التكريس الدستوري للحق في البيئة. دراسة مقارنة على ضوء نص المادة 68 من القانون 16ـ01 المتضمن التعديل الدستوري الجزائري 2016 ـConstitutional Entrenchment of the Right to the Environment. A Comparative Study In The Light Of Article 68 Of Law 16-01, Including The Algerian Constitutional Amendment 2016
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°27 Vol 15- 2018

التكريس الدستوري للحق في البيئة. دراسة مقارنة على ضوء نص المادة 68 من القانون 16ـ01 المتضمن التعديل الدستوري الجزائري 2016 ـ

Constitutional Entrenchment of the Right to the Environment. A Comparative Study In The Light Of Article 68 Of Law 16-01, Including The Algerian Constitutional Amendment 2016
pp 23-37

وردة مهني
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

لقد شكل الحق في البيئة أحد الحقوق التي أثارت جدلا واسع النطاق سواء من حيث تحديد مكانته ضمن منظومة حقوق الإنسان ، أو من حيث تحديد مضمونه و صاحبه، و حتى من حيث الإعتراف به ضمن النظام القانوني للدول، و لم يبدأ الإهتمام بهذا الأخير إلا بعد النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين، فقد لوحظ اتجاه المؤسس الدستوري في كثير من الدول نحو الإهتمام به و اقراره ، رغم اختلاف طبيعة و أسلوب هذا الإقرار في الدساتير المقارنة بين متجه إلى التصريح مباشرة بهذا الحق كحق أساسي من حقوق الإنسان، و بين من اكتفى بالإعتراف ضمنيا و بطريقة غير مباشرة به،  و ما ترتب عن هذين الأسلوبين من آثار قانونية بشأن إنفاذ هذا الحق و تمكين الأفراد من التمتع به.

إذن تحاول هذه الدراسة استقراء وتحليل  موقف المؤسس الدستوري من تكريس الحق في البيئة ضمن الدساتير الوطنية مع دراسة موقف المؤسس الدستوري الجزائري من ذلك، خاصة بعد التعديلات التي جاء بها القانون 16ـ01المتضمن التعديل الدستوري المؤرخ في 06مارس 2016، و أثر هذا الإعتراف على إنفاذه و كيفية تعامل القاضي الوطني مع النصوص المتضمنة للحق في البيئة.

الكلمات المفتاحية: البيئة، تكريس الحق في البيئة، الحقوق الأساسية، الإعتراف الصريح، الإعتراف الضمني، الدساتير الوطنية، المادة 68من التعديل الدستوري الجزائري.

Le droit à l'environnement connstitue l'un des droits qui ont suscité une vaste controverse tant en termes de détermination de son qu’au sein du système statut des droits de l'homme, ou en termes de détermination de son contenu et de son attributaire, et même en termes de reconnaissance au sein du système juridique des pays, l'intérêt suscité pour ce dernier n'a pas commencé qu'après la seconde moitié des années cinquante du XXe siècle, il a été constaté que le fondateur constitutionnel dans de nombreux pays s’orientait vers son intérêt et son approbation, en dépit de la différence de la nature et du style de cette reconnaissance au sein des constitutions comparatives entre celui qui déclare directement que ce droit constitue un droit fondamental des droits de l’homme, et ceux qui le reconnaissent implicitement et indirectement, et ce qu’a résulté de ces deux styles des implications juridiques sur l'application de ce droit et permettre aux individus d’en jouir.Donc, cette étude tente d'extrapoler et d'analyser la position du fondateur constitutionnel envers la consécration du droit à l'environnement dans les constitutions nationales avec l'étude de la position du fondateur constitutionnel algérien, surtout après les modifications apportées par la loi 16-01, portant l’amendement constitutionnel du 6Mars, 2016, et l'impact de cette reconnaissance sur l'application et la façon de traiter par le juge national avec les textes portant le droit à l'environnement.

Mots clès :environnement, consecration du droit à l’environnement, les droits fondamentaux, reconnaissance explicite, reconnaissance implicite, les constitutions nationales, l’article 68de l’amendement constitutionnel algérien

The environment’s  right  is one of the rights that has generated widespread controversy both in terms of sound determination and the status of human rights system, or in terms of its content,  even in terms of recognition within the legal system of countries, the interest aroused by the latter, did not begin that after the second half of the fifties of the twentieth century, it was found that the constitutional founder  inspite of the difference in the nature and style of such recognition within the comparative constitutions between those who directly declare that this right constitutes a fundamental right of human rights, And those who recognize it implicitly and indirectly, and what has resulted from these two styles of legal implications on the application of this right and allow individuals to enjoy it. So this study tries to extrapolate and analyze the position of the constitutional founder towards the consecration of the right to the environment in national constitutions with the study of the position of the constitutional founder in Algeria, especially after the amendments that made by the law 16-01, bearing the constitutional amendment of March 6th, 2016, and the impact of this recognition on the application and the manner of dealing with the texts bearing the right to the environment by the national judge.

Keywords :environement, environemental Law, fundamental rights, explicit recognition, implicit recognition, national constitutions, the Algerian constitutional amendment article 68.

Quelques mots à propos de :  وردة مهني

جامعة محمد لمين دباغين سطيف2

مقدمــــــــــة:

لقد شكل موضوع الحق في البيئة أحد المواضيع المستجدة التي أثارت جدلا واسع النطاق بشأن تحديد مكانته ضمن أجيال حقوق الإنسان، ومن حيث تحديد مضمونه وصاحب هذا الحق، وكذلك بشأن الاعتراف به ضمن المنظومة القانونية الوطنية للدول، حيث لم يبدأ الاهتمام بهذا الحق إلا بعد النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين، فقد لوحظ اتجاه المؤسس الدستوري في كثير من الدول نحو الاهتمام بموضوع البيئة والاعتراف بها كمحل وموضوع لحق إنساني رغم اختلاف طبيعة وأسلوب هذا الاعتراف ضمن الدساتير المقارنة.

ولا يخفى أن تكريس الدستور للحق في البيئة يعني الارتقاء بهذا الحق إلى مرتبة الحقوق الأساسية الأخرى المكفولة دستوريا كالحق في الحياة والحق في المساواة والحق في الحرية، وبهذا التكريس يصبح للحق في البيئة أساس دستوري مستقل ومتميز وغير مستمد من وثائق أخرى غير ملزمة مثل الإعلان العالمي الصادر عن مؤتمر ستوكهولم لعام 1972وإعلان ريو لعام 1992، غير أن النص على الحق في البيئة يحتاج إلى دراسة وتحديد وتوضيح، هل النصوص الدستورية تحدد صاحب هذا الحق وخصائصه و قيمة هذه البيئة التي  باتت تشكل حقا تحميه اسمى وثيقة في المنظومة الوطنية.

وقد اختلفت اتجاهات الدول في النص على هذا الحق ضمن نصوصها الدستورية بين من يصرح بذلك ويقدم أدوات واسعة لحماية البيئة رغم أن هذه الأدوات لم تستخدم بصورة كافية حتى الآن من الناحية العملية، وبين من يكتفي بالنص ضمنيا على حماية البيئة عن طريق  ضمان و كفالة حقوق دستورية أخرى يتم التوسع في تفسيرها لتشمل الحق في البيئة مثل الحق في الحياة و الحق في الصحة.

1ـــ موضوع الدراسة:

تتركز الدراسة، في هذا البحث، على تحديد موقف الدساتير المقارنة من موضوع حماية الحق في البيئة، وكيف كفلت هذه الدساتير هذا الحق من خلال الاعتراف الصريح به أو من خلال الاعتراف الضمني و موقف القضاء الوطني من تطبيق النصوص الدستورية المعالجة لهذا الحق.

2ـــ نطاق هذا البحث:

يقتصر هذا البحث على دراسة التكريس الدستوري للحق في البيئة ضمن المنظومة القانونية الوطنية للدول، وموقف القضاء المقارن من هذا التخصيص الدستوري.

3ـــ أهداف الدراسة:

تستهدف هذه الدراسة المقارنة تحديد مضمون ومحتوى الحق البيئة كحق جديد من حقوق الإنسان، وتحليل الجدل الفقهي القائم بشأنه ودراسة كيفية حمايته في الأنظمة الدستورية المقارنة على ضوء نص المادة 68من التعديل الدستوري الجزائري الجديد لعام 2016، وتحقيقا لهذه الغاية تطرح الإشكالية التالية:

4ـــ إشكالية البحث:

ما هي اتجاهات المؤسس الدستوري في تكريس الحق في البيئة، وما مدى فاعلية وكفاءة هذه الحماية الدستورية في مواجهة النصوص التشريعية المتعلقة بالبيئة؟ ثم كيف يمكن للقاضي الوطني في الأنظمة القانونية المقارنة أن يكفل حماية فعلية للبيئة في الحالات التي تأتي فيها الدساتير خالية من أي تكريس دستوري صريح لهذا الحق؟؟

5ـــ منهج الدراسة:

اعتمدنا لدراسة هذه الموضوع على المنهج التحليلي المقارن، من خلال تحليل أولا النقاشات القائمة بشأن الحق في البيئة، وتحليل النصوص الدستورية التي كرست بطريقة صريحة أو ضمنية للحق في البيئة مباشرة أو تلك النصوص التي يمكن التوسع في تفسيرها لتشمل الحق في البيئة.

6ــــ  خطة البحث:

   يقسم البحث إلى 3مطالب أساسية:

المطلب الأول: مفهوم الحق في البيئة

المطلب الثاني: الإقرار الدستوري بالحق في البيئة

المطلب الثالث: اتجاهات الدول في التكريس الدستوري للحق في البيئة واشكالات انفاذه قضائيا

المطلب الأول: مفهوم الحق في البيئة

لم تعد حقوق الإنسان قاصرة على الحقوق التقليدية (حقوق الجيل الأول والثاني)، بل أصبحت هذه المنظومة تشتمل حقوقا لم تكن حتى عهد قريب معروفة أو منصوص عليها في الوثائق القانونية الدولية منها الوطنية، ومن هذه الحقوق التي بدأت تشق طريقها إلى الوثائق الدولية و الدساتير والتشريعات الوطنية للدول حق الإنسان في البيئة، فما هو مضمون هذا الحق وإلى أي مدى وجد اعترافا فقهيا و قانونيا به؟.

الفرع الأول: تعريف الحق في البيئة

مبدئيا يمكننا القول أن الفقه عرف الحق في البيئة من ناحيتين:

الناحية الأولى: تتعلق بالنظر إلى صاحب هذا الحق وحاجته(1)، ويكون وفق ذلك حق الإنسان في بيئة سليمة هو ضرورة تمكين الإنسان من الإستخدام الأمثل لموارد الطبيعة، فتكون سلامة البيئة إنما تعود على الإنسان بالنفع والخير، وهو أمر يتفق وغاية هذا الحق من توفير حياة لائقة للإنسان ولن يكون ذلك إلا إذا وجدت البيئة لممارسة الإنسان لحقوقه وحرياته.

الناحية الثانية: تتعلق بالنظر إلى موضوع ومحل هذا الحق، فيعرف وفقا لذلك حق الإنسان في البيئة بأنه "ضرورة توفير بيئة سليمة و صحية  بكافة عناصرها  ــــــ و إن حصل جدل فقهي بشأن مجال هذه العناصر هل يقتصر الأمر على العناصر الطبيعية فقط أم العناصر الطبيعية والإصطناعية(2ـــ ، وضرورة الحفاظ على هذا التوازن البيئي الذي تقتضيه سنن الكون.

 يتضح أن كل من الجانب الموضوعي والجانب الشخصي في تعريف الحق في البيئة يتكاملان فيما بينهما، فتوفير الوسط البيئي الملائم هو الذي يمكن الإنسان من الاستخدام الأمثل لموارد الطبيعة، ولن يتأتى ذلك إلا إذا حافظ هو نفسه على التوازن البيئي واحترام نواميس الكون.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل عرف هذا الحق هذا النوع من السهولة في تحديد معناه ومضمونه؟

في الواقع، أحدث ظهور هذا الحق على الصعيد الدولي ثورة في مختلف الأنظمة القانونية الداخلية، وتضاربت الاتجاهات الفقهية بشأنه بين مؤيد لإعتباره حقا مستقلا ضمن منظومة حقوق الإنسان ومعارض لفكرة الاعتراف بهذا الحق كحق جديد ضمن منظومة حقوق الإنسان لعديد من الحجج والأسباب.

وقد ظهر هذا الحق بشكل يكاد يكون صريحا ضمن إعلان استوكهولم للبيئة الإنسانية لعام 1972من خلال مضمون المادة الأولى التي نصت "الحق الأساسي للإنسان في الحرية والمساواة وظروف عيش كافية، وفي بيئة تسمح نوعيتها بالعيش الكريم، وعليه واجب المحافظة وترقية البيئة للأجيال الحاضرة والقادمة"(3).

 فمنذ هذا الإعلان طرحت عدة نقاشات بشأن تصنيف هذا الحق ضمن المنظومة الحقوقية وتحديد مضمونه وصاحبه، حيث اعتبر جانب من الفقه إن الاعتراف الجوهري بهذا الحق كان من خلال مصادر إعلانية وبيانات ختامية لمؤتمرات، اما على مستوى المصادر الاتفاقية النافذة فقد انحسر بعدد من اتفاقيات حقوق الإنسان الإقليمية في الغالب، فمثلا أقرت المادة 24من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1981أنه(4)"لكل الشعوب الحق في بيئة مرضية وشاملة وملائمة لتنميتها" وأقرت المادة 11/01من البروتوكول الإضافي لاتفاقية الدول الأمريكية لحقوق الإنسان لعام 1988(بروتوكول سان سلفادور) بشان الحقوق الإقتصادية والاجتماعية والثقافية:" يحق لكل شخص في العيش في بيئة سليمة وصحية، والحصول على الخدمات العامة الأساسية"(5).

إن مضمون هذه النصوص يبين أن هذا الحق لم يستقل كأحد حقوق الإنسان المعترف بها في اتفاقيات حقوق الإنسان، حيث ما انفك أن يكون تابعا أو مستمدا من الحقوق المحمية الأخرى "حتى و إن أصبح جزءا من بعض الاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان، إلا أنه لم يصبح مستقلا على المستوى العالمي".

-القواعد العامة والرغبة في الإقرار الدستوري للحق في البيئة:

1-التسعينات خط التحديد للإقرار الدستوري للحق في البيئة.

2-الدول في طريق النمو: القوة الأساسية للإقرار الدستوري للحق في البيئة

- تفسير قاعدتي الإقرار الدستوري.

1- اختلافات مذهبية وثقافية حول حقوق الإنسان.

2-صعوبات متعددة لتعديل الدساتير.

الفرع الثاني: طبيعة الحق في البيئة

إن اختلاف المصطلحات والألفاظ المستخدمة في النصوص القانونية للتعبير عن الحق في البيئة نتيجة تنوع وتباين الأهداف السياسية والقانونية والسوسيولوجية المتوخى تحقيقها من وراء الاعتراف بهذا الحق(5) ، جعل منه حقا ذا طبيعة معقدة وغامضة، بل يرى البعض أنه مجرد مصلحة وليست حقا بالمعنى الفني القانوني والأكثر من ذلك أنه غير قابل للتحقيق فعلا نظرا لعدم تمكن القضاء من التمكين له خاصة في مجال القضاء الدولي على أساس أن الفرد لا يعد من أشخاص القانون الدولي.

ويتساءل فريق آخر من الفقهاء عن مدى اعتبار البيئة وصلاحيتها لأن تكون محلا لحقوق الإنسان، خاصة وأن التشريعات الوضعية تعتبر العناصر الطبيعية من ماء وهواء وضوء وبحر ومياه تعتبرها أموال مشتركة لا تصلح لأن تكون محلا لحقوق شخصية، والقول بأنها أموال عامة، يعني انه لا يمكن للإنسان أن يدعي بحق خالص عليها(6)، والقول بأنها لازمة لحياة أي كانن حي، فلا يتصور أن تكون محلا للملكية أو الاستيلاء وحرمان الآخرين منها، ويرتب هؤلاء نتيجة مفادها أن عناصر البيئة هذه لا تصلح لأن تكون محلا لحقوق خاصة (priviative).

في حين يرى فريق آخر من الفقه أن الحق في البيئة يدخل في نطاق الحقوق التي يحتج بها من قبل الكافة، وهو حق فردي وجماعي في وقت واحد أي حق مركب، فهو حق فردي باعتبار أن مضمونه هو تلبية الاحتياجات الأساسية للفرد متمثلة في الحصول على الموارد الطبيعية الخالية من التلوث، وفي نزع السلاح و منع استخدام الأسلحة النووية والحرارية والجرثومية، والقول بالجانب الفردي لهذا الحق أي أنه من الحقوق اللصيقة بشخص الإنسان التي لا يجوز التنازل عنها، و الأكثر من ذلك يحق للفرد المطالبة به في مواجهة الدولة لتقوم بواجب كفالة هذا الحق باتخاذ التدابير اللازمة لحماية البيئة والامتناع عن كل ما يضر بها، وعليه، يكون الإنسان هو المتمتع بهذا الحق بغض النظر عن سلالته أو ديانته أو جنسه أو عقيدته، باعتبار البيئة إرثا مشتركا للإنسانية جمعاء.

كذلك يعتبر هذا الحق حقا جماعيا باعتبار البيئة السليمة حق لكل الشعوب في المجتمع الدولي وفي مواجهة كل الدول، على أساس أن الأضرار البيئية والمشكلات البيئية لا تعرف حدودا إقليمية أو سياسية معينة مما ينشئ حقا للدول وشعوبها في أن تنشد إمكانات تحقيق بيئة إنسانية سليمة عن طريق التعاون فيما بينها، من أجل حماية البيئة للأجيال الحالية والمستقبلية، وهذا ما يعبر عن الجانب الجماعي لحق الإنسان في البيئة.

المطلب الثاني: الإقرار الدستوري بحق الإنسان في البيئة

إن القرن العشرين كان قرن تدهور البيئة على المستوى العالمي، هذه الأخيرة تحولت إلى أزمة ايكولوجية حقيقية تهدد وجود وتطور الإنسان، وأطلقت تحديا خطيرا على الكرامة الإنسانية الأمر الذي قلب الحقوق الأساسية للإنسان المعترف بها من طرف الدستور، فقد قرر القاضي في الهند(7)أن "الحق في الحياة يعني الحق في العيش بكرامة الأمر الذي يستدعي العيش في بيئة سليمة"، بمعنى آخر الحاجة إلى بيئة خالية من تلوث الهواء والمياه المتعلقة بالمركبات والإشعاعات والضجيج والصناعة والتخطيط العمراني غير العقلاني والمنظر الحضري المتدهور، أي وجود بيئة ذات نوعية.

الفرع الأول: الإجابة الدستورية للأزمة الإيكلوجية: التأكيد الدستوري للحق الأساسي في البيئة

منذ انتصار الرأسمالية، استفادت حقوق الإنسان من مكانة ساحرة، أظهرت رغبة عالمية في تدويل حماية حقوق الإنسان، هذه الأخيرة التي أصبحت مقياسا لشرعية الحكومة، حيث يقول البروفيسور (I. Honkine) "إن عصرنا هو عصر حقوق الإنسان... تمثل حقوق الإنسان فكرة رئيسية لعصرنا، وفكرة سياسية وعبرة فريدة معترف بها عالميا"(8).

وتحديدا و منذ ملتقى ستوكهولم لسنة 1972المتعلق بالبيئة الإنسانية، أصبح الحديث عن فكرة الربط بين البيئة وحقوق الإنسان، فالتدهور البيئي بات يشكل تهديدا لممارسة حقوق الإنسان، فقد أقر القاضي بمحكمة العدل الدولية في النزاع المتعلق بمشروع سدود غابكيكوفو –ناغيماروس (المجر-سلوفاكيا) أن "حماية البيئة تمثل جزءا مهما في النظرية المعاصرة لحقوق الإنسان لأنها شرط ضروري لتحقيق حقوق الإنسان لاسيما الحق في الحياة والحق في الصحة، من جهة أخرى، أخذنا بعين الاعتبار تدريجيا القيمة التي لا بديل لها للبيئة في حد ذاتها، ومن ثم المطالبة بالحق في العيش في بيئة سليمة، وتمني حماية فعالة لحق كهذا باعتباره من حقوق الإنسان... يمثل هذا الحق إلى جانب حقوق أخرى معدلا عال من الحجة لأن الأمر يتعلق بحق بعيد كل البعد عن التأثر بالمصالح الذاتية..."(9).

ومنذ السبعينات، بدأت تقر دساتير الكثير من الدول بالحق في البيئة، وتأكد ذلك منذ التسعينات، حيث تضمنت دساتير 130دولة تقريبا نصوصا دستورية تعالج صراحة القواعد الدستورية(10)وتشمل (60) من هذه الدساتير على حقوق بيئية أساسية، وقد سجلت المنظمة غير الحكومية "آرث جاستيس" لعام 2002أن 53دولة أقرت صراحة بالحق في البيئة، و62منها أقرت بمسؤوليات الحكومات في الحماية من الأضرار البيئية و54وقعت مسؤولية المواطنين في حماية البيئة(11)، وفيما يلي نسوق أغلب الدول وسنة الإقرار الدستوري بالحق في البيئة(12).

ـــ في آسيا: اضربيجان (1995)، كوريا الجنوبية (1987)، جورجيا (1995) كيرغيزيستان (1993)، منغوليا الخارجية (1992)، تركيا (1982).

ـــ في أوروبا:بلجيكا (1994)، بيلاروسيا (1996)، بلغاريا (1991)، كوراتيا (1990)، اسبانيا (1987)، فنلندا (1999)، فرنسا (2005)، المجر (1989)، ليتوانيا (1998)، ماسيدونيا (1991)، مولدوفا (1994)، النرويج (1992)، بولونيا (1997)، البرتغال (1982)، روسيا (1993)، سلوفاكيا (1992)، سلوفينيا (1991)، صربيا (1992)، التشيك (1991)، أوكرانيا (1992).

ـــ في افريقيا: جنوب افريقيا (1996)، انغولا (1992)، البنين (1990)، بوركينافاسو (1991)، الكامرون (1996)، الرأس الأخضر (1992)، التشاد (1996)، ايثيوبيا (1995)، مالي (1992)، مازومي(1990)، نيجيريا (1999)، أوغاندا (1995)، السيشل (1993)، الطوغو (1992).

ـــ في أمريكا اللاتينية: الأرجنتين (1994)، البرازيل (1988)، الشيلي (1980)، كولومبيا (1991)، كوستاريكا (1994)، الاكوادور (1984)، ميكاراغوا (1986)، البراغاي (1992)، غينزويلا (199).

الفرع الثاني: أهمية التكريس الدستوري للحق في البيئة

لعل أول ما يطرح من تساؤلات في إطار هذا المبحث هو ما مدى أهمية أن يحتوي دستور الدولة على نص يكرس حق الإنسان في العيش في بيئة ملائمة، ولماذا لا يكتفي بأداة تشريعية في شكل قانون خاص بحماية البيئة مثلا؟؟  في الحقيقة، نستنتج أهمية دسترة هذا الحق للرد على ما احتواه هذا التساؤل بين ثناياه، ذلك أن صيغته توحي بما يدور في أذهان البعض من اعتبار القضايا والمشكلات البيئية قضايا ثانوية مقارنة بأولويات أخرى كالتنمية الاقتصادية، الأمر الذي يعكس أهمية تكريس مسألة حماية البيئة كمحل لحق أساسي دستوري، حيث يرفع ذلك من أهميتها ويعطيها قيمة دستورية ويمنح الفرصة لمناصري هذا الحق من الإعلاء به ليصل إلى مصاف حقوق الإنسان الأساسية(13).

ضف إلى ذلك أن النصوص الدستورية تتميز بالثبات والاستقرار والاستمرارية، فالتعديلات أو الإصلاحات الدستورية عادة تحتاج إلى وقت طويل وإجراءات معقدة، الأمر الذي يجعل من معالجة الدستور لمسألة ما كحماية البيئة تتمتع بنوع من الثبات والاستمرارية مما لو عولجت بأداة تشريعية أقل قيمة قانونية.

والأكثر من ذلك، يشكل النص على الحق في البيئة ضمن نصوص الدستور قيدا على المشرع العادي، باعتباره أسمى القوانين في الهرم القانوني، وبالتالي فهو ملزم بالإرادة الصريحة للمؤسس الدستوري(14) عندما يتولى عملية سن القوانين الناظمة لهذا الحق والتي تبين الأحكام التفصيلية له، فأي تشريع بيئي يخالف ما نص عليه الدستور بشان هذا الحق يقع ضمن حدود اللاشرعية وعدم الدستورية، ويكون معرضا للإلغاء، مما يشكل حماية أكبر لهذا الحق.

ويرى البعض أن معالجة الحق في البيئة في إطار نص دستوري يكسبه صفة أكثر اتساعا، بحيث لا يكون أداة أو نصا لمعالجة الحالات التي تقع فيها الأضرار الفردية فقط، وإنما يعطي هذا النص أهمية واتساعا، فهو يكرس لسياسة عامة بعيدة المدى لحماية وانفاذ الحق في البيئة.

وأخيرا، فإن الدساتير تعد في الغالب، مصدرا للحقوق الإجرائية (procedural rights) الضرورية للمنظمات البيئيةـ وغيرها من تنظيمات المواطنين التي تدافع عن القضايا البيئية، وعليه فإنفاذ هذه النصوص الدستورية- التي تضمنت حرية الجمعيات وحق الوصول إلى المعلومات، وحقوق المشاركة العامة، وحق اللجوء إلى القضاء في المسائل البيئية، يعد أمرا بالغ الأهمية لضمان أن الحق في البيئة على غرار الحقوق الموضوعية في الحياة والصحة سيكون محل حماية.

ونشير إلى أن البعض ينبه إلى مسألة مهمة(15)، وهي أن وجود نص صريح أو عدمه في دستور دولة معينة لا يعد في حد ذاته المحدد لقوة هذا الحق، فبعض الدول قد تتعرض نصوصها الدستورية الصريحة للانتهاك، بينما قد تقوم المحاكم في بعض الدول التي تفتقد لمثل هذه النصوص بتطبيق الحقوق الدستورية، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تفتقد لنصوص دستورية تكرس للحق في البيئة، ومع ذلك قامت بتطوير واحد من أكثر أنظمة حماية البيئة(16)تطورا، في المقابل توجد دول كثيرة افريقية تظهر من بين الدول البارزة في مجال تكريس هذا الحق، وإن لم تبرز في مجال تطبيق هذا الأخير.

الفرع الثالث: الحجج المؤدية والمعارضة اللتكريس الدستوري للحق في البيئة

نالت مسألة تكريس الحق في البيئة نصيبها من النقاشات الفقهية بين هؤلاء المناصرين لهذا الحق والمنادين بضرورة التخصيص الدستوري الصريح للحق الموضوعي في البيئة، وبين هؤلاء المعارضين لفكرة معالجة هذا الحق على مستوى النص الأساسي الأسمى في الدولة.

أولا: الحجج المؤدية للتكريس الدستوري للحق في البيئة

يرى مناصروا الحق في البيئة أن الحاجة إلى تكريس هذا الحق ضمن الدساتير الوطنية تصبح أكثر إلحاحا بصفة خاصة عندما تأتي الآليات القانونية الوطنية على غرار الدولية وتحت الوطنية خالية من كفالة هذا الحق ويسوقون في ذلك الحجج التالية:

1-قصور القانون الدولي:

حيث يرى هؤلاء أن وثائق القانون الدولي لا تتضمن بصفة عامة حقوقا بيئية(17)فلا توجد اتفاقية دولية بشان الحقوق البيئة، كما أن بعض الاتفاقيات والوثائق الدولية التي تتناوله، مثل إعلان استوكهولم 1972ليست وثائق قابلة للتنفيذ (not enforceable) غير ملزمة، حتى بالنسبة للاتفاقيات الدولية ومتعددة الأطراف أو الثنائية، يجب عادة التصديق عليها من قبل الهيئات الوطنية، وبعدها يتم انفاذها من خلال التشريع الوطني عن طريق الإدماج.

أما بالنسبة للقواعد والأعراف الدولية فلا تقدم حقوقا بيئية أساسية قابلة للنفاذ(18)كما تقف المبادئ العامة للقانون البيئي الدولي عاجزة عن حماية الحق البيئي والحقوق البيئية الأخرى بما فيها الحقوق الإجرائية.

2-معظم الأنظمة القانونية لا تكفل حماية للحق في البيئة:

حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الهياكل القانونية الوطنية في كثير من الدول لا تكفل حماية لحق الفرد في بيئة ملائمة، لذلك بات التكريس الدستوري للحق في البيئة يشكل "شبكة أمنة" لمعالجة المسائل البيئية تتسم بالكفاءة والفعالية لترسيخ الأخلاقيات البيئية(19)، ومن ثم، يمكن أن تكون هذه الشبكة الأمل الأخير(20)لحماية التنوع الحيوي وحقوق الإنسان.

ثانيا: الحجج المعارضة للتكريس الدستوري للحق في البيئة

رفض فريق آخر من الفقه تكريس الحق في البيئة ضمن الدساتير الوطنية، وقد ساقوا في ذلك جملة من الحجج يمكن تلخيصها فيما يلي:

1ـــ يتناسب مقدار الضرر الذي يتلقاه كل حق دستوري أساسي تناسبا عكسيا مع عدد الحقوق الأساسية الأخرى التي يكفلها الدستور، فحسب هؤلاء(21)، كلما زادت الحقوق المكفولة دستوريا، كلما قل انفاذ كل منها(22).

ويبدو أن هذه الملاحظة تطبق بدرجة متساوية، على كافة الحقوق الدستورية، فإذا كانت الدساتير تمثل مجموع التعليمات لاتخاذ الإجراءات والقوانين والقرارات بشأن تصميم وعمل المجتمع، فإما أن تكون لديك هذه القواعد أولا تكون لديك.

2ــ يرى أصحاب هذا الاتجاه أنه يمكن ان يخلق تكريس الحق في البيئة آثارا ثانوية غير مقصودة كتقييد حرية الملكية، لكن بالمقابل الاستخدام الحر للملكية هو الذي يدفع إلى تكريس الحق الأساسي البيئي حماية له نتيجة تأثره غير المتناسب بالممارسة الحرة للحق في الملكية.

3ـــ إن الدساتير التي تضمنت هذا الحق غالبيتها يضيف صفات تصنف البيئة مثلا: بيئة أفضل، بيئة خالية من التلوث، بيئة سليمة، بيئة إيكولوجية، بيئة مرضية ، إن هذه الصفات تقصد البيئة الطبيعية وتضع حدودا للبيئة الطبيعية فقط في مجملها، ثم إن هذه الدساتير تتباين فيما بينها بالنسبة للمستفيد من البيئة  بين من يتحدث عن «لكل شخص، لكل إنسان، لكل فرد، الشعب... »، مما يبين غموض صاحب الحق، فهو غير متطابق بحسب ما ورد في الدساتير الوطنية(23).

4ـــ يختتم أصحاب هذا الرأي القول بالتفرقة بين معنى الحق في البيئة والحق في الاستفادة من البيئة والحق في العيش في بيئة ملائمة، فحسب هؤلاء: «إن الحق في استعمال البيئة (العناصر الطبيعية) لا يمثل بأي حال من الأحوال حقا في البيئة».

إن النقاشات التي قيلت بشأن دسترة الحق في البيئة و الإشكالات التي ساقها معارضوا ذلك لا تعدو أن تكون نقاشات كتلك التي شهدتها بقية الحقوق في بدايات ظهورها، و لكن الأمر المؤكد أن معالجة حق الغنسان في البيئة ضمن النصوص الدستورية الوطنية يشكل ضمانة قوية لهذا الحق في مواجهة الدولة أولا ثم في مواجهة المشرع الوطني عند صياغة أي قوانين في مجال حماية البيئة.

المطلب الثالث: اتجاهات الدول في التكريس الدستوري للحق في البيئة واشكالات انفاذه قضائيا

بإمعان النظر في النصوص البيئية الدستورية في الأنظمة المقارنة لأغلب الدول نجدها أدرجت بصفة عامة ضمن الأشكال التالية:

-الواجبات والحقوق الأساسية.

-الواجبات والحقوق الدستورية العامة.

واجبات وحقوق غامضة.

الفرع الأول: التكريس الدستوري الصريح والضمني للحق في البيئة

أولا: التكريس الصريح للحق في البيئة

نشير إلى أن بعض الدول تضمنت في فصول تحمل عناوينها كلمة حقوق وواجبات أساسية، فمثل هذه النصوص تكون بلا شك ملزمة وقابلة للتنفيذ الذاتي(24)، ذلك أن نية المؤسس الدستوري تكون واضحة صريحة بشان الطبيعة الأساسية للحق المدرج في السياق، (كالحق في الحياة والحق في الحرية، وحرية التعبير...)، ومن الدول التي يشمل دستورها حقا أساسيا في بيئة صحية أنجولا: (القسم الثاني من الدستور تحت عنوان الحقوق والواجبات الأساسية، ضمن المادة 70) والكونغو (المادة 46)، وموزنبيق (المادة 72)، وتشاد المادة (47، والدستور العراقي لعام 2005، والدستور البرتغالي لعام 1979والدستور الإسباني لعام 1987، والدستور التركي لعام (1997)، والدستور السوفيتي لعام (1996)، والمادة 41من الدستور الأرجنتيني لعام 1996ودستور الفليبين لعام 1973في المادة 23، والدستور الهندي لعام 1976في المادة 48.

و بالنسبة للمؤسس الدستوري الفرنسي، فنجد دستور 1958لم يتناول النص على حق الإنسان في البيئة، حيث رفض المجلس الدستوري الاعتراف له بالقيمة الدستورية وهو موقف كان محلا للنقد إذا ما قورن بموقف المحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا التي قضت بدستورية النصوص التشريعية بشأن حماية البيئة والخاصة بالضوضاء والتلوث الجوي والمفاعلات النووية(25)، إلا أنه في الأول من مارس لعام 2005صدر في فرنسا الميثاق الدستوري الذي  أطلق عليه  تسمية ميثاق البيئة

 (la charte de l’environnement)(26),حيث تضمن 3مواد، نصت المادة الأولى منه :«لكل إنسان الحق في أن يعيش في بيئة متوازنة ومراعية للصحة»

 « chacun a le droit de vivre dans un environnement équilibré et respectueux de la santé »

من جهته نص الدستور المصري المعدل لعام 2007في المادة 59منه على الحق في البيئة ضمن الباب الثالث الخاص بالحريات والحقوق والواجبات العامة التي تشكل نصوصا ملزمة قابلة للتطبيق تطبيقا مباشرا، وقابلة للتمسك بها من قبل الأفراد(27)، أما دستور 2014، فقد نصت المادة 36منه: «لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة، وحمايتها واجب وطني وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها... وضمان حقوق الأجيال القادمة» ضمن الباب المعنون بالمقومات الأساسية للمجتمع .

إن النص الصريح على هذا الحق ضمن الوثائق الدستورية، خاصة ضمن أبواب معنونة: «بالحقوق الأساسية» يكون من المسلم به أن هذه الحقوق وتلك الواجبات تعد أساسية بالنظر إلى لغتها وطبيعتها الدستورية مما يعني الطبيعة الملزمة والقابلة للتنفيذ لتلك الحقوق والواجبات، إلا أنه توجد في بعض الدول نصوص دستورية متعلقة بالبيئة إلا أن وضع وقيمة هذه النصوص أقل وضوحا مقارنة بالفرض السابق، ويصدق ذلك على النصوص البيئية الواردة في أبواب الدستور تحت عنوان "الأهداف القومية أو المبادئ التوجيهية"، حيث ترد مثل هذه النصوص في مقدمات الدساتير أو تتم صياغتها بصورة غامضة، إلا أنها تتمتع بنفس الدرجة من الفاعلية، لأنها تتضمن أهدافا ومبادئ تعتبر أساسية في حكم الدولة، ويذهب فريق من الفقه إلى القول أن هذه الأهداف تلهم المشرع أكثر لمنح حقوقا قابلة للنفاذ(28)، ويميل الاتجاه القضائي في كثير من الدول إلى اعتبار هذه النصوص تتضمن حقوقا ملزمة وقابلة للنفاذ.

ثانيا: التكريس الدستوري الضمني للحق في البيئة

في الاتجاه الآخر، يلاحظ أن هناك دولا اعترفت بالحق في البيئة اعترافا ضمنيا(29)، حيث قامت كثير من الدول التي لا يوجد فيها نصوص دستورية تكرس الحقوق البيئية الأساسية صراحة، بتفسير النصوص التي تكرس الحقوق الاجتماعية والاقتصادية أو المقومات الأساسية للمجتمع تفسيرا موسعًا على نحو يجعلها تشمل الحق في البيئة أو الحقوق البيئية عموما(30).

   ويطلق الفقه عليها "روح النص" الذي يستهدف المشرع من وراء تقريره حمايتها، وكذلك الاعتبارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي دعت لوجود النص، ويؤدي روح النص إلى تفسيره وتحديد معناه وفق للغاية أو الحكمة منه، وللحصول على ذلك يلزم إدخال المصالح التي يراد حمايتها بالنص والمساوئ التي يرمي قطع السبيل عليها.

فمثلا فسر "الحق في الحياة" تفسيرا موسعا على نحو يجعله شاملا للحقوق البيئية الأساسية، من قبل الدولة الهندية الرائدة في ذلك، رغم أن الدستور الهندي يتضمن نصا عن حماية البيئة الطبيعية (مادة 48، 51) إلا أن القضاء الهندي فسر الحق في الحياة تفسيرا موسعا ليشمل الجوانب البيئية في القضايا التي تثار في سياق الموارد البيئية(31)، حيث قامت المحاكم الهندية بتفسير مجال الحق في الحياة بطريقة موسعة على نحو يحظر كل أوجه النشاط التي يمكن أن تشكل إخلالا بالتوازن البيئي، وخلصت إلى وجود انتهاكات للحق في الحياة في سياقات بيئية واقعية متنوعة.

ومن الدساتير التي انتهجت أسلوب الإقرار الضمني(32)، الدستور الإيطالي 1974في مادته 37: "تعتبر الصحة من الحقوق الأساسية للأفراد ويقع على عاتق الدولة واجب حمايتها".

كما نص دستور الإمارات العربية المتحدة لعام 1996في المادة 19منه: يكفل المجتمع للمواطنين الرعاية الصحية ووسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة، ويشجع على إنشاء المستشفيات والمستوصفات ودور العلاج العامة والخاصة)، وينص دستور مملكة البحرين لعام 2001في م 08: "لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية وتعني الدولة بالصحة العامة...".

   ولعل من الآثار المترتبة على الإقرار الضمني بالحق في البيئة ان: عدم النص صراحة على هذا الحق يشكل عبئا على المشرع العادي، فعليه أن يلتزم حدود الإرادة الضمنية للمؤسس الدستوري، والتي يمكن الوصول إليها أو الوقوف عليها من خلال طرق التفسير الواسع بربط النصوص الدستورية ذات العلاقة مع بعضها البعض، عندما يتولى عملية سن القوانين الناظمة لهذا الحق والتي تبين الأحكام التفصيلية له.

ثم إن عدم النص على الحق في البيئة دستوريا ليس معناه أن هذا الحق غير معترف به، بل يرى الكثير من الدارسين الحقوقيين أن هذا الحق يعتبر دون شك أساس التمتع بالحقوق الأساسية الأخرى، لذلك يمكن استخلاصه من الكتلة الدستورية عموما نتيجة ميزة التكافل وعدم قابلية منظومة حقوق الإنسان للتجزئة واعتمادها المتبادل على بعضها.

الفرع الثاني: موقف المؤسس الدستوري الجزائري من دسترة الحق في البيئة

   سجلت الجزائر بصمة نوعية في الاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته العامة، بالعودة إلى الوراء إلى حقبة ما بعد الاستعمار، نص الدستور الجزائري لعام 1963على احترام الجزائر حقوق الإنسان ابتداء من نص المادة 10إلى غاية نص المادة 21، حيث نصت المادة 11، على موافقة الدولة الجزائرية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعلى كل منظمة دولية تتوافق مع طموحات الشعب الجزائري(33).

وجاء ثاني دستور في الجزائر لعام 1976متضمنا دبياجة و199مادة موزعة على ثلاثة أبواب، يحوي الباب الأول 7فصول، تحت عنوان المبادئ الأساسية المنظمة للمجتمع الجزائري، والفصل الرابع من الباب الأول جاء بعنوان حقوق الإنسان والمواطن والحريات الأساسية، تضمن 31مادة، وقد جاء هذا الدستور مؤكدا على مجموع الحقوق الواردة في دستور 1963، إلا أن الملاحظ أنه لم يتبن الإعتراف الصريح بالحق في البيئة، ويرجع ذلك عموما إلى كون الجزائر في هذه الفترة لم تدرج مسألة البيئة ضمن أولوياتها، حيث كانت بحاجة إلى إعادة بناء وهيكلة على جميع المستويات، حيث اعتبرت حماية البيئة ضربا من المناورات الامبريالية لضرب اقتصاديات الدول حديثة الاستقلال والسائرة في طريق النمو، ولكن ما يلاحظ أن دستور 1976جعل من حماية البيئة إحدى اختصاصات المجلس الشعبي الوطني في مجال التشريع34، حيث حجز التشريع الخطوط العريضة لسياسة تهيئة الإقليم والبيئة والنظام العام للغابات والمياه وحماية الثروة الحيوانية والنباتية وذلك في الفقرات من 22إلى 25على التوالي.

ورغم انضمام الجزائري رسميا إلى مصاف الدول المشاركة في قمة الأرض بريودي جانيرو لعام 1992، ومصادقتها على العديد من الاتفاقيات  الدولية المتعلقة بالبيئة، ورغم التحول في المسار الإيديولوجي عام 1989، لم تسجل الجزائر أي اعتراف دستوري صريح بالحق في البيئة في كل من دساتير 89-96-2002-2008، وأسندت مسألة حماية البيئة إلى المجلس الشعبي الوطني لتحديد القواعد العامة في هذا الشأن، وبذلك تكون الجزائر خلال الفترة الممتدة من دستور 63إلى غاية تعديل 2008من طائفة الدول التي أشارت ضمنيا إلى المسألة البيئية، حيث أكد الفقه الجزائري وجود اعتراف ضمني بالحق في البيئة من خلال ارتباط هذا الأخير بعبارة تكررت في دساتير الجزائر " تفتح الإنسان بكل أبعاده"(35)والتي لا يمكن حصرها في الجانب المادي وإنما تتعداه إلى العيش في بيئة لائقة وملائمة، كذلك من خلال الحق في الرعاية الصحية الذي يشمل الوقاية من الأمراض والأوبئة، ومن خلال الحق في الراحة المكرس دستوريا بالحماية من الضجيج المصنف من المضار البيئية.

وعليه تكون الجزائر في هذه الفترة قد اكتفت بحصر عام للقطاعات الكبرى للبيئة(36)، والمتمثلة في القواعد العامة المتعلقة بالبيئة وإطار المعيشة والتهيئة العمرانية والقواعد المتعلقة بحماية الثروة الحيوانية والنباتية والتراث الثقافي والنظام العام للغابات والأراضي الروية والمياه(37).

ــــ نحو اعتراف صريح بالحق الدستوري في البيئة في التعديل الدستوري 2016:

جاء التعديل الدستوري الجزائري لعام 2016ليسجل فارقا في موقف المؤسس الدستوري الجزائري من دسترة الحق في البيئة، فبالرجوع إلى الدبياجة ، نجدها نصت :" يظل الشعب الجزائري متمسكا باختياراته من أجل الحد من الفوارق الاجتماعية والقضاء على أوجه التفاوت الجهوري، ويعمل على بناء اقتصاد منتج وتنافسي في إطار التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة".

وبالرجوع إلى نص المادة 68منه نجدها تؤكد ما ورد في الديباجة بقولها: «للمواطن الحق في بيئة سليمة، تعمل الدولة على الحفاظ على البيئة، يحدد القانون واجبات الأشخاص الطبيعيين والمعنويين لحماية البيئة»(38).

وبخصوص هذه المادة يرى المجلس الدستوري أن الحق المدستر في هذه المادة يتعلق بحقوق الإنسان من الجيل الثالث وهو يخض حماية الموارد الطبيعية والبيئة اللذان يعتبران من الشروط الأساسية للتنمية المستدامة.

وبإلقاء نظرة على هذين النصين، يمكننا تسجيل الملاحظات التالية:

- يكون المؤسس الدستوري قد أكد على العلاقة الوثيقة بين حماية وتكريس الحق في البيئة وبين التأكيد على مسارات التنمية المستدامة، ليضفي بذلك الطابع الإقتصادي لهذا الحق.

-أدرجت نص المادة 68ضمن الفصل الرابع تحت عنوان الحقوق والواجبات مما يفيد رفع هذا الحق إلى مصف الحقوق الأساسية الدستورية القابلة للتنفيذ المباشر.

-لم يكتف المؤسس الدستوري بالتصريح بدسترة الحق في البيئة كحق أساس من حقوق المواطن وإنما الأكثر من ذلك، جعل منه محور حقوق وواجبات تقع على عاتق الدولة ومؤسساتها باتخاذ الإجراءات اللازمة لحمايته وتفعيله وعلى الأشخاص الطبيعيين والمعنويين حمايته.

-الملاحظ على عبارة «يحدد القانون واجبات الأشخاص الطبيعيين والمعنويين لحماية البيئة» إن المؤسس الدستوري اعتبر حماية هذا الحق وحماية محله "البيئة" من عناصر الوظيفة العامة والمرافق العامة حيث منح السلطات العامة صلاحية التدخل من أجل الحفاظ عليها(39).

-                       إن التصريح الدستوري بهذا الحق، يعد في حد ذاته ضمانه قوية له والخطوة الأولى للحماية الفعالة لهذا الأخير نتيجة سمو الحقوق والقواعد الدستورية في مواجهة بقية الحقوق والقواعد القانونية، ليس هذا فقط بل واجب النفاذ في مواجهة كل من المشرع والقاضي والأشخاص العاديين من خلال ضرورة تطبيق نص المادة 68من الدستور الجزائري.

الفرع الثالث: تطبيق الحق الدستوري في البيئة

يمكن القول أن الحق غير القابل للنفاذ قد يصعب اعتباره حقا على الإطلاق وتجدر الإشارة إلى أن أغلب النصوص الدستورية الوطنية لم تخضع للاختبار أمام المحاكم بعد بما في ذلك النصوص الواردة في دساتير الدول الإفريقية التي تم تبينها في العقد الأخير، ومع ذلك يلاحظ أن عددا من المحاكم الإفريقية قد خلصت إلى أن هذه النصوص قابلة للإنفاذ.

أولا: إشكالات معالجة الحق في البيئة في نص دستوري:

ظهرت هذه الإشكاليات عندما بدأت دول أوروبا الشرقية –الخارجة عن الحقبة الشيوعية- في تضمين دساتيرها الوطنية نصوصا تتعلق بالحقوق البيئية(40)وذلك لعلها تلحق بركب دول أوروبا الغربية بعدما عانت نصف قرن من الإهمال المتراكم حيث ثار جدل واسع(41)حول الأثر المترتب على تضمين الدساتير لمثل هذه النصوص، وذلك فيما يتعلق بصعوبة تنفيذ هذا الحق والحقوق المرتبطة به، وذلك أنه في غياب صياغة دقيقة ومحكمة لهذا النص المتضمن الحق البيئي، فإن محاولة إقرار هذا الحق ربما لن تكون أكثر من إعلان عام غير قابل للتنفيذ، بل الأكثر من ذلك أن النص الدستوري القابل للتنفيذ الذاتي سوف يكون بلا قيمة، إذا كانت الدولة تفتقد لهياكل القانونية فعالة لتطبيق هذا النص(42).

تكشف النظرة المقارنة لدساتير الدول المعاصرة إلى ان بعض الدساتير تكون موجزة بينما يكون بعضها الآخر أكثر تفصيلا ومن ثم أكثر طولا، والملاحظ أنه كلما كانت الدساتير أكثر طولا كلما كانت أكثر تفصيلا، وبالتالي تكون الفرصة أكبر لإيراد نصوص أكثر تحديدا وصراحة بشأن مدى الحقوق المكرسة، ومع ذلك، مازال هناك عدد من الدول التي تعتمد على التشريع لتحديد الطبيعة الدقيقة للحقوق والإلتزامات، في الحقيقة محاولة بعض الدساتير أن تتضمن تحديدا لكل الحقوق والإلتزامات أمر من شأنه أن يتهدد الدستور بأن يصبح قصاصه من ورق لا تساوي شيئا في الواقع، ثم إن الوثيقة الدستورية التي يتم صياغتها بطريقة مفصلة بصورة مفرطة تصبح عرضة للتغير، وهذا ما يتنافى مع خصائص الدستور من الديمومة والإستمرارية لفترة طويلة، وفي نفس الوقت محاولة المحافظة على ديمومة الوثيقة الدستورية بايراد نصوص عامة بصورة فضفاصة مبالغ فيها، يؤدي إلى منح حقوق مطلقة غير خاضعة لأي قيود مما يهدد بإلغاء الأثر الإجمالي للدستور.

ثانيا: الطرق المختلفة المتبناة من قبل القضاء لتفسير وتطبيق الحق الدستوري في البيئة

على الرغم من أن الكثير من الدول خاصة الإفريقية لديها نصوص بيئية دستورية فإن هذه النصوص لم يتم تفسيرها إلا في حالات قليلة، ويرجع ذلك ربما إلى الندرة الواضحة في هذا النوع من القضايا نتيجة جدة الموضوعات التي تتناولها مثل هذه النصوص،، وغياب التقاضي المتعلق بالمصلحة العامة في المجال البيئي(43)، وفشل الحكومات في تبني الآليات اللازمة لتطبيق واجباتها الدستورية ولبيان الطرق الممكنة لتطبيق أوجه الحماية الدستورية وتكريس الحق في البيئة، سنحاول إلقاء الضوء على الطرق المتنوعة التي تبناها القضاء في كثير من الدول لتفسير وتطبيق الحق في البيئة.

1ـــ الحق في البيئة:

أيد القضاء في جنوب إفريقيا(Pty) LTd Minister of Health and Welfare V. Woodcardحق وزير الصحة والرفاهية في اللجوء إلى القضاء (الحق في التقاضي أو توافر المصلحة في الدعوى)(44)للحصول على أمر بوقف الإنبعاثات الضارة من أحد المطاحن، معترفا بحق وزير الصحة في هذا المسعى وحقه في الحصول على تعويض أو انصاف عن الأفعال التي شكلت انتهاكا لحق المواطنين في بيئة غير ضارة بالصحة وطيب العيش إنطلاقا من مسؤولياته الإدارية، وأقرت المحكمة أن هذه الانبعاثات غير المرخص بها تشكل مساسا غير مشروع بحق الجيران الدستوري في بيئة صحية.

ويمكن القول إنه من بين الدول التي قامت بتفسير نصوصها البيئية الدستورية، تعد الهند الأكثر خبرة في هذا المجال، حيث تندرج النصوص البيئية في الدستور الهندي لاسيما (A48حماية البيئة، A51(الواجبات الأساسية) في عداد المبادئ المقررة لسياسة الدول، وعلى الرغم من أن تطبيق هذه المبادئ. قد تظافر مع النص المستقل المتعلق بالحق في الحياة فإن مدى هذ الحق البيئي والحقوق البيئية الأخرى قد فسر وطبق في ظروف مختلفة، وتقدم قضية  L. K. Kodwal V. State Of rajasthan.

أحد تطبيقات هذا الحق، حيث قضى بأن الحقوق الدستورية في الصحة وإجراءات الوقاية الصحية، والحماية البيئية، يمكن أن تتعرض للانتهاك نتيجة إجراءات الوقاية الصحية البيئية التي تسفر عن تسمم بطيء للسكان دون حاجة إلى أي إدعاءات إضافية بحدوث ضرر خاص(45)والأكثر من ذلك في قضية أخرى

Rural Litigation Entitlement KendraV. Uttar Pradesh،أثير الحق في البيئة على الرغم من أنه لم يتم إثبات رابطة مباشرة مع الصحة البشرية(46)حيث تمسك المدعي بأن أعمال المناجم غير المرخص بها في منطقة Dehra Dunقد أثرت سلبا على البيئة مما أسفر عن أضرار بيئية، وقد أيدت المحكمة العليا الهندية الحق في العيش في بيئة صحية وأصدرت أمرًا بإيقاف أعمال المناجم محل النزاع، وأصدرت أمرا بإيقاف –أعمال المناجم محل النزاع- على الرغم من المبالغ المالية الكبيرة التي أنفقتها الشركة القائمة بهذه الأعمال.

وتظهر القضايا البيئية الهندية الأخرى أن الحق في البيئة يرتبط بصفة أساسية بالتلوث أكثر من ارتباطه بالصحة، وطبقا لهذا التفسير فإن ضمان ماء وهواء خاليين من التلوث، الذي تشير إليه المحكمة العليا الهندية لا يعني بيئة خالية تماما من التلوث، نظرا لأن الحكم يوجه الدولة إلى اتخاذ خطوات فعالة لحماية الحق في البيئة أكثر من وضع واجب مطلق على عاتق الدولة بتأمين هواء وماء خاليين تماما من التلوث.

وثمة نظرة ثالثة، في الهند تنظر إلى الحق في بيئة صحية باعتباره "حقا في التوازن البيئي" ومن ثم تقرر المحكمة العليا الهندية لدى إصدارها للأمر في أحد القضايا(47)أن نتائج هذا الأمر المتمثل في توجيه مستأجري محاجر الأحجار الكلسية إلى إغلاق هذه المحاجر بصورة دائمة تتجلى في توقف هؤلاء المستأجرين عن أعمال استثمروا فيها مبالغ طائلة، وأنفقوا فيها كثيرا من الجهد والوقت، إلا أن هذا العبء يعد ثمنا يجب دفعه لحماية الحق في البيئة بأقل قدر ممكن من المساس بالتوازن البيئي.

من ناحيتها قامت المحكمة الأوروبية خاصة في الدول التي تأخذ بنظام القانون المدني بتفسير وتطبيق الحق في البيئة الدستوري في طائفة واسعة من السياقات(48)، ففي أول قرار على ما يبدو صدر عن إحدى المحاكم الأوروبية الشرقية، قامت المحكمة المجرية بإلغاء التعديلات الواردة عن قانون التعاونيات الزراعية في قضية الغابات المحمية(49)، وقد استهدفت هذه التعديلات التخصيص المسبق للمناطق المحمية وباعتبارها أرضا يمكن تملكها تملكا خاصا وقد قررت المحكمة أن هذه التعديلات تشكل انتهاكا للحق الدستوري في البيئة، واعتبرت أن مستوى الحماية البيئية يجب أن يكون مرتفعا طبقا للمعايير الموضوعية، وحالما تمنح الدولة مستوى معينا من الحماية البيئية فإنه لا يكون بمقدورها التراجع عن هذا المستوى.

وبعد هذا الحكم، قضت المحكمة الدستورية السلوفينية عام 1996أن المنظمات غير الحكومية (NGOS) والمواطنين يتمتعون بالحق في اللجوء إلى القضاء استنادا إلى الحق الدستوري في بيئة صحية المكرس في م 72من الدستور السلوفيني(50).

وبالمثل طبقت عدد من الدول الأخرى الحق الدستوري في البيئة في عدة قضايا مشابها مثل تركيا وأمريكا اللاتينية، والشيلي والأرجنتين وكوستريكا والبيرو والبرازيل، وقد ذهبت المحكمة الإدارية العليا في مصر إلى أن حق الإنسان في العيش في بيئة صحية أضحى من الحقوق الأساسية التي تتسامى في شأنها وعلو قدرها ومكانتها مع الحقوق الطبيعية الأساسية كالحق في الحياة والمساواة(51).

أما بالنسبة للقاضي الجزائري فإنه مبدئيا يعترف بالحق في البيئة سواء القاضي العادي أو الإداري(52)رغم أن القضاء الجزائري يفتقر إلى النزاعات البيئية(53)، ولكن السؤال يبقى مطروحا هل استند القضاء الجزائري للنص الدستوري في تطبيقه للحق الأساسي للبيئة في القضايا المطروحة أمامه؟؟

 يمكننا القول أنه يصعب القول أن القاضي الجزائري استند إلى النص الدستوري المكرس للحق في البيئة قبل تعديل 2016في غياب كلي صريح لهذا الحق.

2- الواجبات الدستورية البيئية:

تفرض النصوص البيئة الدستورية أيضا واجبات لحماية البيئة إما بشكل صريح أو ضمني، وعلى الرغم من أن الأثر القانوني لمثل هذه الواجبات الدستورية غير واضح(54)فإن المحاكم تعتمد في بعض الحالات على الواجبات الأساسية لتفسير التشريعات الغامضة(55).

يتبين مما سبق أن المحاكم تتجه في كثير من الدول، بصورة متزايدة إلى انفاذ الحق في البيئة المكرس دستوريا، ففي بعض القضايا قامت المحاكم بتطبيق النصوص البيئية الدستورية في وجود نشاط يتهدد البيئة بصفة مباشرة وحياة وأمن الأفراد، كما وسعت المحاكم أوجه الحماية هذه وفي عدد من القضايا تمكن المواطنون وجماعات حماية البيئة من إنفاذ حقهم البيئي في مواجهة انتهاكاته، على الرغم من قلتها في الواقع.

ونشير إلى أنه كل القضايا التي فصل فيها تؤكد على الطبيعة الأساسية للحق الدستوري في البيئة، ومن ثم حتى في الدول التي يكون النص فيها موجود في مقدمة أو ديباجة الدستور، أو مبادئ الدولة، حيث تعتبر مثل هذه النصوص –عادة غير قابلة للتنفيذ-تميل المحاكم في الغالب إلى انفاذ الحقوق البيئية مثالها ما قضت به المحاكم العليا في الهند، نيبال، الفليبين، وبالتالي تكون هذه النصوص الدستورية مكرسة لحقوق قابلة للتنفيذ بواسطة المواطنين أو الجماعات المدافعة عن البيئة.

خــــاتمــــــــة:

من خلال الدراسة السابقة يمكننا تسطير أهم النتائج المتوصل إليها:

1ـــ يعد الحق في البيئة من الحقوق الجديدة اتي واجهت صعوبات قانونية في تكريسها وتجاذبات فقهية بشأن الإعتراف به كحق مستقل ضمن منظومة حقوق الإنسان.

2ـــ يمكننا القول أن الحق في البيئة يعد أسرع الحقوق انتشارا في الدساتير الزطنية، و إن كانت بداياته الأولى دولية ثم تحت دستورية" تشريعية" لقبل أـن يستقر في نصوص دساتير الدول؟

3ـ لم تعد الدساتير المعاصرة تكتفي بالتكريس الدستوري الصريح للحق في البيئة، و لكنها أضحت تنص على طائفة من الحقوق الجوهرية المرتبطة بالحق الموضوعي في البيئة وأصبح  القضاء الوطني يوسع في تفسير بعض الحقوق ضمن السياقات البيئية ليشمل الإقرار بالحق في البيئة كما هو الحال بالنسبة للحق في نوعية الحياة و الحق في الصحة و السلامة الجسدية.

4ـــ زاد الحق الدستوري في البيئة من مستوى الرقابة القضائية على الكثير من جوانب حماية بعض الحقوق الأساسية في سياق الحماية البيئية، كما شكل الحق في البيئة وسيلة لرقابة النشاط التشريعي عند سن قواعد واجراءات تؤثر على نوعية البيئة.

التوصيات: يتعين على المؤسس الدستوري عند صياغته لنص يكرس الحق في البيئة أن يركز على نقطتين: الحقوق التي يكفلها الدستور المرتبطة بالحق في البيئة، والواجبات التي يفرضها لحماية الحق في البيئة مع ضرورة الحرص على انتقاء الصياغات الدقيقة الدالة في مضمونها على جوهر هذا الحق والاثر المترتب عن تكريسه دستوريا، حتى يتكمن القاضي الوطني الذي يجب أن يكون مطلعا باحترافية على المسائل البيئية يتمكن من إنفاذ هذا الحق على أرض الواقع

1. جابر جاد نصار، "حقوق الإنسان في بيئة سليمة"، مجلة اتحاد الجامعات العربية للدراسات والبحوث القانونية، كلية الحقوق، العدد الحادي عشر، أفريل جامعة القاهرة، 2000، ص385.

2إعلان البيئة والتنمية، استوكهولم لعام 1972.

3محمد يوسف علوان، محمد خليل الموسي، القانون الدولي لحقوق الإنسان، الحقوق المحمية، الجزء الثاني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، 2001، ص423.

4المرجع نفسه.

5سعيد سالم الجوبلي، حق الإنسان في البيئة، دار النهضة العربية، مصر، 2001، ص19.

6المرجع نفسه، ص19.

7Anthony chanboredon, Du droit de l’envuronnement au droit à l’environnement : A la recherche d’un juste milieu, L’hrmahan, paris, 2010, p145.

8Ibid, p.146.

9  Ibid, p146.

10Ibid.

11Ibid.

12Ibid.

13وليد محمد الشناوي، مصطفى صلاح الدين عبد السميع هلال، "نحو تكريس دستوري للحق في البيئة في الدستور المصري الجديد"، المؤتمر الدولي الرابع عشر، (مستقل النظام الدستوري للبلاد)، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، ص 04.

14أحمد الحسبان، (النظام الدستوري للحق في البيئة في النظام الدستورية، دراسة تحليلية مقارنة) دراسات، علم الشريعة والقانون، المجلد 38، العدد1، 2001، ص296.

15وليد محمد الشناوي، مصطفى صلاح الدين عبد السميع هلال، المرجع السابق، ص6.

16المرجع نفسه، ص17.

17وليد محمد الشنااوي، الحماية الدستوري للحقوق البيئية، دار الفكر والقانون، المنصورة، 2013، ص ص 25، 26، 27، 28، 29.

18المرجع نفسه.

19وليد محمد الشناوي، المرجع السابق، ص.29.

20المرجع نفسه، ص32.

21المرجع نفسه، ص.33.

22إلا أنه: إذا كان الدستور يعكس القيم الوطنية في الدولة، فإنه من المفيد أن ينص الدستور على الحقوق البيئية الأساسية، وإن لم يكن بمقدروه تحديد كيفية انفاذها.

23Anthony chanboredon, op.cit, p156.

23Ibid, p157.

24وليد محمد الشناوي، الحماية الدستورية للحقوق البيئية، المرجع السابق، ص. 91.

25 محمد محمد عبد اللطيف، (التعديلات الدستورية والبيئة)، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي السنوي الحادي عشر، كلية الحقوق بجماعة المنصورة "الإصلاح الدستوري وأثؤه على التنمية"، في الفترة 2-3 أفريل، المنصورة، 2007، ص ص. 3-4.

26Charte de l’environnement : http://fr.wikipedia.org/wiki/charte-de-l’environnement.

27

28من ذلك على سبيل المثال. ما أبداه المدعون في قضية Juan Antonio Oposa v. Factoran

من أن غطاء الغابات الطبيعية الفلييني يتعرض للدمار بمعدل مثير للقلق متمسكين بحقهم الدستوري في بيئة صحية ومتوازين في ظل المادة 16 من الدستور الفليبيني، وقد انتهت المحكمة العليا الفليبنية إلى تنفيذ حق المدعين مقررة:

«إن حقيقة أن حق المدعين مدرج في إعلان الحقوق والسياسات وليس في إعلان الحقوق، لكن هذا لا يجعل هذا الحق أقل أهمية»، وانتهت المحكمة العليا في نيبال إلى نفس النتيجة بالقول: «على الرغم من أن غاية المبادئ والأهداف قد تبدو بحسب الظاهر غير قابلة للتنفيذ، فإن هذا البند قابل للتنفيذ في حالة عدم مراعاته أو انتهاكه».

29وليد الشناوي، المرجع السابق، ص31.

30 أحمد الحسبان، المرجع السابق،

31وليد شناوي، المرجع السابق، ص ص 123، 124.

32داوود عبد الرازق الباز، "الأساس الدستوري لحماية البيئة من التلوث في الكويت، دراسة تحليلية في إطار المفهوم القانوني للتلوث"، مجلس النشر العلمي، 2003، ص74.

33الدستور الجزائري 1963.

34 دستور الجزائر 1976، الصادر بالأمر رقم 76-97 في 22 نوفمبر 1976 المتضمن الدستور الجزائري المعدل بالقانون رقم 79-06 المؤرخ في 7 جويلية 1979 المتضمن التعديل الدستوري، والقانون 80/01 المؤرخ في 12 جانفي 1980 المتضمن التعديل الدستوري.

35وردت عبارة "تنتج الإنسان بكل أبعاده" في دستور 76 وتكررت في دستور 1989، 1996 وتعديل 2002، 2008.

36طاوس فاطنة، الحق في البيئة السليمة في التشريع الدولي والطني، مذكرة لنيل درجة الماجستير في الحقوق، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة قاصدي مرباح، ورقلة، 2014/2015، ص107.

37المرجع نفسه، ص107.

38القانون 16ــ01 المؤرخ في 06 مارس 2016، المتضمن التعديل الدستوري 2016، ج ر رقم 14، المؤرخة في 07 مارس 2016.

39 زباني نوال، (الحماية الدستورية للحق في البيئة على ضوء تعديل الدستوري الجزائري 2016)، دفاتر السياسة والقانون، العدد15، جوان، 2016، ص.283.

40مصطفى عبد السميع هلال، وليد الشناوي، المرجع السابق، ص07.

41المرجع نفسه، ص.07،08.

42 العشاوي صباح، المسؤولية الدولية عن حماية البيئة،الطبعة الأولى، دار الخلدونية للنشر و التوزيع،الجزائر، 2010، ص.104.

43عارف صالح مخلف، الإدارة البيئية الحماية الإدارية للبيئة، دار اليازوري العلمية للنشر و التوزيع، الأردن، 2009، ص.326.

44Minister of Health & Welfare v. woodcarb (Pty) Ltd, 1995 (2) S A155 (NPD) (discussed in Elmene Bray, Locus Standi : its development in south African Environment Law, in governing the Environment: political change and Natural Resources Management in Eastern and Southern Africa 123, 145-46(H.W.O.1999).

45Hafidha chekir, Droit de l’environnement : introduction génerale, La trach Editions, tunis, 2014, p34.

46Ibid, p02.

47 وليد الشناوي، المرجع السابق، ص93.                                                                                                                                                                                                      

48محمد الشناوي، ص53.

49المرجع نفسه، ص.54.

50في هذه القضية قام 25 فردا وإحدى المنظمات البيئية غير الحكومية بالطعن في دستوريه ومشروعيته إحدى خطط التنمية والتطوير قرب بحيرة (laKe Bled)، وقد خلصت المحكمة «أي مجموعة من الأفراد، تتوافر لديهم المصلحة في منع الأنشطة التي تلحق الضرر البيئي وإن هذه المصلحة ليست مقصورة فقط على البيئة القريبة من المكان الذي يقطنون به، أو فقط على منع الضرر القليل...».

51 وليد محمد الشناوي، مصطفى صلاح الدين عبد السميع هلال، المرجع السابق، ص ص.07ــــــ12.

52 لمزيد من التفصيل راجع، خلاف وردة، "مضمون الحق في البيئة"، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد 21، جامعة سطيف، ديسمبر 2015، ص ص 151،152,

53المرجع نفسه، ص.151.

53Mumbai Kamgar Sabha V. Abdulbhai Faizullabhai, A.I.R.1976 S.C. 1455, 1465 (India).

54تجدر الإشارة إلى أن الواجب الدستوري بحماية البيئة أو بعدم الأضرار بها يقع على عاتق الحكومة وأجزتها المختلفة والأفراد والأشخاص القانونية أو على طائفة متنوعة من هذه الأطراف، بل قد توسع الواجبات الدستورية الموجهة صراحة للمواطنين لتطبق على الدولة، كما قضت بذلك إحدى المحاكم الهندية بأن الواجب الأساسي لحماية البيئة المكرس بالمادة 51A(g) يتسع ليشمل سبب فقط المواطنين ولكن أيضا أجهزة الدولة.

@pour_citer_ce_document

وردة مهني, «التكريس الدستوري للحق في البيئة. دراسة مقارنة على ضوء نص المادة 68 من القانون 16ـ01 المتضمن التعديل الدستوري الجزائري 2016 ـ»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp 23-37,
Date Publication Sur Papier : 2011-09-20,
Date Pulication Electronique : 2018-06-26,
mis a jour le : 11/07/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=3013.