الأبعاد المعرفية للتغير القيمي في المجتمع الجزائري
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°08 Mai 2009

الأبعاد المعرفية للتغير القيمي في المجتمع الجزائري


pp : 86 - 102

كمال بوقـرة
  • resume:Ar
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تعتبر الأبعاد المعرفية في مسألة القيم في الجزائر و في العالم العربي والإسلامي عموما عاملا أساسيا في الأزمة والتناقض وعدم التكيف الذي تشهده المنظومة القيمية الجزائرية، ذلك أن النماذج القيمية الغربية أو السائدة ما هي في الحقيقة إلا تمظهر وتجسيد لنماذج معرفية هي التي تصوغ وتبرر الأفعال الاجتماعية للأفراد والمجتمع، وبالطبع النماذج المعرفية الغربية المنطلقة من فكرة وحدة الوجود أو وحدايته تتناقض بشكل جذري مع النماذج العربية الإسلامية التي تنطلق من فكرة التوحيد، ومن فكرة الازدواجية الوجودية أي هناك خالق ومخلوق، وهناك إنسان وطبيعة، وهناك خير وشر ...الخ...

أما النماذج التي تتحدث عن الواحدية فهي تعني أن ثمة جوهرا واحدا في الكون على الرغم من كل التنوع الظاهر، مما ينفي وجود الحيز الإنساني المستقل عن الحيز الطبيعي المادي كما ينفي الثنائية الناجمة عن وجوده، ومن ثم فالقوانين التي تسري على الطبيعة (المادة) تسري على الإنسان.

إذن هذه الاختلافات الجذرية في المنطلقات المعرفية، وفي ظل الهيمنة التي تمارسها الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى تجعل من عملية الاندماج الثقافي -باعتباره أحد أوجه التغير الإيجابي للقيم-، أو التثاقف الإيجابي أمر غاية في الصعوبة، ولهذا نجد أن الأنماط القيمية الغربية منتشرة في الثقافة الجزائرية ولكنها لا تلعب نفس الأدوار، ولا تقوم بنفس الوظائف التي تقوم بها في المجتمع الغربي، ذلك أنها تصطدم في أغلب الأحيان بالحقائق المعرفية التي أشرنا إليها سابقا؛ تصطدم بالمفاهيم وبالأفكار المسبقة عن القيم الغربية وبالرؤى العقدية والمعرفية. فالقيم الغربية رغم ما حققته في إنجازات حضارية في مجالها الغربي إلا أنها عجزت عن تحقيق هذه الإنجازات خارج المجال المعرفي الغربي.

1I – مدخل :

2تعتبر القيم من أهم مكونات الثقافة لأي مجتمع، بل يمكن القول أنها تمثل لب الثقافة وجوهرها، وأنها هي التي تنظم وتحدد النشاط والسلوك الاجتماعي لكافة أفراد المجتمع، وتعتبر كذلك المكون الأساسي للشخصية، بل هي من أكثر سمات الشخصية تأثرا بالثقافة العامة، التي يعيش ضمنها الفرد.

3ومن هذا المنطلق كان موضوع القيم ولا يزال ميدانا خصبا لكثير من العلوم وميادين المعرفة الإنسانية، فقد اهتمت الفلسفة به كما يهتم به علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، والأنثروبولوجيا وغيرهم من العلوم، ولقد بين العلماء التباين في القيم بين الأفراد والمجتمعات، بحسب الفوارق الاجتماعية والثقافية، والتاريخية، والجغرافية والاقتصادية.

4فهذه الفوارق كلها تعد عوامل أساسية في اختلاف القيم، والتباين في درجة قوتها وتركيزها من مجتمع لآخر، ومن جيل إلى جيل، ومن فئة إلى فئة أخرى، إلا أن هذه الفوارق رغم موضوعيتها فهي تستبطن جوانب معرفية غاية في الأهمية، لأن الإنسان يحدد موقفه من أي موضوع بناءا على معرفته به، ونجد مصداق هذا القول في القرآن الكريم في قوله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا". وقبل التطرق إلى الأبعاد المعرفية لموضوع القيم لا بأس من التوقف عند بعض المفاهيم، والأطر النظرية التي تؤطر هذا الموضوع.

5II – مفهوم القيم :

6لا شك أن مفهوم القيم أخذ حيزا كبيرا لدى الباحثين وخضع للاختلافات النظرية والمعرفية الموجودة بين العلماء، إلا أننا سنحاول أخذ عينة من التعريفات التي أعطيت لهذا المفهوم فقد عرفها أحد العلماء بأنها" القيم هي الصفات الشخصية التي يفضلها أو يرغب فيها الناس في ثقافة معينة فالشجاعة والاحتمال والإيثار والمهارة الفنية وضبط النفس يمكن اعتبارها كل على حدا أو في مجموعها بالصفات المرغوبة في كل ثقافة، ولكن القيم من ناحية أخرى ليست صفات مجردة فحسب، بل إنهـا في الواقع أنماط سلوكية تعبر عن هذه القيم"(1) وتعرف القيم أيضا "بأنها عبارة عن تنظيمات لأحكام عقلية وانفعالية معممة نحو الأشخاص والأشياء والمعاني، وأوجه النشاط، ويمكن أن ننظر إلى القيمة على أنها اهتمام أو اختيار وتفضيل أو حكم يصدره الإنسان على شيء ما مهتديا بمجموعة المبادئ والمعايير التي وضعها المجتمع الذي يعيش فيه، والذي يحدد المرغوب فيه والمرغوب عنه  من السلوك"(2) ويعرف محمد بيومي القيمة على أنها "المرغوب فيه بمعنى أي شيء مرغوب من الفرد أو الجماعة الاجتماعية وموضوع الرغبة قد يكون موضوعا ماديا أو علاقة اجتماعية أو أفكار أو بصفة عامة أي شيء يتطلبه ويرغبه المجتمع"(3)

7هذه بعض التعريفات التي أعطيت لمفهوم القيم وهي تكاد تجمع على أن القيم هي أحكام عقلية، تؤدي إلى انفعالات وجدانية تتجسد في سلوكات ونشاطات فردية وجماعية تعبر عن مواقف من أشياء مادية أو معنوية، أو حول سلوكات أو تصرفات، أو أفكار ومعاني مختلفة. إلا أنه بالرجوع إلى أصل الكلمة"قيمة"  فإننا نجد العلماء في العلوم الإنسانية استعاروا هذا المصطلح من العلوم الاقتصادية فمصطلح قيمة valeur تشير في مدلولها إلى معنا كميا يتعلق بالوزن والأهمية التجارية فقيمة الشيء هي ثمنه ولهذا عادة ما نجد العلماء يربطون هذا المفهوم بمعاني اقتصادية ، وبذلك تكون القيم بمعناها البرغماتي هي الفائدة التي يجنيها الإنسان من إتباعه سلوكا معينا، والخسائر التي يتجنبها من ابتعاده عن هذا السلوك، ومن هذا المنطلق نجد الفلسفة الوضعية المادية تتناول موضوع القيم من زاوية الربح والخسارة، وليس من زاوية الواجب المعنوي الأخلاقي، بل نجدها تنظر إلى الأخلاق بنفس المنظور.

8III – مكونات القيم : يعتقد الباحثون والعلماء في مجال القيم أن القيمة تتشكل عبر مراحل ثلاث فهي قبل أن تتحول إلى سلوك أو موقف فردي أو اجتماعي لابد أن تمر بمرحلتين أساسيتين يتشكل خلالهما مكونين أساسين هما المكون المعرفي، ثم المكون الوجداني.

91- المكون المعرفي : والذي يتضمن إدراك موضوع القيمة وتمييزه عن طريق العقل أو التفكير من حيث الوعي، بما هو جدير بالرغبة والتقدير، ويمثل معتقدات وتصورات الفرد وتوقعاته، وأحكامه وأفكاره، ومعلوماته عن موضوع القيمة، أو بمعنى آخر وضع أحد موضوعات التفكير على بعد أو أكثر من أبعاد الحكم.

102- المكون الوجداني: ويتضمن الانفعال بموضوع القيمة أو الميل إليه أو النفور منه، أو ما يصاحب ذلك من سرور وألم ،وما يعبر عنه من حب وكره، أو استحسان واستهجان، وكل ما يثير المشاعر الوجدانية والانفعالات التي توجد لدى الشخص نحو موضوع القيمة. وبطبيعة الحال يتشكل هذا المكون بناءا على ما يحققه المكون المعرفي من توفر المعلومات والمعطيات، والتصورات والاعتقادات، والتوقعات عن موضوع القيمة.

113- المكون السلوكي : ويشير هذا المكون إلى استعدادات الشخص أو ميوله للاستجابة وإخراج المضامين المعرفية والوجدانية للقيمة والتعبير عنها سلوكيا في التفاعل الحياتي المعاش، ويتضمن السلوك الحركي الظاهر للتعبير عن القيمة عن طريق الوصول إلى هدف أو الوصول إلى معيار سلوكي معين، أو التعبير عن موقف ما. (4)

12  I V – الثقافة الجزائرية وصراع القيم :

13للمسألة الثقافية في الجزائر قديما وحديثا أهمية بالغة وتأثير في تصور الذات ومدلول الانتماء وتعيين الخاص والمشترك من التراث والنظرة إلى الآخر في العالم المحيط بنا وعلى الأصح الموجود في مخيلتنا أو في واقع الحال، ويظهر ذلك التأثير حتى بين عامة الناس في تصنيف الماضي الثقافي إلى مقاطع منفصلة يمكن بترها افتراضيا أو نكران وجودها أصلا (التعامل مع تراث ما قبل الفتح الإسلامي وما بعده تراث ما قبل الاحتلال وتركه الكولونيالية، ملامح البناء الثقافي بعد التحرير. (5) وينعكس واقع المسألة الثقافية على سلوكات الأفراد وحركية المجتمع، ذلك أن الثقافة هي المحرك والمحدد لسلوك الأفراد وحركية المجتمع فيقول المفكر مالك بن نبي إن سلوك الفرد العربي المسلم الجزائري مشروط بشيء من السلبية أو أنه فاقدا لشيء من الإيجابية، أعنى لشيء أساسي من الفعالية، بينما كنت أرى في الوقت نفسه أن سلوك الآخرين ينطبع إلى حد كبير بالإيجابية والفعالية"(6).

14وبهذا يمكن أن ترتقي المسألة الثقافية في الجزائر من مشكلة إلى حالة أزمة وتتجلى هذه الأزمة في التناقضات التي نلاحظها على سلوك الأفراد وحركية المجتمع، فالقيم والأفكار والنصوص توحي بأشياء إيجابية في حين نجد السلوكات كما تنطبع بطابع السلبية و العبثية واللامسؤولية، وينطوي مفهوم الأزمة على التناقض بين أمرين أو أكثر وينطوي كذلك على صراع نفترض به أن يكون على درجة عالية من الشدة.

15وتكون الأزمة الثقافية بالغة الشدة كلما ارتبط موضوعها بالقيم التي ترتبط بالمقدس المحرم، وكذلك عندما يتنكر المجتمع نفسه لقيمه وتاريخه، فإنه يدخل في مدار الأزمة الثقافية ،والتصدع الثقافي والانهيار الثقافي، وتكمن عوامل الأزمة في وضعية التصدعات الثقافية والإنشطارات والتباينات في القيم التي تؤدي إلى صراعات عنيفة بين القيم، ولهذا فإننا نفترض أن مجتمعنا في مستوياته الجماعية و الفردية يقع في دوامات أزمة ثقافية حادة تهدد مصير الإنسان ووجوده وتنال من هويته، وإننا نفترض من البداية أن عناصر هذه الأزمة تجتمع اليوم أكثر من أي وقت مضى ، ونفترض كذلك أن الأزمة الثقافية التي نعيشها اليوم تجسد منظومة أزمات أخلاقية وسياسية وقومية وحضارية وقيمية، وهي تشكل عناصر ومكونات الأزمة العامة التي أطلقنا عليها الأزمة الثقافية. (7)

16فإذا أردنا أن نعرج قليلا على واقع الثقافة الجزائرية التي جزء من لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية، فإننا نرى أنها تشكل مسرحا من الفوضى القيمية وساحة للتناقضات بين القيم والمبادئ، بين الشعارات والإنجازات، بين التصرفات والممارسات، وبالتالي فإن المرء الذي ينشأ في مجتمع يحفل بكل هذه التناقضات لا بد له أن يواجه المعانات القيمية وان يعيش هذه الفوضى الفكرية التي تستلبه في مستوى الوعي والتصورات. (8)

17وتتعايش داخل الثقافة العربية بشكل تقاطعي شبكة من القيم التي يسود بينها التناقض وعدم الانسجام والتكامل الذي يفترض في أي ثقافة حتى تؤدي وظيفتها الاجتماعية ففيها نجد تقديس للقيم التقليدية، واستلاب كبير تجاه القيم الحديثة، وبهذه الازدواجية يعيش الفرد ممزق وفي ضياع شبه تام بين هذين النموذجين الثقافيين النموذج الأول الذي يجعله يتذكر أمجاد أجداده فيسكر وينتشي في كهوف التاريخ، والنموذج الثاني الذي يأسره بريقه وفعاليته ومنطقه العملي الذي يحل له  كل مشكلاته الحياتية، فيبقى هذا الفرد معلق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فتضعف فعاليته ويقل أداءه وتتحطم طموحاته فيبقى مشلولا.

18فيقول علي حرب في وصف هذه الظاهرة "إننا نعيش خصوصياتنا حتى البداوة وننغمس في عالمنا حتى الثمالة، إننا نستخدم أحدث الأدوات ولكننا نرفض أحدث الأفكار والمناهج، فنتشبث بالأصول حتى العظم على صعيد الخطاب والكلام، لكننا نخرج عليها ونطعنها بالفعل والممارسة، ...و يتابع فيقول نحن عرب مسلمون في ما يتصل بالمقدسات والمحرمات، ولكننا غربيين في ما يتعلق باستيراد الأدوات والسلع والصور والمتع التي توفرها أجهزة السمعي البصري...، أي في كل ما يتصل بمادة الحياة وأسباب الحضارة"(9)

19إن هذه الازدواجية التي يعيشها الإنسان الجزائري والعربي والمسلم عموما تعتبر مشكلة حقيقية وهي التي تعيقه على المبادرة والمبادأة لإنجاز استحقاقاته، وحل مشكلاته المختلفة التي هي في الأصل نتاج طبيعي لهذه الوضعية الثقافية التي تسود في مجتمعه، فالفرد العربي أو الجزائري يشعر بالتمزق لأنه أصبح يعيش بين عالمين كلاهما غريب عنه، عالم ثقافة تاريخية لا تستطيع أن تضمن إشباع حاجاته المختلفة، وثقافة تشعره في كل لحظة بنقصه لأنه يستهلك منتجات لا يستطيع أن يجاريها في تطورها وفعاليتها وقدرتها على مواجهة المشكلات اليومية للأفراد والجماعات ولا يستطيع أن يشارك فيها لأنها تنطلق من رؤى معرفية تناقض منطلقاته المعرفية والعقدية، وهي لا تقبله إلا إذا تخلى عن منطلقاته المعرفية الأصلية.

20إن هذا الوضع المتأزم للعالم الثقافي للإنسان والمجتمع الجزائري يعتبر مدخلا واسعا لكل المشكلات التي تعصف بهذا الفرد وهذا المجتمع. إن التناقض والصراع بين السمات الثقافية التقليدية والغربية مثل الصراع بين قيم القبيلة والعشيرة، وقيم القانون والدولة وبين قيم الاستقلالية الفردية، وقيم الاشتراكية الجماعية، وقيم الكرم وقيم التقشف، وقيم احترام الوقت قتل الوقت...الخ... كل هذا يمثل أزمة صراع بين القيم، وهذا بدوره يشمل الحركة الداخلية للثقافة.

21V-الأبعاد المعرفية للواقع القيمي في الجزائر :

22تعتبر الأبعاد المعرفية في مسألة القيم في الجزائر و في العالم العربي والإسلامي عموما عاملا أساسيا في الأزمة والتناقض وعدم التكيف الذي تشهده الثقافة الجزائرية، ذلك أن النماذج الثقافية الغربية أو السائد ما هي في الحقيقة إلا تمظهر وتجسيد لنماذج معرفية هي التي تصوغ وتبرر هذه النماذج القيمية، وبالطبع النماذج المعرفية الغربية المنطلقة من فكرة وحدة الوجود أو واحديته تتناقض بشكل جذري مع النماذج العربية الإسلامية التي تنطلق من فكرة التوحيد، ومن فكرة الازدواجية الوجودية أي هناك خالق ومخلوق، وهناك إنسان وطبيعة، وهناك خير وشر ...الخ...

23أما النماذج التي تتحدث عن الواحدية فهي تعني أن ثمة جوهرا واحدا في الكون على الرغم من كل التنوع الظاهري، مما ينفي وجود الحيز الإنساني المستقل عن الحيز الطبيعي المادي كما ينفي الثنائية الناجمة عن وجوده، ومن ثم فالقوانين التي تسري على الطبيعة (المادة) تسري على الإنسان.

24وبطبيعة الحال فكرة الواحدية تختلف جذريا على فكرة التوحيد التي تعني الإيمان بأن المبدأ الواحد هو مصدر تماسك العالم ووحدته وحركته وغايته، وهو الإله الخالق خالق الإنسان والطبيعة والتاريخ وهو الذي يحركهم ويمنحهم المعنى ويحدد لهم الغاية النهائية، ولكنه مفارق لهم لا يحل فيهم أو في أي مخلوقاته ولا يتوحد معها، فعقائد التوحيد تترك للإنسان حيزه وتميزه واستقلاله عن الله وعن الطبيعة يتحرك فيه بحريته، مما يجعله كائن مكلفا مسئولا، له حقوقه وعليه واجبات. (10)

25إذن هذه الاختلافات الجذرية في المنطلقات المعرفية، وفي ظل الهيمنة التي تمارسها القيم الغربية على القيم الأخرى تجعل من عملية الاندماج الثقافي، أو التثاقف أمر في غاية الصعوبة، ولهذا نجد أن الأنماط القيمبة الغربية منتشرة في الثقافة الجزائرية ولكنها لا تلعب نفس الأدوار، ولا تقوم بنفس الوظائف التي تقوم بها في المجتمع الغربي، ذلك أنها تصطدم في أغلب الأحيان بالحقائق المعرفية التي أشرنا إليها سابقا، تصطدم بالمفاهيم وبالأفكار المسبقة عن القيم الغربية وبالرؤى العقدية والمعرفية فالثقافة الغربية رغم ما حققته في إنجازات حضارية في إلا أنها نزعت الإنسان من إنسانية وجعلته إنسانا اقتصاديا، أو جسميا أو جنسيا أو بمعنى آخر إنسان طبيعي؛ فمفهوم الإنسان الطبيعي السائد في الفكر الغربي الذي يستند إلى النظرة الواحدية الكمونية المادية التي تستبعد أن تكون له لغة روحية أو مثالية، يرتبط بمبدأ قوانين الطبيعة أو القوانين العلمية، أو قوانين الحركة.

26فالطبيعة في الخطاب الفلسفي المادي هي نظام يتحرك بلا هدف أو غاية، نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، توجد مقومات حياته وحركته داخله، يحوي داخله ما يلزم لفهمه، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، فمركزه وقوة دفعه كامن حال فيه، وهو نظام ضروري كلي شامل لا يمكن لأي من المخلوقات تجاوزه، تنضوي كل الأشياء وتحته. (11)

27ويحدد البروفيسور عبد الوهاب الميسري في كتابه دراسات معرفية في الحداثة الغربية خصائص الإنسان الغربي، الذي ينتج الثقافة وبالتالي خصائص قيمه في مجموعة من الخصائص نذكر منها :

281. هو إنسان بلا حدود، يتمتع بكل السمات الأساسية للطبيعة، فهو مكتف بذاته، مرجعيته ذاته، ومعياريته ذاته، لا توجد أية حدود أو سدود أو قيود عليه، اجتماعية أو تاريخية أو جمالية فهو يعيش في الطبيعة الحرة ولا تتحكم فيه القيم والأعراف.

292. جوهر الإنسان الطبيعي ليس جوهرا إنسانيا، مستقلا فريدا، وإنما هو جوهر طبيعي مادي فالإنسان لا يختلف بشكل جوهري عن الكائنات الطبيعة الأخرى، قد يكون سلوك الإنسان أكثر تركيبا من سلوك الكائنات الطبيعة الأخرى، ولكن الاختلاف بينه وبينها هو الاختلاف في الدرجة وليس في النوع لذا فالإنسان في نهاية الأمر هو وأفكاره، وتاريخه وأشواقه وأحزانه مجرد جزء من بناء فوقي وهمي يرد في نهاية الأمر إلى البناء المادي التحتي الحقيقي /الطبيعة المادة وقوانينها.

303. معرفة الإنسان الطبيعي، محدودة بحدود الطبيعة، فالإنسان شأنه شان الكائنات الطبيعية جزء من برنامج طبيعي مادي ذاتي الحركة والتنظيم بل يلاحظ أن الحيوانات العليا تشترك مع الإنسان الطبيعي في درجات من الذكاء ووسيلة من وسائل الاتصال والتنظيم الاجتماعي وأشكال من الاقتصاد ومن هذا المنظور يمكن القول أن عقل الإنسان ليس له أية فعالية، فوجوده ليس ضروريا لحركة الكون بل إن العقل والخيال ومقدرة الإنسان على التجاوز والترميز والتجريد (القيم) يشكل عوائق تقف في طريق محاولة الإنسان الإذعان للطبيعة والتحرك معها والخضوع لحتمياتها.

314. الإنسان الطبيعي المادي شأنه شان كل الكائنات لا يعرف القلق أو التفكير في المجهول ولا يفكر في مصيره ولا مصير الكون، ولا تعكر صفوه أية أسئلة معرفية فأسئلته كلها أسئلة عملية مادية محصورة بالبيئة والاحتياجات المادية المباشرة.

325. يمكن تغير قيم هذا الإنسان ودوافعه ونشاطاته على أسس طبيعية مادية، فما يحركه هو أخلاقية مادية، تستند إلى المنفعة والمصلحة والرغبة في البقاء، قد يتوهم الناس أن القيم من لدن الإله أو من إبداع  الإنسان وهذا وهم فمصدر القيم هو الطبيعة، ومن ثم يمكن من خلال دراسة الطبيعة وقوانينها المختلفة دراسة إمبريقية أن نصل إلى منظومات قيمية ومعرفية وجمالية (طبيعية/ مادية) تستطيع أن تعيش بها وان تحقق مصلحته ونقاءه المادي ولذته.

335. الطبيعة البشرية شأنها شأن الطبيعة المادية في حالة حركة دائمة وتغير دائم،ولذا لا توجد إنسانية مشتركة، ولا يمكن أن توجد أية معايير دينية أو أخلاقية أو حتى إنسانية فمثل هذه المعايير خاضعة لقوانين الحركة.

346. على المستوى الرمزي قيم إدراك الإنسان الطبيعي من خلال رموز طبيعية مستمد من عالم الطبيعة (المادة)، وهي عادة صور مجازية مستمدة من عالم الحيوان والنبات (عضوية) أو من عالم الأشياء (آلية) أو خليط منهما. (12)

35وبهذا تكون القيم الغربية تنطلق من منطلقات معرفية تجرد الإنسان من إنسانيته إذ تعتبره جزء من الطبيعة وكامن فيها ولا يمكنه أن ينفصل أو يستقل عنها فهي حالة فيه وهو حال فيها، و يعلق عليعزت بقوفيتش على هذه التصورات فيقول "لقد دأب الماديون على توجيه نظرنا إلى الجانب الخارجي للأشياء، فيقول إنجلز عن اليد ليست عضو العمل فقط وإنما أيضا هي نتاج العمل، فمن خلال العمل اكتسبت اليد البشرية هذه الدرجة الرفيعة من الإتقان الذي استطاعت من خلاله أن تنتج لوحات روفائيل، وتماثيل ثورفالدسن، وموسيقى باجانيني، إن ما يتحدث عنه إنجلز هو استمرار النمو البيولوجي وليس النمو الروحي، ولكن الإنسان ليس مجرد وظائف بيولوجية، والنمو البيولوجي وحده حتى لو امتد أبد الآبدين، ما كان بوسعه أن يمنحنا لوحات روفائيل ولا حتى صور الكهوف البدائية التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ"(13)

36ومن خلال هذه الرؤية المعرفية المادية للإنسان وما ينتجه من ثقافة أو ما يعتنقه من قيم ومعتقدات يمكننا تلخيص هذا الإنسان المادي الطبيعي في نوعين من الإنسان فقط هما الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسمي الجنسي.

37فالإنسان الاقتصادي : وهو إنسان آدم سميث الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والرغبة في تحقيق الربح والثروة، وإنسان ماركس المحكوم بعلاقات الإنتاج، فيصبح كل هم هذا الإنسان هو تحقيق إشباع حاجاته الطبيعية، وتحقيق تراكم في وسائل وأدوات إشباعها وما الفن: أو الدين أو القيم ...الخ... ما هي إلا وسائل وطرق رمزية تمكن الإنسان من تطويرها من نماذج طبيعية سابقة، فهذا الإنسان لا يعرف الخصوصية ولا الكرامة ولا الأهداف السامية التي يتجاوز الحركة الاقتصادية.

38أما الإنسان الجسماني أو الجنسي : وهو إنسان فرويد و بافلوف الذي تحركه دوافعه الجنسية وغدده وجهازه العصبي، وهو يعبر عن مبدأ اللذة، ولا يعرف سوى متعته ولذته، إنسان الاستهلاك والترف والتبذير، وهو إنسان أحادي البعد خاضع للمجتمعات الغريزية متجرد من القيمة لا يتجاوز قوانين الحركة.

39بالإضافة إلى هذه الرؤية المعرفية التي تستنبطها النماذج القيمية الأوربية والغربية عموما، انطلاقا من الرؤية الداروينية للإنسان والثقافة هذه الرؤية التي لا تؤمن بالخلق وتعتبر أن الإنسان ما هو إلا حالة تطورية من كائنات حيوانية أقل منه تطورا، وأبسط في التركيبة الفيزيولوجية.

40ويمكن القول أن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن من وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة إن لم يكن كلها، حيث يرى دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي ذاتها التي تسري على الظواهر الإنسانية التاريخية والاجتماعية والثقافية، ويرى داروين أن الكون بأسره سلسلة متواصلة في حالة حركة من أسفل إلى أعلى، وأن الإنسان إن هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أرقاها ولكنه ليس آخرها، وعلى الرغم من عدم صدق الرؤية الداروينية علميا وواقعيا إلا أن أنصاره يرون أن فرضية داروين نظرية صحيحة وحقيقة علمية، وقرروا إن العلاقة بين الكائنات الحية في الطبيعة لا تختلف عن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية، ولا عن العلاقات بين المجتمعات والدول، والثقافات، وعلى هذا وظفت الداروينية الاجتماعية في تبرير التفاوت بين الطبقات داخل المجتمع الواحد. وفي حق الدولة الغربية العلمانية المطلقة، وتبرير المشروع الاستعماري الغربي على صعيد العالم كله، فالفقراء في المجتمعات الغربية وشعوب آسيا وإفريقيا (والصحراء على وجه العموم) هم الذين أثبتوا أن مقدرتهم على البقاء ليست مرتفعة، ولهذا فهم يستحقون الفناء، أو على الأقل الخضوع للأثرياء ولشعوب أوروبا الأقوى والأصلح، ونفس القانون يسري على ثقافتهم وقيمهم ومعاييرهم.

41ويمكن تلخيص الأطروحات الداروينية الاجتماعية في مجال الثقافة والإنسان على النحو التالي:

421. كل الأنواع العضوية ظهرت من خلال عملية طويلة من التطور، وهي عملية حتمية شاملة تشمل كل الكائنات، وضمن ذلك الإنسان، وكل المجتمعات في المراحل التاريخية كافة.

432.العالم كله في حالة تطور دائم، وهذا التطور يتبع نمطا واضحا متكررا برغم أن التطور قد يكون بطيئا وغير ملحوظ أحيانا وقد تأخذ شكل طفرة فجائية واضحة أحيان أخرى.

443. تتم عملية التطور من خلال صراع دائم بين الكائنات والأنواع فالصراع دموي حتمي، وهو صراع جماعي لا فردي.

454. السبب الذي يؤدي إلى تغير الأنواع هو الاختيار الطبيعي الذي يؤثر في جماعات الكائنات العضوية ويترك عليه أثار مختلفة.

465.تحقق الكائنات البقاء إما من خلال التكيف البرجماتي مع الواقع، فتتلون بألوانه وتخضع لقوانينه، أو تحقق البقاء من خلال القوة وتأكيد الإرادة النتشوية على الواقع والبقاء من نصيب الأصلح القادر على التكيف والأقوى القادر على فرض إرادته.

476. مهما كانت آلية البقاء، فهي لا علاقة لها بأية قيم مطلقة متجاوزة، مثل الأمانة أو الأخلاق أو الجمال، فالبقاء هو القيمة المحورية في المنظومة الداروينية التي تتجاوز الخير والشر والحزن والفرح.

487. النوع الذي ينتصر يورث الخصائص التي أدت إلى انتصاره سر بقاءه إلى بقية أعضاء النوع، بمعنى أن التفوق يصبح عنصرا وراثيا.

498. هذا يعني استحالة وجود مساواة مبدئية بين الأنواع أو بين أعضاء الجنس البشري.

509. مع تزايد معدلات التطور، يصبح هناك كائنات أكثر رقيا من الكائنات الأخرى بحكم بنيتها البيولوجية، ومن ثم يصبح للتفاوت الثقافي أساسا بيولوجيا حتميا"(14)

51إذن ومن خلال هذا المنظور الابستمولوجي الذي تستبطنه القيم الغربية، والتي تصطدم مباشرة مع الرؤية التوحيدية الإسلامية فإنه لا شك أن قيم الثقافة الغربية يصعب عليها الاستيطان في الثقافة السائدة، وحتى وإن ظهرت بعض النماذج الأوربية في النسق الثقافي السائد، فإنها لا تلعب الأدوار نفسها ولا تقوم بالوظائف نفسها التي تقوم بها في نسقها الثقافي الأصلي.

52وفي مقابل هذه الرؤية الغربية تستبطن كذلك الثقافة السائدة في المجتمع الجزائري والمجتمع العربي الإسلامي عموما أبعادا معرفية تنطلق من الرؤية التوحيدية، والتي تعتمد على فكرة وجود خالق وحيد لهذا الكون، وهو الذي خلق الإنسان وخلق الطبيعة، وزود الإنسان بآليات ووسائل لفهم الكون المحيط به، وجعل الإنسان هو محور هذا الكون، بل أن خلق هذا كله من أجل الإنسان وسخيره له، ففي هذا السياق نجد الدكتور محمود الذوادي يتحدث في كتابه الثقافة بين تأصيل الرؤية الإسلامية واغتراب منظور العلوم الاجتماعية، نجده يتحدث عن الثقافة وطبيعتها في الرؤية المعرفية الإسلامية.

53وتتمحور الرؤية المعرفية الإسلامية للثقافة في حقيقة الإنسان وقيمته ومركزه ومكانته الوجودية، ووظيفته، وقد حاول أن يبسط الأستاذ الذوادي هذه الأفكار من خلال قراءته لنصوص القرآن الكريم فهو يرى أن:

541. النص القرآني يتضمن الكثير من الآيات التي تعطي الإنسان مكانة خاصة متميزة من بين كل المخلوقات سواء كانت كائنات روحية كالملائكة أو حيوانات ودواب أخرى تعيش على هذه الأرض مثل الإنسان، وبعبارة أخرى فصورة الإنسان في القرآن الكريم هي صورة الكائن الفريد الذي يحتل المرتبة الأولى من حيث الأهمية بعد الله في هذا الكون، ومن ثم فلا منازع له على الإطلاق في تأهله لإدارة شؤون هذا العالم وأخذ مقاليد السيادة (الخلافة) فيه، ففي الآية 30 من سورة البقرة يصف القرآن آدم الإنسان بأنه خليفة الله في الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ ولا يحتاج المرء هنا لشرح مدى أهمية هذا المنصب لخلافة الله في الأرض، الذي وليه الإنسان دون سواه من الملائكة، والمخلوقات الأخرى على الأرض.

552. أما ميزات الإنسان المطلقة التي تتحدث عنها الآيات القرآنية الثلاث في الآيات (31، 32، 33) من سورة البقرة نفسها فهي تمثل في اصطفاء الله لآدم بالمعرفة والعلم أكثر من غيره بما فيهم الملائكة ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ونتيجة الميزتين السابقتين اللتين حرمت منهما الملائكة وبقية الكائنات وحصل عليها الإنسان وحده جاء أمر الله للملائكة بالسجود لآدم دون غيره كعلامة تكريم وتمييز ثالثة لآدم﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.

563. أما الآية 70 من سورة الإسراء فهي تستعمل فعلي كرّم وفضّل لإبراز سمتي تميز بني آدم عن غيرهم من مخلوقات الأرض﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.

57فهذه الآيات القرآنية توضح بما لا يدع مجالا للشك بأن الإنسان كائن خاص متميز ومتفوق على غيره من مخلوقات الأرض والملائكة، ومن ثم فالرؤية القرآنية للجنس البشري تمثل قطيعة معرفية (إبستيمولوجية) كاملة مع نظرية التطور عند داروين وأصحابه، إذ أن خلق آدم في الرؤية القرآنية يمثل حالة خاصة من الخلق وهي في قطيعة كل الملائكة وعوالم المخلوقات هنا على الأرض، عن خلق آدم الإنسان إياه الله دون سواه.   

584. فربط آيتين من القرآن الكريم سجود الملائكة لآدم بنفخ روح الله فيه ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ نجدها مكررة في سورتي الحجر (29) وص (72).

59ويفسر الدكتور الذوادي هذه الآية، أن كلمة روحه ليست هي فقط قدرة الله في بث الحياة في آدم، لأن ذلك وحده لا يسمح لآدم الإنسان أن يتبوأ منصب خلافة الله في الأرض، وسجود الملائكـة له تكريما لخصوصية وتميز خلقه، فالله لم يبث الحياة في الإنسان فقط بل بثها أيضا في كل الكائنات الحية، وبالتالي فبمجرد بث الحياة في الإنسان لا تؤهله وحده إلى خلافة الله هنا على الأرض، فلابد إذن من البحث عن معنى آخر للفظ روحي، الذي يفسر بقوة مكانة تميز الإنسان وتفوقه على بقية المخلوقات في إدارة شؤون الأرض كخليفة لله.

60فالإنسان متفوق على بقية المخلوقات كما أثبتت علوم الأنثربولوجيا، والاجتماع والنفس بالثقافة التي تشمل اللغة، الفكر، المعرفة، العمل، الدين، القيم، والأعراف التقليدية، ومن هنا يصبح معنى ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ تدل على النفخة الإلهية في آدم في المقام الأول نفخة ثقافية بالمعنى المعاصر. (15)

61ففي هذا النموذج التوحيدي ينطلق من فكرة أن الثقافة فيها شقين ميتافيزيقي وشق مادي طبيعي، فالشق الميتافيزيقي الذي يتعلق بخلق الإنسان وتحديد وظيفته الوجودية، ومصيره يعتبران عنصران أساسيان في فهم ثقافة الإنسان التي تتسم بالرمزية، كذلك تنظر هذه الرؤية للإنسان باعتباره يملك حيزا خاصا به ومستقل بذاته فهو غير حال لا في الإله الذي خلقه، ولا في الطبيعة التي تشبهه في جانبه المادي والذي تتحكم فيه القوانين المادية التي تتحكم فيها. ومن هذا المنطلق تصدر كل القيم والأعراف والقوانين، والمعتقدات وأساليب ووسائل التعامل مع الطبيعة، والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمعايير التي يحكم بها الإنسان على الأشياء والأفعال والأفكار والأشخاص إذن هذه الرؤية هي التي تؤطر هذه العناصر كلها التي تتشكل منها الثقافة.

62فالإنسان ليس كائن طبيعي بل كائن طبيعي وروحي في آن واحد، وكذاك الثقافة التي تتبعها ليست أشكال من التطور الطبيعي لسلوك الأنواع بل نشمل هذه الثقافة العناصر المادية والروحية وأن العناصر الروحية هي التي تشكل المضمون أو البناء الأساسي للثقافة.

63إن وجود هذه الرؤية وتجذرها في العالم القيمي للإنسان الجزائري والإنسان المسلم عموما هي التي تشكل جهاز المناعة بالنسبة للقيم السائدة، فمن خلال هذه الاعتقادات والتصورات ترد على النماذج القيمية الغربية الصادرة عن الرؤية المعرفية التي أشرنا إليها سابقا، فلهذا نجد التناقض الصارخ في منظومة القيم الجزائرية.

64فالإنسان الجزائري أصبح منقسم على نفسه ويعيش انفصاما خطيرا في شخصيته، فهو خاضع بحكم المصلحة والضرورة الحياتية للنماذج القيمية الغربية التي تتسم بالفعالية، والعملية، والقدرة الإنجازية، والتطور العلمي والمعرفي والتكنولوجي، رغم أنها  تستبطن نماذج معرفية إلحادية كفرية لا يقبل بها الإنسان المسلم مهما كلفه ذلك من تضحيات، ومن جهة أخرى يحاول التمسك بقيمه التي امتزج بها وامتزجت به عبر القرون وهذا ما يشكل له الأزمة الثقافية.إذ أصبح الإنسان الجزائري منقسم بين إنجازات الثقافة الغربية التي تيسر عليه معيشته وتقدم كل التسهيلات للحصول على إشباعات كاملة لكل حاجاته بأقل تكلفة في الجهد، والمال، والوقت، ومعتقدات الثقافة الإسلامية التي تشكل بالنسبة له يقينيات غير قابلة للمناقشة. لذا نجده يحاول أن يزاوج بين هذين النموذجين القيميين ولكن نتيجة هذا الزواج كانت عبارة عن ثقافة هجينة تتميز بالصراع والتناقض واللافعالية أو كما وصفها الأستاذ مالك بن نبي.

65ومن هذا المنطلق يمكننا أن ننظر إلى قضية التغيير القيمي في المجتمع الجزائري الذي تتحكم فيه عدة عوامل مختلفة لكنه يمكننا تلخيصها في الأبعاد المعرفية والتصورية والإعتقادية التي تتقاسمهما منظومتان معرفيتان هما المنظومة المعرفية الغربية وما تنطوي عليه من قيم ومعايير تجاه الإنسان والطبيعة والكون، وما وراء الطبيعة، والمنظومة المعرفية الإسلامية وما تقدمه من تصورات واعتقادات حول الإنسان والطبيعة، والكون، وخالقهم، ومصير الإنسان، ووظيفته الوجودية....الخ.


               

Notes

1  

2

3

4  

5  

6  

7  

8  

9  

10  

11  

12  

13  

14  

15  

الهوامـــش :

3- محمد أحمد بيومي، علم اجتماع القيم، دار المعرفة الجامعية، مصر، 1990 ص 141.           

4- مصطفى محمد حسن،علم النفس الاجتماعي، المكتب الجامعي الحديث، مصر،ط1، 1999، ص  135

  13- نفس المرجع، ص22                                                                                              

14- عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر، ط1، سوريا، 2002، ص 100.

 15  - محمود الذوادي ،الثقافة بين تأصيل الرؤية الإسلامية واغتراب منظور العلوم   الاجتماعية، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، لبنان ،2006، ص 76-80 بتصرف       

     

 

 

@pour_citer_ce_document

كمال بوقـرة, «الأبعاد المعرفية للتغير القيمي في المجتمع الجزائري »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp : 86 - 102,
Date Publication Sur Papier : 2009-05-05,
Date Pulication Electronique : 2012-04-30,
mis a jour le : 14/01/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=349.