مأزق تأسيس التّجريبية المعاصرة: أنموذج راسل.The founding dilemma of contemporary empiricism: the model of Russell.
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 Vol 16- 2019

مأزق تأسيس التّجريبية المعاصرة: أنموذج راسل.

The founding dilemma of contemporary empiricism: the model of Russell.
ص ص 137-153
تاريخ الارسال: 29/11/2018 تاريخ القبول: 13/06/2019

لخضر قريسي
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

 بدأ راسل (برتراند) مثالياً، ثمّ انتقد المثاليّة، ليعود إلى التّقليد الانجليزي، فتبنّى الاستقرائية، ومذهب ((المطابقة)) في المعرفة، من زاوية ذريّته المنطقيّة، وصاغ ((نظرية الأوصاف)). وردّ المعرفة إلى المعرفة بالاتصال المباشر، والتي تتأسّس عليها المعرفة بالوصف. ويستهدف هذا البحث تبيين أنّ: أهمّ ما تنتهي إليه هذه المحاولة التّجريبية لا يزيد على كشف نقيصتين:1- ضعف هذا التأسيس وصعوباته، على الرّغم من تعدّد وتنوّع محاولاتها، 2- ضيق مذهب هذه التّجريبيّة الأحاديّة التّفسير، ممّا يجعل مخرجها في نقر قوقعتها.

الكلمات المفاتيح: التّجريبيّة، الفلسفة التّحليليّة، الذّريّة المنطقيّة، نظرية الأوصاف، المعرفة بالاتصال المباشر، المعرفة بالوصف.

Bertrand Russell a commencé comme idéaliste, puis a critiqué l’idéalisme pour revenir à la tradition anglaise, et adopter l’inductivisme, et la doctrine de “la correspondance” dans la connaissance, selon sa vision de l’atomisme logique. Puis, Russel a formulé “la théorie des descriptions”, et a réduit la connaissance à ‘‘la connaissance directe’’ qui est la base de ‘‘la connaissance par description”. Cet article vise à montrer que cette tentative empiriste ne dépasse pas la démonstration de deux défauts : 1- La faiblesse de son fondement, et ses difficultés, malgré la multiplicité et la diversité de ses tentatives, 2- La réticence de la doctrine de cette interprétation unilatérale, ce qui l’oblige à briser sa coquille.

Mots clés:L'empirisme, la philosophie analytique, L'atomisme logique, La théoriedes descriptions, La Connaissance directe, La Connaissance par description.

Bertrand Russell began as an idealist, and then criticized idealism for returning to the English tradition, and adopting inductivism, and the doctrine of "correspondence" in knowledge, according to his vision of logical atomism. Then, Russell formulated "the theory of descriptions", and reduced Knowledge to "direct knowledge" which is the basis of "knowledge by description". This article aims to show that this empiricist attempt does not go beyond the demonstration of two defects: 1- The weakness of its foundation, and its difficulties, despite the multiplicity and diversity of its attempts, 2 - The reluctance of the doctrine of this unilateral interpretation, which forces him to break his shell.

Keywords: Empiricism, The analytic philosophy, The Logical Atomism, The Theory of descriptions, The knowledge by acquaintance, The knowledge by description.

Quelques mots à propos de :  لخضر قريسي

جامعة محمد لمين دباغين سطيف2 lakhdarphilos@gmail.com

1- إشكاليّة البحث: تمثّل التّجريبيّة، على اختلاف أشكالها، النّزعة التي تقتسم تاريخياً المجال الفكريّ الجدليّ مع النّزعة العقليّة، على تنوّع صورها أيضاً، وحتّى إذا تجنّبنا التّبسيطيّة التي تختزل تاريخ الفكر الفلسفيّ إلى هذين التّيارين: التّيار المثالي الذي يرتدّ تراجعاً إلى أفلاطون Platon (387 ق.م-347 ق.م)، كأكبر ممثّل للعقلانيّة المثاليّة، ويقابله التّيار الواقعيّ الذي عارض به أرسطوطاليس Aristote (384 ق.م-330 ق.م) مثاليّة أستاذه، بإسكان الجواهر في الأشياء الحسّية، وإذا كانت التّجريبيّة تحمل على كلّ المذاهب المخالفة لها، ككلّ أشكال المثاليّة والقبليّة الكلاسيكيّة، كما تحمل على المواضعاتيّة والأداتيّة، ولا تسلم من انتقاداتها حتّى التّجريبية بغير المعنى الاختباري الضّيّق، الذي رسمت حدوده التّجريبيّة الكلاسيكيّة، ومن ثَمّ هي ترفض أيضاً البراجماتيّة، على الرّغم من تقاطعات أساسيّة بينهما، فما مدى متانة الطّرح التّأسيسّي للتّجريبيّة المعاصرة (كما يمثّلها راسل)، وما مدى نجاحها في تخطّي صعوباتها؟

2- مدخل مفاهيمي: نعني بالتّجريبية: كلّ نزعة ترى أنّ مصدر المعرفة، ومعيار الحسم في صحّتها، في مختلف مجالات علوم الطّبيعة إنّما يتقرّر بمعيار الاختبار التّجريبيّ وحده. ومن دون أيّ معيار آخر، عقلي أو مثاليّ، خارج حدود ما تقرّره التّجربة. وإذا اعتمدنا مصطلحات المنطق، عبّرنا عن هذه الأطروحة التّجريبيّة، بقولنا: يتقرّر صدق أو كذب كلّ عبارة تركيبيّة عن طريق إخضاع العبارة للاختبار التّجريبيّ.

ومن الضّروريّ أن ندقّق معنى مصطلح التّجريبيّة. إذ تنوّعت مدلولاتها، فلم يعد يُقصد بها التّجريبيّة بالمعنى الكلاسيكيّ فقط، والتي تستبعد بضرورة المذهب خصومها العقليين. فالتّصنيف الكلاسيكيّ لم يعد دقيقاً، مع التّموّجات التي أحدثها ظهور مذاهب وتوجّهات جديدة، لا تقبل التّصنيف لا في هؤلاء التّجريبيين، ولا مع أولئك العقليين، بالمعنى الكلاسيكيّ. فهذا مثلا بوبر (كارل) (Karl) Popper (1902م-1994م)، يؤكّد أنّه لا يأخذ بالتّصنيف الكلاسيكيّ، الذي يقابل بين العقلانيّة والتّجريبيّة، فهو عقلانيّ من طراز خاصّ، يجعل العقلانيّة والتّجريبيّة تتكاملان، وهو تجريب على الرّغم من أنّه من البداية معادٍ للاستقرائية. إذ يرى أنّ الرّجوع إلى الاختبار التّجريبيّ، هو وحده الذي يرشدنا إذا كانت افتراضاتنا وتخميناتنا، أو قوانيننا ونظرياتنا العلميّة، مشروعة وحقيقيّة أو مجرّد تخمينات ميتافيزيقيّة زائفة.

غير أنّ هذه التّجريبيّة كما هي عند راسل، لا تشذّ عن التّقليد الإنجليزي التّجريبيّ، وتظلّ مرتبطة به إليه منطلقاً ونهاية. 

كما نشير إلى أنّ القضايا، حسب تصنيف هذه التّجريبيّة، هي في جوهرها تصنيف هيوميّ، رافضٌ للتّصوّر الكانطيّ. فالقضايا إمّا تحليليّة، هي تحصيل حاصل، لا تقول شيئاً عن العالم وحوادثه. وهذا الصّنف من القضايا تجسّده قضايا المنطق والرّياضيات. وإمّا هي قضايا تركيبيّة، تتعلّق بالعالم وحوادثه. وخارج هذين الصّنفين لا توجد قضايا مشروعة يمكن أن نحمل عليها صفة المعنى، أو الصّدق والكذب. مماّ يجعل حديث كانط (إيمانويل) (Emmanuel) Kant (1724م-1804م) عن القضايا التّركيبيّة القبليّة حديثاً لاغياً، غير مشروع، أشبه بالحديث عن الدّائرة المرّبّعة. والجمع بين الصّفة القبليّة والصّفة التّركيبيّة، ليس إلاّ تلفيق متناقضات، فهو مساوٍ لقولنا: عبارة قبليّة بعديّة، باعتبار التّحليليّ قبليّ، لصدقه السّابق على كلّ تجربة، والمستقلّ عنها، فصدقه صدق اتّساق. ومنه قولنا: العدد الزّوجي ما يقبل القسمة على اثنين. أو قولنا: الشّبل ولد الأسد. أمّا التّركيبيّ فهو ما يتعلّق بالعالم وحوادثه، وجاء لوصفه. فلا يكون في جوهره محمولاً يكرّر موضوعه، أو يحلّله أو يوضحه، بل يضيف شيئاً جديداً إلى الموضوع، ليس من جوهره، وبحيث نستطيع تصوّر هذا الموضوع من دون هذه الصّفة المضافة، التي يقترحها المحمول. كالعبارة التّركيبيّة: يتجمّد الماء في الدرجة °100، في الشروط النّظاميّة، والعبارة: النّبات يطرح الأكسجين أثناء التّركيب الضّوئيّ. وصنف القضايا التّركيبيّة يصدق صدق ((مطابقة))، ولا يكفي اتّساقها الدّاخليّ لتقرير قيمة صدقها، مثلما هي حال القضايا التّحليليّة.

وتقيم التّجريبيّة بين القضايا التّحليليّة والقضايا التّركيبيّة حداًّ فاصلاً، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال عبوره. كما تؤكّد على اختلاف معيار الصّدق كما قلنا، فصدق ((الاتساق))، الدّاخلي، يطبع القضايا التّحليليّة، بينما صدق المطابقة الخارجيّ، يخصّ القضايا التّركيبيّة، وتكرار التّأكيد على هذا الاختلاف الجوهريّ، يجنّبنا الانزلاق إلى مماثلة علوم الطّبيعة (العلوم التّجريبيّة)، وعلوم المنطق والرّياضة (العلوم الصّوريّة).

ومن أهمّ مجلوبات هذا التّفريق الضّروريّ بين صنفي القضايا التّحليليّة والتّركيبيّة أيضاً، وتجنّب المماثلة الخاطئة بينهما، أنّه يجنّبنا أيضاً السّعي الوهميّ إلى طلب اليقين حيث لا يقين. فالقضايا التّحليليّة، التي لا يزيد صدقها على الضّرورة المنطقيّة القبليّة، بالاتّساق الدّاخليّ، باعتبارها تحصيل حاصل، يجعل العلوم الصّوريّة (المنطق والرّياضيات)، وحدها تحرز اليقين أو الصّدق المطلق. بينما القضايا التّركيبيّة، التي يقوم صدقها على المطابقة الخارجيّة، ومقابلة حدودها بوقائع العالم الخارجيّ، لا يمكنها أبداً أن تزعم تحقيق اليقين أو الصّدق المطلق، فصدقها لا يزيد على صدق احتماليّ، بل سنجد أنّ بعض الاختباريين ينتهون إلى أنّه: حتّى لو أنزلنا مرتبة صدق العلوم الطّبيعة وقضاياها التّركيبيّة، إلى درجة الاحتمال، فإنّ هذه المحاولة تبقى أيضاً محاولة فاشلة، لأنّ درجة الصّدق ((الاحتمالي)) هي بدورها غير مبرّرة بشكل مقنع.

3- أطروحة راسل (برتراند). على الرّغم من أنّنا نتناول أساساً نظريّة المعرفة عند راسل، إلاّ أنّنا مضطرون إلى معالجتها في شقّين: شقّ فلسفي، وشقّ منطقيّ. والتّعرّض إلى الجانب المنطقيّ أي جانب نظريّة المعرفة، لا يبرّره كون راسل برز وأسهم أكثر في الجانب المنطقيّ فحسب، بل لأنّ الجانب المنطقي ونظريّة المعرفة عنده مرتبطان ولا يقبلان الفصل، وحتّى لو أنزلنا المنطق إلى مرتبة الوسيلة ورفعنا المذهب الفلسفي إلى مرتبة الغاية، تبقى الغاية متوقّفة في تحقيقها على الوسيلة التي تمكّننا منها، وهذا ملموس في فلسفة راسل، ومقروء في التّعديلات والتغييرات التي أجراها على شبكته المفاهيميّة المنطقيّة، حتّى تحقّق الغاية المنشودة من مذهبه الفلسفيّ، وتنسجم معه. ومن الجانب المنهجي، إذا جئنا إلى التّعرّض لهذه الثّنائيّة، نجد أنفسنا أمام اختيارين، فإما: أن نبدأ بعنصر المذهب الفلسفي ثم نُدرج الجانب المنطقيّ، وهذا التّرتيب منطقيّ، باعتبار أنّ المذهب الفلسفيّ هو الذي يملي المذهب المنطقيّ، ويلوّنه بلونه. فالمنطق ليس واحداً محايداً، بل هو أنواع من المنطق ومذاهب مختلفة، فالمنطق الأرسطي غير المنطق الرّواقي، وهما غير المنطق الجدليّ الهيجليّ، وهذه الأنواع غير المنطق الوضعيّ. فلكلّ منطق ميتافيزيقاه. ولو تأمّلنا التّصوّرات المنطقيّة لراسل لوجدناها متطوّرة متغيّرة مع تطوّر وتغيّر فلسفته من المثالية إلى التّجريبيّة، كما سنرى مثلاً في تخلّيه عن الاعتقاد في ((واقعيّة الكلّيات))، والتّصدّي للقائلين بها وتفنيدهم. وأمّا الاختيار الثّانيّ فهو: أن نبدأ بالمنطق ثمّ نتطرّق إلى نظريّة المعرفة والمذهب الفلسفي عند راسل، وهذا مبرّر أيضاً، وتبريره تاريخي، فنتتبّع التّرتيب التّاريخي لأبحاث راسل، فقد بدأ راسل بالمنطق والريّاضيات، وسعى إلى إكمال المشروع اللّوجستيقيّ، الذي ردّ فيه المنطق إلى الرّياضيات، ثمّ جاء الانشغال بالمعرفة بعده. وإن كان هذا التّقسيم الذي يأخذ به الدّارسون لا يخلو من تعسّف، فلو تتبّعنا الانشغال الفكري لراسل، من خلال المؤلّفات التي أصدرها، نجده متعدّد الانشغالات، لهذا نجده في 1896 ينشر محاضرات عن الاشتراكية وفي 1897 ينشر كتابا تحت عنوان "مقالة في أسس الهندسة"(1). وقد آثرنا التّرتيب الأوّل، الذي يتتبّع المسار الفلسفيّ، ليُتبعه بالمسار المنطقيّ. فالتّطوّر المنطقيّ، لا يمكن فهمه من غير ربطه بالتّطوّر الفلسفيّ، الذي هو محدّده ومصدره.  

1.3 مذهبه الفلسفي في نظريّة المعرفة: ينتسب راسل إلى التّجريبية، فهو يقول بالخبرة مصدراً للمعرفة، ويرجع إليها في التّحقّق من صدقها. ملتزماً التّقليد الإنجليزي التّجريبي الاستقرائي، الذي يعود إلى أكسفورد في القرن الثالث عشر، حيث شهدت حركة لا مثيل لها في أوروبا، تحت تأثير مجلوب الإرث العلميّ الإسلامي، الذي ساعد على التّحرّر من أرسطو، وإيجاد مناخ جديد(2)، جسّده بيكون (روجر) (Roger) Bacon (1219م-1292م)، الذي نقم على طغيان التّعاليم الأرسطيّة، وأكّد على أنّه لو كانت في حيازته كتب أرسطو، لأحرقها كلّها وما ترك منها كتابا واحدا(3)، وصاغ بيكون (روجر) مصطلح ))العلم التّجريبي)) لأوّل مرّة في تاريخ الفكر، وعدّد مزاياه، فأفرده بميزتي اليقين والإنتاج في آن واحد، ورأى الاستنتاجات التي لم تحقّق عن طريق التّجربة لا قيمة لها(4). ويسير راسل على هذا الخطّ التّجريبيّ الاستقرائي، ويراه المنهج الذي اكتمل في العالم على يد جاليلي (جاليليو) (Galileo) Galilée (1564م-1642م)، وعلى يد كبلر (يوهانس) (Johannes) Kepler (1571م-1630م)، والذي بفضله زادت المعارف من أيامهما زيادة كبيرة، من دون أن يزيد هذا المنهج زيادة أساسيّة. ويتلخّص هذا المنهج الاستقرائي في التّدرّج من ملاحظة حقائق خاصّة إلى تقرير قوانين كمّيّة دقيقة، يمكن بفضلها التّنبّؤ بحقائق خاصّة جديدة(5). ويؤكّد راسل على أنّ هذا المنهج: ''لا يزال هو المنهج الأمثل لعلم الطّبيعة، هو العلم الذي ينبغي نظرياً أن تستنبط منه كافّة العلوم''(6)، ولا يرى راسل أيّة إمكانية لإنكار أنّ معرفتنا بالوقائع مُشادة بالاستقراء، أي: "بواسطة استدلال من مقدّمات مستمدّة من ملاحظات مفردة"(7). وإذا كان العلم هو أمثل منهج لبحث الحقيقة أبدعه الإنسان، فإنّ خارج العلم، لا يرى راسل أنّه يوجد أيّ منهج يمكن به البرهنة على شيء أو تفنيده(8)، وحتّى إذا ما افترضنا وجود طريق غيره، فإنّ راسل لا يقبل أيّ منهج آخر للوصول إلى الحقيقة غير المنهج العلميّ(9). بل، حتّى الفلسفة ذاتها ينبغي أن تستلهم منهجها من مناهج العلوم، لا من الأخلاق أو الدين(10)، وحتّى الدّين ذاته لا يشذّ عن القاعدة، إذ أنّ: "القضيّة الدّينيّة يجب ألاّ تقبل إلاّ إذا كان لها سند كالسّند المطلوب في قضيّة علميّة".(11) 

وبهذا المعيار يحكم راسل على ضآلة نصيب اليونان من خلُق العلم، فقد سلكوا الطّريقة القياسيّة بنزعتهم النّظريّة التّجريديّة المترفّعة عن التّجربة، فالعبقريّة الإغريقيّة كانت عبقريّة قياسيّة أكثر ممّا كانت استقرائيّة. كما سجّل راسل للمسلمين أخذهم بالاستقراء، لكنّه حسَب عليهم مأخذاً هو: الانشغال بالجزئيات وحدها، وعدم أخذهم بالتّعميم، والارتقاء إلى المبادئ والقوانين العامّة12)، ولا يفوت راسل أن يحمل على أرسطو فيرى أنّه: "كان من الكوارث الكبرى التي نزلت بالبشر، فقد ظلّ تعليم المنطق في معظم الجامعات حتى يومنا هذا مليئاً باللّغو الذي مردّه إلى أرسطو"(13).

ومن هذا الاتجاه التّجريبيّ الاستقرائي العام، الذي يتموقع فيه راسل، نتدرّج أكثر إلى الملامح الأكثر خصوصيّة بالنّسبة إليه، بما أنّ مذهب الفيلسوف هو مفتاح فلسفته، ومن دونه تبقى مبهمة، بل مغلقة. فإذا كانت معرفتنا بالوقائع والعالم تتمّ بالاستقراء، كما يتمسّك به راسل بصرامة، فإنّه لا يأخذ بتفسير المادّية أو العقلانيّة، فالمثاليون يأخذون الكون كلّه عقلاً، فيردّون الظّواهر المادّية إلى جوهر عقليّ أو روحيّ، بينما يرى المادّيون أنّ الكون كلّه مادّة، ويردّون الظّواهر العقليّة والرّوحيّة إلى مادّة وحركة(14)، أمّا راسل فيرى: "المكوّنات النّهائيّة للعالم لا تتّصف بخواص أيّ من العقل أو المادّة، كما تفهم عادة: فهي ليست أشياء متّصلة صلبة تتحرّك عبر الفضاء، كما أنّها ليست شظايا ((وعي))" (15). وهذا المذهب يسمّى ((الواحديّة المحايدة)) (Neutral Monism))). والتي تحوّل إليها تحت تأثير الفلاسفة والعلماء الأمريكيين، كما يوضّح لنا راسل نفسه، حيث حاول التّوفيق بين الاتجاه السّلوكي في علم النّفس، ذي الموقف المادّي، وعلم الفيزياء، الذي صار أقلّ وأقلّ ماديّة، خاصّة على يد إينشتاين (ألبير) (Albert) Einstein، وتجسّد هذا الموقف المتوازن على يد وليم جيمس (William) James (1842م-1910م) والواقعيين الجدد، الذين يرون أنّ: ((قوام)) العالم ليس ذهنياً ولا مادّياً، بل هو ((مادّة محايدة)) (16). وإذا كان راسل قد تبنّى راسل هذا المذهب، بعد تحوّله عن المثاليّة، التي أخذ بها تحت تأثير ماكتاجرت (جون) (John) McTaggart (1866م-1925م)، فإنّه انقلب عليها تحت تأثير عناصر متظافرة أهمّها قراءته لبيانو ومناقشاته مع مور (جورج إدوارد) (Edward George) Moore (1873م-1958م)، وبراغماتيّة جيمس (وليام) ()، ليصير17)، ليصر عدوّاً لدوداً للمثاليّة، فراح يحاربها، ويحاول هدمها بدءا من 1898م. وهنا تبدأ مرحلة أخرى أكثر تمييزاً لراسل. هي مرحلة تبنيّ فلسفة ((الذّريّة المنطقيّة)) (The Logical Atomism))). فمنذ ثورته على المثالية ورفضه لها، تبنّى راسل فلسفة الذّريّة المنطقيّة، مستخدماً التّحليل كمنهج، وأصبح التّحليل هو العنصر الأساسيّ في فلسفته(18). وأخذُ راسل بالذّريّة المنطقيّة والتّحليل، بعد التّخلّي عن المثاليّة، ونبذ كانط وهيغل (ج و فريدريك) (Friedrich GW) Hegel (1770م-1831م)، كان دافِعُه قناعة تامّة بأنّ المشكلات الفلسفيّة يحلّها التّحليل المنطقيّ وحده، وبالتّحليل وحده يمكن أن يحصل التّقدّم(19).

وإذا كان راسل في موقعه المنطقي يقف على خط فريجه (غوتلوب) (Gottlob) Frege (1848م-1925م)، محاولاً إنجاز المشروع اللّوجستيقي (ردّ الرّياضيات إلى أصولها المنطقيّة)، فإنّ هذا التّوجّه المنطقي لا يخرج به عن توجّهه التّجريبي. حيث يروم راسل من خلال ذرّيته المنطقيّة إقامة فلسفة مؤسّسة على المنطق والتّجربة. فهو يتجنّب الكائنات غير المجدية، كالمثل الأفلاطونيّة. ليرى أنّ كلّ قضيّة مركّبة أو تظهر بسيطة، يجب تحليلها إلى قضايا بسيطة لا تقبل التّجزيء، ويقابل هذه القضايا البسيطة وقائع بسيطة، تقبل المعرفة المباشرة بالتّجربة(20)، فتكون الغاية من هذا التّحليل للقضايا إلى عناصرها النّهائيّة هي الكلام عن الواقع(21). وفي استفادة راسل من هذا المنطق الجديد، في تأسيس نظريّة المعرفة، بلغت أهميّة المنطق عند راسل أنه لم يصبح أداة للفلسفة فحسب، بل إنّ راسل يرى أنّ "الفلسفة كلّها هي المنطق".(22)

ولا غرابة في أن تحتلّ نظريّة المعرفة المرتبة الأولى في فلسفة راسل، بعد استكماله مشروعه اللّوجستيقي. بما أنّ الحنين إلى الحب، والسّعي إلى المعرفة، والإشفاق الشّديد على الذين يقاسون ويتعذّبون، هي الانفعالات الثلاثة التي عاش من أجلها(23). وفي المعرفة كان هدفه الأساسي أن: يفهم العالم بقدر المستطاع، وأن يفصل ما يبقيه كمعرفة عمّا يردّه، باعتباره مجرّد رأي غير مؤسّس(24). ولهذا كان راسل عازماً في 1913م على إخراج كتاب كبير في نظريّة المعرفة، غير أنّ ظروفاً حتّمت عدم استكمال التّحرير وتأجيله، وأوّلها انتقادات مقنعة كالها له تلميذه وزميله فدجنشتاين (لودفيغ) (Ludwig)Wittgenstein  (1889م-1951م).(25)

وفي نظريّة المعرفة، يتمسّك راسل -كما أسلفنا-بالاستقراء منهجاً للعلم، على الرّغم من المآخذ التي سجّلها كثيرٌ من الفلاسفة على هذا المنهج عبر القرون السّابقة، بما فيها رواد الاتجاه الاستقرائي ذاته، ورواد الفلسفة التّجريبيّة أنفسهم، وأكبرهم هيوم (دافيد) Hume (David) Hume (1711م-1776م). وضمن هذا المنظور الاستقرائي الاختباري، يردّ راسل المعرفة إلى الحواس، ليجعل: "الحواس العامة تمنحنا المعرفة بالعالم الخارجيّ، بينما الحواس الخاصّة تمنحنا المعرفة بأجسامنا ذاتها"(26). فإذا استثنينا العلمين الصّوريين، علم المنطق وعلم الرّياضة على ما بينهما من اتّصال، واللّذان لا يتحدّثان عن العالم الخارجيّ، عالم الأشياء المحيطة بها، بقيت لنا مجموعة العلوم الطّبيعيّة التي تبدأ وتنتهي بدنيا المشاهدات الحسّيّة(27). غير أنّ هذا لا يغفلنا عن كون اندراج راسل كتجريبيّ في الواقعيّة، لا يجعله يأخذ بمذهب ((الواقعيّة السّاذجة)) (Naive realism)))، التي نرى أنّ: ما يتبدّى في الإدراك هو الأشياء ذاتها.

وهذه المعرفة عند راسل صنفان متفاوتان، في الأسبقيّة الزمانيّة، وفي البساطة والتّعقيد، وفي الأهميّة والمصداقيّة، وهما ما يطلق عليهما راسل: ((knowledge by acquaintance)) و(knowledge by description)))، والأفضل أن نترجمه كما فعل محمود (زكي نجيب)، إلى ((المعرفة بالاتّصال المباشر)) و((المعرفة بالوصف))، لأنّ هذه التّرجمة الأقرب إلى المضمون الذي يحمّله راسل لهذه التّسميتين. علماً أنّ صعوبة التّرجمة الأمينة للمصطلحين، واجهها الدّارسون حتّى في اللّغات الأوروبيّة(28). على الرّغم من أصلها المشترك للغاتهم الأوروبيّة، وكَون التسميّة منها، فقد اصطُلحت بالإنجليزية أصلاً.

ويشرح لنا راسل مقصده من التّسميتين في الفصل الخامس من كتابه مشكلات الفلسفة، الذي خصّصه لهذا الموضوع، وعنونه بالتّسميتين(29). ويبيّن راسل أنّ ما يعنيه بالمعرفة بالاتّصال المباشر، فيحدّها على أنّها: بالضرورة هي أبسط من أيّ أنواع من أنواع الحقائق، كما أنّها منطقيّاً تكون مستقلّة عنها، على عكس المعرفة بالوصف، التي تتضمّن بعض معرفة الحقائق كأسس لها مصادر. ويضرب راسل مثالا للإيضاح. فيأخذ مثال معرفة منضدته الماثلة أمامه. فهو يسمّي معرفة مباشرة بها ما يدركه إدراكاً مباشراً دون وساطة أيّة عمليّة استنتاجيّة أو أيّة معرفة بالحقائق. فالمعرفة هنا معرفة بالحقائق الحسيّة التي تؤلّف مظهر هذه المنضدة، التي يدركها إدراكاً مباشراً حينما ينظر إليها وحينما ويلمسها، وهذ الحقائق الحسّيّة المدركة مباشرة هي لونها وشكلها وصلابتها ونعومتها وغيرها من المدركات الحسّيّة المباشرة، والتي تمكّن من إصدار بعض الأحكام، ككون لون المنضدة بنّياً ضاربا إلى الدّكنة. وهنا، ينبّهنا راسل إلى الفرق الحاسم بين المظهر الحسيّ والحقائق الحسّيّة المدركة مباشرة والشّيء المادّي الذي نصدر عليه أحكاماً. فليس في الإمكان الشكّ في الحقائق الحسيّة، في حين يمكننا أن نشكّ في وجود المنضدة مطلقاً، فعلى الرّغم من معرفتنا بأنّ هذه الحقائق الحسّية وتلك مسبّبة عن شيء مادّي ولا توجد حالة عقلية ندرك بها المنضدة نفسها إدراكاً مباشراً، إلاّ أنّنا لو تحرّينا الدّقّة، فإنّ الشيء الموجود بالفعل، الذي هو المنضدة ليس معروفاً لدينا على الإطلاق(30). وأساس المعرفة هو هذا الصّنف الأوّل من المعرفة، الذي هو ((المعرفة بالاتصال المباشر))، والتي تتمّ باللّقطات الحسّيّة المباشرة للمعات الضّوء، ونبرات الصّوت، ولمسات الصّلابة واللّيونة، وما ماثلها من حسّيات(31).

وإذا كان راسل يجعل المعرفة بالاتصال المباشر بالحقائق الحسّيّة أساس كلّ معرفة، فهي التي تؤسّس للمعرفة بالوصف، فإنّه يجدها في المقابل قاصرة غير وافيّة بحاجتنا المعرفيّة. والعلّة فيها أنّها محدودة جداً، فنحن بها لا نعرف أكثر من الشّيء الماثل أمامنا، ولا نعرف أيّ شيء يتعلّق بالماضي، بل لا نعلم شيئاً يسمّى الماضين كما لا نعلم أيّة حقيقة تتّصل بالحقائق الحسّية، المختلفة بطبيعتها عن هذه الحقائق الحسّيّة، من أفكار ((مجرّدة)) و((كلّيات)) (32). إنّ الأشياء المادّية ومثلها عقول النّاس ليست ممّا تطاله ((المعرفة بالاتصال المباشر)) بل هي مجال ((المعرفة بالوصف))، ويعني راسل بكلمة ((وصف)) كلّ عبارة تأتي على صيغة ((شيء فلاني)) أو ((الشّيء الفلاني))، على أن نميّز أنّ الصيغة الأولى غامضة والثاّنية التي يأتي فيها التّعريف ((الشيء الفلاني)) فيشير إلى مفرد هو وصف محدّد، فالوصف ((رجل)) وصف غامض، بينما الوصف ((الرّجل ذو القناع الحديديّ)) هو وصف محدّد(33). على أن نبقي نصب أعيننا على الدّوام أنّ: ((المعطيات الحسيّة)) هي المادّة الخام الأوّليّة لكلّ معرفة، ومنها يبني الإنسان في ذهنه تركيبات هي التي تكوّن صور لنا صور الأشياء، وهي التي نطلق عليها الأسماء مثل ((شجرة)) و((منضدة)) وغيرهما. وكلمة ((شجرة)) لا تعني أكثر من تركيبة منطقيّة بنيت في الذهن من معطيات حسّية بسيطة(34). وهذا ينتج منطقياً المبدأ الأساسيّ الذي صاغه راسل، والذي يؤكّد على أنّ: كلّ حكم نستطيع أن نفهمه يجب أن يتألّف بكامله من أجزاء نعرفها بالاتصال المباشر. فعلى الرّغم من أنّ المعرفة الوصفيّة تمتاز على المعرفة بالاتصال المباشر بتمكيننا من تجاوز حدود تجاربنا الخاصّة الضّيقة، فنصل إلى معرفة لم نختبرها مطلقاً، وهذا حيويّ بالنّسبة إلينا، إلاّ أنّه بالرّغم من ذلك فإنّنا: لا نستطيع أن نعرف سوى الحقائق التي تؤلّف بكاملها من عبارات خبرناها في المعرفة بالاتصال المباشر، عن طريق تجاربنا، فإذا أردنا أن يكون لكلامنا قيمة ولا يكون جعجعة، يجب أن نقرن معنى الكلمات بشيء نكون على معرفة بالاتصال المباشر به(35). وعليه، "إذا حلّلنا فكرة ما لنرى إن كان قد تمّ بناؤها بطريقة مشروعة، أو لم يكن الأمر كذلك، رددناها إلى ((أحداثها)) التي تأثّرت بها حواسّنا المختلفة من ضوء وصوت وصلابة الخ...، حتى إذا ما وجدنا بين عناصرها عنصرا لا يرتدّ إلى حاسّة بعينها عند اكتسابه بادئ ذي بدء، أيقنّا أنّ الفكرة باطلة".(36) 

إنّ هذا المذهب كما أسلفنا، يروم قطيعة تامّة مع كلّ أشكال المثاليّة، ويأخذ موقفاً نقيضاً. وإذا كان برادلي (فرنسيس هربرت) (Francis Herbert) Bradley (1846م-1924م) قد رأى مثلاً أنّ كلمة ((هذا)) بلا معنى، إذ هي تشير إلى واقعة فعليّة effective reality ولا تمثّل مفهوماً concept، وجدنا الأنموذج الإرشادي (البراديغم) للمعنى عند راسل، ينصّ على النّقيض تماماً. فالأداة الإشاريّة لها معنى لأنّها تحديداً تفرض ربطاً مباشراً بعنصر من الواقع، ومن هنا ترتدّ كلّ معرفة مركّبة إلى تركيبة عناصر بسيطة، تستمدّ قيمتها المعرفيّة من التّجربة المباشرة(37). وهذا الموقف يجعل راسل يأخذ موقعه ضمن مذهب النّظريّة القائلة بصدق ((المطابقة)) ((correspondance) أو نظريّة التّماثل، التي هي ضمن النّظريات الأربع التي تمثّل اتّجاهات معايير ((الصّدق)). فهناك نظريّة ((التّوكيد المبرّر)) التي قال بها ديوي (جون) (John) Dewey (1859م-1952م)، وهناك النّظريّة التي ترى ((الاحتمال)) معياراً للصّدق، وهي النّظريّة التي دافع عنها رايشنباخ (Hans) Reichenbach (1891م-1953). ومنها نظريّة ثالثة تأخذ ((الاتساق)) معياراً للصّدق، وهو ما ذهب إليه بعض الوضعيين المناطقة، مثلما انتهى إليه نيوراث (أوتو) (Otto) Neurath (1882م-1945م). والرّابعة نظريّة صدق ((التّماثل))، التي يتمسّك بها راسل، حيث "يعتمد صدق القضايا الأساسيّة على علاقتها بحادث ما، وصدق القضايا الأخرى يعتمد على علاقتها الإعرابيّة بالقضايا الأساسيّة"(38). وعلينا أن نستحضر مبدأ هيوم القائل: "لا فكرة من دون إدراك حسّي سابق"، ومّما نتعلّم منه أنّ كلّ كلمة جوهريّة في معجمنا يجب أن ترتبط بالخبرة، وأنّ أيّة كلمة يمكنني أنا أن أفهمها لها معنى مستمدّ من خبرتي أنا.(39)

 ويمنح راسل المعرفة بالاتصال المباشر كلّ ثقته، فتكون القضايا الأوّليّة هي أساس التّحقيق، لا موضع شكّ وتحقيق. ومن هنا حمل راسل على القائلين بالتّحقّق منها، من الوضعيين المناطقة وعلى رأسهم شليك (موريس) (Moritz) Schlick (1882م-1936م)، إنّ هذه القضايا الأوّليّة، التي هي قضايا الإدراك الحسّي لا يوجد لها ((طريقة للتّحقيق))، لأنّها هي ذاتها تؤلّف تحقيق جميع القضايا التّجريبيّة الأخرى، التي يمكن معرفتها بأيّة درجة من درجات المعرفة. ونحن لو سايرنا شليك وأتباعه وقعنا في مشكلتين بلا حلّ: الأولى، التّراجع اللاّنهائيّ، حيث كلّ قضيّة نتحقّق بها تحتاج بدورها إلى قضيّة تحقّقها. والثّانيّة، إنّ كون هذه القضايا الأوّليّة أكثر الأنواع تأكيداً يجعلنا في محاولة تحقيقها نعكس المطلوب، فنحقّق الأقلّ ريبيّة بالأكثر ريبيّة(40).

2.3- النّصل المنطقيّ: نؤكّد بداية على ما سبق أن أشرنا إليه، وهو هذا التّرابط بين المذهب الفلسفي والمذهب المنطقيّ، ترابط الوسيلة بالغاية المستهدفة، وتفحّص فلسفة راسل ومنظومته المنطقية، يبيّن لنا كيف انعكس مساره الفلسفي على منظومته المنطقيّة، وانعكس تطوّره على تطوّرها بالتّزامن، إذْ تُقابل كلّ مرحلة من تطوّره الفلسفيّ، مرحلة من تطوّر منظومته المنطقيّة. وإن كان تحوّل راسل من المثالية إلى الواقعيّة التّجريبية لم يتمّ بشكل كامل جذريّ، وفي مرحلة واحدة، بل تمّ بشيء من التّدريج، وبقيت فلسفته تحتفظ بعناصر من المثاليّة، إلى أن استأصلها في مرحلة لاحقة، فبقيت هذه العناصر أيضاً في نسقه المنطقيّ، ولا يتخلّص منها إلاّ لاحقاً. ولا يفوت راسل أن يذكّرنا بأنّه عثر على ضالته في 1900، في مؤتمر عالميّ للفلسفة بباريس، حيث تعرّف على بيانو (غوسيب) Peano (Giuseppe) (1858-1932(، وحصل على نسخة من مؤلّفاته، فعكف على قراءة كلّ كلمة كتبها بيانو وتلاميذه، فوجد أداة التّحليل المنطقيّ التي كان يبحث عنها من سنين طويلة، وتوصّل بها إلى أسلوب قوي جديد(41).وسنأخذ ((نظريّة الأوصاف-1905م)) ((The theory of descriptions))، التي إلى جانب كونها هي من أهمّ الإضافات التي قدّمها راسل للمنطق، هي في الوقت نفسه، تجسّد التّحوّل إلى المذهب الجديد، ومحاولة إحداث قطيعة مع المذهب المثاليّ السّابق، والتّخلّص من بقاياه، وراسل ذاته يعدّها خطوة أولى في تحوّله(42). كما أنّ هذه النّظريّة تتكرّر بشرح أكبر، وتحليل أعمق، في مقالات ومؤلّفات لاحقة كمقاله ((في الدّلالة-1905م)) ((On Denoting)). وقد صاغ هذه النّظريّة في الأوصاف لتصحيح تصوّرات سابقة، شارك فيها كلاّ من الألماني فريجه (غوتلوب) والنّمساوي مينونج (أليكسيس)  Meinong (Alexius) (1853م-1920م). حيث شارك من قبل ((فريجه)) اعتقاده في الحقيقة الأفلاطونيّة للأعداد، التي تصوّرها في خياله تسكن عالم الوجود الأبديّ. كما شارك مينونج القول بوجود عالم أشياء مثل ((الجبل الذهبي)) و((المربّع المستطيل))، بما أنّنا نستطيع الحديث عنها، وقد ألغت هذه النّظريّة هذا الزّعم، مثلما ألغى راسل الفصول classes في الخطوة الثّانية في "مبادئ الرّياضيات" "Principia Mathematica"، التي أصبحت معدودة عند راسل من الرّموز النّاقصة، ولا تعني بذاتها شيئاً، فهي استعمالات رمزيّة أو لغويّة مريحة لا أشياء حقيقيّة(43). فالرّموز صنفان: ((رموز تامّة)) ((complete symbols)) و((رموز غير تامّة)) ((incomplete symbols)). والتّامّة منها، التي يكون لها معنى بذاتها، مثل أسماء الأعلام، كالرّمز سقراط. وعلى خلافها، تكون الرّموز غير التّامّة: هي الرّموز التي تفتقر إلى المعنى بذاتها syncategorematic  ولا تمثّل شيئاً بذاتها، وإنّما تكتسب المعنى في ((السّياق)) ((the context)) التي ترد فيه، وهي ذات معنى لأنّها تسهم آلياً في تحديد قيمة صدق truth value العبارات التي ترد فيها(44).

إنّ نظريّة المعرفة بالوصف Theory of knowledge by description توضح بجلاء خطأ الاعتقاد في أنّ أيّ لفظ لابد وأن يمثّل شيئاً، وأنّ الألفاظ تعني شيئاً شبيهاً بما تعبّر عنه، والذي هو في أصله خلط بين التّركيب النّحويّ والتّركيب المنطقيّ، وهذا ما ورّط مينونج مثلاً في افتراض أنّ جملة عن الجبال الذّهبيّة تقول شيئاً عن الجبال الذّهبيّة، وبالتّالي، فلا بدّ أن يكون لها وجود، وحتّى لا نقع في هذه الأخطاء، لا بدّ من التّمييز الدّقيق بين الألفاظ التي نستخدمها، حتّى لا نكون ضحيّة لإملاءات اللّغة، إذ من الضّروري أن: لا نترك نحو اللّغة وصرفها يُمليان ما يشاءان على الأنطولوجيا، وبعبارة أخرى: لا تتركهما يتحكّمان في آرائنا بصدد ما هو كائن(45). ولهذا جاء تأكيد راسل على جوهريّة معاني كلمات الأشياء في نظريّة المعرفة التّجريبيّة الحسيّة، فبها تربط اللّغة بالوقائع غير اللّسانية، وبطريقة تجعلها قادرة على التّعبير عن الصّدق التّجريبيّ الحسّي، أو الكذب التّجريبيّ الحسّي. (46)

إنّ علينا أن ننتبه إلى أنّ: "الأنواع المختلفة من الكلمات، في واقع الأمر، لها أنواع مختلفة من الاستعمالات ويجب أن تقيّد دائماً بالاستعمال الصّحيح"(47). وبما أنّ كلّ كلمة هي رمز، فإنّ الرّمزية ينبغي أن تأخذ الأهميّة القصوى، لأنّك "إذا لم تكن تشعر بأهميّة الرّمز، وتعي علاقة الرّمز بما يرمز له، فستجد أنّك تنسب للشيء خواصاً ليست له وإنّما للرّمز"، وهو ما جعل راسل يعتقد أنّ: "كلّ ما حدث في الفلسفة جاء نتيجة تامّة للخلط في الرّمزيّة، وعندما تزيل هذا الخلط ستجد عملياً أنّ كلّ شيء قيل عن الوجود ينطوي على خطأ"(48). ومن أهمّ ممّا يترتّب عن هذا التّصوّر، ضرورة التّعرّض لمفهوم ((الواقعة))، وتمييزها عن ((الكلمة)) و((الاسم)). والواقعة كما يعرّفها راسل هي: ((نوع ذلك الشيء الذي يجعل قضيّة ما صادقة أو كاذبة)). مثلما لو قلت ((إنها تمطر)) فهذه الجملة تكون صادقة تحت شرط محدّد، وتكون كاذبة في شروط أخرى من المناخ. ومثلها الجملة ((مجموع اثنين واثنين أربعة))، فإنّ واقعة حسابيّة معيّنة هي التي تجعلها صادقة. ويجب التّمييز أيضاً بين ((الكلمة)) أو ((الاسم))، إذْ ما يجعل القضيّة صادقة أو كاذبة هو الواقعة، وليس الحدّ أو الاسم أو الشّيء الجزئي، مثل المطر أو الشّمس أو سقراط، ذلك أنّ ((سقراط حيّ)) و((سقراط ميت))، كلاهما عبارتان عن سقراط، إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، و((الواقعة)) هي الشيء الذي تعبّر عنه بجملة كاملة، وليس باسم مفرد مثل سقراط، وحتّى إذا وردت كلمة مفردة لتعبّر عن واقعة، ككلمة ((نار)) أو ((ذئب)) فإنّها في الحقيقة متضمّنة في جملة ضمنيّة غير مصرّح بها، والتّعبير الكامل عن الواقعة يبقى دائما متضمّنا في جملة(49). أمّا اسم العلم فخلاف ذلك، فمن وجهة نظر منطقيّة يمكن أن نعطي اسم علم لكلّ جزء مستمر من الفراغ-الزّمن، ويمكننا أن نعطي اسم العلم لأجزاء شديدة الصّغر من الفراغ-الزمن، طالما يمكن ملاحظتها(50)، ومع هذا الفرق  يلتقي الاسم والقضيّة في كونهما ((رمزاً تامّا))، حيث: "الاسم يعتبر رمزاً تامّا نستخدمه للإشارة إلى شخص ما، كما وأنّ العبارة (أو القضيّة) هي الرّمز التّام للواقعة"(51). وهنا نصل إلى لبّ نظريّة الأوصاف المحدّدة عند راسل، وهو التّفريق الهامّ بين ((التّسميّة)) ((nominate)) و((الوصف)) ((to describe))، حيث يحدّ الالتزام الأنطلوجيّ ontological commitment في الكائنات التي يمكن تسميتها وحدها(52). وهذا إطار سبق وأن أشرنا إليه عند راسل، تحت مسمّى ((المعرفة بالاتصال المباشر)) أو ما يترجمه البعض إلى ((المعرفة بالعيان))، وتحت مسمّى ((المعرفة بالوصف)). ويتّضح هذا حينما نتبيّن ما يشترط الاسم، وما يتميّز به عن الوصف أو القضيّة.

 فمن الجانب المنطقيّ، أدرك راسل بتأثير من تلميذه فدجنشتاين، أنّ علاقة القضيّة بالواقعة غير علاقة الاسم بالمسمّى، فالقضايا ليست أسماء لوقائع، فلدينا دائما قضيتان تناظران الواقعة الواحدة، وعلى سبيل المثال لدينا القضيتان: ((سقراط ميت)) و((سقراط لم يمت)) كلاهما تقابلان الواقعة الواحدة نفسها، والتي تجعل إحداهما صادقة والأخرى كاذبة. أمّا الاسم فخلافها، فالاسم إمّا أن يسمّي جزئياً أو لا يكون اسما على الإطلاق. والأهمّ، أنّ الاسم يردّنا إلى المعرفة بالاتصال المباشر، على خلاف الوصف أو القضيّة، وعدم الانتباه إلى هذا الخلاف الهامّ الجوهريّ هو ما يوقعنا في الخلط بين الاسم بالمعنى النّحوي ((grammatical)) والاسم بالمعنى المنطقيّ ((Logical)). فاستخدام الأسماء في الحياة اليوميّة، وفي اللّغة الجاريّة، يفتقر إلى الدقّة التي يشترطها المنطق، فحينما نستخدم في اللغة أسماء مثل ((سقراط)) أو ((أفلاطون))، فنحن في واقع الأمر نستخدم أوصافاً مختصرة لا أسماء. ثمّ أكثر من هذا، إنّ ما تصفه هذه الأسماء (أو في الحقيقة الأوصاف المختصرة) ليس جزئيات بل أنساقاً مركّبة لفصول أو مسلسلات. فبالإضافة إلى الفرق بين الجزئي وغير الجزئي في إشارة الاسم وما يتعلّق به الوصف، فإنّ الفرق الحاسم الفاصل بين الأسماء والأوصاف، هو الفرق بين معطى المعرفة بالاتصال المباشر ومعطى المعرفة بالوصف. وراسل يذكّرنا بأنّ آدم عندما سمّى الحيوانات فقد عرضت عليه واحداً بعد الآخر، وكان على اتّصال مباشر معها فسمّاها، ومن هنا يكون الاسم الذي معناه جزئيّ، بالمعنى المنطقيّ الضّيّق للكلمة، يمكن أن يطبّق على الجزئيّ الذي يكون المتحدّث على اتّصال مباشر به. فإذا طبّقنا شرطي الجزئيّة والاتصال المباشر على ما نعتقد استخدامها كأسماء مثل ((سقراط)) أو ((أفلاطون))، تكشّفت لنا في حقيقتها أوصافاً، فنحن لسنا على اتّصال مباشر مع ((سقراط)) أو ((أفلاطون))، فهما من الماضي، وعلينا أن نستحضر على الدّوام عدم الدّقّة الحاضرة في مثل هذه الأسماء المزعومة، وحتّى لو اجتنبنا عبارات مثل ((أستاذ أفلاطون)) أو ((الفيلسوف الذي تجرّع السمّ)) أو ((الفيلسوف الذي قرّر المناطقة أنّه فان))، فإنّنا لن ندرك الاسم بالمعنى الضّيّق المنطقيّ ونبقى في دائرة الأوصاف. إنّ هذا يعني أنّنا نواجه صعوبة كأداء في الحصول على حالة الاسم بالمعنى المنطقي الدقيق والتّام للكلمة، وأنّ الكلمات التي يمكن للمرء أن يستخدمها كأسماء بالمعنى الدقيق للكلمة هي كلمات إشاريّة، مثل ((هذا)) و((ذلك)). حيث يمكن للمرء أن يستخدم ((هذا)) بوضع اسم يدلّ على جزئيّ يكون على اتّصال مباشر به في هذه اللّحظة، وإذا سلّمت بأنّ ((هذا أبيض)) يعني هذا الذي تراه، فإنكّ تستخدم ((هذا)) كاسم علم، لأنّ: اسم العلم الحقيقيّ لا يتأتّى إلاّ عندما نستخدم كلمة ((هذا)) بشكل دقيق ليقوم مقام موضوع فعل الحس.(53)

إنّ نظريّة الأوصاف لا تكشف لنا هذا الخلط بين الاسم والوصف كخطأ رائج وحيد، ننزلق فيه إلى تكثير الكائنات من دون ضرورة، خارقين مبدأ الاقتصاد الأنطولوجيّ، بل تطارد هذه النّظريّة أيضاً هذا التّكثير، بتحليلها المنطقيّ، حينما نمارسه على العبارات الوصفيّة، فيكشف هذا التّحليل أيضاً أخطاء لا تقلّ خطورة، من أكثرها شيوعاً الخلط بين أصناف العبارات الوصفيّة ذاتها. كالخلط بين العبارة الوصفيّة المحدّدة defined description  والعبارة الوصفيّة غير المحدّدة أو الغامضة indefinite or ambiguous description ، والخلط بين القضيّة The proposition ودالة القضيّةpropositional function . بالإضافة إلى الخلط بين الموضوع بالمعنى النّحويّ والموضوع بالمعنى المنطقيّ. فلو رجعنا إلى مينونج وجبله الذّهبيّ، الذي منحه الوجود، ولو بصيغة غير الوجود الحسّيّ، وأعملنا التّحليل المنطقيّ زال الخلط بين الموضوع بالمعنى الحقيقيّ المنطقيّ، والموضوع بالمعنى النّحويّ الزائف، حيث يختفي الموضوع النّحويّ الزائف تماماً، بمجرّد أن نصوغ العبارة التي يرد فيها صياغة منطقيّة سليمة. ونميّز الموضوع النّحوي عن اسم العلم الحقيقي (المنطقيّ)، بكون: أنّنا لو افترضنا هذا الموضوع النّحويّ للقضيّة غير موجود، فإنّ افتراض عدم وجوده لا يؤثّر في معنى القضيّة. ومن هنا مثلاً، إنّ عبارة مينونج: ((الجبل الذهبي غير موجود))، بالصّياغة المنطقيّة الدّقيقة تصاغ في دالة قضيّة، يختفي فيها الموضوع النّحويّ الزائف، ليحلّ مكانه متغيّر، حيث تعطينا الصّياغة المنطقيّة السّليمة لهذه العبارة دالّة القضيّة الآتية:"(س جبل) و (س من ذهب) هي كاذبة من أجل كلّ قيم س)) The propositional function: (((x is in gold) and (x is a mountain) is false for any value of x" (54).

ومثلها عبارته الثّانية: ((المربّع الدّائري غير موجود))، التي موضوعها أيضاً هو موضوع نحوي وليس موضوعاً منطقيّاً، فهو يختفي بمجرّد إعادة صياغة العبارة صياغة منطقيّة صحيحة، حيث تتحوّل أيضاً إلى صيغة دالّة قضيّة بالصّورة الآتية: ((ليس صحيحاً، أن يوجد شيء س يكون مربّعاً ودائرياً في آن واحد)) ((It is not true that there is an object x that is both rendering and square)).

وفي سياق مطاردة نظريّة الأوصاف للكائنات والمواضيع الزّائفة، التي يكشفها التّحليل المنطقيّ، ويبترها نصل أوكام، بمبدأ الاقتصاد المنطقيّ، يقدّم لنا راسل مثالاً أنموذجياً، يتجلّى في كشف التّضليل اللّغوي، الذي ننزلق فيه إلى الخلط بين عبارات من طبيعة مختلفة تماماً، على عكس ما يظهرها النّحو متماثلة. والمثال الذي يوضّح هذه المسألة تلخّصه القضيّتان: ((الملك الحالي لفرنسا أصلع)) ((The current King of France is bald)) و((سقراط فان)) ((Socrates is mortal))، فمن الجانب النّحويّ، تظهر العبارتان من صورة واحدة، فالقضيّتان من صورة: موضوع- رابطة – محمول. Subject-copula-predicate ، لكنّنا لو أعملنا فيها التّحليل تبيّن اختلافهما الكبير. فالقضيّة الثانية هي قضيّة حقيقيّة، لأنّها ((قضيّة ذرّية)) ((Atomic proposition))، وهي حمليّة حقيقيّة، فهي ذات موضوع منطقيّ حقيقيّ، وليس موضوعاً نحوياً زائفاً. والقضيّة الحمليّة الحقيقيّة تصدق أو تكذب حسب ما تسنده من محمول مناسب أو غير مناسب للموضوع. وعلى خلاف هذا، فإنّ القضيّة الأولى ((الملك الحالي لفرنسا أصلع)) ليست من صورة القضيّة الأولى منطقياً، فهي ليست قضيّة حمليّة حقيقيّة، لأنّ موضوعها ((الملك الحالي لفرنسا)) ليس موضوعا حقيقياً بالمعيار المنطقيّ، فهو ليس اسم علم أو حدّا جزئياً، بل عبارة عن ((أوصاف محدّدة)) ((defined descriptions))، وبما أنّ الموضوع ذاته موضع إشكال، لزم عنه ضرورة أن يكون الحمل موضع إشكال أيضاً، فليس هناك أيّ حمل حقيقيّ، إذا لم يكن لدينا الموضوع المنطقيّ الحقيقيّ. ولنتذكّر أنّ راسل يفرّق بين العبارات الوصفية ذاتها، فيصنّفها إلى عبارات وصفيّة ((محدّدة)) وعبارات وصفيّة ((غير محدّدة)). فالعبارة: شاعر، فيلسوف، هي وصفيّة ((غير محدّدة))، بينما عبارة: الشاعر الذي كتب الإلياذة، الفيلسوف الذي أعدم بشرب السمّ، هي أوصاف محدّدة. وبما أنّ ((الملك الحالي لفرنسا)) هي وصف مخصوص وليس عامّا، فهي وصف محدّد إلاّ أنّها غير اسم العلم، وبالتّالي فهي ((رمز ناقص)) وليست كالاسم المنطقي، الذي هو رمز تامّ. وبالتّالي فإنّ التضليل النّحوي هو الذي يخدعنا بمظهر يوهم بوجود الموضوع، في حين أنّ الأمر لا يزيد على ((وصف محدّد)). ممّا يحمل على تجاوز هذا التّضليل اللّغويّ النّحويّ بالتّحليل المنطقيّ. وباعتماد هذا التّحليل المنطقيّ للعبارة، وتحويلها إلى صورتها المنطقيّة الصّحيحة، عن طريق استخدام ترميز منطق المحمولات symbolism of the logic of predicates ، فرمزنا بـ م لـ((يكون ملك فرنسا)) وبالرمز ص لـ((يكون أصلعَ))، R for ((to be king of France)), and C ((to be bald))، أمكننا أن نحصل على الصورة المنطقيّة للعبارة السابقة كالآتي:

$x[Rx.Cx. "y(RyÉx=y)]

والتي تعني: يوجد على الأقل م الذي هو ملك فرنسا الحالي والذي هو أصلع، وبحيث أنّه من أجل كل ص الذي يكون ملك فرنسا فإنّ ص يكون أصلع ومماهياً لـ س identical to x.

أمّا لو صغنا العبارة ((لويس الرّابع عشر أصلع)) ((Louis XIV is bald)) فإنّنا نكون أمام تركيب منطقيّ مختلف تماماً، حيث لدينا اسم علم ((لويس الرابع عشر)) فإذا رمزنا له بالثابت الفردي the individual constant ي i كقيمة للمتغير، أمكننا أن نحصل على صياغة منطقيّة للعبارة السّابقة كالتّالي: C(i)

وهنا تتجلّى أهميّة التّحليل المنطقيّ والصّياغة المنطقيّة، بديلاً عن اللّغة العاديّة. فاللّغة العادية النّحويّة أظهرت العبارتين متماثلتين، وصاغتهما كقضيّتين حمليتين، فهما تتضمنان موضوعاً ومحمولاً ورابطة، بينما يزيل التّحليل المنطقيّ وإعادة الصّياغة المنطقيّة هذا الوهم. فما تُوهّم قضيّة حمليّة حقيقيّة يتكشّف كوصل بين عدّة قضايا، وتترتّب عنه فروق هامّة. فالقضيّة الثّانيّة الذّريّة الحملية: ((لويس الرابع عشر أصلع)) إذا صدقت لزم وجود شيء يقابل (ي)، وليس هذا التّركيب المنطقيّ مماثلا لهذا في القضيّة الأولى ((الملك الحالي لفرنسا أصلع))، التي هي وصلٌ بين قضايا، ممّا يجعله لا يتضمّن أيّ لزوم وجود من النّمط السّابق، التي تتضمّنه القضيّة الذّريّة. فالقضيّة الأولى لهذا الوصل، والتي هي xRx تكون صادقة أو كاذبة: إذا ما وجد أو لم يوجد فعلاً على الأقلّ x الذي هو ملك فرنسا، فإذا كانت xRx كاذبة كما هو الواقع التّاريخيّ لفرنسا، التي لا تخضع لنظام ملكيّ، فإنّ كذب هذه القضيّة يجعل الوصل كلّه كاذباً. وبهذه الصّياغة المنطقيّة الدّقيقة نتجنّب التّورّط في الإسراف الأنطلوجي، وتعديد الكائنات، من دون أيّة ضرورة. وهكذا، تقترح نظريّة الأوصاف إعادة صياغة عبارات اللّغة العاديّة بلغة ((المنطق الجديد)) كمنهج لحلّ المشكلات الفلسفيّة.(55)         

وضمن هذا السّياق ينبّهنا راسل إلى ضرورة التّمييز بين الوقائع ((الجزئيّة)) والوقائع ((العامّة))، فمن بين أنواع الوقائع العديدة، توجد وقائع جزئيّة مثل ((هذا أبيض))، وتوجد وقائع عامّة مثل ((كل النّاس فانون))، على الرغم من أنّ هذا التّمييز يجب أن يرافقه إدراك حاجتنا إلى الصّنفين من الوقائع لوصف العالم، ومن الخطأ الجسيم أن نعتقد إمكانيّة وصف العالم بواسطة الوقائع الجزئيّة وحدها.

فهل استطاع راسل أن يؤسّس اختباريته بشكل حاسم؟

4- نقد أطروحة راسل: بالإمكان تسجيل اعتراضات على أساس اختبارية راسل في ثلاثة عناصر أساسيّة على الأقلّ. عنصر المعرفة بالاتصال المباشر، وعنصر القضايا الأوّليّة، وعنصر الاستقراء، وهي عناصر متكاملة في منظومة راسل الابستيمولوجية.

في العنصر الأوّل، ومن جهة أولى، يساورنا الشكّ فيما يسمّيه راسل ((المعرفة بالاتصال المباشر))، هل هي فعلاً معرفة؟ ذلك أنّ ما هو متداول كمضمون يصحّ أن نطلق عليه ((معرفة)) هو فعل الفهم، والتّعرّف على خصائص وطبائع شيء ما، وملامحه المميّزة له، وهذا ما يلخّصه لنا أيّ قاموس لغويّ أو فلسفيّ، بمفردات قد تختلف في كلماتها وألفاظها، وتترادف في النهاية في معناها. وراسل نفسه لا يتناول في بحثه شيئاً غير هذا كمضمون لمصطلحه. ولهذا نعتقد أنّ راسل أطلق اسما على غير مسمّاه الحقيقيّ. فالمعرفة بالاتصال المباشر كما يعرضها راسل نفسه ليست في حقيقتها معرفة، فهي تفتقر إلى الخصائص التي تشترط لما يصحّ أن نسمّيه معرفة، ولو دقّقنا في الاصطلاح المناسب لمضمونها، لوجدنا ما يصدق عليها هو ((الانطباع الحسيّ)) لا أكثر. أمّا المعرفة بالمعنى الدّقيق فتصدق على ما يسمّيه راسل ((المعرفة بالوصف)). وتبرير هذا، أنّ راسل بيّن لنا أنّ ما يعنيه بالمعرفة بالاتصال المباشر هو ما ندركه إدراكاً مباشراً من دون وساطة أيّة عمليّة استنتاجية أو معرفة بالحقائق. ففي حال شيء الذي هو المنضدة، تتمثّل المعرفة بالاتصال المباشر في مظهرها الحسّي، أي هذه الحقائق الحسّية من لون وشكل وصلابة وغيرها، لكن من دون تجاوز هذا المظهر إلى الشّيء المادّي الذي هو المنضدة، فمعرفتنا بالشيء المادّي في هذه القضيّة تكون ((معرفة بالوصف)). ولا نجد المبرّر الذي يجيز لراسل أن يسمي ((معرفة)): مجرّد تلقّي جملة من المعطيات الحسّية، ومن دون إعمال أيّة عمليّة تركيب أو استنتاج، ومن دون توظيف أيّة حقائق، أو معطيات غير هذه المعطيات المباشرة، ومن دون الوصول على تقرير أنّ هذا الشيء هو ((منضدة)). إنّ الذي يقرّره علم النّفس في هذا المجال أنّ ((كلّ معرفة هي تعرّف))، بمعنى أنّ الانطباع الحسّي وحده لا يعطي غير مادة المعرفة، لا المعرفة ذاتها. إنّ هذا الاتصال المباشر يمنحنا المادة الخام، التي تُجرى عليها عمليات ذهنيّة، وتوظّف فيها ملكات أخرى، بدءاً بالذكرة التي تستثمر الخبرة الماضيّة، والتّخيّل الذي يستكمل الصّورة المعطاة، لتتمّ موازنتها بالرّصيد الخبري، ليتم التّعرّف عليها وتصنيفها ضمن الفئة التي تندرج ضمنها، وهو ما نسمّيه فئة ((المناضد)).

 ومن جهة ثانية، نشكّ في إمكانية التّحقّق الواقعيّ لهذه ((المعرفة بالاتصال المباشر))، بهذه الشّروط التي صاغها راسل. ونرى أنّ هذه الصّورة مغاليّة في المثاليّة، إلى درجة تجعلها مجرّد رسم ذهنيّ، لا تجد مقابلها العينّي في الواقع. والملاحظ هنا أنّ راسل نفسه، يقرّ بالصّعوبة التي تعترضه من البداية، في تقرير ما يسمّيه ((معرفة بالاتصال المباشر))، بالكيفيّة التي رسمها، وهو من البداية يقرّ قائلاً عن هذه ((المعرفة بالاتصال المباشر)) أنّها: "تكون بالضّرورة أبسط من أيّ نوع من أنواع معرفة الحقائق، كما أنّها منطقيّاً تكون مستقلّة عنها وإن كان من الشّطط أن نفترض أنّ الإنسان يحصل على معرفة الأشياء العيانيّة، دون أن يعرف في الوقت نفسه أيّة حقيقة عنها"(56 ). وبهذا نخلص إلى أنّ ما يسمّيه راسل بالمعرفة بالاتصال، ليست معرفة بالرّسم الذي صاغها، وإذا تحقّقت كمعرفة تجاوزت رسم راسل، وأصبحت من صنف ((المعرفة بالوصف)) لا ((المعرفة بالاتصال المباشر)). ومن هنا، لا تنجح محاولة راسل تطويع الواقع الفعلي لخطاطته الذّهنية المثاليّة.

أمّا أهمّ ما نسجّله على العنصر الثّاني، وهو القضايا الأوّليّة عند راسل، ندرجه في صعوبات تعترض تصوّر راسل أوّلها صعوبة التّصنيف المنطقيّ.

ذلك أنّ الحديث عن قضايا أوّلية، كما أوضح بوبر، تعترضه صعوبة لا تقلّ عن صعوبة القضايا المركّبة، من حيث أنّ القضايا الأوّليّة ذاتها ليست بالبساطة التي رآها راسل، ولا السّهولة التي تخيّلها بها. وقد بيّن بوبر كيف أنّه: حتّى المفاهيم الفرديّة individual concepts قد لا تكون مفاهيم عناصر element concepts فقط، بل قد تكون مفاهيم فئات أيضاً class concepts، وبالتّالي لا ترتبط بالمفاهيم الكليّة universal بعلاقات عنصر بفئات فقط، بل أيضاً بعلاقة ما تحت- فئة sub-class بالفئة. ويضرب مثال كلبه لوكس، فلوكس ليس عنصراً من فئة كلاب فيينا فحسب، فهو ليس مفهوماً فرديّاً فقط، بل هو أيضاً عنصر من الفئة (الكليّة) للثديات، بمعنى أنّه مفهوم كلّي. وكلاب فيينا بدورها، ليست فقط ما تحت-فئة لكلاب النّمسا، بل هي أيضاً ما تحت-فئة للفئة (الكلّية) للثّديات، ولو تطرّقنا إلى العبارات الفرديّة والكلّية، وعلى الرّغم من أنّنا من الضّروريّ التّمييز بينها، إلاّ أنّ بوبر يؤكّد على أنّ: كل ّ محاولة لتحديد ما هو فرديّ يمرّ حتماً بالإشارة إلى ما هو كلّيّ.(57)

وإذا كانت مراجعة راسل لنسقه الفلسفي ومن ضمنه المنطقيّ، من عناصر قوّة فلسفة راسل، على الرّغم من أنّها من صعوباتها في الوقت ذاته، لتغيّرها المتواصل، إلاّ أنّ هذا لم يمنع من بقاء عناصر فيها لا تصمد في مواجهة النّقد. ومنها هذه العنصر بالذّات. فقد رأى راسل في البداية أنّ الضمير الفردي للمتكلّم ((أنا)) ((I)) هو اسم علم حقيقيّ، بما أنّه يشير إلى المتكلّم نفسه، وبما أنّه بإمكان المتكلّم أن يعرف نفسه معرفة مباشرة. غير أنّ راسل سرعان ما تخلّى عن هذا الموقف، ليرى أنّ هذا الضّمير الفرديّ للمتكلّم ليس اسم علم في الحقيقة، بل هو وصف محدّد، ولم يبق راسل غير الإشاريات، والتي يمكن ردّها إلى الإشارة ((هذا)) ((this))، تمثّل الاسم الحقيقي بالمعنى المنطقيّ الدّقيق(58). لكن هذه المراجعة والتّراجع في موقف راسل لم تنقله إلى وضع حصين، بما أنّ كلّ محاولة لتحديد ما هو فرديّ تعرّج حتماً على ما هو كلّي، كما أسلفنا. فإشارتنا ((هذا أبيض))، التي نشير بها إلى هذا الجزئيّ الماثل أمامنا والتي تتحقّق بها المعرفة المباشرة أو المعرفة بالاتصال المباشر، بمصطلحات راسل، تمرّ بالأبيض وهو كلّي عامّ. ممّا يبيّن أنّ اللّجوء إلى القضايا الأوّليّة البسيطة لا يستوعبها التّصوّر الوضعيّ أو الرّاسليّ، فالأبسط ليس بسيطاً. وإذا سلّمنا مع راسل أنّ ((المنضدة)) تركيب ذهنيّ معقّد ليس ممّا صدق المعرفة بالاتصال المباشر، فإنّ ((هذا أبيض))، وإن كان أقلّ تركيباً وتعقيداً من ((المنضدة)) فإنّه غير بسيط أيضاً، حيث ((أبيض)) حدّ ُكليٌّ يشمل ما صدقه مالا نهاية له من العناصر. وبعض أقطاب الوضعيّة المنطقيّة التي يراها راسل أقرب المذاهب إليه، ساروا في هذا المسلك ولم يجدوا له مخرجاً، وانتهوا إلى الإقرار بفشل مشروعهم. فهذا مواطنه آير (ألفريد جولز) Ayer (Alfred Jules) (1910-1989م) يصف لنا نهاية مشروعهم الذي ابتدأه شليك، فيقول: "لم يقدّر لنا إنجاز عمليّة ردّ القضايا المعقّدة إلى قضايا بسيطة تتحدّث عن المعطيات الحسيّة؛ إنّنا لم نستطع أن نفعل ذلك حتّى بالنّسبة للقضايا البسيطة التي تتحدّث عن علب السّجائر والأكواب ومنفضات الرّماد".(59)

وفي جانب نقد السّيكولوجيا التي يعتمدها راسل في المعرفة بالاتصال المباشر والمعرفة بالوصف، ننطلق من ملاحظة هامّة سجّلها راسل نفسه، ويتناقلها علماء النّفس ودارسوه، وتتلخّص في التّنبيه إلى هذه المذهبيّة التي تشوب الدّراسات في علم النّفس، والتي: تجعل كلّ الحيوانات تسلك السّلوك الذي يتّفق مع الفلسفة التي يعتنقها الشّخص الملاحظ قبلياً قبل أن يبدأ ملاحظته، بل إنّ حيوانات التّجربة هذه أوضحت حتى الخصائص القوميّة لملاحظها. والحيوانات التي أجرى عليها الأمريكيون دراساتهم وتجاربهم تندفع في هياج وبنشاط واستثارة واضحة غير عاديّة، لتصل في النّهاية بالصّدفة إلى النتيجة المنشودة للدّارس الأمريكيّ، أمّا حيوانات الملاحظ الألماني فتسلك على عكسها، فهي تقف ساكنة وتفكّر، لتصل في النّهاية إلى الحلّ المنشود الذي يكون بعيداً عن شعورها(60). وملاحظة راسل القيّمة هذه تصدق على السيكولوجيّة التي تبنّاها هو أيضاً، فهي سيكولوجيا تستجيب لاتّجاهه التّجريبيّ الوضعيّ، فيأخذ منها ما يلائم، ويقوم بقصّ كلّ ما يتجاوز قالبه المذهبي، لتطابق هذا القالب تمام المطابقة.

ونفيد من بوبر ملاحظات ثمينة في نقد المعرفة بالاتصال المباشر عند راسل، وهي ملاحظات يعضّدها علم النّفس المعاصر، التي جبّت التّصوّرات السّلوكيّة التي يعتمدها التّجريبيون والوضعيون، ويتبنّاها راسل.

وأولى هذه الملاحظات البوبريّة التي نستثمرها في نقد راسل، ومن خلالها التّجريبية إجمالاً: استحالة الملاحظة الخالصة. إنّ تصوّر راسل المعرفة بالاتصال المباشر بالجزئي، والذي يمنحنا الصّدق، لكونه ليس استدلالا يتسرّب إليه الخطأ هو تصوّر مثاليٌ ينقضه الواقع. حيث يرشدنا الواقع في الإدراك الحسّي إلى أنّ كلّ ملاحظة مسبوقة بنظريّة ما، أو فرضيّة قبليّة توجّهها، ومن غير نظريّة أو فرضيّة قبليّة لا يمكن قيام أيّة ملاحظة. وعلى عكس ما يزعمه التّجريبيون الذين يعتمدون المنهج الاستقرائي، فينطلقون من الملاحظة كخطوة أولى لتحصيل المعرفة، يؤكّد بوبر على أنّه: "لا يوجد شيء من قبيل الملاحظة الخالصة، أي ملاحظة من دون مكوّنات نظريّة، كلّ ملاحظة - وخصوصاً كلّ ملاحظة تجريبيّة - هي تأويل لوقائع في ضوء نظريّة أو أخرى"(61)، ومن هنا يغدو تصوّر الملاحظة المباشرة، أو المعرفة بالاتصال المباشر الذي يؤمّن لنا الصّدق بالنّقل الأمين للواقعة المقابلة لحواسّنا، تصوّراً متجاوزاً ومتهافتاً، فهو أقرب إلى التّصوّر الكلاسيكي منه إلى المكتشفات المعاصرة، في مجال الإحساس والإدراك، والتّربيّة والتّعليم. وهذا يصدق على الملاحظة العاديّة، كما يصدق أيضاً على الملاحظة العلميّة.

والمأخذ الثّاني الذي نسجّله على تصوّر راسل، وهو مكمّل ومرتبط بالأول، هو عدم وجود الملاحظة السّلبيّة أو الإدراك السّلبي. فالتّصوّر الذي يرسمه راسل للمعرفة بالاتصال المباشر، كتلقٍ سلبيٍّ محايد، يضمن الصّدق ويبرّر الثقة التي نمنحها لها وحدها، دون المعرفة غير المباشرة الاستدلالية، هو تصوّر لا يصمد للنّقد أيضاً. إنّ هذا يضع سيكولوجية راسل على خطّ التّقليد الإنجليزي، الذي رسمه لوك (جون) (John) Locke (1652-1704م). حيث يقدّم لوك تصوّرا للفكر الإنساني كصفيحة بيضاء ((tabula rasa))، كشيء سلبي منفعل passive، وليس إيجابياً فاعلاً، فهو: يتلقّى بنيته ومضمونه من النّشاط الحسّي، ومن التّرابطات associations المتنوّعة، فالفكر يفعل ما يُفعل به، وهو يردّ على منبهات الوسط، ويتطوّر بواسطة ترابطات العناصر البسيطة. وهو تصوّر لم يرض عنه حتّى فلاسفة عصره، ومنهم الألمانيان لايبنتز (غونفريد ويلهام) (1646-1716م) وكانط (إيمانويل) Kant (Emmanuel) (1724-1804م)، حيث نجد خطّا موازياً معاكساً، يمتدّ إلى توجّهات معاصرة وفلاسفة وعلماء نفس معاصرين، مثل ستيرن (ويليام) Stern (William) (1871-1938م)، وألبورت (غوردن ويلارد)  Allport (Gordon Willard)(1897-1967م)، حيث الفكر والشخصيّة لا يتصوّران كوسط تجري فيه الإحساسات والأفعال، بل هو مصدر هذه النّشاطات(62). وهذا من أثمن ما أخذت به التّربيّة والبيداغوجيا المعاصرتان. فالتّصوّر الكلاسيكي الذي صوّر المتعلّم كوعاء فارغ يتلقّى بسلبيّة معارفه ومكتسباته من الخارج والوسط، أصبح منبوذاً مع مرور الزّمن، وإذا تحدّث عنه المربّون والبيداغوجيون اليوم، فلمتابعة التّطوّر التّاريخي، أو للتنبيه إلى ما يجب تجنّبه والتّحذير منه.

بل إنّنا لو أوغلنا أكثر في النّقد، فإنّنا نسجّل مع الدّارسين هذه اللّوحة الكئيبة للإنسان، التي رسمتها له الاتجاهات السّائدة، كالاتجاه التّرابطيّ والسّلوكي والتّحليل النفسي، فتشوّهه وتمزّق أوصاله التّرابطيّة الذّرّيّة، وتضعه تحت قدريّة القوس الانعكاسي السّلوكيّة، كما يسلمه التّحليل النّفسيّ  الفرويدي إلى اللّيبيدو، هذا العنصر المظلم الغريزي اللاشعوري الذي يسيّرنا، حتى من دون درايتنا به. وهذا ما حتّم ظهور ما يسمّى ظهر اتّجاهات معاكسة، مثل علم النّفس الفهم Comprehensive psychology، وعلم النّفس الإنسانيّHumanistic psychology، وعلم النّفس الإيجابي (لا بالمعنى الوضعيّ) Positive psychology، التي حاولت تصحيح المسار، والعودة إلى المنطلق الصّحيح. فقد انتقد ديلتاي (ويلهام) Dilthey (Wilhelm) (1833-1911م) علم النّفس في عصره، فقد وجده لا يأخذ في الحسبان الظّواهر الإنسانيّة الأكثر أهميّة، ولذا وجب أن يحلّ محلّه علم النّفس الفهم، الذي هو قادر على تحليل الحياة النّفسيّة دون أن يشوّهها(63).كما انتقدوا أقطاب علم النّفس الإنسانيّ السّلوكيّة والتّحليل النّفسيّ، وبيّنوا محدوديتهما، وإهمالهما لأهمّ ما ينبغي معرفته، مثل القيم، والحريّة، والحبّ، والإبداع، والوعي بالذّات، وقدرة الإنسان(64). وبهذا الانشغال أيضاً تحرّك رواد علم النّفس الإيجابي، فنادوا بضرورة العودة إلى المنطلق الصّحيح لعلم النّفس، والذي بدأ في كتابات أفلاطون وأرسطو، اللّذين أقاما البناء على الطّبيعة الإنسانيّة، بالصّورة الإيجابيّة التي رسمها لها أرسطو، فولادة علم النّفس الإيجابي جاءت كردّ معاكس لطغيان علم النّفس المرضي. ومن هذا المنظور أدرك تشيكسنتمهالي (مهالي) Csikszentmihaly (Mihaly) (1935م-  ) خطورة طغيانه، وحاجة أوروبا إلى علم نفس إيجابي بديل، مؤكّداً على أنّ مهمّة علم النّفس ليست مجرّد دراسة للأمراض والأضرار، بل مهمّة علم النّفس أيضاً هي: دراسة القوى والفضائل، والمعالجة ليست فقط إصلاح ما انكسر، بل أن نربّي ما هو أفضل، وأن نتنبّأ بالاختلالات المستقبليّة. (65).

والملاحظة الثالثة التي نسجّلها على راسل هو هذه الذّريّة والتّجزيئيّة التي تطبع مذهبه، وتشمل تصوّراته المتضمّنة فيه، ومنها تصوّره للمعرفة بالاتصال المباشر. وهذا أيضاً يجعلنا أمام خطّين متوازيين متعاكسين، خطّ التّقليد الإنجليزي – الأمريكي، والخطّ الأوروبّي، وقد أوجز لنا بعض الدّارسين، ومنهم ألبورت، أهمّ المتقابلات بين الرّؤيتين. والذي يهمّنا هنا هو رؤية الكلّ وأجزائه. فرؤية راسل تقف على الخطّ الإنجليزي- الأمريكيّ، الذي يمنح الأهميّة لأجزاء الكلّ، كالسّمات traits، والميول، والعوامل، والأعراض. بينما الوحدة والكلّية تُعتبر ثانويّة، وتُتصوّر كنتيجة لتفاعلات الأجزاء، وأكثر من هذا، يحاولون أحياناً نفي وحدة الشّخصية وكلّيتها، أو يردّون الفرد إلى مجرّد ما يراه الغير، من ثبات واستقرار المنبّهات والوضعيات والاتصالات بين الأشخاص. وهذا التّصوّر على نقيض التّصوّر الأوروبّي الذي يجعل الكلّ مقدّماً على أجزائه، وعن طريق هذا الكلّ نميّز أجزاءه عن طريق التّحليل، وأنّ للفرد وحدته الخاصّة(66).

وقد خلق هذا الاتجاه التّجزيئيّ نقّاداً وخصوماً كثيرين. من فلاسفة ونفسانيين ومدارس نفسيّة. وفي مقدّمتها المدرسة الشّكلانيّة  School of the Gestalt والمدرسة الكلّيانيّة Holist School. وتتقاسم المدرستان الفكرة القائلة أنّ التّفكيك the decomposition التّحليليّ للظّواهر المركّبة هو نهج عقيم(67). فالمدرسة الجشطلتيّة في برلين، بزعامة كوهلر (فولفانغ)(Wolfgang)  KÖhler (1887-1967م) وفريتهيمر (ماكس) Wertheimer (Max) (1880-1943م)، عاكست التّوجّه السّائد. وألحّت على أسبقيّة الكلّ على الأجزاء، وأكّدت على أنّ الأجزاء تتحدّد بالكلّ الذي تنتمي إليه، وأنّ هذا الكلّ هو المعطى أوّلاً في الإدراك، ويسبق إدراك العناصر الجزئيّة. وأبرزت دور الاستبصار في التّعلّم. والمدرسة الكلّيانيّة، كما يمثّلها أنصار علم النّفس الإيجابي أو الإنساني، يقف أيضاً على امتداد هذا الخطّ الشّكلاني. متمسّكاً بكون فهم الكائن الإنساني يكون أفضل إذا ما اعتبر ككلّ مندمج ومنظّم، وليس سلسلةً من أجزاء مختلفة، وأنّ العضويّة كلّها تحفّز وليس جزءاً منها كالدّماغ أو المعدة، وفي التّصوّر الكلّيانيّ، إنّ ما يستثير جزءاً من الشّخص يستثير الشّخص كلّه، فالذي يشتهي الطّعام هو الشّخص، وليس معدة هذا الشّخص.(68)

5- النتيجة: نستنتج ممّا سبق، أنّ التّجريبية المعاصرة، لم تستطع تجاوز صعوبات التّأسيس، والتي أشار إليها حتّى روادها الكلاسيك، الذيّن رسّخوا تقليدها، وفي مقدّمتهم هيوم (دافيد) ، والذي أغنى حتّى خصوم التّجريبيّة عن التّنقيب وكشف مواضع الوهن في أساسها ومرتكزاتها، بدءاً من إثباته الخلل المنطقيّ في الاستقراء، الذي تقوم عليه التّجريبيّة، وتبيينه أنّ هذا الاستقراء المعتمد لا يمكن تبريره لا عقلاً ولا تجربة، وأنّ كلّ ما نكتشفه بعد تتبّع جذوره إلى الأصل الذي يصدر عنه، لم نجده أكثر من عنصر نفسيّ هو العادة. كما أنّ السّببيّة التي نعتمدها مبدأ في التّفسير، إذا ما فحصناها وجدناها لا تزيد على الإقران الزّمانيّ، وكلّ تجاوز لهذا الفهم، كالحديث عن السّببيّة بمعنى الإحداث والخلق والإيجاد، هو مجرّد اعتقاد لا يجد له مبرّراً، لا في العقل ولا في التّجربة، وأنّنا لو كنّا صارمين وأمناء مع الحقيقة، فإنّنا لا يمكننا القول بوجود غير هذه الأفكار التي في أذهاننا، ولا يمكننا أن نخطو خطوة واحدة خارج الذّات. وراسل نفسه تعرّض لمشكلة الاستقراء وأقرّ صعوباته، كما أقرّ بوجاهة النّقد الهيوميّ وثمّنه، على الرّغم أنّ راسل لم يجد بديلاً للاستقراء يُؤخذ به بديلاً عنه، كمنهج للعلم. فمن هذا الباب، لا يمكن أن تجد اختبارية راسل مخرجاً لها، فليس بوسع الاختباري أن يبرّر التّجريبية، مثلما لا يمكن للاستقراء أن يؤسّس الاستقراء. وإذا كان راسل قد وجّه نقداً موضوعياً إلى أصدقائه من الوضعيين المنطقيين، شارحاً أنّ ((مبدأ التحقيق)) الذي جوهر مذهبهم، وسلاحهم في محاربة الميتافيزيقا هو في ذاته غير قابل للتّحقيق، فهو بدوره ميتافيزيقا. وجوهر هذا النّقد ينقلب على راسل نفسه، وينطبق على اختباريته التي عرضها.

إنّ راسل حينما يؤسّس للمعرفة بالاتّصال بالمباشر، ويتوقّف عند القضايا الأولية (الذّريّة)، محتجاً بأنّ المواصلة إمّا أن توقعنا في تراجع لا نهائيّ لا مخرج منه. وإمّا أن تجعلنا نعكس المطلوب، فنحقّق الأكثر قوّة بالأضعف، هي عند الفحص حجة مردودة.

فمن جانب أوّل، إنّ مراجعة طرح راسل يكشف شيئاً من عدم الاتساق، في مسألة القضايا الذّريّة، واعتبارها أكثر القضايا قوّة في الصّدق. فقد أسلفنا أنّ راسل رأى ضمير المتكلّم ((أنا)) اسما حقيقياً، ثم تراجع ليراه مجرّد وصف، ليُبقي الإشارة ((هذا)) وحدها اسماً حقيقياً. وهنا نتساءل: كيف تكون الإشارة إلى شيء خارجيّ أقوى صدقاً من الإشارة إلى الذّات؟ إنّ معيار الاتصال المباشر، الذي أخذ به راسل يتوافر في معرفة الذّات وعناصرها، أكثر ممّا يتوافر في العالم الخارجي وأشيائه، ومع أنّ راسل لا ينكر شكّيّة هيوم، إلاّ أنّه لم يتحمّل نتائج مذهبه إلى نهايتها، مثل هيوم، ولو فعل لوصل مثل هيوم إلى أنّنا في المعرفة، لا يمكن تجاوز حدود ذاتنا، ولا يمكن أن ندرك في النّهاية غير أفكارنا.

ومن جانب ثانٍ، إنّ التّوقّف عند القضايا الذّريّة، وإعفاء هذه القضايا من التّحقيق، هو قرار لا يستند إلى أيّ تبرير تجريبيّ، كما لا يجد أيّ سندٍ منطقيّ. ممّا يجعل هذا الاختيار خارج حدود مذهب راسل وتجريبيّته المنطقيّة. والاختيار هنا أقرب إلى البراغماتيّة، التي تختار بمعيار النّجاح العمليّ، وهو بحكم مذهبه لا يمكنه القول ببداهة هذه القضايا ووضوحها الذّاتيّ. كما لا يمكنه القول بالواقعيّة السّاذجة التي سفّهها. ومهما كان المسلك الذي أخذ به راسل، من بين هذه الاختيارات كمخرج من مشكلة التّأسيس، ومهما كانت قيمة المقترح-الحلّ الذي يقدّمه، فقد اضطرّ إلى الخروج عن مذهبه التّجريبيّ، الذي ارتضاه دون المذاهب الأخرى، التي تفنّن في انتقادها، وفي مقدّمتها العقلانيّة والبراغماتيّة، والواقعيّة السّاذجة.

والحقيقة أنّ هذه الصّعوبة لا تخصّ مذهب التّجريبيّة وحدها، بل تقع فيه التّفسيرات الأحاديّة، التي تكتفي في التّفسير بالعنصر الواحد وتنغلق عليه، مقصيّة كلّ إمكان آخر. ومن هنا ينسحب هذا النّقد على التّجريبيّة والوضعيّة، والعقلانيّة والبراغماتية، والمواضعاتيّة والمذاهب الأحاديّة الأخرى.

غير أنّ ما يخصّ التّجريبيّة والوضعيّة التي يتعاطف معها راسل، هو أنّ التّأسيس للتّجريبيّة غير ممكن تجريبياً، وهذا ما يحتّم على التّجريبيّ والوضعيّ أن ينقر هذه القوقعة التّجريبيّة التي أغلق فيها على نفسه، فقد وجد نفسه أمام اختيارين أحلاهما مرّ: فهو إمّا أن يبقى وفيّاً لتجريبيته ملتزماً بها، وفي هذه الحالة، لا يمكنه أن يؤسّس لها. وإمّا أن يتجاوز حدود تجريبيته بحثاً عن أساس آخر، فيتخلّى عن هذه التّجريبيّة، وهذا لا يعانيه العقلانيّ، الذي يسلّم منذ البداية بالقبليات غير الحسّية، ويؤسّس من المنطلق بما يتجاوز التّجربة.

وإذا كان راسل قد وجد في التّرابطيّة والسّلوكية وعلم النّفس التّجريبيّ عموماً، ما يسند تجريبيّته الإستقرائيّة، وتمكّنه من تقديم مذهب تجريبيّ متّسق، يتفادى التّلفيق، إلاّ أنّنا لو تأملنا معروضه من قريب، وجدناه لا يسلم أيضاً من النّقد ذاته الذي يوجّهه إلى علماء النّفس، فسجّل عليهم حملهم ملاحظاتهم على قناعتهم القبليّة، وإلباسها مذبهم الخاصّ. وراسل وقع أيضاً فيما انتقده. إذ في معالجة المعرفة والإدراك الحسّي، نجده يفصّلهما على مقاس ذرّيته المنطقيّة، ويتعامل معها تعامل بروكسريستس Procrustes مع ضيوفه في الأسطورة اليونانيّة، الذي كان يلقي ضيفه على سريره، ولابدّ أن يطابقه تمام المطابقة، فإن قصر على مقاس السّرير مدّه، وإن زاد عليه قطع الأجزاء الزّائدة. فحسب راسل: يعطينا التّحليل المنطقيّ القضيّة الذّريّة أو البسيطة والقضيّة المركّبة، والمركّبة ترتدّ إلى الذّرّيات، كان ما يقابلها في الإدراك الحسّي من معرفة بالاتصال المباشر، المتّصفة بالبساطة، وتترجمها القضايا الذّريّة، بينما القضيّة المركّبة تترجم الإدراك الحسّي المركّب، والذي يتضمّن عمليات ذهنيّة من استدلال، والتّركيب من البسائط، وهي معرفة بالوصف. وكلّ هذا وجدناه فرضاً متعسّفاً للمذهب الفلسفي على المنطق والإدراك الحسّي. فقد تبيّن أنّه لا وجود للبساطة التي يقول بها راسل، لا على المستوى المنطقيّ، حيث يمرّ الجزئي الخاص ضرورةً بالكلّي والعام. كما لا وجود لهذه الذّريّة والبساطة في المستوى السّيكولوجيّ، حيث لا توجد معرفة بالبساطة التي تحدّث عنها راسل. إذْ حيث لا عمليات ذهنيّة ولا أحكام واستدلالات لا معرفة. وهذا يصدق على المعرفة أيّاً كانت بالاتصال المباشر أو معرفة بالوصف، فالفرق بين المعرفتين هو فرق في درجة التّركيب والتّعقيد، وليس فرقاً بين البسيط والمركّب.

 ومن هنا لا تجد تجريبيّة راسل أساساً صلباً تُقام عليه، رغم جدّة الطرح، والاستنجاد بالعلوم المعاصرة، بدءاً بعلم النّفس، والمنطق الجديد، فبقيّت هذه التّجريبيّة تراوح مكانها في مسألة التّأسيس، غير قادرة على تجاوز الصّعوبات، التي أثارها الأنصار والخصوم على حدّ سواء، ممّا يبيّن أنّ المشكلة صميميّة، ويكشف عجزاً في التّجريبيّة ذاتها.


  

الهوامش

1. راسل (برتراند)، سيرتي الذاتية، ترجمة عبد الله عبد الحافظ وآخرون، مراجعة شوقي السكري، دار المعارف بمصر، القاهرة، د ط، د ت، ج1، استهلال، ص.201.

2.Vignaux (Paul) (2004), Philosophie au Moyen Age : précédé d'une introduction autobiographique, et suivi d’Histoire de la pensée médiévale et problèmes contemporains, Librairie Philosophique J. Vrin, Paris, France, s é, pp. 163-164.

3. Saisset (Émile Edmond) (1862), Précurseurs et disciples de Descartes, Didier et cer, Libraires Editeurs, Paris, France, deuxième édition, p. 15.

4.Saisset, op. cit., p. 34.

5. راسل (برتراند) (2008النظرة العلمية، ترجمة عثمان نوية، مراجعة إبراهيم حلمي عبد الرحمن، سلسلة مكتبة نوبل، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، سورية، الطبعة الأولى، ص. 18.

6.المصدر نفسه، ص. 35.

7. لمصدر نفسه، ص. 465.

8..Cyrille (Barrette) (2006), Mystère sans magie : science, doute et vérité : notre seul espoir pour l’avenir, Editions MultiMondes, Québec, Canada, s é, p. 106.

9.Ibid, p. 94.

10.Benmakhlouf (Ali) (2004), Russell, collection Figures Du Savoir, Editions Les Belles Lettres, Paris, France, s é, Introduction, p. 29.

11.راسل (برتراند)، سيرتي الذّاتية، المصدر السابق، ص. 53.

12.راسل، المصدر نفسه، ص ص. 14-17.

13.المصدر نفسه. ص. 37.

14.محمود (زكي نجيب) (1990نافذة على فلسفة العصر، سلسلة الكتاب العربي، الكتاب السابع والعشرون، الكويت، ص. 122.

15.راسل (برتراند) (1990م)، تحليل العقل، ترجمة عبد الكريم ناصيف، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، سورية، الطبعة الأولى، 2016، ص. 122.

16.المصدر السابق، المدخل، ص ص. 5-6.

17.Benmakhlouf (Ali) (1996), Bertrand Russell, l’atomisme logique, collection Philosophies, PUF, Paris France, s é, p. 13.

18.). ماهر (عبد القادر محمد) في: راسل (برتراند) (1998فلسفة الذرية المنطقية، ترجمة وتقديم ماهر عبد القادر محمد، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، مصر، د ط، المقدمة، ص. 12.

19.Cangolo (Marie-Claire) (2006), La philosophie, Editions Le Cavalier Bleu, Paris, France, s é, p. 44.

20.Dhilly (Olivier) (2007), Les grandes figures de la philosophie : Les grands philosophes de la Grèce antique au XX siècle, édition L’Etudiant, Paris, France, s é, p. 147.

21.Dhilly (Olivier) (2008), Comprendre la philosophie, édition L’Etudiant, Paris, France, s é, p. 396.

22.Le ny (Marc) (2009), Découvrir la philosophie contemporaine, Groupe Eyrolles, Paris, France, s é, p. 50.

23.راسل (برتراند) (د ت)، سيرتي الذاتية، ترجمة عبد الله عبد الحافظ وآخرون، مراجعة شوقي السكري، دار المعارف بمصر، القاهرة، د ط ، ج1، استهلال، ص 7.

24.Le ny, ibid, p. 50.

25.Sackur (Jérôme) (2005), Formes et faits : analyse et théorie de la connaissance dans l'atomisme logique, Librairie philosophique J. Vrin, Paris, France, s é, p. 215-216.

26.راسل. تحليل العقل، مصدر سابق، ص. 117.

27.محمود، نافذة على فلسفة العصر، مرجع سابق، ص. 120.

28.Sackur, ibid, la marge de pp. 216-217.

29.راسل، مشكلات الفلسفة (2016)، ترجمة: سمير عبده، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى، الفصل الخامس، ص ص.51-64.

30.المصدر نفسه، ص ص. 51-52.

31.محمود، نافذة على فلسفة العصر، مرجع سابق، ص. 123.

32.رسل، مشكلات الفلسفة، مصدر سابق، ص. 53.

33..المصدر نفسه، ص. 58.

34.محمود نافذة على فلسفة العصر، المصدر السابق. ص. 123.

35.راسل مشكلات الفلسفة، مصدر سابق، ص. 64.

36.محمود نافذة على فلسفة العصر، المصدر السابق. ص. 123-124.

37.Verna (Denis) (2005), La philosophie mathématique de Bertrand Russell, Librairie philosophique J. Vrin, Paris, France, s é, p. 55.

38.راسل، بحث في المعنى والصّدق (2013)، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، مراجعة المنظّمة العربيّة للتّرجمة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ص. 429.

39.المصدر السابق، ص. 436.

40.المصدر نفسه، ص ص. 456-457.

41.راسل، سيرتي الذاتيّة، مصدر سابق، ص ص. 225-226.

42.راسل، أصول الرياضيات (د ت)، ترجمة محمد مرسي أحمد وأحمد فؤاد الأهواني، سلسلة مكتبة دراسات فلسفية، دار المعارف بمصر، القاهرة، الطبعة الثانية، ص. 13.

43.المصدر السابق، ص ص. 12-13.

44.Soutif (Ludovic) (2011), Wittgenstein et le problème de l'espace visuel : phénoménologie, géométrie, grammaire, Librairie philosophique J. Vrin, Paris, France, s é, p. 47.

45.وود (آلان) (1984برتراند راسل بين الشك والعاطفة، ترجمة: رمسيس عوض، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ص ص. 62-63.

46.راسل. بحث في المعنى والصّدق، مصدر سابق، ص.65.

47.المصدر نفسه، ص ص.35-36.

48.راسل، مصدر سابق، ص.

49.راسل (برتراند) (1998فلسفة الذّريّة المنطقيّة، ترجمة وتقديم ماهر عبد القادر محمد، دار المعرفة الجامعيّة، الإسكندرية، مصر، د ط، ص ص. 32-33.

50.راسل، ما وراء المعنى والحقيقة، مصدر سابق، ص ص. 34-35.

51.راسل، فلسفة الذرية المنطقية، مصدر سابق، ص. 37.

52.Benmakhlouf, Bertrand Russell, op. cit., p. 54.

53.). راسل، فلسفة الذرية المنطقية، ص ص. 55-57.

54.D’après : Malherbe (Jean-François) (1981), Epistémologies anglo-saxonnes, Presses universitaires de Namur, Belgique, 1re édition, p. 38.

55.Rossi (Jean-Gérard) (2002), La philosophie analytique, Le Harmattan, Paris, Frace, 3me édition, pp.19-25.

56.راسل مشكلات الفلسفة، مصدر سابق، ص. 51.

57.Popper, La logique, op.cit., p p. 63-65.

58.Vernant (Denis) (1986), Introduction à la philosophie de la logique, collection Philosophie de langage, Pierre Mardaga, Editeur, Bruxelles, Belgique, s é, p. 80.

59.آير (ألفريد جولز) (1988الوضعية المنطقيّة وتركتها. في: ماجي (براين)، رجال الفكر، مقدّمة للفلسفة الغربيّة المعاصرة، ترجمة وتقديم نجيب الحصادي، منشورات جامعة قان يونس، بنغازي، ليبيا، الطبعة الأولى، ص. 262.

.60.عامود (بدر الدين) (2001علم النفس في القرن العشرين، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا، د ط، ص. 15.

61.بوبر (كارل) (2003 أسطورة الإطار في دفاع عن العلم والعقلانيّة، تحرير مارك أ. نوترنو، ترجمة يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت، العدد 292، ترجمة يمنى طريف الخولي، ص. 116.

62.Huber (Winfrid) (1977), Introduction à la psychologie de la personnalité, collection Psychologie et sciences humaines, Editions Mardaga, Bruxelles, Belgique, septième édition, pp.16-17.

63.Van Raillaer (De Jacques) (1980), Les illusions de la psychanalyse, collection Psychologie et sciences humaines, Editions Mardaga, Bruxelles, Belgique, quatrième édition, p. 40.

64.Bouchard (Marc-André) (1990), De la phénoménologie à la psychanalyse : Freud et les existentialistes américains, Editions Pierre Mardaga, Bruxelles, Belgique, s é, p. 24.

65.Mehran (Firouzeh) (2012), Psychologie positive et personnalité : Activation des ressources, collection Médecine et psychothérapie, Elsevier Masson, Paris, France, s é, pp. 2-3

66.Ibid, p. 17.

67.Ganet (Frank) et Déret (Dominique) (2003), Raisonnement et connaissances : un siècle de travaux, Le Harmattan, Paris, France, s é, p. 28.

68.Reeve (Johnmarshall) (2017), Psychologie de la motivation et des émotions, traduction de Rob Kaelen, révision scientifique de Frédéric Nils, préface de Robert J. Vallerand et Fabien Fenouillet, De boeck Supérieur, Paris, France, 2e édition, p. 466.

@pour_citer_ce_document

لخضر قريسي, «مأزق تأسيس التّجريبية المعاصرة: أنموذج راسل.»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 137-153,
Date Publication Sur Papier : 2019-06-24,
Date Pulication Electronique : 2019-06-24,
mis a jour le : 24/06/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=5772.