جنتيلي والأصول الفلسفية للفاشية. بقلم: جان توسان دوزانتي
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°16 Décembre 2012

جنتيلي والأصول الفلسفية للفاشية. بقلم: جان توسان دوزانتي


عبد العزيز ركح
  • resume:Ar
  • resume
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL

        النص عبارة عن ترجمة لمحاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسي ج.ت دوزانتي في الندوة التي نضمتها جامعة باريس الثامنة-فانسان الفرنسية حول موضوع"الفاشية". ويحاول فيها الكاتب ابراز الجذور الفلسفية لإيديولوجيا النظام الفاشي في إيطاليا ما بين الحربين متناولا بالتحليل أعمال واحد من كبار إيديولوجيي هذا النظام  هو الفيلسوف جيوفاني جنتيلي، مبينا أن كتابات هذا الأخير هي عبارة عن عملية تجميل حذقة تتخفى وراء خطاب فلسفي بريء ومعقد القصد من ورائه إضفاء شرعية على الممارسات الديكتاتورية والتجاوزات الأمنية لسياسة موسوليني الفاشية.

 Le texte ci-dessous  est  une traduction de la conférence professée par le philosophe français J.T Desanti  lors du séminaire organise a l’université Paris 8-Vincennes sur le thème du  fascisme. L’auteur s’y force de montrer le terrain philosophique dans lequel s’est formé le discours politique de l’Italie fasciste en analysant les écrits de l’un des plus éminents idéologistes du système totalitaire italien à savoir le philosophe G. Gentile


          لم يسبق لي إلى يومنا هذا أن تعاملت مع فكر جنتيلي إلا من خلال كتاباته كمؤرخ للفلسفة.لقد ظللت دائما أكّن لأعماله في هذا المجال كل الاحترام. وسنجد اليوم أيضا فائدة كبيرة في قراءة ما نشره حول فكر النهضة، بالمقابل لم يكن لي اهتمام كبير بكتاباته الدوغمائية، التي كانت تبدو لي دائما كشكل ضعيف وفض من أشكال المثالية الفختية ومنه، لمن تناول فيخته، لا تستحق عناء القراءة المنهجية.

        غير أنه تعين لي مؤخرا الإذعان لهذه القراءة، وأعترف لكم أنني لم أطلع على الأجزاء الثمانية والعشرين التي تشكل مجمل أعماله، بل بعضا منها فقط. ولسوف أرجع بالدرجة الأولى إلى طبعتها الأخيرة التي نشرت بعنوان (Genesi e strutura della societa)1حررت في سنة1943 ونشرت سنة1946 بعد وفاة الكاتب. هذا النص يجمع ويعالج مواضيع أخلاقية وسياسية وضعها جانتيلي ابتداء من سنة1936).    

لكم فركت عيناي خلال هذه القراءة لأتبين إن كنت يقظا أم نائما أحلم بوجود شخصيةوخطاب كهذين، كيف كان بالإمكان نسج بكل جدية وبأسلوب خطابي أجوف مثل هذا التركيب من التجريدات الفارغة؟لكن حياة جنتيلي والخصوصية الملموسة لممارسته السياسية والبيداغوجية وضعاني أمام الواقع القاسي. هذاالمثالي الصامت والأكاديمي كان أحد منضمي الإضطهاد الذي مارسه المذهب الفاشي ضد شعب بأكمله. إن هذه التجريدات التي تبدو جوفاء ومسالمة (الأنا، الفعل، الدولة...الخ)لم تكن الهيات صالون أدبي. إن ما كان يبدو لي أنا فارغا ووهميا كان قد استقبل، أعيد، أثري على أنه إنتاج مفكر مندمج في هذه اللحظة من تاريخ بلده، الى درجة أنه تأسست حوله أكثر من مدرسة، نوع من الإجماع، من المؤكد أنه إجماع خاص بالفاشيين فقط، إلا أنهم وجدوا فيه تبريرا لعنفهم ومسوغا لأنظمتهم الأمنية. إن هذا من الصحة بحيث نجد اليوم بعض الإيطاليين يعانون من التخلص من الحمل الذي وضعه جنتيلي على ثقافة بلدهم، وهم يفكرون،  كما يقال، في إعادة تقييمه وإعادة ادماجه في تاريخ لم يعد تاريخ الفاشية.

        لقد كانت دهشتي كبيرة عندما قرأت (بعد إلقائي لهذه المحاضرة بوقت قصير)في جريدة  كورييردي لا سيراCorrire della serra   مقالا ل  ف. ماتيوV.Mathieu   يحاول فيه الكاتب أن يجعل من جنتيلي (فيلسوف الفعل  del’actephilosophe)رائدا لأحداث سنة1968.

        إن تصور الفعل مبهم جدا بحيث يمكنناالتصرف فيه كيف شئنا. ولكن أن نقوم بهذا التصرف بالضبط، فهذا ما يبدو لي دليلا على الصعوبة الموجودة اليوم في اقتلاع جنتيلي من جوهر الثقافة الإيطالية.

       وهذا ما يميزهذا الأخير (الذي يمكننا وصفه ابتداء من1923 كمكفرالمذهب الفاشي)عن رجل مثل روزنبرغ2مثلا، الذي كان مفكر النازيين.

        لقد كان جنتيلي مندمجا بعمق في تاريخ الفكر الإيطالي. ووصل إلى الفاشية وفق مسار خاص كان يشعر بأنه متجذرأساسا في ثقافة عصره، والذي اعتقد فيه أقصى درجات تطور كل التاريخ الإيطالي منذ الوحدة الإيطالية(risorgimento)3. وسوف يصبح فا شيا في نفسه وإلى النهاية بثبات وإصرار رجل مافيا. هذا ما يلون بعنف التجريدات الشاحبة التي ضمنها خطاباته. رغم أن بدايته لم تكن سيئة. فقد ولد سنة1875 وكان قد نشر سنة1899 عملا خصصه لماركس الذي كان يطلق على فلسفته، متبعا في ذلك تقليدا يرجع إلى لابريولا4فلسفة البراكسيس، هذا العمل الذي جلب اهتمام لينين والذي قدم بخصوصه تقييما ايجابيا: "إن الكاتب –يقول لينين-يذكر بعض المظاهر الهامة لجدلية ماركس المادية لا ينتبه إليها عادة الكانتيون والوضعيون."

        يبدو لي مفيدا التفكير في المعنى الذي كان يعطيه هذا الشاب الجامعي الإيطالي في نهاية هذا القرن (وايضا معاصره كروتشه(5))للإهتمام بماركس، لقد كانت هناك طرق متعددة لدراسة الفلسفة والنجاح فيها في إيطاليا في تلك الفترة. فقد كان بالإمكان الإندماج في الفسلفة التقليدية التي كان لها نفوذ  في الجامعات والتي كان يتقاسمها التوماويون، الميتافيزيقيون الأفلا طونيون والكانطيون الجدد، فكان الإنتماء اذن إلى مدرسة مامياني، كانتوني وفيورنتينو6، وكان الهدف هو العمل، في الإطار الجامعي، على ابقاء الفلسفة الدائمة(la philosophie eternelle). أما من كان مهتما بالعلوم الوضعية، حريصا على إ حياء الأ فكار القديمة فقد كانت وجهته نحو الوضعيين أتباع سبنسر أكثر من كونت، أي نحو أرديغو!وإذا كان مؤرخا فإنه يتجه نحو فيلاري7.لكن التيار الفلسفي النابض حقا بالحياة، والذي تنعقد عليه آمال وأفكار النهضة الإيطالية  فهوالمسمى التيار  النابوليتاني الذي ينتمي إليه سبافنتا8، دو سانكتيس9ثم فيما بعد لابريولا.في هذه الفلسفة كان من المفروض أن يتكون بنديتو كروتشه وأيضا جانتيلي الذي كان في مدينة بيزا تلميذا ل سبافنتا. لم تعد الفلسفة هنا معتبرة كممارسة بعيدة عن الواقع بل أصبحت في مواجهة الإيديولوجيا البابوية، لقد كانت آلة حرب. 

        كان ينتظر منها، بعد أن تتحقق، أن تساهم في تجذير المشروع الوطني للشعب الإيطالي، وأن تمنحه التعبير النظري المستقل، في شكل حركة سعوا إلى ربطها في آن معا بجيوبرتي 01وهيزل.وفي إطار الهيغلية أعيد تقييم رواد حركة الوحدة الإيطالية ولذلك فقد طرحت أسئلة ثلاث على الساحة الفلسفية:مسألة قيمة التاريخ، مسألة طبيعة الدولة ومسألة الدين منظورا إليه (على طريقة جيوبرتي)كوسيلة لتحقيق الحرية والإستقلال السياسي للشعب الإيطالي، في الإطار الوطني الذي يتطلع إليه.

        هذه المواضيع  هي في صلب الفلسفة الهيغلية، ولكن أيضا (خاصة بالنسبة للمسألتين الأولى والثانية)في صميم المادية التاريخية، كذلك عندما نشر لابريولا، بدعوة من كروتشه، محاولته حول التصور المادي للتاريخ في1895-1896أ صبحت النظريات الماركسية (لفترة من الزمن)بالنسبة لهذين الفيلسوفين الشابين، كروتشه وجنتيلي، الموضوع المفضل للنقاش الفكري.

        نعلم أنه إذا أردنا أن نبحث عن امتداد ل لابريولا فإننا سنجده عند غرامشي11وليس أبدا عند كروتشه ولا بالأحرى عند جنتيلي. سينفصل كروتشه نهائيا عن الماركسية إبتداء من 1908. أما جنتيلي (وهذا شعوري على الأقل عند قراءة محاولته سنة1899)فإنه انفصل عنها منذ أن تناولها.

        فقد كان بالفعل  يعرف فلسفة ماركس  كـ "واحدية مادية  (monisme materialiste)  تتميز عن كل مذهب  آخر مشابه لها في تصور البراكسيس المطبق على المادة."   

        من هنا فهو يسعى لوضع منطق داخلي من خلاله كان "يجب على الفلسفة حسب رأيه، أن تبقى وفية، غير أن ماركس لم يواصل حتى النهاية، الشيء الذي جعله يقع في  تناقضات يصعب نظريا تجاوزها.إن بداية إعادة البناء هذه هي:  مفهوم المادة. ينظر ماركس إلىالمادة، كما يرى جنتيلي، ليس فقط كجوهر ثابت (مجموعة من الحتميات الذهنية، بلغة هيغل)ولكن كوا قع حركي وفي صيرورة. لا شيء يقال حول هذه النقطة. ونفهم لماذا أشار لينين إلى الفرق بين هذا التأويل (الذي يفضل الأطروحات حول فويرباخ12)والتأويلات الوضعية التي تفهم تصور المادة بطريقة الواحديين الماديين في القرن19. وتتعقد الأمورأكثرعندما يتساءل جنتيلي: "ما معنى ممارسة وأين نجد مبدأ الممارسة؟" يجيب على هذا السؤال: "بأن هذا المبدأ لا يمكن أن يوجد إلا في الممارسة الملموسة للإنسان ومنه يستنتج بأن حركة المادة يجب أن تكون متأصلة في حركة الإنسان، وعليه سيكون في استطاعةالمذهب الماركسي أن يعيد التفكير في ذاته داخل فينومينولوجيا الروح  بعد أن تكون قد اختزلت في أشكال للحياة والوعي. الأمر الذي يسمح بضمان شرعية المادية التاريخية. غير أن ماركس لم يكن وفيا لهذا المنطق. فقد صحح في لحظة ما مطلقية المادة فنتج عنه تناقض عسير التجاوز. إذ أنه إذا كانت المادة موجودة في استقلال عن كل حركة إنسانية فإنها لا يمكن أن تكون إلا جامدة.  إذن، إما أن نضع البراكسيس كأساس ونلغي الوجود المستقل للمادة وإما أن نسلم بهذا الوجود، ولكن لن يكون هنا ك براكسيس.

     يمكننا التساؤل عن أ صل مثل هذا التأويل. إنه ينبني على افتراض من طبيعة أنطولوجية:هذا الإفتراض  بقوم على أن وحدة الوعي والفعل وحدها تستطيع أن تشكل الأساس الملموس للتكفل بكينونة الأشياء. نقول إذن أن جنتيلي لا يرى في الماركسية (و خصوصا في الأطروحات حول فويرباخ)إلا ما كان ينتظر بداية أن يجده فيها، وما سينكشف له ما من شأنه قابل  للتأصيل  في مشروعه الفلسفي. فبالكاد كان يسمع جمل البيان13الشهيرة: "كل التاريخ ليس إلا تاريخ الصراع الطبقي." "يا عمال العالم اتحدوا."

     كان كل هذا في نظره هامشيا. ذلك أنه بالنسبة له، كما هو شأن كروتشه ولكن بدرجة أقل، تبقى الفلسفة بالدرجة الأولى قضية وعي وطني. وعلى المشروع الفلسفي أن يجد سبيلا لتحقق إيطالي خاص في إطار إجماع وطني ينبغي إيجاده فوق الطبقات، وذلك بدمج الخصوصيات داخل شكل من الوعي الموحد.

         ليس غريبا إذن أن يفضل جنتيلي في قراءته للأ طروحات حول فويرباخ ما يمكن أن نسميه اللحظة النظريةthétique) (moment، اللحظة الموحدة في الظاهرأين يتحدد الإنسان، بما هو ذات مجسدة في وظيفته الأنطولوجية والمكونة، كمنتج للتاريخ وللمعرفة. إنها قراءة بلا خطر على النظام الإجتماعي، ولكنها تعزز الدورالذي ينيط به المثقف ذاته:استشراف مستقبل الأمة، إرشاد الموا طنين نحو الطريق الذي يقود إلى هذا الشعورالموحد بالإنتماء، في كنف الدولة، إلى الشعب نفسه.

         من المؤكد أننا لسنا بعد بصدد الفاشية، ولكن لنقل أرضيتها الأخلاقية. من المهم أن  ندرك أن التوجهات التي ارتسمت، نهاية هذا القرن، انطلاقا من هذه الأرضية ظلت دائما مترددة. لكن ربع قرن بعد ذلك تمت اللعب. فقد أصبح جنتيلي فاشيا تماما ابتداء من سنة1923. في سنة1929 في مجموعة من المقالات بعنوان المذهب الفاشي وأصوله، يصف هذا الأخير بأنه نهضة جديدة وفية لروح مازيني14وجيوبرتي. كما كان يرى في الدولة والإديولوجيا الفاشية لحظة انتصار للشعب الإيطالي لشكل ومحتوى الوعي بالذات، لحظة تحقق الوحدة التي  لطالما بحث عنها، هو ذاته، فبين الفلسفة والدين والسياسة، ظل هدفه منذ البداية هو الفاشية.

         لقد سبق وأن قلنا أن"بداية جنتيلي لم تكن سيئة"ولكن كثيرين غيره لم تكن بدا يتهم سيئة، بمن فيهم موسوليني ذاته. غير أن تجربة الحرب، ثورة أكتوبر، اشتداد الصراع الطبقي في إيطاليا، عجل بانقشاع الغيوم فوجد كل واحد من المثقفين نفسه مجبرا على اختيار معسكره.

       سأقرأ إذن، عبر التجريدات التي أنتجها جنتيلي، عملية التجميل النظري للممارسة الفاشية، هذا ما يهمني إظهاره الآن وذلك بتتبع خيط كتابه الأخير "تكوين وبنية المجتمع".

      لا تشكل نقطة البداية أي خطر فهي مجرد تذكير بالأطروحات الجوهرية"للفعلية".Actualisme 15. نقرأ ونقول في أنفسنا: "ها هو ذا انسان يريد (و هو شأنه في النهاية)أن يعيد مغامرة فيخته الفلسفية (فيخته مهيغلا). في مركز هذه الفلسفة جدلية الأنا كفعل. فعل يعني تركيب أصلي، هوية المتقابلين (ذات، موضوع). أنقل: "اغتراب الذات في الموضوع الذي هو غيرها، ومنه عودة الذات إلى ذاتها. وبهذه الطريقة أكون أنا ذاتي، أكون إنسانا، الكائن الوحيد القادر على أن يقول"أنا". كتب هذا سنة1943 (التفكير فيه كان قبل هذا بكثير)وهو ليس سيئا بل يدعو للضحك. لكن لا نعجل بالضحك. فعن طريق سلسلة من الإنتقالات ستفضي نقطة البداية هذه إلى عملية تجميل  منهجية للممارسة الفاشية للترهيب.

         الإنتقال الأول:من الأنا-الفعل إلى الفرد. إذا كان صحيحا أن الذات هي وحدة الذات والموضوع فإن الفرد لا يمكن أن يقال عنه أنه موجود إلا في اللحظة التي يتعرف فيها على ذاته بما هو كذلك، بأن يضطلع بالمطلق وبنهائية الذات.

ليس الفرد أبدا موضوعا، إنه دائما ذات. (بمعنى أنه دائما ذاتا بغص النظر عن الحتميات الحاضرة).

         ممتاز؟لا سوء بوجه خاص في هذا. إنها استعادة"للحركات الجدلية" الجد مستعملة.

و لكن بأي ذات يتعلق الأمر؟

         في هذه النقطة سيظهر انتقال ثان للفرد نحو الإجتماعية. سنعيد على الفرد جدلية الأنا (في شكلها). إن الفرد هو ذات متوسطة. تماما كما هو الأنا وحدة الذات والموضوع، فكذلك الفرد هو وحدة الذات والآخر، إنه يحمل في ذاته إجتماعية الكلي في حركة تربطه بالذات وتحققه كذات. فالمجتمع إذن ليس مكونا من أفراد أحرار، إنه بصفة  جوهرية (متعالية، كان سيقول جنتيلي)حاضر في كل شخص، وكل شخص ليس هو ذاته إلا بما هو حضور الجميع فيه. وهكذا يزول  كل اختلاف وتندمج  كل مصلحة فردية. إن الجماعة محايثة للفرد وتشكل قانونه. ويرى جنتيلي في هذه المحايثة ما يسميه صوت الجميعvoxpopuliأي صوت الله voxdei.وهنا لا يجب أن نضحك لأنه سوف يشرح: "كل إيطالي بناء على هذا، يريد أن يكون هكذا، سيتكلم نيابة عن كل الإيطاليين، والشخص نيابة عن كل الناس، الأب نيابة عن كل الأباء، الإبن نيابة عن كل الابناء، المقاتل نيابة عن كل المقاتلين، الخ، الخ... وكل واحد نيابة عن الجميع".   أعجب من احتراسه في الترقيم ومن اللفظ المحتشم"الخ"... سأترك لكم عناء إكمالها، بذكر شخصيات أقل شرفا، تكون الجماعة محايثة لهم هم أيضا...

   هنا يكمن الإنتقال الحاسم، والذي نصل من خلاله إلى عملية تجميل وتطهير للفاشية في ممارساتها الأكثر وحشية". فأن يكون المجتمع"متعاليا"، أن يكون كما يقول جنتيلي في داخل الإنسان(ininteriorehomine)باقيا بكليته في رابطة جدلية للأنا والأخر، للغيري   AlterوالهوّيIpse، فهذا ما يضع المجتمع في جوهره، كفعل نظري متجانس ومؤسس لذاته. منذ هذه اللحظة لن يكون للفوارق الإجتماعية، وللكينونة الفعلية والتاريخية للمجتمع، إلا حقيقة أمبريقية منحطة.

    من الإجتماعية المتعالية إلى الدولة الملك(l’etat roi)(و هذا هو الإنتقال الأخير)  لا توجد إلا مسافة صغيرة. معيدين فعليا جدلية الأنا (دائما في شكلها). إن الحركة التي من خلالها يثبت كل فرد ذاته، يريد، يستمر، يرغب، الخ، هي ذاتها التي بواسطتها تتشكل الجماعة المتعالية فيها. هذه الإرادة التي يثبتها الفرد كما لو كانت إرادته، هي في حقيقتها  إرادة كلية، أي إرادة الجماعة، إنها الإرادة التي يسميها جنتيلي الدولة.

   بهذا المفهوم، الذي يتوجّب علينا التوقف عنده، يظهر الإنتقال الأخير، وعملية تجميل الفاشية الإيطالية.

         لنلاحظ أولا، (و قد أشار غرامشي إلى هذا فيpassato et presente , p.3216) أنه بتلاشي الفوارق في محايثة الدولة (التي هي ملك وروح معا)يتلاشى كذلك التفريق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي. وبناء عليه تبدو أجهزة الحكومة كمشارك جوهري للدولة. ومن ثم على أنها تحقق وحدة الإرادة الفردية والإرادة الجماعية. هكذا تكون سلطة الدولة هي الحضور الدائم لهذه الإرادة، وبدون أية واسطة غيرها، في كل نقطة من الجسم الإجتماعي. يعبّر غرامشي عن ذلك إذ يقول: "يصبح إذن من المتعذر التمييز بين السيطرةHégémonieوالديكتاتورية."

         في هذه الحالة تعتبر الصراعات الطبقية، والصراعات النقابية، بلوجود النقابات ذاتها  كمظاهر لإنحلال الجسم الإجتماعي، يستوجب على النظام أن يحاربها لأنها غير طبيعية (من حيث أنها تشكل نفيا لوحدة الإرادة الكلية والإرادة الفردية).

        وحدها الدولة قادرة على تحقيق كل ما يريد الفرد أن يكونه، وحدها الدولة حرة، وحدها الدولة أخلاقية. وتشكل إرادتها الجوهر الأخلاقي للمجتمع. في مثل هذه الشروط فإن كل جمعية تحقق مصالح تحالفية (حتى وإن قامت على التقسيم الفعلي للعمل)لا يمكن إلا أن تهدد وحدة الجسم الأجتماعي، مادامت غير مندمجة في هذه الوحدة، ولا تعبر في اختلافها عن الإرادة الموحدة للدولة. إن النقابة العمالية تقوم على تصور ذري (و مادي، يضيف جنتيلي)للمجتمع، هذا الأخير معتبرا كاجتماع عرضي للأ فراد، الذين هم أ فراد معنويون، أو من النقابات التي هي مجرد تجريدات خالصة. تجريدات تقود، يضيف جنتيلي (ص66): "إلى حرب الكل ضد الكل". وحدها النقابية الفاشية قادرة على دمج المجتمع المدني في الدولة الذي هو مادتها، كما أنها تشكل في وحدة نسقية وروحية اللحظات الضرورية لتقسيم العمل.

        ولكن لنذهب أبعد من هذا. فعلى مستوى تصور الدولة هذا سنكرر (دائما في شكلها)الجدلية ذاتها (المميزة للفعلية الجنتيلية). إن محايثة الدولة كإرادة مطلقة لا تشكل طبيعة ثابتة ودائمة.

        هذه الإرادة ذاتها، في محايثتها، تنقسم. وتتأسس الدولة إذن، فوق ممارساتها، كفكرة، كتعال. وتتمظهر بين الدولة المجسدة وفكرتها المتعالية هوة وتوتر.  في هذه الهوة تحيا الدولة وتصنع تاريخا، نقدا ذاتيا (نعم!)وثورة (بالطبع!). ثورة غريبة، بواسطتها يترقى، يثرى ويتقوى الوعي بالذات للجماعة خطوة بخطوة مثل"قطرة الماء التي تستنفذ الصخر"كما يقول جنتيلي. لنترجم:لن يكون هناك ثورة إلا استبدادية، ذلك أنه لا إرادة خارج الدولة. لن تكون هناك ثورة إلا محافظة بعمق (في الإطار الفاشي بالطبع). إن القوانين الدستورية مؤقتة غير أن النظام الفاشي الذي يقرها، والذي يعبر عن الجوهر الروحي للرابطة الإجتماعية، فسيبقى دائما حقيقتها.

بهذا المعنى يكون التاريخ الحقيقي كاستمرارية للإرادة الإجتماعية في ذاتها.

        توشك عملية التجميل على الإنتهاء. إن ما تريده الدولة أريده أنا ذاتي وأتعرف في ذاتي على أنني أريده، فإن مارس عليّ (أو على غيري)هذا العنف الذي يخنقني، فنعما، لأنه عنف مقدس. إنه الروح ذاته الذي يتكّشف هنا كفعل، ينقسم، ويعاد في أبدية وفي داخل الإنسان.                                                                      في داخل الإنسان كما قال جنتيلي، ويجب حمل هذا محمل الجد، فهو يعني أن لا شيء مما أستطيع –أنا، الفرد -  التفكير فيه، معرفته أو رغبته، يكون خارج إرادة الدولة. (أي أن يفلت خارج الكلية المكونة والبا طنية للرابطة الإجتماعية).

       وبالأخص ما أسميه ثقافتي، وثقافة غيري...لن يكون لها وجود فعلي إلا مندمجة ومعاد إنتاجها في إطار هذا المصير الجماعي (هذا ما يسمى توتاليتارية). غير انه بحركة جدلية أخيرة يمتص جنتيلي ويهضم الكلية، فهي، كما يقول لا تثقل كسلطة خارجية، إنها، بالنسبة للفرد، إرادته الخاصة.

        إنها كيمياء مفاهيمية مذهلة!(و جد مضحكة): "الأنا معاد إلى ذاته، بعد أن اغترب في الموضوع". شكلت هذه الجملة غير المؤذية (و جد المضحكة)قالبا لسلسلة من الإنتقالات.

        في آخر حلقة تظهر الدولة الفاشية (تاريخية، مؤقتة، نعلم ذلك، وواقعية أيضا)ليس فقط في عيني جنتيلي ولكن  في أعين كثير من الممثقفين الإيطاليين أيضا على أنها حقيقة (بالمعنى الهيغلي)كل التاريخ الإيطالي، على أنها الحل الجدلي لمآزق المجتمع الليبرالي.


هوامش:

*- جيوفاني جنتيليGiovanni Gentile (1875-1944) فيلسوف إيطالي وأحد كبار مؤرخي الفلسفة في أوربا. تعتبر فلسفته التي يطلق عليها اسم"الفعلية actualisme"شكلا من أشكال المثالية التي تأخذ جذورها من فلسفة ديكارت، كانط، هيغل وأيضا فلاسفة عصر النهضة الإيطاليين فيليسيو، فيكو وكامبانيلا. تقلد جنتيلي منصب وزير التعليم العام  (1922- 1924) في ضل الحكم الفاشي لإيطاليا، وكان أحد إيديولوجيي هذا النظام البارزين. من مؤلفاته الرئيسية  كتاب"فلسفة ماركس"الذي هاجم فيه الماركسية وكتاب      "ا صلاح الجدل الهيغلي". (المترجم)

**- النص عبارة عن محاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسي جان توسان دوزانتي في الندوة التي نظمتها جامعة باريس الثامنة- فانسان الفرنسية حول موضوع"الفاشية والفاشية الجديدة"خلال الموسم الدراسي1974- 1975. ويشكل في الوقت ذاته الفصل الخامس من كتاب: 

Elements pour une analyse du fascisme /1. Séminaire de Maria-A.Macciocchi.Coll.10/18. Paris. 1976. pp. 115-127.                                                                

***-  Jean Toussaint Desanti(1914- 2002) فيلسوف فرنسي.

1-"تكوين وبنية المجتمع".

. (1946- 1893) Alfred Rosenberg-2سياسي ألماني وأحد منظري النازية، طور في كتابه"أسطورة القرن العشرين"نظرية عرقية  تقوم على"حقيقة الدم النازي"التحق بالحزب النازي بعد لقائه بهيتلر في 1919.  شغل منصب وزير الأراضي المحتلة الشرقية خلال الحرب. حكم عليه بالإعدام في نورمبرغ. (المترجم)

3- تعني الكلمة"Risorgimento"في اللغة الإيطالية"النهضة"ولكنها تستعمل أكثرللتعبير عن مجمل المسار السياسي والعسكري والدبلوماسي الذي نشأت، نتيجة له، المملكة الإيطالية الموحدة سنة 1861. (المترجم)

4- Antonio Labriola(1843- 1904). من أوائل الفلاسفة الإيطاليين الذين اعتنقوا الماركسية، أثر كثيرا في انطونيو غرامشي خاصة من خلال كتابه "بحث المفهوم المادي للتاريخ".(المترجم)

5-  BeneditoCroce(1866- 1952). فيلسوف ومؤرخ إيطالي اعتنق الماركسية بتأثير من لابريولا، ثم تحول عنها إلى المثالية الهيغلية، اشتهرت فلسفته  بفلسفة الروح. كان خصما للفاشية. (المترجم)

9- De SanctisFrancesco(1811- 1883). أديب ورجل سياسة إيطالي، أثرت نظرياته حول الفن في عدد من المفكرين الإيطاليين مثل كروتشه الذي نشر بعض أعماله. (المترجم)

11-1937- 1891)  Antonio Gramsci (. من المؤسسين البارزين للحزب الشيوعي الإيطالي ومنظر ماركسي مشهور، كانت معارضته للديكتاتورية الفاشية سببا في توقيفه وسجنه سنة 1926. له كتاب"رسائل من السجن"الذي طور فيه تصوره للماركسية  باعتبارها فلسفة البراكسيس. (المترجم)

12-"Les thèses sur Feuerbach"كتاب لكارل ماركس نشره انجلز سنة 1888 كملحق لكتاب"لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية"وفيه  يحلل ماركس الفهم العلمي للممارسة انطلاقا من تصور مادي للتاريخ يقوم على أن الحياة الإجتماعية عملية في الأساس، وأن الإنسان نتاج عمله هو، وأنه في جوهره اجتماعي بطبعه. (المترجم)

3Le manifeste du parti communiste-1"أولى الوثائق التي كتبها ماركس وانجلز ونشر في سنة 1848 وفيه يثبت المؤلفان أن التاريخ هو تاريخ الصراع الطبقي وأن سقوط الرأسمالية حتمي، كما أوضحا فيه دور الطبقة العاملة ومهمة الحزب الشيوعي والهدف المباشر للشيوعية، وينتهي البيان بالشعارالمعروف"يا عمال العالم اتحدوا".(المترجم)

14- 1872-1805) Giuseppe Mazzini). وطني وثوري إيطالي ناضل من أجل الوحدة الإيطالية، أسس سنة 1931 حركة إيطاليا الفتاة(Giovine Italia) التي تهدف إلى توحيد إيطاليا وإقامة نظام جمهوري ديمقراطي. يعتبر لنشاطه هذا، من أبرز رموز القرن التاسع عشر في إيطاليا. (المترجم)

15-"Actualisme"الفعلية".  تعني في نظر جنتيلي أنه يمكن اختزال كل الواقع إلى مجرد أفعال خالصة للروح، وأنه لا يوجد ما هو أكثر فعلية من فعل التفكير ذاته. (المترجم)

16-"الماضي والحاضر".


@pour_citer_ce_document

عبد العزيز ركح, «جنتيلي والأصول الفلسفية للفاشية. بقلم: جان توسان دوزانتي»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ,
Date Publication Sur Papier : 2012-12-10,
Date Pulication Electronique : 2012-12-11,
mis a jour le : 14/01/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=725.