في كسر الحدود بين الفلسفة والأدب والتاريخ أو التفكّر فلسفيا في الذاكرة المجروحة من خلال بول ريكورIn re-establishing the relationship between philosophy, literature, history, or philosophical reflection in the wounded memory Through Paul Ricoeur
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 Vol 16- 2019

في كسر الحدود بين الفلسفة والأدب والتاريخ أو التفكّر فلسفيا في الذاكرة المجروحة من خلال بول ريكور

In re-establishing the relationship between philosophy, literature, history, or philosophical reflection in the wounded memory Through Paul Ricoeur
ص ص 168-180
تاريخ الارسال: 17/09/2018 تاريخ القبول: 24/03/2019

الشريف زروخي
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

 تسعى هذه الدراسة إلى إعادة أشكلة علاقة الفلسفة بالأدب والتاريخ بهدف رسم حدود التفاعل بين هذه الحقول، من أجل التحول بالخطاب الفلسفي من الصرامة الكلاسيكية إلى قضايا اليومي وكل ماهو راهني، بحكم أن الخطاب الفلسفي لم يعد اليوم موجه لنخب بعينها وإنما صار موجها لكل متلقي، وهذا يفرض على المهتم بالشأن الفلسفي أن يستند على فنون أخرى مثل السرد التاريخي والقص الأدبي للاقتراب من بعض الاشكالات الحساسة مثل الذاكرة والهوية، وهو الأمر الذي أشار إليه بول ريكور، لأنه يثق في قدرة الفلسفة على التأسيس لفلسفة الاعتراف وتجاوز آلام الذاكرة المجروحة.

الكلمات المفاتيح: الأدب، السرد، الاعتراف، الذاكرة، الهوية

Cet article vise à re-problématiser la relation entre la philosophie, la littérature et l’histoire aux frontières des interrelations entre ces différents champs d’étude, le discours philosophique étant obligé de sortir de sa forme classique en vigueur pour interagir avec d’autres domaines. Il est donc requis des philosophes d’investir d’autres arts à l’instar du récit historique ou du roman pour appréhender des problématiques sensibles telles l’identité et la mémoire. Cela a été suggéré par Paul Ricœur qui est convaincu du pouvoir de la philosophie d’instituer cette philosophie de la reconnaissance de ses fautes (du mea culpa) et du dépassement les tortures de la mémoire blessée : les récits nous aident à réduire le cercle des conflits d’identité et à créer un espace global et participatif dans lequel toutes les expériences humaines convergent.

Mots clés: Littérature, Récit, Reconnaissance, Mémoire, Identité

This article aims to reconstruct the relationship between philosophy and literature as well as history, because the philosophical discourse is forced to leave its classic form of rigor to interact with other domains. This was confirmed by Paul Ricoeur, who called for the need to reflect on the memory of the wounded in a story. stories help us to reduce the circles of identity conflict and to create a global and participatory space in which all human experiences converge.

Keywords: Literature, Narrative, Recognition, Memory, Identity

Quelques mots à propos de :  الشريف زروخي

جامعة محمد لمين دباغين سطيف2cherifz@outlook.fr

مقدمة

عمدنا في هذه الدراسة من جهة إلى محاولة تفكيك العلاقة بين ثلاثة مفاهيم حساسة نظرا للعلائق الموجودة بينها، وهي: السرد، التاريخ، الهوية، والكشف من جهة ثانية عن شبكة عِلاقتها بما هو فلسفي وذلك من خلال أعمال الفرنسي بول ريكورPaul Ricœur)1 (، الذي عمل على الربط بين التاريخ وإمكانية سرده بطريقة شعرية مستندا إلى المعلم الأول أرسطو(Aristote)"(384ق.م-322ق.م)  بهدف المحافظة على مكانة التاريخ في فضاء العلوم الإنسانية، فقد عمد إلى تبيان العلاقة بين ماهو معيش وماهو مروي، جاعلا من التاريخ مرويا ومن الحياة معاشة، مصرا على ضرورة تطعيم التفسير التاريخي بعملية الفهم الروائي، فكلما كانت أحداث التاريخ واضحة كلما كان بالإمكان روايتها بصورة أفضل. وهكذا قام ريكور بإثارة الأسئلة المصيرية المتعلقة بحقيقة الحياة المأساوية، وهي حياة لا تزال مدانة للذاكرة، والذاكرة لا ينبغي أن توضع طي النسيان، وإنما يجب أن تفعل بطريقة عملية في ظل مقولة التسامح والاعتراف وتحمل المسؤولية أمام الضحايا. ومن عوامل تفعيل الذاكرة السرد.

وربط التاريخ بالسرد والسرد بالرواية يعني فتح الفلسفة على الأعمال الأدبية، ولا شك أنَّ انفتاح الفلسفة على الفنون الأدبية هو ثورة حقيقية في رأينا على الانساق التقليدية التي كانت ترى في الخطاب الفلسفي الصرامة العقلية والمنطقية، كما أنَّ الثورة تكمن في ضرورة الانفتاح على تجارب الآخر المغاير في أفق الايتيقا التي تحدث عنها إيمانويل ليفيناس( Emmanuel Levinas) (1906-1995)، وكلها فنون تلتقي في التجربة الإنسانية كتجربة زمنية، وهنا يكون ريكور قد تجاوز التأويلية الكلاسيكية التي تنسب لديلتاي (Wilhelm Dilthey) (1833-1911) وشلاير ماخر(Schleiermacher) (1768-1834)، بكونها تأويلية قامت على الفصل بين علوم الروح وعلوم المادة من زاوية منهجية وموضوعية، والمعروف عن ديلتاي جعله المعيش موضوعا للتاريخ، ويكون بذلك قد موضع التاريخ في العلوم الإنسانية، من هذا المنطلق حاول ريكور عقد مقارنات بين التاريخ والسرد وبين التاريخ والأسطورة وبين التاريخ والقصة الخيالية، وكل هذه العناصر في حالة تفاعل متبادل ومستمر، فالخيال يكمل النقص في التاريخ، كما أنَّ الأسطورة تساعدنا على عملية إعادة بناء الماضي عبر ربط الأحداث بعضها بالبعض. لذلك نتساءل كيف نفكر فلسفيا مع ريكور في التاريخ؟ وهل الإنساني يتحقق بالمرور عبر المروي والفعل السردي؟ وكيف يمكن للسرد أن يؤسس لهوية منفتحة تقبل بالتعايش مع الآخر المختلف؟ وماذا يعني انفتاح الفلسفة على الأدب والتاريخ؟

أ- من السرد إلى التاريخ: يُعْرًف بول ريكور بفيلسوف التخوم" un philosophe des frontières "2، لأنَّه تمكن من التأسيس لمشروع هيرمينوطيقي عبر فتح الفلسفة على كل حقول المعرفة الإنسانية، إيمانا منه بأنَّ الفكر الفلسفي يحيا بالتواصل ويموت وينتحر بالانغلاق على الذات، ويتحدد مشروع ريكور تحديدا إشكاليا أو موضوعاتيا، لأنَّه فكر خارج النسق على خلاف الرؤية الهيغيلية3 فقد آمن بضرورة التفكير انطلاقا من طروحات مسبقة على طريقة غادمير(Hans-Georg Gadamer ) (1900-2002)، الذي رفض فكرة التخلي عن الأحكام المسبقة في أية عملية تأويلية، بحكم أنَّنا نقرأ انطلاقا من فرضية أنَّ هناك من يتحدث إلينا دائما، والذي يتحدث إلينا ينتمي إلى الماضي لكنه مستمر في حاضرنا، لهذا نبهنا غادمير إلى ضرورة الوعي بأشكال حضور الماضي في الحاضر، وهذا ما يعرف عنده بانصهار الآفاق، أي أننا نحاول التواصل مع التراث بهدف فهم مشكلاتنا اليومية، فكل شيء يحدث في أفق الحاضر( التأويل التاريخي ).4

      وعلى طريقة غادمير جعل ريكور من فلسفته فلسفة فعل (action) تسعى لأشكلة قضايا الإنسان اليومية من: مأساة وألم ويأس وحزن وعدم وموت، وأمل وتوق للسعادة باستمرار، فقد فكر في أفق الوجودية لكنه وظف أدوات التواصلية كما قام بإعادة بناء التجربة البشرية فينومينولوجيا لإعطائها بعدها الإنساني هيرمينوطيقيا. وفكر مع وضد فلاسفة الارتياب مما جعل فلسفته تتميز بالقدرة على النضال في عالم قلق5صار رهينة الرموز، لهذا انتبه ريكور إلى ضرورة تجاوز التمثلات المباشرة التي انحدرت من ديكارت ويحثنا على ضرورة التحول إلى التفكير عبر الوسائط (les médiations).6

وإذا فكرنا مع ريكور فينبغي أن نفكر انطلاقا من المثلث الأنثروبولوجي: الرمز، النص، الفعل، السرد، وتقابلها العبارات التالية "أستطيع"، " أستطيع الكلام، أستطيع الفعل، أستطيع القص، ومن حيث التأسيس يقابلها "نظرية النص" Text Theory)، "نظرية الفعل"( Theory of action)،" نظرية التاريخ "(Theory of history)،وقد عبر عنها ريكور بقوله:" أستطيع الكلام وذلك يعني مراجعة ملف اللغة الضخم، أستطيع الفعل وبذلك راجعت ملف الإرادي والفعل، أستطيع القص وبذلك استعدت الزمن والقص."7 ولاحظنا أنَّ السرد مصطلح مركزي في مشروع ريكور فهو اللحظة الجامعة لكل اللحظات بداية من القدرة على الكلام (اللغة، والتفكير عبر الرموز)، مرورا إلى القدرة على الفعل (في مستوى التجربة المعيشة) وصولا إلى مرحلة الارتقاء بالتجربة إلى مستوى السرد (القص) ليصبح فعل تأريخي في نظره.8

وإذا كان التاريخ علما مستقلا من ناحية موضوعية ومنهجية فهو يهتم بما هو ماضي من أحداث وبما يشكل الذاكرة التي تؤثر باستمرار على رؤيتنا لحاضرنا ولمستقبلنا، والذاكرة موطن الخبرات المملوءة بالمعنى، كما تعد الذاكرة حقلا تلتقي فيه عديد الفنون من: فلسفة، أدب، تاريخ، علم. هذا ما يجعل مادة التاريخ موضوعا للمساءلة الفلسفية مساءلة إبستيمولوجية، رغم أنَّ علماء التاريخ عمدوا إلى توظيف المنهج العلمي لبلوغ الصرامة الموضوعية (ملاحظة، فرضية، تجربة، وصف، تحليل، تفسير)، إلا أنَّ -غادمير في كتابه "الحقيقة والمنهج"(Truth and method)قد عمل على فك الرباط بين المنهج والحقيقة في رده عن "ديلتاي" الذي اعتقد في لحظة تاريخية أنَّ مشكلة العلوم الإنسانية هي مشكلة منهج، ففكر انطلاقا من ذلك في تأسيس منهج (الفهم) كمقابل لـــ(التفسير) من شأنه أن يمكن العلوم الإنسانية من الارتقاء إلى مستوى موضوعية العلوم الطبيعية، لكن كان غادمير يعتقد أنَّ المشكلة ليست مشكلة منهج، بعدّ أنَّ المنهج ليس ضمانا للحقيقة بكونه جملة من القواعد والخطوات التي تؤدي بالباحث إلى بعض النتائج، والنتائج لا يمكن أنّ تكون هي الحقيقة وإنما تأويل لها- وهذا هو البعد الإبستيمولوجي في أطروحة جورج غادمير، وهو البعد الذي لم ينتبه إليه هيدغر لأنه ركز على البعد الأنطولوجي فحسب.9

ومن لحظة غادمير ارتكزت الدراسات على فهم الجانب اللغوي والبعد السردي للوثائق التاريخية، وقدأكد على أهمية اللغة في عملية الفهم عندما يقول: "إنَّ اللغة بالأخرى هي الوسط الكلي الذي يحدث فيه الفهم والفهم يحدث في التأويل".10وكان لأطروحة غادمير تأثير كبير على رؤية ريكور الذي تمكن من الانتباه إلى أهمية البعد اللغوي والسردي في التاريخ، فقرر العمل على تفكيك العلاقة وإعادة بنائها. لأنَّ اللغة ليست مجرد ألفاظ وعبارات وجمل تستعمل للتعبير عن عالم الأشياء فهي كيان قائم بذاته له إمكانات الكشف عن حقيقة الأشياء بطرق متعددة منها السرد.

ويعتقد"أوليفيه ابال" أنَّ السرد قد مكن "بول ريكور" من الانفتاح على الدراسات اللغوية، فعبره "أدرك أنَّه كائن مولود في اللغة"11 وهذا ما دفعه إلى طرح سؤال علاقة السرد بالتاريخ؟ في عمله المتميز " الزمان والسرد: الحبكة والسرد التاريخي"(time and story) الصادر عن دار الكتاب الجديد المتحدة، طبعة 2006، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم. ويعدّ في نظر الكثير من الدارسين المتخصصين  من أهم المنجزات في القرن العشرين، ففيه قام ريكور بالتوليف بين النظرية الأدبية والنظرية التاريخية على أرضية فلسفية، وذلك عبر الدخول في نقاشات مع الكثير من المدارس خاصة البنيوية والتحليلية فسير نقاشات مع "غريماس"(Greimas) وألف كتابا تناول فيه فلسفته في اللسانيات والسيميائية تحت عنوان(la grammaire narrative de Greimas) نشر (1980)، وكما كانت بينهما مناظرة في سنة (1983) بمناسبة ندوة تناولت أعمال "غريماس"، ولكن اعترض ريكور على " غريماس" في أنَّه تحدث عن إمكان وجود مستوى سيميائي سابق على مرحلة التحليل اللساني.12ولم يكتف ريكور باللسانيات وإنَّما حاول الانفتاح على التحليلية التي قدمت بديلا عن المنهج البنيوي (التحليل الصوري).

ب- في البنية الدلالية للسرد: إذا أتينا إلى الدلالات التي يحيل إليها فعل "سَرَدَ" فنجد في اللغة الفرنسية عدة مرادفات منها: NarrationNarratologie، Narrative، (Récit ويعرف السرد في اللغة على أنَّه آلية تعبيرية يتم عبرها تقديم شيء بطريقة متسقة ومنسجمة، فيصير السرد تتابع للأثر.13 وقد ورد في معجم ابن منظور أنَّ السرد هو المتتابع والمسرد هو اللسان.14 والمعنى نفسه يأخذه في المعجم الوسيط فيأتي بمعنى التتابع في عملية سرد الشيء، فنقول سرد الماضي أي تتبع سيرورته من ناحية كرونولوجية. وسرد الحديث يعني تابعه في أسلوب جيد.15 ويحيلنا السرد في اللغة إلى عملية تتابع في الزمان، أي مراعاة أولوية وقوع الأحداث. أما علم السرد(narratology)"، أو السرديات هو مصطلح اقترحه الفرنسي"تودوروف (Todorov) (1939-2017) كعلم جديد، يعني علم الحكي، ويهتم علم السرد بدراسة السرد من حيث كونه خطـــــابا (Discours) أو نصاTexte)) أو شكلا من أشـــــكال التعبير، في حين تدرس السردية(narrativity) تحليل الحكاية بوصفها نمط تمثيل القصص تمثيلا خياليا.

والســـــرد هو العملية الـــــتي يتم فيها نقل الوقائع (الأحداث) أو تحويلها في قالب لغوي شفــــهي (تـــأويل) أو كتابي (تثبيت) من شخص أو مجموعة، ولقد حاول " جون ميشال آدم"(Jean- Michel Adam) في أعماله المتميزة: (السرد Le récit)، و(عناصر اللسانيان النصية) (Eléments de linguistique textuelle, théorie et pratique de l’analyse textuelle)، تحديد الأنماط الكبرى للخطاب وهي: النمط الوصفي، النمط الإنشائي، النمط البرهاني، النمط السردي. والنمط السردي يتكون من" السارد (narrator) وهو بمثابة "صوت الرواية"، و"المسرود له (narratee ) وهو متلقى الخطاب السردي ومن دونه يفقد السرد معناه، فالسرد يفترض دائما الآخر (الغير) أو المتلقي.16 في حين النص عبارة عن بنية حجاجية وحوارية ووصفية تشكلها مجموعة من المقاطع تكون أحيانا في حالة تجانس نمطي (الوحدة النصية)، وتفتقد في بعض الأحيان لعامل التجانس فيغلب عليها الاضطراب، ويمكننا قراءة وتأويل وتحليل النص عبر المقطع فهو بوابة المعنى، لأنَّ النص عبارة عن وحدة دلالية.17

ولكي يتوجه السارد بخطابه(نصه) للآخر (المتلقي) عليه أن يمتلك كل مفاتح اللغة وهذا ما أشار اليه "إميل بنيفنيست (Émile Benveniste ) بقوله:" في اللحظة التي يقرر السارد فيها الحديث ويمسك بمفاتح اللغة، يستحضر (يتصور) الآخر (المتلقي) أمامه مهما كانت درجة حضوره، لأنَّ كل حديث (سرد) يستوجب مخاطبا له (متلقي) ومسرد نص ما، إنها عملية تستوجب سارد ومسرود له."18 أما عند ريكور فالسرد عملية يتم فيها:"تنظيم المختلف وإضفاء عليه الانسجام، فهو سيرورة من الاختلاف نحو الانسجام (Differentiation process) من خلال آلية توزيع وتنظيم الأحداث، والأفعال، والعواطف، ليصير فعل إدماج integration)  ( procesلوقائع وأفعال ومشاعر ومواقف، لأنَّ السرد ليس مجرد وسيلة للتعبير عن الدلالة، وعن آراء بقدر ماهو الدلالة عينها".19

وللسرد وظيفتان (الجمع/ الدمج)، فالسرد نوع من الدلالة لأنه هو الأحداث، وهناك الخطاب الشعري الذي يتناول اللغة بوصفها أفكارا مجردة عن الزمان. هذا في عمله (la métaphore vive) وهو عمل ترجمه إلى العربية مؤخرا "جورج زيناتي" 2016 بعنوان (الاستعارة الحية)، أما الخطاب السردي Narrative speech) (تناول اللغة بوصفها أفعالا متتابعة في الزمان، وهو ما وضحه في "الزمان والسرد Time and story "، والسرد هو منهج يعتمده كل من: الراوي، القاص، الحاكي، في عملية نقل معنى خبرة إنسانية من مستواها الفردي الخاص إلى مستواها الجماعي فتصبح موضع مشاركة، ويستعمل ريكور السرد بكل هذه المعاني.

ج- السرد والهوية: يؤكد ريكور على دور الجانب السردي والقصصي في تشكيل هوية الفرد والجماعة، فالسرد هو احدى العوامل المساعدة على تمظهر الذات وانوجادها في التاريخ، بكون الحياة تجربة نعيشها ولا نرويها أما الروايات فتحكى ولا تعاش، وفعل السرد فعل مركب حيث يصعب وضع حدود بين الحياة والوجود والتاريخ، نظرا لتدخل عنصر الخيال، الذي يربط بين عناصر التجربة في الزمان ويضفي عليها الانسجام، كما أنَّ الخيال هو نوع من الفهم السابق عن الفعل السردي الذي يبث الحياة في الذاكرة ويعمل على تفعيلها.

والسرد ماهو إلا محاولة لإعادة بناء التجربة الحياتية، وفعل البناء يقترب من مفهوم إعادة الإنتاج la reproduction) (عند بيار بورديو(Pierre Bourdieu)(1930-2002) بذلك أنّ فعل الإبداع تعبير عن تفاعل بين "عالم النص وعالم القارئ"،20ويجعل ريكور من فعل القراءة الفعل التأسيسي ويعده اللحظة الفاصلة في العملية التحليلية، لأنها في رأيه اللحظة التي تعبر عن قدرة القارئ على إعادة سرد حياته وإعادة بناء تجربته ومشاركتها مع الغير. وهنا نكون أمام ما يطلق عليه غادمير بانصهار الآفاق (The fusion of horizons)، ونقصد بذلك أفق القارئ الذي ينتمي إلى واقع معين(الحاضر) وأفق النص الذي ينتمي إلى سياقات مختلفة(الماضي)، إنه انصهار الماضي في الحاضر بهدف فهم ما يجري انطلاقا من تجارب لم تفقد معناها بعد، لأنَّ المعنى هو الذي يمكنني مشاركته مع غيري، أما التجربة فخاصة بي.

من هذا المنطلق قدم ريكور السرد (le récit) على أنه فعل من أفعال الوعي الإرادي كفعل النطق والكتابة، مقسما السرد إلى قسمين: الأول يتعلق بفن القص كما هو في الأعمال الأدبية، والثاني متعلق بطريقة رواية الأحداث التاريخية، وكلاهما يشترك في صفة الزمانية ( (temporalityأو التزمن، وهي صفة طبيعية لهذه التجارب، ومن هذا المنطلق ميز بين نوعين من الزمانية: فهناك زمانية الوجود في العالم مع الآخرين، وزمانية عميقة مرتبطة بإشكالية الموت والأبدية. وقد أدرك ريكور أهمية الزمن في تكوين المعنى الرمزي الموجود في الأعمال الفنية والأدبية والنصوص الدينية، والذي يتم الكشف عنه بفعل التأويل Interpretation)21) وهذا ما يجعل من تجربة الإنسان التي يعيشها ويحكيها ويسردها تجربة تجري في الزمن، والزمن الإنساني زمن سردي، يقول: "إنَّ الزمن يصير زمنا إنسانيا كلما كان متفصلا بصيغة سردية، وفي المقابل فإنَّ القصة تبلغ مدى دلالتها حين ترسم سمات التجربة الإنسانية".22

لكن الزمان ليس أمرا موضوعيا سهل الفهم، فبقدر ما يقودنا إلى مشكلات لا حل لها، فإنه يحتوينا دون معرفتنا للكيفية، وكل محاولات فهمه تصطدم بصعوبات جديدة، ولتجاوز تلك العراقيل قدم ريكور مفاهيم عدة للزمان مركزا على مفهومين، ومنطلقا من تجربة أوغسطين(Saint Augustin)(354-430م) في اعترافاته،23 ومن أعمال "أرسطو" الذي حدد أكثر من مفهوم للزمان، فهناك المفهوم المادي الفيزيائي الطبيعي وفيه ربط الزمان بالحركة، كما يوجد الزمان الكوني الكوزمولوجي وهو زمان خاص بالعلماء وتجاربهم في الكون، وفي ظل الكثرة المفهومية تساءل ريكور عن إمكانية ردم الهوة بين الزمن البشري والزمن الكوزمولوجي؟

يعتقد ريكور أنَّ الإنسان يستطيع الجمع بين الزمنيين وذلك عبر إعادة صياغة تجربة حياته في حكاية يرويها (يسردها) وهذا هو الابداع الخلاق في صورته الشعرية، ولا يوجد سرد دون حبكة أو عقدة، وهي في جوهرها صياغة أو تصوير (configuration (  نطلق من التنافر والمبهم، والتصوير يعني القدرة على إعادة ترتيب كل العناصر التي تأتينا من العالم الخارجي بتدخل ملكة الخيال، والخيال يمكننا من ابداع عوالم مختلفة ومتنوعة بطريقة لامتناهية،24 وما إدخال عنصر الخيال إلا رد على السيميائيين الذين اكتفوا بدراسة بنية العمل الأدبي في أنساق، مهملين القوة الإبداعية للفعل التصويري، بالرغم من كونها جوهر التجربة الأدبية (أدبية الأدب) و(شاعرية الشعر) وهو ما يدعوه ريكور بالمحاكاة الثانية التي تمثل وضعا وسطا بين العالم الخارجي المحيط بنا وتقديمه لغيرنا في صورة مغايرة، عن طريق السرد التاريخي الذي يمثل محاولة في البحث عن الحقيقة وهي مهمة المؤرخ.

وإذا كانت المدرسة التاريخية الفرنسية الجديدة (الحوليات) غيبت الحدث فإنَّ ريكور قد عاد للحدث التاريخي وعمل على الربط بينه وبين الحبكة والقصص، لأنَّ التاريخ عمل شامل ومتكامل يمر بمراحل ثلاث، وهي المراحل التي تقوم عليها علاقة السرد بالزمان (زمن معاش مباشرة بالممارسة، زمن الحبكة والعقدة والتصوير الإبداعي، وزمن تلقي العمل الإبداعي وعيشه من القارئ)، وأهم شيء هو العمل الديناميكي لعملية الصياغة، وهي اللحظة النقدية في عمل المؤرخ، وهذا التماثل بين التجربة الأدبية والتجربة التاريخية يبقي التاريخ ضمن دائرة السرد، كما تحافظ على البعد التاريخي نفسه.25 والملاحظ أنَّ ريكور عمل على إعادة الاعتبار للتاريخ التقليدي السابق عن الحوليات وهو تاريخ قائم على سرد الوقائع والأحداث التاريخية. وقد تمكن من تطبيق القراءة الفلسفية على تصوير الزمن في السرد القصصي فانتقل من التاريخ إلى الرواية العالمية، إيمانا منه بأنَّ انقاذ حياتنا من المأساة يكون عبر إعادة قراءة الأساطير الكبرى والنصوص التأسيسية لأنها تتضمن إجابات عن أسئلة مصيرية.

وقد تناول ريكور مفهوم الزمان في ثلاث روايات عالمية مختلفة وهي:(رواية انجليزية، ألمانية، فر نسية)، الأولى "ميسز دالواي( Mrs Dalloway) للكاتبة الأنجليزية (فرجينيا وولف)، وفيها حاولت الكاتبة السفر عبر السرد داخل وخارج أذهان الشخصيات لكي تشكل صورة متكاملة عن مجتمع مابعد الحرب العالمية الأولى، والثانية "الجبل السحري"( Der Zauberberg)  للالماني "توماس مان"، وتناول فيها الكاتب قضية الزمن وعلاقته بحياة الناس، كما تحدث عن فقدان الإنسان الاحساس بالزمن الطبيعي ليفكر في الزمن الأبدي في حالة تعرضه للمرض وشعوره بالموت، فهي رواية تناقش مسألة الزمن من زاوية فلسفية، أما الرواية الثالثة فهي رواية للفرنسي"مارسيل بروست" (بحثًا عن الزمن المفقود"  (À la recherche du temps perdu) وفيها اكتشف أن الراوي أكثر حرية من المؤرخ، فعن طريق الروايات الأدبية يمكن استعادة الزمن الضائع، لأنَّ الأدب يمثل ماهو خارج عن الزمان، والزمن المستعاد هو احتواء الزمن الضائع في الزمان الخارج عن الزمن، لكن تبقى هناك مسافة بينهما.26 وهكذا فتح ريكور الفلسفة على الأعمال الأدبية.

وللدخول إلى عالم الأدب اضطر ريكور إلى مناقشة علاقة الزمن الروائي الخاص بالأساطير والحكايات والأعمال الأدبية والنصوص الدينية، قائلا:" إنَّ الاتهام زماني والزمان هو زمن الاتهام."،27 هكذا حاول ريكور تجاوز مباشرية ديكارت التي تطابق بين الذات والموضوع، في عملية تأسيسها للحقيقة على مبدأ الوضوح والبداهة الحدسية واستبدالها بفكرة الاتهام (the suspicion )28 داعيا إلى ضرورة الانطلاق من الأعمال الأدبية لأنها تعبر عن عمق التجربة الإنسانية وتنوعها. لأنَّ القصص التي تروى يعاد عيشها بفعل التخيل، وهنا تكمن قدرة اللغة في تعبيرها عن الأزمنة الثلاثة كتجربة معاشة. مما يعني أنَّ:" الحقيقة الأهم للتجربة غير قابلة للتبليغ...أو بالأحرى لا يمكن أن تكون إلا من خلال الكتابة" الأدبية"،29ودعوة ريكور إلى التفكر عبر الوسائط لا يعني أنه يتنكر لفلسفة ديكارت والقيمة المضافة التي أضافها ديكارت للإنسانية يقول: "لا ريب أننا مدينون للفلسفة الديكارتية في الكوجيتو ولمقالة التفكر عند جون لوك" بالدفعة الحاسمة في اتجاه ما أدعو إلى تسميته تأويلية للأنية. بهذه المثابة فإنَّ حدوث الكوجيتو الديكارتي يمثل حدث الفكر الأكبر الذي شأننا بعده أن نفكر على نحو آخر والذي يجد تفكر الذات نفسه مرفوعا إلى هيئة صناعية لا سابق لها. "30، إنَّنا مدينون للقدامى في كل شيء خاصة فيما تعلق بالمنعطفات الكبرى في تاريخ البشرية.

وفعلا عاد ريكور إلى "أرسطو للتأكيد على دور فعل الحكي في حياتنا، لأنَّ أرسطو كان يرى في الأعمال الأدبية محاكاة لأفعال الإنسان، وبالمحاكاة يحصل فهم تلك الأفعال، والمحاكاة في علاقة مع الأسطورةmyth)) ، لأنَّ الإنسان إما يحاكي أفعالا مشابهة وقعت فعلا أو يحاكي أفعالا وأشياء يتخيلها كما وقعت في الأسطورة، وتحت تأثير أرسطو وصل ريكور إلى القول: "إنَّ أي تأويل مهم، ما كان يمكنه أن يكون من غير أن يستعير من طرق الفهم المتوفرة في عصر من العصور: الأسطورة، والمجاز، والاستعارة، والقياس، (وقد جاءنا هذا المعنى) من ارسطو. وإنه لمما يثير الدهشة بالفعل أن نجد عند أرسطو أن الهيرمينوطيقا لا تتحدد بالمجاز، ولكنها كل خطاب دال. ويمكن القول أكثر من ذلك، إنَّ الخطاب الدال تأويل، وهو الذي يؤول "الواقع"، وذلك بما أنه يقول (شيئا عن شيء) وإذا كان ثمة تأويل، فذلك لأن التعبير يعد استحواذا واقعيا بواسطة التعابير الدالة"31 لكن يدعو ريكور إلى نزع الأسطرة) Demythologization) متأثرا في ذلك بالألماني بولتمان، الذي حاول نزع الأسطرة عن الأساطير العبرية (الإسرائيلية)، والتعامل مع الأسطورة على أنها خطاب لغوي له بنية رمزية، ودائما اللغة هي الوسيط بين الإنسان والأشياء.

واللغة غير المباشرة هي التي تستطيع أن تفصح عن حقائق الأشياء ومكنوناتها، وتتجلى في التراجيديا من غناء ومسرح، وتشمل ستة أقسام (الحبكة، الشخصيات، التعبير، الفكرة المحورية، العرض، الغناء)، كما تتجلى في الكوميديا والقصص الملحمية، وكل هذه الأشكال تمتاز بالديناميكية في نظر ريكور، أما "أفلاطون"(Plato)(347ق.م-427ق.م)" فتحدث عن المحاكاة من الدرجة الثانية. ومفهوم المحاكاة يقابله مفهوم الشاعرية عند ريكور فهو الآخر يتميز بالحركية والجمال. ويرى ريكور أنَّ الأسطورة في تداخلها مع المحاكاة تعد بمثابة مجموعة من الأحداث أو الأفعال المرتبة وفقا لنظام معين يمكن أن يوظف كل المفاهيم المتعلقة بالشاعرية، لأنَّ الأسطورة عمل يتم بناؤه من خلال ترتيب الأفعال المكونة لها، وهذا ما يجعلها تتشابك والمحاكاة إلى درجة الحبكة، والأسطورة هي إما تعبير عن تجارب ومنجزات ثقافية لمجتمع ما وإما هي تعبير عن رؤية ذلك المجتمع للمستقبل.

ويذهب ريكور في حديثه عن السرد التاريخي إلى اعتبار التاريخ عبارة عن سرد لتسلسل الأفعال الإنسانية كما حدثت في الزمان الماضي، والعمل على الكشف عن مدلولاتها بالنسبة إلى الحاضر الذي نعيشه، وفي إطار الكشف عن الدلالات التاريخية وفهم سيرورتها يمكن أن نوظفها لمعرفة المستقبل، ويستند ريكور على مقاربة أوغسطين للزمان كما رأينا وهي مقاربة تختلف عن مقاربة هيدجر يقول:" إنَّ مقاربة هيدجر استفزازية تماما خصوصا وأنها عكس مقاربة أغسطين تضع التشديد الرئيسي على المستقبل وليس على الحاضر، مازلنا نذكر تصريحات مؤلف كتاب الاعترافات: هناك حاضر ثلاثي، حاضر الماضي وهو الذاكرة، وحاضر المستقبل وهو التوقع، وحاضر الحاضر وهو الحدس أو الانتباه، وهذا الحاضر الثلاثي هو المبدأ المنظم للزمانية، ففيه يحصل التفتح الحميم الذي يسميه أغسطين انتشار النفس والذي يجعل من الزمن البشري الصورة الناقصة للأبدية الإلهية، التي هي هنا الحاضر الأبدي".32

ويعتقد ريكور أنَّ الفعل السردي هو الذي يجعل من الزمن إنسانيا أو ذا قيمة إنسانية، ففي السرد يتم التأليف بين المتنافر ليصير متجانسا له بعدا أنطولوجيا،33 وهذا بتوسط الإنسان النص والتاريخ.

أراد ريكور الربط بين التاريخ وإمكانية سرده لكي لا يفقد ميزته في فضاء العلوم الإنسانية، مؤكدا على علاقة المروي بالتجربة الإنسانية المعاشة، هذه العلاقة هي نفسها العلاقة بين التاريخ والقدرة على سرده، وقيمة التحليل السردي تكمن في الولوج إلى عالم اللغة والعمل على اكتشاف إمكاناتها التعبيرية والتواصلية والتبليغية، كما أنَّ اللغة ليست مجرد نسق رمزي أو بنية رمزية بقدر ما هي خلاصة تجربة إنسانية تاريخية،34 لهذا السبب ينبغي فهم التاريخ من خلال الرواية كفن من فنون اللغة أو توضيح التاريخ من خلال الرواية، وهذا ما يجعل السرد عند ريكور مصدرا من مصادر المعرفة بالذات وبالعالم، وعليه فالنص السردي ينطوي على أفق التجربة المعاشة، وارتباط معناها بالماضي وبأفق التوقع واتجاه صوب المستقبل.35

أما المفهوم الذي يقدمه أوغسطين حول الزمان فمختلف تماما، يقول:" من الخطأ أن نقول بوجود ثلاثة أزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل وقد يكون الأصح أن نقول: في الكون أزمنة ثلاثة حاضر الماضي وحاضر الحاضر وحاضر المستقبل، فحاضر الأشياء الماضية هو الذاكرة وحاضر الأشياء الحاضرة هو الرؤية المباشرة وحاضر الأشياء المستقبلية هو الترقب (التوقع)."36 لكن ريكور يعتقد أنَّ الإنسان عبر الخطاب السردي يعيد بناء تجربته الزمانية بغية تملكها ومعايشتها من جديد مع الغير، لهذا كل من يعتقد بوجود رواية خارج الزمن أو الأزمنة فهو مخطئ.37 ويعود ريكور إلى فيلسوف الديمومة (duration ) الذي رفض الانقطاع في الزمن مؤكدا على الاتصال بين الأبعاد الثلاثة للزمان، يقول برغسون:" إنَّ الملاحظة البسيطة تثبت لنا أنه في  أعماق ذاتنا توجد ذاكرة هي امتداد الماضي في الحاضر، وهي دائما وأخيرا ديمومة"38.وعودة ريكور إلى برغسون كانت بهدف الوقوف على دور الذاكرة في الاعتراف بالذات، وقد استند ريكور إلى كتاب"المادة والذاكرة" للوقوف على كيفية تمثل الحاضر لأشياء غائبة تنتمي إلى الماضي ومحاولة التعرف على التجارب الزمنية والوقوف على معناها، يقول:"كيف لحاضر ما أن يمكن له أن يصير ماضيا إنَّ لم يكن قد تكون ماضيا في نفس الوقت الذي كان فيه حاضرا؟ هي ذي المفارقة الكبرى للذاكرة، فالماضي إنما هو "معاصر" للحاضر الذي كانه".39

د- موقف من التراث: محاولة في التخفيف من عنف الهوية: حديث ريكور عن الزمان هو حديث بكيفية ما عن ضرورة العودة إلى التراث وإعادة تفعيله عن طريق إعادة تأويله، لأنَّ التراث في نظر ريكور يستغرق أجيالا، لذلك يجب الوعي بقيمة التراث وعدم الاستهتار بما أنتجه القدامى، فلابد من التواصل معهم وعدم تجاهلهم، كما لا يجب التعامل مع التراث على أنه مكتمل وغير قابل للتغيير، فينبغي الانفتاح على الماضي وإعادة بنائه بتفعيل ممكناته التي لم تفعل، لأنَّ علاقتنا بالماضي هي علاقة تحويل للمعنى والمعنى في حالة ترحال دائم. وهذا -المركب: ماضي، ذاكرة، تاريخ، سرد- كان من أهم دوافع السؤال عند ريكور، ولقد تساءل عن معنى تاريخ الماضي؟ الذي لا يأبى أن يصير ماضي؟ وهذا السؤال في جوهره فلسفي لا علمي، لكون الماضي غير قابل للتجربة؟

والماضي لا يمكن أن يمضي طالما لم ننفتح عليه بالنقد كفاية، لأنَّ النقد التاريخي يمكننا من تصفية حساباتنا مع الذاكرة المثقلة بالآلام والجراح والتي لا تزال تحرك فينا الحقد والكراهية اتجاه الآخر واتجاه بعضنا البعض، ويمكننا أن نستثمر في أطروحة ريكور المتعلقة بالذاكرة والماضي للتأسيس لثقافة التعايش عبر مقولة الاعتراف والغفران والتسامح،- الاستعمار الفرنسي للجزائر- والنقد التاريخي يفيد ضرورة الاعتراف وتحمل المسؤولية.40 ولا يعني انكار دور القدامى وإحالتهم للنسيان بقدر ما يعني إعادة بناء معنى تجاربهم والاستناد عليها في فهم معاناة الحاضر، من هنا آمن ريكور بالسرديات وبالمرويات الكبرى بكونها تراث غني بالمعنى على عكس " فرنسوا ليوتار"( Jean-François Lyotard) الذي تعرض بالنقد للمرويات والسرديات الكبرى، معلنا موتها وانتقال البشرية إلى ميتاقصة، ومعتبرا الحداثة هروب من السرديات الكبرى، لكن الحداثة لم تفكر إلا عبر أسطورة العقل في تصور ريكور ولم تتمكن من إلغاء التراث.41

ويتميز التراث عند ريكور بكونه بنية تواصلية، وداخل البنية قد تحدث انقطاعا وأزمات وانشقاقات، مما يعني ضرورة التواصل مع التراث تواصلا نقديا أو عبر التأويل النقدي، لأنَّ التراث يغذي المخيلة لكي تندفع نحو الإبداع، والإبداع يحتاج إلى أرضية اجتماعية، مما يعني أنَّ التراث الذي يجب أن نتواصل معه هو تراث النصوص الدينية أو تراث اللغة، الذي يمكننا من التواصل مع تاريخ المعاناة، تاريخ العنف الذي يجب مقاومته بتاريخ السلام. ويحذرنا ريكور من الهوية السردية، فيقول:" لهذه الهوية السردية أفخاخها، ولها عاداتها وتعسفاتها. كما لها رسومها الكاريكاتيرية. وذلك كما نرى على سلم الشعب والأمم. حيث تستعمل عربونا للخوف، وللحقد وللعنف، وللهدم الذاتي".42

وللتخفيف من عنف الهوية السردية( Narrative identity ) ربط ريكور التاريخ بالرواية، جاعلا التاريخ جنسا من الأجناس الأدبية، وكلاهما يعبر عن عمق الخبرة الإنسانية، لهذا يعتبر –ريكور- التأويل قد بدأ أولا في فضاء التاريخ والعلوم الإنسانية، يقول:" إنَّ الهيرمينوطيقا ليست تفكيرا حول علوم الروح، ولكنها توضيح للأرضية الأنطولوجية التي على أساسها تستطيع أن تبني تلك العلوم"،43 ويؤكد ريكور على أنَّ الطريق لا يزال طويلا للعودة من مستوى الابستيمولوجيا إلى مستوى الأسس الأنطولوجية، ومن الأسس الأنطولوجية إلى إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية، ولأنَّ اللغة هي الوسيط فلابد من تأويل الرموز والنصوص والعلامات، بكون: "النقد الفلسفي لا يستسلم للوهم والذي يفضل أن يخترق المعضلة، المأزق: النهاية".44

وفي عقده لمقارنة بين التاريخ والأسطورة يشير ريكور إلى أنَّ التاريخ يعبر عن أشياء حقيقية وقعت في الماضي أما الأسطورة فتتناول أشياء غير حقيقية ولكن تبقى الأسطورة مهمة للمهتم بالتاريخ، لأنها تغطي النص الذي يصيب التاريخ بوصفه علما. ويعتمد التاريخ على الأسطورة في إعادة بناء الماضي، لاعتمادها على الخيال في ربط الحوادث بعضها بالبعض في إطار ابستيمولوجيا التاريخ أو ما يسميه ريكور بواجب الذاكرة، أو بواجب عدم النسيان. فــــ"الذاكرة ليست شيئا دون السرد. والسرد ليس شيئا دون الاستماع"،45والمقصود بعدم النسيان طلب الاعتراف من ضحايا الجرائم التاريخية الكبرى، والعودة إلى الماضي يعني مراجعة احتمالاته وممكناته، ويصبح الماضي، أو التراث هو الآخر الذي يؤسس هوية الأنا ومن ثم نكون أمام مثاقفة تاريخية.46

إنَّ إقرار ريكور بأنَّ التأويل قد بدأ في التاريخ والعلوم الإنسانية يعني أنَّ الإنسان قد صار كائنا تاريخانيا، لتصبح مهمة التأويل بحث علاقة المعنى بالذات عبر الفهم الانطولوجي أو عبر الوسائط اللغوية. والتاريخ الفلسفي للعالم كما يتصوره "هيغل" لا يقصد به مجموعة من التأملات حول التاريخ (الماضي) وإنما هو "تاريخ العالم نفسه".47إلا أنَّ ريكور رفض موقف مدرسة الحوليات التي نادت بأن يظل التاريخ علما، كما رفض موقف السرديين الذين نادوا بأن يبقى التاريخ مجموعة من القصص بعيدا عن العلم.

ومدرسة الحوليات في نظر ريكور أهملت السرد والثانية (المدرسة السردية) افتتنت به، ولم يقبل بالحل الذي اقترحه "ميشال دوسارتو"(Michel de Certeau)، الذي قدم حلا وسطا وذلك بأن يظل التاريخ ولكن بوجهين، وجه سردي ووجه علمي، في حين يرى ريكور أنَّ التاريخ سرد غير أنه من نوع مختلف، وسردية التاريخ لا تلقي وظيفته المزدوجة ليصير التاريخ معرفة علمية، فالتاريخ يقدم لنا حقائق حول الماضي. فهو سردي لأنه نتاج تشابك جملة من الوظائف والملكات، ووظيفته تكمن في تنسيق ودمج الأضداد وبذلك يكون علم وسرد.48

ونحن ندرك أنَّ مدرسة الحوليات بزعامة "مارك بلوخ"(Marc Bloch) و"لوسيان فيبر"Lucien) Fabert) و"فرنان بروديل"( Fernand Braudel)، وغيرهم، قد اهتمت بالعمل على تحويل التاريخ إلى علم، وأنْ يتحول التاريخ إلى علم يكفي أن يتخلى عن طابعه القصصي، كما نجد "ميشال فوكو" هو الآخر يلح على ضرورة ابتعاد التاريخ عن الأسطورة، وعن كل ماهو قصصي وروائي وخيالي، ولقد أعلن "فوكو" عن قتله للأسطورة في التاريخ، لكنه لم يقتل التاريخ، بل قتل التاريخ كما يفهمه الفلاسفة، لأنَّ التاريخ عنده لا يمكن أن يكون تأريخا لحياة الملوك والمعارك، بل ينبغي أن يكون تأريخا للحقيقة. من هذا المنطلق أكد "بول ريكور" على ضرورة إعادة:" تحليل تمثلاتنا بطريقة نقدية..... وبواسطة عمل الذاكرة الذي يشفي من التخيل المزيف يتعلق الأمر بإعادة نهر المخيال هذا إلى مجراه، وعدم تركه يفيض".49

ويعد "بروديل" في مدرسة الحوليات من المدافعين عن التاريخ بمعناه الكلي (الأبعاد الإنسانية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الثقافية)، مؤكدا على أنَّ التاريخ هو الذي يصنع الناس وليس الناس من يصنعون تاريخهم، كما هو عند "ماركس" فنجده -بروديل-يقول:" إنَّ الاقتصاديات تتغير ببطء فلدينا متسع من الوقت كاف لدراستها ...فبتحولها البطيء ترسم تأريخا عميقا للعالم".50وهو يتحدث عن زمن بطيء وزمن سريع إلى جانب زمن قصير وزمن طويل، والتاريخ الحقيقي في علاقة جدلية مع الجغرافيا، وبهذا انتقل التاريخ من مستوى السرد إلى مستوى المعرفة العلمية عندما يتحدث عن الاقتصاد والمجتمع.51 لكن ريكور عمل على ربط الفعل السردي بالتجربة الأخلاقية يقول:"ليست تجربة الزمن فقط هي التي "أعيد تصويرها" هكذا بوساطة التصوير السردي، ولكن التجربة الأخلاقية، وذلك تحت علامة ما يسمى فيما بعد الحكمة العملية."52

كما عمل بول ريكور على توسعة دائرة السرد لتشمل المفاهيم التي تشكل النص الديني وهي غالبا ماتقدم في شكل سردي، مثل "الشر"، "الخطيئة"، الإثم" "العقاب". وركز من جهة ثانية على الأسطورة في النص الديني بعدّها طبقة رمزية مهمة. لأنها تخبرنا عن أصل الشر كما تمكننا من معرفة مراحل تشكل عقيدة الخطيئة الأولى، يقول عن المنهج الذي اعتمده في دراسة رمزية الشر." إنَّ قضية الإرادة الشريرة والشر قد أرغمتني على إتمام منهج ظاهراتية الوصف الجوهري باستخدام منهج هيرمينوطيقا التأويل المستعار من تقاليد أخرى غير ظاهراتية هوسرل إنه منهج الفلسفة التقليدية لتفسير النصوص المقدسة".53 ومن خلال قراءته التراجعية إلى الخلف يكشف لنا على أنَّ المسيحية غيرت موقع المأساة، لأنها انقذت الإنسان وتم اصلاح الخطيئة.

لكن الخلاص يظل يعيد المأساة باستمرار في التاريخ، والتاريخية عند ريكور تستدعي الزمان للتفكير في الوجود، ولا يقصد الوجود الفردي بل الوجود في العالم ومع الآخرين (هوية منفتحة) بكل ما يحمل من دلالات. والوجود مع الآخرين يقتضي تأويل الحياة في:"ضوء القصص التي يرويها الناس عنها؟ ألا تصبح قصص الحياة نفسها أكثر معقولية حين يطبق عليها الإنسان النماذج السردية، (أو الحبكات) المستمدة من التاريخ والخيال (مثل مسرحية أو رواية)؟ يبدو أنَّ الوضع المعرفي (الإبستيمولوجي) للسيرة الذاتية يؤكد هذا الحدث ويثبته"،54إنَّ الفعل السردي يمكننا من بناء الهوية كما هو شأن الشخصيات في التاريخ، فعن طريق القص والحكي تتشكل الهوية السردية ويتم التفاعل معها بكونها تجربة حياتية لها معنى، مما يعني أنَّ الهوية الذاتية تتشكل بعد عملية الانعطاف التي تقوم بها على المنتوج الثقافي والرمزي الذي تلتقيه في الحياة اليومية، والوسائط السردية تساعد الذات على تشكيل الوعي بذاتها عبر تأويل تجربتها تأويلا سرديا بمساعدة الخيال.

والفهم الذي يمر عبر الوسائط استفاده ريكور من فلاسفة الارتياب وبعض فلاسفة الدين والتيولوجيا أمثال:"مرسيا إلياد" و"رولان بارت" و"بولتمان". وماحديث ريكور عن التأويل السردي للحياة إلاَّ تأكيد على ضرورة الانفتاح على تجارب الآخرين والتواصل معهم، فينبغي الانصات للمغاير لأنه سبيل معرفة الذات، والآخر ينتمي إلى كل الأزمنة حتى أولئك الذين ينتمون إلى الذاكرة أمثال: "أفلاطون"  و"أرسطو" و"أوغسطين"، فهؤلاء يمكنهم إمدادنا برؤى تساعدنا على فهم ذواتنا في العالم، والعودة إلى القدامى في نظر ريكور: "هي عودة إلى منابع الوعي بالذات على شاكلة الاعتراف بالمسؤولية تكون فيه هذه الذات ضمير الكلام والفعل، الهوية أو الأنية (Soi,Self,Selbst) التي من شأن الجميع والتي هي أخص الأشياء فينا وأسبقها إلى أحوال النفس والفؤاد وتصاريف الإدراك والإحساس."55 لهذا تحدث ريكور على واجب الذاكرة( the duty of memory ) قائلا: "أن تحيا بالنسيان، أو تتذكر، تكتب، تحكي، لكن أن تكون ممنوعا من الحياة،لأن الموت المتجاوز سيكون الواقع الحقيقي ويكون الموت حلما ووهما".56

إنَّ حقيقة الذات لا تنكشف إلا عبر الانصات للآخر الذي يملك رؤية مغايرة عن الوجود، واللقاء مع المختلف هو سر حيوية الحياة، ويمكن الالتقاء مع الآخر من خلال عالم القصة والرواية والحكاية، لأنَّ هذه الفنون الأدبية ماهي إلا نصوصا يمكن للذات أن تدرك نفسها عبر تأويلها تأويلا هيرمينوطيقيا، كما أنَّ الحكايات والقصص هي تعبير عن واقع بشري معين، ودور المؤول هو اكتشاف البعد الإنساني حتى في تلك الحكايات المغرقة في الخيال، لهذا يدعونا ريكور إلى ضرورة الانتباه إلى تلك الحكايات الشعبية والأساطير الاجتماعية التي تسكن الهامش، فهو على خلاف البنيوية التي لا تلتفت إلى خارج النص وتنظر للنص على أنه بنية مغلقة، لأنَّ المعنى في حالة ترحال دائم، ويجعل ريكور من التاريخ مجالا خصبا للحكايات والقصص، يقول:" الحياة لا تفهم إلا بالحكايات التي نرويها عنها"57وعبر الحكايات تنتقل التجارب الإنسانية في الزمن ويمكن مشاركتها مع الغير وهنا تكمن قيمة السرد.

وقد تناول ريكور دور التاريخ في كتابه المتميز "التاريخ والحقيقة" (History and truth) وفيه تعرض لسؤال علاقة الأنا بالآخر؟ كما تعرض للهوية السردية في كتابه "سيرة الاعتراف" ( Course of recognition, three studies ) وقام بوضع الهوية السردية ضمن ما يسميه فينومينولوجيا الإنسان القادر، يقول:" فالهوية الشخصية، وعلى هذه الشاكلة التفكرية "للسرد الذاتي"، تطلق بوصفها هوية سردية".58وإشكالية الإنسان القادر تتميز بكونها في علاقة مباشرة بالإنسان المتكلم والإنسان الفاعل، وهذه العناصر هي التي تشكل الحلقة السردية والتي تكتمل صورتها بتعبيرات سيميوطيقية، ويربط ريكور الجانب السيميوطيقي بفن الشعر عند أرسطو بكون:"أرسطو، صاغ، لدى حديثه عن الملحمة والمأساة، مفهومه عن "الخرافة" (muthos) التي تهدف إلى "محاكاة" (mimèsis) الفعل. فبناء الحبكة يعطي تشكيلا معقولا إلى مجموع غير متجانس مؤلف من مقاصد وأسباب ومصادفات، أما ما يحصل عنه من وحدة معنوية فتقوم على توازن ديناميكي بين مقتضى للتوافق وقبول للخلافات هما الذان يضعان إلى نهاية السرد هذه الهوية التي من جنس خاص موضعا خطرا، كذلك قوة التوحيد وقد طبقت بهذه المثابة على التشتت الاستطرادي للسرد فغنها ليست شيئا غير "الشعر" نفسه".59فالحبكة من هذا المنطلق مرتبطة بالجوانب الأخلاقية للشخصيات كما أنها مرتبطة بالأفعال، وهذا ما يجعل من الشخصية مقولة سردية وموضوع الحبكة في آن واحد.

ولتوضيح العلاقة عاد ريكور إلى مورفولوجيا القصة لــــــ"فلاديمير بروب" (Vladimir propp)، لأنَّ بروب عمل على التمييز بين الوظائف مميزا بين الشخصية وأفعالها لتصبح الحكاية تسلسلا لجملة من الوظائف، كما عاد إلى "ياوس" ( H.R.Jauss ) الذي جعل القصة والحبكة من بين العوامل المساعدة على تعرف الذات على نفسها، يقول ريكور:"أن نتعلم "السرد الذاتي" فإن ذلك هو ما يستفاد من اكتساب نقدي. أن نتعلم السرد الذاتي يعني أن نتعلم أيضا السرد للذات غيرا."60

وعبارة "غيرا" في نظر ريكور تثير إشكالية كبرى تتعلق بالهوية الشخصية التي تملك القدرة على السرد للآخر وللنفس، والإشكال يتعلق بالبعد الزماني للأنية وحتى بالفعل، وهنا يرتد كل شيء إلى الذات من: نطق وقدرة وفعل، ويجري كل ذلك في الديمومة التي تجعل الفعل السردي فعلا تاريخيا وأدبيا وفلسفيا، وعليه فالقدرة على استجماع الحياة في صورة سردية هي التي تجعل للحياة معنى أخلاقيا، لكن ريكور يربط سؤال الهوية السردية بسؤال الذاكرة الجماعية؟ لأنَّ هناك جدلا كبيرا بين الهوية الذاتية وهوية الغير على مستوى الممارسات، يقول:" ففي محنة المواجهة مع الغير، لدى الفرد أو الجماعة، تكشف الهوية السردية عن هشاشتها. أما الأضرار التي تشهد على هشاشة الهوية الشخصية أو الجماعية فليست بالواهمة أصلا: إذ أنه من الملحوظ أنَّ إيديولوجيات السلطة تعمل، بنجاح محير، على التلاعب بهذه الهويات الهشة عبر الوسائط الرمزية للفعل"61يشير ريكور إلى أنَّ السلطة المهيمنة تلجأ إلى التلاعب بالرأسمال الرمز ي عبر إثارة قضايا هوياتية وهمية وهذا أخطر ما في الأمر.

لهدا ينبغي إعادة النظر في الذاكرة الجماعية وتصفية الحسابات مع الماضي، يقول ريكور:"ليس أمامنا أفضل من الذاكرة كي نؤكد أنَّ شيئا قد وقع قبل أن تشكل عنه ذكرى نحفظها، ولنقل منذ الآن إنَّ كتابة التاريخ نفسها لن تنجح في زحزحة الاقتناع الذي يتعرض للسخرية باستمرار ولكنه باستمرار يؤكد من جديد، وهو أنَّ المرجع الأخير للذاكرة يبقى الماضي مهما كان معنى ماضوية الماضي".62إذا لما نتحدث عن علاقة السرد بالتاريخ فإننا نتحدث عن علاقتنا بالذاكرة المثقلة بالآلام والجراح، لكنها رغم انتمائها للماضي إلا أنها لا تزال تؤثر في رؤيتنا للحاضر وفي تصورنا للمستقبل، وللتخفيف من ثقل الذاكرة ينبغي إعادة بنائها كأحداث عبر الفعل السردي الذي يسمح للغير مشاركتنا معنى تجاربنا ومعنى معاناتنا وحتى أحلامنا.

إذن من خلال تتبعنا لعلاقة الفلسفة بالأدب وبالتاريخ اكتشفنا أنَّ الغاية من محاولة فتح الخطاب الفلسفي على الخطاب الأدبي في أفق تاريخي أو سردي يندرج في محاولة التفكير فلسفيا في الذاكرة المجروحة والتقليل من دائرة الأحقاد المتوارثة ومن ثمة البحث عن مكان محايد يمكن أن تلتقي فيه البشرية بسلام، لهذا سنقوم بتلخيص ما جاء في دراستنا في نقاط مركزة وهي بمثابة خاتمة لما قدماناه.

خاتمة

- عبر السرد التاريخي نتمكن من إعادة بناء التجارب الماضية واستخلاص معانيها لكي تكون سندا لفهم الواقع، لأن الماضي أو التراث هو ذلك المستمر فينا وعن طريق السرد نعي أشكال حضور الماضي في الحاضر وإدراك المسافة التي تفصلنا عنه.

- عن طريق الفعل السردي نتمكن من التأليف بين عناصر متنافرة ومتناقضة في عملية بناء حادثة تاريخية لكي تبدو متكاملة، والفعل السردي هو نوع من التحليل أو العقلنة.

- السرد ضروري لكي لا يتم نسيان التاريخ المأساوي أو تاريخ أولئك الذين ضحوا من أجل أن نستمر في الحياة ونتقدم في التاريخ، فهو نوع من الاعتراف بمنجزاتهم ووفاء لتضحياتهم.

- السرد منهج تأويلي يمكننا من استنباط العبر من تجارب الماضين، فينبغي أن نتعامل مع التاريخ وتجارب الماضي على أنها بنية رمزية تحتاج إلى تأويل بهدف اكتشاف معانيها والبحث عن علاقتها بحاضرنا، كما أن التاريخ له علاقة بالزمن لأن التجربة الإنسانية تجربة زمنية تعبر عن هوية مجتمع أو أمة ما في لحظة تاريخية.

- ضرورة فتح الخطاب التاريخي على مختلف الفنون الأدبية وعلى الابستيمولوجية الفلسفية لكي يتمكن القارئ من تأويل الماضي وربطه بالحاضر، والانفتاح على التاريخ بالسرد هدفه الوقوف عند الأحداث الكبرى التي حدثت في الماضي مثل المحرقة والحربين العالميتين والاستعمار لكيلا نعيد الأخطاء نفسها أو نكررها. فعبر السرد الروائي يمكن مواجهة المشكلات الكبرى التي لا تزال تنتمي إلى الماضي مثل أزمة الهوية والشرعية السياسية والشرعية الدولية

الهوامش

1. بول ريكور(1913-2005) فيلسوف فرنسي ولد بمدينة فالنس Valence)) من رواد المدرسة التأويلية المعاصرة، يعرف بفيلسوف التخوم لأنه تمكن من التواصل مع كل التخصصات العلمية، وآمن بضرورة انفتاح الفلسفة على كل الفنون والعلوم، مما صعب مهمة تصنيف فلسفته لأنها فلسفة موضوعاتية، فقد تواصلمع وجودية غبريال مارسيل وياسبرز، وهيدجر ومع ظاهراتية إدموند هوسرل ومع تيولوجيا رولان بارت، وكما فكر مع وضد فلاسفة ا"لارتياب، فرويد، ماركس، نيتشه،" أظف إلى ذلك عمل على تأسيس هيرمينوطيقا منفتحة تجتمع فيها كل المناهج من: فينومينولوجيا، تأويل، تفسير، فهم، تحليل نفسي، تفكيك، أنتروبولوجيا، النقد التاريخي، وكان من نقاد العلمانية الفرنسية داعيا إلى تأسيس علمانية ثالثة قادرة على استيعاب التنوع والاختلاف العقدي والثقافي، علمانية تتموضع في أفق كوني.

 

2.Charles Taylor, septembre 2000, Une philosophie sans frontières, Magazine littéraire, N°390, p32

3. Paul Ricœur, 1988, philosophie de la volonté, Paris, 2ème édition, p18.

4.-Op.Cit, p19.

5. -F.Dosse, 1997, Paul Ricœur le sens d’une vie, la Découverte, Paris, p05.

6.- Greich. Kearny, 1991, Paul Ricœur ou les métamorphoses de la raison herméneutique, cerf, p10

7. - بول ريكور، المسيرة الفلسفــــية، حوار فرنسوا إزوالد، ترجمة محمد ميلاد، ضمن كتاب مسارات فلسفية، دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، 2004، ص183.

8.- Paul Ricœur, 2006, capabilies and rights, In. Transforming, Unjust, Structures (the capability approach)، Netherlands, Editions Springer, p16-23.

9. - هانز جورج غادمير، الحقيقة والمنهج، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا للطباعة والنشر، ط1، 2007، ص264.

10.                     - المرجع نفسه، ص265.

11.                      - بول ريكور، حي حتى الموت، ترجمة وتقديم عمارة ناصر، منشورات ضفاف، بيروت، ط1،2016، ص24.

12.                     - سعد بنكراد: السيميائيات والتأويل (مدخل لسيميائيات بيرس)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء بيروت، 2005، ص166.

13.                      - الخليل بن أحمد الفر اهدي كتاب العين (معجم لغوي تراثي)، تحقيق داود سلوم، وآخرون، مكتبة لبنان ناشرن، بيروت، 2004، ص360.

14.                      - ابن منظور: لسان العرب، م2، تحقيق عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005، ص604.

15.                      - ابراهيم مصطفى وآخرون: المعجم الوسيط، ج1، المكتبة الاسلامية، تركيا، ط2، 1972، ص426.

16.                                          - Jean. Michel Adam. 1984. Le récit. Paris.  Editions. P.U.F. 2eme édition. p10/11.

17.                                           - Jean- Michel Adam, 1990, Eléments de linguistique textuelle, théorie et pratique de l’analyse textuelle, Luxembourg, pierre Madriaga, p51.

18.                                          - Emile Benveniste, 1974, Problèmes de linguistique général, Paris, Tom P, Editions Gallimard, p81-82.

19.                                           - Andrée Parente. 2005. Cinéma et narrativité. France. ED. L’harmattan. p39.40.

20.                     - بول ريكور، الوجود والزمان، مصدر سابق، ص46.

21.                                          - Michael Foessel et Favien Lamauche, Mars2007, Paul Ricœur, Textes choisis (Anthologie) ,2dition du Seuil, p13.

22.                                        - Paul Ricœur, temps et récit, op cit, p17.

23.                                         - Ibid, p33.

24.                                         - Paul Ricœur, temps et récit, op cit, p188

25.                                         - Ibid, p27

26.                                         - Ibid, p285.

27.                     - بول ريكور: الذاكرة التاريخ النسيان، ترجمة جورج ويناتي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط1، 2009، ص 512.

28.                                         - Greich. Kearny, Paul Ricœur ou les métamorphoses de la raison herméneutique, op.cit, p09.

29.                     - بول ريكور، حي حتى الموت، مصدر سابق، ص53.

30.                     - بول ريكور، سيرة الاعتراف، مصدر سابق، ص133-134.

31.                      - بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية،ت منذر عياشي،دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت،ط1 ،2005، ص34.

32.                     - بول ريكور، الذاكرة التاريخ النسيان، مصدر سابق، ص 514.

33.                                          - Paul Ricœur, 1989, Du texte à l'action. Essai d herméneutique, Seuil. p14.

34.                                          - Paul Ricœur, 1975, la Métaphore vive, Paris, Seuil, p30.

35.                                          - Paul Ricœur, Du texte à l'action, op cit. p14-.15

36.                     - أوغسطين، اعترافات أوغسطينوس، ترجمة الحواري يوحنا الحلو، دار المشرق بيروت، ط3، 1986، ص254.

37.                     - جورج زيناتي، رحلات داخل الفلسفة الغربية، دار المنتخب العربي، بيروت، 1993، ص159.

38.                                          - Henri Bergson. 1959. L’évolution créatrice. Paris. Ed. Presses Universitaires de France. p22

39.                     - بول ريكور، سيرة الاعتراف، مصدر سابق، ص169.

40.                     - بول ريكور، انتظر النهضة، ترجمة هاشم صالح، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت، ع64/65، 1999، ص50/51.

41.                                           - Jonathan Rée1991, Narrative and philosophical experience, In, on Paul Ricoeur, Narrative and interpretation, London, New York, Ed, Routledge, p76/78.

42.                     - بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، مصدر سابق، ص17.

43.                                          - Paul Ricœur, Du texte à l'action, op cit, p99.

44.                     - بول ريكور، حي حتى الموت، مصدر سابق، ص16.

45.                     - أوليفيه ابال، من كتاب بول ريكور، حي حتى الموت، مصدر سابق، ص53.

46.                                          - Paul Ricœur, Du texte à l'action, op cit.19

47.                     - جورج ويلهلم فريديريك هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ (العقل في التاريخ)، ج1، ترجمة امام عبد الفتاح إمام، دار التنوير بيروت، ط2، 2005، ص67.

48.                     - بول ريكور، حي حتى الموت، المصدر السابق، 15

49.                     - بول ريكور، حي حتى الموت، المصدر السابق، 15-16.

50.                     - فرنان بروديل، الزمن العالمي، ترجمة فارس غضوب، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الانماء القومي بيروت، ع37،1985/1986، ص48.

51.                     -المرجع نفسه، ص51.

52.                     - بول ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، مصدر سابق، ص 21

53.                     - المصدر نفسه، ص14.

54.                     - بول ريكور، الوجود والزمان والسرد، مصدر سابق، ص264.

55.                     - بول ريكور، سيرة الاعتراف، ثلاث دراسات، ترجمة فتحي إنقزو، مراجعة محمد محجوب، دار سيناترا، تونس، ط1، 2010، ص20.

56.                     - بول ريكور، الحياة حتى الموت، مصدر سابق، ص45.

57.                     - بول ريكور، الوجود والزمان والسرد، مصدر سابق، ص53.

58.                     - بول ريكور، سيرة الاعتراف، المصدر السابق، ص143.

59.- المصدر نفسه، ص143.

60.- المصدر نفسه، ص144.

61.-- المصدر نفسه، ص147-148.

62.بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مصدر سابق، ص35.

@pour_citer_ce_document

الشريف زروخي, «في كسر الحدود بين الفلسفة والأدب والتاريخ أو التفكّر فلسفيا في الذاكرة المجروحة من خلال بول ريكور»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 168-180,
Date Publication Sur Papier : 2019-04-11,
Date Pulication Electronique : 2019-04-11,
mis a jour le : 11/04/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=5513.