ملامح إيديولوجية ماركس ونفسانية فرويــد في تحليل واقع المجتمع العربي الراهن: دراسة في النقد الحضاري عند هشام شرابي.The features of Marx's ideology and psychological Freud in the analisis of the status of the present Arab society: A study in civilizational criticism at Hisham Sharabi
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 Vol 16- 2019

ملامح إيديولوجية ماركس ونفسانية فرويــد في تحليل واقع المجتمع العربي الراهن: دراسة في النقد الحضاري عند هشام شرابي.

The features of Marx's ideology and psychological Freud in the analisis of the status of the present Arab society: A study in civilizational criticism at Hisham Sharabi
ص ص 20-32
تاريخ الارسال: 23/09/2018 تاريخ القبول: 13/06/2019

ثابت سلطان
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تعدّ مسألة النقد الحضاري من أبرز وأهم القضايا الفكرية التي عالجها المفكر هشام شرابي طوال عقود من حياته الفكرية والأكاديمية، متناولا أساسا في هذا النوع من النقد معضلات وأسباب تخلف المجتمع العربي، منتهجا منهجا مميزا  مستعملا فيه مقولات الإيديولوجية الماركسية ومفاهيم المدرسة التحليلية لفرويد ومؤسسا على ضوء هذا مقاربة فريدة تدعى المقاربة الفرويدية / الماركسية، ومستنتجا من خلال هذا النهج أو الرؤية أن النظام الأبوي (البطركي) المتغلغل داخل منظومات المجتمع العربي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية هو المكرس لقيم التخلف والعجز فيها. ومنه فإن السبيل لتغيير هذا الواقع-حسبه -هو خلخلة وإعادة بناء هذا المفهوم.

الكلمات المفاتيح: هشام شرابي، النقد الحضاري، الإيديولوجية الماركسية، التحليل النفسي، النظام الأبوي.

La question de la critique civilisée est considérée comme l’une des questions intellectuelles les plus importantes traitées par le penseur palestinien Hicham CHARABI durant des décennies de sa vie intellectuelle et académique. Il a pris essentiellement dans ce genre de critique les contraintes et les causalités du sous-développement de la société arabe, et ce, en suivant une méthode spécifique faisant appel à des dictons idéologico-marxistes ainsi qu’aux concepts fondamentaux de l’école de la psychanalyse de Freud, en baptisant à la lumière de cela une approche unique en son genre, appelée ‘’ l’approche freudienne / marxiste’’. Il déduit à la suite de cette méthode ou vision, c’est que le « système "Patriarcal » circule à l’intérieur des systèmes arabes sur tous les plans ; social, culturel, économique et politique. Ces facteurs favorisent les principes du sous-développement et de le handicap de es peuples. A cet effet, et afin de changer cette réalité, selon le penseur en question, la voix serait donc la destruction puis la reconstruction de ce concept.

Mots clés : Hicham Charabi, Critique, Civilisation, Idéologie, Marxiste, Psychanalyse, Système patriarcal.

The issue of the civilizational criticism is one of the most visible and intellectual issues handled by the thinker “Hisham Charabi” throughout his intellectual and academic life, addressing mainly in this type of criticism dilemmas and the reasons behind the backwardness of Arab society. He adopted a special approach using the ideological Marxist quotes and the concepts of the analytical school of Freud and founding a unique approach called Freudian/Marxist approach. He concluded through this approach that the Patriarchal system embedded inside the social, cultural, economic and political systems of the Arab society is dedicated to the backwardness values. The way to change this reality, he thought, is to break up and rebuild this concept.

Keywords    Hisham Charabi, civilizational criticism, Marxist Ideology, Psycho Analysis, Patriarchal system             

Quelques mots à propos de :  ثابت سلطان

جامعة عبد الحميد مهري قسنطينة2thabet.soltane@univ-constantine2.dz

مقدمة

يعتمد "هشام شرابي" (1927-2005) في كتاباته وأفكاره، منهجا فكريا يتفاعل مع الإبداعات الفلسفية الحديثة دونما معوق أو مشكل مذهبي أو عقائدي، ومن أي جهة أتت، فهو ينتمي إلى فئة من المفكرين والمثقفين الذين رفضوا الانضواء أو التقيد بمدرسة فلسفية بعينها أو تيار فكري محدد، فاستند إلى المثالية المتعالية لـــ "نيتشه" والأفكار الصوفية في شعر "ميخائيل نعيمة(1889 -1988)"، واستند إلى الوجودية المؤمنة لــــ " مارتن هايدغر"(1976Martin Heidegger1889)و"سورين كاركيغارد"(SorenKierkegaard1855-1813), كما ارتبط فكره ونقده بالإنسان المتمرد والجدلية الاجتماعية لـــ "كارل ماركس"  Karl  Marx) 1883-1818) و"سيغموند فرويد"(Sigmund Freud1939-1856)  فامتزجت عنده مصطلحات المناهج الفلسفية المعاصرة ومقتضياتها كالنظرة المثالية المجردة للحقيقة المطلقة وما يقابلها من جهة مغايرة من نظرة تحليلية نقدية للوقائع التاريخية النسبية، من هذا المنطلق بالذات سنتتبع في هذه الدراسة كيف اتخذ "شرابي" من نفسانية "فرويد" وأيديولوجية "ماركس" منهجا في كتاباته التي امتدت لأكثر من أربعة عقود من الزمن بوجه عام ونقده الحضاري كمشروع فكري ارتبط به بوجه خاص، لما لهذا المنهج من فاعلية فكرية تقوم على خلخلة البديهيات والأسس التي ارتكز عليها الفكر العربي والفلسفة العربية على وجه التحديد في تفسير الواقع العربي، منتقلا في مرحلة أولى من ترويج واستعمال المقولات والمفاهيم الأيديولوجية الماركسية والنفسية الفرويدية ليصل في مرحلة ثانية إلى محاولة تأسيس مقاربة منهجية تمزج بين هاته المفاهيم والمقولات بصورة تعكس تحليلا جديدا للواقع العربي يتبنى رؤية نقدية اجتماعية وتحليلا نفسيا جمعيا للشخصية العربية، وهنا نتساءل عن أهم ملامح الفكر الماركسي والفرويدي في مشروع النقد الحضاري عند هشام شرابـي؟وما هي أهم المقولات والمفاهيم لهاتين المدرستين التي تبناهما ؟وكيف حاول تطبيق أهم هذه المقولات على الواقع العربي ذو الخصوصية الاجتماعية والثقافية والمتميز عن المحيط الأوربـي الغربـي المفرّخ لهاتين المدرستين؟ وأخيرا كيف أسس لمقاربة تجمع بينهما بعدّ أن هذا القول يعني الجمع بين الإيديولوجيا والتحليل النفسي وهو ما يعدّ لدى كثير من المفكرين أمرا بالغ التعقيد من الناحية الإبستمولوجية و الميثودولوجية؟ وبالتالي كيف استطاع إرساء المعالم النهائية والواضحة لنظريته في نقد النظام الأبوي أو البطركي تحت ضوء هذا التداخل في المقولات والمفاهيم والمناهج المتباينة ؟

تميز "شرابي" بمشروع فكري كان أساسا نتاج إرهاصات نكسة1967والإخفاقات العربية المتتالية بعدها وهو "النقد الحضاري"، والذي شكل رؤيته النظرية والمنهجية لدراسة المجتمع العربي، ويعدّ هذا النهج من أبرز النماذج النظرية التي برزت في الدراسات الاجتماعية العربية الحديثة في تفسير بنية المجتمع العربي وتفسير أسباب تخلفه، مع العلم أن الأمر لا يتعلق بمجرد مقاربة أكاديمية أو بحثية محايدة، بل يحمل موقفا أيديولوجيا ملتزما وصريحا، وما يميز هذا النهج هو تجاوز المقاربة الاجتماعية السائدة في الدراسات العربية المتأثرة أساسا بالأطروحة الماركسية (والتي كان شرابي من دعاتها)، بتوظيف مجموعة غنية من المفاهيم الفلسفية والنفسية (من "هيغل" و"فرويد" إلى "فوكو""دريدا" و"بارت" ...)، في دراسة المجتمع العربي بصفته مجتمعا أبويا مستحدثا ( البنية البطركية أو الأبوية)"1.

على أن المسألة أعمق وأبعد من مجرد اختيار المنهج – على أهميته وضرورته-إذ لها بعد آخر يتعلق برؤية المفكر أو الناقد

و رؤيته التي ينطلق منها في مقاربته للواقع وطبيعة الأفكار التي يؤمن بها ويدعو إلى تبنيها، فلم يعد محللا للنصوص والأفكار فحسب، بل هو صاحب موقف ورأي ورؤية ،  وباعتبار أن "شرابي" كاتب ومفكر وناقد  "فإن من حق كل كاتب ومفكر أن يثير الأسئلة الخالصة ويبدي القلق المندلع من نفسه، ثم يجتهد في الإجابة عنها بطريقته الخالصة هو أيضا، وحتى إذا تساءل ولم يجب وقلق ولم ينته إلى اطمئنان، فإن تلك المسائلات تظل في حد ذاتها أضربا من الأجوبة"2، إذن فالمفكر والناقد والفيلسوف يستشف كيانه داخل الفضاء النقدي، وتحديد الأطر العامة الخاصة لكيانه الفكري يرجع أساسا إلى طبيعة موقفه ومدى استجابة أطروحاته إلى ذلك الموقف المبني على ركائز ثابتة وواضحة، ونقصد بها وجود نظرية فكرية وفلسفية تستند إلى أسس علمية ومنهجية مرتكزة على الدلائل والبراهين والمقولات، وهذا كله لابد من توفره لكي يكون المفكر قادرا على إعطاء حكم صحيح, وما يمكن ملاحظته في هذا السياق عن "شرابي" هو انطلاقه أولا من مفاهيم ماركسية و فرويدية قبل أن يؤسس لمنهج أو مقاربة نقدية تمزج بينها.

أولا: حضور المفاهيم الإيديولوجية الماركسية ومحاولة بناء نظرية اجتماعية

بداية وفي مرحلة مبكرة  تأثر شرابي بالفيلسوف "كاركيغارد" (Soren Kierkegaard) وتحت هذا التأثير كان مركزا على أولوية التجربة الحية ورفض التجريديات الفكـرية، التي أقامها "هيغل"(George Whihelme Friedrich Higel1770-1831 ) أساسا لفلسفته، إلا أنه (شرابي) تحول عنه، وذلك "لأن كاركيغارد تناول الفرد والحياة الفردية إطارا نهائيا لتفكيره بينما عالج ماركس الفرد والوجود الفردي ضمن حياة المجتمع ككل"3، وعند قراءته لـ"ماركس" في ضوء ثورة الستينات وجده أقرب إليه من "كاركيغارد"، ومع هذا نجد أن شرابي لم يؤمن بالماركسية كعقيدة شاملة تفسر التاريخ والوجود أو على الأقل كأيديولوجية حزبية، إلا أنه بعد ذلك يؤكد على أن الماركسية عززت قراءته لـ"فرويد" ونظريته في التحليل النفسي، فقد جمع بينهما في تحليله لبنية المجتمع العربي والخطاب الأبوي المهيمن والمسيطر على خطاب المجتمع العربي، لقد اكتشف فيها أسلوبا جديدا في منهجية المعرفة، الأسلوب النقدي التحليلي .

"من المعروف أن الفكر الماركسي تبنى مذهبا فلسفيا شاملا4"،فقد صنف المحللون فلسفته؛ (ماركس) في ثلاث نظريات محوريــة، الأولى هي المادية الديالكتيكية، التي عبرت عن نظرة فلسفية شاملة عن الوجود والعالم، والثانية هي المادية التاريخية التي أرست نظرية علمية في تطور المجتمعات عبر التاريخ، فكانت نظريــة مزجت بين علم الاجتماع وفلسفة التاريخ، والثالثــة نظرية الاقتصاد السياسي، التي شيدت بشكل متكامل في مؤلف ماركس الأخير " رأس المال" وجاءت بمزيج آخر من علم السياسة والاقتصاد"5ومن هذه الشمولية التي نظمتها النظريات الثلاث، نجد أنها شكلت أصولا وأسسا في كثير من النزعات الفلسفية المعاصرة، أو أن ملامحها كانت حاضرة في مشاريع فلسفية أخرى، وعلى هذا الأساس من التقسيم نحن بصدد البحث في فلسفة شرابي التي ترسمت فيها ملامح وأصول ماركسية في الوقت نفسه. لقد انشغل الاثنان في بناء نظرية تطور المجتمع، كان التاريخ بعدّه مفهوما ماركسيا جوهريا، هو المنطلق لدى شرابي لبناء نظرية تطور المجتمع وأسسه الطبقية في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" خصوصا في بعض فصوله التي حلل فيها مظاهر هذا التخلف تحت نظرة ماركسية تتعلق بمفاهيم صراع الطبقات، والوعي النموذجي، والإقطاعية وثورات البرجوازية الصغيرة وغيرها.

     ومع هذا فما يمكن ملاحظته هو أن  الماركسية عند "شرابي" "لم تكن حصيلة الصراعات الاجتماعية الطبقية، ولا وليدة الحوار الداخلي للفكر، بل دخلت إلى الوطن العربي من الخارج، ولم تنشأ من التطور الذاتي للمجتمع العربي ومن حاجاته"6، وما يمكن القول عن تجلي فكر ماركس عند "شرابي" هو أن هذا الأخير جمع بين فرعي فكر التحول الثوري عند الماركسيين: الأيديولوجي الملتزم والنقدي الاجتماعي العام بتحليل الواقع العربي سعيا وراء أسباب تلك الإختلالات البنيوية التي يعانيها، بهدف تجاوزها من منطلق تقدمي علمي، فيرى مثلا في كتابه "المثقفون العرب والغرب" أن غالبية المثقفين العرب، سواء كانوا داخل بنية السلطة أو خارجها، مسلمين كانوا أو مسيحيين، أصبحوا بمنأى عن هموم المجتمع، وأن الذين ظلوا متمسكين بوعيهم ومبادئهم الوطنية والقومية والثورية قليلون، ولم يكن يعتقد أن "النضال الثقافي وحده يحقق التغيير المنشود، بل لابد من الانخراط في العمل السياسي الثوري المنظم، الذي هو أرقى مشاركة للمثقف في تحقيق التغيير"7 ولهذا نجده في مرحلة مهمة في حياته شخصية فاعلة داخل "الحزب القومي السوري" الذي أسسه أنطوان سعادة،  والواقع أن الماركسية في الأساس منهج علمي لدراسة وتحليل الظروف الموضوعية الملموسة لمجتمع محدد في لحظة معينة من تاريخه، وبالتالي فإن نجاح ما يقدم من حلول يتوقف نهاية الأمر على قضيتين: الأولى مدى سيطرة الفكر المناضل على المنهج الماركسي، والثانية هي الجلية في فكر "شرابي" وهي حجم معرفته الواقعة بأمور المجتمع الذي يناضل بين صفوف أبنائه، وهو يقوم بنقد تجربته الشخصية، داخل أو خارج الوطن، التي "تميزت بالسرعة في محاولة اكتشاف الحلول شأنه شأن غيره من المثقفين والأكاديميين العرب، دون إدراك كامل لكل حقائق وتعــقيدات المجتمعات العربية التي تعاملنا معها "8.

والواقع أن ماركسية "هشام شرابي" لم تحد قدرته على التمسك بمنهج نقدي مستقل في تحليله لقضايا التنمية السياسية والعلاقات الاجتماعية، وهو على غرار كثير من المفكرين العرب المحسوبين على التيار الماركسي قدم مقاربات مهمة في تحليل للبنى الاجتماعية العصبوية والأهلية، "وهي مقاربات كانت تحاول دوما أن تكشف عن هذه البنى الاجتماعية وصراعها بعدّها جزءا أو عاملا من عوامل الصراع الطائفي، بل هي تصل في أقصى حدودها إلى التماهي بين الصراع الطبقي والصراع الطائفي أو الصراع القبلي، وتتميز هذه التحليلات بتعدد زوايا النظر إلى بعض المسائل، انطلاقا من الصراع الاجتماعي وطبيعة القوى الطبقية والسياسية المسيطرة"9 كما يسميها شرابي، ومن خلال بعض رموزه ومصطلحاته الفكرية يميل إلى المزاوجة بين الماركسية وأفكار أخرى، ومنها أفكار "فرويد"و"دوركايم"(1917-1858Emile Durkheim)".

فـــيتضح  تحول "شرابي" الفلسفي إلى المنهج الماركسي من خلال ما يورده هو بنفسه بتغيير منهجيته العلمية أثناء دراسته للماجستير في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تحول أو انتقل من النظرة المثالية المجردة للحقيقة المطلقة (ميخائيل نعيمة وكاركيغارد) إلى النظرية التحليلية النقدية للوقائع التاريخية النسبية المرتبطة في الوقت نفسه بحقبة انتمائه السياسي القومي الاجتماعي واعتقاده في حقيقة الأمة، مما يحيلنا لنؤكد على اللحظة الثانية أو الجوهرية في مسار فكر شرابي وهي "لحظة الفكر القومي الاجتماعي" الذي شغل تفكيره منذ لحظة الانتقال من بيروت إلى شيكاغو، "وهو ليس انتقالا مكانيا فقط، بل انتقال فكري فلسفي من الفردية إلى الاجتماعية"10، هذا الفكر القومي الاجتماعي في نظره بما هو مذهب نهضة وثورة  "هو مذهب فلسفي من حيث هو فلسفة اجتماعية تتناول قضايا المجتمع والفرد في المجتمع، القضايا التي بدورها تعتبر من قضايا الفلسفة أعمقها وأبعدها أثرا "11.

لذا فهو يؤكد في العديد من كتاباته أن فلسفة الحركة القومية الاجتماعية هي فلسفة نهضة، هذه النهضة هي في جوهرها تحمل قيما حياتية تستمد من روح الأمة، وبالتالي فإن النظرة القومية الاجتماعية تحمل روحا نهضوية بالأساس حسبه، ومن هذا المنطلق نفهم كيف أن شرابي من خلال هذه الفكرة "أصبح أكثر واقعية، وبدأ بالتخلي عن الأفكار الصوفية التي أصبح يعتريها من قبيل أحلام المراهقة"12، ومن هذه الأفكار المرتبطة بهذه النقطة أن الفلسفة الحق عنده هي التي تتبلور في الوجود، وترفض الالتجاء إلى التجرد العقلي، وأن الحياة هي مسرح الفلسفة، والفلسفة هدفها الحياة والحياة والفلسفة يلتقيان في كيان يشكل وجود إنساني واعي"13

إن التحليل الماركسي يسعى دائما إلى التحرر من تسلسل وسطحيات الواقع التاريخي الفعلي، واضعا عنايته بالعلاقات الأصلية السائدة بين الإنسان والطبيعة من جهة والسياقات الاجتماعية العامة التي تكتنف هذا الواقع الفعلي للتاريخ من جهة أخرى، وبهذا النحو تمكن "ماركس"  من الإمساك بمسيرة  التاريخ الحقيقية، عن طريق إعادة إنتاج الواقع المادي المجزأ على شكل أفكار عامة، بهذا المستوى من التاريخ المعاد إنتاجه في الفكر الذي يتوسط موقعه ما بين الواقع والفكر، تكون النظرية ممكنة وتستمد أصالتها من الواقع والفكر معا، وهو هذا المستوى من التاريخ الذي يبحث عنه "شرابي" أيضا ليشيد نظريته في تطور الأنظمة الأبوية المسيطرة على المستوى السياسي والتاريخي، -لا على المستوى النفسي الذي سوف نتطرق إليه لاحقا- فإذا أراد شرابي أن يعدّ تاريخ النظام الأبوي هو الحكم الوحيد الذي من خلاله نستطيع أن ننشأ صورة جديدة تفصح عن مسيرة المجتمع العربي وتطوره، فهو لا يشير إلى ذلك التاريخ التراكمي المتداول في المراجع الأكاديمية التعليمية، الذي هو عبارة عن سرد لأحداث فردية عبر تسلسلها الزمني والتي لا تجدي نفعا في بناء فهم صحيح لتطور مفهوم النظام الأبوي وصراع الطبقات ونتاجها داخل كيانات المجتمع العربي. أي إن "شرابي" يفعل كما فعل ماركس قبله، يضفي طابعا تجريديا للتاريخ التراكمي الفعلي لتاريخ مفهوم النظام الأبوي بعد أن يعيد إنشائه داخل الفكر الاجتماعي والنفسي، واضعا هذه النظرية في سياقها العام النفسي والاجتماعي والسياسي وكافة العوامل والمؤثرات الحضارية الأخرى المرافقة لأحداث تاريخ المجتمعات العربية الفعلية والتي حدثت ضمن قطاع تاريخي محدد، ثم يعيد إنتاجها ثانية على شكل طرح جديد بمستوى آخر من الرقي النظري، تستطيع هذه النظرية أن تتلمس فيه المادة الخصبة لإتمام غايتها وهي تغيير هذا النظام من أساساته تدريجيا.

نلحظ من خلال إعادة قراءة فكر "شرابي" و"ماركس"، أن منهجهما في البحث واحد ومتشابه للوصول إلى نظرية، ولا يشبه المنهج العلمي الاستقرائي التقليدي، الذي ينطلق من جمع المعطيات والشواهد والملاحظات بصورة موضوعية ومحايدة، ومن ثم تبويبها وتصنيفها وجدولتها للوصول إلى تعميم استقرائي على شكل نظرية أو قانون، فالمعطيات والشواهد المتمثلة بالوقائع التاريخية الفعلية في منهج "ماركس" و"شرابي" هي ليست وقائع جامدة ومرتبة في تسلسلها الزمني، بل هي وقائع تخضع للتعديل والتصويب الكمي والكيفي وتبث فيها الحياة من جديد بعد وصفها في سياقها المادي والاجتماعي وإضفاء كل الملامح الإنسانية عليها عندئذ تكون جاهزة لاستخراج النظرية منها.

على أن "هشام شرابي":"يعترف أنه وجد صعوبة كبيرة في تطبيق الماركسية على واقع المجتمع العربي، ويرجع هذه الصعوبة إلى أوربية فكر ماركس، فالماركسية في نظره تركز على بنى النظام الرأسمالي"14كما نشأت في القرن التاسع عشر في أوربا، وهي بنى لا نظير لها في مجتمعنا العربي الذي ما زال يعيش في مرحلة ما قبل الرأسمالية15،ومما لاشك فيه أن معظم الأفكار والدراسات في الفكر العربي ومند بوادر عصر النهضة إلى حد الآن متورطة ومصبوغة بالصراعات والإيديولوجيات السياسية إلى الحد الذي ترسم في مخيلة الدارسين لهذا الفكر عموما أنه متورط في الصراعات السياسية لدرجة يغدو فيها وكأنه نتيجة من نتائج الصراع السياسي, وتتحول السياسة والاعتبارات الأخلاقية إلى أطر منتجة لفكر كثيرا ما يتميز بالهامشية والانفصال عن الواقع, ومن هذه الزاوية نلاحظ بأن النقد الذي مارسه "شرابي" مؤسس إلى درجة واضحة داخل سياق سياسي يساري ماركسي, وأيضا دخول الماركسية إلى الحقل الفكري والسياسي العربي بالأصل كان دخولا ارتبط بما يعرف ب"النظرية الجاهزة سواء من حيث إشكالاتها ومنهجها ومفاهيمها ,فكان بدلا أن تبرز هذه الماركسية كنظرية نقدية تعلم السؤال الفعلي وتساعد على صوغ أو صياغة أشكال حياتية تغاير المكرر وتتخطى ما يحول دون الإبداع ,سقط الماركسيون ومنهم "شرابي" في نزعة الاجترار وتحول نقده – ضمن هذه المنظومة – إلى جمود اختلطت فيه المعرفة بالسياسة وهيمنت الأيديولوجية على الأفكار.

ثانيا: مقولات التحليل النفسي في قراءة الشخصية العربية الكلية

من خلال الاطلاع على فكر "شرابي" نلاحظ بأن الحضور الفرويدي لا ينفصل عن الحضور الماركسي، لأنه يصعب أبستمولوجيا فصل الفرويدية عن الماركسية، ونلحظ هذا في قوله: "تعزز ارتباطي بالأسلوب النقدي الماركسي لدى قراءتي الجديدة لفرويد في الوقت الذي أعدت قراءة ماركس، ووجدتني منذ ذلك الحين، أجمع الاتجاهين الماركسي والفرويدي في تحليلي للمجتمع العربي وللخطاب الأبوي المهيمن"16، ويحدد توجه شرابي بعد ثورة الطلاب عام 1968 نحو الماركسية الجديدة النقدية، فما تجدر الإشارة إليه أنه"لم يعتنق الماركسية كعقيدة شاملة تفسر التاريخ والوجود أو كإيديولوجية حزبية على صعيد عالمي، بل أسلوب جديد في منهجية المعرفة"17، وأضاف إليها منهج فرويد في التحليل النفسي من خلال تحليله للمجتمعات الأبوية السابقة على الحداثة وسبل الوصول إلى زمن الحداثة العربية , فالتحليل النفسي زاوية يمكن من خلالها قراءة كل أطياف الواقع وأطرافه، ومن خلال هذا التوجه الواقعي لــــ "شرابي" نلحظ جانبا من الواقع الذي يأبى الهروب منه وأصر على مواجهته ولهذا يقول:"إن الهروب من الواقع والراجع نحو طفولة مستحيلة ضرب من ضروب الخلل النفسي في الأفراد، أما في الجماعات فهو ظاهرة فوضى فكرية اجتماعية تهدد المجتمع بأسره"18.

لم يكن شرابي يهدف من دراساته وتحليلاته النفسية إلى علاج نفسي كما هو حال التحليل النفسي الكلاسيكي، بوصفها محاولات لإزالة الأمراض بل يؤمن بالتغيير الجذري في الشخصية الكلية، شخصية الفرد والمجتمع مستخدما مقولات فرويدية وترسانة من المفاهيم النقدية في ربطه للسيطرة والتسلط في مجتمع ذو نزعة أبوية.

وعودة للخلف نجد أنّ ظهور التحليل النفسي أساسا متاخم لأزمة العصر الحضاري المادي للمجتمع الغربي الذي أصبح مجتمعا عقلانيا، ضيّق الخناق على مفهوم الإنسان، المتميز برغبته وبعلاقاته الإنسانية، هذا المجتمع الحضاري عالج مشكلة الإنسان من الناحية الحاجياتية وبقيت أشياء لم ينتبه لها "ومن هنا نجد أن الأرضية التي ولد عليها التحليل النفسي ليست هي الموجودة في العالم العربي، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنّ المجتمع العربي غير مهيّأ لتقبّل فكر "عربي" لم ينبع أو لم يكن وليده"19، ففي الفكر العربي نجد أن عالم الخيال يطغى على عالم الواقع العقلاني، بمعنى آخر أن اللاعقلاني في الفكر العربي يتعايش مع الواقع العقلاني، وبالتالي فهذا في حد ذاته يعدّ حاجزا نفسيا في وجه منهج التحليل العقلاني "وهذا بالإضافة إلى وجود علاجات نفسية تقليدية لا تزال تمارس في الأوساط الشعبية، وتحافظ على منهجيتها منذ قرون، وأذكر بأن الذين كانوا يستشيرون الشيخ أكثر بكثير من الذين كانوا يستشيرون الطبيب النفسي"20.

فهنا تتعارض "النظرية النفسية العربية" مع نظيرتها الغربية، من حيث إنّ الأولى ترتكز على نقلة نوعية من الداخل إلى الخارج، فكل ما يمس الذات من أذى ناجم عن أرواح شريرة موجودة في الخارج، ويعمل "الشيخ" على حماية مريضه، يبعد أذاها عنه ببعض الطقوس المعروفة، على عكس النظرية الغربية التي تكون في محتواها الفكرة بسيطة من حيث إنها ترتكز على الذّات ومن هنا يكون التشخيص والعلاج ذاتيا، والواقع أنه كان ظهور التحليل النفسي بصفة عامة داخل سياقات الفكر العربي بعد إجهاض مفهوم القومية العربية وفشل أهدافها، لأن مفهوم القومية وُجد في الأساس بعد انحسار وجود الدولة العثمانية والاحتلال الإنجليزي والفرنسي للأقطار العربية، وهذا ما نجده مقابلا أو موازيا ومماثلا للحضور الفرو يدي ومدرسته التحليلية في فكر "شرابي"، فخروج "شرابي" وانسحابه عن "الحزب القومي السوري" بعد إعدام زعيمه "أنطوان سعادة" عام1949، وبالتالي فشل الحزب في هدفه القومي، وعجزه عن تحرير الهلال الخصيب جعل "شرابي" يلجأ ويسند ظهره "فكريّا" على ما أقرّته الفرويدية في تحليل بنى الأفراد والمجتمعات العربية ومعالجة "الأمراض الجمعية"، مستعملا جملة من المقولات والمفاهيم النقدية الفرويدية أثناء تفسيره لمظاهر السيطرة والتسلط في هذه المجتمعات ذات النزعة الأبوية، متسائلا أساسا عن مصدر هذه السلطة الأبوية التي تعبر عن بنية قمعية داخل الأطر الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، وكذلك يستعين بالفرويدية خلال تفسيره للسلطة التي حسبه النتيجة البديهية للعلاقة الأسرية وامتداداتها، مقتربا من فهم البنى الاجتماعية الداخلية للأبوية في المجتمع العربي، هذا الاتجاه يبدو جليا في قوله: "نستطيع أن نستشف كيف أن عملية التنشئة الاجتماعية لا تؤثر فقط في تربية الفرد، بل كيف تشترط مقدرته الداخلية على الوعي وتصوغ فهمه لنفسه وللآخرين"21، وليصل إلى تفسير التبعية والاستقلال الذاتي داخل البنى العميقة للأفراد والتي في رأيه تشتغل بشكل مستقل عن وعي هؤلاء الأفراد والجماعات. وهنا يمكن القول بأن "شرابي" حاول من خلال هذا تحويل علم النفس الفردي إلى مجال أوسع وهو علم النفس الجماعي، فعقدة النقص الفردية مثلا أراد مماثلتها إلى عقدة نفس جماعية لدى المجتمع العربي، بمعنى أن عقدة النقص الفردية تنتج عقدة نقص جماعية تحت تأثير جملة من العوامل الاجتماعية، والثقافية،و حتى السياسية، وباعتبار هذا فإن التحليل النفسي يستطيع في الوقت نفسه أن يعلمنا عن الطريقة التي تؤثر بها الأيديولوجيات والأفكار على المجتمع ،ويستطيع البرهنة على تأثير فكرة ما على المجتمع انطلاقا من فهم مضمونها اللاواعي، وهي عند شرابي نمط و"قوة ليبيدية" (libidinales) للمجتمع أو الطبقة البرجوازية الصغيرة والتي تحدد تأثير أيديولوجياتها في المجتمع"22،إلا أن ما يمكن قوله هنا: إن ملاحظات "شرابي " ودراساته  للمجتمع العربي والشخصية العربية قدمت جزءا من الحقيقة وليس الحقيقة كلها ,وسلطت الضوء على جزء من الأسباب وليس كلها,كما أنّه خرج بنتائج لحصر الظواهر المرضية والمشكلات السلوكية استنتاجا من أسباب افترضها ,أسباب وعوامل لاحظها "بعيون غربية" –إن دقّ  التعبير-بمعنى أن دراسته لعناصر التفاعل للواقع العربي كان تحت تأثير المقارنة مع مجتمع ليبرالي أمريكي بالدرجة الأولى(بحكم عيشه ودراسته وعمله معظم حياته في الولايات المتحدة ).

ثالثا: المقاربة الفرويدية– الماركسية كمنهجية متفردة في نقده الحضاري

كان ثمّـة منظّرون حاولوا إعادة تفسير وتطوير قراءة المذهب الفرويدي والاتجاهات الثورية الكامنة فيه، فقد أراد هؤلاء المفكرون ترويج الماركسية بالتحليل النفسي، وقد نجحوا إلى حد بعيد في تقريب وجهات النظر، بل وفي صوغ المدرسة الفرويدية الماركسية التي أثرت على شريحة كبيرة من المحللين النفسانيين والفلاسفة، بل وعلى تفكير الرأي العام المثقف في أوربا  في النصف الثاني من عقد الستينات عندما تبنت حركة التمرد الطلابية بعض أفكار هذه المدرسة وأدمجتها في أيديولوجيتها اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال التسلط، وسرعان ما وصل هذا التأثير نحو الوطن العربي وتلقفه بعض مفكريه كـــ "حسين مروة"(1987-1910)" و"مهدي عامل (1987-1936)"" وغيرهم، وبطبيعة الحال "هشام شرابي".

لقد بدا لـــ "شرابي" أنه من الضروري أن يجمع ويحقق الانسجام بين أفكار "فرويد" التحليلية النفسية، وبين نظرية "ماركس" الاجتماعية، فقد رأى "شرابي" أنه ما أن يتحول التحليل النفسي إلى مذهب عقائدي-يدعي تفسير مختلف مسائل المجتمع– حتى يكشف على طوبا ويته المرتبطة بالتصور الفردي للظواهر الاجتماعية، والثقة بإمكان التنظيم العقلي للعلاقات البشرية في المجتمع عن طريق تحكم الفرد لرغباته اللاواعية والقصد هنا مظاهر البنى الأبوية على مستوى الوعي الفردي أو الوعي الجمعي لدى الأفراد والمجتمعات العربية، أما حقيقة أن التحليل النفسي يقوض الأسس والمعايير الأخلاقية للمجتمع الرأسمالي، ويدعو إلى تحرير الإنسان من سلطة القوى اللاعقلانية، فينظر إليها "شرابي"-من خلال محاولته إقامة نظريته حول تخلف المجتمع العربي ومظاهر العجز والتقهقر داخل الأنظمة الاقتصادية والثقافية – ينظر إليها من ناحية التشابه مع الماركسية، فهو يجد في نظرية ماركس الاقتصادية، وفي التحليل النفسي الفرويدي مواضيع مشتركة، مرتبطة بالكشف عن العلاقات بين الوجود الاجتماعي والوعي ،وبالكشف عن الصراعات الداخلية (صراع الطبقات البرجوازية والمثقفين) القائمة بين الجوانب المختلفة من الحياة الاجتماعية أو قوى النفس الداخلية (الاتكالية، التهرب، العجز، وحب المظاهر)، وبهذا يكون "شرابي" قد جسّد فكرة "رايخ(Wilhelm Reich1897-1957) في أنه "إذا كانت الماركسية هي علم اجتماع الصراع، فإن الفرويدية هي علم نفس الصراع"23، ولما كانت الماركسية سوسيولوجيّا هي التعبير عن وعي قوانين الاقتصاد، قوانين استغلال الأكثرية من الأقلية، كذلك التحليل النفسي هو التعبير عن وعي القمع الاجتماعي للجنس، وبين هذا وذاك فإن الكبت الجنسي ظاهرة تشمل كل أطياف المجتمعات العربية حسب "شرابي" ،فالكبت الجنسي حسبه يؤدي إلى شلل نفسي يقتل القدرة على التمرد والثورة.

وعلى الرغم من اقتناعه بأن سيغموند فرويد مؤسس علم قائم في الحقيقة على العلم، إلا أنه اتخذ موقفا سلبيا نوعا ما من فلسفته الاجتماعية، فاختزال الحياة الاجتماعية بكاملها في مواقف بيولوجية غريزية متصارعة داخل النفس كان في رأي "شرابي" شيء لا يمكن التسليم به- على الأقل في المرحلة الأولى من تعمقه في فكر فرويد "وكانت ثقافتي المثالية تعجز عن هضم منطق فرويد الأساسي وهو أن "العقل الواعي" (reason) ليس إلا جزءا طفيفا من "العقل اللاواعي" (unconscious) الذي تنطلق منه القوى والدوافع المستمرة التي تسير الفرد في كافة نشاطاته العقلية والعملية"24.

يأتي "شرابي" ويضع يده على المواضيع التي تؤكد على أهمية "ماركس" و"فرويد" وتتلاقى عندها نظرياتهما، "فكلاهما (ماركس وفرويد) أرادا أن يعمما فهم القوانين التي تتحكم بحياة الفرد والمجتمع، وهذا يعني الإنسان في وجوده الاجتماعي (الإنسان العربي خصوصا عند شرابي) وكلاهما أراد أن يحرر البشر من قيود التبعية ومن قوى مجهولة تتحكم في حياتهم، وهذا ما يطلق عليه "هشام شرابي" "قوى الأنظمة الأبوية"،"وبما أن مبدأ الواقع الفرويدي يتأصل في نفس الإنسان ويفسر بعدّه معطى بصورة مطلقة"25، فإن "شرابي" يعدّ أن التكيف مع هذا المبدأ- وهو في حالته الراهنة مبدأ للمجتمع الرأسمالي -هو تكيّف مع المجتمع، أي تكيّف الإنسان مع المؤسسات الاجتماعية البرجوازية، وهذا كما هو مطبق في التربية والعلاج النفسي هو "صياغة محافظة" و"يقف لذلك على طرف نقيض من الطابع الثوري موضوعا للتحليل النفسي، "غير أنه يمكن أن يشكل علما مساعدا لعلم الاجتماع في صيغة علم النفس الاجتماعي، وذلك لأنه قادر على الكشف عن تأثير الظروف الاجتماعية، والبنى الاقتصادية والأيديولوجية، على التطور النفسي الداخلي للإنسان"26.

وعلى هذا النحو فإن "شرابي" سعى إلى أن يقيم من الفرويدية أو الماركسية، متابعا من خلال مجهوداته لتطبيق بعض أفكار التحليل النفسي عند إيضاحه للعمليات والظواهر الاجتماعية، ودمجها بالماركسية بإعطاء علم النفس الفرويدي مضمونا اجتماعيا وعلم الاجتماع الماركسي مضمونا نفسيا، وبالتالي يرى على غرار باقي المحللين النفسانيين-"أن النظرية الفرويدية هي التي تضع النظام الاجتماعي موضع تساؤل وتبين كيف كلل القمع ذو المنشأ الخارجي للفرد"27.

أما مبرر الربط بين علم الاجتماع عند "ماركس" والنظرية النفسية عند "فرويد" لدى "شرابي" فيمكن اكتشافه في رؤية "شرابي" في أن قضية الإنسان كانت مركزية في كلا المذهبين، وهذا الاتجاه نجده واضحا في تركيزه على قضايا "الإنسان العربي"، على الرغم من أن الاختلاف بينهما (ماركس وفرويد) يكمن-في رأيه- في القوى المحركة الكامنة وراء سلوك الفرد كما طرحها كل منهما،  فقد كانت هذه القوى ذات طبيعة اجتماعية تاريخية في مذهب "ماركس"، وكانت نظاما بيولوجيّا في نظرية "فرويد"، فقد أراد "ماركس" تحرير البشر من قيود التبعية والاستعباد عن طريق الاقتصاد في حين أراد "فرويد" أن يحرر الإنسان من قيود أوهامه وعلى هذا النحو يمكن أن يحدث التغير الاجتماعي بالنسبة لماركس والتغير الفردي بالنسبة لـــ "فرويد"، وهذا ما جعل شرابي يصل إلى قناعة مفادها أن النظريات التي صاغها "ماركس" و"فرويد" يمكن أن تكمل كل منها الأخرى.

لقد دفعت الحاجة إلى حل قضية التفاعل النفسي والاجتماعي بين الفرد والمجتمع بـــ "شرابي" إلى اللجوء إلى بعض النظريات النفسية والفلسفية الاجتماعية الأخرى، فعند هذه اللحظة التفت إلى فرويد وماركس، فقد سعى من خلال ارتكازه على فلسفة ماركس ونظرية فرويد النفسية إلى الوصول إلى رؤية تنبع من فهم ونقد كلا المفكرين.

      ولعل اكتشاف "ماركس" في عمق التحليل النفسي عند "شرابي" يعود لتأثره بالمدارس الاجتماعية المعاصرة وخاصة منها "النظرية النقدية" أو ما يعرف "بمدرسة فرانكفورت" مع "فلهلم رايخ(Wilhelm.Reich) و"إيريك فروم"(Erich Seligmann Fromm1900-1980)، الذي حاول تطوير الفرويدية من خلال نظرية المعرفة الماركسية والذي رأى "أن الماركسية تحتاج إلى مرجعية سيكولوجية أوسع وإلى حلقة الوصل الضائعة، وتطوير علم النفس اجتماعي تحليلي، يقوم على دراسة أو فهم السلوك المدفوع بباعث غير واع، عن طريق تأثير الأساس المادي في الحاجات البشرية الأساسية"128 وحين كان "شرابي" منشغلا بإيجاد نظرية اجتماعية ومنهج لفهم وتفسير هذا الواقع الاجتماعي باعتبار أنه لا يمكننا بأي حال من الأحوال فهم معنى الأحداث والعلاقات الاجتماعية دون نظرية علمية متماسكة، فكانت هذه المقاربة الفرويدية الماركسية التي كانت ضمن منهاج "شرابي" نتاجا لهذا، فوجد ما يبحث عنه لدى "ماركس"و"فرويد"، "فكان سؤاله كيف يمكن لمجتمع تقليدي سابق للنظام الرأسمالي أن ينتقل من حالة الأبوية إلى حالة الحداثة، وأن يقيم نظاما عقلانيا، ويحقق العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحرية وحقوق الإنسان في المجتمع المدني، وما هي العلاقة في المجتمع الأبوي والأبوي المستحدث بين القاعدة الاجتماعية الاقتصادية والنظام السياسي الأيديولوجي الممثل بالقيم والعلاقات الأبوية المستحدثة في مختلف الأنظمة العربية وكيف نفسر تغيرهما"229، هذه التساؤلات وأخرى لم يجد "شرابي" بد من الإجابة عنها إلا عن طريق هذه المقاربة الفكرية التي مزج فيها بين نظريات التحليل النفسي ونظريات الجدل الماركسي، ومن هنا وصل إلى نتيجة اكتشاف مقدرة الثقافة المسيطرة في إخضاع عقلية الفرد لقيمها وتضليله على أعمق المستويات، ويمكن القول بأن هذا الطرح يمكن أن نلاحظه في تشخيص"هشام شرابي" في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" معوّقات تقدم المجتمع العربي، متتبعاً تربية الإنسان العربي منذ الطفولة، ومسائلاً النظام التربوي والاجتماعي الذي ُينتج أفراداً يعانون من العجز الاتكالية والإذعان للسلطة، سواء تمثلت في الأب أو المعلم أو الحاكم، أو ارتبط هذا الإنسان بالولاء للعائلة والعشيرة والطائفة.

رابعا: من التحليل السيكولوجي إلى النقد السوسيولوجي : معالم تكوّن نظرية نقد النظام الأبوي

يتمثل هذا النوع من المناهج النقدية عند "شرابي" في المزاوجة بين حقلي علم الاجتماع النفسي (السيكولوجي) وعلم الاجتماع(السوسيولوجي) انطلاقا من آراء ومفاهيم "المدرسة الماركسية والفرويدية"، ففي المرحلة السابقة تطرقنا إلى نوع المنهج الذي مارسه شرابي والذي اقتصر على مقاربة  أو تحليل نفسي فرويدي موجه نحو بناء نظرية تحليلية تقودنا لتفسير وتبرير أشكال الديالكتيك الماركسي؛ أي مقاربة ذات ثنائية ماركسية/ فرويدية، تماما مثل النموذج الذي حاول إرساءه قبله" رايخ"(Wilhlem Reich)"، والتي من خلالها أراد إعادة تفسير وتطوير المذهب الفرويدي والاتجاهات الثورية الكامنة فيه، متأثرا بآراء وأفكار "المدرسة الفرويدية الماركسية" التي راجت لدى بعض المحللين النفسانيين، والفلاسفة، والمثقفين في أوربا الغربية إبان الستينات من القرن الماضي، عندما تبنت "حركة التمرد الطلابية" بعض أفكار هذه المدرسة وأدمجتها في أيديولوجيتها اليسارية الجديدة المناهضة والرافضة لكل أشكال التسلط والاستبداد، هذه الحركة الطلابية بالذات امتدت لتصل إلى محيط بعض الجامعات في المشرق العربي، ومنها "الجامعة الأمريكية ببيروت" والتي كان "شرابي" طالبا فيها، ما أدى إلى ركوبه موجة هذه الحركة الطلابية آنذاك ميدانيا في شوارع "بيروت" الرئيسية، لتؤثر عليه لاحقا فكريا، وهذا النهج أراد "شرابي" أن يجيب من خلاله عن سؤال طرح كثيرا داخل أطر الفكر العربي عموما على غرار الفكر الغربي المؤثر عليه وهو "إمكانية وجود أي مكون نفسي ينسجم مع المادية التاريخية الماركسية" (النظام البطركي أو الأبوي) ، ليصل في مرحلة ثانية (والتي سنحاول الإلمام بها في هذا العنصر) إلى محاولة التأسيس لنظرية نقدية اجتماعية تغذت وتشبعت بآراء المنهج الماركسي في شقها المتعلق السوسيولوجيا وهي ما تعرف بنظرية "نقد النظام الأبوي"، نظرية نقدية أراد من خلالها "شرابي" تحليل واقع المجتمع العربي وفق خصوصياته، بعدّ "أن النظرية النقدية اليوم لم تعد مدينة لعلوم الأدب وعلوم اللغة والفلسفة فحسب، بل هي مدينة لنظرية المعرفة (Epistémologie)، ومن هنا نقول إنّها عالمية لا تنتمي إلى وطن بعينه، بل هي تنتمي إلى الحضارة الكونية، بينما نقد كل أمة أو بلد ناطق بلغة ما ينتمي إلى ثقافته"30، وبالتالي يمكن القول بأنه ثمة نقد عربي يتمثل فيما كتبه نقادنا المعاصرون من دراسات تنظيرية منفتحين على الآخر، ودراسات نقدية تطبيقية درسوا فيها خصوصيات السيكولوجيا الخاصة بالفرد العربي والسوسيولوجيا الخاصة بالمجتمع العربي كشرابي، مجسدا بذلك خصوصية هذه العوامل من بناء الأشكال القومية والحضارية والهوياتية العربية.

ففكرة النقد الاجتماعي أو المنهج الاجتماعي في النقد (La sociocritique) كما يحلو "لبيير باربيريس"P.Barbéris)  (2014-1926أن يسميه، تنطق من الرؤية التي ترى أنّ المظاهر الحضارية السلبية منها والإيجابية ظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى مبنية على أفكار الفلسفة المادية الماركسية أي أن لكل مجتمع لبنتان: دنيا وتمثلها النظم الثقافية والفكرية والسياسية المتولدة عن البنية الأساسية الأولى، وأن أي تغيير في قوى الإنتاج المادية وعلاقاته لابد أن يحدث تغيرا في العلاقات الاجتماعية والنظم الفكرية، وبالتالي فإن المظاهر المتحكمة في المجتمع العربي- السياسية منها والفكرية- عند شرابي وفق هذه النظرية تنتمي إلى البنية العليا للمجتمع، وهو منعكس عن البنية الدنيا ومتأثر بها، فمهمة الناقد-حسبه- لا تقف عنده حد تصوير الواقع مجردا أو تسجيله،"وإنما تتعدى التصوير إلى الاختراق والنفاذ لبنيته التحتية، وكشف ما يكتنف نسيجه من صراعات وتقديم صياغة نوعية لقوانين حركة المجتمع وصراعه عبر رؤية تقرأ الواقع لتستشف منه المستقبل"31.

بني "شرابي" في دراسته لبنية المجتمع العربي وديناميكيته الاجتماعية والسياسية موقفا نقديا، يعالج فيه قضايا ليست من زاوية أن المجتمع العربي متخلف فحسب، بل من حيث إنّه مجتمع مغترب عن ذاته ويسعى جاهدا ليتجاوز اغترابه، "فيصوب من خلال اللغة والمفاهيم التي استعملها في تحليله، ضوء قويا على العديد من الإشكاليات التي يجابهها النقد فيصفها ضمن أفقي التحليلي ونقد المركز"32.

والواقع أنه لفهم منهج "شرابي" في النقد الاجتماعي لابد من الإلمام بمنطلقات وأشكال هذا النوع من النقد من ناحية مؤسّسيه وأفكاره وتفرعاته الابستيمية وحتى الإيديولوجية، فقد ترتّب عن تمثّل كارل ماركس لفلسفة عصر التنوير وعلى الأخص فلسفة "هيغل" أن أكسب ماركس مفهوم النقد بمعنى النشاط المتميز للعقل طابعا جديدا وحوله إلى نقد اجتماعي، وذلك عندما أعار جل اهتمامه لعملية التحليل النقدي للرأسمالية، وانطلق في هذا التحليل من نظرية نقدية تمثلت في قضايا المادية التاريخية وكان نتيجة لذلك أن تحول علم الاجتماع  ليكون علما رافضا لكل ما هو مغاير لوضعية الإنسان السوي وهو ما يعرف بالنقد السوسيولوجي.

      ولقد جاءت جهود"رايت ميلز" Mills)  (1962-1916Charles Wrightبعد "كارل ماركس" لتسهم في حركة النقد الاجتماعي وتبعه في ذلك "ناثان بيرنبولم (1882-1937Nathan Pirnbaum) في أمريكا و"ألان تورين"(Alain Taurin) في فرنسا وأعضاء "مدرسة فرانكفورت" في ألمانيا، و"بومور" (Bemoor) " و"جون ركس)(1917-1819John Rex" في انجلترا، وكان هذا النقد الاجتماعي لـ "شرابي" ما يمثله التحليل النقدي للمنجزات بالنسبة لكل عالم حقيقي، هدفه هو أن يفتح آفاقا جديدة للبحث والتطبيق العملي للعمل، ولا شك من أنه قد انطلق في منهجه هذا في التحليل والنقد السوسيولوجي إلى مقاربة الواقع العربي اجتماعيا وسياسيا وفكريا بعد أن تولدت لديه قناعة راسخة بأن فساد هذا الواقع من الداخل هو الذي يطيل عمر التخلف"33وبالتالي فهناك حاجة إلى تحليل عميق يتجاوز وصف الظاهرة السياسية / الاجتماعية ليقف على مسببات وجذور العجز والتخلف، "وقصور الأداء السياسي، والاقتصادي، في صميم النظام الاجتماعي، والبنية الثقافية، والمفكرين العرب بشكل عام بعد نكسة حزيران 1967 المريرة، لأن الهزيمة طرحت أسئلتها الصعبة على الجميع فانطلق كل منهم يجيب عليها بتصورات ورؤى تتبع الانتماء الإيديولوجي والوجهة المنهجية لهذا المثقف أو ذاك"34، فاتبع "شرابي" هذا النوع من التحليل والنقد الاجتماعي معالجا مشكلات تربوية وثقافية واجتماعية، و"لهذا اعتبرت مساهمات شرابي النقدية ومنهجه التحليلي السوسيولوجي من الأعمال الفكرية البارزة في فضاء الثقافة العربية المعاصرة"35، فاللجوء إلى هذا النوع من التحليلات الاجتماعية والنفسية يعمق الفهم أكثر من إتباع الأسلوب الوصفي كما يقول هو بنفسه في كتابه "المثقفون العرب والغرب"35.

       وكمحصلة لتطبيق "شرابي" هذا النوع المزاوج بين التحليل النفساني والاجتماعي، جاءت بعض كتاباته ومنها ما تناوله في كتاب "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" وكتاب "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" والتي وضح من خلالهما هموم المواطنين النفسية والاجتماعية وإرجاعها إلى بعض المشكلات العامة التي تضرب بجذورها في البناء الاجتماعي برمته، وأخذ يحصر المشكلات العامة كالتخلف وعدم اندماج المجتمعات العربية في الحداثة في انقسام هذه المجتمعات أو المجتمع العربي ككل إلى صفوة حاكمة تمارس أساليب جديدة من القهر والاستغلال وجماهير مغلوبة تتلقى كل ما يوجه حياتها من هذه الصفوة، واستطاع أن يرتفع بالتحليل السيكولوجي الذي بدأه خصوصا في كتابمقدمات لدراسة المجتمع العربي" إلى مستوى أعلى يمس جوهر البناء الاجتماعي ككل لهذه المجتمعات، وقد ترتب على اهتمام شرابي بمشكلات الفرد أو المواطن العربي وهمومه الحضارية في حياته اليومية وربطها بمشكلات بنائية عامة(نسق القوة المتمثل في النظام الأبوي أو البطركي، وأساليب القمع الأبوي ومظاهر العلاقات بين الأفراد والجماعات الظاهرة منها والخفية)، فتمكن من الكشف عن تناقضات الحياة الاجتماعية والحداثة المشوهة لهذه المجتمعات، وهكذا نظر "شرابي" إلى البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتحكم في هذا البناء الهرمي في جوهره, وراح "شرابي" يكشف في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" عن أسباب تخلف المجتمع العربي، مقترحًا تصورًا حول كيفية تجاوز هذا التخلف والتغلب عليه. ويؤكد أن التخلف الذي نجابهه، يكمن في أعماق الأنظمة الأبوية، الأبوية المستحدثة، إذ إن السيطرة الاجتماعية التي يمارسها الجيل القديم سيطرةٌ تامة، يرتبط فيها الشبان بسلطة أبوية الشكل فيبقون في ظل الكبار، على الصعيد السياسي كما على الصعيد العاطفي والعقلي، مما ينتج صفتين مترابطتين: اللاعقلانية والعجز؛ تتجلى الأولى في التحليل والتنظير والتنظيم، فيما يحول العجز دون مجابهة التحديات والتغلب عليها.

واضح إذن أن "شرابي" من خلال هذا قد مارس النقد السوسيولوجي وأخذ يحلل الأبنية الاجتماعية المختلفة في العالم العربي، مركزا على مظاهر الاستغلال والقهر بمختلف أنواعهما السياسي والفكري وحتى النفسي، وكل ذلك في ضوء نظرية نقدية تؤكد على دور الإيديولوجيا الأصولية غالبا في إخفاء الواقع والتي همهما الوحيد ضرورة المحافظة على القيم التقليدية، هذا التوسع والتحول الذي يشمل العناصر الثقافية في التحليل، تجاوز من خلالها "شرابي" المنهج النقدي السيكولوجي الذي مارسه" ألان تورين( AlainTouraine) و بيرنبولم Nathan Birnbaum)  (في أوربا، وبذلك يكون "شرابي"  بخلاف باقي المفكرين العرب انطلق من دور جديد تصوره للناقد الاجتماعي في المجتمع العربي الحديث، يسعى أساسا إلى نقد الواقع والكشف عما يتحكم في بناءه من قوى وما يرتبط به من مشكلات، دور يلزم الناقد والمفكر بالاستقلال الفكري عن القوى والضغوط التي يفرضها البناء النظامي وأن يكون مفكرا وباحثا ملتزما بثلاثة أنواع من القيم: قيمة البحث عن الحقيقة بكل دلالاتها السياسية، وقيمة العقل، وقيمة الحرية، وغياب هذه القيمة الأخيرة هي ما يمكن من خلالها تفسير" الصمت" الذي عرفه شرابي إبان اشتغاله كأستاذ في جامعة "جورج تاون" ما بين عامي 1969 و1976، باعتبار علاقة الزمالة "المفبركة " -حسبه- مع بعض الأساتذة الصهيونيين وخوفه من التبعات غير المحمودة على مستوى منصبه في الجامعة، وبعد هذا الصمت كان له أول كتاب يتناول معضلة مرتبطة مباشرة بالكيان العربي وهي "القضية الفلسطينية" ونقصد هنا كتاب "المقاومة الفلسطينية في وجه أمريكا وإسرائيل"، وكان أول كتاب" ملتزم" يقوم بنشره، يقول شرابي: "وكان ذلك أول خروج عن الخط الأكاديمي الموضوعي الذي كنت أتبعه في كتاباتي ومحاضراتي للحفاظ على مركزي الجامعي ولحماية نفسي من تهجم الأساتذة الصهيونيين، وكان ذلك الخروج بمثابة إعلان الاستقلال عن المؤسسة الأكاديمية والتزامي بقضية شعبي وقضايا التحرير في العالم"36.

وحين كانت مقومات النقد الاجتماعي قيمة البحث عن الحقيقة وبكل دلالاتها السياسية وقيمة العقل وقيمة الحرية"37، فإننا نجده في مراحل متقدمة من نتاجاته الفكرية (خصوصا في عقد التسعينات من القرن الماضي) يتصف بنقد اجتماعي لاذع، موجها توجيها لا ينسلخ عن البناء الاشتراكي، واتصف نقده هذا بالطابع السياسي في كثير من الأحيان، كما ميز بين الذاتي والموضوعي في الممارسة ويتأتى عن التأمل، و هو ما جعله أولا يبرز العيوب ويكشف الضوء على العلل ومظاهر التخلف، ثم ثانيا يقدم الإجابات المناسبة للمشكلات التي يتناولها ليصل في مرحلة ثالثة إلى العمل على تنمية الوعي الاجتماعي ويساعد على استشراف المستقبل، "ففكرة النظرية الاجتماعية المؤسسة على تحويل الطبقة المفكرة إلى قاعدة جديدة للتاريخ" تلقفها "شرابي" وحاول تمريرها عبر فكره المتميز بالثورية والجرأة في الطرح موازيا بذلك أطاريح الماركسية و" الهيغيليين الشباب" في "أن الحداثة وتمظهراتها المجتمعية ما هي إلا نتاج لتطور هذه المجتمعات التاريخي والسياسي والاجتماعي والثوري، بل هو إعادة قراءة ثورية ولَدت قوى بدت جديدة وربما كانت كامنة ومخبئة: البرجوازية الليبرالية والبرجوازية الصغيرة"38، هذان الركنان الأخيران أسهب "شرابي" في التفصيل فيهما في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي".

     فالقراءة النقدية الاجتماعية من هذه الناحية التي حاول "شرابي" رسم منهجه من خلالها هي في بعض وجوهها -وعلى الرغم من كل مجازفاتها- "قراءة للإمكانيات الكامنة للتاريخ في صيرورته، إنها قراءة للمسيرة والتقدم بوصفهما حاملي التغيرات الايجابية وهي أيضا قراءة للصراعات والتناقضات والمآزق الجديدة"39.

       لقد قدمت عموما النظريات العربية في علم الاجتماع وفي علم النفس تحليلات كثيرة ومتنوعة، إلا أنها تشابهت في نتائجها وثمارها إذ اعتمد الجميع ومنهم شرابي على مناهج وصفية تكديسية ومبسطة في معظم الحالات، وبالتالي ضعيفة الارتباط بالفلسفي أو النظر الواقعي والتحليل الشمولي، فالمواضيع أو الموضوعات في هذه الحالة ليست محللة ولا مدروسة تبعا لعين الفيلسوف ومنهجه  ولا لمنطقه ولا لآلياته و إستراتيجيته، وكذلك إنّ القول بالواقع السالب الاتجاه للمجتمع العربي حسب النظرية السوسيو نفسية لدى شرابي قول فيه كثير من نقاط تستوجب إعادة النظر ، فهذا المجتمع وبكل عين موضوعية نجده قد رفع من مستويات المعيشة للمواطن  وحل كثير من المعضلات التي جابهت  الإنسان العربي خلال القرنين الماضيين  في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.

لا توافق المدرسة العربية في العلوم الإنسانية والاجتماعية على دراسة تقوم على التفريق بين دراسة ماركسية المنهج، أي تجعل المجتمعات والنظريات تتأسس على العامل الاقتصادي، ونلاحظ على دراسة شرابي أنّها تعتمد كثيرا على فلسفة ماكس فيبر خصوصا فيما تعلق بتفسيره للحضارة والتاريخ انطلاقا من أن الأفكار والمعتقدات هي العامل الحاسم والمؤثر. ففي المدرسة العربية في الفلسفة بالذات لا حاجة فكرية وحضارية للانطلاق لا من ماركس ولا من فرويد أولا من ناحية الانحياز لأي منهم وثانيا من ناحية الاختلاف بين أنماط التفكير الغربي لدى هؤلاء والأنماط السائدة داخل سياقات الفكر العربي.

خاتمة

من خلال هذا العــرض لمجمل المــلامح الماركـسية و بالفرويدية في النـقد الحضـاري لواقـع المجتمع العـربي لدى هشام شرابي  نلتمس في كتاباته  تداخل تحليلات الباحث الأكاديمي، وإرادة المناضل، ورؤية الإيديولوجي، مع استشراف فيلسوف التاريخ للمستقبل، ولهذا فإن أعماله تقدمه باحثا اجتماعيا، ومحللا نفسيا، ومفكرا واقــعيا، وإيديولوجيا صاحب رؤية مفتوحة تطورت عبر مراحل متعددة من حياته، "إنه بلغة سارتر المفكر الملتزم، وباصطلاح "أنطونيو غرا مشي"(Antonio Gramsci1891-1937) المثقف العضوي، وبتعبير " روجيه غارودي" مناضل متعدد الضفاف، أولى هذه الضفاف الباحث الفلسفي، وثانيها الناقد الاجتماعي، وثالثها المفكر الحضاري"40، هذا المفهوم الأخير هو جوهر فكره النقدي الذي مارس عليه المناهج التي ذكرناها فيما سبق، إلا أنه بالرغم من امتلاك شرابي للعدة الفكرية الحديثة والتي أسس من خلالها لثغرة نقدية ضد بعض المفاهيم التي كرست قيم العمى الفكري، وتعطيل قدرة الفرد العربي على المعرفة والإبداع، لم يستطع سلخ نفسه عن الصبغة الإيديولوجية في كتاباته ،فقد سيطرت عليها مفاهيم القومية تارة والاشتراكية تارة أخرى، وكذلك من ناحية المنهج الذي اتبعه  في نقده الحضاري للواقع العربي ، (من خلال ترسانة المفاهيم علم النفس الاجتماعي وآليات الإيديولوجية الماركسية) أنه اعتمد على الوصف النظري  الوفير للظواهر على حساب التحليل الممنهج، أي بمعنى آخر ما يسميه "علي زيعور" بـ" الانتقال من السوسيولوجيا إلى الفلسفة نظرا ومنهجا ، فوقع "شرابي" في التأملية الفكرية البحتة في دراسته النقدية للمجتمع العربي على الرغم من أنه لطالما انتقد هذه المهمة الفكرية التنظيرية البحتة لنظرائه من المفكرين والمثقفين العرب وهذا ما يعرف في الأوساط الفكرية العربية بـ"أزمة النقاد العرب الجدد"، وكما أنــه من الصعب تصنيف مقاربات شرابي المنهجية41، " كونه انتقل من الفلسفة إلى تاريخ الأفكار، ثم إلى التحليل الاجتماعي لقضايا المجتمع العربي، ومن الصعوبة بمكان تحديد فكره في حقل معرفي محدد، فأعماله لا تنتمي إلى الفلسفة التقليدية، تاريخها ومذاهبها، على رغم اهتمامه باتجاهاتها المعاصرة وتخصصه فيها وحصوله على شهادة الماجستير في فلسفة القيم، ولا النقد الأدبي على رغم انشغاله بالخطاب النقدي الجديد وتعامله مع أعلامه، ولا علم النفس والاجتماع مع استخدامه لمناهج "فرويد "وتلاميذه و"ماركس" وماركسيات القرن العشرين و"مدرسة فرانكفورت"، بل تتداخل العلوم في كتاباته وتمتزج المناهج إخلاصا لموضوع البحث ووحدته وهدفه ، وبالتالي فإنه يمكن القول بأن "هشام شرابي" مارس النقد بغية تشخيص مشكلات المجتمع العربي "الأبوي التقليدي"  وتوجيه هذا المجتمع المتأزم في كياناته وأطيافه توجيها سليما نحو الحداثة،  لذلك كانت أهم المسائل التي طرحتها مؤلفاته النقدية  تتمثل خصوصا في أسباب ومظاهر تخلف المجتمع العربي، وغياب المجتمع المدني وبالتالي حقوق الإنسان، وحرمان المرأة من حقوقها، وعجز المثقف العربي عن أداء دوره الحضاري.

1. السيد ولد أباه، أعلام الفكر العربي: مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2010، ص193.

2.أحمد عبد الكريم أحمد، فلسفة النقد من الإجراء إلى النظرية، عالم الكتاب الحديث للنشر والتوزيع، إربد- الأردن، ط1، 2015، ص 36.

3. هشام شرابي، الجمر والرماد: ذكريات مثقف عربي، دار الطليعة للنشر، بيروت، ط1، 1978، ص73

4.مكسيم رودنسون، الماركسية والعالم الإسلامي، تر: كريم عزقول، دار النهار، بيروت، ط3 ،1977، ص221.

5. الياس مرقص، تاريخ الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي، دار الطليعة للنشر، بيروت، ط1، 1966، ص30.

6.هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، دار النهار للنشر، ط2، 1978، ص 51.

7. المصدر نفسه، ص 51.

8.الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية، إشراف عبد الإله بلقريز، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 2013، ص323.

9. أحمد عبد الحليم عطية، النقد الحضاري والإنسان العربي، ندوة الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002، ص512.

10.هشام شرابي، صور الماضي: سيرة ذاتية، دار نلسن للطباعة والنشر، السويد، ط3، 1998، ص 36.

11.هشام شرابي، الجمر والرماد: ذكريات مثقف عربي، ص 39.

12.المصدر نفسه، ص 39.

13.أحمد عبد الحليم عطية، النقد الحضاري والإنسان العربي، ص52.

14.هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، الدار المتحدة للنشر، بيروت، ط3، 1984، ص 20.

15.هشام شرابي، صور الماضي، ص 32.

16.المصدر نفسه، ص 32.

17.عدنان حب الله، خواطر حول التحليل النفسي في الوطن العربي، دار بدايات للنشر والتوزيع، دمشق، (د.ط)، 2008، ص 119.

.18.هشام شرابي، صور الماضي: سيرة ذاتية، ص 59.

19.عدنان حب الله، خواطر حول التحليل النفسي في الوطن العربي، ص 119.

20.المرجع نفسه، ص 119.

21.هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، تر: محمود شريح، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، ط4، 2002، ص 89.

.22.هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ص 91.

23.فيصل عباس، الفرويدية ونقد الحضارة المعاصرة، دار المنهل اللبناني للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2005، ص 348.

24.هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، ص 27.

25.ريك فروم، ما وراء الأوهام، تر: صلاح حاتم، دار الحوار، اللاذقية – سوريا، 1994، ص16.

26.شام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، ص29.[1]

27.يصل عباس، الفرويدية ونقد الحضارة المعاصرة، ص 350.[1]

28.إسماعيل مهنانة، الرأسمالية والرغبة: أثر فرويد في النظرية النقدية، عن مؤلف جماعي "مدرسة فرانكفورت النقدية"، دار الروافد الثقافية ناشرون، بيروت، ط1، 2012، ص 491.

29.أحمد عبد الحليم عطية، النقد الحضاري والإنسان العربي، ندوة الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام، ص 522.

30.بسام قطوس، المدخل إلى مناهج النقد المعاصر، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، ط1، 2006، ص16.

31.محمد الناصر العجيمي، النقد العربي الحديث، دار محمد علي الحامي، تونس، ط1، 1998، ص112.

32.هشام شرابي، النقد الحضاري للمجتمع العربي في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001، ص62.

.33.هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، ص 92.

34.صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، دار ابن خزيمة للنشر، القاهرة، ط1 ،2001، ص73.

35.عاطف عطية، المثقف العربي وصدمة الحداثة: دراسة في التطور الفكري عند هشام شرابي، مجلة المستقبل العربي، العدد 09، 1995، بيروت، ص20.

36.هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، دار النهار للنشر، بيروت، ط2،1987، ص. 51

37.هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، ص 20.

38.علي عبد الرزاق جبلي، الإبداع والنقد الاجتماعي: دراسات معاصرة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية-مصر، 2005، ص139.

39.بسام قطوس، المدخل الى مناهج النقد المعاصر، ص69.

40.احمد عبد الحليم عطية، النقد الحضاري والإنسان العربي، ص 514.

علي زيعور، قطاع الذاتية في نطاق أهل الفكر والفلسفة، ضمن مؤلف جماعي: نقد المجتمع الأبوي، قراءة في أعمال هشام شرابي، إعداد وتقديم احمد عبد الحليم عطية، الاتحاد العربي للجمعيات الفلسفية، ط1، القاهرة، 2003، 126

@pour_citer_ce_document

ثابت سلطان, «ملامح إيديولوجية ماركس ونفسانية فرويــد في تحليل واقع المجتمع العربي الراهن: دراسة في النقد الحضاري عند هشام شرابي.»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 20-32,
Date Publication Sur Papier : 2019-06-24,
Date Pulication Electronique : 2019-06-24,
mis a jour le : 24/06/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=5631.