مقدمة
لم يعد اهتمامالمجتمع الدولي بظاهرة الفساد بالأمر الجديد، نظرا لما يسبّبهالفساد من مخاطر ومشاكل على استقرار المجتمعات وأمنها، ولصلته بأشكال الجريمة وخصوصا الجريمة المنظّمة،والجريمة الاقتصادية بما فيها غسيل الأموال.
ولكون الفساد يهدّدكيان الدول واستقرارها السياسي والتنمية المستدامة لتعلّقهبقيم هائلة من الموجودات، يمكن أن تمثّلنسبة كبيرة من موارد الدول، وكون الفساد لم يعد ظاهرة وطنية محليّةبل هو ظاهرة عابرة للحدود، إذ لا تقتصر آثاره على الدولة الواحدة بل قد تمتدّإلى أكثر من إقليم، ترجم هذا الاهتمام من خلال بلورة مجموعة من الأطر القانونية الدولية في شكل من الأشكال
وعليه ارتأينا طرح الإشكالية التالية: فيما تتمثّلآليات التعاون الدولي في مكافحة الفساد؟
وللإجابة على هذه الإشكالية اعتمدنا المنهج التحليلي والوصفي، وذلك بوصف وذكر آليات التعاون الدولي ومستوياته، ثم تحليل هذه الآليات لتقييم مدى نجاعتها ومواطن النقص فيها.
أولا: آليات التعاون القضائي
ثانيا: تقييم آليات التعاون القضائي في مكافحة الفساد
ثالثا: آليات التعاون المؤسّساتي
أولا: آليات التعاون القضائي
على اعتبار أنّجرائم الفساد من الجرائم العابرة للحدود فإنّملاحقة مرتكبيها تتطلّبتعاونا قضائيا إجرائيا بين الدول لتفعيل التعاون التشريعي من خلال عدّةآليات، كما نصّت اتفاقيةالأمم المتحدة لمكافحة الفساد على مجموعة من الآليات للتعاونالدولي، يمكن تقسيمها إلى آليات تعاون قضائي، وتعاون قانوني1.
1_ المساعدة القانونية: وتُعدّعنصرا رئيسيا في استراتيجية مكافحة الفساد نصّتعليها اتفاقية الأمم المتحدة2في المادة 46منها أما المشرّعالجزائري فنصّعليها ضمن المادة 69من القانون 06-01المعدّل والمتمّموهي على صورتين:
_أ_ المساعدة التلقائية (التعاون الخاص): هي المساعدة التي تقوم بها الدولة طواعية لصالح دولة أخرى دون أن يكون ذلك بناءًعلى طلب موجّهمن هذه الأخيرة إذا تبيّن أنّهاتساعدها على إجراء متابعة أو تحقيقات قضائية.3
_ب_ المساعدة بناءًعلى طلب: وهي الإطار الإجرائي للتعاون القضائي، وتتمثّلفي التعاون بين الدول في مرحلة الاستدلال، التحقيق والمحاكمة.4
وهذه الصورة الغالبة في مجال التعاون القضائي والتي تقدّملغرض الحصول على أدلة أو أقوال شخص، وتبليغ مستندات قضائية، وتنفيذ عمليات التفتيش أو الحجز أو التجميد، وفحص الأشياء والمواقع، وتقديم أصول المستندات أو السجلات ذات الصلة، بما فيها السجلات الحكومية أو المصرفية أو المالية، أو سجلات الشركات والمنشآت التجارية، ولا يجوز للدول الأطراف أن ترفض تقديم المساعدة القانونية المتبادلة بحجة السرية المصرفية.5
01_2_ القيود الواردة على استخدام الأدلة المتبادلة: وضعت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد قيودا على استعمال المعلومات والأدلة المتأتية في إطار المساعدة القانونية، وتتمثل في:
_ الاستعمال المقيد للمعلومات: لا يجوز للدولة الطالبة أن تنقل المعلومات أو الأدلّةالتي تزوّدهابها الدولة الطرف متلقية الطلب أو أن تستخدمها في غير التحقيقات المذكورة في الطلب دون موافقة مسبقة من الدولة الأولى إلا إذا كانت هذه الأدلة من شأنها تبرئة متهم ما6.
_ الحفاظ على سرية الطلب ومضمونه: يجوز للدولة الطرف الطالبة أن تشترط على الدولة متلقية الطلب أن تحافظ على سرية الطلب ومضمونه باستثناء القدر اللازم لتنفيذه، وإذا تعذر على هذه الأخيرة الالتزام بالسرية وجب عليها إبلاغ الدولة الطالبة بذلك على وجه السرعة7.
01_3_ رفض طلب المساعدة القانونية: أوردت المادة 46فقرة 21من اتفاقيةالأمم المتحدة لمكافحة الفساد عددا من الحالات التي يجوز فيها للدولة متلقية الطلب رفض تقديم المساعدة القانونية، وهي:
_ سبب شكلي: عدم تقديم الطلب وفق الشكل المطلوب.
_ سبب سياسي: في تنفيذ الطلب مساس بسيادة الدولة وأمنها ونظامها العام ومصالحها8.
_ سبب قانوني: إذا كان الإجراء المطلوب محظوراعلى سلطات الدولة، وانتفاء ازدواجية التجريم.
ويشترط في حالة رفض تقديم المساعدة القانونية تسبيب الرفض9.
كما أنّالأسبابالمذكورة أعلاه فضفاضةواسعة، وبالتالي فالمساعدة القانونية أفرغت من محتواها بمنح سلطات الدولة المطلوب منها كامل السلطة التقديرية في رفض وقبول الطلب خاصة منها السبب السياسي، ومبدأ المعاملة بالمثل أن نجد الدولة المطلوب منها المساعدة ترفض الطلب لعدم قبول الدولة الطالبة لمساعدتها في وقت مضى، وهذا من شأنه إعاقة تحقيق التعاون10.
2_ تسليم المجرمين: إنّقضية تسليم المتهمين قضية عالمية تشغل بال القضاة وخبراء القانون، لذلك سعت عدة دول إلى عقد اتفاقاتمع دول أخرى لضمان استرجاع حقوقها، من خلال تسليم واسترجاع المتهمين، فيعتبر تسليم المجرمين من أهمّالآليات القضائية للتعاونالدولي في مجال مكافحة الفساد والقضاء على الجرائم المالية، ويقصد به مجموعة من الإجراءات القانونية التي تهدف إلى قيام دولة بتسليم شخص متّهمأو محكوم عليه إلى دولة أخرى لكي يحاكم بها، أو ينفذ الحكم الصادر ضدّهبعد محاكمته، كما يعدّالتسليم من أهمّالصور الحديثة والأكثر أهمية في مجال التعاون القضائي بين الدول من أجل القبض على المتهمين وامتثالهم أمام القضاء11.
ويقتضي تسليم المجرمين وجود علاقة بين دولتين أو أكثر بمناسبة جريمة ما ترتكب في إقليم إحدى الدول، ووجود ذلك المتّهمعلى إقليم دولة ما يفترض منها تسليمه للدولة المتضرّرةمن تلك الجريمة التي ارتكبها، هذا التسليم يقوم على معاهدات دولية، أو اتفاقاتثنائية بين الدول المعنية12.
كذلك بالرجوع إلى اتفاقيةالأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003، لا سيما في نصّالمادة 44منها، فقد أكّدت أنّهلا يجوز لدول الأطراف أن ترفض طلب التسليم بمجرد أنّالجرم يتعلّقبأمور مالية، وقبل رفض التسليم يجب على الدولة متلقية الطلب أن تتيح الفرصة إلى الدولة الطالبة لعرض آرائها13.
أما بالنسبة للاتفاقيةالعربية لمكافحة الفساد فقد نصّتفي المادة 30 فقرة 05على:" الدول الأطراف التي لا تجعل التسليم مشروطا بوجود معاهدة أن تعدّ الجرائم التي تسري عليها أحكام الاتفاقيةخاضعة للتسليم فيما بينها"، وبغية إغلاق الملاذ أمام المجرمين والحيلولة دون حصولهم على مأوى آمن لهم وعائداتهم الإجرامية، وجد هذا النظام لكي يحرمهم من الاستفادة من الاختلاف في الأنظمة القانونية والقضائية للدول14.
وتجدر الإشارة إلى أنّتسليم المجرمين في جرائم الفساد يخضع للقواعد العامة المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية ضمن المواد 694إلى 720منه، وكذا المادة 68و69من دستور 96، غير أن اتفاقية الأمم المتحدة للوقاية من الفساد ومكافحته استثنت جرائم الفساد من شرط ازدواجية التجريم، وذلك بموجب المادة 44فقرة 2منها حيث أجازت للدولة الطرف أن تسمح بتسليم شخص ما بسبب إحدى جرائم الفساد، والفساد المالي، والتي لا يعاقب عليها بموجب قانونها الداخلي، حيث ألزمت الدول باتخاذ ما يلزم من تدابير لإخضاع الأفعال المجرمة وفقا لهذه الاتفاقية لولايتها القضائية عندما يكون الجاني موجودا في إقليمها.15
3_ تبادل المعلومات والإنابة القضائية: تعتبر الإنابة القضائية الدولية إحدى آليات التعاون القضائي الدولي، حيث تلجأ إليها الهيئات القضائية لتنفيذ عمليات التفتيش أو الحجز، أو من أجل جمع الأدلة من الخارج، وهو تفويض يصدر من سلطة قضائية أجنبية مختصة بموجب إنابة قضائية مكتوبة، على أن تكون السلطة القضائية مختصّةبالتحقيق في واقعة إجرامية معينة، ومحاولة الكشف عن أدلة ارتكابهامع احترامالقانون الداخلي للدولتين16.
04_ حماية الشهود: لم ينصّ المشرّعالجزائري بصورة واضحة على موضوع حماية الشاهد في جميع النصوص القانونية المتعلّقةبقانون العقوبات، إلاّفي نصّالمادة 45من قانون 06/01، المتعلّقبالوقاية من الفساد ومكافحته، حيث جعل عقوبة لكل من يتعرّضلهم بالأذى، وقد شمل النصّ كلّامن الشهود والمبلغين والخبراء والضحايا17، وقد نصّتالمادة 1418من الإتفاقية العربية لمكافحة الفساد على طرق الإدلاء بالشهادة، وهو ما تبنّتهبعض التشريعات المقارنة.
وتختلف طرق الإدلاء بالشهادة باختلافمراحل الدعوى العمومية، حيث تبّنتالتشريعات المقارنة ثلاثة طرق لأخذ الشهادة مع حماية هوية الشاهد، هذه الطريقة تُسمّىبالشهادة المجهلة، لأنّالأصل في الشهادة أن تكون علنية وبحضور الشهود مع جواز مناقشتهم وتفريقهم عن بعضهم البعض، تحقيقا للتوازن المفترض بين حقّجهة الادعاء والتحقيق في إقامة الدليل على إدانة المتهم، وحقّهذا الأخير في الدفاع، وذلك من خلال السماح له بمواجهة الشهود، وهذا ما يستوجب إحاطة المتهم علما بهوية الشاهد، ولكن بالنظر إلى ما قد يلحق الشاهد من خطر جراء إدلائه بشهادته فإنّالسلطة القضائية رأت وجوب حمايته، لهذا كانت الشهادة المجهلة في المواد الجنائية19، مع إخفاء بيانات الشاهد عن باقي الخصوم في الدعوى وعن الحضور، سواء أ كان ذلك بصورة كلية أم جزئية20.
تعدّهذه من أهمّالطرق البديلة للشهادة الشفوية العلنية والمباشرة المستعملة في الأنظمة المقارنة، والتي توفّرحماية نسبية للشاهد مقارنة بالطرق التقليدية التي تضع الشاهد تحت مختلف الضغوط، وتؤثّرعليه أحيانا.
_ الشهادة خلف الحاجز: تعد إحدى طرق الإدلاء بالشهادة المجهلة، حيث يقوم الشاهد بتقديم شهادته من وراء ستار أو حاجز لا يتمكن من خلاله المتهم رؤية الشاهد خاصة في حالات الاعتداءعلى الأطفال، وقد ثار جدل كبير حول اعتمادهذا الإجراء لما فيه من مساس بحقوق الدفاع21.
_ استخدامالدوائر التلفزيونية المغلقة والوسائل السمعية البصرية: وهنا يتمّتقديم أقوال الشاهد عن طريق البث التلفزيوني المغلق أين تتمّاستقبالالشهادة من حجرة مجاورة أثناء المحاكمة بعيدا عن جوّالمحكمة، وهذا كحماية للشاهد من التأثيرات المباشرة من المتهمين دون إغفال هوية الشاهد أو بياناته22.
_ استخدامجهاز الفيديو: ويُقصدبذلك الشهادة المسجّلةمسبقا بواسطة جهاز الفيديو، قبل بدءالمحاكمة، ويتمّبعدها عرض الشهادة في قاعة المحكمة من خلال الشريط، وهذا ما لا نجده في التشريع الجزائري الذي لم ينصّعلى أية من الطرق البديلة للشهادة التقليدية في قاعة الجلسات والتي لا تعطي حماية للشاهد الذي قدّممعلومات هامة للمحكمة عن جرائم ترتكب سواء ضدّالأفراد أو النظام العام والدولة والمجتمع وجرائم الفساد المالي بصفة خاصة بالرغم من نصّ الاتفاقيةعلى ذلك، والمشرّعالجزائري حسنا فعل بتجريم الاعتداءعلى الشاهد حسب نصّالمادة 45 من قانون الفساد، كما جرّمتقديم الرشوة للشاهد بغية تضليل العدالة، أو إقناعه بالامتناععن الإدلاء بالشهادة في جريمة من جرائم الفساد بصفة عامة، والفساد المالي بصفة خاصّة، حيث نجد أنّ المشرّعالجزائري بعد مصادقته على الاتفاقيةالعربية لمكافحة الفساد، خطاخطوة إيجابية بهدف مكافحة الفساد على الرغم من قصور النصّ45منه23، فهو لم يبيّنطرق الإدلاء بالشهادة، بحيث يقرّرحماية للشاهد على غرار باقي التشريعات كما رأينا سابقا، وعليه لا بدّمن توفير حماية فعلية لكلّمن يقدّممعلومات للعدالة لمحاربة الفساد المالي خاصة مع انتشارهفي الآونة الأخيرة.
5_ تجميد ومصادرة الممتلكات: عندما تكون محاكم إحدى الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد قد أمرت بتجميد أو حجز العائدات الإجرامية المتأتية من إحدى جرائم الفساد أو الممتلكات أو المعدات أو الأدوات التي استخدمت، أو كانت معدّةللاستخدام في ارتكاب هذه الجرائم فإنّالجهات القضائية الجزائرية أو السلطات المختصة وبناءًعلى طلب هذه الدول أن تحكم بالتجميد أو الحجز، وذلك بشروط:
_ وجود الأموال أو الممتلكات المطلوب حجزها في الجزائر.
_ تقديم الطلب بالطريقة الإدارية (إلى وزير العدل)، ووزير العدل هنا يملك كامل السلطة التقديرية في التصرّففي الطلب، إمّابإحالته إلى النائب العام المختصّ(حسب مكان وجود الأموال)24، وله أن يرفض ذلك.
_ بعد إحالة الطلب إلى النائب العام يوجّهههذا الأخير إلى المحكمة المختصّةمرفقا بطلباته، هذه الأخيرة تصدر حكما قابلا للاستئناف والنقض وفق قانون الإجراءات الجزائية.
إجراءات تقديم الطلب: يقدّمالطلب من الدولة الأجنبية إلى وزير العدل الجزائري.
يقوم وزير العدل بإحالة الطلب أو رفض إحالته، وله في ذلك كامل السلطة التقديرية.
في حالة قبول الطلب يحيله إلى النائب العام المختصّ(حسب مكان وجود الأموال)25، هذا الأخير يوجّههإلى المحكمة المختصّةمرفقا بطلباته، ثمّبعد ذلك المحكمة تصدر حكما قابلا للاستئناف والطعن وفق قانون الإجراءات الجزائية.
_ يشترط إرفاق طلب اتخاذ إجراءات التجميد والحجز بيان بالوقائع المبرّرةله من الدولة الطالبة.
6_ استرداد العائدات الإجرامية:يترتّبعلى تصدير العائدات المتأتية من الفساد، عواقب خطيرة أو حتى مدمّرةلدولة المنشأ، فهو يستنفد احتياطيالعملة، ويقلّصالوعاء الضريبي، ويزيد من نسبة الفقر، ويضرّبالتنافس، ويعيق التجارة الحرة، ولذلك فإنّمختلف السياسات المرتبطة بالسلم والأمن والنمو الاقتصادي قد تتضرّرمن جراء ذلك، ولهذا دعاالمجتمع الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة إلى الأهمية التي يجب أن تحظىبها مسألة مكافحة الفساد بصفة عامة، والسعي لحلّ مشكلة نقل الأموال غير الشرعية عبر الحدود الوطنية، وإيجاد طرق لإعادتها، ومن هنا جاءت عدّةقرارات صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتّحدةالتي شدّدتعلى مسؤولية الحكومات وشجعتها على اعتمادسياسات محلية ودولية ترمي إلى منع الفساد ومكافحته، وضرورة إعادة هذه العائدات إلى الدولة المتضرّرةمن جرائم الفساد، مصدر تلك الأموال، وذلك بناء على طلب، ومن خلال اتخاذجملة من الإجراءات اللازمة26،
7_ تنفيذ الأحكام الأجنبية: المبدأ العام أنّالمحاكم الجزائية لا تعترف بحجية الأحكام الصادرة عن قضاء دول أجنبية، وذلك استنادًإلى مبدأ السيادة القضائية لكل دولة27، كما أنّالحكم الأجنبي قد يتأثّرفي ظروف معينة ببعض الاعتبارات السياسية، كما يصعب تنفيذه أحيانا إذا تضمّنعقوبات غير معروفة في التشريع الوطني، غير أنّمتطلبات التعاون الدولي في مجال مكافحة الجرائم الخطيرة اقتضت الاعتراف بحجية الأحكام الأجنبية، وهو ما حذا حذوه المشرّعالجزائري في بعض الجرائم، ومنها جرائم الفساد بشرط تضمّنها: _ الحكم بالمصادرة.
_ الحكم بالإجراءات التحفظية: الحجز والتجميد28.
ثانيا: تقييم آليات التعاون القضائي في مكافحة الفساد:
على الرغم من كلّالجهود المبذولة لمحاربة الفساد، إلا أنّكثرة انتشارهذه الآفة تعدّمن التحديات التي تقف في مواجهتها أغلب التشريعات في الوقت الراهن، كون جرائم الفساد المالي تتميّزبصعوبة كشفها، وهي خاصية من خصائص الجريمة المنظمة العابرة للأوطان، وقد تستخدم في سبيل إخفائها أساليب متطوّرةتفوق القدرات الفردية للدول، وبالرغم من توحيد وتضافر الجهود في سبيل القضاء على هذه الآفة، غير أنّضعف التعاون الدولي لتنسيق عمليات ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد المالي، وجرائم غسيل الأموال، وتوقيع العقاب عليهم، كان نتيجة فشل وقصور في الإجراءات المتخذة إما من هذه المؤسسات المالية التي ألزمها المشرّعبواجب الإبلاغ بالشبهة، في المقابلكانت ملزمة بالسرّالمهني، وتعقيدات أخرى حالت دون نجاعة الكشف عن هذه الجرائم، إضافة إلى هذا كلّه، التباين في الأجهزة القضائية، فلكلّدولة نظامها القضائي الخاصّ الأمر الذي شكّلعائقا كذلك حال دون إمكانية توحيد الإجراءات المتّخذةفي سبيل الكشف وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم29.
01_ قصور التشريع في مسألة حماية الشهود والمبلغين وحماية الضحايا:ككلّجريمة يفترض وجود شخص متضرّر، شأنه في ذلك شأن جرائم الفساد ، فقد يتصوّروجود شخص طبيعي في المجتمع تضرّربشكل مباشر من جرائم الفساد، ومختلف التشريعات التي تناولت مكافحة ظاهرة الفساد لم تعط الاهتمام اللازم لشخص الضحية والمتضرّر، وبالرغم من تزايد عدد آليات مكافحة الفساد، إلا أنّهناك مشاكل عديدة منها الافتقارإلى الآليات الفعّالةلحماية المبلغين، ممّايجعلهم يتراجعون عن واجب الإبلاغ خوفا على حياتهم ومصالحهم30، كما أنّصعوبة كشف جرائم الفساد بالنظر إلى كونها جرائم مالية معقدة، أصبحت تستخدم وسائل متطورة من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من الربح31.
وبالتالي، نتيجة سيطرة أصحاب الياقات البيضاء وأصحاب النفوذ على مناصب عليا في الدولة، نجد تخوّفالمبلغين والشهود من أداء واجبهم وتقديم الإثباتات عن اضطلاع هؤلاء الأشخاص في ارتكابجرائم توصف بكونها جرائم أموال، وهذا بسبب غياب الضمانات القانونية الفعلية التي تكفل حمايتهم، وهذا ما دعت إليه في الأساس اتفاقيةالأمم المتحدة لمكافحة الفساد، حسب ما ورد في نصّالمادتين 32و33منها32.
وبالرغم من حثّ الاتفاقيةللدول الأعضاء على ضرورة توفير الحماية للمبلغين،33والشهود إلا أنّالواقع يشهد جمود هذهالمبادرة؛ إذ مازالتالتشريعات الداخلية تعاني من غياب الضمانات القانونية التي تحمي المبلغ والشاهد على حد السواء34، كما أنّ المشرّعالجزائري كرّسحماية الشهود من أشكال التهديد التي تمارس عليهم من أجل تضليل العدالة، حسب نصوص قانون العقوبات، والجديد هو ما ورد في نصّالمادة 45من قانون 06/01المتضمّنقانون الوقاية من الفساد ومكافحته35، حيث كرّس النصّحماية المبلغين والضحايا والشهود، ولابدّمن تفعيل هذا النصّمن خلال خلق أطر قانونية تجسد على أرض الواقع للعمل على كشف جرائم الفساد، ومتابعة مرتكبيها36.
02_ عدم فعالية التعاون نتيجة ضعفالإجراءات المخوّلةلبعض المؤسسات المالية: تعتبر المؤسسات المالية من أهمّالحلقات التي تدور فيها الأموال غير المشروعةعن طريق ما يُسمّىبجريمة تبييض الأموال، والتي تعدّبدورها نوعامن الفساد المالي والفساد، فهي تعدّقنوات خصبة يستغلها مبيضو الأموال في تنفيذ جرائمهم، ويظهر الجرم من خلال تسهيل البنوك لعمليات تبييض الأموال، بالإضافة إلى ضعف وقصور الأدوات البنكية، مما أدّىإلى تفشي هذه الظاهرة37.
03_ قيد السرية المصرفية:وهي من أكبر العقبات التي تقف عائقا أمام مكافحة جريمة تبيض الأموال، كونها تقضي بالحظر من الاطلاععلى وثائق العميل من جهة، وعدم الاطلاععلى الودائع النقدية من جهة أخرى، وبالتالي احتراممبدأ السرية المصرفية يجعل المؤسّسةالمالية مساعدافي عمليات تبييض الأموال ذات المصدر غير المشروع، وإدخالها في الدورة المالية للدولة على اعتبارأنها أموال مشروعة، يسهل على مرتكبي الجرائم المالية والفساد بعدها استعمالهاعلنا دون خوف من كشف السلطات.
فالواقع أننا نجد المؤسسات المالية والبنوك لا تبذل أي مجهود بما فيه الكفاية للكشف عن جرائم تبييض الأموال، بحجة السرية مع زبائنها، وتنسى التزامها بواجب الإخطار بالشبهة، ويجب على هذه الأخيرة ألّاتكون حاجزا أمام الرقابة، وأن تكون على حرص لتقصي مصدر الأموال المودعة لديها، وألّا تتحجّجبمسألة السرية، حتى لا يجد المبيضون أي منفذ يلجأون من خلاله للتخفيوالإفلات من العقاب39.
04_ عرقلة تنفيذ الأحكام الجنائية:إنّلظاهرة الفساد آثاراوخيمة على المنظومة القانونية والقضائية للدول، وذلك بسبب ظهور تشريعات جديدة لا تحقّقالردع المتوخى من السياسة الجزائية الفعّالة، بل وتساعد المفسدين على الإفلات من العقاب، كذلك عرقلة إجراء محاكمة المفسدين من أجل التهرّبمن المسؤولية القانونية، ممّا يؤدّيإلى تقادم الدعاوى في جرائم الفساد نظرا لسياسة التجنيح التي انتهجها المشرّعالجزائري، فالأمر وارد حيث الجنحة مدة تقادم الدعوى فيها 3سنوات، قد تمضي في انتظاركشف هوية المضطلعين بارتكابهذه الجرائم، كذلك حالة عدم وجود اتفاقيةتعاون بين دولتين تؤدي إلى صعوبة تسليم المعلومات أو المتهمين40.
05_ عدم فعالية التعاون والخلل في الجهاز القضائي ذاته: هناك الكثير من العراقيل التي تقف أمام فعالية آليات التعاون القضائي في سبيل مكافحة جرائم الفساد المالي والفساد، وهذه المشكلات أهمها:
_ عدم استقلاليةالجهاز القضائي بالمفهوم الحقيقي: فمن أهمّالنتائج المترتبة عن مبدأ الفصل بين السلطات هو استقلاليةالجهاز القضائي بغية أداء هذا الأخير عمله دون تأثير من جهات عليا، غير أنّما نلمسه في الواقع أنّالقضاء مازاليعاني من التبعية للسلطتين التنفيذية والتشريعية على السواء، وما لظاهرة الفساد من آثار وخيمة على المنظومة القانونية والقضائية للدول، حيث إنّهالا تحقّقالردع اللازم للحدّمن جرائم الفساد، كما أنّالثغرات التي يستغلّها مرتكبوهذه الجرائم للإفلات من العقاب. إضافة إلى عدم اتخاذتدابير صارمة لحماية القضاة من الضغوطات والتهديدات التي يمكن أن يتعرّضوالها أثناء ممارسة مهامهم41.
_ تشجيع الدول القوية على الفساد ورفضها تقديم التعاون والمساعدة التقنية والعلمية للدول الأقلّتطورا، بل تعدّىالأمر إلى المتاجرة بالفساد بحيث تغطي على الفساد وتحمي مرتكبيه مقابل خدمة مصالحها، ومثال ذلك ظاهرة بيع الجنسية في أوربا لأصحاب الأموال الفاسدة.42
ثالثا: آليات التعاون المؤسّساتي
سوف نتطرّقإلى بعض المنظمات الدولية التي كرّستعملها من أجل القضاء على الفساد وإرساء مبادئ سياسية ناجعة يسودها الحكم الراشد، من بين هذه المنظمات: الإنتربول، وصندوق النقد الدولي، منظمة الشفافية الدولية:
1_ الإنتربول: تمّإنشاء منظمة الشرطة الجنائية الدولية عام 1923، ومقرها مدينة ليون بفرنسا، ولها عدّةفروع ومكاتب في كلّدولة من دول الأعضاء، ويعمل الإنتربولعلى تعزيز التعاون الدولي، وذلك من خلال ما يلي:
_ استخدامالإجراءات الكفيلة بمنع استخدامالتكنولوجيا الحديثة في غسيل الأموال، كونه صورة من صور الفساد.
_ ضرورة تأكيد الأجهزة المعنية بالرقابة والإشراف على البنوك والمؤسسات المالية، من وجود برامج كافية لدى هذه الجهات لمكافحة الجرائم المالية بما فيها جرائم الفساد.
_ التدخّلبشأن مصادرة الأموال المشبوهة، و في القبض على المجرمين المتهمين وتسليمهم إلى الجهات القضائية المختصة لمحاكمتهم، و مساعدة الدول في عملية تسليم المجرمين.
_ تعقب الأموال ومنح سلطة التحري القانوني الكافية لمسؤولي تنفيذ القانون، وذلك لتعقب ومتابعة وتجميد رؤوس الأموال المتحصلة من أنشطة إجرامية خطيرة.
ومنه يمكن القول إنّ الإنتربولبصفته جهة جنائية لتقصي الجرائم والبحث عنها هو من أهمّالمنظمات التي تسعى إلى تحقيق التعاون الدولي لمكافحة الفساد والقبض على المجرمين43.
2_ صندوق النقد الدولي
يعتبر صندوق النقد الدولي من المنظمات الحكومية المعنية بالأنشطة الدولية المتعلّقةبمكافحة الفساد، من خلال مختلف سلطاته في مجال مراقبة السياسات الاقتصادية والمالية، وتشمل هذه الصلاحيات بعض الجوانب المتعلّقةبسياسات الاقتصاد الكلي من إدارة شؤون النقد والائتمان وسعر الصرف، و ما يتعلّقبالمؤسسات المالية من بنوك وغيرها، يهدف من خلال هذه الرقابة إلى تحقيق الاستقرار المالي والنقدي في العالم على نحو يوفّرالشروط الملائمة لتنمية متوازنة ومستمرة.
كما حدّدصندوق النقد الدولي مسلكين أساسيين من أجل مكافحة الفساد والقضاء عليه، فمن جهة تركيز أنشطة الدولة على المجالات التي تتلاءممع قدراتها، إذ إنّكثيرا من الدول لن تفعل أكثر مما تستطيع وبموارد غير كافية وقدرة محدودة، ومن جهة أخرى البحث مع مرور الزمن عن وسائل لتحسين قدرة الدولة، وذلك عن طريق تنشيط المؤسسات العامة، وهذا يعني وضع قيود وقواعد فعّالة للحدّمن تصرّفاتالحكومة التحكمية ومكافحة الفساد، وإخضاعها للمزيد من المنافسة من أجل زيادة كفاءتها وتحسين الرواتب، وبالتالي تصبح الدولة أكثر استجابة لاحتياجات المواطنين، ولتحقيق تنمية شاملة يدعو صندوق النقد الدولي الدول إلى مراعاة:
_ إرساء القانون.
_ إقرار بيئة للسياسات المالية لا تشويه فيها تشمل استقرارا اقتصاديا.
_ الاستثمار في الخدمات الاجتماعية والبيئة الأساسية لحماية الضعفاء.
_ إعداد قوائم للتعيينوالتوظيف تقوم على أساس الجدارة والاستحقاق44.
3_ منظمة الشفافية الدولية
منظمة الشفافية هي التعبير المؤسساتي عن حركة عالمية لمكافحة الفساد أفرزها مجتمع مدني عالمي، قرّرتهذه المنظمة القضاء على ظاهرة الفساد التي أدّى انتشارهاإلى إعاقة تحقيق أهداف التعاون الدولي في كافة المجالات، وتعمل هذه الأخيرة عن طريق جمع المعلومات عن الظاهرة، وبلورة مناهج وأساليب جديدة لقياسها، وبالتالي إعداد تصنيفوفق مؤشرات معينة يعمل على رؤية مدى نجاعة تلك الأساليب في الحدّمن ظاهرة الفساد، وتحقيق الحكم الراشد في مختلف المجالات.
كما لعبت منظمة الشفافية دورا محوريا أثمرت جهودها بإبرام العديد من الاتفاقاتوالمعاهدات الدولية الخاصة بمكافحة الفساد، كما تعمل على مراقبة وتسهيل تنفيذ الدول لالتزاماتها المتعلقة بتنفيذ نصوص الاتفاقاتوالمعاهدات، وإعداد التقارير عن مدى تجاوب الدول واستعدادها لمكافحة الفساد.
خاتمـة
من خلال العرض المقدّم فإنّالتعاون الدولي لمكافحة جرائم الفساد يكون على أكثر من مستوى، فعلى المستوى التشريعي تسعى الدول إلى إبرام اتفاقات دولية و إقليمية من أجلتجريم الأفعال الموصوفة بالفساد، وتتفق على سنّ عقوبات بشأنها تقرّرها كلّدولة حسب سياستها الجنائية، ثمّ يتّجهالتعاون الدولي إلى المجال القضائي المتمثّلفي وضع آليات لتبادل الإجراءات بين الدول، إما حسب الطريق الإداري بواسطة وزراء العدل أو الطريق القضائي بين الجهات القضائية المعنية بالإجراء المطلوب، ثمّ يتّخذالتعاون الدولي في هذا المجال منحى أدقّمن خلال التعاون الأمني، المتمثّلفي تعاون أجهزة الشرطة من أجلملاحقة مرتكبي هذه الجرائم في أي دولة كانوا عن طريق منظمة الإنتربول، وأخيرا وكخصوصية لجرائم الفساد فقد استحدثت الدول خلايا الاستعلام المالي، وبالطبع هذا التعاون تحكمه ضوابط وأسس تحدّدهاالقوانين الداخلية لكلّدولة، ورغم اتساع مجال التعاون الدولي وتعدّدآلياته إلّا أنّهيمكن تسجيل النتائج والتوصيات الآتية:
_ بالرغم من أهمية مسألة تسليم المجرمين في عمليات التعاون الدولي بشأن ملاحقة المجرمين وتوقيع العقاب عليهم وبالتالي تحقيق الهدف من السياسة الجنائية، إلا أنّهتجدر الإشارة إلى أنّالتجربة الأوربية ألغت شرط التسليم المزدوج في نظام تسليم المجرمين في 32جريمة منها جريمة الفساد والمتاجرة بالمخدرات.
_ وجود منظمة دولية مختصة في مكافحة الفساد، لا يكفي لوحده بل لابدّمن فرض تدابير رقابية على الدول الأطراف لتنفيذ نصوص الاتفاقية بالشكلالمطلوب، الأمر الذي يسهم بالضرورة في مكافحة الظاهرة مكافحة فعالة.
_ تشجيع الدول القوية على الفساد ورفضها تقديم التعاون والمساعدة التقنية والعلمية للدول الأقلّتطورا، بل تعدّىالأمر إلى المتاجرة بالفساد بحيث تغطي على الفساد وتحمي مرتكبيه مقابل خدمة مصالحها، ومثال ذلك ظاهرة بيع الجنسية في أوربا لأصحاب الأموال الفاسدة.
_ يجب أن يمتدّالتعاون إلى التدابير الوقائية وألاّ ينحصر في الإجراءات والتدابير الردعية.
_ لابدّمن دعم آليات التعاون الدولي بمختلف صورها لتحقيق مكافحة فعّالةلشتى الجرائم التي تتسم بالخطورة بما في ذلك جرائم الفساد.
وفي الأخير يمكن القول إنّالدول التي يمزقها الصراع تدفع ضريبة هائلة في قدرتها على الحكم، وأكبر مثال ما يعرف بالربيع العربي، ومعاناة السوريين والعراق وغيرهم من الدول التي سمحت لنزاعات أهلية أن تعصف بها، وبالتالي يعمّالفساد، ولتنجح أيدولة في بتر الفساد لا بدّمن محاربة كل صوره في ذات الوقت والوقوف بتطوير القطاعات الحساسة فيها من صحّة وتعليم؛ لأنّالجهل والفقر هما ذخيرة تتغذى عليها هذه الآفة، ويأتي في الأخير دور ترسانة القوانين الداخلية والدولية، لأنّالوقاية خير من العلاج.