منطلقات تأسيس نظريّة الحجاج عند 'عبد الله صولة' في كتابه: "الحجاج في القرآن".Instigations of the Establishment of the Concept of Pilgrims in Abdulah Soula’s book ‘Pilgrims in Quran’
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°26 Vol 15- 2018

منطلقات تأسيس نظريّة الحجاج عند 'عبد الله صولة' في كتابه: "الحجاج في القرآن".

Instigations of the Establishment of the Concept of Pilgrims in Abdulah Soula’s book ‘Pilgrims in Quran’
pp 8-17

نور الهدى دشاش
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

  شهدت السّاحة النّقديّة ظهور جملة من المناهج التّي سعت لكسر سلطة النّص، (منها -الأسلوبيّة -) هذه المقاربة النّصيّة المرتحلة من اللّسانيّات إلى النّقد.

ومن المباحث التّي استجدّت في عالم اللّسانيّات، نجد الحجاج الذّي بات محورا للدّراسات الحديثة غربيّة وعربيّة، لعلّ أبرزها كتاب: الحجاج في القرآن -من خلال خصائصه الأسلوبيّة- للباحث التّونسيّ (عبد الله صولة). فكان الهدف من هذه الدّراسة هو رصد المرجعيّات المعرفيّة التّي أخذ منها المؤلّف مادّة كتابه، إذ عالج فيه مبحث الحجاج التّداولي من منظور أسلوبي، مبرزا التّفكير الحجاجيّ عند العرب، ومبدعا أسلوبيّة الحجاج في القرآن.

الكلمات المفتاحيّة: السّاحة النّقديّة، المناهج، الأسلوبيّة، الحجاج، الحجاج التّداولي، أسلوبيّة الحجاج.

  La scène critique a vu L'émergence d'un ensemble d'approches (y compris- la stylistique-) qui ont tenté de briser la prééminence de la textologie.

 Cette approche textuelle s'est transposée de la linguistique à la critique, et parmi les recherches innovantes dans le domaine de la linguistique, nous trouvons l'argumentation qui est devenue un centre pour les études modernes occidentales et arabes. Il n'est point exclu que l'ouvrage (L'argumentation au coran- à travers ces particularismes stylistiques) du chercheur tunisien (ABD ALLAH SAOULA) n'en soit le plus original. Le but de cette étude est de recenser les références épistémologiques qui permettent à l'auteur d'en puiser la matière de son écrit ou il a traité du thème de l'argumentation pragmatique du point de vue stylistique en faisant ressortir la pensée argumentative chez les arabes, et tout en mettant l'originalité stylistique de l'argumentation dans le coran.

Les mots clés :La scène critique, les méthodes, la stylistique, l'argumentation, l'argumentation pragmatique, la stylistique d'argumentation.

The sphere of literary criticism saw the emergence of many approaches including, inter alia, the stylistic one all aimed at breaking the authority of the text. So this textual approach shifted from linguistics to literary criticism. Besides, argumentation as a novelty in linguistics has become a special area of focus in both Arab and occidental studies, and perhaps the most significant work with its stylistic peculiarities is:'' Argumentation in Koran '' by the Tunisian researcher ''ABD ALLAH SAOULA ''.

The purpose of this study is to examine the bibliographical references used by the author who dealt in this book with pragmatic argumentation from a stylistic perspective highlighting Arab argumentative thinking focusing on the stylistic originality of argumentation in the Koran

Key words:sphere of criticism, approach, stylistics, argumentation, pragmatic argumentation, stylistics of argumentation


Quelques mots à propos de :  نور الهدى دشاش

جامعة محمد لمين دباغين –سطيف2.  nourelhoudadecheche@yahoo.fr     

مقدّمة:

تعدّ الأسلوبيّة جسر التّواصل بين اللّسانيّات والأدب، فنرى اهتمام اللّسانيّين والنّقاد بها نابعا عن كونها واحدة من أهمّ المقاربات النّصيّة التّي تحاول سبر أغوار النّص. ونجد الحجاج – هذا المبحث اللّساني البلاغي- الذّي لاقى اهتماما كبيرا في الثّقافة العربيّة عامّة، والتّراث خاصّة، وأيضا عند علماء الغرب والعرب المعاصرين.

لعلّ ما أقدم عليه الباحث اللّساني التّونسيّ (عبد الله صولة) في تقديم كتابه: (الحجاج في القرآن، من خلال أهمّ خصائصه الأسلوبيّة) الصّادر في 644صفحة عن دار الفرابي –لبنان- ضمن مجلّد واحد سنة 2007، هو محاولة جادّة لرسم معالم أسلوبيّة لهذا النّسق المعرفيّ ضمن نظام لغويّ معجز ببيانه هو القرآن الكريم، فاستهدف من خلال عمله هذا جملة من الحدود والقضايا، فجاءت أبواب الكتاب دراسة لمبحث الحجاج ضمن مستويات ثلاثة هي: الكلمة/التّركيب/الصّورة.

  جاء هذا الكتاب تغطية لأهمّ انشغالات الباحثين في هذا المجال الرّحب، بدءا من الحدود والتّعريفات، مرورا بالأبعاد الحجاجيّة فارتأينا دراسة هذا المؤلّف في إطار المرجعيّات الفكريّة المتحكّمة في طرح (عبد الله صولة)، فما هو الحجاج؟ وما هي أسسه ومنطــلـقاته؟ وما هي الأرضيّة المعرفيّة التّي ارتكز إليها الباحث في تأسيسه لنظريّة الحجاج؟

أوّلا: الحجاج والخصائص الأسلوبيّة عند (صولة):

1-الحجاج: في تحديد ماهيّة الحجاج، استند (عــــبـــد الله صـــــولـة) إلى التّعريف الــــذّي قــــدّمـــــه  (ابن منظور-ت711ه) في معجمه- لسان العرب- قائلا:" حاججته أحاجّه حجاجا ومحاجّة حتّى حججته أي غلبته بالحجج التّي أدليت بها "1، وحــــدّ الــــحــجّة " الدّليل والبرهان و الجمع حجج"2فالحجّة برهان كما ورد لدى (محمد بن أبي بكر الرّازي) ت660ه، و"حاجّه فحجّه مــــن باب ردّ عليه بالحجّة"3.فالمعروف عن معاني مادّة (ح ج ج) في المعاجم الـــعربـــيّــة التّــحاجّ والمجادلة، إذ نجد في معجم القرآن الكريم "جادلتهم وأتيتهم بالحجّة والبرهان"4وعلـــيــه فــــفعل الحجاج l'acte d'argumenterينبني أساسا على البرهان و الدّليل.

 هذا التّفاعل الكلامي القاضي بالإقناع والغلبة أساسه البرهان المؤدّي إلى الإذعان، وإن استند أحيانا إلى الخصام، فنرى (ابن عاشور) يعتبر الحجاج هو الخصام،" إذ معنى حاجّ بمعنى خاصم... وأنّ الأغلب أن يفيد الخصام بالباطل"5فالحجّة حمولة كلامية يستعملها المتكلّم بهدف التّأثير والإقناع، وجعل السّامع يتبنّى هذا الرّأي الجديد عليه.

 والحجاج عموما قائم على الجدل إذ يرادف التّراثيّون المصطلحين (الحجاج والجدل) مفهوما، وهو ما ارتكز عليه (صولة) في بناء مفهومه للحجاج.

  ووجدت آراء أخرى عدّت الحجاج" قاسما مشتركا بين الجدل والخطابة خاصّة، ونجده عند اليونان (أرسطو على سبيل المثال)"6، فالجدل هذا العلم القائم بذاته الذّي كوّن أسسه من المنطق بغرض" إلزام الخصم والتّغلّب عليه في مقام الاستدلال"7فهو -الجدل- سمة فكريّة مميّزة للفلاسفة، والخطابة هذا الفنّ القوليّ الذّي ما فتئ يتكوّن ويتطوّر منذ العصور الأولى، نجد الحجاج يمدّ جذوره بينهما لحاجته معالقة البعد المنطقي للجدل بالسّمة الإقناعيّة التّي للخطابة، والأخذ من هذا وتلك في آن.

 فالحجاج يعتمد على البرهان كما ذكرنا، يهدف لإبرازهضمن لغة خاصّة يلفّها ثوب الإقناع والتّأثير مستهدفا العاطفة، وذلك ما نجده في الجدل والخطابة، وبذلك يصبح لدينا كما أقرّ(صولة) حجاج جدلي وحجاج خطابي. غير أنّ هناك من يرى بأنّ الحجاج له ارتباط وثيق بالجدل أكثر منه بالخطابة، لأنّ الحجاج –بما هو جدل-" يعتمد على المعاني العقليّة خلاف الحجاج في الخطابة الذّي يعتمد بالأساس على الجانب العاطفي"8.

إنّ هذا الاختلاف في إرساء مفهوم موحّد للحجاج إنّما ينمّ عن تشعّبه وتنوّع حقوله المعرفيّة، فنجده يترامى بين البلاغة واللّسانيّات والتّداوليّة و الفلسفة، كما أنّ التّباين الواضح في الآراء عند الباحثين هو ما جعل المؤلّف إلى اعتماده في أغلب مؤلّفه على الرّأي الثّالث – المتجاوز لرأي التّراثيين العرب و الغربييّن- القائل بـ:" أنّ الحجاج قد أخذ شيئا فشيئا يستوي مبحثا فلسفيّا و لغويّا" 9فتعدّاه كونه فعلا لغويّا إلى كلام ذي حمولة موجّهة وفق مقصديّة المتكلّم، وهو موضوع الدّراسات الحديثة مع (تولمينToulmin)، و(بيرلمانPerelman)، و(تيتيكاهTyteca)، و(مايرMayer) و(ديكرو Ducrot).

 ولعلّ هذا الرّأي هو ما أحاد المؤلّف عن اعتماد –La demonstration- ترجمة لكلمة (حجاج) إذ يراها تتجذّر أكثر في الحدّ المنطقيّ، فتجاوزها إلى تبنّي مصطلح L'argumentation.

  قدّم المؤلّف مقاربة فلسفيّة للحجاج ممثّلة في (تولمين) الذّي أسّس له انطلاقا من جملة حدود تمثّل ركائز نظريّته– لا يسع المقام لشرحها و التّفصيل فيها، لكن نذكرها لسبيل الاستزادة- وهي:

(المعطيات/Les données)، (النّتيجة/La conclusion)، (الضّمان/ La garantie)، (لاستثناء/L'exeption) و(الأساس/Le fondament)، لكنّه لم يعتمدها في التّطبيق على الخطاب القرآني، وذلك راجع لمنطلقات التأسيس الأرسطيّة عنده والتّي رآها قاصرة لاستيعاب كامل الحجج-وقد صرّح بذلك في كتابه- ،ولكن في الوقت نفسه لا ينكرها، بل يطعّمها بنظريّات القانون، فالحجاج عند (تولمين)- حسب عبد الله صولة- "هو أقرب إلى صناعة البرهان"10كمــــــــــا أنّه –تولمين- أقصى عنصر الجمهور في طرحه. فالحجاج في أساسه هو تحليل للقول، ومحاولة الرّد عليه بقول أبلغ منه يؤدّي وظـيفة إقناعية Une fonction persuassive))، بينما حجاج(تولمين) يقدّم لنا" نموذجا حــجــاجــــيــا يجعل من التّعليل الوظيفة الأساسيّة للحجج" 11، وعليه فمقاربته حصرت فعالية الحجاج في التّعليل، دون بلوغ أي هدف تحليلي للقول.

حاول أعلام المدرسة البلجيكيّة (بيرلمان و تيتيكاه) توسيع البلاغة إلى حدود بعيدة، عن طريق تقديم مفهوم جديد للحجاج ارتكز على" درس تقنيات الخطاب التّي من شأنها أن تؤدّي بالأذهان إلى التّسليم بما يعرض إليها من أطروحات، وأن تزيد في درجة ذلك التّسليم"12، أي البحث في آليات الخطاب التّي تحمل السّامع – مهما كان نوعه- إلى قبول الأطروحة والاقتناع بها، وهذا منوط بدور المتكلّم في توجيه رسالته حسب غاياته القوليّة، والأهمّ من ذلك  هو تقوية حدّة الإذعان لدى السّامع. إذن:"يضعنا نموذج بيرلمان أمام مواجهة خطابيّة جدليّة أحاديّة الوجهة، ترتبط بقضيّة أو أطروحة، يستند فيها الخطيب على تقنيّاته الحجاجيّة ومكانته الاجتماعيّة ليعدّل موقف المتلقّي أو يعزّزه"13، وهو خطاب صالح لكلّ أنواع الجمهور،إذ بلاغة (بيرلمان) " تهتم بالخطابات الموجّهة إلى كلّ أنواع المستمعين، سواء تعلّق الأمر بجمهور مجتمع في ساحة عموميّة، أو تعلّق باجتماع المختصّين، أو بشخص أو بكلّ الإنسانية"14.

  بني الحجاج عند (بيرلمان وتيتيكاه) على أنقاض البلاغة التّقليديّة، فهو بعث لها في ثوب جديد، غير أنّهما وسّعا حدودها وذلك" عبر دمج الجدل، والإنسانيّات عامّة والتّحاور العملي، في هذا النّموذج الموحّد الذّي دعاه البلاغة الجديدة"15. وعليه فحجاج (بيرلمان) تجاوز القطيعة الحاصلة بين مفاهيم (أرسطو وأفلاطون) فيما يخصّ البلاغة والخطابة، متجاوزا إيّاهما إلى الإقرار بكفاءة كلّ أنواع المستمعين في فك تشفير الخطاب،وفهمه،والرّد عليه بما يناسبه، كما نجدهما يثمّنان جهود المتكلّم في توجيه رسالته توجيها معيّنا يستفزّ السّامع لتحليلها وفهمها والتّسليم بها.

ليأتي (ماير) تلميذ (بيرلمان) بمقاربة جديدة أساسها المساءلة Questionnement، فالحجاج–حسبه- هو جواب عن سؤال، إذ المتلقّي هو القائم بطرح الأسئلة Questionneur.

ينبني الحجاج عند (ماير) على استثارة المساءلة، وعليه فهو" دراسة العلاقة القائمة بين ظاهر الكلام وضمنيّه"16، وقصد بالأوّل الجواب، والثّاني هو السّؤال الضّمني. ويرى (صولة) أنّ تركيبة الخطاب القرآني بما هو نسق مفهوميّ يرتكز على طريقة المساءلة هذه.

نرى (ماير) يزاوج بين اللّغة والبلاغة والفلسفة في تقديم طرحه الخاصّ بالمساءلة، فهو يقرّ بأنّه-الحجاج- يتخلّل مختلف الحقول المعرفيّة، كما يستوطن الخطابات والنّصوص على اختلافها والتّي القصد منها الغاية الأساسيّة وهي الإقناع.

هذا المزيج المفهومي عند (ماير) إنّما يعزى إلى انفتاح آفاقه على مختلف حقول المعرفة الإنسانيّة، وكذا رغبة منه في سلك سبيل معلّمه (بيرلمان)، لكنّ مع قناعة منه بمخالفته،فإن كان (بيرلمان) أوّل المؤصلين للحجاج كمبحث أساس في البلاغة المعاصرة، فإنّ (ماير) له السّبق في إقحام الحجاج ضمن الأطر الفلسفيّة الابستمولوجيّة الحديثة من خلال( المساءلة/ البلاغة/ اللّغة).

 إن كان الحجاج عند(بيرلمان وتيتيكاه) مؤسّسا على بنى منطقيّة أو شكليّة أو رياضيّة، و عند (ماير) على المساءلة، فـ(تولمين) الذّي رام التّأسيس له فلسفيّا ضمن ما يعرف بـ:صناعة البرهان، فإنّ الحجاج لدى أعلام المدرسة الفرنسيّة (أسكمبر وديكرو) قد نحا منحى لغويّا بحتا، كما يظهر من خلال كتابهما(الحجاج في اللّغة L'argumentation dans la langue)، حيث عرّفاه بأنّه:" إنجاز لعملين هما عمل التّصريح بالحجّة من ناحية، وعمل الاستنتاج من ناحية أخرى، سواء كانت النّتيجة مصرّحا بها أو مفهومة من ق1"17وقصد بـ:ق1قول المتكلّم.

  فنرى (ديكرو) يقيم قطيعة مع التّقاليد البلاغيّة القديمة، إذ نزّل الحجاج ميدان الممارسة من خلال جعل اللّغة مكمنه، فهو فعاليّة لغويّة تقوم على التّلفظ بقول يحمل بين ثناياه حجّة، تجعل المتلقّي يستنتجها، ويظهر ذلك في ردّه، بغضّ النّظر عن طبيعة هذه النّتيجة إن كانت ضمنيّة Impliciteأو مصرّحا بها Explicite.

 وقد حدّد(ديكرو) وظيفة الحجاج بـ: التّوجيه L'orientation، أي إنّ فعل التّلفّظ موجّه وجهة معيّنة تجعل السّامع يقتنع بالحجّة ضمن الحدود التّي أرادها المتكلّم،وذلك ما صرّح به قائلا:"إن ّالأبحاث المتعلّقة بهذا الأمر... تطمح إلى مدّ هذه الأطروحة إلى مدى أوسع من المواضع المشتركة التّي بوبّتها البلاغة، وحسب وجهة نظرنا،  فإنّ كلّ ملفوظات اللّسان تأخذ وتقتلع معناها من جرّاء كونها تضطلع بدور يلزم المخاطب باستخلاص صنف معيّن من النّتائج"18.

 وهذا ما يعاب عليهما في نظريّتهما هذه، إذ لهما السّبق في جعل اللّغة آلة للوصف الدّلالي ضمن ما يسمّى بـ: التّداوليّات المدمجة، لكن حصرهما للوظيفة الحجاجيّة للّغة في التّوجيه دون غيره نراه إجحافا واضحا في حقّها، فدلالة الكلام عامّة والكلمة خاصّة"ليست التّوجيه فحسب،وإنّما التّوجيه جزء من دلالة ذلك الكلام ، فقد يكون لهذا الكلام بحسب المواقف التّأويليّة التّي نقف عليها، دلالات تتجاوز الحجاج و التّوجيه و تفيض عنهما"19. فيظهر جليّا من خلال قول (عبد اللّه صولة) كوناللّغة بما هي نظام قائم بذاته أوسع من أن تشمل وظيفة واحدة هي التّوجيه، هذه الأخيرة هي فرع من المعنى الذّي يحمله الكلم، ووجه من أوجه البلاغة فيه يحوّرها السّامع وفق كفاءاته السّياقيّة والتّأويليّة، لنجدها-اللّغة- بما تحمله من حمولات تتعدّى كونها مادّة موجّهة أو آليّة حجاجيّة هدفها التّسليم والإذعان.

  ويرى (ديكرو) أنّ استمرار العمليّة الكلاميّة بين طرفي الحوار يصنع لنا نوعا من التّتابع والتّدرّج الكلاميّ ضمن حدود الحجاج، قدّمه في مشروعه بـ: السّلالم الحجاجيّة أو Les Echelles Argumentatives، هذه النّظريّة كانت المنطلق لعديد الدّراسات المعاصرة.

  إنّ الحجاج عند (أسكمبر وديكرو):"لم يعد نشاطا لسانيّا من بين أنشطة أخرى، ولكنّه أساس المعنى نفسه، وأساس تأويله في الخطاب"20، فلبلاغة الخطاب دور في صنع حجاجيّته التّي يعود الفضل في استشعارها للمتلقّي.

في استحضار محطاّت بناء مفهوم الحجاج، نجده آليّة من آليّات الإقناع يتوخّاها " المرسل للتّأثير على المتلقّي أو دحض آرائه، أو حتّى تغيير سلوكه، فبواسطة الحجج المستعملة ندرك شخصيّة ومنزلة وإمكانات هذين القطبين"21أي المرسل والمرسل إليه.

تعرّض (عبد الله صولة) لآراء الأعلام الغربييّن فيما يخصّ مفهوم الحجاج في سبيل بناء تصوّر خاصّ به، متجاوزا تعليليّة الحجاج عند ( تولمين)، مستثمرا إضافة (بيرلمان و تيتيكاه) في ربط فعلي الإقناع بكفاءات المتكلّم، والاقتناع بقدرة المستمع على فك شفرات الخطاب، وكذا جهود (أسكمبر و ديكرو) التّي نزّلت الحجاج ميدانه: اللّغة، وجعلتها مداره. ويمكن القول إنّ (عبد اللّه صولة) حاول استثمار المفاهيم السّابقة، التّي باجتماعها ترسم لنا صورة لممارسة تهدف إلى استشعار الخصائص الأسلوبيّة ضمن آفاق فلسفيّة لغويّة، هذه الممارسة هي الحجاج.

2-الخصائص الأسلوبيّة:

 ظهر علم الأسلوب،هذا المنهج اللّساني النّقدي، مع (شارل بالي Charles Bally) تلميذ (ديسوسير)، سعىمن خلاله دراسة تمظهر جديد من اللّغة عرّفه بالكلام، فالأسلوبيّة:  " تحليل لغويّ موضوعيّ موضوعه الأسلوب"22، فهو دراسة على مستوى اللّغة تتّخذ من الأسلوب مادّة للنّظر والبحث. وعلم الأسلوب بما هو:"علم يدرس تناسق العناصر المؤلّفة للكلام وتداخلها، كما يدرس العلاقات القائمة بين هذه العناصر لتحديد وظائفها والوقوف عليها"23يرمي إلى رصد الانسجام الحادث بين جزئيّات اللّغــــــــــة وعلاقاتها التّي تحكمها وتوجّهها توجيها محدّدا، وبما أنّ اللّسانيّات درست النّظام العامّ وهو اللّغة، فالأسلوبيّة جعلت من التّخصيص سبيلها عندما حدّدت الأسلوب أساس وجودها. فما هو الأسلوب؟

  يقول منذر عيّاشي:" هناك رسالات (نص،عبارة،كتاب) تتّخذ في إنجازها وأدائها شكلا خاصّا يخرج بها من المألوف في استعمال النّاس للكلام الجاري أو اليوميّ،وهذا الشّكل الخّاص هو ما يطلق عليه الأسلوب،أي الطّريقة التّي يتكوّن بها لتصبح خاصّة من خواصّ نفسها"24. فالأسلوب هو كلّ فعل لغويّ خلاّق، ونسق خاصّ يتمركز داخل نسق عام هو اللّغة، يرتبط بها من حيث كونه جزءا لا يتجزأ منها، لكنّه يخرج عن معهودها ليترك ذلك الأثر في النّفس.

  نجد أنّ قول منذر عيّاشي يأتّي في سياق توضيح الأسلوب شكلا من أشكال كسر القاعدة، ووجها من أوجه انحرافها، فيؤدّي – الأسلوب- بتحوّل وظيفة اللّغة لأنّه شكل خاصّ منها، وهذا ما يخرج اللّغة من أحاديتها إلى التّعدّد، أي تجاوز المسار المحدّد بـ: صوت، نحو،دلالة إلى المطلق التّداولي( أي المستعمل اجتماعيا).

   قصد (عبد اللّه صولة) بالخصائص الأسلوبيّة للقرآن الكريم سماته التّي تتموضع داخل لغته ضمن بعد معيّن، حصرها في: "ظواهره اللّغويّة، وقد تحوّلت بحكم تردّدها وتكرارها وعودتها فيه إلى أسلوب في القول يميّزه"25، فمعيار تجلّي السّمات الأسلوبيّة للنّص القرآني حسب المؤلّف هو لغته المعجزة المباشرةفي آن واحد،والتّي يكمن موطن إعجازها وتفلّتها في جملة من الظّواهر اللّغويّة التّي يحكمها طابع التّكرار، يجعل منها هذا الأخير نموذجا تعرف به الطّريقة المتوخّاة في صوغها.

 هذا الفعل هو ما يطلق عليه في اللّسانيّات الغربيّة بـ: التّشبّع La saturation، وأوّل من أسّس له من وجهة نظر فلسفيّة هو الفيلسوف (جيل قرانجر Gilles Gaston Granger)، أمّا من حيث مثيلتها اللّسانيّة نجد (كونراد بيرو Canrad Burau).

  فالتّشبّع مصطلح كيميائي، فحواه أنّ المادّة المنحلّة في الماء- ملح أو سكّر على سبيل المثال- قد بلغت كمّيتها حدّا لم يعد لكميّة السّائل معه القدرة على الامتصاص.

 نجد اللّسانيّ (ميكاييل ريفاتيرRiffataire) ينطلق من هذا المفهوم في تفريقه بين التّشبّع والأسلوب،فالأوّل عنده هو: "الذّي يمثّل لغة الكاتب أو المتكلّم، أما الأسلوب فيتمثّل في الخروج عن ذلك التّشبّع، وفي خرق نظام التّواتر"26، فالملاحظ أنّ أسلوبيّة ريفاتير معاكسة لأسلوبيّة (كونراد بيرو)لأنّه يعتبر:" الاستخدام اللّغويّ المهيمن هو الحدث الأسلوبيّ"27، أي الطّريقة المعهودة في صوغ مادّة معيّنة هي –حسب بيرو- السّمة الأسلوبيّة، وقد بني هذا الرّأي من آراء (قرانجر) التّي تقرّ بأنّ الأسلوب في أصله هو ترديد أو إطنابRedondance)). لكنّ ريفاتير يعتبر المنحى المعهود للإنتاج اللّغويّ هو القاعدة، بينما الأسلوب هو كلّ خروج وانحراف عن هذه القاعدة.

 إنّ هذا التّباين في الآراء في وضع مفهوم موحّد للأسلوب، هو ما جعله يتّخذ صفة الزّئبقيّة فنراه يتموضع في مستويات اللّغة كافّة، وقد حدّدها عبد اللّه صولة في (الكلمة/التّركيب/الصّورة) ورأى أنّ الأسلوب يتموضع في كلّ منها، ويؤدّي وظائف مختلفة فيها...

فالمستوى المعجمي تتكرّر فيه حمولة معجميّة دون غيرها، تغدو بذلك سمة أسلوبيّة، وكذا المستوى التّركيبي الذّي يشمل حقولا منظومة أسلوبيّا، إلى مستوى الصّورة إذ تمثّل المجازات والتّشبيهات بتواترها في النّص ميزة أسلوبيّة أيضا. وعليه فإنّ الحمولة:(المعجميّة/التّركيبيّة/الصّوريّة) بتواترها في النّص القرآني ترنو وظيفة واحدة هي الوظيفة الحجاجيّة (La fonction Argumentative).

 في هذا السّياق، للباحث (الهادي حمّو) رأي محايد،إذ يعتبر أنّ الأسلوب له أن يتجاوز المستويات الثّلاثة السّابقة إلى مستوى رابع هو الموسيقى، يقول:" إنّ خصائص الأسلوب تتجاوز جوانـــــب المعجـــــــم و التّركيب والصّورة إلى الموسيقى"28، لأنّ الحدث الأسلوبيّ –حسبه- يتعدّاه إلى هذا المستوى الجديد،والذّي قصد به الإيقاع.

  يؤيّد (صولة) رأي (الهادي حموّ) في بيان أهمّية الإيقاع أو الموسيقى، فهو ليس مجرّد زينة خارجيّة تلحق بالنّص القرآنيّ، رغم ذلك فهو يظلّ مبحثا متعسّرا من حيث الدّراسة صوتيّا، وبذلك تتعسّر دراسته حجاجيّا، فركّز المؤلّف على دراسة أسلوب القرآن الكريم في المستويات المذكورة آنفا، مع تفعيل دور المقام الذّي يضمّه.

 التّفاعل القائم بين أطراف الخطاب في القرآن هو عامل حاسم في تحديد خصائص أسلوبه و سماته بمختلف الأبعاد التّي تحملها،إذ "لا فرق فالأسلوب والحجاج أحدهما ناشيء عن الآخر"29، ومن هذا القول نرى أنّ تناول الحجاج بما هو- مبحث لغويّ –موضوعا للدّراسة دون إقامة الصّلات بينه وبين الأسلوب إنّما هو في نظر المؤلّف نأي عن السّبيل القادرة على إبانة الأبعاد الحجاجيّة و الفنّية لأيّ نص.

ثانيا: بين مستويات الحجاج عند (صولة) والتّفكير الحجاجي عند العرب:

 رأينا المؤلّف يقيم الصّلة بين الحجاج بما هو مبحث تداوليّ والأسلوبيّة، في سبيل إبداع أسلوبيّة الحجاج في خطاب يشكّل نسقا متكاملا بامتياز. وقد تدرّج في بيان حجاجيّة الخطاب القرآنيّ وتميّزه الأسلوبيّ انطلاقا من الكلمة، فالتّركيب، فالصّورة التّي عدّها أكبر مظاهر الإقناع والتّأثير في القرآن.

1-الكلمة:يقول (الهادي عيّاد):" إن ّ الكلمة بوصفها رمزا لغويّا تتألّف من صيغة و مضمون، لا ينفصلان تماما كوجهي قطعة نقدية"30، فـــــهي عبارة عن تمثّل لغويّ و آخر ذهنيّ يتواكبان على طول مسار التّلفّظ لأجل بناء مفهوم معيّن، وبذلك فـ(الهادي عيّاد) بوضعه حدّا للكلمة إنّما نراه يتجاوز مفهوم المعجمLexique   أو الوحدة المعجميّة .

   نجد (عبد الله صولة) يفرّق بين المعجم بما هو منظومة لغويّة لفئة معيّنة، تمثّل هذه المنظومة محور التّواصل، وبين المعجم منزّلا ضمن حدود الكلام Parole" فهو بهذا المعنى قائمة الكلمات التّي يستخدمها شاعر، أو كاتب، أو هي مستخدمة في مدوّنة خطاب ما كالخطاب القرآني"31، وعليه فالمؤلّف يدرس في مؤلّفه حجاجيّة الخطاب القرآني ضمن مستوى الكلمة بما هي نظام يحكم نظاما آخر، واعتمد في دراسته هذه على إحصاء مجموعة من الكلمات والصّفات المتواترة في القرآن، رأى في تواترها سمة أسلوبيّة وحجاجيّة معيّنة.

 على أنّه أقام دراسته ضمن أبعاد ثلاثة هي: الاقتضاء، التّقويم، التّداول. وفي هذا السّياق اخترنا تقديم دراسته لكلمة (الله) في البعد الأوّل، لتليها كلمتا(المؤمنون/الكافرون) في البعد الثّاني، ثمّ دراسة شاملة لأهم الكلمات ذات الصّلة بمعاجم الأديان الأخرى ضمن البعد الأخير.

 استند المؤلّف إلى رأي (الشّريف الجرجاني) ت 816ه– من خلال كتابه: التّعريفات- القائل إنّ:" المقتضى هو عبارة عن جعل غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق"32، يفهم من هذا القول إنّ المقتضى هو إبانة لغير المتلفّظ به لأجل وسم المتلفّظ به وسما معيّنا يجعل السّامع يتأثّر ويقتنع به. وأدرج أيضا رأي الغزالي بهذه المسألة، لكنّه يرى تعريفيهما ملتبسين بالبعد الشّرعي، فأشار إلى أنّ ما يهمّه هو أنّ المقتضى "من ضرورة اللّفظ"33، فهو الشّقّ اللاقولي من أيّ قول.

أخذت كلمة (الله) حيّزا كبيرا في الدّراسات التّراثيّة، ذكر المؤلّف بعضا منها في كتابه، نستأنس بالمفهوم الذّي جاء به (الأصفهاني) ت284ه، إذ قال:" والله أصله إله فحذفت همزته ، و أدخلت عليها الألف واللام فخصّ بالباري تعالى(...)،وإله جعلوه اسما لكلّ معبود لهم وكذا الذّات، وسموا الشّمسإلهة لاتّخاذهم إيّاها معبودا"34.يفرّق المؤلّف انطلاقا من تصوّر(الأصفهاني) بين كلمتي (الله) و(إله) إذ جعل الأولى تدل على كلّ المعبودات السابقة لدى الأقوام الأولى من أصنام وشمس وقمر، وأمّا الثّانية فاختصّت بالباريتعالى، فنراها(كلمة الله) مرّت بمراحل جعلت دلالتها تتغيّر حسب المعجم و الاستعمال، فهي على الأقلّ لها مقتضيين معجميين.

 والمقتضى المعجمي بصفة عامّة يستلزم مقتضى براغماتيا Présupposé Pragmatiqueعرّفه الباحث (فيلمور Fillmore) بـ: " مجمل الشّروط التّي ينبغي توافرها عند الكلام لكي يتحقّق عمله اللاقولي"35، قصد بالشّروط شروط الاستعمال conditions d'emploi، بمعنى كون المتكلّم في وضع يسمح له بأمر مخاطبه، وبذلك فهي الشّروط المساعدة على تحقيق العمل اللاقولي، فإن كان المقتضى المعجمي لكلمة (الله) يتمثّل في (وحدانيته في العبادة) فهو يحيل إلى المقتضى البراغماتي من قبيل (اتّقوا الله/ أطيعوا الله)...

 إنّ المقتضى البراغماتي لكلمة الله، يستوجب وجود نوعين من البشر هما (المؤمنون/ الكافرون)، وجد المؤلّف في دراستهما انطلاقا من هاتين الصّفتين( الإيمان/ الكفر) تجسيدا للبعد التّقويمي. وكما هو ظاهر من كلمة تقويم، فإنّها ترتكز على تعديل سلوك معيّن وفق حكم يطلقه المتكلّم بخصوص السّامع، يقول صولة:" التّقويم في اصطلاح الفلاسفة تحديد قيمة الشّيء بإطلاق حكم قيمي jugement de valeurعليه يرفعه أو يحطّه بالنّسبة إلى معايير"36، فمعيار التّقويم أخلاقي بامتياز.

 واختار المؤلّف الصّفة موضوعا للدّراسة ضمن هذا البعد لأنّها" أبلغ في التّعبير عن الحكم التّقويمي من الأفعال والأسماء". وبما أنّ معيار التّقويم أخلاقي فقد كان البعد الحجاجي للصّفات في المعجم القرآني هو تقويم العالم، فهذا التّفاضل في المعجم القرآني بين الأشخاص(مؤمن/كافر) هو ما يكسب القرآن بما هو خطاب بعدا حجاجيّا له دلالة ومكانة أعمق وأكبر من مجرّد رصف الأسماء والأفعال والصّفات فيه رصفا عشوائيّا. ونزوع القرآن للبعد التّقويمي جعله ينقل بعض الكلمات من حقلها الأخلاقي إلى حقل أخلاقي آخر وهذا التّرحال بين حقلين مغايرين تماما، له بعد حجاجي هو الانحراف عن العادة، والإتيان بكلمات قد تكون مخالفة تماما للسّياق الجديد الذّي تتموضع فيه، فهو فعل أسلوبيّ بحت فحواه الانزياح عن العرف لأجل تكوين سمة جديدة.

يقرّ المؤلّف أنّ"البحث في البعد الحجاجي الذّي تكتسبه الكلمة من رافد التّداول والاستعمال مبحث عسير على نحو ما ومعقّد بوجه من الوجوه"37، ومردّ ذلك أنّ الخطاب القرآني احتوى كلمات استعملت قبل نزول القرآن، ووجدت في معاجم الدّيانتين المسيحيّة واليهوديّة باعتبارهما ديانتي توحيد في الأساس، وعليه عكف المؤلّف على جرد طرائق استخدام القرآن للألفاظ العربيّة، نذكر واحدة منها على سبيل التّمثيل وهي: الحفاظ على المعنى الدّيني الذّي للمعرّب. فـ:" جهنّم أصلها كهنام، والرّحمان أصلها رخمان ...و(الحوب) هو الإثم، و(الطوبى) وهو اسم الجنّة بالحبشيّة"38، وعليه فالمعجم القرآني يحافظ على المعنى الدّيني الذّي للمعرّب، وفي ذلك إشارة واضحة إلى تلاقح الأديان تاريخيّا. كما أنّه حرص منه على عدم المساس بمقدّسات الأديان الأخرى من جهة، ومحاولة التّأثير والإقناع من جهة أخرى، وهنا نستشعر البعد الحجاجي للمعجم القرآني إذ يروم التّأثير والإقناع في المتلقّين عن طريق تهيئتهم لهذا الوافد الجديد من خلال ما ألفوه وعاشوه، وإظهار العدول في بعض المفاهيم رغبة في تقديم مبادئ الدّين الجديد.

  هذا العدول هو سمة أسلوبيّة ظاهرة في حدّ ذاتها، إذ ترتكز في الأصل على المعجم الذّي هو وعاء الفكر. فالتّأثير والإقناع مردّهما سمة أسلوبيّة تروم العدول عن مسار عرفته الأقوام الأولى من خلال التّطعيم بمبادئ هذه الأقوام، لغاية خلق أسس جديدة تنبني في انسجام لخدمة دلالة بؤرة واحدة هي: "التّوحيد".

2-التّركيب:رصد المؤلّف حجاجيّة الخطاب القرآنيّ في مستوى التّركيب، وحدّد الجملة موضوعا للدّراسة ضمن هذا الشّقّ من البحث، فاختار محور (التّوكيد) ليكون مظهرا للعدول الكمّيّ بالزّيادة داخل الجملة، و(الحذف) مثيله للعدول الكمّيّ بالنّقصان، هذه العناصر تحمل سمات دلاليّة أو كما سمّاها المؤلّف: شارات حجاجيّة Marqueurs Argumentatifs.

- العدول الكمّيّ بالزّيادة/ التّوكيد:يريد المؤلّف بالعدول الكمّيّ بالزّيادة كلّ انحراف في بنية التّركيب مكمنه مجموعة من الزّوائد اللّفظيّة التّي تسم الجملة بسمة الحجاج، ومن بين المحاور الكثيرة التّي تمثّل هذا نجد التّوكيد. ابتدأ بوضع حدّ للبعد المفهومي، واستند إلى (عادل فاخوري) الذّي قال:" إنّ مفهوم الكاتب لا يتضمّن سوى ذات قادرة على الكتابة"39، ما يجعلنا نطابق بينه وبين المعنى، أي الصّورة الحاصلة بالعقل اتّجاه شيء معيّن. فالبعد المفهومي أنّه يمثّل أهمّ السّمات اللّغويّة التّي تلقي بظلالها على الجملة فتعدّل في دفقها الحجاجيّ. لكنّ المفهوم عند الأصولييّن هو خلاف المنطوق، وهو كلّ مسكوت عنه، واستأنس المؤلّف في التّفصيل لهذه الفكرة لقوله تعالى" فلا تقل لهما أفّ"40، وفسّرت كلمة (أفّ) التّي هي محلّ النّطق، بـ:(الضّرب) الذّي هو المسكوت عنه في الآية.

  يكون التّوكيد بأدوات كثيرة نذكر منها:(إنّ، أنّ، لام القسم،) وكلّها تتجاوز كونها زوائد لغويّة إلى طاقات حجاجيّة مضافة إلى طاقة الجملة الأصليّة تدرك مفهوميّا أي ضمن حدود المسكوت عنه، وذلك ما يحيل إلىمطابقة بينثنائيّتي                (منطوق/مفهوم) عند الأصولييّن و(دلالة تصريحيّة/ دلالة حافّة) عند اللّسانييّن، خاصّة منهم (ديكرو و أوركيوني) إذ قدّمه الأوّل بـ:" مايستنبط من المنطوق"41، وعرّفته أركيوني بـ:" ما يفهم ولا يصرّح به"42. إنّ الدلالة الضّمنيّة التّي تحملها هذه الزّوائد اللّفظيّة ملتصقة بالجملة الأصل، هي ما يجعل الخطاب ذا حمولة حجاجيّة غير تلك التّي يحملها بالتّوكيد فقط، فهذا التّلاحم هو مبعث قوّة الحجاج خاصّة في مواقف مجابهة خصوم القرآن والرّد عليهم، وهذا الفعل كلّه يكون على المستوى الضّمني، وليس التّصريحي.

- العدول الكمّي بالنّقصان/ الحذف:

إذا كان العدول الكمّيّ بالزّيادة مكمنه التّوكيد عند (صولة)، فإن:" مدار العدول الكمّي بالنّقصان على الإيجاز"43، وحصر مفهوم الإيجاز في الحذف، فاستند إلى الزّركشي في بيان أقسامه الثّمانية منها" الاختزال والضّمير والاحتباك والاكتفاء"44ركّز عليها في طرحه مثلما صرّح به في كتابه موضوع الدّراسة، وتوسّل بـ:(ابن هشام) ت 761ه، في تعريفه للحذف، إذ كلّ حدث خارج عن القاعدة مبني وفق ما يستلزمه البناء اللّغويّ، فالعرف اللّغويّ مفاده أنّ لكلّ مبتدأ خبر يكمّل معناه، لكن ماذا لو غيّب هذا الخبر؟ كيف سيكون وقع الجملة على السّامع؟

  كما طعّم المؤلّف آراء العلماء العرب برأي الفيلسوف (روبول Olivier Reboul) القاضي مفهومه حول الحذف" أن تسقط بعض الكلم الضّروريّة (لكنّها ضروريّة) بالنّسبة للتّركيب لا بالنّسبة للمعنى"45، هذا التّصوّر المنادي بأساسيّة الكلم المحذوف في التّركيب باعتبار هذا الأخير قاعدة ونموذجا. أمّا من ناحية المعنى فتغييب عنصر معيّن هو مكمن الحجّة لديه.

 هذه الحدود من عدول كمّيّ بالزّيادة والنّقصان يراها المؤلّف مكمن حجاجيّة الخطاب القرآني الذّي توسّل بالعدول عن العرف اللّغوي لبيان نظمه وإعجازه، على أنّ هذه الظّواهر الحاصلة على مستوى الجملة لها أن تطرأ كذلك بين الجمل والنّصوص.

  لنجده يقدّم نوعا جديدا من أنواع العدول، وسمه بالعدول النّوعيّ، وقصد به:" الانتقال من طريقة التّعبير إلى طريقة أخرى مختلفة عنها مضادّة لها في الغالب"46وذلك ما يحيلنا إلى المستوى الثّالث المحيط بحجاجيّة القرآن وهو الصّورة.

 هذا الانزياح على مستوى ممارسة اللّغة، إنّما يمثّل ملمحا أسلوبيّا يظهر بكثرة في الخطاب القرآنيّ بين الجمل، أو في الجملة الواحدة، وما يطرأ عليها من (نشاز) كما وسمه المؤلّف في كتابه.

3- الصّورة:  قصد ( عبد اللّه صولة) بالصّورة الاستعارة والكناية والمجاز والتّشبيه، وخصّها بالدّراسة في الخطاب القرآني، إذ تمثّل ملمحا أسلوبيّا للإعجاز اللّغوي القرآني، يقول ابن الأثير:" الاستعارة لا تكون إلّا بحيث يطوى ذكر المستعار به، وكذلك الكناية فإنّها لا تكون إلّا بحيث يطوى ذكر المكنّى به"47، فهي تعتمد على مبدأ الاستبدال من خلال الحقيقة و المجاز، أي تعويض المجاز بالحقيقةدون الإخلال بالمعنى، وبهذا يحصل التّأثير و الإقناع، إضافة إلى تجسيد المعاني وتقريبها من حسيّة إلى معنويّة حتّى يستقيم الفهم.

 يتجسّد مبدأ الاستبدال في الحقيقة والمجاز، وبين أطراف الصّورة في قوله تعالى:" ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث"48، يقول(الزّمخشري)ت 538ه :" كان حقّ الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته، فوضع قوله: فمثله كمثل الكلب موضع حططناه أبلغ حطّ لأنّ تمثيله الكلب في أخسّ أحواله وأذلّها في معنى ذلك"49، هذا التشبيه هو موطن الإعجاز في الآية الكريمة، التّي جاء فيها المجاز استبدالا للحقيقة، لأنّ المعنى يظهر في الأوّل أكثر منها في الثّاني، ، فيكون المجاز وسيلة من وسائل صنع المعنى وطريقة من طرق استشعاره.

على أنّ مادّة الصّورة تستمد أيضا من المقوّمات الثّقافيّة والرّمزيّة للمتلقّين، فالمعروف أنّ اللّه سبحانه وتعالى يؤيّد رسله بمعجزات أقوامهم، ، كذلك القرآن عندما نزل على سيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم، إنّما نزل على معهود العرب من الفصاحة و البلاغة، وخير بيان قوله تعالى:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"50، فالأكل هنا مجازيّ قصد به أكل المحرّمات، يقول ابن عاشور: "اكتسابهم كان من الإغارة والميسر، ومن غصب القويّ مال الضّعيف، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام...وكلّ ذلك من الباطل الذّي ليس عن طيب نفس، والأكل حقيقته إدخال الطّعام من الفم إلى المعدة، وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون الإرجاع" 51فنرى نزول الآية على المعهود من كلام العرب إذ مفهوم (الأكل) معروف عندهم سلفا .

خاتمة:

إنّ القضايا التّي عالجها المؤلّف في كتابه موضوع الدّراسة إنّما تنمّ عن التّنوّع المعرفيّ الذّي يحوزه، فنراه يؤصّل للحجاج عربيّا إقرارا بحجاجيّة التّفكير عند العرب قديما، ويطعّم أسسه المعرفيّة العربيّة بمثيلتها الغربيّة تراثيّة كانت أم حديثة، إيمانا منه بأنّ الحجاج قضيّة إنسانيّة مشتركة بين الحضارات و الثّقافــــات. وعليه جاءت منطلقات التّأسيس عند (عبد الله صولة) مزيجا بين التّراث العربيّ بعلومه المختلفة كالنّحو والبلاغة والّتفسير، لأنّها مباحث هدفت لخدمة الخطاب القرآني –الذي هو مادّة البحث عند (صولة)- وبين الموروث البلاغي الغربي الذّي يعتبر الأرضية المعرفيّة لشتّى البحوث الإنسانية المعاصرة. كما مكّنه بحثه هذا من إبداع مصطلحات ومفاهيم معرفيّة جديدة (العدول الكمّي بالزيادة، والنّقصان مثلا) التّي تفتح لنا أفقا جديدة للبحث فيها بمعاول متعدّدة.

 


  1. جمال الدّين بن منظور، لسان العرب، تحقيق وتعليق: عامر أحمد حيدر، مراجعة: عبد المنعم خليل أحمد، دار الكتب العلميّة ،1430ه-2009م، بيروت- لبنان، ص 259، مادة (ح-ج-ج). وينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن – من خلال أهمّ خصائصه الأسلوبيّة- ، دار الفرابي، بيروت، لبنان، الطّبعة الثّانية،2007،ص10.
  2. [1]المقرئ الفيومي والمصباح المنير، دار الفكر، بيروت، لبنان، 2010، ص70.
  3. محمّد بن أبي بكر الرّازي، مختار الصّحاح، ترتيب محمود خاطر، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى، ص116، مادّة ( ح-ج-ج).
  4. معجم ألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللّغة العربيّة، مصر، 1988، ص293.
  5. الطاهر بن عاشور، التحرير والتّنوير، الدّار التونسيّة للنّشر، 1984، ج2، ص32. وينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص11
  6. ينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص17
  7. محمّد أبو زهرة، تاريخ الجدل، دار الفكر، بيروت، 1935، الطبعة الأولى، ص05.
  8. سعيد فاهم، معاني ألفاظ الحجاج في القرآن الكريم، دراسة دلالية معجميّة، علوم اللّغة، جامعة مولود معمري، 2011، ص06.
  9. عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص09
  10. ينظر المرجع نفسه، ص26
  11. محمّد طروّس، النّظريّة الحجاجيّة، دار الثّقافة، الدّار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، ص68.
  12. ينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص27
  13. محمّد طروس،النّظريّة الحجاجيّة، ص56
  14. محمّد الولي، "مدخل إلى الحجاج"، مجلّة عالم الفكر،العدد 02، المجلّد40، أكتوبر2011،ص33
  15. المرجع نفسه، ص35.
  16. عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص39
  17. ينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص33
  18. صابر الحباشة، اللّسانيّات والخطاب، دار الحوار، سوريا، الطبعة الأولى، 2010، ص255
  19. عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص36
  20. صابر الحباشة، اللّسانيّات والخطاب، ص246
  21. سعيد فاهم ، معاني ألفاظ القرآن الكريم، ص10
  22. ينظر تومان غازي الخفاجي، البنى الأسلوبيّة في سورة الشّعراء، دار تمّوز، دمشق، سوريا، الطّبعة الأولى، 2012، ص38
  23. منذر عيّاشي، الأسلوبيّة وتحليل الخطاب، دار الإنماء الحضاري، حلب، سوريا، 2009، ص94
  24. المرجع نفسه، ص58
  25. عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص48
  26. ينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص48،49
  27. ينظر المرجع نفسه، ص49
  28. ينظر المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.
  29. عبد الله صولةا لحجاج في القرآن، ص54.
  30. الهادي عيّاد، الكلمة دراسة في اللّسانيّات المقارنة، ، مركز النشر الجامعي، تونس، 2010، ص372.
  31. عبد الله صولةالحجاج في القرآن، ص63.
  32. ينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص87.
  33. عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص 88.
  34. ينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص93.
  35. ينظر المرجع نفسه، ص103.
  36. ينظر المرجع نفسه، ص130
  37. المرجع نفسه، ص155.
  38. ينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص162.
  39. ينظر المرجع نفسه، ص 262.
  40. سورة الإسراء/ الآية 23
  41. ينظر عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص264
  42. ينظر المرجع نفسه، ص264
  43. عبد الله صولة، الحجاج في القرآن، ص387.
  44. ينظر المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.
  45. ينظر المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
  46. عبد الله صولة الحجاج في القرآن، ص 423.
  47. ضياء الدّين بن الأثير، المثل السّائر في أدب الكاتب والشّاعر، تحقيق: كامل محمد عويصة، دار الكتب العلميّة، الطبعة الأولى، 1419ه- 1998م، المجلد الأوّل، ص 345، والمجلّد الثّاني ص 174، وينظر عبد الله صولة الحجاج في القرآن، ص485.
  48. سورة الأعراف/ الآية 176
  49. ينظر عبد الله صولة،الحجاج في القرآن، ص483.
  50. سورة البقرة/ الآية 188.
  51. الطّاهر بن عاشور، التّحرير و التّنوير ص187.

@pour_citer_ce_document

نور الهدى دشاش, «منطلقات تأسيس نظريّة الحجاج عند 'عبد الله صولة' في كتابه: "الحجاج في القرآن".»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp 8-17,
Date Publication Sur Papier : 2011-09-20,
Date Pulication Electronique : 2018-05-13,
mis a jour le : 17/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=2797.