهتم بمشكلات العقل وماهية الانسان ونقد مبادئ نظرية المعرفة التقليدية.41

فالبرغماتية الجديدة أو المحدثة     New) (Pragmatisme  أو( Neo Pragmatism ) هي التسمية التي تطلق على تيار فلسفي، بدأ في الظهور مع بدايات الستينيات في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك تزامنا مع أفول نجم الفلسفات التي عرفت رواجا واسعا في الأوساط  الفكرية الأمريكية قرابة عشرين سنة وبالخصوص الفلسفات التحليلية (Philosophie Analytique ) كذلك البنيوية (Structuralisme)، التي حملتها معها العقول المهاجرة إلى أمريكا، فازدهرت هناك وشكلت حركة واسعة داخل المجال الاكاديمي وخارجه.42 وهي حركة فلسفية حديثة تعتنق بشكل جذري أشكال التداخل والتفاعل بين السياقات الاجتماعية والعملية المختلفة، وتنفي إمكان قيام تصور كلي وشامل عن الحقيقة أو الواقع، وتغير رد فعل نقدي للفلسفة التقليدية والفلسفة التحليلية، ولما كانت هذه الفلسفة تعتمد أساسا على أراء جون ديوي وفيتجشتين (L. Wittgenstein )وكواين( W. V. O.  Quine)، فإن رورتي في كتابه "الفلسفة ومرآة الطبيعة" قد بدأ طريق العودة إلى الفلسفة البراغماتية.43

ولهذا يمكن اعتبار رورتي حلقة وصل بين الفلسفة الأوروبية والفلسفة الأمريكية، وبهذا التطعيم لفلسفته يحاول أن يطرح مسائل ضمن واقعه الفكري الأمريكي44، فلم يكتف بنقد التصورات السابقة حول الحقيقة والواقع ومفاهيم الصدق والخطأ في المعرفة العلمية، وإنما طال نقده أيضا للفلسفة في حد ذاتها.45

إضافة إلى رورتي نفسه نجد كل من كواين وغودمان (Goodman ) بونتام (J.  Bentham)  وديفيدسون (Davidsonوالتمييز الذي يدعونا إليه رورتي بين البراغماتية والبراغماتية الجديدة هو المنعطف اللغوي الذي اتجه إليه الفلاسفة، في الوقت الذي هجروا فيه موضوعا أساسيا، و عليه يعد الوجه الأبرز والمحرك القوي في العودة إلى البرغماتية في وجهها الجديد في اكتساح الفضاء الثقافي والأكاديمي الأمريكي ليصبح معلما فكريا جليا في الثقافة الامريكية المعاصرة ولا تزال اليوم كذلك.46 وقد وجد رورتي أن البراغماتية هي الفلسفة التي تعبر فيها الثقافة الأمريكية عن صورتها الحقيقة.

خطاب ريتشارد رورتي حول الحقيقة بالكاد يتجنب الجدل. علاوة على ذلك، إنه مدرك تمام الإدراك هذا الأمر، كما يتضح من حقيقة أنه يفتح مقدمة "الحقيقة والتقدم"   Truth and) Progress)   (1998) مع اقتباس "لا توجد حقائق"47. ومع ذلك، وكما يحدد باقي هذا النص، فإنه ليس هو من يدعي أن مثل هذا الاقتباس صحيحاً، بل إنه يحدث غالبًا أن ينسب كثيرون هذا النوع من الطرح إلى فلاسفة مثله48. لهذا فليس من اليسير البتة حصر موقف ريتشارد رورتي  من الحقيقة والتعرف على مضامينه، والسبب لا يرجع فقط إلى الدارس لطروحات الفيلسوف الذي يجد نفسه في ميدان فلسفي مغاير لما ألفه، ويجد أن أساليب الحجاج والتفكير الفلسفي متباينة تماما، وإنما كذلك لأن موقفه بالأساس شائك ومترابط ومعقد. فهو وإن استند إلى خلفية براغماتية إلا أن تأويلاته لطروحات الفلاسفة البراغماتتين أنفسهم، أو حتى بعض الفلاسفة القاريين، ومحاولته في التقريب بين هؤلاء وأولئك. كما أن مقاربته للتواصل بانفتاح أكثر مع الفلاسفة التحليلين والمنعرج اللغوي وكذا تحليلاته مع زملائه الأمريكيين، أمثال كواين وآخرون. كل هذه المعالم تبين بوضوح مدى تشعب موقف رورتي فهو يقول تارة بنظرية براغماتية في الحقيقة وأخرى ينكر إمكانية وجودها، وحينا يربط الحقيقة بالتحقيق وحينا آخر يرفض ارتباطها بالإثبات، وهذا أمر قد لا يتقاسمه معه جمهور الفلاسفة الذين تعودوا على النظر إلى القول الفلسفي باعتباره قولا برهانيا.49

لهذا تصبح الحقيقة في براغماتية رورتي نوعا من الإسمية؛ أي الاسم الذي يعبر عن مسميات هي مجرد علاقات أو موافقات أو تعاقدات تتقاسم كلها ما يمكن اعتباره أو إثباته كحقائق. وكما رأينا لم يكن في التراث الفلسفي الغربي سوى تعاقدات أو لغات لصيقة بموطنها الجغرافي فليس هناك أي داع حسب البراغماتي الجديد أن يخلد الفيلسوف الاشكالات الفلسفية والمسائل الميتافزيقية، وإنما من واجبه أن يغير الأسئلة ويحول الاشكالات ويحيا عصره بلغة مغايرة وبممارسة فكرية مختلفة.50

ونجد رورتي هنا قد سار على خط أستاذه جون ديوي  ووليام جيمس حيث أسقط رورتي من حسابه مفهوم الحقيقة كتطابق مع الواقع جملة وتفصيلا، وحجته يقيمها ضد مفهوم التطابق سواء بين الأفكار و/الأشياء أو بين الكلمات و/الاشياء. كما أن البراغماتي ينظر إلى أنّ مقولة العبارات الصادقة تفيد لأنها تتطابق مع الكيفية التي توجد عليها الاشياء و انها صائبة لانها تستجيب للقانون الاخلاقي باعتبارها اطراء ميتافيزيقي أجوف. ويرى رورتي أن الحديث عن بعض كلماتنا وأفكارنا باعتبارها صادقة، أو باعتبارها تتلاءم مع الوقائع، لا يعدو كونه مجرد إطراء نضيفه على بدعنا الفكرية التي تساعدنا على التعاطي مع العالم.51 لأن ثنائية الفكر و/ اللغة لها دور أساسي في حياة البشر لأن همّ البرغماتي هو التخلي عن الأشياء النظرية باعتبارها تمثلات لفهوم الماصدق واقعيا.

ويشدد البراغماتي على الوظيفة النقدية للحقيقة واتخاذها شكل شكل فقرة أونحو يتجدد على الدوام من هنا الى هناك.52

و لهذا يرى رورتي أن النظر إلى مفهوم الحقيقة كشيء موضوعي إنما هو خلط بين الفرضيات التالية:

ü                       معظم العالم هو ما نفكر فيه.

ü                       يوجد هناك شيء في الما وراء، بالإضافة إلى العالم يدعى حقيقة العالم.

أن حقيقة  العالم تتمثل في علاقة التطابق بين بعض العبارات والعالم ذاته. فالحقيقة تصنع ولا تكتشف وهي خاصية الكيانات اللغوية والعبارات. وعليه فمن الواجب العودة إلى القراءات التي حاولت تقديم التفسيرات وإثبات التطابق واعتبارها فاشلة،لأن الاعتماد على هذا المنطلق يؤدي بنا إلى عدم الخروح من دائرة التفكير التقليدي لأن البرغماتي يصنع الحقيقة ولا يكشتفها وهنا نرجع إلى اللغة باعتبارها إختراعا بشريا.

وهكذا يرى رورتي أن الحقيقة لا يمكن أن تكون ماورائية ،ولا يمكن أن توجد باستقلال عن العقل البشري. ذلك أن العبارات لا يمكن أن توجد في الماواراء، ولذلك فاعتبار الحقيقة مثل العالم  توجد في الما واراء ترجع إلى عصر كان ينظر فيه إلى العالم كمخلوق كل كائن له لغة خاصة به.53 يثبت رورتي من أنه لا وجود لاختلاف براغماتي بين طبيعة الحقيقة واختبار الحقيقة؛ أي أن ما تثبته العبارة ليس عبارة مقارنة بالواقع. إذ لا فرق بين عبارتي: صالح لأنه صحيح و صحيح لأنه صالح.54فمفهوم الصحة والصلاح واحد حسب توظيفه.

ولهذا فالحقيقة مهمة ليس لأنها قيّمة أو مفيدة على وجه الحصر، رغم أنها قد تكون كذلك في بعض المناسبات، بل لأن بطون فكرة الحقيقة، لن نكون كائنات مفكرة كما لن نفهم ما معنى أن يكون شخصا آخر مفكرا. فالنظريات البراغماتية أو الابستمية من جهة أخرى، لها فضل ربط مفهوم الحقيقة بالاهتمامات الانسانية مثل اللغة، الاعتقاد والفكر والافعال القصدية، وأن هذه الاقترانات هي التي تجعل من الحقيقة مفتاحا لكيفية فهم العقل للعالم .55

ويتلافى رورتي مفهوم الحقيقة  باعتبارها مقوله مطلقة  بمعنى أن الحقيقي بالنسبة لي لا بالنسبة لك، وحقيقي في ثقافتي لا في ثقافتك ثقافتك وهذا يبرر أن شروط الحقيقة نسبية مما يحيلنا إلى فلسفة الرورتي اللا تأسيسية مهما سلمنا بمطلقية الحقيقة تظل نسبية المعيار.56 وعليه فإن الحقيقي مصطلح مطلق لكن شروط تطبيقه نسبانية مختلفة متغايرة من تصور لآخر ومن ضوابط تصنعها لأخرى.ويوحي كل هذا أن الغاية المنشودة لبناء تصور الحقيقة مهما إختلفت إلا انها تظل منسوبة إلى واقع ميتافيزقي وبالتالي يحيلنا كل هذا أنها ترد في سياقات متباينة وإستعمالات متعددة . وضمن تصور خاص لمسار الفكر السياسي، وللفن الغربي عموما يطلعنا رورتي على موقف بأن الحقيقة تصنع، وهي فكرة براغماتية بالأساس سبق لرواد البراغماتية تبنّيها  فالحقيقة تصنع أكثر منها شيئا نعثر عليه أو نكتشفه.57 فشرط الحقيقة يبدو كامنا في استعمالنا للغة، ومن خلال وعينا بعارضية لغتنا، ففكرة صنع الحقيقة تتجسد من خلال عباراتنا وجملنا التي وحدها توصف أنها حقيقية أو خاطئة، أو نحن من يتكلم وليس العالم. الحقيقة توجد هنا بعبارة رورتي وليس هناك من يفرضها على الانسان58 فرغم ما نعتقده حول الحقيقة وشروطها إلا أننا نسهو عنها أثناء إستعمالاتنا اليومية للغة في المحادثات وعليه فإنه لا يمكن الحكم على مصداقتيها أو تطابقها مع العالم الخارجي بقدر ماهي وسيلة تحقق التواصل بين الناس وتضمن تحقيق المحادثة بلغة هابرماس.  .

وهنا نجد ربط رورتي للحقيقة مع اللغة مما يرجعنا إلى غادامار، الذي أشار لها باعتبارها أحد المستويات التي لابد للتأويل أن يلج إليها للكشف عنها و يقول رورتي في هذا الصدد: "لأن ليس هناك حقيقة؛ أي بكل بساطة القول أنه من دون الجمل فلا وجود للحقيقة، وبأن الجمل هي عناصر للغات الانسان، وبأن ما نسميه اللغات هو ابداعات إنسانية." 59 ونفهم من هذا أنّ الحقيقة لصيقة بالسياق الواردة فيه بعيدا عن الموضوعية لتكون أكثر حرية فتحين مجموعة من القيم الإنسانية تخلق لنا تنوعا وإختلافا بين أفراد المجتمع الواحد.

 فمعرفة الحقيقة مرتبطة بالرغبة كما هي في الحياة اليومية، وليس شيئا خفيا وعميقا ومعرفتك للحقيقة هو معرفتك ما هو الشيء الذي يجعل اعتقادك صادقا، فمطلب اليقين هو الاتجاه إلى الواقع و إلى الخارج بوصفنا أشخاصا يستعملون لغة أو خطابا معينا، فلا بد أن لا نعطي الأهمية للواقع على حساب الكلمات، لأنها تحمل دلالة معينة.

على أنقاض التصور الماهوي للحقيقة وللعالم يعود رورتي إلى تجربة الذات وابداعات المجتمع بحثا عن حقائق كامنة في الذات، على سبيل الخلق والتوليد وليس إلتماسا لحقائق خارج الانسان وللتعبير عن لعبة الحقيقة في الجسد الفردي والاجتماعي، يعرض رورتي مفهوم التورية والتضامن أو التهكم والتضامن والبنيان المرصوص... فكل فرد يحمل تاريخه في ذاكرته وجسده، وتكمن أهميته وصلاحيته في المجتمع بإعادة استثمار ذاكرته والاشتغال على ذاته وجسده، بابتكار رؤى جديدة ومتميزة و نسج علاقات متغيرة و مثمرة.60

هكذا تبدأ فكرة ررورتي في رفض مطلق الحقيقة، لتنتهي إلى التقليل من أهمية موضوع الحقيقة أو بالأحرى الانتقال إلى اللاحقيقة، لأنها لم تعد المسألة المهمة في الفلسفة، وبالتالي إنكار فكرة الجوهر والماهية. لأن موقف رورتي هذا نابع من الواقع الذي وجد فيه الانسان نفسه بمحض الصدفة يمر بتجارب عبر التاريخ، بعضها يثمر وينجح فيه بعدّه حقيقة، ومن ثم يثمنه وبعضها الآخر يفشل فيه ويتعلم منه أن الحقيقة في المعرفة خاصة تبنى وليست معطاة أي شكل من الأشكال ولهذا تتشكل وفقا لإراداته وأوضاعه ومن هنا تكون نسبية.61 فلا إتفاق بيّن بين الحقائق ولا مبرر له لأنها نتيجة توحي بالممارسات اليومية التي يقوم بها البشر لا ترتق أن نصفها وصفا جوهريا لأنها تؤكد سياقها الإجرائي فلو تمادينا في تأكيد تبرير الحقيقة فإننا ننساب إلى المعنى التقليدي وننجر في طروحات تقليدية فقط في سياق مختلف لنخرج من باب الميتافيزيقا وندخلها مجددا من باب آخروبهذا كان التصور البرغماتي مبررا لوجود فصل وتمييز بين ماهو حقيقي وغير حقيقي لينقل الحقيقي إلى البنية اللغوية  (structure langagière)  تدخلنا إلى عالم المنطوقات لتغدو صناعة بشرية لا إختلاف بينها وبين الواقع تتمايز من فرد إلى آخر حسب فكرة المنفعة عنده فتتخلص من خاصية المطلقية والمثالية انتقالا إلى الواقعية وهذا نتيجة تأثر البرغمايتة مع الفلسفات التجريبية وبإمكان هذا ان يكون موضوع بحث مستقل.

3. 3:  الفلسفة والحقيقة  حسب رورتي

يرى رورتي في كتابه العمدة "الفلسفة ومرآة الطبيعة" أن الفلسفة التقليدية هيمن عليها نوع من الصور التي تصور العقل كمرآة تعكس الواقع. وقد كانت إحدى نتائج هذه الفلسفة هو بناء أنظمة فلسفية مختلفة من المفترض أن تعمل كموجه لمجالات الثقافة الأخرى. وحسبه مازلنا نفترض أن هناك شيء مثل "المهمة الخاصة" للفلسفة؛ أن الفلسفة تحدد المشكلات الفلسفية التي يجب حلها مرة واحدة وإلى الأبد؛ وأن هناك "نُظم منهجية" للقيام بذلك. وفقًا له، إذا كنا نريد حقًا التغلب على الفضيحة الناجمة عن "غياب منهجية نسقية في الفلسفة"، فالمطلوب هو شكل من أشكال العلاج الفلسفي، الذي سيخلصنا من الوهم والخداع الذاتي بأن الفلسفة هي: أو يمكنها أن تكون الانضباط أو النظام التأسيسي للثقافة. نحتاج إلى التخلي عن الفكرة القائلة: إن الفلسفة هي شكل من أشكال التحقق الذي يعرف شيئًا ما عن المعرفة أو اللغة أو الفكر غير المعروف لدينا، ويعترف بصراحة أن الفلسفة في أفضل حالاتها مجرد صوت آخر في المحادثة البشرية، بعد الفحص الدقيق والنقد، يجادل رورتي بأنه يجب التخلي عن الفلسفة التي تركز على نظرية التمثيل، داعياً إلى تفكيك هذه الفلسفات المنهجية، مع تقديم بديلاً من ذلك على أن الفلسفة يجب أن تهدف إلى استمرار "محادثة النوع البشري."62

من خلال هذه النظرة الجديدة للحقيقة، التي تؤسس لمجتمع لم يعد المواطنون فيه يعتبرون أن تطور الفكر يتشكل من خلال استبدال مفاهيم أكثر زيفاً بمفاهيم أكثر واقعية، ولكن يتشكل بدلاً من ذلك، من خلال تطور العالم، الذي لا يتكيف فقط مع معطيات الماضي ولكن بالأحرى يتطلع إلى صناعة المستقبل ويتكيف معه.63 باختصار، سيتم استبدال الهوس بالحقيقة الموضوعية برؤية أكثر تاريخية للحياة الفكرية والسياسية، وأكثر تأويلاً أيضًا 64(بمعنى تأويل الأشياء التي لا تدعي أن هناك وجهة نظر محايدة تمامًا والتي تريد أن تبقى في الخفاء وعدم اليقين). ولن ينظر بعد ذلك إلى التطور على أنه تقدم نحو تحقيق هدف ما، ولكن ببساطة كتغييرات طارئه تجري دون أي ذريعة ميتافيزيقية، مُعربا رورتي بذلك عن أمله في أن "ثقافتنا يجب أن تصبح ثقافةً يختفي فيها الشعورالذي يطلب التقييد والمجابهة، ولا يعود موجوداً."65

ومن ثمّ فالتأويلية هي طريقة للتفكير التي تناسب المراحل الانتقالية لتاريخ الفكر، وهذه اللحظات من التحول النموذجي، دائما ما تُعاد صياغة رؤى العالم وتصوراته من جديد. ومن خلال انتقاد رورتي لنظرية المعرفة، وتفضيله للتأويل، يعطي انطباعًا واضحًا عن رغبته في مجتمع يتحول باستمرار، حيث لا تعلق البشرية مصيرها حول تأويل واحد، أين يكون أسلوب المواجهة هو الطريقة المُثلى، وبالتالي نشر حرية الإنسان بشكل كامل. إن هذه الرغبة في تعميق الاحتمالات إلى ما لا نهاية واضحة للعيان في حقيقة أنه، وفقًا لما قاله أ. مالاشوفسكي ، يهدف رورتي من خلال كتاباته إلى "حثنا ، عن طريق" التنوير "(مصطلح رورتي لـ" مشروع إيجاد جديد وأفضل ، طرق أكثر فائدة للتحدث ") ، وانارة طرق استكشاف الأشياء.66 والديمقراطية، كتجربة، تتوافق تمامًا مع هذا المشروع الفكري والسياسي ، والذي يمكن وصفه أيضًا ، وفقًا لمعادلة السيد وليامز، بأنه برنامج "استبدال فكرة اكتشاف ما نحن أساسًا ماذا نصنع من أنفسنا."67

وفقًا لرورتي، فإن ازدواجية الموضوعية والذاتية كان لها يومها ولكنها الآن ليست إلاّ عقبة أمام أهدافنا الحالية، والتي تتمثل في متابعة التجربة الديمقراطية بحرية. بالتأكيد في المشهد المعاصر يحاول بعض المفكرين مثل: ت. ناجيل إعادة تحريك هذه الازدواجية بحجة عدم وجود وجهة نظر موضوعية بحتة، ووجهة نظر ذاتية بحتة؛ على العكس من ذلك، يمكن القول: بأن كل وجهة نظر أكثر موضوعية من جهة  ولكنها أيضًا أكثر ذاتية من جهة أخرى. لذلك اختار رورتي أن يسلك طريق المفكرين الأكثر راديكالية الذين يعتبرون فكرة الموضوعية المكتلمة هي سراب يضر أكثر مما ينفع، وذلك راجع لسببين:  أولاً: فكرة الموضوعية، مثل فكرة الحقيقة، هي فكرة مطلقة، وليس من المؤكد أو حتى من المعقول أن الإنسان قادر على الانفصال عن موضوعه وتحقيق الحيادية المثالية. ثانياً: البحث عن الموضوعية يضر بتحقيق هدف آخر أكثر أهمية لرورتي، كما يتضح من عنوان مقالته "تضامن أم موضوعية 173؟ ". في هذا النص، يوضح رورتي أن البحث عن الموضوعية يجعلنا ننأى بأنفسنا عن مجتمعنا الخاص، لصالح مجتمع وهمي يتجاوز مجتمعنا.68

إذا كنا لا نريد أن نفهم أن وظيفة الفيلسوف تكمن في تنظيف وتصحيح العدسات التي نرى من خلالها الموضوعات، فماذا يجب أن تكون وظيفته إذن؟ يقول رورتي إن الفلسفة ليست أكثر من طريقة معينة للحديث - ليس عن الواقع، ولكن عن المعتقدات حول الخبرة: "إذا فكرنا بأن المعرفة ليست امتلاكاً لماهيّة، وعلى العلماء أو الفلاسفة أن يصفوها، وإنما كحقِّ من الاعتقاد، بواسطة المعايير الجارية، فإننا نكونه على الطريق الصحيح لأن نرى "المحادثة" سياقاً أخيراً فيه يجب فهم المعرفة."69 هذه الصورة الشعبية للمحادثة كأفضل ما يمكن أن تفعله الفلسفة، وهذا يكمن وراء رؤية رورتي للثقافة ما بعد الفلسفية. لا تحدث المحادثة أبدًا خارج نطاق إجماع معين الذي يحظى بتوافق آراء معينة، وهي تتغير دائمًا. إن موضوعات الأمس ليست اليوم، ولا ينبغي أن تكون كذلك، لأن اليوم هو ما نحتاج إلى مواجهته ، ليس بالأمس أو غدًا. المهمة الرئيسية التي يتحملها رورتي هي تأريخ تاريخ تغيير المواضيع والارتباكات التي تنتج عندما يفشل الفلاسفة في إدراك التغييرات في المحادثة ومصطلحات المحادثة بعد وقوعها. وظيفة الفلسفة، إذن ، ينبغي اعادة النظر فيها. لم يعد يجب أن يتم دفعها للبحث عن الحقائق الأبدية، أو حتى الحقائق المؤقتة.

في ثقافة ما بعد الفلسفة، قد يدفعنا بعض الأمل الآخر إلى قراءة الكتب، وإضافة مجلدات جديدة إلى تلك التي وجدناها. من المفترض أنه سيكون الأمل في تقديم أحفادنا طريقة لوصف طرق وصف واجهنا - وصف للطرق التي خرج بها السباق حتى الآن. أصبح الوصف وإعادة الوصف وسيلة للفيلسوف - وهدفًا. لكن الفيلسوف ما زال يعلم. الدور ليس حميداً كما يبدو. لا يزال هناك دور حاسم للفلسفة - لتعديل: "سأوظِّف تعبير "التهذيب" لتمثِّل هذا المشروع المختص بإيجاد طرق للكلام جديدة، وأفضل، وأكثر إثارة، وأخصب. فالمسعى الهادف إلى تهذيب "أنفسنا أو الآخرين" قد يتمثّل في النشاط الهيرمينوطيقي الرامي إلى صنع روابط بين ثقافتنا الخاصة وثقافة غريبة أو حقبة تاريخية، أو بين نَسَقنا الخاص ونَسَق آخر... في نشاط "شعري" الأهداف جديدة، الكلمات جديدة، أو الأنظمة المعرفية الجديدة،... لأنه يُفتَرض في الخطاب الكلامي التهذيبي أن يكون غير عادي، وأن يخرجنا من نفوسنا القديمة بقوة الغرابة، ويساعدنا لنصير كائنات جديدة."70

ولا يتمثل دور الفلسفة في تذكيرنا بالحقائق الدائمة للماضي، ولا في إنشاء منبر دائم لتقييم المطالبات المعرفية. لا يستطيع البشر أن يُعرفوا بهذه الطريقة. إنّ الذي يعلنه النبي الفلسفي، إذن، هو التقييد الهيكلي لقدرتنا على وصف خبراتنا، بشكل موضوعي أو كلي، والحرية العميقة التي تنجم عن هذا القيد. إن توليف رورتي للنزعة البراغماتية والوجودية يقلل بشكل جذري من أدوار الفيلسوف وإمكانياته. وحسب رأيه بعد العصور الوسطى، فإن ما يسمى بالفلسفة "الحديثة" حولت مجال ما كان معروفًا من الميتافيزيقي إلى المادي- أو أي شيء آخر يمكن معرفته بطرق مماثلة للطرق التي يمكن أن يعرف بها المادي. يعتقد رورتي أنه يخترق هذا التقييد العلمي الحديث من خلال التخلص من المعايير التي تحد من المشاركة في محادثات الوصف: "إن فائدة وجهة النظر "الوجودية" تتمثّل في أنها بفضل إعلانها أن لا ماهيّة لنا، سمحت لنا أن نرى في أوصاف نفوسنا التي تقع عليها في أحد علوم "الطبيعة" (أو في وحدتها) على مستوى الأوصاف البديلة المختلفة التي قدّمها الشعراء، وكتّاب القصة، والبسيكولوجيون المتعمقون، والنحّاتون، والأنثربولوجيون، والصوفيون."71

خاتمة

في الأخير لابد من الاقرار أن موضوع الحقيقة يلعب دورا مهما في البحث الفلسفي، ولا زال ليومنا هذا كذلك، فظلّ غاية البحث الفلسفي عبر التاريخ، واختلفت الآراء في صيغة ماهية الحقيقة، أوشروطها، أوغاية الوصول إليها وامتلاكها، أو الطريقة والمنهج الواجب اتباعه للوصول للحقيقي والقبض عليه، خاصة في بعده البراغماتي. لهذا فعندما نتحدث عن مفهوم البراغماتية ومفهوم الحقيقة فقد وجدنا أنفسنا أمام مفاهيم مرتحلة من فضاء تداولي إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، يطوعها الفيلسوف كيفما شاء وكيفما وافق رؤيته للوجود والحياة والكون.

لهذا فقد استعمل أفلاطون الحقيقة لارضاء قوته العاقلة فكانت ذات طبيعة مثالية، وماركس وضع لها مفهوما وفق رؤيته الاقتصادية ، وأنزلها للواقع، كما أن فرويد كيّفها مع تصوره للتحليل النفسي و ربطها باللاشعور، كونه المحدد للقيم والوجود الانساني، أما نيتشه نفى وجود شيء حقيقي و أعلن موتها، تماشيا مع تصوره العدمي ومزج بين المعرفة والمصلحة ولخصها في قيمة الحياة، أما غادامار فقد حاول أن يعطيها بعدا تأويلا، أي يكون المجال رحب لإنكشافها بعيدا عن صرامة المنهج العلمية، خاصة إذا تعلق الأمر بميدان العلوم الإنسانية، أين تتكشف الحقيقة كتعبير عن تناهي الوجود الإنساني. ويُظهر هذا نسبية المفهوم وتغيره عبر التصورات الواردة في السابق، كما يحمل في طياته فهما لوجود ما هو براغماتي، كطريقة تتماشى ورؤية كل فيلسوف بشكل غير صريح ،غير أن رورتي يقدم وجهة نظر مخالفة تماما لما كان سائدا في الاعتقادات الفلسفية الكلاسيكية، فيستفيد من مقولة الحقيقة في التكيّف مع الواقع، فنجد النماذج السابقة تبرر وتؤكد صيغة البراغماتية في تصور الحقيقة ،رغم اختلاف المقاربات المستعملة، إضافة إلى أن أهم ما يميز رورتي نقله للحقيقة إلى ميدان اللغة وجعلها جزء لا يتجزأ منها، فأعطاها صبغة الصناعة، وبالتالي لا بد للفرد أن يصنع حقائق تلائم حاجاته الوجودية والحياتية، ويسدل الستار على التصور بماهوية الحقيقة، أو تطابقها أو مطلقيتها، من أجل التأقلم مع الوسط الاجتماعي ضمن علاقات انسانية راقية.

 وهذا ما يُظهر تجلي ووضوح البعد البراغماتي للحقيقي بشكل أكثر ، بإمكانها أن تنزل مكانة البحث الهائل دون جدوى عن الحقيقي أو الحقيقة أو الصحيح، ويمكن لهذا كله أن يطرح إشكال ضرورة بلورة مفهوم هذه الحقيقة في مجالات الحياة في العالم العربي اليوم، للإستفادة من هذه المفاهيم الميتافيزيقية على أرض الواقع ضف لذلك تحقيق الرواج للفكر الفلسفي، وإنزاله من برجه العاجي إلى الواقع ليحمل هم إصلاح وعلاج الأزمات التي يحياها العالم العربي اليوم.

ومن الناحية النقدية فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا إذا سلمنا باعتقاد الحقيقة واقتسامها على حد قول ريتشارد رورتي في كل من التورية والتضامن، وهذا ما هو مطروح كرؤية علاجية في الساحة الفكرية من أجل ايجاد  السبيل لذلك في مستويات عديدة سياسية، اجتماعية، أو تربوية أو فكرية، والقول بنسبية الحقيقة واختلافها من فرد لآخر يؤدي الى ضياع الحقيقة و تمييعها.  فنجد أنفسنا جرّدنا الحقيقة من سلطتها وضِعنا في غياهب ومتاهات اللاحقيقة، غير أن الايجاب أو الشيء الإيجابي في موقف رورتي هو تطور مدلول الحقيقة عبر مراحل زمنية في العلوم، حيث أصبحت هذه الاخيرة لا حقيقة.فكل هذا عبارة عن ترف فكري يناقش ويحلل مفاهيم الحقيقة وما حولها، و يقدم الجديد  حيث نجد أنّ البراغماتية أقرت وأسست للقول الفلسفي للإختلاف في مفهوم الحقيقة، مما ينفي التعصب الذي نعاني منه اليوم نحن كمجتمعات عربية، لأننا ما زلنا نتخبط في أزمة المفهوم، والسباحة الفكرية نظريا دون الإنتقال إلى مرحلة نؤسس فيها  لفهم  الإختلاف بلغة جاك دريدا كرحمة لا كصراع والذي يعد ثابتة من ثوابت الأمة،فالتناقض إجابية وليس سلبية ينقلنا إلى بناء حضارة جديدة،  نختلف  فيها حول ماهية الحقيقي وحدوده، ليحينا إلى منافع الحقيقة والإستفادة من تعدد المشارب في بلورة فكر فلفسي  يرتقي بدوره إلى الساحة العالمية اليوم، ويمهد لنقلة نوعية في الحوار الكوني من خلال التذاوت مع الآخر، وخلق طبيعة تواصل، لا صراع وتنافر معه للسعي في ما هو إنساني كوني مشترك بعيدا عن التفاوتات الإيدلوجية،  التي جعلت إنسان اليوم يتخبط في الحروب والصراعات دون أي أسس قيمية حضارية . ومن أهم المشاريع الفلسفية في الساحة الفكرية العربية مشروع طه عبد الرحمن القول الفلسفي للإختلاف، وغيرها من المحاولات التي  تسعى إلى: غاية أرقى تنتظر منا مجهودات جبارة في القراءة والإبداع للخروج من الأزمة. لنتخطى  أزمة المفاهيم، ونأسس لرؤى فلسفية جديدة تعالج مشاكل الإنسان المعاصر؛ نحيي فيها  التصور البرغماتي للحقيقة وفق ماهو ممكن ومتاح ومنطقي ، تشتغل  فيه الفلسفة كناظم منهجي ومعرفي يعالج داء الواقع، و تسترد فيه هذه الأخيرة مكانتها فكريا وإجتماعيا لتسترجع حضورها في المنظومات التربوية منها أو السياسية .

 

 


1. أحمد الميناوي، جمهورية افلاطون، الطبعة الأولى، دار الكتاب العربي، دمشق سوريا، 2010، ص 120.

2.   نعيمة حاج عبد الرحمن، رسالة دكتوراه ،مفهوم الحقيقة عند مارتن هيدغر الآليثويين هيدغر ومفهوم الحقيقة،جامعة وهران،2009/2010،ص186.

3. عادل السكري، نظرية المعرفة في سماء الفلسفة إلى أرض المدرسة، الدار المصرية البنانية، القاهرة، د.س.ن، ص88.

4.  المرجع السابق، ص80.

5. الدياليكتيك أو الجدلDialectique : الجدل عند الماركسسين هو التوفيق بين مثالية هيجل، ومادية زميلهم ماركس، لا التطور الجدلي عند هيجل هو التطور الفكرة انا عن ماركس وانجلز فهو تطور المادة، و يأخذ في أيامنا هذه عدة معاني:

طريقة الفكر الذي يعرفه ذاته.

طريقة الفكر الذي يوجد حركته إلى جهات متعارضة تؤثر فيه تأثيرا متقابلا.

هو موقف الفكر الذي يقرر حكمه على الأشياء.

6.   اتصاف الفكر بالحركة وميله لمجاوزة ذاته. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ص 394.

7. كارل ماركس، رأس المال، المجلد 01، مكتب المطبوعات، باريس، 1941، ص29.

8.  المرجع السابق، ص90.

9. سيغموند فرويد، مستقبل الوهم، ترجمة جورج طرابيشي،ط3، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1973، ص50.

10. سيغموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي، ترجمة سامي محمود عبي عبد السلام القفاش، مكتبة الاسرة، مصر، 2000، ص26.

11. سغموند فرويد، الأنا والهو، ترجمة  محمد عثمان النجاتي، الطبعة الرابعة، القاهرة، دار الشروق، بيروت القاهرة، 1982، ص42.

12. المرجع السابق، ص61.

13. إيريك فروم، الانسان من أجل ذاته، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، الطبعة الأولى، د.د.ن، د.ب.ن، 2007، ص244.

14. . Friedrich Nietzsche, Die Frochlich Wissenhaf", werk II  (schlechta ) P. 205, tram from german, by r.w and GS.

15.   Friedrich Nietzche, Essai D'autorocritique Et Autes Preface", Tirad par marce de lannay, Ed de seuil, 1999.NT. 5, P.39.

16.  EH. Friedrich Nietzsche" Ecce homm", Trad par Jea Claude Henry, gall.mard, imp, brodardet taupin, sar the 1990, cre puscule des idoles, II, P. 177.

17.Friedrich Nietzsche, Le Crépuscule Des Idoles, Tard Henri Albert, coll, GF, flammarion, paris, mascines et pointes, P. 34.

18. فريديك نيتشه، أصل الاخلاق وفصلها، ترجمة حسن قبسي، المؤسسة الجامعية للدراسات الجامعية، بيروت، 1981، البحث 03، الفقرة 24.

19. غنار سكيربك ونلز غيلجي، تاريخ الفكر الفلسفي الغربي من اليونان حتى القرن العشرين، تر حيدر حاج اسماعيل ،المنظمة العربية للترجمة ،بيروت ،ص734.735.

20.  المرجع السابق، ص 736.

21.    Martin Heiddgger, Niestzsche, Tome Trad P.Klosso Wski, GALLimard, Paris, 1971, P. 386-387.

22.  فريديك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، درا القلم، بيروت، ب.س.ن، قبل بزوغ الشمس.ص200 .

23.  غنار سكيربك ونلز غيلجي، تاريخ الفكر الفلسفي الغربي  من اليونان إلى القرن العشرين، ص 749.

24.  روديجر بوبنر، الفلسفة الألمانية الحديثة، ترجمة فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1998،ص64.

25.  عمر مهيبل: غادامار خطاب التأويل، خطاب الحقيقة، مجلة أوراق فلسفية، العدد 10،سنة 2003،ص 166.

26.  Jean Gronndin, L’universalité De l’Herméneutique, Presses Universitaires de France, France, 1993,  P. 161.

27. هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة، حسن ناظم وعلي حاكم صالح، ط1، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، طرابلس ليبيا، 2007، ص 73.

28.  هذا ما أشار إليه هنري كوربان في إحدى حواراته مع فيليب. محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات فصول في الفكر الغربي المعاصر، مرجع سابق، ص 31.

29.ريتشارد رورتي، الفلسفة ومرآة الطبيعة، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت لبنان، 2009 ص 60.

30 المصدر السابق، ص 61.

31.  المصدر السابق، ص 53.

32. المصدر السابق، ص 54.

33. المصدر السابق، ص 238.

34.المصدر السابق، ص 222.

35. المصدر السابق، ص 422، 423.

36.المصدر السابق، ص 57.

37.المصدر السابق، ص 61.

38.  المصدر السابق، ص 422.

39. المصدر السابق، ص 61.

40.المصدر السابق، ص 52.

41. المصدر السابق، ص19 بتصرف.

42.  محمد جديدي، مطارحات رورتية، الطبعة الأولى، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2010، ص 22.

43. عطيات أبو السعود،الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، منشأة المعارف ، الاسكندرية مصر، 2002، ص 127.

44.   مديحة باجي، مابعد الحداثة من خطابات المابعد في استنفاذ أو تعديل المشروعات الفلسفية، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2013، ص 157.

45.  محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات فصول في الفكر الغربي المعاصر، الطبعة الأولى، منشورات ضفاف، بيروت لبنان، 2015، ص 169.

46. محمد جديدي، مطارحات رورتية، مرجع سابق، ص 23،24.

47. Rorty Richard, Truth and Progress , Philosophical papres III,  combridge University press,   1998. P. 1.

48.   Ibidem.

49.  محمد جديدي، البرغماتية من الحقيقة إلى الللاحقيقة، أعمال الملتقى الوطني الأول في الفلسفة، الفلسفة بين تعدد المناهج ووحدة الحقيقة، قسنطينة، دار بهاء الدين للنشر والتوزيع، ص272.

50.  محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات فصول في الفكر الغربي المعاصر، مرجع سابق، ص 179.

51. Puntam , Words.and L Life, Harvard University press cambridge,  Massachussetts and London, England, 1994, P. 279.

52.  VATTIMO, Beyond interpretation:the meaning of hermeneutics for philosophy, trans by David Webb, polity press (1997), P. 94.

53. Rorty Richard , Cotingency.Irony and Solidarityc, ombridge University press , 1989, p4.5.

54.  Haberma , La pensee postmetaphysique , trad.Rainer Rochlitz , Armand Collin, paris, 1993, p. 82.81

55.   Davidson, "R and C ", P. 72-74.

56.    Rorty Richard, Truth and Progress , Op. cit., P. 3.

57.محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، منشورات الاختلاف، بيروت لبنان، 2008،ص 297.

58. المرجع السابق، ص 299.

59.  Ritchard Rory, C and I and S, Op. cit., P. 23.

60.محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات فصول في الفكر الغربي المعاصر، مرجع سابق، ص 184.

61محمد جديدي، البرغماتية من الحقيقة إلى الللاحقيقة، مرجع سابق، ص278.

62.  ريتشارد رورتي، الفلسفة ومرآة الطبيعة، الفلسفة ومرآة الطبيعة، مصدر سابق، ص 507.

63.Richard Rorty, Philosophy and Social Hope, Londres, Penguin Books, 1999. P. 31-32.

64.   ريتشارد رورتي، الفلسفة ومرآة الطبيعة، الفلسفة ومرآة الطبيعة، مصدر سابق، ص 419.

65.  المصدر نفسه، ص 420.

66.  Alan R. Malachowski, Richard Rorty, Princeton, Princeton University Press, 2002., P. 19.

67.   Michael Williams, Richard  Rorty, Philosophy  and  the  Mirror  of  Nature :  Thirtieth-Anniversary  Edition,  Princeton, Princeton University Press, 2009, P. xxix.

68.Richard Rorty, « Solidarity or Objectivity? », dans John Rajchman et Cornel West (éds), Post- Analytic Philosophy, New York, Columbia University Press, 1985, P. 3.

69.  ريتشارد رورتي، الفلسفة ومرآة الطبيعة، الفلسفة ومرآة الطبيعة، مصدر سابق، ص 508.

70. المصدر السابق، ص 473.

71. المصدر السابق، ص 475.

 

@pour_citer_ce_document

هاجر طالب, «براغماتيات الحقيقة عند ريتشارد رورتي»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 156-174,
Date Publication Sur Papier : 2019-10-07,
Date Pulication Electronique : 2019-10-07,
mis a jour le : 10/10/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=6068.