تجليات الاغتراب في الشعر الجزائري المعاصرThe manifestations of alienation in contemporary Algerian poetry
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°03 Vol 16- 2019

تجليات الاغتراب في الشعر الجزائري المعاصر

The manifestations of alienation in contemporary Algerian poetry
ص ص 175-185
تاريخ الإرسال: 2018-04-10 تاريخ القبول: 2019-09-24

أحمد العياضي
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

لقد تعددت مفاهيم الإغتراب، وتضاربت حوله الآراء، لكن يمكننا الإجماع، على أنه؛شعور وإحساس إنساني يعيشه الفرد، فيعاني عذابا وألما، وتبرما من الحياة، نتيجة تمزقه بين واقع غليظ مأساوي وذات تتطلع إلى المثالية. وهذه الظاهرة(الاغتراب)، لا يمكن تحديدها، إلا من خلال رؤى الشعراء واتجاهاتهم ومذاهبهم، ويعود إلى عوامل ذاتية موضوعية، وعوامل روحية ومادية، متداخلة تداخلا معقدا، إلى حد تصبح عملية فرز الأسباب الرئيسية عن الثانوية، في تحديد المؤثرات من أشق العمليات التحليلية

الكلمات المفاتيح: الظاهرة، المؤثرات، اللغة، الأسلوب، العوالم

Le concept d'aliénation a varié à bien des égards, mais le consensus peut être défini comme un sentiment et un sentiment humain dans lequel l'individu vit, souffrant de douleur et de souffrance de la vie, parce qu'il est déchiré entre une réalité tragique et une vision idéaliste. Les visions, les attitudes et les croyances des poètes, en raison de facteurs subjectifs et objectifs, de facteurs spirituels et matériels, de chevaucEst si chevauchement si complexe que le processus de tri des principales causes de la secondaireisation détermine les effets des processus analytiques les plus rigoureux

Mots-clés : phénomène, influences, langage, style, mondes

The concepts of alienation have multiplied, and opinions have been mixed around, but consensus can be understood as a human feeling and feeling experienced by agony and pain, and torn apart by a torn, tragic and idealistic reality. This phenomenon can be determined only through the visions of the poets and their attitudes and doctrines, and due to subjective, objective factors, spiritual factors and material, which are so intricately overlapping that the process of sorting out the main causes of secondaryization determines the effects of the most rigorous analytical processes

Keywords: phenomenon, influences, language, style, worlds

Quelques mots à propos de :  أحمد العياضي

جامعة محمد لمين دباغين سطيف2ahmedlahyadi@yahoo.com

مقدمة

  إن الاغتراب شعور إنساني يتعلق بالنفس البشرية، فهو ضارب الجذور منذ أن وجد الإنسان، لكن الشعور يختلف من عصر إلى آخر، ويبرز أكثر كلما زادت الحياة الإنسانية تعقيدا. وهو ظاهرة فردية يعيشها الشاعر نتيجة؛ ظروف ومعطيات اجتماعية عبر عنها الشعراء بمفاهيم مختلفة، حسب؛ الرؤية الإيديولوجية لكل شاعر، ومرجعيته الثقافية، وتكوينه الشخصي، ومنطلقه في تفسير الظواهر وتقويمها. إن الاغتراب لا يحدد إلا من خلال رؤى الشعراء واتجاهاتهم ومذاهبهم، ويعود إلى عوامل ذاتية وموضوعية، وعوامل مادية وروحية متداخلة تداخلا معقدا، إلى حد تصبح فيه عملية فرز الأسباب الرئيسية عن الثانوية في تحديد المؤثرات من أشق العمليات التحليلية.

   ونجد هذه الظاهرة عند الشعراء الجزائريين المعاصرين، الذين حاولوا تمثيل الواقع واستيعابه، فحدث تحول في الخطاب الشعري، الذي أخذ شكل الرفض والتصدي والانفصال عن الواقع في زمن الحرية، وهذا نتيجة عيشهم في دوامة الصراعات والمخاضات العسيرة، فيتعمق الإحساس، ويزداد الانفعال والقلق والتأزم، تعزفها الألحان على وتر الاغتراب.

  إنّ المفاهيم المتشبعة للاغتراب متنوعة ومختلفة، ولكننا لن نعنى إلا بما له صلة بالنصوص الشعرية، لذلك نجد أنفسنا مسوقين إلى شمولية المصطلح، وانسحابه على الغربة والضياع، والاستلاب .... لأن النصوص الشعرية التي نسائلها تحتوي على هذا الاتساع في المفهوم.

فنقرأ للشاعر مصطفى الغماري:

                                    تتثاقل الأيام في أعماقنا

                                    كسلى... ويطوينا الفراغ المطبق

                                   ونلوك من سأم الحديث قشوره

                                   ونظل نوغل في الحديث...ننمق

                                  صور كما يهوى الفراغ ثقيلة

                                  أيامنا... ليلا ينز... فنزهق (1)

   إن المقطوعة الشعرية، في جملتها فعلية الكلمات والتراكيب، وهذا يدل على مدى التوتر والانفعال الداخلي الذي يعاني منهما الشاعر، مما جعل النص الشعري يتسم بالطابع الدرامي، وتوالي الأفعال بهذا الكم، وهيمنت (فعل المضارع) المعادل للزمن الحاضر، تؤكد خضوع الحدث والرؤية لسياقه، والذي يلفت نظرنا أساسا، ليس التوالي الكمي للأفعال، وإنما التوالي الكيفي، فالفعل في هذا المستوى الدرامي، هو الذي يقود الحركة، وهي حركة متطورة، ومتجددة، إذ لا تعبر الأفعال عن الانتقال من حركة إلى حركة منقطعة، وإنما تعبر عن علاقة طردية بين الحركات، حيث تكون اللاحقة نتيجة للحركة السابقة.

   وتتجه أغلب الألفاظ والتراكيب، باتجاه أسطورة الفراغ، فتتجلى الذات المبدعة، وهي في حالة جمود وركود، وضعف وعجز، وعدم القدرة على المقاومة...إنه التحول الحاد، وأكثر ما يؤرق الشاعر، ويعمق مأساته، هو خضوعه لهذا التحول، واحساسه بأن الزمن قد طلبه، فأدركه، فقد انصرم الزمن الذي كان فيه الشاعر، يملك إرادة الفعل، فاستسلم لزمن اليأس والعجز والفراغ... وهذه الحالة النفسية المتوترة والمنفعلة، دفعت بالشاعر إلى الانكفاء على ذاته، منفصلا، مغتربا عن واقعه ووجوده.

   إن الأفعال والألفاظ والتراكيب، هي تقريبا من الكلم القريب، يعرفها القارئ البسيط، لكنها في التجربة الشعرية خرجت عن المألوف إلى؛ الإيحاء والهمس، ويبلغ هذا الإيحاء ذروته في توتر شعوري حاد، ولقد قيل<< إن التوتر الداخلي، من العوامل الفعالة في نشوء التجربة والرغبة في التعبير عن التوتر الذي ينشأ من الألم، والذي ينبثق بدوره من عدم الإنسجام بين الإنسان والعالم، وهذا التوتر قدم لنا شخصيات على درجة كبيرة من الإبداع>>(2).

  إن المقطوعة الشعرية، تصب في (أسطورة الفراغ)، نتيجة جبروت الزمن، الذي جعل الشاعر ينظر إليه، وكأنه قد تسمر، حيث" الأيام والليالي" سيان في الدلالة (الثقل، البطء، الطول، التعب، الإرهاق....)، إنها ترسم ظلالا مختلفة، ولكنها متكاملة، وقد أحدثت هذه الظلال نوعا من التماسك الشعوري في النص الشعري، فالدلالات كلها تقريبا، توحي وتهمس وتصب في" أسطورة الفراغ" حيث اليأس والعجز، وعدم القدرة على المقاومة، والإستسلام....

   إن الإحساس بالتناهي في مواجهة الزمان اللا متناهي، متراكب مع الإحساس، بأن الحياة تتمثل في الفعل الذي يريد أن يحققه في حياته، وألا يموت قبل أن يحققه<< فكل شيء يتحول بفعل الزمن، ولكن الإنسان أكثر الموجودات قابلة للتحول، وخضوعه لقوانين الزمن الصارمة، فوجوده مرهون بميقات، ومرهون كذلك بفنائه وتلاشيه، ويبدو الزمن دائما، مهيمنا وقويا. >>(3)

  إن الواقع الاجتماعي، وقيمه الوضعية كما ــ يراها الشاعرــــ هي مبعث فراره واغترابه في دائرة أسطورة الفراغ باعتبارها طريق النجاة، حيث يرى "هيجل" << من يقصر مفهومه عن ذاته على ذاته الخاصة، يبتعد بدوره عن البنية الاجتماعية، وإن كان ذلك يتم في اتجاه آخر، إنه يسعى إلى تطوير طبيعته الخاصة وشخصيته، إلى تأكيد استقلاله بأقصى صور الكمال الممكنة في هذا العالم، على حساب وحدته مع البنية، ويغفل كليته الجوهرية>> (4).

    إن الزمان مع الإنسان يتصف بالذاتية والموضوعية، كما يتصف بأنه بان من ناحية، وهادم من ناحية أخرى من خلاله تنمو حياة الإنسان وترتقي، ومن خلاله أيضا تنحدر وتتدهور، وما حدث للشاعر نتيجة تسمر الزمن ـــــ حسب رؤيته ــــ إنما صورة تعكس مدى الشعور بالألم، والمرارة، ومدى قسوة الواقع، وسيطرته وتحكمه في مصير الأحياء والحياة. وهذا الشعور الحاد والتوتر والتأزم والإنفعال المتأجج، أملته إيديولوجيته وفكره وثقافته التي لا تتوافق بقدر ما تتعارض وتتناقض مع مجريات الواقع، مما جعله يعيش في براثن أسطورة الفراغ من (عجز، وضعف، ركود، وجمود، عدم القدرة على المقاومة، فاستسلام) فاغتراب في البنية الاجتماعية.

  ويقف الشاعر عبد العالي رزاقي، موقف الوطني الرافض لأوضاع وطنه ومأساة شعبه، فيتألم ويتعذب، إنه ضائع في عالم الشقاء، غارق في بحر الأحلام، وحيد يواجه كيد الزمان، فيقول:

                                         أدور...أدور

                                         في خلجات أيامي الشقية... والزمان

                                         وحيدا...

                                         أرتمي في لجة الأحزان

                                         في دوامة التخمين  

                                         وحيدا...

                                         في عقارب ساعة عمياء

                                         أغتال الدقائق والثواني

                                         ألم الصمت

                                         أمضغه

                                        وأبحر في عباب الصفر(5).

    فالرؤية المحورية عند الشاعر، وجدانية مأساوية، يعبر من خلالها عن شيء أبعد منها، هي رؤيته الخاصة لمأساة وطنه وشعبه. والبدء بالحديث عن الحاضر بفعل المضارع (أدور)، دلالة على؛ أهميته بالنسبة للشاعر وبالتالي لجمهوره المتلقي، الذي يريد أن يصدّر له موقفه، ثم تتوالى الأفعال المضارعة في النص، وجاءت كلها بصيغة المتكلم:( أدور، أرتمي، أغتال، أشرب، ألمّ، أمضغ، أبحر) إذ أنها تؤطر الحدث في زمن الحاضر، كما تدل على أن هناك حوارا داخليا محتدما، وإن كانت تداعياته لم تقض على الذات المبدعة، إلا أنها أسلمتها إلى حالة من الشعور: بالتيه والتشرد، واليأس والعجز، والضياع والإستسلام، وهذا يوحي أن الحالة النفسية للذات الشاعرة جد متأزمة وفي قمة الإنفعال الحاد، مما جعلها تفضل الإبحار في أسطورة الفراغ، والإنكفاء على الذات، عائمة في دوامة الإنفصال والإغتراب عن البنية الإجتماعية.

   فالنص الشعري، عبارة عن صور جزئية، وهذه الصور مجتمعة فيما بينها تتفاعل وتتكامل، لتصوير مأساة الشاعر. ومن هنا تتأكد أهمية المخيلة في إبداع الصورة الشعرية، فيشكل الشاعر << نمطا غريبا من الكلمات غير قابل للإعادة، وتكون كل كلمة موضوعا، بقدر ما هي إشارة، وتستعمل بصورة لا يمكن لأية منظومة أن تتنبأ بها.>>(6)

   إن الذات المبدعة، لم تهتد إلى الطريق الصحيح، بل إنسان بلا هدف، ضيع الطريق، وفقد الدليل في دروب تبدو مسالكها وعرة، ومزروعة بالحواجز، حيث يُكرر فعل(أدور)، فهو دوران وليس انطلاقا، وهذا الدوران ملحف بالحزن والأسى والتيه والضياع... فلم تفتح له نافذة الضوء لينطلق، وهي تمثل محورا أساسيا في النص، لأنها تحتوي الحاضر كله في ذاكرة الشاعر، ولها دلالة العجز والاستسلام... وبذلك فإن التكرار، سيؤدي حتما إلى دلالات وإيحاءات جديدة<< ويقوم بوظيفة أساسية في إنتاج خط المعنى والإيحاء به، كما يقوم بتوفير مفتاح الفكرة أو الشعور المتسلط على الشاعر، ويضعه في يد الدارس اللغوي، ويعد هذا المفتاح أحد الأضواء اللاشعورية التي تكشف عن أعماق الشاعر.>> (7)

  وهذا الدوران يجري في ظل لفظتين في النص، أرى أن لهما دلالة على الانكفاء على الذات، والإغتراب وهما (وحيدا، الصمت)، والأولى تدل على أن الشاعر يعيش حالة عزلة وانطوائية، والثانية وهي لفظة (الصمت) تدل على << التحرر من تأثير الخارج على الذات، وترك النفس الشاعرة وحدها في لحظة زمنية، تختلف أبعادها ومقاييسها عن اللحظة الزمنية الخارجية، التي تشترك مع الآخرين في حيواتهم وتخضع لمقاييسهم. >>(8)

   ويبدو من خلال النص الشعري، أن الذات الشاعرة، في صراع ومواجهة مع الزمن وجبروته، فالصور تشع إحساسا قاتلاـ وتصب تقريبا في دلالة واحدة، وهي التعبير عن الإحساس بالضياع والتيه واليأس...المفضي ــــ في الغالب الأعم ــــ إلى الإنفصال والإغتراب في البنية. فاغتراب الشاعر هو؛ اغتراب أمام الوجود واغتراب في المجتمع، حيث يرى "هيجل" أن << الكلية يمكن الوصول إليها على مستوى العلاقات بين الأشخاص فقط، من خلال الوحدة مع البنية الإجتماعية، وبالتالي فإن الفرد بتوقفه عن أن يكون في وحدة مع تلك البنية بفقد كليته، وحينما يحدث ذلك فإن الفرد لا يعود ممتلكا لناصية جوهره، وهكذا فإنه يغرب ذاته عن طبيعته الجوهرية أو يصبح باختصار مغتربا عن ذاته.>>(9)

   إن الهموم الإنسانية التي يعانيها الشاعر المعاصر، هي مسألة انقلاب الموازين، وضياع العدل وسقوط الفضائل تحت أقدام البشر، وشيوع ظاهرة الظلم والاستبداد والاستلاب... واهتزاز القيم الإنسانية، وتعملق القوى المتجبرة والمتسلطة، وهذا ما يجعل الشعراء في لحظة الخلق والإبداع، تسكنهم الهواجس الروحية التي تسرح بهم بعيدا داخل الذات، وداخل الأنفاق العميقة التي تمتد إلى أبعاد لا تخطر على البال، ولكنها في امتدادها تظل مشدودة بخيوط تتخذ من الواقع منطلقا لها.

إذ يقول الشاعر سليمان جوادي:

                             لم يعد يعجبني شكل زماني

                             لم يعد يعجبني لون مكاني

                             فاسمحوا لي إنْ رفضت الآن لوني

                             صورتي

                             ديني

                             كياني (10)

توحي صور النص الشعري، وتدل دلالة واضحة، أن الذات في قمة الهيجان والهذيان، جراء الواقع الذي لا يطاق (جحيم)، وقد يكون الشاعر مبالغا في رسم هذه الصورة القاتمة التي تختصر مأساة الواقع، إلا أن قدرا من الصحة لا ريب فيه، وقد يشعر الشعراء أن المشاركة في الجماعة << تعني فقدان قوة وجودهم الفردية، ومن هنا فإنهم ينسحبون، وفي أغلب الأحيان بصورة داخلية، وفي بعض الأحيان بصورة خارجية، إنهم يرغبون في زيادة قوة وجودهم التي يشعرون بأنها تنخفض في داخل الجماعة، ولكن قد يحدث أنهم بعد وقت معين يعودون إلى العائلة، لأنهم يشعرون بأنهم دون قوة وجود الجماعة، فإن قوة وجودهم الخاصة، تتعرض للخطر على نحو ضار.>>(11)

    وهل يمكن للشاعر، أن ينفصل بمثل هذه السهولة عن الارتباطات والوشائج الاجتماعية، وأن يتنصل من التزاماته الفكرية والاجتماعية والدينية.... وغيرها بمثل هذا اليسر، وهذه السهولة؟

    إن الذات المبدعة، اشتبكت مع واقعها، وصارت العلاقة بينهما وبين ما يحيط بها؛ علاقة تخاصم، وتشاحن، وتطاحن... وعندما عجزت، استسلمت، وانفصلت عن الواقع، وتغربت في البنية الاجتماعية. فرفْض الشاعر للواقع وبنيته الاجتماعية (روحيا وماديا)، يدل دلالة واضحة أنّ الذات المبدعة في قمة التوتر والتأزم والانفعال الحاد، إن لم نقل أن الذات تعاني ضربا من الجنون والهذيان، وكأنها فقدت عقلها، جراء رؤيتها للواقع برؤية خاصة بها ومتفردة، ومبالغ فيها.

    إن اغتراب الشاعر، هو اغتراب الذات في المجتمع، لأن الذات الشاعرة اقتنعت برؤية صاحبها، فلم تعد هناك ثنائية بين الشاعر والذات، وإنما تمثلت الثنائية فيما هو بين الشاعر والمجتمع، يبقى<< الإنسان المفكر عاجزا عن تحقيق أي تواصل حقيقي بينه وبين البشر، لأنه لا يكف مطلقا عن تحليل أفكار هذا، وتعليل عبارات ذاك، ولعل هذا هو السبب في أن حياة كثير من البسطاء حياة اجتماعية سوية، تقوم على روابط طبيعية من المودة والصفاء، بينما تبدو حياة غيرهم من أهل التأمل والتفكير حياة انعزالية شقية. >>(12)

      يبدو في ـــ الغالب الأعم ـــ أن التزام الشاعر المفرط بالمثل والمطلق، والمبالغ فيهما، يجعله مغتربا، لأن الشعور الحاد بالوحدة والتفرد لدى الشاعر، لا يقتصر على مجرد الرفض للمتواضعات الاجتماعية، وإنما يتجاوز ذلك إلى الهروب والانفصال، لعجزه وعدم قدرته على المقاومة والتفاعل مع البنية الاجتماعية، فمآله الاغتراب سواء كان فكريا أو نفسا أو....

 حيث يقول الشاعر نور الدين درويش:

                                 في القرن الواحد الواحد والعشرين

                                 أرى بلدي في السوق يباع

                                 وأراني بين الناس أدور، أفتش عن وجه

                                 لم تخدشه الأيام

                                ولم يصدأ

                              وأدور، أدور بلا جدوى

                              وأنا وحدي

                             كالقارب أسبح في بحر من غير شراع(13)

   يعمد الشاعر في خطابه إلى تعرية وكشف الواقع وما يشينه من ظواهر سلبية، فيصوغ تجربته بلغة حادة، تجسد مناخ الحاضر المأساوي الأليم، فتنطلق من اللحظة الراهنة، ومن ثم فإنها تعتمد على الفعل المضارع، الذي هيمن على مساحة النص، وكانت السيطرة للفعل (أدور) الذي تكرر عدة مرات، إنه يشي على مستوى الدلالة، بأن الشاعر يريد أن يؤكد على بعض المعاني بذاتها، وهي الضياع والتيه والعجز... وغيرها، وأحيانا دلالة على التذكير بما لا ينبغي نسيانه من مقتضيات التجربة، ولذلك لم يتغير فيها ضمير المخاطب المفرد المتكلم(الشاعر).

   وهذا الدوران بدون جدوى، عمق مأساة الشاعر، فكشف النص أن الرؤية المحورية، تتمثل في تعرض الذات الشاعرة لأزمة حادة في علاقتها بالواقع، حيث وضح لنا أنّ علاقة الواقع بها علاقة فوقية، وأن تعاملها معه لا يقوم على التكافؤ والمواساة، بل على الأذى والإظطهاد والقهر والاستلاب وغيرها.

   ولعل دلالات وإيحاءات النص الشعري، تجسد معاناة الشاعر، واغتيال آدميته على يد القوى الفوقية المتسلطة...مما يشير إلى أن هناك خللا اجتماعيا في طبيعة العلاقة بينهما، فتتجلى الذات المبدعة من حيث كونها مفردة؛ (أنا وحدي) لتؤكد حضورها باعتبارها طرفا من أطراف الصراع، معلنة مأساتها المتمثلة في الوحدة التي تعني الإنكفاء على الذات. كما شبه نفسه (بالقارب في البحر من غير شراع)، فمآله الضياع والتشرد والتبعثر والإندثار، والتشبيه من حيث أهميته<< يوسع المعارف ويسهل على الذاكرة عملها، فيُغنيها عن اختزان جميع الخصائص المتعلقة بكل شيء على حدة، بما يقوم عليه من اختيار الوجوه الدالة التي تستطيع بفضل القليل منها استحضار الكثير.>>(14)

   إن إعلان الذات المبدعة عن نفسها بمثل هذه الصورة، لدلالة واضحة على أنها غير قادرة على مواجهة ومقاومة أهوال وانزلاقات الواقع وتناقضاته، مما دفع بها إلى الإبحار في دوامة أسطورة الفراغ، والتي تمثل بدورها الانكفاء على الذات، والانفصال عن الواقع، والاغتراب في البنية الاجتماعية.

  ذلك أنّ تجربة "الأنا" لا تأتي من فراغ أو خيال أو رؤى، وإنما هي مستقاة من شروط فكرية واجتماعية وأخلاقية وأخرى ثقافية، تشكل القواعد الأساسية في بناء صرح "الأنا"، لذلك فإن أي تعبير عن محتوى "الأنا" هو ناتج عن مفهوم دلالي له معانيه، وأحاسيسه، ورؤاه، ولغته المستمدة من الواقع الإنساني.(15)

إن الشاعر المبدع يرى في الواقع ما لا يراه غيره، ولذا فاغترابه، يأتي نتيجة إحساسه الملتزم بالمثل العليا والقيم الإنسانية، والتزامه بالذات يفوق التزامه بالمجتمع الذي لا تتحقق فيه تلك المثل العليا والقيم الإنسانية كما تراها الذات الشاعرة. وحين يواجه الشاعر الجماعة يكون قد واجه نفسه، وحين يغترب عن جماعته، يكون قد اغترب عن ذاته، فالعالم ـــ عموما ــــ عالم تصدع وتمزق وتناقض، تحفه الأخطار من كل حدب وصوب.

إن الانسان مدني بطبعه، فالوطن يعد من أسباب الاجتماع والعمران، إن لم يتحقق فيصبح الفرد ـــ خاصة الشاعر ـــ يدركه الإحساس بالضياع وعدم امتلاك المكان، إذ يجعله يعاني مأساة طابعها الانفعالي في ـــ الأغلب الأعم ــــ الإنعزال والإنطواء داخل الذات، إذ يقول الشاعر يوسف وغليسي:

                                           كان لي وطن ضارب في دمي

                                           راسخ في امتداد الزمان

                                           سامق في السماء

                                           شامخ كالنخيل

                                           فارع كالصنوبر والزان والسنديان

                                           كان لي وطن يوم كان...(16)

    يستهل الشاعر النص بجملة فعلية، لافتة بدلالتها (كان...) فالفعل في زمنه الماضي، يحيل إلى الذكرى أو التذكر، أي استدعاء صورة أو معنى مختزن في الذاكرة، فتشرع الذات الشاعرة، تستحضر ذلك الماضي المضيء المشرق، هروبا من حاضرها المسكون بالقتامة، وتؤكد الصورة التي يخلعها الشاعر على وطنه ــــ في الماضي ــــ حرصه الشديد على التشبث بالحياة في مقابل صور الدمار والخراب والإستبداد والاستلاب التي يضج بها حاضره.

  إن استدعاء الشاعر صورة الوطن على هذا النحو المكثف (راسخ ،سامق، شامخ، فاع...)والتي فارقت دلالاتها المألوفة إلى دلالات جديدة تتمثل في: العراقة، التجذر، التحدي، العلو، الرفعة، الظهور...)وهي صورة الوطن في الماضي؛ غير الماثلة في حاضره، و التّي جعلته يرحل من اللحظة الحاضرة إلى الماضي الفتي، واضعا الحاضر العاجز إزاء الماضي المشرق، فملامحه وتصوراته موجودة في نفس الشاعر، ربما تنتظر فرصة التحقيق، وفرصة التجلي، وبذلك يتكشف النص الشعري عن مغزاه الحقيقي المتمثل في: إحساس الذات الشاعرة بعجزها، وعدم قدرتها على مواجهة الواقع بتحولاته الجديدة، ففرت إلى الماضي منفصلة عن حاضرها، فكل ما فات لا يعود، وما فات هو نحن في صورة مثلى، إنها صحوة تكشف عن مكانة الماضي وانحياز الشاعر له ،وقسوة الحاضر وزيفه وعدم جدوى المستقبل، لأنها اقترنت بعدم القدرة على المواجهة والمقارنة، مما جعلها استغراق في الماضي والانفصال عن الحاضر، والإغراق في حلم اليقظة والتشبت بالوهم، الذي يباعد بين الشاعر وبين حاضره، وبين بنيته الاجتماعية.   

        إن هذا المظهر من مظاهر الاغتراب، يشمل الانسان بعامة، حيث لا يتحقق التوافق بين الوجود الخالص والوجود العام، ويتمخض هذا عن شعور الانسان باليأس والعجز الذي يسلب الانسان إمكانية تحقيق الذات << فالماضي والمستقبل لا يكفان عن انتزاعنا من الحاضر، فهما يحيلان كل حياتنا إلى تهرب جشع يائس، نعترف فيه بعجزنا عن امتلاك شيء. >>(17)

   إن محاولة التنقيب عن الأشلاء المبعثرة هنا وهناك، هي محاولة للتمسك بالحياة، ورغبة في اللا موت، فقد تبلغ درجة الاغتراب ذروتها داخل الوطن، لكن حب هذا الوطن،لا يغادر قلوب محبيه وعشاقه، فيتحول الإحساس بالحب إلى سم ــــ ربما ــ يتمنى الشاعر ارتشافه ليموت مع اغترابه المفروض عليه، حسب رؤيته الفكرية والفلسفية ....للواقع.

  فنقرأ للشاعر يوسف وغليسي قوله:

                                 غربتني الديار التي لا أحب ديارا سواها

                                 ولكنني متعب .... متعب من هواها

                                 فيا أيها الحب، اسحب خلاياك من دمي

                                ـــــ إلتو ـــ اسحب. ودعني أموت (18)

    يعترف الشاعر من الوهلة الأولى بغربته المفروضة عليه، وهذا جراء الإحساس العميق بالتمزق والانكسار، واليأس والعجز...أمام ما يجري في واقعه من دمار، وخراب لكل معاني القيم الإنسانية الرفيعة، التي أخذت تتبدل وتفقد معناها وجوهرها وأصالتها، فدلالات النص الشعري وجدانية وفكرية، فالشاعر شأنه شأن المفكرين لا يقنع بالتفكير السطحي في قضية الوجود والعدم، النجاح والفشل، بل نراه ذا نفس قلقة ومتوترة أشد التوتر ومتأزمة، ومنفعلة انفعالا حادا، وساخطة على سلبيات المجتمع ونواقصه، وهذه الحالة النفسية مستوحاة من ظروف الشاعر الخاصة وشخصيته المتوترة، مما جعلته يناشد الانفصال، مفضلا الموت عن الحياة، وهذه الحالة تعدّ مظهرا من مظاهر الاغتراب النفسي، حين يقول:

                              فيا أيها الحب اسحب خلاياك من دمي

                             ـــــــ التو ــــ اسحب ... ودعني أموت...!

    فالنداء هنا (فيا) خرج عن معناه الأصلي إلى معان أخرى، تتجاوز معناه الأصلي، وهو تعبير عن الضعف الإنساني، وعن معاني الألم والتوتر، ودواعي التشكي، وبث الحزن، فضلا عن إبراز العلاقة المخصوصة بين أطراف النداء، علاقة الذات في تعلقها بالحب، وهو في الوقت نفسه هجرة لداخل الشعور، فهو نزوع داخلي يعجز الشاعر عن تحقيقه في الحاضر، كما يجسد هموم الشاعر، وانكفاءه عن ذاته.

  ففي النداء (فيا أيها الحب)، خرق دلالي، نلاحظ أن المنادى فيه مما لا يصح نداؤه( الحب)، وهذا الخرق هو الذي<<يلجأ إليه كثير من الأدباء والشعراء لتتم عملية الإبداع بشكل يكسر القاعدة المألوفة في التعبير>>.(19) وهذا الكسر يجعل الأعمال الأدبية تتميز عن غيرها بدلالات وإيحاءات، كما تفاجئ المتلقي بطاقات النص الانفعالية والفكرية من جهة أخرى، فنداء الشاعر يوحي أن المنادى قريب وبعيد في آن، هو قريب من حيث روحه، وفكره، وقلبه، وعقله، وجسده، وبعيد من حيث وجوده في الواقع؛ الذي يناقض ما يدعو إليه، ويؤمن به ،الواقع الذي ينبذ كل أنواع المحبة والخير والجمال.

     إن استخدام المبدع لفعلي الأمر (أسحب، دعني)، توحي بالحسم والإصرار، فهي دعوة واضحة إلى انفصال عرى علاقته بالحب، فانسحاب الحب-الذي هو دال من دوال تلك العلاقة باعتبارها وسيلة الاتصال والتواصل، تنقطع الوشائج والروابط بين الشاعر والبنية الإجتماعية، فيتولد الإحساس الحاد بالاغتراب.

    إن عبارة (دعني أموت) في النص الشعري، توحي وتهمس على أن الشاعر في قمة اليأس والانكسار، والعجز، واستحالة مقاومة الواقع وتناقضاته، إن الإنسان حين ينتهي أن الموت أفضل من الحياة، يكون قد وصل إلى قمة الاغتراب عن ذاته ووجوده، فيشير "هيجل" إلى أن << للإنسان اتجاها إلى الاستغراق في أحدوثات الحاضر ومشاغله، وحينما يستغرق على هذا النحو، فإن وجوده لا يعود بعد أمرا يقره إدراكه لحتمية الموت والمشروعات التي يضطلع بها، والتي تعد أساسية لحقيقته>>(20). 

    فالإحساس بعدم القدرة على تحقيق وجود مكثف، يخضع لطموح الإنسان وإمكانياته، يجعله دائما يشعر بالاغتراب، فالواقع يسير بنظام غريب عنه، والمرء لا يشعر إزاء هذا كله إلا بالضياع والاستلاب، والقهر والإظطهاد... وعدم قدرته على المواجهة والمقاومة، وهذا الإحساس والانفعال الحاد، بهذه الكيفية، يدفع بالذات المبدعة إلى اليأس والاستسلام، والإمعان في الهروب والانفصال عن الواقع.

   وهذه السلوكيات والتناقضات، تجعل الشاعر يبحث عن عوالم فنية، تعويضا عما افتقده في واقعه المعايش، وهي وسيلة الشاعر لتخطي الواقع، وتحصين النفس من مغبة الوقوع والإنزلاق في براثن الواقع، فكان (عالم الطفولة) الذي يمثل جانبا روحيا بعيدا عن الغايات والمآرب... كما أن إحساس الطفولة إحساس غامر، وعاطفة جياشة، تلامس الواقع، وتتجاوزه، بل تجعله يتلاشى، بما لها من قدرة فائقة، كما أنها تمثل البراءة والطهارة والصدق والنقاء الإنساني، ولا تعرف الإثم ولا الخطيئة، مقابل الحاضر الذي اندثرت منه القيم الإنسانية وتلاشت. وهذا الهروب إلى عالم الطفولة تأكيد من الذات المبدعة، على أن الشر وليد المجتمع.

حيث يقول الشاعر محمد التوامي:

                             فيا طائرا للحنين القديم

                             ارتحل

                              إلى باب الأقواس

                              إلى غابة الطفولة

                              المفتحة باهتزاز الخزامي

                               على ضفة الربيع البعيد(21)

    إن عودة الشاعر إلى الماضي (عالم الطفولة)، يمثل ضربا من الهروب والإنفصال، ليتخلص من واقعية الواقع، فيجعل من الطائر رمزا لذاته، ويطلب منه ويأمره بالارتحال إلى ذلك العالم، نتيجة عدم تحقيق الشاعر لطموحاته، ورغباته في تجسيد تلك المثل من طهارة، وصدق ونقاء وبراءة... وعدم الوقوع في الإثم والخطيئة يملكه الإحساس والشعور باليأس والعجز والاستسلام، جعلته يمعن في الهروب والانفصال من ظلامية الواقع إلى الماضي، ليقيه ويعصمه من الشرور والمبيقات، وبذلك تكون الذات المبدعة قد تغربت عن واقعها وبنيتها.

   فاللغة المستخدمة منفتحة على عالم الخيال واللاشعور، ويمكن بتعبير آخر، وباللغة الصوفية<< إن السريالية ترى في الوجود الظاهر المباشر الثقافي والاجتماعي، سجنا كبيرا، وأن مهمة الإنسان الأولى، هي أن يخرج من هذا السجن، نحو عالم يفسح له الوجود الباطن. >>(22)

    وتبدوا ألفاظ وتراكيب النص الشعري، مرشحة إلى الإيحاء والهمس، تحمل دلالة التحرر من كل نظام والهروب من الحاضر لمعانقة المطلق، وهذا الموقف يشبه إلى حد كبير موقف<< الإنسان المذعور الذي يخاف أن يدنسه الواقع، إن هو لمسه، والذي يرى فيه عدوا خطيرا، فيهرب ما وسعه إلى الخيال الطفولي، إلى عالم الأحلام والوهم، محاولا ما استطاع أن يتجنب الخوض في المجتمع الحديث. >>(23) 

    وهكذا يغدو (عالم الطفولة)، عالما رحبا، ونبعا غزيرا، يغرف منه الشاعر باستمرار، والعودة إليه كلما زاد انفعاله وتوتره، فهي محاولة للانفلات والتحرر من أسر الواقع، والتحليق في عوالم المثل العليا، وهذا التحليق بهذه الكيفية، يوحي أن الشاعر مغترب في واقعه، منفصل عن بنيته، جراء يأسه، وعجزه، وعدم قدرته على المقاومة والمواجهة، ففر إلى الماضي الطفولي. كما يعدّ التصوف في ـــ الغالب الأعم ـــــ مظهرا من مظاهر الاغتراب الناتج أصلا من رفض الشاعر للواقع وصراعه، من منطلق المسؤولية التي يشعر بها داخل الذات الرافضة للحدود والموانع، وأحداث الواقع، وهذا التعارض بين الواقع، وتطلع الذات المبدعة يجعلها تعاني الغربة النفسية والضياع في الوجود، فتفر إلى عوالم المطلق، علها تجد الخلاص لهمومها وعذاباتها وتأزمها وقلقها...

      ويعدّ الشاعر مصطفى الغماري أكثر الشعراء هروبا إلى عوالم الصوفية:

                                       أنا المسافر...  يا شوقي يا أملي

                                       وإن تدجي الأسى هيهات يثنيني

                                       زادي شريعتي الخضراء ... تطعمني

                                       ومن كرومك يا رباه تسقيني(24)

   يحاول الشاعر أن يجد في السفر والسكر خلاصا من همومه، فأحس في صراعه أن الخلاص الحقيقي يكمن في التخلص من هذا العالم المادي المضطرب، فهو يريد أن يظهر ذاته في عالم المثل العليا التي هجرها الناس، وانغمسوا في حمأة الحياة المادية.

فالسفر << بديل مطروح وتعويض مطلوب، السفر انعتاق من العبودية وانطلاقة في المجهول، خروج عن القيد، ودخول في فضاء الحرية، وهكذا السفر يحقق لذة الاكتشاف والتحرر من القيود الخانقة.>>(25) وبذلك يكون سفر الشاعر سفرا نفسيا، بمعنى العروج الصوفي، وهذا تعويض للخواء الذي يعانيه الشاعر، وتعدّ الصوفية هي <<أول من أشار إلى أن التجربة الروحية، شبيهة بالرحلة ، وهم الذين جعلوا من سعيهم وراء الحقيقة سفرا مضنيا، مليئا بالمفاجآت والمخاوف في طريق موحش وطويل، قد ينتهي سالكه إلى النهاية السعيدة إن وفق الله وأراد>>(26) . كما نلاحظ أنه افتتح النص بضمير المتكلم (أنا) الذي يدل على الذات الشاعرة، وهو ضمير بارز منفصل، وهي ظاهرة شائعة وبارزة عند شعراء الصوفية، ويستخدم عادة<< عندما يقدم الإنسان ذاته لمن يجهلها، أو عندما يؤكد الإنسان ذاته لمن يتجاهله. >>(27)

     يهدف الشاعر من وراء ذلك إلى الكشف عن وجوه معاناته، ويركز الاهتمام على ذاته، فيأتي ضمير المتكلم، ليبرز الذات المهملة التي تعاني التجاهل، ولا تصل إلى طموحاتها أو مرادها، ثم تزاوج ضمير المتكلم مع النداء(يا)، يكشف عن إحساس الذات بالوحدة والفراغ، ومعاناتها من حالة الفقد، وحاجتها إلى من يشاركها أحزانها ويخرجها من أزمتها.

    والتجربة الصوفية هي ليست تجربة جماعية، أو متاحة للجماعة، وإنما هي تجربة فرد منفصل عن الجموع في سبيل تحقيق ذاته، من خلال الارتباط بالذات العليا، ومحاولة التودد إليها، والتعلق بها إلى أبعد حد. ولذا عرج الشاعر العروج الصوفي عن طريق (السفر)، ليتخلص من جحيم الواقع، الذي حد من طموحاته ورغباته، والسفر بهذه الصورة، جعل الشاعر مغتربا في واقعه وبنيته الاجتماعية.

      كما أن السكر، هو وسيلة من وسائل التغلب على الهموم النفسية التي يعانيها المرء، ويعدّ المبدد الأول للهموم والأحزان، وفيه تخفيف ونسيان لجراحات الواقع، ومن ثم تنفصل الذات عن واقعها الخارجي، وتتعلق بالمطلق، وهذا نتيجة شعور الشاعر، بأن الواقع يسحقه، وأن شيئا يحول دون نموه، فيفر مسرعا إلى عالم المثل العليا، ليتخلص من جحيم الواقع، ليحس ويشعر بالطمأنينة والسكينة.

وهكذا قطع دلالات(السكْر) وألفاظه من أصولها الأولى المادية إلى الروحية، مما يجعله يحمل دلالات جديدة لا تدل على السكر المادي الواقعي، وإنما تدل على << معان خاصة تدور حول المحبة الإلهية والعرفان الصوفي ووصف أحوال الوجد. >>(28)

 إذن، فالسفر والسكر بالرؤية الصوفية، تنفصل فيها الذات عن واقعها الخارجي، فيصبح السفر والسكر دال من دوال الإنعزال والإغتراب عن عالم الوجود. وبهذا يكون الشاعر حاول ـــــ كما هي الحال عند الصوفية ــــ تجاوز عالم المحسوسات والإبحار في عالم الروح بكل تجلياتها، وهذه لم تكن وليدة لحظة آنية، بل وليدة أزمة روحية وفكرية، أحدثت صدمة الشاعر وحركت فيه بواعث الرغبة في التغيير وتنقية الذات، مما أصابها من شوائب، فكان عالم المثل المطلق هو الحصن الحصين، وبهذا يكون الشاعر قد اغترب عن وجوده وبنيته.

   إنّ التعارض بين الواقع والتطلع، هو الذي يجعل الشعراء يعانون الإغتراب النفسي، والضياع في الوجود ويزداد توترهم وانفعالهم، كلما زاد التعارض بين الواقع، وطموحات ورغبات وغايات الذات الشاعرة.

    فنجد الشاعر الأزهر عطية يبحث عن حصن، يكون له ملاذا:

                                              أين يا أيتها العذراء قلبك؟

                                              أين وجهك؟

                                              أين يا أيتها الحسناء حبك؟

                                              أين صوتك؟ (29)

 تكشف المقطوعة عبر مستوياتها اللغوية، عن أزمة حادة، يعيشها الشاعر، لأن الذات تعاني الفقد في الحاضر، فتستعيض عن ذلك باستدعاء صورة(العذراء) المرأة، وتجد اللذة في التغني بمفاتنها (القلب ــــ الوجه ـــ الحب ــــ الصوت)، فتأخذ العلاقة مع الغائب الذي هو كلي الحضور، شكل الخضوع التام والتلقي، ويتم البحث عنه باعتباره مركزا للوجود، وهو ما يعكس إحساسا بتوتر الذات وانفعالها في البحث عن المفقود، فوجدت في التصوف ـــ من حيث هو سلوك ـــ الخلاص من ألمها واغترابها النفسي.

     وقد عمد الشاعر إلى تطوير دلالات الألفاظ (العذراء ــــ قلبك ــــ وجهك ـــــ حبك ـــ صوتك)، لينقلها إلى أطوار جديدة توائم التجربة، وتتناسب مع طبيعتها المختلفة، فوضعها في سياقات جديدة غير ما وضعت له في اللغة والاستخدام، وهو ما جعل النص الشعري يتميز بكثافة الإيحاء والهمس:

الدلالة المألوفة    //    الدلالة الجديدة

العذراء                 المرأة

قلبك                   الروح والحق

وجهك                 الصفاء والنقاء

حبك                   الصدق والطهر

صوتك                 الحق والعدل

   إن هذه الدلالات الجديدة، تشف عن طبيعة الرؤية الصوفية، التي كثيرا ما تنفي المادي أو تبطل وظيفته، لتحولها في الختام إلى دلالات معنوية، تظل متسقة مع التجربة الوجدانية للشاعر، ومنسجمة مع الطبيعة المعنوية عند المتصوفة، وتعلقهم بالروحاني دون المادي. إن تفجع الشاعر، وحيرته بأسلوب الإستفهام (أين)، يشي بأن الذات المبدعة في قمة الإنفعال والتوتر والإضطراب، وتكراره عدة مرات، ربما يمثل صيغة احتجاجية، كما قد يكون صورة عجز وانهزام أمام تناقضات وانزلاقات الواقع، ويرجع أسباب بعض شيوعها إلى << اضطراب الرؤى، واختلال المفاهيم، والإحساس بالغربة والدأب في البحث عن المثال.>> (30) وهي تساؤلات تبحث في أصل الأشياء، لتسرب الشك إما لضرورتها أو جدواها، وهي في الوقت نفسه تحمل قلق وتوتر الشاعر في ظل هذه الظروف التي تحرف كل شيء عن مقصده. وهذه التساؤلات تؤكد أن الذات المبدعة قد تعرضت لأزمة في علاقاتها بالواقع، حيث وضح لها أن علاقة الواقع بها علاقة فوقية، يشير إلى خلل اجتماعي في طبيعة هذه العلاقة، ففرت في اتجاه عالم تتحقق فيه القيم المفقودة في عالم الإنسان، بعد عجزها وعدم قدرتها على المقاومة، فطارت في اتجاه عالم المثل الروحاني. وهذه الرؤية عميقة وشاملة لحالة من العشق والتوق والحزن والفقد في آن واحد، بجانب ما فيها من استغراق وجداني ومناجاة تصل بالمحبوبة إلى مرتبة القداسة وهي قناة للعبور والسمو والتنصل من واقعية الواقع وظلاميته، نزوعا إلى عالم المثل العليا الروحية. وبهذا يكون الشاعر قد انفصل عن واقعه وتغرب عن بنيته الاجتماعية. وما زاد في شدة انفعال الذات الشاعرة هو تزاوج الاستفهام مع النداء (أين يا...) دلالة على ما يختلج في النفس، ومحاولة اشباع الحواس جميعا، فهو يعبر عما يختلج بين جوانحه من مشاعر الحب والعدل، والحق، والنقاء، والصفاء، والصدق، والطهر، وغيرها، والتي غارت واندثرت من الواقع الاجتماعي. وهذا النداء (يا) تعداد لأوجه مختلفات لقيمة واحدة يجسدها الشاعر في العذراء، وهذه القيمة تعني ربما؛ بالأمس المزدهر الذي ولى والذي هو بالنسبة للشاعر نزوع داخلي، يعجز عن تحقيقه في الحاضر، فهي تجسد هموم الشاعر وانكفاءه على ذاته، واغترابه، وترتبط بالصراخ والعويل...ولعل الشاعر يحاول أن يستشير نخوة الملتقي وإلهاب مشاعره، اتجاه الرؤية المطروحة باستخدام (الاستفهام والنداء)، فالشاعر يغيب كل حواسه، ولا يحضر منه، سوى الجانب الأكثر غورا، يتساءل وينادي، يتلاشى ويضيع....

   إن الذات المبدعة << وحضورها في أبنية الخطابات النصية المتشاكلة، تنصب نفسها سلطة واعية، بوصفها فائدة معرفية للمجتمع، وتخضع سائر الأشكال والأنماط السلطوية لمشيئتها العليا وحيازتها مقاليد وجدانية وأخلاقية توجه آليات الواقع المعقلن.>>(31)

   ومن ثم يعيش الشاعر اغترابا واقعيا إلى جانب اغترابه الوجودي، فهو دائما يبحث عن البديل وينتظره، ولهذا يظل مغتربا، ينتظر أن تحين له الفرصة، ليعيش حالة نفسية هادئة، تتوافق مع تصوره وحاجته، إنه يريد الصورة المثلى للواقع أو النموذج الذي تكون في وجدانه ووعيه، لأنه يؤمن بصواب ما يعتقد، وبطلان ما يعتقده الآخرون.

    وكلما تزداد الحياة تطورا، بقدر ما تزداد تعقيدا نتيجة الفلسفات والإيدلوجيات المختلفة وتضاربها وتناقضها فيزداد الإنسان قلقا واظطرابا، وتوترا وانفعالا من هذا التطور، وهذا سبب كاف لبروز ظاهرة الاغتراب التي تمثل أزمة الإنسان في عصرنا، حيث اتسعت الهوة بين الفرد والمجتمع. والحقيقة أن أهم سمة من سمات المغتربين هو التصادم الإيديولوجي والرفض الفكري لكثير من قيم الجماعة وسلوكها، ومحاولة تقديم قيم جديدة أو الدعوة لسلوك جديد، يتميز بالفردية، ويتخذ من الإقناع وسيلة لإثبات صحة ما يدعو إليه، والشعور بالذاتية المتفردة، تبرز عند كثير من الشعراء، بل إنه ليسير مع الذاتية الاجتماعية جنبا إلى جنب.

 

 

 

1.مصطفى الغماري: أغنيات الورد والنار .د .ط. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1981، ص 72-73

2.عماد الدين خليل: في النقد الإسلاميالمعاصر، ط2، مؤسسة الرسالة 1981، ص26.

3.فوزي عيسى: النص الشعري وآليات القراءة .د.ط، منشأن المعارف، الإسكندرية.د.ت. ص 47.

4.ريثشارد شاخت: الإغتراب، ترجمة، كامل يوسف حسنين، د.ط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص101.

5.عبد العالي رزاقي: الحب في درجة الصفر،د.ط، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1977، ص27.

6.رينيه ويليك، أوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة، محي الدين صبحي، ط3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت  1985، ص92.

7.أبو مراد فتحي: شعر أمل دنقل، دراسة أسلوبية، رسالة دكتوراه، إربد، جامعة اليرموك 2004، ص96. 

8.أحمد درويش: في النقد التحليلي للقصيدة المعاصرة.ط1، مكتبة الشروق القاهرة 1996ص129.

9.ريتشارد شاخت: الإغتراب: ترجمة، كامل يوسف حسنين، ص111.

10. سليمان جوادي: يومات متسكع محظوظ، د.ط، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1981، ص11.

11. بول تيليش: الحب والقوة والعدالة، ص67.

12. زكريا ابراهيم: مشكلة الانسان، د.ط ، مكتبة مصر، ص50.

13.نور الدين درويش: البذرة واللهب، مطبعة NIR، حمروش حمادي، سكيكدة، 2004، ص9-13.

14. محمد الهادي الطرابلسي: خصائص الأسلوب في الشوقيات د.ط، المطبعة الرسمية تونس 1981، ص142

15. منير الحافظ: الوعي اللغوي الجمالي في فلسفة الكلام، ط1، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2005، ص136.

16. يوسف وغليسي: تغريبه جعفر الطيار، ط2، دار بهاء الدين للنشر والتوزيع، قسنطينة، 2003ص36.

17.  زكريا إبراهيم مشكلة الإنسان، ص91-92.

18. يوسف وغليسي: تغريبه جعفر الطيار، ص38.

19.موسى ربابعة: جمالية الأسلوب والتلقي.د.ط، إربد، دار الكتاني 2003، ص126.

20. ريتشارد شاخت: الإغتراب، ترجمة، كامل يوسف حسنين، ص264-265.

21.محمد توامي: غيم إلى شمس الشمال، ط1، منشورات إبداع، الجزائر 1966، ص45.

22.أدونيس: الصوفية والسريالية: ط2، دار السلقي، بيروت 1992، ص59.

23. محمد زكي العشماوي: الأدب وقيم الحياة المعاصرة، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الأسكندرية،1974ص 176.

24.مصطفى الغماري: أسرار الغربة، ط3، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1982، ص55.

25.وفيق خنسة: دراسات في الشعر العربي الحديث. د.ط. دار الحقائق 1980، ص77.

26.صلاح عبد الصبور: حياتي في الشعر، د.ط، بيروت 1992، ص20.

27.  أحمد درويش: دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، د.ط، دارغريب، القاهرة، ص 158-159.

28.عاطف جودة نصر: الرمز الشعري عند الصوفية، د.ط، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة 1998، ص378.

29. الأزهر عطية: السفر الى القلب، د.ط، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1984.ص34.

30.رمضان الصباغ: في نقد الشعر العربي المعاصر، دراسة جمالية، ط1، دار الوفاء الدنيا للطباعة والنشر، الاسكندرية، 1998،ص132.

31. منير الحافظ: الوعي اللغوي الجمالي في فلسفة الكلام، ص131.

@pour_citer_ce_document

أحمد العياضي, «تجليات الاغتراب في الشعر الجزائري المعاصر»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 175-185,
Date Publication Sur Papier : 2019-10-07,
Date Pulication Electronique : 2019-10-07,
mis a jour le : 10/10/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=6086.