أشكال التناص وجماليته في ديوان اللهب المقدس
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°03 Novembre 2005

أشكال التناص وجماليته في ديوان اللهب المقدس


pp : 165 - 178

ليديا وعدالله
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

   

أصبح البحث عن جمالية النص الشعري مثار العديد من الاتجاهات النقدية الحديثة، والتناص كظاهرة  تتمظهر في النسيج النصي، وتثبت نصيته من جهة أخرى، تعد مدخلا جوهريا لتلمس جمالية النص الشعري الثوري في الجزائر. هذا النص الذي واكب الثورة التحريرية الكبرى تسمه بعض الآراء النقدية بالانغلاق على نفسه، وذلك نظرا للسياقات الخارجية التي ألمت به في تلك المرحلة، ولهذا اقتات النص الثوري على ما تيسر له من النصوص التراثية ''التي لم يكن الشاعر يلم بها إلمام ذوق وإحساس يستطيع من خلاله خلق لغة شعرية جديدة بواسطة الخيال الشعري الذي من خصائصه الهدم وإعادة البناء من جديد''(1) ولهذا جاءت التفاعلات النصية جزئية   وسطحية، بعيدة عن الالتحام بالهم الثوري الذي يحمله الشعراء وكذا'' عدم انصهارهم في قضية كبرى من خلالها يشكلون مواقفهم تجاه القضايا الملحة التي تفرض نفسها على وجودنا''(2)

     أمام هذه الأحكام النقدية تولد جملة من الأسئلة والمراهنات حول النص الشعري الثوري ويفضي ذلك الإطلاع على نماذج منه ممثلة في ديوان اللهب المقدس لمفدي زكريا الذي نطرقه من خلال مفاهيم التناص وآلياته للكشف عن جمالية الإبداع الشعري، وإبراز أشكال تفاعل هذه النماذج مع نصوص أخرى غائبة استحضرها الشاعر بوعي منه أو بدون وعي لتحمل أبعاده الفكرية والفنية وتكشف موقفه من الحياة والكون والتاريخ....   كما تمنح هذه التفاعلات النص الثوري هويته المعرفية وخصوصيته الثقافية التي أصبح مستهدفا فيها من طرف الاستعمار الفرنسي. أما مصطلح التناص ترجمة للمصطلح الغربي           (intertextuality) ولم يرد في المعاجم العربية القديمة إلا في (تناص) القوم عند اجتماعهم أي ازدحموا و(نصص) المتاع جعل بعضه فوق بعض ونص الحديث إلى صاحبه رفعه وأسنده إلى من أحدثه، و(نصص)الرجل أستقصي مسألته حتى أستخرج ما عنده (3).

      ولا يبتعد المعنى اللغوي عن المعنى الاصطلاحي الذي تم تحديده للتناص في المفاهيم النقدية الحديثة، إذ أنه حضور لنصوص مختلفة في نص واحد أو أن"النص عبارة عن نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء وأعني من اللغات الثقافية السابقة عليه والمعاصرة لها التي تخرقه بكامله ...." (4)        

      فتتمظهر بذلك نصوص عديدة أدبية منها وغير أدبية في جسد النص، هذا التمظهر جمالي لأنه يأتي في شكل "فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة . ممتص لها يجعلها من عندياته وبتصييرها منسجمة مع فضاء بنائه ومع مقاصده.

محول لها بتمطيطها أو تكثيفها بقصد مناقضة خصائصها ودلالتها أو بتعضيدها(5). ومن أبرز المقولات التي يتقاطع معها مفهوم التناص، مقولة السرقات الأدبية إلا أن التناص لا يحمل ذلك الحكم القيمي الذي التبس به مصطلح السرقة، فهذا الأخير "تعبير قاصر لأنه إلصاق صفة معيبة على أعمال منها ما هو معيب كالأخذ والادعاء، ومنها ما هو غير معيب كالمحاكاة في النهج العام والتضمين وتحوير المعاني الأولى أو التعبير أحيانا عن نقيضها... فثمة ألوان من تواصل الشاعر مع تراثه ومع نتاج معاصريه لا تدخل دائرة المعيب والمحظور ولكنها قد تدخل أحيانا دائرة الضرورة "(6).

          وقبل الانتقال إلى تلمس جمالية الممارسة الشعرية لدى الشاعر من خلال آليات التناص وأشكاله ينبغي الإلمام بالجوانب التالية (7):

    1- تحديد الشكل الذي يتمظهر به النص المتفاعل معه أو النص الغائب(المتناص) في النص الجديد.

   2- بيان مصدره من جهة، و ما طرأ عليه من تحولات في النص الجديد من جهة أخرى.

   3-ربط هذه التحولات بما أسند إليه من وظائف جديدة تساهم في إنتاج الدلالة الكلية للنص الجديد.

  4-الحكم على أهمية النص الغائب (المتناص) من خلال تقويم مدى حيوية الوظيفة التي يؤديها في السياق الجديد.

إذا كان التناص هو حوار بين نص ونص آخر فإن الكشف عن جمالية هذا الحوار لا يتأتى إلا بين النص و القارئ الذي يسبر أغوار الممارسة الإبداعية من خلال ما يتمتع به من كفاءة أدبية.

  لقد اتخذ التفاعل بين النص الشعري عند مفدي ومصادر تراثية أشكالا مختلفة، يحتل فيها النص القرآني بسوره وألفاظه ومعانيه وشخوصه وفاصلته، مساحة واسعة من ديوان اللهب المقدس، وقد عمد هذا التفاعل إلى محاولة إثبات الهوية الوطنية التي سعى الآخر إلى تغريبها، فكان القرآن الكريم، والحديث الشريف، المنهل الأول الذي تشرب منه النص الثوري، واستند إليه في تعزيز صوته، ولقد اختلفت أشكال هذا التشرب من استلهام لبعض الألفاظ أو المعاني الدينية إلى اقتباس آية قرآنية أو مجموعة من الآيات، ومن ذلك اقتباس آيات سورة الزلزلة شكلا ومضمونا لمحاكاة الزلزلة

الفعلية للأرض، وقد تم الإعلان عن هذا الاقتباس منذ العنوان "ألا إن ربك أوحى لها "(8):

هو الإثم، زلزل زلزالها                   فزلزلت الأرض، زلزالها

وحملها الناس أثقالهم                    فأخرجت الأرض، أثقالها

وقال ابن آدم في حمقه                  يسائلها ساخرا: مالها؟؟

فلا تسألوا الأرض عن رجة            تحاكي الجحيم، وأهوالها

ألا إن إبليس أوحى..                  ألا إن ربك، أوحى لها

                   ...................

                   .....................   

أمانا ألا يا سماء اقلعي                  فقد صبت الأرض أنكالها

ويا أرض، رحماك لا تبلعي             صبايا البلاد، وأطفالها 

    

     عمد النص الثوري إلى اجترار آيات السورة القرآنية التي تصور أهوال يوم القيامة «إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها "(9)، محاكيا صورة الزلزال والهلع الذي حدث في الواقع، وقد جاءت تلك الأبيات الشعرية كأنها ملصقة في جسد النص الشعري، بعيدة عن الالتحام بالتجربة التي يعانيها الشاعر، ورغم محاولة النص الشعري إعادة قراءة السورة القرآنية وفق حاضره، إذ جعل من طغيان فرنسا في أرض الجزائر و ظلمها، إرادة السماء ترتج لذلك وتزلزل الأرض، إلا أن هيمنة النص القرآني بلفظه ومعناه قد تملك خيال الشاعر و اتضح في إبداعه.

      نجد في موضع آخر من النص الشعري محاولة قلب الدلالة العامة للآيات القرآنية "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء" وذلك يذكرنا بقصة سيدنا نوح عليه السلام مع قومه الذين عصوا أمره فأمطرت السماء محدثة طوفانا لم يتوقف إلا بإذن من الله   النص الثوري يقلب هذه الدلالة، فإذا كانت الأرض قد صبت أنكالها فزعا لظلم فرنسا وجرائمها فإن السماء في الآية الكريمة قد تهاطلت عقابا أما في البيت "أن تزخ بالمطر لتطفئ النار المشتعلة في الأرض المدمرة هذا على ظاهر المعنى أما دلالته العميقة فهو دعاء الله أن ينزل غضبه على من عاثوا في الأرض فسادا"(10).

      أما بالنسبة للأرض التي جاءها الأمر بأن تبتلع الماء في الآية فإن هذا الفعل يأتي مسبوقا بنهي في البيت الشعري استعطافا بالصبايا والأطفال، فقد تمت قراءة الآية القرآنية ضمن امتصاص لدلالتها وتحويلها.

    إن التناص بين النص الشعري، والسور القرآنية، لم يحدث على مستوى اللفظ والمعنى أو الصورة الفنية، وإنما كذلك على مستوى الإيقاع الشعري إذ تستحيل الفاصلة القرآنية لسورة الزلزلة قافية شعرية، وهذا الشكل من التناص نجده في العديد من النماذج الشعرية في الديوان الشعري وهو يكشف عن تمكن النص القرآني في نفسية الشاعر وتقديسه له وقدرته على تمثله من خلال الإيقاع الشعري.

    لقد اتخذ التفاعل مع النص القرآني أحيانا شكل الاجترار وذلك بالتعامل بوعي سكوني معه إذ يطغى بلفظه ومعناه على ذاكرة الشاعر ويتمظهر في إبداعه، وأحيانا أخرى يتم تحوير النص القرآني بشكل يتوافق مع حاضر النص الشعري بالاستناد إلى بعض دوال القرآن كما هو الشأن في النص "وقال الله.."(11)، إذ تكتسي ليلة نوفمبر عظمتها من عظمة ليلة القدر والشاعر كلما"...أراد التعبير عن قدسية الشيء فشبهه بالقرآن الكريم لأنه كان يمثل عنده النهاية التي لا نهاية بعدها "(12):

      دعا التاريخ ليلك فاستجابا      (نفمبر) هل وفيت لنا النصابا؟

     وهل سمع المجيب نداء شعب      فكانت   ليلة  القدر  الجوابا؟

     تبارك ليلك، الميمون  نجما       وجل  جلاله  هتك  الحجابا

    زكت وثباته عن ألف شهر      قضاها الشعب، يلتحق السرابا

      تأتي سورة القدر مدمجة في جسد النص الشعري قال الله تعالى "إن أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة، ليلة القدر خير من ألف شهر..." (13) هذه الليلة العظيمة التي حررت البشرية من ربقة الجاهلية إلى نور الإسلام، تضاهيها عظمة ليلة نوفمبر باعتبارها وثبة في تاريخ الجزائر نحو الحرية ورفض الاستبداد.

   وفي موضع آخر يستلهم النص الثوري النص القرآني معيدا إنتاجه وفق مقاصد المبدع (14):

     من يكنز المال لم يسعد به وطنا     ويلمه فهو في الأموات معدود

    جودوا به قبل أن تكوى الجباه     المال يفنى ويبقى الفضل والجود

     ينضح كل من البيتين الشعريين بالمعاني القرآنية والألفاظ المستوحاة من قوله تعالى "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى

 بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنز تم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون "(15).

   يتخذ كل من البيتين ألفاظ الآيات ومعانيها توطئة للحديث عن القضية الوطنية التي ينبغي أن ينفق من أجلها النفس والنفيس، و قد تمكن النص الثوري من إضفاء دلالات جديدة على النص القرآني وتحوير صورته، كما اكتسى النص الشعري مرجعية دينية فالشاعر يستمد مشروعية قوله من قول الله تعالى عند توعده للذين يكنزون أموالهم بعذاب أليم، و هو يؤكد دلالة الآية ويبرز أن الإنفاق من أجل الوطن من سبل عبادة الله والتقرب إليه.

      إن الحضور المكثف للسور القرآنية ومعانيها والتداخل الكبير بين المعجم الشعري والمعجم الديني يعززه كذلك وجود أسماء الأنبياء والمرسلين مثل محمد، عيسى، موسى، جبريل،مريم... هذه الأسماء في تمظهرها لا تتخذ أنماطا معقدة، وإنما تأتي في شكل إحالة" إذ تحيل هذه الأسماء إلى مرجعيتها التراثية أو التاريخية أما عند توظيفها في سياق النص الجديد فإنها...لا تأتي فارغة من المعنى، وإنما لها معاني مثلما هوالشأن في أسماء الأجناس بل إن تلك أكثر خصب وغنى من هذه ولذلك يتخذها الأدباء والشعراء موطنا لشحنها بمعان ثانوية تهدف إلى المدح والسخرية "(16) كما تهدف من جهة أخرى إلى الإحالة للماضي أوالحاضر(17):

وكان محمد، نسبا لعيسى       وكان الحق بينهما انتسابا

وموسى، كان يأمر بالتآخي     وحذر قومه، مكرا وعابا

 

        إن الأسماء التي يحيل إليها النص الشعري مشبعة بحمولتها التراثية، إلا أن توظيفها جاء بصورة نمطية، دون أن تكتسي في سياق النص دلالات إبداعية، و لعل الشاعر قد اعتمد على القارئ ليستنتج الأخوة التي تجمع بين الأنبياء ووحدة تعاليمهم الدينية التي أمروا بها ثم الظلم الذي تمارسه بعض الشعوب التي تؤمن بهذه الديانات وحيادها عن تعاليم أنبياءها.

     إن النص الشعري وليد سلسلة من النصوص السابقة عليه والمتزامنة معه بل إنه ذلك النسيج الذي تنتشر فيه أصداء، وشذرات نصية وغير نصية تشكل في مجموعها لوحة فسيفسائية، وإذا كان النص الثوري عند مفدي قد غذاه النص القرآني بصورة بارزة، فإن القارئ له يجد أصوات لفحول الشعراء يتستر عليهم النص في صمته الوهمي(18):

   السيف أصدق لهجة من أحرف     كتبت فكان بيانها الإبهام

والنارأصدق حجة ،فاكتب بها        ما شئت تصعق عند الأحلام    

إن الصحائف، للصفائح أمرها        والحبر حرب والكلام كلام

 إن لغة السيف والنار، وهذا الجناس اللفظي من شأنه أن يحيل القارئ إلى نص شعري لأبي تمام يشدو فيه بفتح عمورية على يد المعتصم (19):

  

     والسيف أصدق إنباء من الكتب          في حده الحد بين الجد واللعب                                       

      بيض الصفائح لاسود الصحائف         في متونهن جلاء الشك والريب

     والعلم في شهب الأرماح لامعة           بين الخميسين لا في السبعة الشهب    

     إن النص اللاحق يستلهم النص السابق فيقتبس الشطر الأول من البيت الشعري، كما يستعين بالجناس اللفظي (الصحائف- الصفائح)   وإذا كانت الصحائف في النص السابق تحيل إلى المنجمين فإن الصحيفة والحبر والكلام في النص الثوري يحيل إلى اتفاقيات فرنسا و عهودها مع الجزائريين وإذا كان السيف الذي حمل لفتح عمورية قد حطم تنبؤات المنجمين وتكهنا تهم فإنه السيف ذاته الذي ينبغي أن يرفع لتحرير الجزائر وتمزيق إبهام اللغة ومن شأن هذا التناص مع الشعر العربي القديم أن يشحذ الهمم ويبرز انتصارات العرب عبر التاريخ.

 وفي مواضع الأسى والفراق تلقي نونية ابن زيدون بظلالها على النص الشعري:(20)

    ما للجراحات، نخفيها فتبدينا      وللحشاشات، نأسوها فتدمينا؟

وللفواجع، ننساها فتفجأنا        وللسهام، نفاديها    فتصمينا ؟                                                                   

ولليالي، نصافيها فتنغصنا              وللزمان،  نداريه     فيردينا؟       

........................           ...........................

ولا علمت بأن الدهر عندكم       من بعد ماسرنا حينا، سيبكينا

    إن البحر البسيط و القافية وحرف الروي النون الذي يبعث على الأنين والمعاناة لتقلب الأحوال على الشاعر ووقوعه في مفارقات يعززها سلسلة من المقابلات اللفظية كل هذا من شأنه أن يحيل القارئ إلى نونية ابن زيدون :(21)

   أضحى التنائي بديلا من تدانينا       وناب عن طيب لقيانا تجافينا

   ألا وقد حان صبح البين صبحنا       حينا ، فقام بنا للحين داعينا

  إن الزمان الذي ما زال يضحكنا         أنسا بقربهم قد عاد يبكينا

          يحمل كل من النصين الشعريين صدى لمفارقات يتنفسها كل من الشاعرين،ابن زيدون يبكي فراق الحبيب وانقلاب الدهر الذي لم الشمل في ما مضى ،والنص الثوري يستلهم الفضاء العام للنص، وبعض دواله المتناثرة في جسد النص الشعري (تنغصنا، جفت مآقينا ،آمينا ...) ليبكي زمنا سعيدا قد ولى وحاضرا مفجعا يحمل حقيقة موت الملك محمد الخامس، فكل من الشاعرين يعاني فقدان الآخر والضياع النفسي. لقد كانت نونية ابن زيدون بإيقاعها الشعري ومعجمها اللغوي النسيج العام الذي أبدع من خلاله مفدي نصه الجديد فوفق ثنائية الهدم والبناء تتحقق إنتاجية النصوص الشعرية عند مفدي ولا مناص للشاعر أن يقف لحظة إبداعه في مواجهة إبداع الآخرين الذي سكن خفايا ذاكرته ليتخذ أشكالا مختلفة من التمظهرات في خياله الشعري كاقتباس بيت شعري أو صورة فنية أو التناص مع الإيقاع الشعري للنص السابق أو استحضار بعض دواله،  مثل قوله يتحدى صمت الزنزانة وانغلاقها: (22)

     أنام ملء عيوني، غبطة و رضى      على صياصيك، لاهم ولا قلق

     كيف يهتم وقد سكن الجزائر وسكنته، يناضل لأجلها ويتحمل الهم الجماعي دون قلق، و في هذه النشوة من العشق يستدعي إلى ذاكرة القارئ البيت الشعري:

  (23) أنام ملء جفوني عن شواردها      ويسهر الخلق جراها ويختصم

لقد حمل نص المتنبي هم إبداعه لغيره، أما قضية الشاعر مفدي وهمه يتحمله بمفرده عن رضى وغبطة بل يعقد صداقة مع هذه الزنزانة ويصبح:(24)

 سيان عندي، مفتوح و منغلق      يا سجن بابك أم شدت به الحلق

 أم السياط، بها الجلاد يلهبني        أم خازن النار، يكويني فأصطفق

     هذا القول كذلك يستدعي لذاكرة القارئ إلى نصوص شعرية أخرى استوى فيها البكاء بالغناء والألم بالفرح كما استوى انفتاح باب السجن بانغلاقه:

 غير مجد في ملتي واعتقادي       نوح باك ولا ترنم شاد

وشبيه صوت النعي إذا قيس        بصوت البشير في كل ناد              

ولعل الذات الإنسانية تبلغ مرحلة التسوية بين المتناقضات عندما تهوي في أغوار اليأس والقنوط، أما في النص الثوري فيتأتى ذلك من الإيمان العميق بالقضية الكبرى(الجزائر – الحرية )و الالتحام بها ،هذه القضية التي يترجمها:(25)

   إن جهلتم طريقه ....فعليها    (لافتات)......حروفها حمراء

   اعتراف...فدولة ...فسلام     فكلام...فموعد....فجلاء

وهذا يحيل إلى قول أحمد شوقي(26)

  نظرة فابتسامة فسلام          فكلام فموعد  فلقاء      

  فلقاء يكون منه دواء          أو فراق يكون منه الداء

   إن النص الثوري يكتب بلغة النار في امتصاصه لنص أحمد شوقي الذي يرتفع به عن علاقة تحدث بين الطرفين بداية بالنظرة وانتهاء بالفراق، أو اللقاء ليصبح قضية كبرى فهو لقاء حبيبة أخرى تبدأ بالاعتراف بسيادتها لتنتهي إلى حريتها التي تستمد وجودها من النضال: (27)

   قف بي أقدس للحياة نضالها     فلكم وقفت أقدس استقلالها

فالحياة في عرف النص الثوري ليست نضالا فحسب كقول أحمد شوقي:

  قف دون رأيك في الحياة مجاهدا      إن الحياة عقيدة وجهاد

     فقداسة النضال من أجل الحياة عند مفدي تأتي امتدادا لقداسة الحرية التي تعطي معنى للوجود الإنساني.

    وفي موضع آخر نجد النص الثوري لمفدي يستدعي بطريقة إشارية واعية أحمد شوقي و نزار قباني من خلال اعتماد تقنية الهوامش إذ يحيل الشاعر إلى مصدر النصوص الشعرية: (28)

   ياجارة الوادي (ببردونها )         طربت ،في فردوسك المائع

  ذكرت (قباني ) وفستانه             والنهد في شاطئك الرائع  

 فاستسلم "الفستان"،عن خبرة       بالفن....لابالدرهم الخادع

  وفي الهامش يرد(29)

1- نهر (البردوني) في زحلة ، وفيه نظم شوقي:

       ياجارة الوادي طربت وعادني      ما يشبه الأحلام من ذكراك

2- إشارة إلى قول نزار : حتى فساتيني التي أهملتها ،فرحت به رقصت على قدميه.

   إشارة إلى قول نزار   بدراهمي لا بالحديث الناعم....

      ولعل حضور قباني بفستانه يستدعي نصوصا شعرية أخرى كتبها نزار كمذعورة الفستان:(30)

   مذعورة الفستان...لا تهربي      لي رأي فنان...وعينا نبي

    أو نصه الشعري فستان التفتا: (31)

   أمسى انتهى....فستاني التفتا        أرأيت فستاني؟

  إن تقنية التهميش التي اعتمد عليها الشاعر مفدي ليحيل إلى مصادر نصوصه تبرز وعي الشاعر بهذه المصادر وإلفات نظر القارئ إليها إذا ما فاته الإطلاع عليها فمفدي "يشير إلى مصدر المقتطف الذي ضمن منه قصيدته بحيث يغدو النص المضمن متداخلا مع النص الأصلي، وهذا معنى التناص بصورته الحديثة".(32)

   لقد كان التاريخ العربي الإسلامي بصفحاته منهلا آخر يتستر عليه النص الثوري، إذ نجده يتقمص وجه

المرأة الهاشمية وصرختها وامعتصماه: ( 33)

ظلموني

واستباحوا الحرما

صحت:وامعتصماه

لطموني

لم يراعوا الكرما

      لقد اعتمد هذا المقطع الشعري تقنية أخرى من تقنيات التناص هي القناع إذ مثلما يحدث التناص في الصورة الشعرية والإيقاع الشعري واللغة قد "يقع في الضمير يتمثل في بعث الشاعر الواعي لعالم شعري   حميم آخر ينتمي لأسلافه الفنيين ووضعه كقناع له فهو يكتشف فيه وجهه ويرى في ملامحه صورته بعد تأويله..." (34) فيلتبس اللاحق بملامح السابق في أقواله وأفعاله...ويتحقق التناص الصوتي بين صوت

 الشاعر وصوت قناعه،والتناص الزمني أي نقل أمداء الزمن النصي من الماضي إلى الحاضر ،فتتوحد معاناة الشاعر مع معاناة المرأة الهاشمية وتتخذ الصرخة العربية سبيلها لتتناص مرة أخرى مع صرخة الشاعر في الزمن الحاضر بحثا عن ثائر وقائد يثأر لهذه الصرخة ويجدد الانتصار ،وبعيدا عن هذا النص الشعري تحضر بقية الشخوص التاريخية في الديوان الشعري حضورا نمطيا (جاهزا):(35)

  لله در أبي ذر وثورته          فما لماركس عنه اليوم ألهانا

        نلاحظ في هذا البيت محاولة إثبات الهوية العربية الإسلامية بالارتداد للموروث واستحضار شخصية أبي ذر الغفاري وثورته ومبادئه التي سبق بها كارل ماركس هذه المواجهة للآخر من إثبات الذات لا تبين وعيا بالتراث فحسب أو محاولة إحياءه وإنما وعيا بالآخر واستيعابه

لأفكاره:(36)

     تقمص (غاندي) في عروق شبابنا      وعفنا رغيف الذل من يد جوعان

   لئن صام (غاندي) (فابن بلا ) بأرضنا      يصوم ولا ينسى معارك ميدان

 تحضر شخصية غاندي التي من مبادئها "الصوم حتى الموت "وغير ذلك من المبادئ الأخرى لتثري الدلالة الشعرية وتتفاعل معها ليخلق النص موقفا أكبر من الشخصية التاريخية المستحضرة، عندما تتم المقارنة مع القائد بابن بلا الذي يصوم ويخوض المعارك.

الخاتمة:

   لقد حاولنا من خلال هذه المداخلة رصد بعض التفاعلات القائمة بين بعض نصوص مفدي ونصوص أخرى غائبة، لنبين مدى انفتاح أو انغلاق هذا النص الثوري إبان تلك الفترة وكذا محاولة إبراز كيفية قراءة هذا النص للنصوص الغائبة من جهة و قراءته لمتطلبات الواقع أو القضية الكبرى من جهة أخرى.

   مما يمكن ملاحظته حول المصادر المتفاعلة مع النص الشعري عند مفدي أن التفاعل مع النص القرآني قد شكل حجما كبيرا مقارنة مع مصادر تعرضنا إليها وأخرى سكتنا عنها.

       لقد اتخذ التفاعل مع النص القرآني أشكالا مختلفة من اجترار الآيات بلفظها ومعناها أو تحويرها وفق حاضر النص الجديد أو تمثل الفاصلة القرآنية أو الصورة الفنية.

      لقد تفاعل النص الثوري مع الذاكرة العربية فحسب غرضه إثبات الذات ورفض الذوبان في الآخر، هذا من جهة وتشبع الشاعر بالثقافة العربية من جهة أخرى

  لقد تم التناص مع الموروث الشعري وفق آلية امتصاص الأبيات وتحويرها لاحتواء القضية الوطنية التي تشغل الشاعر، فتحقق التناص على مستوى الإيقاع والصورة الشعرية أو اقتباس بيت أو شطر، وكانت معظم التفاعلات تحدث بين بيت أو بيتين شعريين .

     لقد اعتمد النص الثوري في استحضار شخوص تراثية أو تاريخية بشكلها النمطي الجاهز ويعد النص "أنا ثائر "النص الوحيد من الديوان الذي اعتمد تقنية القناع ويعتبر ذلك محاولة بارزة في خطى التجديد الشعري.

    إن تفاعل المبدع مع نصوص مختلفة بوعي منه أو بدون وعي يضفي عليها ضلال مأساته، ومأساته شعبه التي أرقته وكذا نضاله ضد الآخر بحثا عن الحرية، فسخر لذلك النص الحاضر والغائب في تلاحم إبداعي، ورغم اختلاف المصادر و أشكال التفاعل معها إلا أنها جاءت لتعزز الانتماء العربي، والهوية المفتقدة في سيرورة إعادة قراءة الذات لنفسها.

 

 

 

الهوامش

(1) – مباركي ،جمال التناص و جمالياته في الشعر الجزائري المعاصر ،إصدارات 

رابطة إبداع الثقافية ، ص:16

(2) – المرجع نفسه ، ص: ن.

(3) – ابن منظور لسان العرب .مج 7،دار صادر،بيروت مادة (نصص) ص97

(4) – رولان، بارت . درس السيميولوجيا،ترجمة بنعبد العالي ط 3 دار توبقال للنشر

 المغرب ص:63

(5) – محمد، مفتاح ..تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص).ط3 المركز الثقافي

العربي ، الدار البيضاء ،ص:9

(6) – داود ، أنس .في التراث العربي نقدا وإبداعا .ط1.هجر للطباعة، القاهرة .1987

  ص:107-108

(7) – اصطيف عبد النبي .الشعر العربي الحديث والتراث القرآن الكريم دراسة في

 التناص.مجلة التراث العربي الفصلية ،تصدر عن اتحاد الكتاب العرب .العدد25 -26 أكتوبر 1986 -1787 سوريا                                                                         

(8) –زكريا مفدي . اللهب المقدس .الشركة الوطنية للنشروالتوزيع .ص:273-274

(9)– سورة الزلزلة ، الآيات 1-2-3-4

(10) – بري ، حواس .شعر مفدي زكريا ،دراسة وتقويم ،ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر ،  ص:   331

(11) – زكريا مفدي .التهب المقدس . ص:30

(12) - بري ، حواس .شعر مفدي زكريا ،دراسة وتقويم، ص:315

(13) – سورة القدر الآيات 1-2-3

(14) - زكريا مفدي . اللهب المقدس. ص:271.

(15) – سورة التوبة  الآيات 34-35

(16) - مفتاح، محمد. دينامية النص تنظير وإنجاز.ط2.المركز الثقافي العربي الدار

البيضاء المغرب .1990 ص:91

(17) - زكريا مفدي . اللهب المقدس .ص:39

(18) – المصدر نفسه ، ص:43

(19) – أبي تمام ،الديوان .المجلد1 .ط5. ص:40-41

(20) - زكريا مفدي . اللهب المقدس .ص:219-222

(21) – ابن زيدون الديوان .دار الجيل ، بيروت تح حنا الفاخوري ص:386

(22) - زكريا مفدي . اللهب المقدس .ص: 21

(23)- جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب ،منشورات مؤسسة المعارف لبنان ،  ج1 ص:332

 (24) - زكريا مفدي . اللهب المقدس ، ص:20

 (25) – المصدر نفسه.ص: 54

(26) - جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، ص:11

(27) – زكريا مفدي . اللهب المقدس .ص: 130

(28) - المصدر نفسه ، ص: 330-331

(29) -  المصدر نفسه ، ص: ن

(30) – قباني نزار الأعمال الشعرية الكاملة ،بيروت لبنان .ط11. ص: 19

(31)- المصدر نفسه ، ص: 385

(32) – لؤلؤة، عبد الواحد.من قضايا الشعر العربي المعاصر التناص مع الشعر الغربي مجلة الوحدة العدد:

82-83 .1991.المملكة المغربية. ص:15

(33)- زكريا مفدي . اللهب المقدس .ص:126

(34)– فضل، صلاح .بحوث سيميولوجية في شعرية القص والقصيد .ط1. دار الفكر

 للدراسات القاهرة  1995.ص:14

(35)- - زكريا مفدي . اللهب المقدس .ص: 298

(36)المصدر نفسه، ص: 32

@pour_citer_ce_document

ليديا وعدالله, «أشكال التناص وجماليته في ديوان اللهب المقدس »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp : 165 - 178,
Date Publication Sur Papier : 2005-11-01,
Date Pulication Electronique : 2012-05-05,
mis a jour le : 14/01/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=416.