الجهوية في الجزائر: الواقع والآفاق Regionalism in Algeria: A Balanced Development Option
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°26 Vol 15- 2018

الجهوية في الجزائر: الواقع والآفاق
Regionalism in Algeria: A Balanced Development Option

pp 118-129

فاتح حاجي
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يتميز المجال الجزائري بفوارق مجالية كبيرة، ترجع جذورها التاريخية إلى ما قبل مرحلة الاستقلال، لذلك سعت الدولة منذ 1962 إلى معالجة هذه القضية، حيث نجد مسألة التوازن الجهوي والعدالة المجالية حاضرة في صلب الوثائق الأساسية للدولة، وكذا الوثائق المتعلقة بتهيئة المجال الوطني. لكن ورغم مرور أكثر من خمسة عقود ونصف على الاستقلال لوحظ استمرار الفروقات الكبيرة في المجال الوطني. ومن ابرز أسباب الفشل في تحقيق تنمية متوازنة تحد من هذه الاختلالات والفوارق التنموية، المركزية الشديدة التي تميز هيكل الدولة الجزائرية، والغياب العملي للمستوى الجهوي، أي المستوى الوسطي بين الدولة والولاية في التنظيم الترابي للبلاد، في الوقت الذي نجد الكثير من الدول المتقدمة والنامية أخذت بالنظام الجهوي وحققت نتائج كبيرة على صعيد التنمية المتوازنة.

الكلمات المفاتيح:

الجهوية، التنمية، التوازن الجهوي، الفوارق الإقليمية، التنمية المتوازنة

L'espace algérien est distingué par des grandes disparités régionales, ses racines historiques  remontent à la période de pré-indépendance, du fait que l'Etat  n'a cessé de traiter cette cause. En effet, nous trouvons que la question de l'équilibre régional et la justice spéciale sont déjà mentionnées au sein  des documents principaux de l'Etat, ainsi dans les documents relatifs à l'aménagement territorial national ; Après cinquante cinq ans de l'indépendance ,il reste encore de grandes disparités  dans  l'espace national ;parmi les raison d'échec dans la réalisation du développement équilibré qui  limitent ces disparités;  c'est la forte centralisation qui caractérise  l'organisme de l'Etat algérien et l'absence réelle du niveau régional c'est-à-dire, le niveau médiane entre l'Etat et la Wilaya dans l'organisation territorial ; au moment où on trouve beaucoup de pays développés et sous –développés ont opté pour le système régional et réalisaient de grands résultats au domaine du développement équilibré

 Mots clés:Régionalisation, l'équilibre régional, développement, les disparités régionales, développement équilibré.

independence. Therefore, the state has sought to address this issue since the independence. The issue of regional balance and justice is present in the basic documents of the state. More than five decades of independence have passed, however, significant disparities were observed in the national sphere. Perhaps one of the most prominent reasons for the failure to achieve balanced development, which limits these imbalances and differences, the very central characteristic of the structure of the Algerian state(centralization), and the absence of the practice between regional level and the state in the organization of the space, while we find a lot of developed and developing countries took the regional system and achieved significant results in balanced development.

keywords  Régionalism,  Regional Disparities, Development, Regional Balance, Balanced Development.

Quelques mots à propos de :  فاتح حاجي

طالب دكتوراه جامعة قسنطينة 1

مقدمة:

  لقد شكلت مسالة التوازن الجهوي تحديا للجزائر المستقلة، فقد أشار مؤتمر طرابلس 19622إلى هذه القضية، وتكرر الأمر في الوثائق الأساسية الأخرى للدولة، على غرار الدساتير، المواثيق المختلفة، ووثائق التهيئة العمرانية المتعلقة بالمجال الوطني.

   لكن، نظرة سريعة على المجال الجزائري، تؤكد أن الفوارق الإقليمية التي مازالت قائمة حتى أنها زادت تجذرا، بعد أكثر نصف قرن من الاستقلال، وبالتالي فشل مساعي خلق التوازن الجهوي المنشود في المجال الجزائري.

   في سياق متصل، نلاحظ من خلال تجارب الكثير من دول العالم -المتقدمة والنامية– أنها استطاعت أن تقطع أشواطا كبيرة في معالجة الفوارق الجهوية وخلق توازن بين أقاليمها تحقيقا لمبادئ التنمية المتوازنة، والفضل في ذلك يرجع إلى فعالية الأنظمة الإقليمية (الجهوية) فيها، وقد طورت هذه الدول مفهوم الجهة لينسجم مع واقعها السياسي وخصائصها الجغرافية والاقتصادية. هذا ما يطرح مسألة تأخر الجزائر عن ركب الجهوية.

    بناءا على هذا فالإشكالية المراد معالجتها في هذا المقال تتمثل في: ما هو واقع وآفاق الجهوية في الجزائر، وما هو دورها في تحقيق التنمية المتوازنة؟

للإجابة على هذه الإشكالية نتناول المحاور التالية:

1/ الجهوية: مفاهيم وتطبيقات

2/ سياسات التوازن الجهوي واستمرار الفوارق المجالية في الجزائر.

3/ النظام الجهوي، إستراتيجية فعالة لتحقيق تنمية متوازنة للتراب الوطني

1  - الجهوية: مفاهيم وتطبيقات

     أ – مفاهيم حول الجهة والجهوية: من الناحية اللغوية، وحسب المعجم الوسيط، الجِهَة هي الجانب والناحية، وجمعها جِهَات، أما من الناحية الاصطلاحية فيمكن فهم الجهة والجهوية من خلال تطور المعارف الجغرافية، النظرية والتطبيقية حول الأقاليم.

    لقد كان التباين المكاني موضوع اهتمام الإنسان منذ قديم الزمن، حيث تم ملاحظة وتسجيل هذا التباين، وتم التفكير في أسباب هذا التباين والاختلاف.

   ومع مرور الأيام، لم تزد وسائل الملاحظة والقياس فحسب، إنما زادت أيضا القدرة على التسجيل والتصنيف والعرض والتحليل، وبذلك تحولت وتطورت هذه المعرفة الجغرافية إلى مادة مسجلة بدقة وحقائق ممحصة، تصور الظاهرات المتباينة التي تشغل مختلف أنحاء الكرة الأرضية3.

  كما اعتبر الجغرافيون المعاصرون مسألة الاختلافات المكانية الواقعة في إطار النظام المتعلق بالإنسان-البيئة مشكلة أساسية ظلت في مجال الاهتمام الرئيسي. وهي ذات المشكلة التي عنى بها وليام فون همبولت Wilhelm von Humboldt(1769-1859) وسماها الاختلافات بين الأماكن، وخرج من خلالها بتنميط لمرتفعات الأنديز4بصورة رئيسية. وجاءت ذات الفكرة فيما بعد وعُرفت باسم البحث عن الشخصية الخاصة للأقاليم Genere de vieوأشار دربي Darbyإلى ضرورة الاستعانة بالأساليب الكمية قصد الإلمام بشخصية الإقليم، لصعوبة الأمر من خلال الوصف وحده5.

   كما تبنت الجغرافيا منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، موضوعا رئيسيا للدراسة يتمثل في تحديد مفهوم الإقليم الجغرافي، وذلك اعتمادا على التراث العلمي الذي ورثته الجغرافيا من الفترات التاريخية السابقة6.

    إن فكرة التباين المكاني أو الإقليمي هي الفكرة الإقليمية، وهذا التعريف يجعل مهمة الجغرافي أن يطالع سطح الأرض المتباين بطبيعته، من رقعة إلى رقعة، ويحاول التعرف على الشخصيات الإقليمية، فيرسم حدودها، ويحدد محتوياتها ويعلل مقوماتها. وباختصار، انه يبحث عن الأقاليم المختلفة ويحاول تفسير أنماطها إذ أن كل نمط من هذه الأنماط يمثل حصيلة مجموعة من القوى7.

   والجغرافيا هي العلم الأول الذي اهتم بدراسة التباين والانسجام على سطح الأرض، كما رافقت هذا المفهوم ليكتسب المدلول المؤسساتي والسياسي.وبذلك ساهمت الجغرافيا بشكل كبير في صياغة مفهوم الجهة أو الإقليم، ويظهر ذلك جليا في المفاهيم التي تعتمدها الدول والتجمعات السياسية والاقتصادية في العالم.

   لقد عرّف المجلس الأوروبي الجهة على أنها "إقليم ذا مساحة متوسطة يمكن تحديده جغرافيا، ويتميز بانسجامه"8، ويمكن تعريف الجهة أيضا بكونها "مجموعة ترابية منسجمة مجاليا تهدف إلى خلق نوع من التكامل التنموي بغية تحقيق نوع من التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين الجهات في إطار التنمية الجهوية بشكل ينسجم مع تدخل الدولة في انجاز عمليات التخطيط والتنمية المحلية"9.    

    على الصعيد القانوني يعرف الدستور الاسباني الجهوية على أنها "تقسيم إقليمي للدولة حيث تسهر كل جهة على مصالحها الخاصة عن طريق هيئات مستقلة"100). والجهوية حسب الدستور الفرنسي "هي جماعة محلية أنشأت بموجب قانون، تمارس اختصاصات جهوية محددة بواسطة مجالس منتخبة"111). وفي الدستور الايطالي "هي كيان مستقل بقوانينه وصلاحياته ووظائفه الخاصة، لها قانون يحدد شكل الحكومة والمبادئ الأساسية لتنظيم الإقليم"122).

   كما يعرفها القانون المغربيعلى "أنها جماعة ترابية خاضعة للقانون العام، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي. وتشكل أحد مستويات التنظيم الترابي للمملكة، باعتباره تنظيما لامركزيا"133).

   إذن، تعبر الجهوية عن تطور في هياكل الدولة، يتم من خلاله نقل جزء من الصلاحيات من السلطة المركزية إلى الجهات، وهذا ما ينجر عنه ظهور السلطة الجهوية تنفيذية كانت أو منتخبة، وهي تعبر في النهاية عن منظومة لامركزية.

   رغم أن الغاية من وجود الإقليم أو الجهة في التنظيم الترابي للدول يهدف إلى غاية أساسية هي التنمية المتوازنة لمجال الدولة، إلا انه لا يوجد مفهوم موحد للإقليمية (الجهوية) وذلك الاختلاف يرجع إلى:

- الأساس الذي قامت عليه، فقد تكون جهة قانونية ترابية، اقتصادية، دستورية وحتى سياسية.

- شكل الدولة: مركزية كانت او فدرالية او غير ذلك.

- طبيعة علاقة الجهة بالدولة من جهة، وعلاقتها بغيرها من الجماعات الترابية من جهة أخرى.

- تعقد الظاهرة في حد ذاتها، وكذلك اختلافها حسب التطور الزمني وحسب تجارب الدول واختلاف خلفيات المنظرين والمفكرين لها.

لذلك نجد عدة أنماط من الجهوية: فهناك الجهوية الوظيفية، الإدارية، الاقتصادية والسياسية.

ب – النظام الجهوي، ركيزة أساسية في خطط إعداد التراب الوطني في الدول المتقدمة وكذلك النامية.

     إن الدارس لخطط تهيئة التراب في الكثير من دول العالم، يجد أن للجهوية مكانه هامة إن لم تكن حجر الزاوية في تلك المخططات، فمثلا انبثق الوعي لدى المجموعة الأوروبية منذ السبعينيات إلى ضرورة بناء جهات أوروبية قوية، كشرط أساسي لبناء اتحاد أوروبي متوازن144). أما على مستوى الدول فسوف نورد هنا بعض التجارب الجهوية في بعض الدول.

      لقد تضمن دستور المملكة الاسبانية لسنة 1978 النظام الجهوي، وجعل مسألة التوزيع الإقليمي للسلطة حقيقة مُعاشة، حيث تم إنشاء مركز قانوني خاص للأقاليم والقوميات، هذه المنظومة الجهوية أصبح يطلق عليها دولة الجماعات المستقلة.

     حيث نص الدستور الاسباني على أن يشمل التقسيم الإقليمي للدولة: البلديات، المحافظات ومجتمعات الحكم الذاتي، وتتمتع هذه الهيئات بالاستقلالية فيما يخص السهر على مصالحها الخاصة، على أن لا يترتب عن اختلاف الأنظمة الأساسية لمختلف مجتمعات الحكم الذاتي أية امتيازات اقتصادية أو اجتماعية. وتسهر الدولة على تحقيق توازن اقتصادي ملائم وعادل بين مختلف أجزاء التراب الإسباني، بتطبيق مبدأ التضامن بين الجهات والأقاليم155)

     أما في فرنسا، ورغم تأخرها عن ركب الجهوية إلا أن صدور قانون 5 جويلة 1972 كان بمثابة السند الذي تم إحداث بموجبه المؤسسات العمومية ذات الطابع الترابي، وكانت مهمتها الاضطلاع بمهام التنمية الاقتصادية. وفي سنة 1982 تم ترقية هذا النظام الجهوي إلى جماعة محلية166). وكان القانون رقم 82 -653 والمؤرخ في 29 جويلية 1982 بمثابة ميلاد العقود التي أبرمت بين الدولة من جهة والأقاليم من جهة أخرى، لتشجيع ومرافقة هذه الأقاليم او الجهات إلى تحقيق أهدافها التنموية في إطار سياسة اللامركزية(17)

وجاء قانون 6 فيفيري 1992 مكرسا لسمو الجهة، ومحررا لها من القيود القانونية التي كانت تحد من نشاطها، وحدد دور ممثل الدولة في الجهة ليكون متطابقا مع التوجهات الجهوية عكس الدور الرقابي السابق (18). وأصبح الدستور الفرنسي ينص على أن "الجماعات المحلية في الجمهورية هي البلديات والمقاطعات والأقاليم"(19).

    أما في ايطاليا فتتمتع الجهة باختصاصات أوسع حيث تشمل: التعمير والإسكان، المياه والغابات والبيئة والاقتصاد الجهوي (الفلاحة التجارة السياحة النقل بكل أنواعه)، الشرطة الإدارية الجهوية، وحتى بعض الضرائب ذات الخاصية الجهوية.(20)

    أما إذا نظرنا إلى التجربة الألمانية في مجال الجهوية، فقد شهدت تطورا كبيرا حتى أنها أصبحت مثالا لباقي الدول، فالجهة في هذا البلد أصبح بيدها حرية التعاقد حتى مع جهات في الخارج، فضلا عن تمتعها باستقلالها الإداري، التشريعي والمالي.

   أما في المغرب فالبداية كانت مع القانون الصادر في 16 جوان 1971، الذي بموجبه تم إنشاء الجهات الاقتصادية، حيث تم تقسيم التراب المغربي إلى سبع جهات اقتصادية، هذه التجربة كانت الخطوة الأولى لتنظيم الجهة. وقد عبر المغرب عن تبنيه للفكرة الجهوية عندما تم ترقية الجهة إلى جماعة محلية في دستوري 1992 و1996م(21)، حيث تم استحداث ستة عشرة جهة، وفقا لما جاء في قانون تنظيم الجهات الصادر سنة 1997. وفي سنة 2011 تم دسترة الجهة وإقرارها كجماعة ترابية بمزيد من الصلاحيات(22)، كما تم استحداث هيئة تشريعية للجهة هي المجلس الجهوي، وهيئة تنفيذية على رأسها رئيس المجلس الجهوي، وتنتخب مجالس الجهات بالاقتراع العام المباشر، وهذه الأخيرة تنتخب رئيس المجلس الجهوي. كما لكل جهة منتخبَين اثنين يمثلانها في مجلس المستشارين، يساهمان في تفعيل السياسة العامة للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية للدولة وللجهات والجماعات الترابية الأخرى.

   إلى جانب مجلس الجهة ورئيس المجلس الجهوي، يوجد والي الجهة كممثل للسلطة المركزية، وهو يعمل على تأمين تطبيق القانون وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها كما يمارس المراقبة الإدارية، ويساعد رئيس المجلس الجهوي على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية.(23)

  بموجب هذا التنظيم الإقليمي الجديد أصبح للجهات -وعددها اثنتا عشرة جهة -اختصاصات ذاتية، واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة، وتنفذ الجهات خططها التنموية من مواردها المالية الذاتية والموارد المالية المرصودة من طرف الدولة.

    تطبيقا لما سبق جرت انتخابات 2015، تم من خلالها انتخاب مجالس الجهات، وبالتالي البداية العملية في تطبيق هذا الطرح، ويتبين من خلال دراسة النموذج الجهوي المغربي التقدم الأكيد نحو ترسيخ الجهوية، لكن علاقة الجهة بالدولة ما زالت تطبعها إختلالات على مستوى توزيع السلطات.

  من خلال دراسة التجارب الجهوية في بعض الدول نخلص إلى أن تجربة الجهوية حديثة نسبيا في معظم الدول، وهي مقاربة تمخضت عنها العديد من النتائج الايجابية على صعيد الحكامة الترابية والحد من الفوارق المجالية في تلك الدول.

2 / سياسات التوازن الجهوي واستمرار الفوارق في الجزائر.

   أ -سياسات التوازن الجهوي: يحمل مصطلح "الجهوية" في الجزائر فهما سلبيا يميل نحو النزعة الجهوية التي تقترن بالممارسات السلبية التي ترادف تفضيل جهة على حساب جهة أخرى، أو تعني مسعى انفصالي (Régionalisme)، على عكس المفهوم الذي يشير إلى طريقة لتنظيم وتهيئة المجال (Régionalisation).

   انصب اهتمام الجزائر بعد الاستقلال على بناء الدولة-الأمة، ولم يكن التركيز إلا على الفضاء الوطني، ووحدته، تجانسه وحدوده وتهيئة إقليمه في منحى المساواة بين المواطنين والمساواة بين الأمكنة أيضا، وكانت كلمة السر لتحقيق هذا الهدف هي "الاندماج الوطني" (24). هذا من جهة ومن جهة أخرىورثت الجزائر نظاما مركزيا صارما كانت تأخذ به فرنسا الدولة المستعمرة السابقة، وقد تم توظيف المفهوم السلبي للجهوية بحجة منع تفتيت وتقسيم التراب الوطني، وبالتالي تبرير عدم الخوض في مسألة الجهوية كخيار لتهيئة وتسير وتأهيل المجال الوطني.

     لقد أدرك المشاركون في مؤتمر طرابلس 1962 أهمية التوازن الجهوي في بناء الدولة الجزائرية المستقلة، ولأن الإختلالات المجالية إفراز للسياسة الاستعمارية متعددة الأوجه، كان يجب التصدي لها ومعالجتها، وفعلا تضمنت كل المخططات الإنمائية الاشتراكية الثلاثية، الرباعية والخماسية هدف تحقيق التوازن الجهوي، حيث كانت الإستراتيجية تقضي ببعث أقطاب تنموية جهوية كمراكز إشعاع من خلال الأقطاب الصناعية، وهذا لأجل خلق أقطاب اقتصادية جهوية.

    ولأن الأمر برمته كان بين أيدي الدولة المتحكم الوحيد في الاستثمارات، والمتدخل الصناعي الوحيد بواسطة الشركات الوطنية، كان ينبغي أن يساهم هذا التصنيع في تقويم التباينات الإقليمية الموروثة عن الاستعمار، إذ صيغ كأفضل عامل لسياسة التهيئة الترابية، وقد تم التعبير بوضوح عن العزم على "إعادة التوازن" بين داخل البلاد والأقاليم الساحلية، لأنه من المفروض أن يسمح المصنع بتثبيت السكان في أماكنهم وان يحد من الاكتظاظ الديموغرافي في الأقاليم الساحلية، وقد شكل هذا الحرص على الإنصاف بين الأقاليم وهذا العزم على مقاومة التباينات الإقليمية عنصرا محددا في خيارات التوطين الصناعي التي لا تتناسب بالضرورة والمقاييس المعتمدة عادة في الاقتصاد الليبرالي (25)

   في سياق متصل أكد دستور 1976 في مادته الثانية والعشرون على أن سياسة التوازن الجهوي اختيار أساسي، وهي ترمي إلى محو الفوارق الجهوية، من اجل تأمين تنمية منسجمة.(26)

   إن بروز التهيئة العمرانية كنوع من أساليب وتقنيات التدخل المباشر سواء بواسطة الأفكار أو بواسطة الدراسات ووسائل التنفيذ والإنجاز لتنظيم و تحسين ظروف المعيشة في المستوطنات البشرية سواء كان ذلك على المستوى الإقليمي أو الوطني(27)، جعل الجزائر تحتضن الملتقى الدولي الأول حول "التكوين والتهيئة الإقليمية في الجزائر" في 19 جانفي 1980، كما تم إنشاء وزارة للتخطيط والتهيئة العمرانية (M.P.A.T)عام 1880وإنشاء مديريات التخطيط والتهيئة العمرانية سنة 1984كما تم في الجامعة فتح فرع التهيئة الإقليمية أواسط الثمانينيات، وتخريج إطارات متخصصة وانجاز أبحاث في هذا الاختصاص.

   لكن بداية تطبيق مبادئ ومعايير التهيئة العمرانية كانت بصدور القانون رقم 87 -03 المؤرخ في 27 جانفي 1987، والمتعلق بالتهيئة العمرانية (28)، الذي بين أن التهيئة العمرانية "ترمي إلى إزالة الأسباب الهيكلية لعدم التوازن الجهوي، من خلال تطبيق أعمال إنمائية تختلف باختلاف المناطق من حيث محتواها ووتيرتها".(29)

   رغم رفض الدولة للجهوية الرسمية او الإدارية، فقد ظهرت -منذ الثمانينيات– نزعة نحو جهوية إقليمية واقعية وتجريبية أخذت أشكالا ومظاهر متعددة، تمثلت في رؤية المؤسسات والهيئات ومكاتب الدراسات أنه من الضروري وجود مستوى وسطي بين الدولة والولاية، فالتعليم العالي جمع جامعاته في شكل أكاديميات جهوية، كذلك وجود الإذاعات المحلية في المدن الهامة، الصحــف الجهوية(30) ...الخ.

    إن صدور القانون رقم 01 – 20 المؤرخ في 12 ديسمبر 2001، الخاص بتهيئة الإقليم وتنميته المستدامة، يعبر أيضا عن تقدم واضح في مسار تهيئة التراب الوطني، ومن بين ما نص عليه إنشاء تسعة فضاءات جهوية للتهيئة الإقليمية، كل واحد منها يتكون من عدة ولايات متجاورة، لها خصوصيات فيزيائية ووجهات إنمائية متماثلة او متكاملة، هذه الفضاءات التسعة للبرمجة الإقليمية تبينها الخريطة رقم (01).

خريطة رقم (01) الجزائر - فضاءات البرمجة الاقليمية


     كما تم أيضا بموجب المادة 51 من قانون 01 – 20 لسنة 2000، تأسيس ندوة جهوية لتهيئة الإقليم لكل برنامج جهة ، كما حدد نفس القانون في المادة 47 منه طبيعة برنامج الجهة لتهيئة الإقليم وتنميته المستدامة، المتمثل في فضاء للتنسيق لتنمية الإقليم وتهيئته ولبرمجة السياسات الوطنية المتعلقة بتهيئة الإقليم، وهو أيضا إطار لإعداد المخطط الجهوي لتهيئة الإقليم.

    كما نص القانون أيضا من خلال المادة 49 على انجاز وثائق ترابية لتهيئة الفضاءات الجهوية التسعة، وهي وثائق تحليلية استشرافية، تكون مرفقة بوثائق خرائطية تبين مشروع تهيئة الأقاليم، وفعلا ظهرت مخططات تهيئة فضاءات البرمجة الإقليمية، وأصبح لكل واحد من هذه الفضاءات التسعة مخطط تهيئة يسمى المخطط الجهوي للتهيئة العمرانية (SRAT).   

   في الواقع فضاءات البرمجة الإقليمية هذه، ليست تقسيما إداريا جديدا، ولا هيئات ومؤسسات جديدة، ولا يتعلق الأمر بإعادة تجميع للولايات ذي طابع مؤسساتي، بل إعادة تشكيل جغرافي للإقليم قصد الوصول إلى خريطة تنظيم فضاءات البرمجة الإقليمية بصفتها فضاء للتشاور حول المشاريع والبرامج المشتركة للعديد من الولايات، وهي تشكل إطارا للدراسة وتخطيط المشاريع انطلاقا من إشكالية مشتركة في إطار إقليمي موجه لبناء مشروع ناجح ومشترك للتنمية(31). وتتضمن هذه المخططات او الدراسات محاور تحليلية حول المعطيات الطبيعية للمجال الإقليمي والحالة الديموغرافية والاقتصادية والقاعدة الأساسية والعمران (32).  

   رغم ما ورد سابقا فإن السلطة السياسية في البلاد تتجه نحو الإبقاء على المركزية في التسيير(33)، وهذا ما يؤشر على عدم وجود إرادة سياسية حقيقية للأخذ بالجهوية.الأمر الذي أكدته الممارسات اللاحقة.فالدولة في مواجهة الاحتجاجات ومطالب السكان في بعض المناطق عبرت عن رغبتها في زيادة عدد الولايات تحت مسمى "الولايات المنتدبة" لكنها لم تطرح خيار الجهوية أبدا.

   إذن، يمكن القول أن الأقلمة في الجزائر كانت أقلمة إدارية بدل الأقلمة الطبيعية او الاقتصادية او البشرية، وعليه فتنظيم المجال الجزائري لم تطرأ عليه تغيرات كبيرة تذكر سوى زيادة عدد الوحدات الإدارية (الولايات والبلديات)، خلال سنتي 1974و1984، وبقيت التنمية المحلية في الجزائر مقتصرة على البلدية والولاية، بينما المستوى الجهوي فيبقي احتمالا مستقبليا(34).تكرست هذه المنظومة – والتي يمكن وصفها بالجمود- بالدور الذي تقوم به الدولة وهو دور الدولة الراعية التي تعتبر الجباية البترولية موردها الرئيسي للخزينة العمومية وهي تقوم بتوزيع هذا العائد على مختلف الولايات ومناطق البلاد وفق القاعدة الريعية المعروفة.

   مما سبق يتضح لنا وجود نية لدى الدولة في تحقيق توازن جهوي، والأمثلة كثيرة من الوثائق الرسمية والقوانين، حتى أن دستور 2016 تناول هذه المسالة، حيث نص بشكل صريح على أن "يضل الشعب الجزائري متمسكا بخياراته من اجل الحد من الفوارق الاجتماعية والقضاء على أوجه التفاوت الجهوي"(35).

   وبذلك تستمر الجزائر في رفع شعارات التوازن الجهوي لكن دون وضع الآليات العملية الكفيلة بتحقيق ذلك، وعلى رأسها تفعيل المستوى الوسطي بين الدولة كسلطة مركزية من جهة، الولاية والبلدية كسلطة محلية من جهة أخرى.

      ب -استمرار الفوارق الجهوية في المجال الوطني:

     بعد الاستقلال، ركزت الجزائر في تنميتها على الأقاليم المتطورة نسبيا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والتي تلقت حافزا للتطور في زمن الاستعمار، وذلك للاستفادة من قانون التكتل والتركز، مما عمق من الفوارق الإقليمية مرة أخرى.  فكانت المحصلة النهائية لإرث الماضي وفترة ما بعد الاستقلال نشوء هيكل اقتصادي مختل مكانيا ومما ساعد على تعميق هذه الاختلالات المجالية الأخذ بأسلوب التخطيط المركزي(36)، الذي حمل في طياته مفارقة كبيرة، فهو من حيث المبادئ والشعارات يهدف إلى تحقيق التوازن الجهوي، لكن النتائج العملية أظهرت بعد سنوات استمرار حالة اللاتوازن.

     كذلك وعلى مدى أكثر من نصف قرن، أظهرت التجربة أن الولاية الجزائرية كتنظيم إداري لم تكن بالفعالية الكافية في إحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية ضمن مجالها، وقد فسر هذا القصور على وجه الخصوص بعوامل السعة المساحية، وحجم السكان بالإضافة إلى عوامل أخرى(37).

  ونظرا لغياب آليات فعالة لتحقيق مبدأ التوازن الجهوي، أدت السياسات التنموية إلى تعميق وتجذير الاختلالات المجالية في البلاد، بين شمال البلاد ووسطها وجنوبها من جهة، وبين المدن والمناطق الريفية من جهة أخرى، مما انجر عنه موجة نزوح ريفي كبيرة نحو المناطق الشمالية والمدن الكبرى، ونحو عاصمة البلاد بشكل أساسي. وهذا ما خلق إشكالات حقيقية في تسير مجال هذه المدن، ناهيك عن الاحتجاجات المتكررة في المناطق المحرومة والمعبرة عن الإجحاف التنموي الذي لحقها. والجدولين رقم (01) و (02) يبينان جوانب هامة عن الاختلال الكبير في المجال الجزائري.

جدول رقم(01): السكان وأنواع الوسط في الجزائر

 

الأقاليم

المساحة

(كم²)

النسبة

(%)

السكان

(نسمة)

النسبة

(%)

الكثافة

(نسمة/ كم²)

معدل الكثافة

المنطقة التلية

102.781

4.32

21.514.001

63.13

209.32

14.64

منطقة السهول العليا

303.231

12.73

9.327.075

27.37

30.76

2.15

المنطقة الجنوبية (الصحراء)

1.975.729

82.95

3.238.954

9.50

1.64

0.09

التراب الوطني

2.381.741

100

34080030

100

14.3

1

 

المصدر انجاز الباحث بالاعتماد على بيانات:   ONS, RGPH, 2008

جدول رقم(02): توزيع مناطق النشاطات والمناطق الصناعية في الجزائر حسب الأوساط الطبيعية الكبرى

 

 

مناطق النشاطات

النسبة (%)

المناطق الصناعية

النسبة (%)

عدد الوحدات الاقتصادية

النسبة (%)

المنطقة التلية

291

62.58

39

69.64

634220

66.08

منطقة السهول العليا

128

27.53

14

25

240488

25.06

المنطقة الجنوبية (الصحراء)

46

9.89

3

5.36

85010

8.86

المجموع

465

100

56

100

959718

100

 

      المصدر  انجاز الباحث بالاعتماد على بيانات: الوكالة الوطنية للوساطة والضبط العقاري (ANIREF.dz/index.php)

 ONS, Premier Recensement Economique 2011, Nº 186, p10.                                         

من خلال ملاحظة أرقام الجدولين السابقين (1) و(2) تتضح جليا الفوارق الجهوية بين الأوساط الطبيعية الكبرى في المجال الوطني، حيث نجد أن معظم سكان البلاد (أكثر من 60%) يتركزون في الشريط الساحلي على مساحة 4% لا غير، في حين أن مناطق السهول العليا تعرف تعميرا اقل بكثير من المناطق الساحلية رغم انها تشغل حوالي 13% من مساحة البلاد، وتتسع الفوارق أكثر مع المنطقة الجنوبية التي تشكل 83% من مساحة البلاد ولا يشغل هذه المساحة الشاسعة سوى 10% من السكان.

  وتتسع الاختلالات في المجال الجزائري لتشمل جوانب الأخرى، فعلى صعيد النشاط الاقتصادي تشير الإحصائيات إلى تركز حوالي 60% من مناطق النشاطات و70% من المناطق الصناعية و66% من الوحدات الاقتصادية في الشريط الساحلي الضيق والمكتظ بالسكان، وتقل هذه النسبة كثيرا في منطقة السهول العليا حيث تتركز بها 27% من مناطق النشاطات و25% من المناطق الصناعية والوحدات الاقتصادية، في حين لا يتواجد في المنطقة الجنوبية سوى 10% من مناطق النشاطات و5% من المناطق الصناعية وحوالي 9% فقط من الوحدات الاقتصادية، على الرغم من شساعة المنطقة وثرائها بالموارد الطبيعية المختلفة.

  تشير الاحصائيات كذلك إلى تباين كبير في توزيع المؤسسات الخدماتية العمومية، (المؤسسات الصحية، مؤسسات الادارة العمومية والمؤسسات التعليمية). كما هو مبين في الشكل رقم (01)، ففي الاقليم التلي يتركز 59% من هذه المؤسسات في حين يتواجد بالإقليم السهول العليا مابين 27-30% من هذه المؤسسات، وتقل هذه النسبة إلى ما بين 11- 14% في الإقليم الجنوبي. وتتضح الصورة أكثر اذا عرفنا ان التجمعات الحضرية – حسب آخر احصاء عام للسكان والسكن (2008)- في الإقليم الجنوبي لا تزيد عن 68 تجمع، في  حين انها تصل الى 206 في إقليم السهول العليا و477 في إقليم التل(38). أي أن سكان الجنوب يجدون صعوبة اكبر في الوصول إلى الخدمات الأساسية بحكم التوزيع المتشتت للسكان في مجال جغرافي جد شاسع، وتقل حدة هذه المشكلة في إقليم السهول العليا.

 

 
  02.png


 لقد تضافرت العديد من العوامل الطبيعية، الاقتصادية والتاريخية في صياغة هذا المشهد، ومما لا شك فيه أن السياسات العمومية التي انتهجتها الجزائر منذ الاستقلال، وعلى الرغم من أنها كانت دائما تؤكد على ضرورة إحداث نوع من التوازن الجهوي بين مناطق البلاد المختلفة قد فشلت في الوصول إلى هذا الهدف المنشود على مدار أكثر من خمسة عقود هي مسيرة التنمية في الجزائر المستقلة.

3 / النظام الجهوي، إستراتيجية فعالة لتحقيق تنمية متوازنة للتراب الوطني:

    يواجه المجال الجزائري اليوم تحديات جدية، فالسكان يتزايدون بوتيرة معتبرة خاصة في المدن، وهذا يخلق تحديا آخر، وهو توفير الشغل لأعداد كبيرة من الوافدين إلى سوق العمل سنويا إضافة إلى العاطلين عن العمل السابقين في ظل زيادة فرصة المرأة في الحصول على الوظائف، ولا يمكن مواجهة تحدي التشغيل إلا برفع التحدي الاقتصادي في ظل هشاشة هذا الأخير، بالإضافة إلى الموارد ومحدوديتها (الأراضي الزراعية، الموارد المائية ...الخ)، كذلك يواجه المجال الوطني تحديا أكبر وأشمل يتمثل في غياب إستراتيجية تهيئته وتأهيله لينسجم مع المتغيرات العالمية (39).

     عند النظر إلى واقع المجال الجزائري ورهاناته المستقبلية -في ظل المتغيرات الإقليمية العالمية- وبالنظر إلى التجارب الجهوية الناجحة في الكثير من البلدان، يمكن القول أن النظام الجهوي يشكل خيارا استراتيجيا لتهيئة وتنمية التراب الوطني.

   يؤكد هذا القول شساعة مساحة البلاد وتزايد وتعقد أعباء تنظيم المجال الوطني وتسييره بالنسبة للدولة المركزية، في ظل التنوع الثقافي والتراثي الذي أصبح اليوم يشكل موارد يمكن أن تستثمر في تنمية مختلف الجهات من جهة، وللحفاظ على تنوع الموروث الطبيعي والثقافي والاجتماعي من جهة ثانية، لذلك يعتبر النظام الجهوي وصفة جيدة من اجل الاستثمار في هذا التنوع والحفاظ عليه وتنميته لصالح الجهة ولصالح المجال الوطني عموما.

   كما أن التنمية الجهوية تمكن من إعادة الاعتبار للمناطق المحلية المحرومة والمهمشة، وتمكن من تحسين مستوى التجهيز والبنية التحتية فيها، اعتمادا على مواردها المحلية بمساعدة الدولة، لتصبح حاضنة للاستثمارات المستقطبة.وهي استراتيجية تمكن الجهات من الوصول إلى الحد من هيمنة السلطة المركزية وتجاوز المركزية المفرطة وبيروقراطيتها.

    إن قضية الأخذ بالجهوية تمتاز بخاصيتها الحاسمة في التطور المستقبلي للبلاد، فهي الآلية التي بواسطتها تتم الاستجابة للتطلعات المؤجلة لسكان المناطق المهشمة والأقل تنمية في المناطق الداخلية، الجبلية والصحراوية.

   حتى فرنسا، وهي الدولة التي ورثت عنها الجزائر المستقلة النظام المركزي الصارم، واجهت عقم هذا النظام وسلبياته، ولجأت إلى دمقرطة النظام الإداري عبر توسيع المشاركة الشعبية في تسيير الشأن العام من خلال الإصلاحات الجهوية، عبر نظام لامركزي يضمن مشاركة المواطن عبر آلية الانتخاب وداخل مؤسسات تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي وتمارس اختصاصات فعلية هي الجهات (40).

   إن اخذ الجزائر بالنظام الجهوي، يحتم على صناع القرار مواجهة جملة من الإكراهات التي تواجه تطبيق هذا النظام، مع الأخذ في الحسبان خصوصية المجال الجزائري، فرسم حدود الجهات يجب أن يبتعد عن التأثيرات المناطقية والسياسية، حيث يجب أن لا يستند إلى الخصوصيات العرقية والطائفية واللغوية للمناطق. فيمكن اعتماد أحواض الحياة كجهات والتي يبلغ عددها سبعة عشر حوضا في الجزائر. أو اعتماد الأقاليم وفق القاعدة الإقليمية التي تقوم على معيار الاستقطاب بواسطة المدن. بحيث لا يجب أن ينصب كل الاهتمام على تحديد مثالي، دائم ونهائي للجهة، بقدر ما يتعلق الأمر بتحديد الوحدات التي تحتاجها البلاد من أجل تهيئة عمرانية أفضل تستجيب للمتطلبات الداخلية، في ظل توجه عام للدول بالانفتاح على المحيط الإقليمي والعالمي. يجب أيضا أن تعبر الجهوية عن سياسة حرة لدولة واحدة وموحدة، تريد تطوير تهيئة ترابها الوطني باللامركزية تجسيدا للديموقراطية المحلية، والتنمية التشاركية والحكم الراشد.

   ويجب ان يضمن النظام الجهوي مبدأ سيادة الدولة والسلطة الرقابية لها درءا لمفاسد النزعات الجهوية، والأخذ بمبدأ التضامن بين الجهات والمساواة بين المواطنين في كل البلاد، لكي لا يتحول الأمر إلى نزعة جهوية سياسية هي محل رفض شديد.

    فعلى الجزائر أن تختار النظام الجهوي الذي يتلاءم وخصوصيتها السياسية والطبيعية والجغرافية، وعلى أي حال فالتدرج في الأخذ بالجهوية وتنزيلها في فترة زمنية مناسبة قد يكون عاملا من عوامل إنجاحها، فالنظام الجهوي في فرنسا قد اخذ وقتا طويلا لينضج بالشكل المطبق حاليا، وكذلك الجهة في المغرب قد خطت خطوات كبيرة منذ 1971، لتصل إلى الجهوية الموسعة سنة 2015.

    فيمكن أن تبنى المجالات الجهوية -التي تتمحور عليها قواعد إعادة التوازن للتنمية والإقليم - على التضامن الذي يمكن أن تطوره بعض الولايات المتجاورة والتي تشترك في إشكاليات تنموية معينة، هذا الأمر يسمح بإطلاق تنمية منسجمة ومستقلة ومحفوظة ذاتيا.(41)

    والتنمية الجهوية يجب أن تكون عملية تنطلق من الداخل بأربعة مقومات تتمثل في النمو، التقدم، الاعتماد على الذات، والاستدامة (42).إن الأخذ بهذه المقومات يسمح ببناء نظام جهوي سليميكون ضمانة لتنمية متوازنة تعزز الشعور بالعدالة بين سكان مختلف جهات الوطن مما يعزز الشعور الوطني.

الخاتمة:

   التحولات العميقة التي شهدتها وتشهدها الجزائر، في ظل واقع داخلي وظروف دولية مختلفة جذريا عما كان سائدا منذ عقود، تحتم التفكير في المستقبل بطريقة مغايرة عما كانت في الماضي.

   شساعة مساحة البلاد، وتنوعها الطبيعي، الثقافي والتراثي، والتحديات التي تواجه البلاد الاقتصادية والاجتماعية، تجذر الفوارق التنموية في المجال الوطني، إضافة إلى نجاح التجارب الجهوية في الكثير من الدول، كلها عوامل تجعل طرح الخيار الجهوي كإستراتيجية تحقق التنمية المتوازنة للمجال الوطني مسألة ضرورية. وعليه فالانتقال بالوضع القانوني للجهات إلى آفاق جديدة أصبحت في الواقع من متطلبات التأهيل الديمقراطي للبلاد.

   هذه الورقة تحاول لفت الانتباه وإثارة النقاش حول مسألة الجهوية في الجزائر، هذه القضية تكتسي أهمية خاصة لارتباطها ببناء تصورات علمية صحيحة وموضوعية للتهيئة العمرانية المستقبلية في الجزائر، التي يغيب فيها عمليا المستوى الجهوي في عملية تهيئة التراب الوطني. لأن هذا المنحى أثبت جدارته في تخفيف حدة الفوارق المجالية في التنمية، وهو في الواقع يدعم المساعي نحو الديمقراطية التشاركية والحكامة الترابية. هذا الخيار يقضي بتحويل جزء من سلطة القرار المركزية إلى هيئات جهوية تنفيذية أو منتخبة.

الهوامش

1.مأخوذة من الجهة، أي الإقليم، حيث وبعد تقسيم أو تقطيع البلاد إلى أقاليم - وفق أسس معينة - يُسمح لهذه الجهات أو الأقاليم بالنمو والتطور بما يتناسب ومؤهلاتها وخصوصياتها في إطار اللامركزية، وتختلف تجارب دول العالم في هذا الشأن من دولة إلى أخرى.

2.مؤتمر طرابلس1962: مؤتمر جبهة التحرير الوطني قبيل استقلال الجزائر، عقد المؤتمر في مدينة طرابلس الليبية فيما بين27 ماي -05 جوان 1962، خرج المؤتمرون بما سمي" ميثاق طرابلس" تم فيه تحديد الخيارات الكبرى للدولة الجزائرية، سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا وثقافيا، وقراراته لم تكن محل إجماع الأسرة الثورية. ... للمزيد ينظر: شارل روبير أجيرون، تاريخ الجزائر المعاصرة، ترجمة: عيسى عصفور، منشورات عويدات، بيروت-باريس،1982 ص ص، 189-190

3.خير صفوح، الجغرافيا موضوعها ومناهجها وأهدافها، دار الفكر، دمشق، 2000، ص 57

4. سلسلة الانديز الجبلية، سلسلة طويلة تمتد من الشمال إلى الجنوب غرب القارة الأمريكية الجنوبية، وتمر عبر تسعة دول.

5.عيسى علي إبراهيم، الأساليب الإحصائية والجغرافيا، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1999،ص 14

6. علي بولربح، الفكر الجغرافي المعاصر- آليات التطور، منشورات باب الحكمة، تطوان، 2015، ص 71.

7.خير صفوح، المرجع السابق، ص 58

8.عبد العزيز أشرقي، الجهوية الموسعة، نمط جديد للحكامة الترابية والتنمية المندمجة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2011، ص 13.

9.المرجع نفسه، ص 13.

10.دستور المملكة الاسبانية 1978 (المعدل 2011): الفصل الأول، الباب الثامن، المادة 137، constituteproject.org/constitution/Spain_2011.، (تاريخ التصفح: يوم 22 مارس 2017).

11.  دستور الجمهورية الفرنسية 1958 (المعدل 2008)، الباب 12، المادة 72. constituteproject.org/constitution/France_2008(تاريخ التصفح: 20 مارس 2017)

12. دستور الجمهورية الايطالية 1947 (المعدل 2012)، الباب الخامس، المادتين: 114،123، constituteproject.org/constitution/Italy_2012(تاريخ التصفح: 22 مارس 2017).

13.  ظهير شريف رقم 83.15.1  الصادر في 20 رمضان 1436 الموافق لـ: 20جويلية 2015 المتعلق بتنفيذ القانون التنظيمي المتعلق بالجهات، الجريدة الرسمية للمملكة المغربية، عدد 6380، 06 شوال 1436 الموافق لـ: 23 جويلية 2015.

14.خالد الغازي، "التنظيم الجهوي بفرنسا"،المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، عدد خاص، جوان 2005، ص 83

15. دستور المملكة الإسبانية 1978 (المعدل 2011). المرجع السابق.                                                 

16.خالد الغازي، المرجع السابق، ص ص، 48،49.

17.  Jean-Marie PONTIER, bilan et perspectives du volet territorial des contrats de plant État-région, Le site Web: www.gridauh.fr/fileadmin/gridauh/MEDIA/.../40c610367ad6a.pdf, consulter le 15.12.2017                                  

18. خالد الغازي، المرجع السابق، ص ص، 88، 89.

19. دستور الجمهورية الفرنسية 1958 ( المعدل 2008)، المرجع السابق.

20. توفيق منصوري، "النموذج الايطالي للجهوية"، المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، عدد خاص، جوان 2005 ص 147.

21. زكرياء الكداني، "الجهوية وآفاق التنمية"، مسالك، عدد 17/18، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء(المغرب)، ص 35.

22.دستور المملكة المغربية 2011، الجريدة الرسمية للمملكة المغربية، عدد 5964، الصادرة بتاريخ 28 شعبان 1432 الموافق لـ: 30 جويلية 2011.

23.  المرجع نفسه.

24. Marc COTE, Nouvelles territorialités en Algérie, ou va l'Algérie, Editions Kerthala  et             IREMAM, Paris et Aix-en-Proevence, 2001, p 286

25. جان فرانسوا تراون، المغرب العربي – الإنسان والمجال، ترجمة: علي التومي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ص ص، 393،394.

26.  دستور الجمهورية الجزائرية 1976، الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، العدد 94 الصادرة في 02 ذو الحجة 1396 الموافق لـ: 24 نوفمبر 1976

27. التيجاني بشير، التحضر و التهيئة العمرانية في الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2000، ص84.

28. قانون رقم 87 – 03 ، الصادر في 27 جمادى الأولى 1407،  الموافق لـ: 27 جانفي 1987، المتعلق بالتهيئة العمرانية، الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، العدد 05، الصادرة في 28 جمادى الأولى الموافق لـ: 28 جانفي 1987.

29.المرجع نفسه.

30. Marc COTE, op.cit, p 286                                                                                                             

31. قانون 10 – 02 المتعلق بالمخطط الوطني للتهيئة العمرانية المؤرخ في 16 رجب 1431 الموافق لـ 29 جانفي سنة 2010، الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، رقم 61 الصادرة في 13 ذو القعدة 1431 الموافق لـ: 21 أكتوبر 2010.

32.عيون عبد الكريم، "الأقلمة المجالية في الجزائر: من التوازن الجهوي إلى اقتصاد السوق"، الملتقى الرابع للجغرافيين العرب، منشورات الجمعية الوطنية للجغرافيين المغاربة، ، الرباط، 2008، ص ص 94-95.

33. خطاب رئيس الجمهورية الجزائرية في 2 ماي 2002 أثناء الاجتماع مع ولاة الجمهورية ينحو إلى التركيز على المركزية في التسيير. مع العلم أن صلاحيات رئاسة الجمهورية في الدساتير الجزائرية تجعل من الرئيس صاحب صلاحيات واسعة وكبيرة جدا، فهو المسؤول على الجهاز التنفيذي، وهو القاضي الأول في البلاد، وهو يشرع بالمراسيم...الخ، للمزيد ينظر: صلاحيات رئيس الجمهورية في دساتير الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، www.elmouradia.dz( تاريخ التصفح: 25 مارس 2017)

34.قانون رقم 10 – 02 مؤرخ في 16 رجب 1431، الموافق لـ 29 جوان 2010، يتضمن المصادقة على المخطط الوطني لتهيئة الإقليم، الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، عدد 61، الصادرة في 13 ذو القعدة 1431، الموافق لـ 21 أكتوبر 2010.    

35. قانون رقم 16 – 01 المؤرخ في 26 جمادى الأولى 1437 الموافق لـ 6 مارس 2016 يتضمن التعديل الدستوري، الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، رقم 14 الصادرة في  27 جمادى الأولى 1437 الموافق لـ 7 مارس 2016.

36.علاوة بولحواش، "اللامركزية ودورها في التنمية الترابية في الجزائر"، الملتقى الرابع للجغرافيين العرب، منشورات الجمعية الوطنية للجغرافيين المغاربة، ، الرباط،  2008، ص 111.

37.عيون عبد الكريم، المرجع السابق، ص 102.

38.ONS, ARMATURE URBAINE, Collections Statistiques N° 163/2011, p 65

39.شريف رحماني وآخرون ، الجزائر غدا- وضعية التراب الوطني - استرجاع التراب الوطني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د. س. ن، ص ص 22-25.

40.خالد الغازي، المرجع السابق، ص 83.

41. شريف رحماني وآخرون، المرجع السابق، ص 305.

42.عمر بلهادي، "من إشكاليات التنمية الجهوية والمحلية"،amorbelhedi.unblog.fr، (تاريخ التصفح: 20 مارس 2017).

@pour_citer_ce_document

فاتح حاجي, «الجهوية في الجزائر: الواقع والآفاق »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp 118-129,
Date Publication Sur Papier : 2011-09-20,
Date Pulication Electronique : 2018-05-14,
mis a jour le : 11/07/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=2822.