ضوابط في فهم النصوص العربية أمثلة من تراث الجاحظ
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°20 Juin 2015

ضوابط في فهم النصوص العربية أمثلة من تراث الجاحظ


PP: 141-153

أحمد مرغم
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

سنحاول في هذا البحث استخراج الضّوابط التي وضعها الجاحظ ت255ه، في سبيل الوصول إلى تفسير سليم للنصوص القرآنية والعربية، ومن تلك الضوابط: ضرورة أن يكون المفسّر حاذقًا علمَ اللغة، وذلك بمعرفة سَعَة اللّغة العربيّة،وسنَن العرب في كلامها، فيعرف أنّ اللفظ العامّ يبقى على عمومه ما لم يرد ما يخصّصه، وأنّالعربَ قد تعبّر بالظّاهر ومُرادها مَا هوَ مُسْتَعمَل، وأنّ اللّفظَ يحمل إمكانيةتوسيع ما يدلّ عليه ظاهرُه، وأنّالاختلافَ في التّعبير دليلٌ على الفَرق في الاهتمام والعناية.

كما يتوجّب على المتأوّل حملُ النصوص على اختلاف العلل وافتراق المعاني، وأنه لا ينفعه الاشتغال بعلم الكلام ما لم ينضمّ إليه العِلمُ بالشريعة، وأن الغلوّ والإلحاد ينشأ من الجهل باتساع اللغة، وأن من فوائد التقديم والتأخير في اللغة والقرآن الكريم إيقاظَ الضمائر والحثَّ على التأمّل.

الكلمات المفاتيح: التفسير، التأويل، اللغة، العموم، الخصوص، الظاهر، المستعمل.

On utlisera dans cette analyse les normes d’El Djahiz pour l’interprétation correcte des textes coraniques et arabes. Nous pouvaons relever parmi ces normes: l’interprète doit maitriser la linguistique incluant la richesse et les habitudes langagières des locuteurs, il doit savoir que le terme général reste ainsi tant qu’il n’y a pas personne pour le specializer. Les arabes peuvent utiliser le sens propre pour dire le sens figuré, le mot peut élargir ses significations propres, mais la différence dans l’expression reflète la différence des intentions et des intérêts.

L’interprète aborde les textes avec leurs différentes raisons et significations. Il reliera la linguistique à la sharia sachant qu’exagération et athéisme sont dus à l’ignorance de la langue. L’ineraction entre la langue et le Coran vise le réveil des consciences et la contemplation.

Mots-clés :Exégète, Interprétation, Langue, Général, Spécifique, Propre, Figuré.

In this research we try to report Eldjahiz’s standards for the correct interpretation of Qur’an and Arabic texts. Among them: the interpreter must master linguistics including its wealth and language habits of speakers, must know that a general term remains so as long as there is not what specializes it, Arabs may use the proper meaning to say the figurative, the word can extend its own meanings, and the difference in the expression reflects the difference of intentions and interests.

Interpreter discusses texts with their different reasons and meanings. He should combine linguistics and Shar’ia knowing that exaggeration and atheism are due to ignorance of the language, and that the objective of anticipation and postposition in the Qur'an is the awakening of consciences and contemplation.

Keywords: Exegete, Interpreting, Language, General, Specific, Literal Sense, Figurative Sense.

Quelques mots à propos de :  أحمد مرغم

أستاذ محاضر ب، قسم اللغة والأدب العربي،، عضو في مشروع الذخيرة اللغوية، عضو في مخبر تحليل الخطاب، جامعة محمد لمين دباغين سطيف.

المقدمة

إن الحديث عن منهج سديد في فهم النصوص يزداد إلحاحا يوما بعد يوم، نظرا لما يتطلبه الفهم من اكتساب منهجي للإجراءات التي وضعها الأصوليون.

ولعل بدايات هذا العمل الممنهج في الفهم والإفهام شقت طريقها لدى علماء التفسير، مرورا بعلماء الفقه وأصوله والذين عُنُوا باستنباط الأحكام والعلل، ومن ثم استحدثوا ما أمكنهم من قواعد في تأويل النصوص، المطلقة والمقيدة، والعامة والخاصة، والناسخة والمنسوخة، والمتقدمة والمتأخرة...، وكان لعلماء الإعجاز والبلاغة نصيبُهم في هذا الباب، مع بعض التميّز، في أنهم وسّعوا من دائرة بحثهم فشملَ القرآنَ والحديثَ والكلامَ العربيّ شعراً ونثراً.

والجاحظ بوصفه باحثًا متميزا في الدراسات الإسلامية والأدبية ومتخصصاً في أساليب فقه كلام العرب، وطرق حمله على أصحّ وجوهه، واكتشاف الأبواب التي يدخل الخلل منها على المتفهم لها، ينبّه في كتبه على كثير من الأمثلة التي يزل بسببها القارئ ويخرج عن مقصود المتكلم وقد، صنفنا تلك التنبيهات والإشارات في محورين كبيرين:

 أحدهما ينص على ضرورة أن يكون المتفهم حاذقا علم اللغة، والثاني يتحدث عن تكامل العلوم مع علم اللغة في عملية التأويل. ويندرج تحت كل محور مجموعة من النقاط، تسعى كلها إلى إظهار ما ينبغي أن يتميز به المتفهم للكلام العربي.

1-                     ضرورة أن يكون المفسر حاذقا علم اللغة

لا يكفي الباحث في القرآن الكريم، أن يكون مشتغلاً بعلم الكلاَمِ، وبكلّ علمٍ من العلوم، ما لم يكن عالما باللغة العربية، فقيها في ألفاظها، مفرقا بين مواقع تلك الألفاظ، وإلا فإنه سيهلَك في تفسير القرآن الكريم، لأنه سيحمله على غير ما تحمله عليه العرب، لأنّ الأساس في القرآن أنه جاء على سنة العرب في كلامها.

يقول الجاحظ ت255هـ1: "وللعرب أمثال واشتقاقات وأبنية، وموضع كلام يدلّ عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضعُ أخرُ، ولها حينئذ دلالاتٌ أخرُ، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنّة، والشاهدِ والمثلِ؛ فإذا نظر في الكلام 2، وفي ضروب من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن 3، هلَكَ وأهلَكَ".4

وهنا نستحضر حادثة مهمة تبين هذا الكلام وتشرحه، وقد تناقلها العلماء نظراً لما تدل عليه من خطر الجهل بلغة العرب، وبالفروق اللغوية الدقيقة فيها، وإن كان الرجل مع ذلك بارعاً في كل علم، فإنه سيدخل عليه النقص من جهة جهله بدقائق التعبير في العربية، حيث ينقل عبد القاهر الجرجاني قصة طريفة في هذه الجزئية تدل على أنه لا ينفع مع الجهل بالعربية أي علم:

"ركب الكنديّ المتفلسف إلى أبي العبّاس وقال له: إنّي لأجد في كلام العرب حشوًا! فقال له أبو العباس: في أيّ موضع وجدتَ ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: "عبدُ الله قائمٌ"، ثم يقولون: "إنَّ عبدَ الله قائمٌ"، ثم يقولون: "إنَّ عبدَ الله لقائمٌ"، فالألفاظ متكررة والمعنى واحد. فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم: "عبد الله قائم"، إخبار عن قيامه، وقولهم: "إنَّ عبد الله قائم"، جواب عن سؤال سائل، وقولهم: "إنَّ عبد الله لقائم"، جواب عن إنكار منكرٍ قيامَه. فقد تكرّرت الألفاظ لتكرّر المعاني، قال فما أحار المتفلسف جوابًا".5

وهذا الكلام من أبي العباس جاء في بعض الفروق في استعمالات" إنَّ " فحسب، فما بالنا بالصّيغ اللّغوية على كثرتها وتنوّعها في جميع أبواب العربية.

1-1-                اللفظ العام يبقى على عمومه ما لم يرد ما يخصصه

ومثال ذلك قوله تعالى: "وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا ١١٩" [النساء: 119].

ينقل الجاحظ ت255هـ في هذه الآية أقوال المفسرين مثل ابن عباس رضي الله عنهما، وعكرمة ومجاهد وغيرهما، ثم ينص على قاعدة لغوية تتعلق بالألفاظ ودلالاتها:

" فاللّفظ الذي ليست فيه دلالة على شيء دون شيء، يكون لفظاً عاماً، وبذلك لم يكن لأحد أن يقصد به إلى شيء بعينه، إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مع تلاوة الآية، أو يكونَ جبريل عليه السلام قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنّ الله تبارك وتعالى لا يضمر ولا ينوي، ولا يخص ولا يعن بالقصد، وإنما الدلالة في بنية الكلام نفسِهِ، فصورة الكلام هو الإرادة وهو القصد، وليس بينه وبين الله تعالى عمل آخر كالذي يكون من الناس".6

وبالنظر إلى ابن جرير ت 310هـ7فإنه يزيد هذا الأصل شرحاً وتوضيحاً، حين يحمل لفظ التغيير على عمومه، لأن دين الله جاء حاكماً على خلق الله، فكل تغيير في الخلق فهو بالضرورة تغيير في الدّين لأن فيه مخالفةَ أحكام الدّين في هذا الخلق، فرجع تغيير خلق الله إلى تغيير دين الله في ذلك الخلق، وحمل بذلك اللّفظ على عمومه، وحملُ اللفظ على عمومه أولى من تخصيصه بغير مخصصٍ.

ودليل ذلك ما ورد في معاني القرآن للزجاج، ونقله القرطبي في تفسيره:

"إن معناه أنّ الله خلق الأنعام ليركبوها، ويأكلوها فحرّموها على أنفسهم، وخلق الشمس والقمر والأرض والحجارة سخرة للناس ينتفعون بها، فعبدها المشركون، فغيروا خلق الله، أي: دينَ الله، لأنّ الله فطر الخلق على الإسلام، خلقهم من بطن آدم كالذّر، وأشهدهم أنه ربّهم فآمنوا، فمن كفر فقد غيّر فطرةَ الله التي فطرَ الناس عليها".8

"فالفصيح من كلام العرب أن يترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر، وبالخاص عن العام، دون الترجمة عن المفسر بالمجمل، وبالعام عن الخاص، وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام أولى من توجيهه إلى غيره ما وجد إليه سبيل".9

أما اللغة التي يعترف بها الجاحظ ت255هـ أساساً للاستشهاد في معاني القرآن الكريم فهي لغة الأعراب الفصحاء10، وكذلك من سار على نهجهم في الفصاحة11، ولو كان من المولدين لأنّ البحث المنصف يقتضي أن يكون في المتأخرين بعض ما عند المتقدمين:

يقول الجاحظ ت255هـ: "والقضية التي لا أحتشم منها، ولا أهاب الخصومة فيها، أنّ عامّة العرب والأعراب والبدو والحضَر من سائر العرب، أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى، من المولّدة والنّاتية، وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه، وقد رأيت ناساً منهم يبهرجون أشعار المولدين، ويستسقطون من رواها، ولم أر ذلك قط إلا في راويةٍ للشعر غيرِ بصير بجوهر ما يروي، ولو كان له بصرٌ لعرف موضع الجيّد ممّن كان، وفي أيّ زمانٍ كان".12

فالجاحظ ت255هـ لا يمنع من توسيع دائرة الاستشهاد حتى يصل بها إلى عصر المولدين، ناظراً في ذلك إلى أنّ الحسن ليس مقصورا على عصر دون عصر13، وأنه لا يخلو عصر من العصور من أن يكون فيهم المحسن اللاحق بالجاهليين في الفصاحة، وإن كان الأمر أعم وأشمل في عصر الجاهليين، والأعراب.

1-2-                من الحذق باللغة معرفة سنة العرب في كلامها

ومن سنة العرب في كلامها مثلاً أنها تحمل الشيئين على التثنية المجازية أو الجمع، "فيقولون: الأحمران: الذهب والزعفران، ويقولون: أهلك الناسَ الأحامرُ: الذهبُ والزعفرانُ واللحمُ والخمرُ.

والجديدان: الليل والنهار، وهما الملوان.

والعصر: الدهر: والعصران: صلاة الفجر وصلاة العشي، والعصران: الغداة والعشي.

ويقال: "البائعان بالخيار" وإنما هو البائع والمشتري، فدخل المبتاع في البائع.

وقال الله عز وجل: "يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُ ۚوَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١" ]النساء: 11[، دخلت الأمّ في اسم الأبوّة، كأنّهم يجمعون على أنبه الاسمين، وكقولهم: ثبيرين، والبصرتين، وليس ذلك بالواجب14، وقد قالوا: سيرة العمرين، وأبو بكر فوق عمر.15

وهذا من الجاحظ ت255هـ يدل على فقه في اللغة، إذ ليس التعبير بإطلاق أحد اللفظين من باب التغليب الذي سببه عند العرب دائما الأفضلية في اختيار اللفظ المغلب على اللفظ المغلوب، ولكن قد يحدث خلاف ذلك، بأن يعبروا عن الاسمين بالاسم الذي ليس هو الأفضل، والأعلى، والأشهر، كما حصل في قولهم: العمران في أبي بكر وعمر. فعلى الباحث في التفسير أنّ ينتبه لمثل هذه الفروق في التعبير، وأن يبحث عن أسبابها.

1-3-                 من سنن العرب: التعبير بالظاهر ومرادها ما هو مستعمل

ويشير الجاحظ ت255هـ إلى فكرة اللّفظ المستعمل، وغير المستعمل، وهو ما يعرف بالتّداول، وأنّ هناك قواعد تحكم التخاطب، لا بد أن يتنبه لها كل من المُتكلِّم والمخاطب، وأن يكون القصد بها واحدا عند كليهما، حتّى يتم الفهم والإفهام.

ويمثل الجاحظ لذلك بقوله تعالى: "فَبَعَثَٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ ٣١" [المائدة: 31].

يقول: "فلم يكن به على جهة الإخبار أنه كان قتله ليلاً16، وإنما هو كقوله تعالى: "وَمَنيُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ17دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ١٦" [الأنفال: 16]، ولو كان المعنى وقع على ظاهر اللفظ، دون المستعمل في الكلام، من عادات الناس، كان من فرّ من الزّحف ليلاً لم يلزمه وعيدٌ.

وإنّما وقع الكلام على ما عليه الأغلب من ساعات أعمال الناس، وذلك هو النّهار دون اللّيل.

وهذا أيضا كقوله تعالى: "وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٢٣إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا" [الكهف: 24].

ولو كان هذا المعنى إنّما يقع على ظاهر اللّفظ دون المستعمل بين الناس، لكان إذا قال من أوّل الليل: إني فاعل ذلك غدًا في السّحَر، أو مع الفجر، أو قال الغداة: إنّي فاعل يومي كلَّه، وليلتي كلَّها، لم يكن عليه حنث، ولم يكن مخالفاً إذا لم يستثن، وكان لا يكون مألوفاً إلا فيما وقع عليه اسم غد.

فأمّا كل ما خالف ذلك في اللّفظ فلا، وليس التأويل كذلك لأنه جلّ وعلا إنّما ألزم عبده أن يقول إن شاء الله، ليتقي عادة التألّي، ولئلاّ يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبدّ والمستغني، وعلى أن يكون عند ذلك ذاكر الله، لأنه عبد مدبّر، ومقلّب ميسّر، ومصرّف مسخّر18.

وإذا كان المعنى فيه، والغاية التي جرى إليها اللفظ، إنما هو على ما وصفنا، فليس بين أن يقول: أفعل ذلك بعد طرفة، وبين أن يقول: أفعل ذلك بعد سنة فرق".19

1-4-                 سعة اللغة العربية عند الجاحظ

وما لابد من معرفته أنّ العربية واسعة، ولا يمكن أن يحيط بها إلا نبيّ، وإذا خفي بعضُها على بعض الناس فلا يمكن أن يخفى على جميع الناس، حتى يوجد فيهم من يعلمه ولا يجهله، لتكون حجّة الله قائمةً في حفظ القرآن وحفظ لغته التي نزل بها.

يقول الشافعي: "وإنما بدأت بما وصفت من أنّ القرآن نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعةَ لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجماعَ معانيه، وتفرّقَها، ومن علِمَه انتفت عنه الشّبهة التي دخلت على من جهل لسانها".20

يقول الجاحظ ت255هـ مبينا سعة العربية، وعلومها، ومشاركتها في سائر الفنون: "وقلّ معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان، من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن قد وجدناه أو قريبا منه في أشعار العرب والأعراب، وفي معرفة أهل لغتنا وملتنا".21

وهذا من الجاحظ في العلوم التي يمكن الادعاء بأن العرب لا باع لهم فيها، مثل معرفة طبائع الحيوان، ومواضيع الفلسفة وعلم الكلام، أما إذا ذكرنا الفصاحة في الكلام والشعر، فإنّ العرب قد حازوا فيهما قصب السبق على سائر الأمم.

1-5-                إمكانية توسيع ما يدل عليه ظاهر اللفظ

فإذا دل الدّليل على إمكانية توسيع معنى اللّفظة يعمل العلماء على أن لا يهملوا شيئًا مما تدّل عليه، محافظة على معاني الألفاظ ودلالاتها.

وهنا يورد قوله تعالى: "وَلَوۡأَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٢٧" [لقمان:27].

يقول الجاحظ ت255هـ في تفسير معنى: "كلمات الله" في الآية: " والكلمات في هذا الموضع ليس يريد بها القول والكلام المؤلف من الحروف، وإنما يريد النّعم والأعاجيب، والصفات وما أشبه ذلك، فإنّ كلاًّ من هذه الفنون لو وقف عليها رجل رقيقُ اللسان صافي الذهن، صحيحُ الفكر، تامُّ الأداة، لما برح أن تحسرَه المعاني وتغمرَه الحكم".22

وقد نقل الإمام الطبريّ في الآية أقوال السلف، عن الحسن البصريّ وغيره، قال: "لو جعل شجر الأرض أقلاماً، وجعل البحور مداداً، وقال الله: أنّ من أمري كذا، ومن أمري كذا، لنفِدَ ماء البحور، وتكسّرَت الأقلام".23

ثم أورد الطبري وابن كثير قولاً لقتادة قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فقال الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ "قال: لو كان شجر البر أقلاماً، ومع البحر سبعة أبحر، ما كان لتنفد عجائب ربي، وحكمته، وخلقه، وعلمه.24

إن تفسير قتادة يفتح الباب على مصراعيه للنظر في إعجاز القرآن الكريم، وأنه كما قيل: لا تنقضي عجائبه، فلا يمكن الإحاطة بكلمات الله؛ لأنها لا نهاية لها ولا حدّ، وينبني على ذلك أنّ معاني كلمات الله لا يمكن أن يكون لها حَدّ تقف عنده، وتكتشف كل ما تدل عليه، ولكنها أيضاً لا تنفد معانيها على مرّ العصور.

إن تركيز الجاحظ على جعل هذا الموضع المتحدث فيه عن كلمات الله أنه يدل على عجائب خلقه وعلمه وحكمته، لا ينافي إثبات أنّ لله كلاماً لا يفنى ولا يُحاطُ به.

ومن القواعد المقررة في التفسير وأصوله، أنّ النص إذا ورد له أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضاد جاز تفسير النص بتلك المعاني المحتملة جميعاً.25

والعجيب أنّ ابن عطية حكم على تفسير الكلمات بالعِلم في هذا الموضع، أنه تفسير اعتزالي، بينما فسرها بالعِلم في آيات سورة الكهف حيث قال: "والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، ومعلومات الله سبحانه وتعالى لا تتناهى، والبحر متناه ضرورة".26

وقال في قوله تعالى في سورة لقمان: "والغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى، وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أذهان البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، وأيضاً فإن الآية إنما تضمنت أنّ كلمات الله تعالى لم تكن لتنفد، وليس تقتضي الآية أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والنحو... وذهبت فرقة إلى أنّ الكلمات هنا إشارة إلى المعلومات".27

قال القرطبي: "وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله، وهي في نفسها غير متناهية، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور...".28

وعليه فيمكن أن نجمع ما قيل في الآية، فنجعلها تطلق على كلمات الله تعالى حقيقةً، كما تُطلق على معاني كلمات الله سبحانه، وما فيها من عجائب لا تنقضي، وما يستخرج منها من معان لا تنتهي.

1-6-                 الاختلاف في التعبير يدل على الفرق في الاهتمام والعناية

ويمثل الجاحظ لذلك بقوله تعالى في قصة أصحاب الكهف، لما ذهبوا إلى كهفهم، واستصحبوا معهم الكلب دون سواه من الحيوان الذي يُؤْلفُ كالحصان والبعير وغيرهما، فكان خصوصَ الكلب، ثم قال حين أخبر عن عددهم: "وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا ١٨" [الكهف: 18].

ثم أعاد ذكر الكلب ونبّه عن حاله، فقال عزّ وجلّ: "وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖفَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا ٢١سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا ٢٢" [الكهف: 22].

وفي قوله تعالى: "ثَلَاثَةٌرَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ"، دليل على أنّ الكلب رفيع الحال، نبيه الذكر، إذ جعل رابعَهم، وعطف ذكره على ذكرهم، واشتق ذكره من أصل ذكرهم، حتى كأنه واحد منهم، ومن أكفئهم أو أشباههم، أو مما يقاربهم، ولو لا ذلك لقال: سيقولون: ثلاثة معهم كلبٌ لهم، وبين قول القائل: "معهم كلبٌ لهم، وبين قوله رابعهم كلبهم"، فرق واضح وطريق بيّن.29

ثم يعرض الجاحظ لأصل مهم من أصول التفسير، وهو أنّ حكاية الله عز وجل لألفاظ قوم في القرآن الكريم، تُعدُّ إقرارا من الله تعالى على صحة تلك الألفاظ المعبر بها، إذا لم يتعقبها بالتصحيح أو التخطيء.

"لأنّ تلك الألفاظ، وذلك الكلام لو كان منكراً، لأنكره الله تعالى، ولو كان معيباً لعابه الله تعالى، فإذ حكاه ولم يعبه، وجعله قرآناً، وعظمه بذلك المعنى، مما لا ينكر في العقل ولا في اللغة، كان الكلام إذا كان على هذه الصفة مثله، إذ كان الله عز وجل المُنزِّل له. وبعد فلا يمكن أن يجعل الله ذلك قرآناً ويتركَ التّنبيه على ما فيه من العيب، إلا والقول كان صدقًا مقبولاً".30

1-7-                 الإيجاز والإطناب عند الجاحظ

لقد ميّز الجاحظ الإيجاز والإطناب بما يكون عليه حال المُتكلِم والمخاطب من احتياج، فمتى احتيج إلى الفهم والإفهام فلا يسمى ذلك عنده إطناباً، ومتى زاد عن الحاجة خرج من الإيجاز.

فالموقف والحال يستدعي من الكلام ما هو كثير ولكنه لا يُسمى إطناباً وإطالة؛ لأنه لا يفي بالمعنى إلا ذلك كمثل ما يكون عند الصّلح وأمام الملوك من الخطب والأشعار الطويلة، فإنّ المقام يستدعي ذلك.

ومثال ذلك من القرآن الكريم، خطاب الله تعالى العرب، وخطابه بني إسرائيل؛ إذ خاطب كلاًّ بما هو اللاّئق به، وبما يفهمه، فلا يسمى خطابه بني إسرائيل إطناباً، ولكنّ الحاجة الدّاعية إلى إفهامهم تجعل خطابَهم الزائد عن خطاب العرب هو الإيجازَ في ذلك الموضع.

"فرأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام موضعَ الإشارة والوَحَى والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعله مبسوطًا، وزاد في الكلام فأصوب العمل اتباع آثار العلماء، والاحتذاء على مثال القدماء، والأخذ بما عليه الجماعة"31

ومما هو بسبيل من الإيجاز والإطناب اختيار الألفاظ في المواضع والمحالّ اللاّئقة بها، فلكلّ مقام مقال يطول أو يقصر، ولكل مقام مقال يختار له لفظه المناسب لمعناه.

يقول الجاحظ ت255هـ: "ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال".32

ويقول: "وليس بإطالة ما لم يجاوز مقدار الحاجة، ووقف عند منتهى البغية، وإنما الألفاظ على أقدار المعاني، فكثيرُها لكثيرها، وقليلُها لقليلها، وشريفُها لشريفها، وسخيفُها لسخيفها، والمعاني المفردةُ، البائنةُ بصورها وجهاتها، تحتاج من الألفاظ إلى أقلّ مما تحتاج إليه المعاني المشتركةُ، والجهاتُ الملتَبسةُ... وليس للعاقل أن يسوم اللغات ما ليس في طاقتها، ويسوم النفوس ما ليس في جِبِلّتِها".33

وهذا الكلام ينبئ عن مستوى كبير من الوعي بمراتب الألفاظ، داخل اللغة، ومراتب المُتكلِمين بها، والمُخاطَبين بها. وأن اختلاف المواضيع يؤدي إلى الاختيار من اللغة ما يُناسِب الموضوعَ، والفئةَ المخاطبةَ بذلك الموضوع.

ويقول في كون الألفاظ الواردة في المواضيع الخاصة أو التي يستحى من ذكرها، وأنها هي اللائقة في تلك المواضع: "وبعد فلو لم يكن لتلك الألفاظ مواضعُ استعملها أهلُ اللّغة وكان الرّأي ألا يُلفظَ بها، لَمْ يَكُنْ لِأوَّلِ كَوِنهَا مَعْنىً إلا على وجه الخطإ، لكان في الحزم والصون لهذه اللغة، أن تُرفع هذه الأسماءُ منها، وقد أصاب كل الصّواب الذي قال: "لكلّ مقامٍ مقالٌ".34

فالجاحظ هنا يتكلم في أصل مهم من أصول التفسير، وهو اللّغة التي تشرح وتفسر القرآن الكريم، أو النصوص الشرعية عموماً، فإنها تحتاج من صاحبها ألا يقصيَ الألفاظ التي يؤدي بها أغراضه التفسيرية الصحيحة، لأنّ هناك من المواضع ما يحتاج فيه التفسير إلى الألفاظ اللغوية الصّريحة، بحيث لا يغني لفظٌ عن لفظٍ، وإلا لما وجد هذا الثّراء اللفظي داخل اللغة العربية.

كما أنه لا يغفل أن يستشهد لهذه الفكرة بما روي عن أبي بكر رضي الله عنه، من جواب حينما قال بُدَيلُ بنُ وَرقَاء للنبي صلى الله عليه وسلم: جئتنا بعُجَرَائكَ وسُودَانكَ، ولو قد مس هؤلاء وَخزُ السّلاح لقد أسلموك، فقال أبو بكر: "عَضَضْتَ بِبَظْر اللاّت".

والمقصود أنّ لغة المفسّر الذي مهمته أن يُوصِل الفكرة صحيحةً، والمعنى سليماً، لا حرج عليه في مقام الألفاظ أن يستعمل كل ما هو متاح له من رصيد لغوي.

2-                     العلم باللغة وحده لا يكفي الباحث في تفسير القرآن الكريم وتأويله

       يقول الجاحظ: "ولو كان أعلم النّاس باللغة، لم ينفعك في باب الدّين حتى يكون عالماً بالكلام"35، ويمثل لذلك بالاحتمالات التأويلية في قول الله تعالى: "وَٱلۡخَيۡلَوَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ "[النحل: 8].

قال: وقد يتجه هذا الكلام في وجوه:

أحدها:

-                       أن تكون ههنا ضروب من الخلق لا يعلم بمكانهم كثير من الناس، ولا بد أن يعرف ذلك الخلق معنى نفسه، أو يعلمه صفوة جنود الله وملائكته، أو تعرفه الأنبياء، أو يعرفه بعض الناس، لا يجوز إلا ذلك.

-                       أو يكون الله عز وجل إنما عنى أنه خلق أسبابًا ووهب عللًا، وجعل ذلك رٍفدًا لما يظهر لنا ونظامًا.

ويفسر هذه الآية ويستدل عليها بالبرهان التجريبي كون التجربة خادمة للتأويل الذي أثبته فكأنه لاحظ من المتحدث استغرابه لأحد تفسيريه.

فقد نقل عن بعض المفسرين قوله: "من أراد أن يعرف معنى قوله: "وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٨" [النحل:8] فليوقد نارًا في وَسط غَيضَة، أو في صحراءَ بَرّية، ثم ينظر إلى ما يغشى النار من أصناف الخلق من الحشرات والهَمَج، فإنه سيرى صوَرًا، ويتعرفُ خلقًا، لم يكن يظنّ أنّ الله تعالى خلق شيئا من ذلك العَالَم، على أنّ الخلق الذي يغشى ناره يختلف على قدر اختلاف مواضع الغياض والبحار والجبال، ويعلم أنّ ما لم يبلغه أكثر وأعجب، وما أردّ هذا التأويل، وإنه ليدخل عندي في جملة ما تدل عليه الآية، ومن لم يقل ذلك لم يفهم عن ربه ولم يفقه في دينه".36

فكلما اتسعت الآية الكريمة من جهة المعنى والاحتمال، وكان لذلك التوسع في معناها شاهد من اللغة أو من العقل أو من الحس، فلا حرج أن نأخذ به، ما دام خادماً لمعنى الآية الكريمة.

 

2-1-                 حمل النصوص على اختلاف العلل وافتراق المعاني

وهنا لا بد للمفسر من صفاء ذهن، ومن فطرة سليمة ومن ذكاء يستطيع بواسطتها النّظر في النّصوص، وذلك أنّ للنصوص عللاً مؤثرةً قد تَخْفَى على صاحب التفسير حتى تظهر له متشابهة، وما هي من المتشابه، لأنه إذا فرّق بينها من خلال أسباب النزول أو أسباب الورود، فإن ذلك سيكون مُخرجًا لتلك النصوص من المتشابه إلى المحكم، وحينئذ لا يلغي أيّ نص منها، بل يعمل بها جميعاً، ويسقط كل نصّ على الحالة اللائقة به.

ويستدل الجاحظ لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: "اعقلها وتوكل"، وقال لبلال: أنفق بلالُ ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا ".37

ولذلك فهو لا يغفل هذه القضية ويحثّ على تتبعها في النصوص، واستخراج الحكم من وراء ذلك، "ولا بد من معرفة مداخلها ومخارجها ومُفَرَّقهَا ومَجمُوعها، فإنّ الله عز وجل لم يُرَدّد في كتابه ذكرَ الاعتبار، والحثَّ على التّفكير، والتّرغيبَ في النّظر، وفي التثبت والتعرف والتوقف، إلا وهو يريد أن تكونوا علماء من تلك الجهة، حكماءَ من هذه التعبئة".38

2-2-                 لا ينفع الاشتغال بعلم الكلام ما لم ينضم إليه العلم بالشريعة

وذلك متى تعارضت النصوص الشرعية مع النصوص الطبيعية، فإن العالِم حينئذ لا بد من أن لا يهمل جانبا من الجانبين، حتى يتوصل إلى التوفيق بين علم الشريعة وعلم الطبيعة،39فإنه حينئذ يكون قد أدرك أسرار الشريعة بحسب ما يتاح له من إمكانية التوفيق بين النصوص. يقول الجاحظ: "وليس يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكناً في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين، في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة، والعالِمُ عندنا هو الذي يجمعهما، والمصيب هو الذي يجمع بين تحقيق التوحيد وإعطاء الطبائع حقائقها من الأعمال. ومن زعم أنّ التوحيد لا يصلح إلا بإبطال حقائق الطبائع فقد حمل عجزه على الكلام في التوحيد، وكذلك إذا زعم أنّ الطبائع لا تصح إذا قرنتها بالتوحيد، ومن قال فقد حمل عجزه على الكلام في الطبائع".40

وذلك أنّ العالِم تصادمه نصوص من الشرع هي على غير ما هو معروف، وشائع عنده وعند غيره من الملل، فإذا كان هو ممن يؤمن ويستسلم للنصوص، فإنه يحتاج أن يستعمل علمه وحذقه لكي يوصل الإيمان بطريقة مغايرة للذين ليسوا على ملته، وطريقته، وههنا تحدث المحنة، لأنه يحتاج أن يجمع علوماً كثيرة مع إيمانٍ راسخ حتى يصل معهم إلى نتيجة وإلا أدى به البحث إلى أن ينقض بعض مقالاته مستسلماً لأمر من يلحد في الدين.

ويشير ابن تيمية إلى هذه النقطة فيما كتبة كمقدمة للتفسير، وأنه لا يوجد في القرآن ما لا يُعلمُ معناه.41وكذلك مقدمة تفسير جمال الدين القاسمي، حين ذكر مجموعة كبيرة من ضوابط التفسير ومقدماته، نقلها عن الشاطبي في الموافقات.42

ومن الأمثلة التي يجمع فيها الجاحظ بين علم الكلام وعلم الشريعة، كلامه عن العين والحسد، و"أنه لا بد من وجود فاصلٍ ينفصل من عين المستحسن إلى بدن المستحسن، حتى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقواه ولولا ذلك لما جاز أن يلقى مكروهاً البتة، إذ كيف يُعقل أن يَلقى مكروهاً من غير تماس ولا تصادم، ولا فاصل، ولا عاملا لاقى معمولا فيه، ولا يجوز أن يكون المعتل بعد صحته يعتل من غير معنى بدنه، ولا تنتقض الأخلاط ولا تتزايل إلا لأمر يعرض، لأنه يكون حينئذ ليس بأولى بالانتقاض من جسم آخر.

وإن جاز للصحيح أن يعتل من غير حادث جاز للمعتل أن يبرأ من غير حادث، وكذلك القول في الحركة والسكون، وإذا جاز ذلك كان الغائب قياساً على الحاضر الذي لم يدخل عليه شيء من مستحسن له، فإذا كان لا بد من معنى قد عمل فيه، فليس لذلك المعنى وجه إلا أن يكون انفصل إليه شيء عمل فيه. وإلا فكيف يجوز أن يعتل من ذات نفسه، وهو على سلامته وتمام قوته، ولم يتغير ولم يحدث له ما يغيره، فهو وجسم غائب في السلامة من الأعراض سواء وهذا جواب المتكلمين الذين يصدقون بالعين ويثبتون الرؤيا".43

وهذه الطريقة عند الجاحظ في التأويل، والنظر في النصوص، والجمع بينها وبين العِلمُ بالطبائع هي التي تجعل الملحد ييأس من الموحد، لأنه لم يدعه التَّوَفُّرُ على التوحيد أن يبخس حقوق الطبائع، لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها وإذا كانت الأعمال الدالة على ذلك قد دفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه، ولعمري أنّ في الجمع بينهما بعض الشدة وأنا أعوذ بالله تعالى أن أكون كلما غمز قناتي باب من الكلام صعب المدخل، نقضت ركنا من أركان مقالتي، ومن كان كذلك لم ينتفع به".44

وهذا يظهر لنا أنّ علم اللغة لا يكفي وحده في تأويل النصوص حتى تنضم إليه علوم كثيرة، وإلا دخل النقص على المتأول للنصوص من جهات كثيرة، مما يجعله يقول فيها بغير ما هو صواب، كما يحتاج إلى شيء من الشجاعة ليثبت على ما يعتقده حقًّا إلى أن يوصله البحث إلى الإثبات الحقيقي لما يراه صوابا، وإلا فإنه سيكون شديد التقلب بين الآراء والأهواء دن أن يستقر على رأي واحد.

2-3-                 الغلو والإلحاد ينشأ من الجهل باتساع التعبير في اللغة

ويضرب الجاحظ لذلك مثلا عند جهال الصوفية حين ادعوا أنّ في النحل أنبياء لقول الله تعالى: "وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ ٦٨" [النحل: 68]، وزعموا أنّ الحواريين كانوا أنبياء لقوله تعالى: "وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّ‍ۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ ١١١" [المائدة:111].

"وما خالف إلى أن يكون في النحل أنبياء؟ بل يجب أن تكون النحل كلها أنبياء، لقوله عز وجل على المخرج العام: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ"، ولم يخص الأمهات والملوك واليعاسيب، بل أطلق القول إطلاقاً".45

ومما تتميز به اللغة من كونها واسعة في التعبير ما جاء في قوله تعالى: "ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٦٩" [النحل: 69].

"فالعسل ليس بشراب، وإنما هو شيء يحول بالماء شراباً، أو بالماء نبيذاً، فسماه كما ترى شراباً، إذ كان يجيء منه الشراب.   وقد جاء في كلام العرب أن يقولوا: جاءت السماء اليوم بأمرٍ عظيم، وقد قال الشاعر:

إذا سقطَ السماءُ بأرضِ قومٍ            رَعيناهُ وإنْ كانُوا غِضابًا

فزعموا أنّهم يرعون السّماء، وأنّ السّماء تسقط.

ومتى خرج العسل من جهة بطونها وأجوافها فقد خرج -في اللغة- من بطونها وأجوافها.

ومن حمل اللغة على هذا المركب، لم يفهم عن العرب قليلاً ولا كثيراً، وهذا الباب هو مفخر العرب في لغتهم، وبه وبأشباهه اتسعت، وقد خاطب بهذا الكلام أهل تِهامة وهذيلا، وضواحيَ كنانةَ، وهؤلاء أصحاب عسل، والأعراب أعرف بكل صمغةٍ سائلةٍ، وعسلةٍ ساقطةٍ، فهل سمعتم بأحد أنكر هذا الباب أو طعن عليه من هذه الحجة؟".46

2-4-                 التقديم والتأخير في القرآن الكريم إيقاظ للضمائر وحث على التأمل

والقياس في هذه الفكرة مستخرج من الكلام العربي ذلك أنّ الباعث على الفكر في الكلام، ما يرِد فيه مقدماً ومؤخراً، ومثاله ما جاء على وزن قولهم: "ما له عندي قليل ولا كثير"،وقولهم: "العير والنفير"، وقولهم: "الخل والزيت" وقولهم: "ربيعة ومضر"، و"سليم وعامر"، و"الأوس والخزرج".

ومما ورد على ذلك قول الله تعالى: "وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا٤٩" [الكهف: 49].

فهذا يدل على أنّ المُقدمَ مقصود بالتقديم عند العرب، وكذلك المُقدمُ في القرآن الكريم مقصودٌ بالتقديم، ولا بد من البحث عن سرِّ هذا التقديم، الذي خولف فيه ما هو أصل في الكلام، لأنّ الأصل أن يُقدمَ الجليلُ على الحقير والكبير على الصغير، فإذا خُولِف الأصل فلا بدّ من إثبات فائدة كانت ستذهب لو أنه روعي فيها المحافظة على الأصل.

وهذا يشبه قوله تعالى: "يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٖ ٣٣" [الرحمن: 33]. حيث قدم ذكر الجنّ على الإنس، على الرغم من أفضلية الإنس، وما ذلك إلا لسرٍّ بلاغي يحتاج إلى كشف.

يقول عبد القاهر الجرجاني: "هو باب كثيرُ المحاسن جم الفوائد، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفترّ لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعراً يروقك مسمعُه، ثم تنظرُ فتجدُ سبب أن راقك، ولطفَ عندك، أن قُدّم فيه شيء، وحول اللفظ من مكان إلى مكان".47

ولسنا هنا بصدد اكتشاف مواضع التقديم والتأخير ولكن تكفينا هنا الإشارة والدلالة، دون التفصيل، ويكفينا أن ندرك أنّ كل كلمة في القرآن الكريم تحتاج إلى فكر وروية لاكتشاف سبب اختيار ذلك الموضعِ الخاص بها.

2-5-                 إضافة اسم الحيوان إلى أسماء السور تُنبّه على التفكّر فيها

وذلك أنّ الله عز وجل قد يُعظِّم الشيء في النفس ويصغره في العين، وقد يُعظِّمه في العين ويصغره في النفس ومثال الأول مثال النحلة والعنكبوت، فقد نوه سبحانه بذكرها ورفع من قدرها، وأضاف إليها السّور العظام، والآيات الجسام، وجعل الإخبار عنها قرآناً، وفرقاناً، حيث قال: "وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ ٦٨" [النحل :68]، فأوقفنا على صغر حجم النحلة وضعف أيدها، ثم ارم بعقلك إلى قول الله: "ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٦٩" [النحل: 69] فإنك تجدها أكبر من الطّود، وأسع من الفضَاء. ثم انظر إلى قوله: "حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ١٨" [النمل:18]، فما ترى في مقدار النملة في عقل الغبي، وغير الذكي، فانظر كيف أشاف الوادي إليها، وخبر عن حذرها ونُصحِها لأصحابها، وخوفها ممن قد مكن، فإنك تجدها عظيمة القدر، رفيعة الذكر، قد عظمها في عقلك، بعد أن صغرها في عينك".48

2-6-                ليس اتباع ظاهر اللفظ دائما هو الصواب في التأويل

ومثال ذلك ما رواه قتادة عن أبي موسى قال: "لا تتخذوا الدجاج في الدور فتكونوا أهل قرية، وقد سمعتم الله تعالى يقول: "أَفَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا بَيَٰتٗا وَهُمۡ نَآئِمُونَ ٩٧" [الأعراف: 97].

ولكنّ لهذا التأويل محملاً عند الجاحظ، فقد جعله من أبي موسى رضي الله عنه خطاباً خاصاً للجنود والمحاربين في أثناء الغزو، فقد كره للفرسان ورجال الحرب اتخاذ ما يتخذه الفلاح وأصحاب التعيش، مع حاجته يومئذ لتفرغهم لحروب العجم، وأخذهم في تأهب الفرسان، وفي دربة رجال الحرب، فإن كان ذهب إلى الذي يظهر في اللفظ فهذا تأويل مرغوب عنه.49

وقد قال أيضاً: "وقد يشبه الاسمُ الاسمَ في صورة تقطيع الصّوت، وفي الخطّ في القرطاس، وإن اختلفت أماكنه ودلائله، فإذا كان كذلك، يعرفُ فضلُه بالمُتكلِمين به وبالحالات والمقالات، وبالذين عُنُوا بالكلام، وهذه جملة وتفسيرها يطول".50

كما أنّ عمر بن الخطاب نهى رجلاً عن تأويل مبني على ظاهر اللفظ، حيث سمع رجلا يدعو، ويقول: "اللهم اجعلني من الأقلين"، قال: ما هذا الدعاء، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: "يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ١٣" [سبأ : 13]، وقال: "حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٌ" [هود : 40]، قال عمر: "عليك من الدعاء بما يُعْرَف".

كما أنّ من أمثلة التأويل المتوهم قولَ عبد الرحمن بن مهدي في تفسير كلمة "الدّهر" في قوله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله".

قال: وجه هذا عندنا أنّ القوم قالوا: "وَقَالُواْمَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚوَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ ٢٤" [الجاثية: 24]، فلما قال القوم ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك الله، يعني أنّ الذي أهلك القرون هو الله عز وجل، فتوهم منه المتوهم أنه إنما أوقع الكلام على الدهر.51

2-7-                 إقرار القرآن اللفظ الغريب يدل على سلامته في التعبير

وهنا يتواصل الحديث حول العقل واللغة، وكيف تكون الألفاظ اللغوية في ظاهرها مخالفةً لما يدل عليه العقل. فالجاحظ يعرض لأصناف الناس في مثل هذه المواقف الغريبة، مثل جعل الملائكة بأجنحة ثلاثة، وطعن بعض الملحدين في ذلك فيقول: "وغرائب الدنيا كثيرة عند من كان كَلِفًا بتَعْرَافِها، وكان له في العِلم أصل، وكان بينه وبين التبيّن نسب. وأكثر الناس لا تجدهم إلا في حالتين: إما في حال إعراض عن التبين وإهمال للنفس، وإما في حال تكذيب وإنكار وتسرع إلى أصحاب الاعتبار وتتبع الغرائب، والرغبة في الفوائد، ثم يرى بعضهم أنّ في ذلك التكذيب فضيلة، وأن ذلك باب من التوقي، وجنس من استعظام الكذب، وأنه لم يكن كذلك إلا من حاق الرغبة في الصدق، وبئس الشيء عادة الإقرار والقبول. والحقّ الذي أمر الله تعالى به ورغب فيه وحثّ عليه أن ننكر من الخبر ضربين: أحدهما ما تناقض واستحال، والآخر ما امتنع في الطبيعة، وخرج من طاقة الخلقة، فإذا خرج الخبر من هذين البابين، وجرى عليه حكم الجواز، فالتدبير في ذلك التثبت، وأن يكون الحق في ذلك هو ضالتَك، والصدق هو بغيتَك، كائنًا ما كان، وقع منك بالموافقة، أم وقع منك بالمكروه. ومتى لم تعلم أنّ ثواب الحق وثمرة الصدق أجدى عليك من تلك الموافقة لم تقع على أنْ تعطي التثبت حقه".52

وفي هذه الفقرة المهمة تأسيس للعِلم الذي يبحث في التوفيق بين علم الشريعة وعلم الطبيعة، ووضع لمنهج طلب الحقيقة العلمية وإن كانت الحقيقة بخلاف ما نعتقد، فلا بد عند الجاحظ من الخروج عن اتباع العوائد والتمسك بما دل إليه البحث المنصف.

خاتمة

لا يمكن في هذه العجالة أن نحيط بجميع ما أورده الجاحظ في طريقة تأويل النصوص وفهمها، إلا على سبيل الإجمال، لأن كلامه يحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل، لا يفي به هذا البحث، ولكن الذي يمكن أن نستخلصه، أن للقدماء -ومنهم الجاحظ- مناهجَ في التأليف والبحث، تحتاج في سبيل استكشافها إلى كثير من الرويّة والتأني، وإعادة القراءة، فهي ليست في متناول الباحث المتعجّل، وإنما يمكن أن يستخلصها من انقطع لدراستها وتتبعها، وحينها ستقع يده على علم عزيز، وعلى مناهج مدروسة بعناية فائقة تضاهي ما هو مشهود في العصر الحديث، لكن البحث الموسوعي لديهم ربما يغطي بعض الأفكار التي كنا نأمل أن تأتي في مواضع معينة، إلا أن للمؤلف رأيا آخر، لأنه لسعة إحاطته تختلف رؤيته عما كنا نتصوره.

وما استخلص في هذا البحث من آراء تتعلق بتأويل النصوص عند الجاحظ وجد كذلك عند المفسرين والأصوليين، مما يدل على أن له مشاركة في كثير من علوم الشريعة، على الرغم من الصبغة الأدبية التي تمتاز بها كتابته.


 

1.الجاحظ هو: أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري 159-255هـ، كان من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، ولد في البصرة وتوفي فيها. مختلف في أصله فمنهم من قال بأنه عربي من قبيلة كنانة ومنهم من قال بأن أصله يعود للزنج، وأن جده كان مولى لرجل من بني كنانة وكان ذلك بسبب بشرته السمراء، عمّر الجاحظ نحو تسعين عاماً وترك كتباً كثيرة يصعب حصرها، وإن كان البيان والتبيين وكتاب الحيوان والبخلاء أشهر هذه الكتب، كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء وغيرها.

2.                        أي: نظر في العلم المسمّى: بعلم الكلام.

3.أي: ليس من علماء اللغة العربية.

4.الجاحظ،2004، الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون، ج1، د ط، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، ص153-154.

5.عبد القاهر الجرجاني، 1413هـ/1992م، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ط3، مطبعة المدني، القاهرة، ص315.

6.الجاحظ، مصدر سابق، ص180.

7.محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبي جعفر الطبري224- 310هـ، إمام من أئمة المسلمين من أهل السنة والجماعةمؤرخ ومُفسروفقيه مسلم صاحب أكبر كتابين في التفسير والتاريخ. وكان مجتهداً في أحكام الدين لا يقلد أحداً، بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه. يعتبر من أكثر علماء الإسلام تأليفًا وتصنيفًا.

8.ينظر: محمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي، 2006، الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان، تح: عبد المحسن بن تركي، ج7، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ص147.

                               : أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزّجاج، 1988، معاني القرآن وإعرابه، شرح وتحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، ج2، ط1، عالم الكتب، بيروت، ص110.

9.أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، 2001، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: عبد المحسن بن تركي، ج7، ط1، دار هجر للطباعة والنشر، الجيزة. مصر، ص503.

10.                      اهتمت كتب أصول النحو بتحديد الفترة الزمنية والرقعة المكانية لحدود الاستشهاد في اللغة العربية، واشترطوا لذلك شروطا لا بد من توفرها حتى تكون اللغة حجة، والمتكلم بها مأخوذا بلغته، ومن الأوائل الذين فصلوا في المسألة: ابن جني في كتاب الخصائص.

11.                       ينظر في ذلك أيضا: أبو عبيدة معمر بن المثنى، د ت، مجاز القرآن، تح: محمد فؤاد سزكين، ج1، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص70.

12.                      الجاحظ، مصدر سابق، ج3ص130.

13.                      ينظر في تحديد طبقات الاستشهاد وعصوره: عبد القادر البغدادي، 1984، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تح: عبد السلام هارون، ج1، ط2، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص5-11.

14.                      أي ليس واجبا عند العرب التعبير عن اللفظين بذكر أنبلهما، بل قد يعكسون الأمر، بدليل المثال الذي ذكروه في "العمرين".

15.                      الجاحظ، مصدر سابق، ج3ص250.

16.                       يشير بذلك إلى لفظة: "أَصبَحَ"، المشتقة من الصّباح الذي يلي الليل.

17.                       يشير إلى ما تدل عليه لفظة: "يومئذ" المشتقة من "اليوم".

18.                      ينظر في مصطلحات: التسخير، والصرفة والتصريف، وغيرها عند الجاحظ: عبد الحكيم راضي، 1983، الأبعاد الكلامية والفلسفية في الفكر البلاغي والنقدي عند الجاحظ، ط2، مكتبة الآداب، القاهرة، ص297وما بعدها.

19.                      الجاحظ، مصدر سابق، ج3ص414.

20.                     محمد بن إدريس الشافعي 2005، الرسالة، تح: أحمد محمد شاكر، ط3، مكتبة دار التراث، القاهرة، 2005، ص134.

21.                      الجاحظ، مصدر سابق، ج3ص286.

22.                     الجاحظ، مصدر سابق، ج1ص211. ومعنى نفِد ينفَد: فَنيَ. ينظر: الراغب الأصفهاني، 1998، المفردات في غريب القرآن، تح: محمد خليل عيتاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ص502.

23.                     الطبري، مصدر سابق، ج18ص572.

24.                     المصدر نفسه، ج18ص572.

25.                     ينظر: مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار،1422ه، التفسير اللغوي للقرآن الكريم، ط1، دار ابن الجوزي، السعودية، ص591.

26.                     أبو محمد عبد الخالق ابن عطية الأندلسي، د ت، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، دط، دار ابن حزم، ص1216.

27.                     المرجع نفسه، ص1489.

28.                     القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، ج16ص489.

29.                     الجاحظ، الحيوان، مصدر سابق، ج2ص189-190.

30.                      المصدر نفسه، ج2ص191.

31.                      المصدر نفسه، ج1ص94.

32.                     المصدر نفسه، ج3ص39.

33.                      المصدر نفسه، ج6ص7-8.

34.                      المصدر نفسه، ج3ص43.

35.                      المصدر نفسه، ج2ص15.

36.                      المصدر نفسه، ج2ص110-111.

37.                      المصدر نفسه، ج2ص114.

38.                      المصدر نفسه، ج2ص115.

39.                      وذلك لأن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، لأن الأدلة نصبت لتتلقاها عقول المكلفين، حتى يعملوا بمقتضاها، ولو نافت العقول لم تتمكن من العمل بها، ينظر في تفصيل هذه الفكرة: أبو إسحاق الشاطبي 2006، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: محمد عبد الله دراز، ج3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص20.

40.                      الجاحظ، مصدر سابق، ج2ص134.

41.                      ينظر: ابن تيمية، 1428هـ، مقدمة في أصول التفسير، تحقيق وشرح: مساعد بن سليمان الطيار، ط2، دار ابن الجوزي السعودية، ص45.

42.                     ينظر: محمد جمال الدين القاسمي، 1954، تفسير القاسمي المسمّى: محاسن التأويل، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، ج1، ط1، دار إحياء الكنب العربية، القاهرة، ص69وما بعدها.

43.                      الجاحظ، مصدر سابق، ج2ص133-134، بتصرف.

44.                      المصدر نفسه، ج2ص135.

45.                      المصدر نفسه، ج5ص424.

46.                      المصدر نفسه، ج5ص426.

47.                      عبد القاهر الجرجاني، مرجع سابق، ص106.

48.                      ينظر: الجاحظ، مصدر سابق، ج5ص544.

49.                      المصدر نفسه، ج1ص296.

50.                      المصدر نفسه، ج1ص306.

51.                      المصدر نفسه، ج1ص340.

المصدر نفسه، ج3ص238-239.

 


 

@pour_citer_ce_document

أحمد مرغم, «ضوابط في فهم النصوص العربية أمثلة من تراث الجاحظ»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : PP: 141-153,
Date Publication Sur Papier : 2015-05-01,
Date Pulication Electronique : 2016-01-12,
mis a jour le : 03/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=1346.