النيتشوية كسعي دؤوب لقلب الأفلاطونية.
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°20 Juin 2015

النيتشوية كسعي دؤوب لقلب الأفلاطونية.


pp: 154- 175

عبد الكريم عنيات
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

 

The topic of this article is to shed light on an outstanding philosophical topic known as deconstructing and/subverting Platonian philosophy undertaken first by Fréderic Nietzsche 1840-1900. Then it was followed by a number of philosophical studies that had taken cue of his methods and materials. If the philosophical work in the whole is to lump up the macro into the micro and the many into the center, we shall resume without excluding the Nietzshian project as it continuously strives to deconstruct Platonian philosophy that had shaped historical Western philosophy in terms of religion, ethics, and philosophy. This deconstruction aims at the normalization of the oppressed Heraclusian’s continuity through redemption and reinstallation and therefore putting it ahead of partial truths through a process of adjustment with the main characteristics of contemporary thought.

Keywords: Become, Being, identity, condamnation, naturalisation, the heart of Platonism

Quelques mots à propos de :  عبد الكريم عنيات

أستاذ مساعد قسم أ بقسم الاعلام والاتصال كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية جامعة محمد لمين دباغين سطيف2

مدخل تمهيدي

من أكبر الأسماء الفلسفية التي يقترن بعضها ببعض في تاريخ الفلسفة بالإجمال والفلسفة اليونانية على وجه التخصيص اسما سقراط وأفلاطون. فما إن يذكر الأول حتى يستتبع الثاني بصورة آلية صرفه مثلما يحدث في التذكر العفوي. والسبب يعود إلى التقارب الزمني بينهما من جهة أولى، كما يعود أيضاً إلى التقارب المعرفي والفلسفي الذي ظهر في أستذة الأول وتلمذة الثاني، وهذا ما ولد منافع متبادلة؛ سقراط الأستاذ غرس التعاليم في أرض خصبة منتجة، ونامية لا يَخَاف ضياعها. وأفلاطون التلميذ استقبل هذه التعاليم، وأعطى لها صفة الخلود والحياة في التاريخ الفكري. وإذا كان تلاميذ كثر قد تتلمذوا للأستاذ سقراط أمثال انطسثانيس، إقليدس المغاري، أرستيبوس القورينائي...الخ، فإن واحداً منهم فقط استطاع القبض على كل تعاليم الأستاذ من خلال فهمها؛ وهو أفلاطون، أما البقية فلم يعرفوا إلا أجزاء الفيل الضخم على حد النص المنسوب لأفلاطون ذاته والذي أورده التوحيدي في المقابسات عندما أراد أن يشبه مسألة الحقيقة الواحدة والتعدد في الأفهام.1

وإذا كان حضور سقراط في المؤلفات النيتشويه شبه دائم، وكان في النهاية حضوراً غير مشرف. فإن أفلاطون هو سبب هذه المؤلفات أصلاً، بل هو الدافع الذي حفز نيتشه على تأليف ما ألفه من كتب ككل. كما أن أفلاطون هو الفيلسوف الوحيد من بين القدامى، الذي خصص له نيتشه مُؤَلفاً مستقلاً، ويحمل اسمه كعنوان له، وهو كتاب "مقدمة لقراءة محاورات أفلاطون"introduction à la lecteur des dialogues de Platon. وهذا الكتاب هو مثل كتاب "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي" la philosophie à lépoque tragique des Grecs عبارة عن مجموعة من الدروس المتتالية التي ألقاها نيتشه في المرحلة "البالية" أي عندما كان مدرساً في جامعة بال السويسرية، دروسٌ ألقاها من سنة 1871 إلى 1874. 2

يقول نقاد فلسفة نيتشه منبهين إلى مركزية العلاقة المفهومية بين نيتشه وأفلاطون إن هذا الأخير ليس حاضراً فقط في مؤلفاته، إنما هو سبب وجود كل الفلسفة النيتشوية، لأننا لا يمكن أن نفهم هذه الفلسفة إلا إذا اعتبرناها عملاً دؤوباً لقلب الأفلاطونية، بل كفاحاً مستميتاً لتفكيك هذه المنظومة القوية جداً بفعل تماسكها المنطقي وسلطتها الزمنية على العقول. إذ الأفلاطونية هي الفلسفة التي رسمت تاريخ الفلسفة الغربية بصورة كاملة، سواء في التفاصيل الصغيرة  الخفية أم القضايا الكبرى الظاهرة.3 فنيتشه كمفكر لا يفهم الفلسفة الغربية إلا وهي امتداد للأفلاطونية، أو كتمظهر دائم ومستمر للأفلاطونية، في أكثر من مستوى، سواء الفلسفي أو الديني أو الفني، لذا يضع نيتشه عنواناً لفلسفته بالبند العريض بغية إبرازها "الحركة  المضادة  للميتافيزيقا، أي  المضادة  للأفلاطونية"، بمعنى واحد ومتطابق لأن الأفلاطونية هي أساس الميتافيزيقا الغربية في جانبها الفلسفي والديني أيضا.4

لكن نيتشه ووعياً بمهمته الكبيرة، لا يتعامل مع أفلاطون بصورة سطحية وسريعة، لأن تراثاً بهذا الحجم والثقل يقتضي التَريُّث والصبر بل التخطيط وتأمل التأمل. فقبل أن يبدأ في قتاله وهجومه الهادفين إلى تحقيق الانتصارات التاريخية،5 على الأفلاطونية يبدأ أولاً في النظر إلى قيمة هذا الفيلسوف في أصوله مقارنةً بأستاذه سقراط. فإذا كان سقراط من أصول غير نقية و"ينتمي بالولادة إلى أكثر الدهماء دونية (...) سمجاً قبيحاً".6 وإذا كانت غرائزه مضطربة توحي بالطابع الإجرامي، وإذا كانت نفسيته مهلوسة بما كان يسميه هو بالجن (جن سقراط)؛ فإن صفات تلميذه أفلاطون على خلاف ذلك تماماً، فهو: "أجمل نبتة بشرية عرفتها العصور القديمة." كما أنه: "الأكثر براءة، فقد كان مجرداً من المكر الخاص بالدهماء (...) وله قوة تفوق قوى كل سابقيه".7 وهنا نلاحظ المعيار الذي اعتمده نيتشه في تصنيفه، إنه معيار الأصل الطبقي المديني الذي يميز الناس من ناحية النبالة والوضاعة، الأرسطون والديموس، الفقر والغنى...الخ. والمُلاحَظ أن هذا التقسيم الثنائي قد رافق فلسفة نيتشه دوماً، وفي كل المواضيع الابستمولوجية والدينية والأكسيولوجية...الخ. ورغم أنه قد رسم مهمته بما هي معاداته للأفلاطونية إلا أنه لم يستطع الانفلات من القسمة الثانية أثناء التعريف أو الفهم بما هي طريقة أفلاطونية بامتياز طبقها في نظرته الأنطولوجية ونهجه التعريفي كذلك، مثل تعريف السوفسطائي أو تعريف رجل الدولة.8 

إن أفلاطون ليس من الطبقة العامية، بل ينتمي بالمولد إلى نبلاء اليونان، سواء من ناحية أبيه أو أمه. وهذه الصفات الخلقية التي تتوفر فيه بفعل المنشأ تتوافق والنزعة النيتشوية؛ التي يمكن أن نسميها بالفردانية الأرسطوقراطية. فهو يميل إلى الاستقلالية والوحدة في حياته، كما أن عاطفته تميل بصورة حادة إلى التفرد والاختلاف. ثم إن نيتشه يعتقد كذلك أن الفيلسوف يجب أن يكون بعيداً عن الساحة العامة، فالقيم الفردية مثل الشجاعة والاعتزاز والأنانية أو الاعتداد بالذات هي القيم التي يُدافِع عنها في كل مؤلفاته، في مقابل تَشنِيعِه لقيم القطيع والدهماء مثل الطاعة والتضحية والنزاهة والرأفة...الخ.9

وبهذا، فلا يسع نيتشه إلا اعتبار أفلاطون هيلينياً نموذجياً أو إغريقياً أصيلاً، سواء من جانب أصوله البيولوجية أو من حيث طبيعة أفكاره العالية وحتى طريقة عرضه لفلسفته المتميزة. فله شأنٌ عالٍ خاصة بالنسبة للفيلولوجيين؛ فهو يمتلك لغةً ثريةً لا يمكن أن تكون موضوع مقارنة مع نصوص يونانية سابقة عليه أو لاحقة له. أما أسلوبه فهو من الجزالةِ، بحيث يجعل القارئ يتحصل على متعة فائقة، كما أن الوصف الأفلاطوني بلغ درجة من الكمال والجمال نادراً جداً في تاريخ الفلسفة والأدب معاً، ولو استقصينا الكتابة بعده، لاستطعنا أن نلاحظ أن الكثير من الفلاسفة قاموا بتأليفات فلسفية بطريقة المحاورة اقتداء به.10 فأفلاطون بالنسبة لنيتشه هو ذلك: "الإغريقي الوحيد الذي تبنى موقفاً نقدياً في نهاية الحقبة الكلاسيكية (...) إنه الناثرُ ذو المواهب الفنية والقدرات الكبرى المتمكن من كل السجالات (...) وهو في التأليف يظهر موهبة درامية عالية." وتتعدى عظمته الجانب المعرفي والأسلوبي إلى الجانب الأخلاقي، فالجميع يعترفون برفعته الأخلاقية،11 من خلال اعتباره إلهيا من طرف أفلوطين والمسلمين على الخصوص.

والسؤال الذي يبرز بصورة حتمية في هذه المرحلة هو: لماذا يختزل نيتشه مهمته الفلسفية في قلب الأفلاطونية، رغم الفضائل التي يمتاز بها أفلاطون، والتي لم ينكرها نيتشه ذاته؟ ما هو المبرر الذي جعل نيتشه يعمل على قلب فلسفة هي في أصلها موضوعة وضعا صحيحا؟ وهل استطاع نيتشه فعلاً تحقيق هذا المشروع الطموح جداً بالنظر إلى عتادة وعتاقة التراث الأفلاطوني من خلال تشكيله التاريخ الميتافزيقي الغربي بأكمله؟

أولا يجب أن نلاحظ مسألة مهمة وهي أن نيتشه على خلاف ما يُقال عنه بأنه مفكرٌ جاحد بسبب تهجمه على كل الفلاسفة دون حدود ودون قيود وحتى دون مبررات موضوعية. فهو في حقيقة الأمر قد اعتاد أن يذكر فضائل الفلاسفة أولا من خلال إظهار إنجازاتهم ومكاسبهم قبل الانتقال إلى التجريح من خلال إظهار الحدود والعيوب، وهذا ما طبقه مع معظم الفلاسفة أمثال أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط وهيجل...الخ. مما يدل على أنه مفكر معتدل الشكوكية وليس مفرطاً فيها بل وأكثر من ذلك يمكن القول بأنه صاحب أحكام موضوعية بالنظر إلى الحقيقة القائلة بأن لكل فيلسوف إنجازات وإخفاقات. وفي شأن أفلاطون يقول نيتشه إنه وعلى الرغم من كل فضائله ومزاياه الكثيرة والمتعددة، فإنه لم يبق على طبيعته وأصله الفاضل المتميز. بل طرأ عليه تحول، بل تغير نحو الأسوأ، ومصدر هذا التحول السلبي هو سقراط طبعاً. وهنا يضم نيتشه صوته إلى "مليتس" ورفاقه في الاتهام، ويؤكد تهمة سقراط مرة ثانية بعدما أثبتها قضاة أثينا. فسقراط مفسد للشباب فعلا، والشاب الذي يهم نيتشه في هذا المقام هو أفلاطون؛ يقول: يمكن لنا أن نتساءل -باعتبارنا أطباء- عمن أعدى أفلاطون بهذا الداء (...) هل هو سقراط القبيح؟ هل كان بإمكان سقراط أن يكون مفسد الشباب حقا ؟ وأن يستحق كأس السم؟".12 يجيب نيتشه عن هذه الأسئلة التشككية في حق سقراط قائلا: "يوجد في أخلاق أفلاطون شيء ما لا يمت بصلة إلى أفلاطون، بحيث يمكن أن نقول عنه إنه يوجد في فلسفته بالرغم منه، هذا الشيء هو: النزعة السقراطية التي تأباها في العمق طبيعته كأريسطقراطي ..."

il y a quelque chose dans la morale de Platon qui nappartient pas véritablement à Platon .13

وبالفعل، فإن مؤرخي الفلسفة يتحدثون عن قطيعة في حياة أفلاطون الفكرية، ففي سنوات شبابه الأولى كان كاتباً مسرحياً، بحيث ألف مأساة رباعية، كما أنه كان يكتب الشعر وهذا يدل على ميولِه الفنية الأصلية. لكنه أحرق كل هذه الكتابات وغيّر المسار، والسبب في ذلك هو إرضاء مُعلِّمِه الشيخ أي سقراط، الذي وقع تحت تأثير سحره وهو شاب دون سن العشرين.14 فأفلاطون الشاعر التراجيدي الشاب واليافع دفع ثمناً غالياً من أجل تتلمذه لسقراط، فقد كان عليه أن يتخلى عن توجهه الأصلي، وهو التأليف التراجيدي بما هو دلالة على النزوع الفني الذي لا يعول كثيراً على العاقلية المفرطة.15 وإذا كان الشائع عن سقراط أنه لا يُعلِّم الشباب بمقابل مادي وأجر معلوم، كما كان عليه الحال مع السفسطائيين، فإنه في حالة أفلاطون قد تلقى أجراً باهظاً، يفوق كل مقابل مادي، وهو تحويل الفني نحو وجهة عقلية مفرطة في عقليتها. وهذا ما عارضه نيتشه طوال مسيرته الفلسفية على اعتبار أن الفني هو الذي يجعلنا نتطبب الحضارة الغربية المريضة بفعل سقراط وأفلاطون والمسيحية بما هي تمظهر للتخمة العقلية المضادة للنزوع الحسي. وبهذا القدح في المسبب الأول لانحراف أفلاطون، يكون نيتشه قد سار في طريق الملهاة الإغريقية التي شنعت سقراط أيما تشنيع، ونقصد طبعا مسرحيات أريسطوفانيس التي صورته في وضعية لا تقل في ازدرائها ازدراء أفلاطون ذاته للسفسطائية.16

وما نلاحظه هنا، أن نيتشه قام بقلب الاعتقاد السائد والفكرة المنتشرة حول علاقة سقراط بأفلاطون رأساً على عقب. فقد شاع أن أفلاطون هو الذي شكل فلسفة سقراط، وقولّه ما لم يقله، وأكثر من ذلك هناك من يقول إن أفلاطون قد شَوَّه أفكار سقراط، وحرّف صورته التاريخية. أما نيتشه فيؤكد أن العكس هو الذي حدث، فأفلاطون في أصله يمثل الفيلسوف الهيليني النموذجي والمثالي في نزوعه الفني، بيد أنه فَسُد بين يدي سقراط. لكن هذا لا يعني أن سقراط هو السبب الوحيد لفساد هذا الهليني النموذجي؛ بل هناك سبب آخر ساهم في ذلك وهو الرحلة التي قام بها إلى مصر،17 أين تم تلويثه بالتعصب اليهودي، ونقلت إليه عدوى التزمت الأخلاقي المتمثلة في فكرة الخير الأسمى أو المثالي كتعويض لمكانة الآلهة الإغريقية. إن تمصر أفلاطون وتسقرطه أديا إلى نتيجةٍ كارثية وهي انحدار أفلاطون إلى العقلانية التي أفسدت التراجيدية الإغريقية ذات التوجه الفني المحبب في الحياة. مما يجعله مؤسس الانحطاط  la décadence الغربي.

وبما أن أفلاطون تَحَوّل عن أصله، سواء أكان مدفوعاً إلى ذلك أم مُريداً بمشيئته، فإن الآلة النقدية النيتشوية لا تصبر على ذلك سكوتاً. وهنا تبدأ ملحمة قلب الأفلاطونية في فلسفة نيتشه كما أرادها هو. وسوف نحاول إجمالها في ثلاث نقاط كبرى جامعة النقد النيتشوي الموجه إلى أفلاطون من أجل إعادة إحياء الصيرورة في براءتها الأولى، وتطبيب الحضارة الغربية من خلال إيجاد مصل مضاد لتلوث الأفلاطونية. والنقاط التي توصلنا إلى إجمالها هي كما يلي:

-                       استراتيجية تغيير السؤال.

-                       الجدلي والفني أو من المعقول إلى اللامعقول.

-                       كشف الهجانة الأفلاطونية، أو تبديد وهم ألوهية أفلاطون.

1-من السؤال الماهوي إلى السؤال الجينيالوجي: أو المقاربة الاستسآلية الجديرة.

من العبارات المدرسية التي ترد على لسان كل دارس للفلسفة، نجد العبارة التي نحتها كارل ياسبرز والتي بلغت شهرة معتبرةً نظراً لما فيها من حقيقة كاملة: "إن الأسئلة في الفلسفة أهم بكثير من الأجوبة، وكل إجابة تتحول بدورها إلى سؤال جديد".18 وهي عبارة تدل على أن منشأ الفلسفة وماهيتها مرتبط بالأسئلة التي يطرحها الفيلسوف والمفكر عامة. فقيمة أية فلسفة لا تكمن -بصورة مطلقة- في الأجوبة والنظريات التي تقدمها، بقدر ما تكمن في الأسئلة التي تصوغها. فالسؤال هو الذي يمكّن من فتح حقول معرفية جديدة، وهو الذي يمكّن كذلك من وضع المسائل المستعصية وضعاً جديداً وملائماً من أجل السير في طريق البحث النظري. وعلى الرغم مما للأجوبة من أهمية في الحقل الفلسفي، فإن كل تجديد هو ابن الاستسآل الجديد والفريد. مما يجعلنا نعتقد بأن فرادة الفيلسوف تكمن بالضبط في "سر أسئلتهوتاريخ الفلسفة يعطينا أكثر من نموذج يدل على أن التجديد المذهبي هو مُحصِّلة التجديد في الطرح.

وإذا كان المفكر المغربي "طه عبد الرحمن" يُحدِّد شكلين فقط للسؤال الفلسفي، هما على التوالي:

-                        السؤال القديم الذي طرحه اليونان، الذي غرضه فحص وإفحام المحاور. وهو السؤال السوفسطائي الذي يكشف عن إرادة القبض على ماهية الأشياء. وعندما نقول سؤالاً سوفسطائياً فإننا لا نقصد هذا التوجه فقط، بل وكل الفلاسفة المعاصرين له أمثال سقراط وأفلاطون.

-                        والسؤال الحديث الذي يتصف بالنقدية، لأنه يضع حدوداً للعقل، لا يمكن أن يتجاوزها، مهما امتلك من قدرات، حيث يبقى هناك مجال للاأدرية، وهو أساساً السؤال الكانطي.19

قلنا إذا كان التقسيم "الطاهائي" ثنائيا، فإننا في هذا المقام يمكننا تعديل وتطوير هذا التقسيم، لأن السؤال الأفلاطوني لا يهدف فقط إلى إفحام الخصم، خاصة إذا كان المحاور سفسطائياً، رغم أنه يقوم بذلك فعلا، بل له أهداف أخرى إيجابية لا يمكن إنكارها؛ فهو يعلم أولا "أن طرح الأسئلة أصعب من الإجابة عنهافالإخفاق في القدرة على طرح السؤال الملائم، مثله مثل عدم القدرة على العثور على الإجابة الصحيحة، تجعل المتحاورين يراجعون المسلمات والاعتقادات.20، وهناك "نمط سؤالي أو تساؤلي" مهم جدا،  ظهر بعد كانط، لم يذكره مصنف الأسئلة السابقة وصاحب "اللسان و الميزانوهو السؤال الجديد الذي طرحه نيتشه، المسمى بالسؤال الجينيالوجي أو النسابي. لذا تحصل نيتشه على لقب "الفيلسوف السائل، أو السائل الكبير"21 بجدارة، وهذا يعود إلى قدرته الفائقة على تحويل البديهيات إلى مشكلات تتطلب بحثاً، ومن جهة أخرى حوّل السؤال الباحث عن الماهية إلى سؤال مصدر وأصل الطارح، فلا يمكن أن نسوي على أي حال بين مصادر السؤال وهي المشكلة التي أهملها أفلاطون بخاصة. وبهذه الطريقة في الطرح يعارض نيتشه الطريقة الأفلاطونية والكانطية على حد سواء. هذا ما يجعلنا نطرح من جهتنا السؤال التالي: هل هناك فعلاً فرق بين السؤال الأفلاطوني المسمى "ماهويا" والسؤال النيتشوي المسمى "الجينيالوجياهل جدد نيتشه استصدار نمط سؤالي جديد يجعله "سيد الاستشكال" في تاريخ الفلسفة المعاصرة؟

لو تأملنا الأسئلة التي يطرحها أفلاطون على لسان سقراط في محاوراته الكثيرة، لوجدنا أن هذه الأسئلة ذات طابع واحد ومشترك، بمعنى أن اختلاف مضمون الأسئلة التي طرحها أفلاطون على طول محاوراته الكثيرة، يقابله اشتراكها في شكل الطرح أو غايتها من الطرح، ومن أجل توضيح ذلك نأخذ نموذجا أو أكثر:

-                       مثلاً عندما يسأل سقراط ما التقوى وما الفجور؟ ويجيب أوطيفرون قائلا "التقوى هي أن تقيم الدعوى على كل من يقترف جريمة القتل أو الزندقة." فإننا نلاحظ أن رد فعل سقراط كان عنيفاً نوعاً ما، يقول محتجاً على محاوره الساذج" لم أطلب منك يا أوطيفرون أن تضرب لي للتقوى مثالين أو ثلاثة، بل أن تشرح الفكرة العامة التي من أجلها تكون الأشياء التقية كلها تقية".22 ومعنى ذلك أن خَلْفِية أفلاطون تكمن في أن حقيقة وماهية الشيء لا توجد في حالة خاصة، بل فيما تشترك فيه كل الحالات المشابهة.

-                       وعندما يطرح كذلك سقراط السؤال على مينون عن معنى الفضيلة la vertu؟ يجيب المحاور قائلا: "فضيلة الرجل هي أن يكون قادراً على إدارة شؤون الدولة، فضيلة المرأة أن تحسن إدارة منزلها محافظةً على ما فيه ومطيعةً لزوجها، وهناك فضيلة الطفل وفضيلة الشيخ..." وهنا يرد سقراط متهكماً كعادته: "كنت أبحث عن فضيلة واحدة، وإذا بي أمام خلية من الفضائل (...) الفضائل مهما تكن من كثرتها ومن تنوعها، إلا أنها تمتلك جميعاً صورة معينة واحدة بها تصير فضائلJétais en quête dune seule et unique vertu, et voilà que je dicouvre tout un essaim de vertus ".23

وما فعله أفلاطون مع الفضيلة والتقوى، فعله كذلك مع بقية المفاهيم التي كان يسعى لضبطها وتحديد ماهيتها. فأي دارس لمحاورات أفلاطون الكثيرة يفهم مسألة محددة وهي أن تحديد ماهية الأشياء والتصورات الأساسية لا يكون بالعودة إلى عالم الواقع والتجربة المتحولين والجزئيين، أي لا يتم بالنظر إلى الأرض الصائرة دوماً، لا يكون بالنظر إلى الأسفل بما هو تعبير عن الروح التجريبية والنزوع المخبري، بل على العكس تماماً يتم بالنظر إلى السماء بما هي حيز النموذج والمثال الأصلي الكامل. فالجمال مثلاً وهو الموضوع الذي اهتم به أفلاطون كثيراً إلى جانب موضوع الخير، ليس كائناً في هذا العالم، ليس موجوداً في الأرض، أو الواقع كما نراه ونعيشه، بل إنه يعلو عليه، فهو موجود في المثال والماهية، أو أن وجوده الماهوي ليس كائناً في العالم الحسي. ونحن نعلم جيداً التمييز الحاد الذي افترضه أفلاطون بين ضربين من الوجود يولدان ضريبن من الحقائق أو المعارف.24 وما سؤال هيبياس السوفسطائي حول مفهوم الجميل إلا دليل ثالث على تمسك أفلاطون بالمفهوم الماهوي للأشياء، وأن هويتها متأتية من اعتقاده بوجود نموذج أو باراديغم25 مفارق إلهي لكل الأشياء الحسية الجزئية بما هي تعبير عن استنساخ. يقول في "هيبياس الكبرى" Hippias majeur المخصصة لماهية الجمال وهو عنوانها الفرعي: "إني أؤكد إذن على الدوام، في كل مكان ولكل إنسان، أن الأكثر جمالاً هو أن يكون الانسان غنياً، معافى، يكرمه اليونانيون، إلى أن يصل إلى سن الشيخوخة، ويدفن آباءه بنبل، وعلى أن يحمل هو نفسه إلى القبر بمراسيم مهيبة يقيمها له أولاده." وجواب سقراط هو دوماً على الصيغة التالية: "سألتك بخصوص الجمال ذاته، بشأن ذلك الذي يعطي الصفة المميزة لكون كل شيء جميلا...".26

لذا، وبالنظر إلى الأمثلة الثلاثة المقدمة أعلاه، نلاحظ أن السؤال الأفلاطونيالسقراطي يتميز بأنه سؤال ماهوي، أي يتعلق بماهية الأشياء، وليس بالأشياء في حد ذاتها. وهذا ما يعكس الخلفية التي انطلق منها أفلاطون، وهي أن العالم ليس واحدا: هناك الأشياء والأفكار، الحقائق والمظاهر، الوقائع ومثال الوقائع. وبلغة الفلاسفة السابقين على سقراط: هناك الوجود والصيرورة أو اللاوجود.27 وهنا تتمظهر مرة أخرى الثنائية الأفلاطونية التي استلمها من بارمينيدس، ونحن ندري جيدا العلاقة الحميميةالمفهومية بين أفلاطون ومعلمه الموقر بارمينيدس الذي خصص له محاورةً مهمة. وهذه المسألة لم تتخف أيضاً على ذهن نيتشه المتوقد إزاء مصادر المثالية الإغريقية التي اكتملت على يد أفلاطون وهو الوريث الشرعي لبارمنيدس الإلياتي.

إن أفلاطون عندما يطرح السؤال "ما هو؟ Que ce- que فإنه يطرح إذن سؤال الجوهر والماهية والحقيقة. فأكبر الحماقات حسبه هو أن نقول إن اللوحة الفنية، أو المرأة... الخ هي التي تمثل الجميل في حد ذاته، فعندما نسأل "ما هو الجميل؟" فإن الصفة الكلية، كما يحدد ذلك أرسطو لاحقاً في منطقه بما هو تعبير عن الكلي، ألم يقل بأن لا عِلْمَ إلا بالكليات؟ لا يجب تحديدها أو تعريفها بصفة جزئية، بل بصفة كلية أخرى.28 وبهذا يتحقق المشروع السقراطي وهو الجدل كانتقال من فكرٍ إلى فكرٍ، دون العودة بتاتاً إلى عالم الحس والواقع والمتغير. إنه ضرب من الاستقراء الفلسفي المبكر، لأنه لا ينظر إلى الحس وإن كان ينطلق منه، والجدل الصاعد هو تحقيقٌ للمفهومية الأفلاطونية بما هي صعود من المتغير إلى الثابت القار.

وإذا كان هذا السؤال الميتافيزيقي الذي ابتدعه أفلاطون وسقراط متعاونين معاً، يؤدي إلى النظر، والانفصال عن الواقع المتحرك، فإن نيتشه قد عمل على إسقاطه وإلغائه من خلال كشف الأقنعة. فلا يهمنا في نظره معرفة الخير والشر في ذاتهما أو في جوهرهما المجرد. بل المهم هو الكشف عن المتكلم الذي يستعمل هذه المصطلحات، أي الخير والشر، أو الجمال والفضيلة...الخ.29 إن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه بدل الطرح الأفلاطوني، لابد أن يكون بالصيغة التالية: "ما هو هذا بالنسبة لي؟" فلو قمنا بعملية مقارنة بين هذه الصيغة الجديدة، والصيغة الأفلاطونية المألوفة وهي: "ما هو؟" لاكتشفنا مدى شساعة الفروق ومركزية الاختلافات، فالأول سؤال مُحايث، يعكس حقيقة الواقع الإنساني حيث كل شيء يرتبط بالأفراد والذوات، في حين أن السؤال الثاني مفارق بعيد كل البعد عن الإنسان والواقع.30 مما يجعل نيتشه هنا يستأنس بالمبدأ السوفسطائي القائم على جعل الإنسان هو مقياس الأشياء جميعاً. مما يدل على أن المفهوم يتبدل بتبدل المنظومة المرجعية للفرد الواحد، وهذا يولد النسبية الابستمولوجية والقيمية مثلما تولد السحب الكثيفة الأمطار الغزيرة.

إن السؤال "ما هو هذا بالنسبة لي أنا" أي ما هو الخير بالنسبة لي مثلاً؟ هو سؤال مرتبط بالمُتكلِّم، فهو لا يقف عند المظاهر والأقنعة. ولا يُخَاتِل أو يراوغ باسم الماهية والحقيقة. لذا فالسؤال الذي يقترحه نيتشه يتصف بأنه "لا يسأل الشيء من حيث ما هو، من حيث الماهية، إنما من حيث ما يضمره ويخفيه ويحجبه، يسأل السؤال الجينيالوجي عن طبيعة القوى التي تستحوذ على الخطاب، وطبيعة الإرادة التي تستولي على النص وتمتلكه". 31 إنه سؤال الأرض التي تختلف من مكان إلى آخر، بدل السؤال الأفلاطوني، سؤال السماء المفارقة التي تخاتل باسم المطلق والثابت. فلا يمكن أن يكون الخيرُ خيراً بالنسبة للجميع، وقس على ذلك الجمال والفضيلة والحقيقة...الخ. يقول هوبز Tomas Hobbes في مؤلفه LEVIATHAN  الأساسي ما يشبه منظور نيتشه في تبعية التقييم للشخص: "كلمات الخَيِّر والشّرير والجدير بالازدراء هذه يرتبط استعمالها دائماً بالشخص الذي يستعملها (...) لا يمكن اتخاذ قاعدة عامة للخير والشر من طبيعة الأشياء ذاتها".32 وهذا بالتحديد ما كان يسعى أفلاطون إلى إنجازه في مشروعه المثالي الذي يؤسس للمطلق والمتعالي.

وما يمكن أن نفهمه مما سبق، أن السؤال الأفلاطوني ليس سؤالاً بريئاً، بل هو يُخفِي وراء ادعائه الكلية والماهوية والشمولية إرادةً للسيطرة وفرض سلطة المتحدث أو المرجعية القوية. كل هذا دون أن يصرح ويعلن عن هذه النوايا المضمرة. في حين أن السؤال الذي يقترحه نيتشه، هو سؤال شفاف وواضح المصدر لأنه مُعلن ومُنْفَتِح على حقيقته غير موار، ولأنه يعلن الإرادة التي تريد أن تسيطر، والكامنة وراء تحديد القيم والمفاهيم مثل الخير والجمال والحقيقة والفضيلة.

ونيتشه -في حقيقة الأمر- ليس هو أول من عارض طريقة المُساءلة الأفلاطونية. فقد كان "هيبياس" - مثلما أشرنا إلى ذلك سابقا وهو السفسطائي الذي عنون أفلاطون أحد محاوراته باسمهيعتقد أن السؤال: " من؟" أكثر أهميةً وعمقاً من السؤال "ما؟". لأن السؤال الأول يمكن أن يكشف جوهر الشيء، لأنه يحيل إلى الموضوعات الموجودة في الواقع، هذا الواقع المتغير والبعيد كل البعد عن الثبات. وكأن هيبياس هنا كان يَصْعُب عليه تأسيس مفاهيم ثابتة حول الخير والجمال... الخ في حين أن كل شيء في حالة تغير وتبدل وسيلان. وهنا نلاحظ مدى التقارب مرة أخرى، بين المبادئ السفسطائية والنيتشوية. لكن نيتشه يعمق المسألة أكثر، لأن السؤال "من؟" يحيل حسبه حتماً إلى الإرادة، التي تتميز بالتحول والتعدد، وبالتالي لا يمكن الحديث عن مفاهيم في ذاتها، إنما هي مفاهيم بالنسبة إلى إرادةٍ ما، ومشيئة معينة.33 إن ربط السؤال ومن ثمة الحقيقة بالإرادة الفردية لهو أدق تعبير عن مبدأ بروتاغوراس القائل بأن الإنسان هو مقياس الأشياء جميعاً lhomme est mesure de toutes choses،34 أو باللسان الإغريقي"Panton metron anthropos" في مقابل المبدأ الأفلاطوني القائل بأن الإله هو مقياسها جميعا.35 وانحياز نيتشه للسفسطائية ضد أفلاطون من الأمور الواضحة جداً، وهذا ما جعل "هيدجر" يعتبره من سوفسطائي القرن العشرين.

2-الديالكتيك والفن أو خصام العقل مع العقل

من بين مبادئ ونتائج السؤال الماهوي، مثلما رأينا سابقاً؛ هو افتراض وجود عالمين: وهذا ما تكفلت أسطورة الكهف بإظهاره وشرحه بكيفية بيداغوجية قوية. فما أراد أفلاطون إبلاغه، هو أن العَالَم الحسي والواقعي مناقض، في خصائصه ومميزاته ومكوناته، لعَالَم المُثُل والحقائق الثابتة المطلقة. لذا فموضوعات عالَم الواقع لا يمكن اعتبارها حقائق، لأنها كائنة في عالم الصيرورة واللاوجود، إلى جانب مشاركتها في عالم المثل. وبما أن المعرفة الحقيقية مرتبطة بما هو ثابت وأزلي، فإن معرفة عالم الحس أمر غير ممكن أصلاً، لأنه في حالة صيرورة وتغير. ومنه فالمعرفة الحقيقية لا تكون إلا بالجدل، حيث ندرك المفاهيم المستقلة في عالم موضوعي يسميه أفلاطون عالم المُثُل.36 لكن نيتشه يسمي هذا العَالم الذي يقدسه أفلاطون بـ:"الأوثان" في كتابه الأوتوبيوغرافي "هذا الإنسان". فالحقيقة هي أعظم أوثان الإنسانية التي ابتدعها بفضل جموح عقله، وإن كان هذا العقل العلمي المجرّد قد ابتدع الأوثان، فإن إطاحتها يستلزم عقلاً من نمط مغاير، إنه العقل الفني أو الفن بما هو تعبير عن التمسك بالأرض. وبما أن عَالَم المُثُل عند أفلاطون هو مقر ومسكن الحقائق المطلقة ونماذج الموجودات الكاملة، فإن المعرفة لا تكمن في "كشف الجديد أو اختراع غير مسبوق" بالصورة التي يفهمها بعض الفلاسفة. بل المعرفة أو الأليثيا (أ – ليثيا) مجرد تذكر، والجهل ما هو إلا ذلك النسيان (ليثيا)، الذي حدث للنفس عند حلولها بالجسد الذي يمثل الانحطاط والإثم. ومضمون هذه النظرية أن المعرفة ليست تَعَلُّم شيئ جديد غير موجود في النفس أصلاً. فعبد "مينون" الصغير لم يكن يعرف سوى اللغة اليونانية، لكنه أخذ يتذكر شيئاً فشيئاً عن طريق الأسئلة المنتقاة من طرف فنان الأسئلة سقراط؛ الشكل ذا ثمانية أقدام، وهذا يدل على أن المعرفة هي تلاشي أثر مياه نهر النسيان الذي تشرب منه كل نفس قبل حلولها في الجسد من جديد.37

إن التجربة الحسية حسب أفلاطون، لا تقدم أكثر من الرجحان والاحتمال. وهذا ما تَعَلَّمَه من أستاذه سقراط وطوّره بصورة أكثر عمقاً. أما الحقائق الضرورية والكلية الشاملة، فلا يمكن إلا أن تكون محصلة بحثٍ عقلي خالص.38 وإذا كانت المعرفة الحقيقية مرتبطة حصراً بالعقل، فإن مصدراً آخر لن يكون صالحاً لذلك، خاصة المصدر الفني. لذا يجب حظر ومنع الشعر القائم على المحاكاة، خاصة شعر المأساة، لأن الشعر بعيد كل البعد عن الحقيقة، والشعراء يقلدون دون معرفة حقيقة الأشياء التي يقلدونها، مثلما يفعل هوميروس وهوزيود، لذا فإن طردهم من الجمهورية هو أحسن فعل يقوم به مُشَّرِع المدينة.39

نفهم من هذا أن الفن هو تقليد للعَالَم المحسوس وهو العَالَم الظاهر، وهذا ما يُدين الفنان كإنسان له منظور وهمي توهيمي، ويدين أيضاً الفني كميدان ثقافي، ويجعله لا ينتمي إلى مجال المحسوس الجزئي المتغير فقط، إنما أدنى من ذلك بكثير، فهو محاكاةٌ للمحاكاة، وهذا ما يجعله بعيداً عن عَالَم المُثُل بمسافتين وليس بمسافة واحدة فقط، كما هو الحال مع العَالَم المحسوس. فذنب الفنان هو كأنه يخطو بنا خطوتين من نور الحقيقة، ويأخذ بأيدينا وأيدي أجيال كاملة من الأطفال نحو مهاوي الإثم الابستمولوجي الذي يتمثل في الوهم والضلال بما هو تعبير عن رفض عَالم المُثُل الثابتة والركون إلى المتغير والصائر.

وهكذا فقد وقف أفلاطون في وجه أحسن وأبهى صور الحضارة اليونانية وهي صورة هوميروس الذي شكل المخيال اليوناني من خلال تسمية ألهة اليونان كلها وحفظ قصص أبطالِهم العظماء. وصورة التراجيديا التي طورت فنياً وأدبياً فتات الشعر الهوميري من خلال تصوير مأساوي لوضع الإنسان في الكون بما هو دلالةٌ على لاغائيته وارتباطه بإرادة البشر وحدهم. وصورة الأسطورة التي عاش وتفكر فيها الإغريق تاريخهم وحاضرهم، وصورة الجسد التي أصبحت مع أفلاطون رمز الشر والضعف والزوال والرذيلة...الخ وأيضاً لوث أفلاطون صورة الصيرورة كما صوّرها أبهى وأشجع فلاسفة الإغريق وهو هوميروس من خلال التحامل عليه وعلى أحفاده السوفسطائيين وأجداده الشعراء خاصة هوميروس. وسؤالنا هنا هو: فكيف تصرف نيتشه أمام هذا النسيج الأفلاطوني المتماسك والضخم والخطير في الوقت نفسه؟ هل يرضى فيلسوف القوة والحياة ما قام به أفلاطون في نسقه الضخم، نسق المثالية التي أعطى لها مبرر الخلود.

إذا كان أفلاطون، مهندس الفلسفة، استغرق كل حياته لبناء نسق متكامل ومنسجم من خلال الاستعانة بأستاذه سقراط وتلميذه أرسطو وكل معاونيه، مذهبه الذي انطلق من إنكار الصيرورة الهيراقليطسية من خلال تأثيمها وتبيان استحالة نتائجها من الناحية الابستمولوجية والمفهومية، وأيضا من خلال التشكيك والتشكيك المفرط في الحواس. ومن خلال استنتاجه عطفاً على المقدمات السابقة أن هناك عالماً للمُثُل مستقلاً وموضوعياً يحتوي على كل الحقائق، وأن النفس نظراً لخلودها، كانت تعيش في عالم المُثُل، أو العالم الآخر الأزلي، أين كانت تتصف بالمعرفة المطلقة والفضيلة التامة. وعند حلولها بالجسد المادي، فقدت كل ما تعرفه ونسيتها بسبب هذا الحلول الآثم، وما على العقل إلا أن يُعِيد تذكر ذلك عن طريق الجدل القائم على التساؤل الماهوي، للاتصال مرة ثانية بالأصل، أي عَالَم المُثُل والحقائق الخالدة. قلنا إن كان أفلاطون قد نسج مذهبه من خلال هذه المحطات الكبرى المختصرة، فإن نيتشه، الفيلسوف المحارب والمعارك ذا الطباع الحربية، قام بنسف هذا البناء المثالي الضخم بكلمة واحدة، وبحزمة متفجرة واحدة ومدوية وعنيفة من الديناميت، أوليس هو الذي قال عن نفسه إنني لست رجلاً بل أصابع ديناميت. هذه الكلمة الناسفة أعلنها في مناسبتين، رغم أن شهرتها وذيوعها في الفكر الفلسفي المعاصر وأثرها تحقق في المناسبة الثانية. وهي كلمة: "الإله قد مات"le Dieu est mort.

لقد أعلن ذلك الرجل الأخرق الذي كان يُشْعِل فانوساً في واضح النهار (مثلما كان يفعل ديوجين السينوبي أو الكلبي، وهنا نلمس مدى تأغرق نيتشه وتقمصه جِلْد الفلاسفة الإغريق في كل مناسبة تتاح له ذلك) باحثا عن الإله، إنه الرجل الذي يريد معرفة مكان تواجد هذا الإله الذي نعبده دون توقف ودون أن نراه أيضا: "أين الإله؟ سأقول لكم! لقد قتلناه أنتم وأنا! نحن كلنا قتلناه".40 أما المناسبة الثانية والتي أحدثت انفجاراً عنيفاً ومسموعاً وأصبحت على لسان كل دارسٍ للفلسفة الألمانية وعلى لسان الشباب المتحمس والثائر خاصة، فهي إعلان زارادشت الذي كان مُحدثا نفسه، بعد الحوار الذي وقع بينه وبين الناسك، الذي التقى به في الغابة بعد نزوله من الجبل، قال زارا محدثاً نفسه في تعجب واستغراب "أيعقل أن يكون هذا القديس الشيخ في غابته غير عارف بأن الإله قد مات!".41 وكأن من لايزال يعتقد بوجود الإله يشبه هذا الشيخ القديس المنعزل في صومعة الاعتزال والتصوف، ولم يطّلع على أهم حدث طرأ على الساحة الدينية المعاصرة، أي موت الألوهية وأفولها إلى الأبد.

قد يعتقد الكثير أن هذه الكلمة "الإله قد مات" لا تعبر إلا عن الإلحاد الشخصي لنيتشه، وأنها تستهدف الإله المسيحي بصورة خاصة. لكن هذه الكلمة أو الجملة في الحقيقة موجهة إلى أفلاطون بالتدقيق، صاحب فكرة العَالَم المثالي، والميتافيزيقي، أو ما فوق الحسي. فالإله هو اسم لميدان الأفكار، وهو اسم كذلك لموقع الفلاسفة المثاليين. فإذا كان أفلاطون قد جعل -مثلما رأينا ذلك سابقاً- العالم المثالي هو العالم الحقيقي، والعالم الحسي وجعل العالم الواقعي ظلالاً باهتةً للأول، أي مجرد ظاهر وواقع، فإن عبارة "الإله قد مات" قامت بنسف هذا التقسيم بأكمله، فهي الجملة التي استهدفت مركز الفكر الميتافيزيقي الغربي الذي تشكل بداية من أفلاطون، إنها الرصاصة التي أصابت الرأس، رأس الميتافيزيقا الغربية.42 وهنا تَبرزُ الطباع الحربية لنيتشه الرجل والمفكر، لأن المحارب المتمرس لا يحدث ضجة دون نتائج ناجحة، نيتشه كان يقصد إحداث أكبر ضرر للميتافيزيقا بكلمة واحدة، مختصرة لكنها مدوية وعنيفة وناسفة، إنه أراد أن يتقلد وسام الجنرال من خلال نجاح مهمته الضخمة، تحطيم مركز قيادة الميتافيزيقا الغربية دون رجعة.

ورغم وقوع خلاف بين ناقدي فلسفة نيتشه ودارسيه، حول مدلول هذه العبارة،43 بسبب كثرة التأويلات وتناقضها. ورغم أن نيتشه كان يرفض بصورة مطلقة فكرة الإله أو الألوهية بصورة عامة، إلا أنه هناك من يقول إنه لا يرفض جميع الآلهة، لأنه في مناسبات أخرى ومتكررة، يبدي إعجابه المفرط بالآلهة اليونانية القديمة، كما ذكرتها ووصفتها الأشعار الهوميرية، والمسرحيات التراجيدية. ورغم أن هناك من يقول إن نيتشه يرفض فكرة الإله ككل، دون استثناء سواء تعلق الأمر بالإله الواحد اليهودي (ومنه الإله كما يتصوره المسيحي، أو الله كما يتصوره المسلم كذلك٭). أو الآلهة المتعددة، كما تصورها اليونان، أو غيرهم من الشعوب، فإن المسألة التي لا يحدث فيها تأويل أو اختلاف، هي أن نيتشه يرمي ويهدف بجملة "الإله قد مات" إلى "إلغاء عبء المفارق الذي أثقل كاهل الإنسان المعاصر".44

إن المدلول الحقيقي لهذه العبارة إذن على اعتبار أن نيتشه لا ينكر الآلهة مطلقاً فكم من مرة يعتقد أنه تلميذ ديونيزوس، هو أن المثالية المتعالية قد بلغت نهايتها، على اعتبار أن المثالية مؤسسة على أسبقية الذهن البشري أو الإلهي على الوجود أو الأرض. ومنه يمكن استبدال عبارة "الإله قد مات "بعبارة" المثالية قد ماتت " دون الوقوع في خطأ، أو تغير في جوهر المعنى والمدلول.45 كما أنه ليس هناك أي تعارض بين العبارتين: "عالم المثل" و"الإله المسيحي". لأن المسيحية في أصلها هي امتداد للأفلاطونية، فإذا أكدنا على موت الإله، حسب نيتشه، فإننا بالضرورة نؤكد على نهاية الأفلاطونيةلأن أفلاطون هو أكبر فيلسوف هيأ الأرضية لقيام الديانة المسيحية، وهذه التهيئة تكمن في نقاط عديدة منها: إدانة الحواس وتأثيم الأرض وتكفير الصيرورة والانقلاب.46 وهذا ما يعني بصورة ضرورية نبذ كل ما يمت إلى الواقع الحسي بصلة، كما يعني كذلك قمع الشهوات والأولاع المرتبطة بالجسد والأرض والحركة.

وهذه الفكرة التي تجعل المسيحية مدانة للأفلاطونية بالشيء الكثير، أكدها الكثير من الفلاسفة، سواء قبل نيتشه أو بعده. فإذا كان نيتشه يميز الأفلاطونية والمسيحية في مستوى انتشار الخطاب فقط من خلال جعل الأفلاطونية مسيحية النخبة أما المسيحية فهي أفلاطونية الشعب، فهناك من يؤكد وجود علاقة قوية بين المسيحية كديانة والأفلاطونية كفلسفة. حيث نجد الفيلسوف المسيحي والعَالِم الفرنسي الحديث "بليز باسكال" (16231662 ) – والذي يفضله نيتشه مثله مثل فولتير على جميع الفلاسفة الألمان، رغم نزعته الدينية والمسيحيةيقول: "علينا بأفلاطون حتى نستقبل المسيحية ونُجهز لها".47 وفي سياق مشابه يقول "ويل ديورانت"  في كتابه الموسوعي الموسوم بـ "قصة الحضارة" موافقاً نيتشه على هذه الأطروحة التي تؤكد أن أفلاطون ورغم كونه وثنيا قد مهد مفهومياً لقيام الديانة المسيحية القائمة على تأكيد المفارق وتقديسه: "لم يكن أفلاطون مسيحياً قبل وجود المسيحيةعلى قول نيتشهفحسب بل كان فوق ذلك متزمتاً مسيحياً قبل وجود عصر التزمت المسيحي، فهو يرتاب في الطبيعة البشرية ويراها شراً، ويعتقد أنها هي الخطيئة الأولى التي لوثت النفس (...) ويضرب في كتبه الأخيرة على نغمة أخروية شبيهة بنغمة أوغسطين، أي نغمة الرجل الذي تاب وأناب وعاد إلى الدين الصحيح، ولو لا هذا النشر الذي بلغ غاية الكمال، لشك الإنسان في أن أفلاطون من اليونان".48 وبهذا تتأكد الأطروحة الأنثربولوجية التي تؤكد وجود خيط واصل بين الوثنية والواحدية، وهذا طبعاً ما يرفضه أصحاب الديانات التوحيدية على اعتبار أن هناك خطوة نوعية تفصل النمطين فصلاً مطلقاً.           

لكن، إذا كان نيتشه يحدد مهمة فلسفته على أنها قلب للأفلاطونية، أي استبدال مكان العالمين، فبعد أن كان العالم المعقول موجوداً في الأعلى، والأعلى هو رمز الحقيقة والخير والكمال على اعتبار أن الرأس وهو مركز المعقولية موقعه في أعلى الجسم. والعَالَم المحسوس موجود في الأدنى، والأدنى رمزٌ للزيف والظلال والشر، فسوف يصبح العالم المحسوس -بعد عملية القلبموجوداً في الأعلى، أي هو الذي يمثل الحقيقة والأصل الثابت.49 لكن هذا القلب سيظل، في نظر نيتشه، سلبياً طالما ظل الثنائي: الأعلى والأسفل، الفوق والتحت، النموذج والنسخة، هو المحدد لبنية البناء الميتافيزيقي، وطالما ظلت الأمكنة والمواقع محافظة على ماهيتها.50 وهذا ما يعني أن القلب لا يجب أن يمس المضامين فقط، بل يجب أن يطال الأمكنة والمواقع. ولا يتم ذلك إلا بإلغاء كل من "العَالَم الحق" و"العَالَم الظاهر" معاً، وإلغاء الديالكتيك الذي يستمد ماهيته من هذا التقابل بين العالمين أو الموقعين تبعاً لذلك51. فالجدل يستمد مشروعيته وغرضيته من وجود عالمين، الأول مزيف والثاني حقيقي، وهنا يعمل الفيلسوف بهذا المنهج للتخلص من زيف الأول والتشبث بيقين الثاني. أما إذا تم إلغاء هذا الازدواج، فلا مبرّر لهذه الحركة الجدلية أصلاً.

إن رهان هدم الأفلاطونية مُؤسَّس على إلغاء صورة الفكر وليس مضمونه فحسب. والصورة هنا هي التي تشكل العالم تشكيلاً ثنائياً مزدوجاً مما يبرّر الحركة الديالكتيكية الصاعدة من عالم أدنى إلى عالم أعلى، لكن في حالة إلغاء الصورة الثنائية وتأكيد الصورة الواحدية للعالم، فإن المحسوس هو الذي يبقى ويبقى لوحده.

وهنا يقترب القلب الذي أحدثه نيتشه، من حيث جوهره، بالقلب الذي نظّر له كارل ماركس في سياق فلسفته التي عملت على قلب العَالَم أيضاً، لكن ليس في ميدان الميتافيزيقا أو نظرية المعرفة، إنما في ميدان الحياة المادية الاقتصادية. هذا القلب أحدثه إزاء الثنائية التي أفرزتها الحركة الاقتصادية الرأسمالية، في مرحلة من مراحل تطورها التاريخي، وهي الملكية الخاصة والبروليتاريا. فإذا كانت الطبقة المالكة تشكل الحزب المحافظ، وتعمل على الحفاظ على نفسها وعلى نقيضها، فإن البروليتاريا تشكل الحزب المُدَمّر، لأنها ملزمة بالعمل على إلغائها الخاص، وإلغاء الملكية الخاصة. وعندما تكون البروليتاريا قد تلاشت -مثلها كمثل النقيض الذي يشترطها أي الملكية الخاصة- فإن هذه الطبقية تزول من أساسها. إن نيتشه يريد إلغاء العالم الحقيقي، انطلاقاً من: "حقيقة العالم الظاهر" وبالتالي لن يبقى العالم الظاهر، أي الحسي موجوداً، لأنه سيزول بزوال العالم الحقيقي. ويمكن أن نلاحظ هنا أن نيتشه قام بطرد التقسيم الثنائي الأفلاطوني، مثلما طرد أفلاطون ذاته السفسطائيين من ساحة التفكير اليوناني واعتبر فكرهم المستمدّ من الهيراقليطسية فكراً آثماً متهتكاً.52

وبهذا التفكيك الذي باشره نيتشه لبنية الميتافيزيقا الأفلاطونية والغربية ككل من بعد سقراط، لن يبقى للحقيقة نفس المعنى الذي حدده لها أفلاطون. وإن زالت الحقيقة الكائنة في عالم ما وراء الحس، فإن الديالكتيك كطريق لبلوغ هذا العالم لا تبقى له أية قيمة، ويزول أي مبرر لاستعماله أو توظيفه، لأن غياب الهدف يلغي أهمية الوسيلة، ونحن نعلم أن الجدل هو من وسائل الحقيقة كغاية ونهاية. وهذا ما يعني انهيار الميتافيزيقا الأفلاطونية، والغائية المسيحية ككل، ويحل العود الأبدي المضاد لهذه الثنائية الأفلاطونية. إن العود الأبدي هو سلاح مضاد للغائية المسيحية.53 خاصةً بمعناه الإيطيقي الذي يجعل الإنسان يتصرّف كما لو أن النهاية غير موجودة أصلاً، لأن بنية الإيطيقا الدينية ككل هي افتراض نهاية للعالم.

ويتحدث نيتشه عما يسميه بـ"الظل الأكثر قصراً" كفكرة موجّهة أساساً لمناقضة الفلسفة المثالية الأفلاطونية، فأفلاطون يعتبر العالم الذي نعيش فيه مجرد ضلال للعالم الحقيقي، وهذا ما يبرر حسب اعتقاده تجاوزه كضرورة ابستيمولوجية وأكسيولوجية لبلوغ عَالم المُثُل والكمال النموذجي، أما نيتشه فيرفض ذلك مطلقاً، ويجعل الحقيقة موجودة في منتصف النهار، حيث الظل ينكمش إلى أقصى حدوده، أو ينعدم تماماً. وبهذا يقوم تقابل بين استعارتين كبيرتين هما: "أسطورة الكهف الأفلاطونية" التي تعتبر النص التأسيسي للثنائية الأنطولوجية والابستمولوجية و"الظل الأكثر قصراً" النيتشوي والذي يُعتَبَر استراتيجية تهدف إلى قلب الثنائية إلى واحدية.54 إن نيتشه هو نبي سِفر التوحيد الأنطولوجي الذي هاجم أفلاطون رسول سِفر التثنية الوجودية. ونحن نعلم بأن الديانات التوحيدية وعلى الرغم من كونها توحد الإله فإنها في مقابل ذلك تتحدث عن ثنائية أنطولوجية على منوال الزرادشتية التي تقول بوجود عالمين خير وشر، حس وعقل...الخ، لذا فتوحيدية نيتشه ليست في الألوهية إنما هي في بنية العالم.

هذا، ويستبدل نيتشه الديالكتيك كمنهجية عقلية قائمة على التجريد المطلق، والانفصال كلية عن عالم الأعيان المتغير دون توقف،55 الديالكتيك كإيمان بالإله، أي العالم الآخر الذي يتميز بالخلود والديمومة والنقاوة.56 فالعقل، حسب الفلاسفة المثاليين، وحتى القديسين ومنطق رجال الدين هو الأداة الضرورية والمقدسة لتأسيس المعرفة الإنسانية. لكن نيتشه يرفض هذا التقدير المفرط لقيمة العقل والمعقولية. لأن العقل في حقيقته لا يعدو أن يكون عضواً مساعداً لا أكثر، فلا يمكن أن يكون في المنزلة الأولى، بل مهمته الحقيقية والصحيحة، هي خدمة الغرائز الحيوية والعضوية.57 والحقيقة أن تغيير مكانة العقل هي من نتائج تغير صورة العالم، فإن كان هناك عالم واحد فقط، وهو عالم الحس الظاهر، فوقتئذٍ لا تبقى أية مهمة مقدسة للعقل لكي يكتشفها. وهذا العقل الذي يزعم أفلاطون، وكل الفلاسفة المصطفّين وراءه في رتل المثالية بأنه طريقٌ لبلوغ الحقيقة الثابتة والأزلية، بمجرد أن يُعادَ إلى أصله، أي الحياة، وما فيها من صيرورة وتغير، سيزول عنه حتماً طابع القداسة، وتصبح الحقيقة المؤسسة على العقل مجرد أباطيل وأضاليل وأوهام، فليس هناك عالم آخر غير العالم الذي نعيش فيه، ولا وجود لعالم الحقائق الثابتة، وليس هناك لا شيطان ولا جحيم، فروح الإنسان تموت بفناء جسده، لذا لا داعي للخشية والخوف، هذا ما قاله زرادشت لراقصِ الحبل المُحْتَضِر، قبل أن يدفنه في تجويف شجرة.58 إن إلغاء العالم المفارق يؤدي إلى تساقط الوسائل المؤدية إليه توالياً، مثلما أن تحطيم الأساسات يؤدي إلى تساقط الجدران تتابعاً. هذا ما جعلنا نقول بأن استراتيجية نيتشه كانت حربية ذكية وجذرية أيضا.

والمنهج الملائم لتعويض الديالكتيك المزيّف بسبب زيف صورة العالم الثنائية عند أفلاطون، والذي لا قيمة له بعد إنكار ثنائية العالم هو منهج الفن أو ما رأى نيتشه تسميته بالنظرة الفنية للعالم أو النظرة الديونيزوسية للكون. فإذا كان أفلاطون قد نبذ الشعراء وحط من شأن الفن في أوسع مدلولاته، لأنه يقلد الواقع المحسوس الذي لا يمثل الحقيقة، فإن نيتشه مع قلبه الإيجابي للأفلاطونية توصّل إلى المبدأ التالي: "إن الفن أعلى قيمة من الحقيقة، لأن الفن ينطلق ويبدع من المحسوس والواقع و المتحرك... والمحسوس من وجهة النظر المضادة للأفلاطونية، هو العالم الوحيد والحقيقي، وهذا ما يجعل الفن هو الوسيلة والسلاح الوحيد المضاد للعدمية التي ألغت قيمة القيم الحقيقية.59

الفن هو الجرعة التطبيبية لمرض الإنسان الأفلاطوني، الذي أصيب بوباء العقلانية المفرطة التي تخلق عوالم وهمية وتنسج وسائل باطلة. الفن هو طريقة لتطبيع الصيرورة والجسد والأرض بعدما أثّمهما العقل والديالكتيك.

لذا فالفن حسب نيتشه هو الطريقة الوحيدة، لإعادة الإنسان إلى موطنه الأصلي والحقيقي والطبيعي وهو الأرض، والفن هو الوسيلة الوحيدة القادرة على استبدال القيم العليا، العليا جداً بقيم إنسانية، إنسانية جداً.60 فالإنسان لا يكون إنساناً إلا بكونه فناناً أو ينظر إلى الكون نظرةً فنيةً. فإذا كان قلب الأفلاطونية هو المشروع الذي راهن عليه نيتشه لاقتلاع الميتافيزيقا من أصولها العميقة لكيلا تنتش مرة أخرى، فإن الوسيلة الفعالة لتحقيق ذلك هي الفن. وعندما يتحدث نيتشه عن الفن، فهو يتحدث عن الشعر والأسطورة والمسرح التراجيدي والرقص. يقول نيتشه معبراً عن ماهية الحقيقة، بعد قلب الأفلاطونية: "إرادة الحقيقة؟ آه إخواني الحكماء جداً، إنها إرادة اللامعقولية في العالم! ... ".61 فالحقيقة بمعناها الفني هي اللامعقول، أي الحسي والجسدي والصوفي والذوقية...الخ.  وما يمكن فهمه من الشذرة أعلاه والمهمة جدا، هو أن كل ما هو خارج بنية العقل وحدوده، لا يعدو أن يكون الفن ذاته؛ اللامعقول أو ما فوق المعقول الضيق. فالفن حسب نيتشه يفوق العِلم، في مسألة معارضة النظرة الغائية للعالم، وهذا ما أدركه أفلاطون جيداً، إذ فهم أن العِلم والجدل، يخدمان فكرة وجود غائية كونية. عكس الفن الذي يكشف عن الطابع المأساوي، التراجيدي للعالم، لذا وقف أفلاطون موقف المعادي للفن، وطرد الشعراء من مدينته ومنعهم من تدريس الأجيال.62 لذا فإن مشروع نيتشه البيداغوجي يتمثل في تسليم زمام التربية للفنانين، وتغير السوفقراطية أي حكم العاقل الأفلاطونية بـ حكم الفنان. إن نيتشه ليحلم بتكريم الفنان وتنصيبه حاكماً على جمهورية العباقرة الأقوياء الأصحاءـ، جمهورية الأرض والجسد وبلد الصيرورة المطلقة. وبهذا القلب الكلّي لفلسفة أفلاطون، والنقد الجذري لنسقه المتكامل، يتخلص نيتشه كلية من الفلسفة المثالية التي تعارض الفن بالعقل، وتستبعد هيراقليطس لصالح بارمنيدس، وسحق السفسطائية بمنطق سقراطي خبيث متحذلق.

إن كفاح نيتشه ضد المثالية، مثله مثل كفاح الجسم ضد أمراضٍ دخيلة وخطيرة، "فالمثالية من الأشياء الغريبة على طبيعتيهكذا قال نيتشه في سيرته الذاتية.63 واستبدال الديالكتيك بالفن، يعني كذلك شيئاً آخر مُهِم هو إعادة الاعتبار للجسد، لأن الفن يكمن في النشوة، نشوة الحياة الجسمانية، فالإيمان والاعتقاد بالجسد أكثر أهمية وضرورة، من الإيمان بالنفس والروح أو الفكر.64  فالمتفطن واليقظ هو الذي يقول: "أنا كلي جسد لا غير، وما الروح إلا اسم يطلق على جزء من الجسد (...) فالجسد هو العقل الكبير، وما العقل الصغير سوى أداة صغيرة وهينة، يستعملها الجسد، العقل الصغير ما هو إلا لعبة صغيرة للعقل الكبير".65 هكذا تكلم زراردشت، وهكذا تكلم نيتشه نبي الجسد ورسول الأرض للأرض. لكن لماذا أخذ الجسد كنقطة بداية؟ إنه يجيب قائلا: الجسد هو الظاهرة الأكثر ثراء، الأكثر وضوحاً، والأكثر قابليةً للفهم من ظواهر الروح، وهذا ما يُبرّر وضع الجسد في الصفّ الأوّل والمرتبة الفائقة.66 مقارنة بباقي وظائف الإنسان المتعلّقة به، فالجسد هو الأصل وكلُّ ما يتفرّع منه من وظائف كالتفكير ما هي إلا فروع ثانوية. وكون الجسد في أعلى جسم الإنسان لا يَدُلُّ على قداسته ورفعته بل يَدُلُّ على أنه ثمرة متأخّرة مقارنة بجذور الجسد الأولية والضرورية.

3- نظرية الهجين الأفلاطوني، أو إبطال دعوى ألوهية أفلاطون

عَلَّمنا تاريخ الفلسفة بأن النسق الأفلاطوني من أكبر إبداعات العقل الإنساني، وبالفعل فعندما نقرأ محاوراته الكثيرة فإننا نندهش لِمَا تحتويه من أفكار فريدة ومبتكرة، حتى نطرح سؤال الإمكان، أي هل فعلاً يمكن لعقل بشري أن ينتج مثل ما أنتج أفلاطون. لكن نجد نيتشه يقول في شذرات ما بعد الوفاة الواردة مع الجزء الثاني من كتاب "تأملات في غير أوانها "الذي عنونه بـ: "جدوى الدراسات التاريخية ومساوئها" ساخراً ومتهكما –على الطريقة السقراطية المعروفة في حواراته- من نظرية المثل الأفلاطونية: "إنها تجمع بين عضد بارمنيدس، وجزء من كتف هيراقليطس، وقدم أنباذوقليس".67 وكأنها استجماع لأجزاء قديمة متناثرة في الأصل. والشيء الواضح من هذه العبارة اللاذعة والناقدة بعنفٍ متفجر أنها تهدف إلى إسقاط كل أصالة عن فلسفة أفلاطون، ويواصل في موضع آخر: "... إن أفلاطون نفسه يتّسم بكونه أول هجينPlaton lui-même fait figure de premier grand hybride (هنا نفهم أن هناك هجين ثان وهذا ما سيتكفل نيتشه بإظهاره عندما يتحدث عن فلسفة أرسطوطاليس بوصفها فلسفة حوض كبير استجمعت كل النظريات الفيزيائية والنفسية السابقة عليه كبير. وهذا مدوّن في شخصيته كما في فلسفته. إن نظريته حول المُثُل تجمع عناصر سقراطية وفيثاغورسية وهيراقليطسية، لذلك فهو لا يمثّل نموذجاً صافياً".68      

لذلك فإن السؤال الذي طُرِح منذ القديم ولازال يُطرح بصورة متكررة إلى اليوم عند تناول أفلاطون بالدراسة هو السؤال الذي تطرّق إليه نيتشه: هل كان أفلاطون هو المبدع لهذه النظرية المتماسكة، في تفاصيلها وجزئياتها؟ وبصيغة أخرى: كيف تكونت هذه النظرية المسمّاة، نظرية المُثُل ؟69 إننا نجد أفلوطين مثلا يذكر صفة الإلهي عندما يتحدث عن أفلاطون،70 والكثير من المسلمين أمثال الفارابي71 للدلالة على المقدرة الخارقة لفكر أفلاطون في التعبير والمضامين والمناهج...الخ. ونحن لا نصف الإلهي بذلك إلا لأنه خلق الكون من عدم ومن فراغ، مما يدل على أن الإلهية صفة الابتكارية الجذرية، ووصف أفلاطون بهذه الصفة يدل على ابتكاريته، فهل فعلا هو كذلك؟

إن أول إجابة قدمت لهذا السؤال، كانت من طرف أرسطو، حيث يقول في كتاب "الميتافيزيقا" كما تُرجمت بعض فقراته في كتب تاريخ الفلسفة: "لقد وصل إلينا التفكير في المذاهب السابقة، فإنه (أي أفلاطون) أخذ عن أقراطيلوس وهيراقليطس أن المحسوسات لتغيرها المتصل لا تصلح أن تكون موضوع عِلم، وكان سقراط يطلب العِلم الكلي في الخلقيات فاعتقد أفلاطون أن هذا الكلي لمغايرته المحسوس، يجب أن يكون متحققاً في موجودات مغايرة للمحسوسات، وأسمى هذه الموجودات مثلاً. أما المشاركة فهي اسم آخر لمسمى وجده عند الفيثاغوريين، فإنهم كانوا يقولون إن الأشياء تُحاكي الأعداد أو تشابهها، فأبدل هو اللفظ وقال إن الأشياء تشارك في المثل، دون أن يبين ماهية هذه المشاركة، غير أن الفيثاغوريين لم يكونوا يجعلون الأعداد مفارقة، وإنما قالوا إن الأشياءَ أعدادٌ ولم يكن سقراط ينسب الماهيات إلى أشياء مفارقة بأنفسها. ففطن أفلاطون إلى أنه: لما كان الكلي يغاير المحسوسات من حيث هو كذلك فيجب وضع الكليات فوق الجزئيات".72

أما في الترجمة الفرنسية لكتاب "الميتافيزيقا" فإننا نلاحظ بعض الاختلافات في التفاصيل، رغم أن المعنى الإجمالي لم يطرأ عليه تغير. فقد تطرق أرسطو إلى هذه المسألة في مقالة "الألف الكبرى" وهي المقالة الأولى في الكتاب، ثم عاد إليها في مقالة "الميم" التي تأتي في الترتيب ما قبل الأخير أي الثالثة عشر.73 وما يمكن فهمه من هذه النصوص أن فلسفة أفلاطون لم توجد إلا بعد وجود المذاهب الفلسفية السابقة عليها، كتب الشارح الأكبر شارحابلسان عربي مبين- موقع فلسفة أفلاطون في مجمل تاريخ الفلسفة اليونانية السابقة لسقراط: "وجدت فلسفة أفلاطون بعد فلسفة أصحاب الأعداد وهم آل فيثاغورس. وبالجملة الذين جعلوا التعاليم مبدأ الأمور الموجودة، وبعد فلسفة الطبيعيين وهم انكساغورش وآلـ ابن دقليس والـ ديمقريطيس".74 وهذا يدل على أن الفلسفة السابقة لسقراط ليست بالفلسفة الفقيرة والناقصة أو الأسطورية، لأنها شكلت المواد الخام التي أنشأ بها أفلاطون وأرسطو خاصة نظريتيهما المشهورتين وهما نظرية المثل ونظرية العلل.

ومن هذا النص الأرسطي الأصلي، والشرح الرشدي المهم، نلاحظ العناصر التي كوّنت نظرية أفلاطون في المثل. يمكن أن نفهم أن نظرية أفلاطون ما هي إلا نظرية تلفيقية، قامت بعملية تجميع عناصر فلسفية سابقة عليه. هذه العناصر كانت منعزلة بعضها عن بعض، وكل عنصر لوحده مفرداً، وفي سياقه الخاص لا يمكن أن يشكل مذهباً فلسفياً متكاملاً ومتسقاً. لذا قام أفلاطون بضم بعضها إلى بعض، وشّكل ما سُمِّي بنظرية المُثُل وهي التسمية الشهيرة في تاريخ الفلسفة، وهذا يظهر أن ما كنا نعتقده ابتكاراً خالصاً ما هو في نهاية المطاف إلا هجين من أصول سابقة75. وإذا كان الشكل والصورة النهائيان يُنْسَبَان إلى أفلاطون، فإن المواد الجزئية والأولية ليست من ابتكاره. وإن أردنا أن ندرس العلاقة بين هذه العناصر الجزئية المُشَكِّلَةَ للبناء الكلّي فسوف نجد أن مكوّنات نظرية المُثُل الأفلاطونية تتمثل في العناصر التالية:

أفلسفة هيراقليطس

حسب رواية أرسطو، فإن أفلاطون في شبابه، وربما قبل أن يتعرف على سقراط ذاته، ويتأثر به وبنظرياته الأخلاقية، كان على صلة قريبة بكراتيل أو كراتيليوس76 الذي يمثل الفكرة الهيراقليطسية  في السيلان الدائم، وتظهر آراؤه -أي كراتيليوسCratylus وقد عنوّن أفلاطون إحدى محاوراته في اللغة باسمه- عندما قال مخاطباً سقراط: "نظرت في مسألة الحركة، ونتيجة ما بذلته فيها من عناء ونظر أجدني أميل إلى رأي هيراقليطس".77 والفكرة التي تعلمها أفلاطون من كراتيليوس المناصر للهيراقليطسية باعتباره تلميذاً للمُعلِّم هيراقليطس، هي أن كل الأشياء الحسية في حالة صيرورة دائمة. ومن هذا المبدأ استنتج أفلاطون أنه لا يمكن أن يتأسس علم لأشياء تتميز بخاصية التغير والتحول الدائمين، ويشرح ابن رشد القرطبي المسألة على منواله قائلا: "لما كان شك الهرقليين هو الذي حرك أفلاطون إلى القول بالصور، أخذ -والله أعلم- يذكر في هذا الفصل كيف حركه إلى ذلك حتى أوجب عليه اعتقاد الصور. لأنه أخذ أن كون هذا على مثال كون الأشياء الباقية وليس في المحسوسات شيء ثابت -يحتمل أن يريدوإنما حرك أفلاطون إلى القول بالمثل والصور (...) واعتقد أنه ليس في المحسوسات شيء ثابت ولا يمكن أيضاً أن يكون للمحسوسات حد تشترك فيه إذ كانت دائمة التغير ...".78 إن ما نلاحظه هو أن أفلاطون هنا لم يتبن أراء هيراقليطس وأتباعه، بقدر ما تعلم منهم بصورة أو بكيفية سلبية. تعلم أنه لا يمكن تأسيس معرفة يقينية، وعلم موثوق فيه، بالانطلاق من معطيات متحركة ووقائع صائرة دوما دون توقف. وهنا يستنتج نقاد نيتشه، أن الثنائية الأفلاطونية المتمثلة في "العالم الحقيقي" و"العالم الظاهركفكرة مركزية في فلسفته، إنما هي في الحقيقة موجهة ضد فلسفة الحركة والتغير، وردّاً علنيا على الهيراقليطسية.79 وبالفعل فإن فكرة وجود عالم متغير يمثل الظاهر، في حين أن العالم الحقيقي يجب أن يعاكسه، أي يكون غير متحول، قائمة على التأثر بالهيراقليطسية التي أكدت على استحالة القبض على مفهوم ثابت، والشيء الوحيد الثابت هو المتحرك. أوليس هو القائل بأننا لا يمكننا النزول إلى نفس النهر مرتين متتاليتين، والقبض على النار أمر مستحيل لأنها في حركة دائمة، مما يدل على أن الأضداد هي سيدة الكون ولا يمكن رفعها.80 والدرس الذي تعلّمه أفلاطون من هذه الشذرات الهيراقليطسية هو أن المعرفة الحقة تستلزم الثبات، وما ليس بثابت فهو غير موجود. والسلاح الذي دحض به أفلاطون الانتشار الهيراقليطسي هو المنطق البارمينيدسي البارد والقوى. والحقيقة أن منطق الأطروحة عند بارمنيدس لا تُفْهَم بمعزلٍ عن أطروحة بارمينيدس والعكس صحيح، لذا فقد تأرجح الفكر الأفلاطوني بين النقيضين، رغم أنه انتصر لأحدهما في النهاية.

ب-فلسفة بارمنيدس

 لا يخفى على أحد العلاقة الحميمة بين أفلاطون وبارمنيدس، ومدى الاحترام العميق والحقيقي الذي يشعر به أفلاطون في حضرته. فإذا كان بارمنيدس يؤسس فلسفته على مبدأ عدم افتقار الوجود إلى أي شيء، و من ثمة عدم حاجته للحركة أو الانتقال من حالة إلى أخرى  سعياً  للكمال أو الامتلاء، فإن  أفلاطون قد استثمر  هذا  المبدأ  العقلي أحسن استثمار، ليثبت أزلية وامتلاء المثل المفارقة، وعدم قابليتها للحركة والنمو.81 حيث نجد أفلاطون يعرف المُثُل في المحاورة التي عنونها باسم بارمنيدس ذاته، وحيث يظهر سقراط تلميذا ومتعلّما عليه وهو الشيخ الطاعن الوقور، قائلا: "هي بمثابة نماذج ثابتة في الواقع، وأن الأشياء تشبهها وتكون نسخاً منها، وإن مشاركة الأشياء في المثل ليس إلا كونها صورا منها".82 ونحن نلاحظ هنا أن أفلاطون قد استعمل المُسَلَّمة البارمنيدسية الأساسية وهي الثبات. وأكثر من ذلك فإن أفلاطون جعل من يقوم بدحض ورفض مبادئ فلسفة بارمنيدس، كمن يقوم بجريمة قتل الأب.83 وليس هناك أكثر شناعة من فعل ذلك. وفي مقابل مدح بارمنيدس لسقراط، الشاب القليل الخبرة، بسبب قوة إرادته في البحث دون استسلام أو ملل في المحاورة السابقة الذكر كما شهد على ذلك بارمنيدس الشيخ، فإن أفلاطون بلسان سقراط طبعاً، يرى بارمنيدس: "أشبه ببطل كما يقول هوميروس: مبجل عندي بقدر ما هو مهاب. لقد قابلت هذا الرجل عندما كنت شابا وكان هو شاباً وبدا لي ذا أعماق سامية".84

وإذا كان أفلاطون لا يكفّ عن مدح بارمنيدس، وإعلان التبعية العمياء لفكره وشخصه. فإننا في المقابل نلاحظ أنه لا يكفّ كذلك عن مخاصمة أفكار هيراقليطس، والتنقيب في تفاصيلها من أجل استخراج نقائصها وعيوبها. ورغم أنه يتظاهر بموضوعيتة إزاء الخصمين: بارمنيدس ومليسوس من جهة، وهيراقليطس ومعه هوميروس، إلا أنه في النهاية يتشبث بالفكرة القائلة إن "الكل واحد في حد ذاته، وأنه لا يحل في مكان يتحرك فيه".85 فالحقيقة النهائية التي توصل إليها أفلاطون هي أن فلسفة بارمنيدس أقرب إلى الحقيقة من فلسفة هيراقليطس، مثلما أن فلسفة سقراط أحق من فلسفة السوفسطائيين، وأفلاطون يجعل هيراقليطس وهوميروس الأجداد المفهوميين للحركة السوفسطائية التي حاربها طوال حياته الفكرية. وعلى اعتبار أن أفلاطون من الفلاسفة العقلانيين التابعين لعقلانية بارمنيدس، فإنه يُنَمذِجُ العِلم الرياضي ويجعله عمدة العلوم، وهذا ينبهنا إلى مصدر آخر من مصادر نظرية المثل هي فلسفة فيثاغوراس الرياضية والصوفية على السواء.

ج-الفلسفة الفيثاغورية

 ركز نيتشه كثيراً على تأثير تعاليم وأفكار الفيثاغوريين على أفلاطون، حيث اعتبرهم أسلافه خاصة في نظرية العدد والرياضيات، لأن الأشياء المحسوسة لها ماهية وحقيقة تتمثل في الأعداد. لذا فالعدد يُمثل الواقع الحقيقي، وكل ما هو متشيء ومادي، ليس إلا تقليداً ومحاكاةً للأعداد على اعتبارها الموجودات الحقيقية.86

وسبب اهتمام المدرسة الفيثاغورية بالعدد، هو أنه يمكن بواسطة الحساب الانتقال من الواقع العيني المتغير والزائل، الذي يخضع للكون والفساد على حد التسمية الطبيعية إلى العالم الذهني الثابت والدائم والقار، الذي يعلو على كل شيء، وفي هذا العالم العددي الذهني يكمن اليقين والنموذج. لكن بالنسبة إلى الفيثاغوريين فإن الأعداد ليس لها وجود موضوعي مستقل عن الأشياء، ليست مفارقة، بل هي متحدة بها.87 وهنا نلاحظ مدى وظيفية النظرة الفيثاغورسية حول العدد بالنسبة إلى نظرية المثل. فأفلاطون ونظراً لمدى استقلال وتباعد العالمين: عالم الظواهر العينية، وعالم المُثُل، قام بوضع درجة أو مكانة وسطى بين العالمين، لتسهيل عملية الانتقال هذه. وهكذا تصبح السلسلة متكونة من ثلاث حلقات: عالم الحس ثم عالم العدد، وصولا إلى عالم المثل. فالرياضيات لدى أفلاطون إذن هي المدخل الضروري لكل من أراد الوصول إلى نظرية المُثُل، فلا يمكن العبور من الحس الخالص إلى المثال الخالص إلا بالمرور بالعدد الذي يمثل حلقة وسطى، ومن هذه الزاوية يمكن أيضا فهم الجدل بما هو حركة صاعدة.88

ولم يستمد أفلاطون من المدرسة الفيثاغورية العناصر الابيستيمية فقط بل استمد مواد من نظريته في النفس، فقد ذكر"برنت" Brint في كتابه "فجر الفلسفة اليونانية" على لسان فيثاغورس ما يلي: "نحن في هذا العالم غرباء، والجسم هو مقبرة الروح، ومع ذلك فلا يجوز لأحد منا أن يلتمس الفرار بالانتحار لأننا ملك الله، هو راعينا". وقد كرس أفلاطون محاورة فيدون للحديث عن الروح وحقيقتها. ومتصفح هذه المحاورة، يحس وكأنه يستمع إلى تعاليم فيثاغورية بحتة. لأنه يصف الجسد بأنه كتلة من الشر، وهو سبب عناء وشقاء الإنسان، لأنه لا يكف عن المرض وطلب الطعام، وأكثر من ذلك فإنه سبب الحروب والمعارك، لأن جمع المال والثروات هو العلة الأولى والحاسمة في معظم الحروب. والإنسان يسعى إلى جمع المال من أجل إشباع شهوات البدن، ولو تم استغراق وقت الحروب ولحظات المرض وفترات الأكل والحب...الخ في دراسة الفلسفة، فسوف يصل الإنسان دون عناء إلى معرفة الحقيقة. ومن هنا فإن البدن هو العائق الأكبر أمام حصول الإنسان على المعرفة، وبلوغه الحقيقة المطلقة في الفلسفة التي هي استعداد للموت.89

وعلى الرغم من أن الجسد هو عائق، بل هو: "سجن وغل للنفس، وقبر لها".90 فإن أفلاطون مثله مثل فيثاغورس يُحَرِّم الانتحار، أي أن الإنسان ليس له الحق في فتح باب هذه الزنزانة والهروب منها بإرادته. لأن الروح هي ملك الآلهة، لذا يجب علينا أن ننتظر قضاء الله وقدره. وبعد انفصال الطحالب والصدفيات (الجسد) التي التصقت بالصخر (الروحوهذا ما يسمى بالموت، فإن هذا لا يعني النهاية. وبما أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن تحل في هيئة بشرية، فالأكيد أنها كانت ذكية وعاقلة بالكفاية. كما أنها تعود إلى هذا العالم. وبما أن كل الأضداد ناشئة من تضاد (عدل–ظلم/ الأسرعالبطيء/ الخيرالشر) فإن الحياة هي ضد الموت، وهما متوالدان. فأرواح موتانا إذن مستقرة في مكان ما وستعود مرة أخرى.91

إن تبنّي أفلاطون فكرة خلود النفس وتناسخها، يعود إلى تأثره بالتعاليم الفيثاغورسية. وحسب نيتشه فإن فيثاغورس لا يمثل نموذجاً فلسفياً إيجابياً، لأنه أولاً جمع بين التصوف والفلسفة، وبالتالي فإن فلسفته ليست نقية وليست تراجيدية أصلا، فإذا كانت الفلسفة التراجيدية تُعلِّم الإنسان كيفية التمسّك بالحياة، فإنّ التصوف على العكس من ذلك فإنه يُعلِّم الإنسان كيفية التخلي التدريجي عن الجسد والنشوة الديونيسوسية، والتخلي عن الحياة طواعية في نهاية المطاف. وفي المقام الثاني فإن فيثاغورس عمل جاهداً للتحرر والانفلات من الأسطورة اليونانية القديمة، المصدر الدافق للمأساة. وثالثا فإن فيثاغورس اتجه إلى التجريدي والنظري، ويظهر ذلك بجلاء من خلال فلسفته الرياضية. وما يمكن أن نستنتجه أن فلسفة فيثاغورس بالنسبة لنيتشه، هي سلبية من ناحيتين، فهي سلبية في ذاتها وهي سلبية لأنها أثرت بطريقة قوية على أفلاطون فساهمت في تحريف فكر هذا الهيليني النموذجي إلى جانب فلسفة سقراط العقلانية المفرطة في عقلانيتها.

د-الفلسفة السقراطية

رغم صعوبة الفصل بين السقراطي والأفلاطوني، إذ نجد نيتشه في بعض الأحيان يذاوتهما، نظرا لوحدة النص. فقد يكون سقراط متحدثاً وأفلاطون ناقلاً، مثلما قد يكون أفلاطون هو المتحدث والناقل في نفس الوقت. إلا أن مؤرخي الفلسفة اتخذوا مقياساً ومعياراً للتمييز بين الأستاذ والتلميذ. وهو ما يُسمى بمعيار المحاورات السقراطية، وهي التي دونها أفلاطون في مرحلة الشباب، حيث يظهر فيها سقراط محتلاً كل حيز الحوار، وإيجابياً في المناقشة والتقرير. كما أن الموضوعات المطروقة في هذه المحاورات الأولى تتعلق عموماً بموضوعات أخلاقية، أضف إلى ذلك أنها تتميز في معظم الأحيان بأنها لا تصل إلى نتائج حاسمة وقاطعة في المشكلات التي تم طرحها ومناقشتها. بمعنى أنها محاورات سلبية من حيث النتائج. وتشمل هذه المحاورات السقراطية كلا من: هبياس الأصغر، هبياس الأكبر، الدفاع، أقريطون، بروتاغوراس، مينون... الخ وفي هذه المحاورة الأخيرة، يختتم سقراط حواره قائلا: "لن نعرف اليقين حول هذا الموضوع إلا ..." 92 وهذا ما يعكس طابعها المفتوح وعدم إمكانية تقديم حل نهائي للمسائل المستشكلة.

وإذا كانت تعاليم سقراط تمثل عنصراً مُهِماً من عناصر نظرية المُثُل، بل يمكن الإقرار أنها تمثل نقطة البداية. وإذا كانت نظرية المُثُل، حسب نيتشه، من أكبر الأمراض الفلسفية، فإن هذه العدوى مصدرها سقراط الذي نقل "الحقد على المحسوس" إلى أفلاطون، لذا نجد أن أهم مبدأ أخلاقي في نظرية المُثُل هو التحرّر من الحواسّ قدر الإمكان.93 ولئن كانت الحواسّ هي المسؤولة الأولى على استقطاب العالم الحسي المتغير، وإن كان التغير علامةً على الخطأ، فيجب تأثيم الحواس التي تنقل لنا التغير الذي يوهم العقل بالحقيقة وما هو بحقيقة. بهذا المنطق حقد سقراط أولاً وأفلاطون من بعده على الحواس، حقداً أصبح تقريض الحواس من بعده ضرباً من الخطيئة الأخلاقية.

إن العمود الفقري لنظرية المُثُل، المستمد من تعاليم سقراط هو فكرة المفهوم، القائمة على اتباع المنهج الاستقرائي.94 وهو المنهج الذي يجعل المفاهيم الكلية الكائنة في الذهن هي الهدف الحقيقي لكل معرفة أو حركة عقلية. ويتم بلوغ هذه الكليات الذهنية انطلاقاً من وقائع عينية أو جزئية، وهذه الحالات والأمثلة الجزئية يتم تصنيفها ضمن أجناس وأنواع، كأن نجمع الصفة الماهوية والجوهرية التي يشترك فيها كل من الماء والحليب والزيت، ونهمل باقي الصفات التي تختلف فيها فنتحصل على فكرة السوائل. وقل نفس الشيء عن الإنسان والحيوان والخير...الخ." فكلها مفاهيم تكونت بجمع الصفات والأفكار التي تتفق فيها فئة من الأشياء مع إهمال الأفكار التي تختلف فيها".95 لقد كان سقراطمثلما يرى خصومه ومحاوروه- ينطلق من الأمثلة الجزئية الخاصة، رغم تفاهتها في بعض الأحيان، فهو يأخذ المجانين والطهاة والأطباء والعدائين كنقطة بداية، ليصل إلى تأسيس مفهوم كلي، وهذا ما يُسمَّى الاستقراء أو التعريف المنطقي.96 الذي تطور في العلم ليتحول إلى ما يسمى بالقانون، لأنه انتقال من وقائع إلى صياغة نظرية أو عقلية أشمل من الوقائع التي تضمن الثبات والصحة والكلية. وإذا كانت خطوة سقراط تتمثّل في الانتقال من الجزئي المحسوس والخاصّ إلى الكلّي والمعقول والعامّ، فإن أفلاطون استلم وتحصل على ملف التعريفات من عند سقراط ليُؤسِّس به قضيته الكبرى، وهي نظرية المُثُل. يقول أرسطو شارحاً المسألة بالتدقيق المطلوب من مؤرّخ الفلسفة: سقراط أوّل من أثار مشكلة التعريفات الكلية (...) وهناك شيئان يمكن نسبتهما إلى سقراط: الحجج الاستقرائية، والتعريفات الكلية. غير أن سقراط لم يضع التعريفات أو الكليات منعزلة. ولكن خلفاءه هم الذين جعلوا لها وجوداً منفصلاً، وهذا هو نوع الأشياء التي أطلقوا عليها كلمة "المُثُل".97 ولو حاولنا تعريف المُثُل من هذه الزاوية لقلنا إنها "تعريف سقراطي مفارق".

كل هذه العناصر السابقة؛ الهيراقليطية، والبارمنيدية، والفيثاغورية وأخيراً السقراطية، التي تتميز في أصلها بالصفاء والنقاء الخالص والأصالة قام أفلاطون بتجميعها وشّكل بها نظرية المُثُل، التي لا تتميّز بالأصالة مثلما هي أجزاؤها وعناصرها، أي أن نظرية المُثُل ليست صافية وخالصة، بل هي هجين من عناصر متفرّقة.98 وهذا ما جعل أحد النيتشويين الألمان يقول: "ونحن نعجز عن أن نلاحظ لدى أفلاطون أيّ تطوّر واع في مذهبه، أما مؤلّفاته المختلفة فليست سوى نبذ ومقالات دبّجها وفقاً لوجهات النظر التي كان يشكّلها بين وقت وآخر، أضف إلى ذلك أن أفلاطون لم يُكلِّف نفسه عناء معرفة ارتباط تلك النبذ بعضها ببعض، أو أدرك شكلها حينما تجتمع".99 وهذا يعني أن اشبنجلر صاحب هذه المقولة يوافق نيتشه في اعتباره أفلاطون أوّل هجين كبير، مثلما اعتبره كذلك كل من أرسطوطاليس والكثير من الفلاسفة اللاحقين. وهذا يثبت مرة أخرى عند نيتشه نظرية انحطاط الفلسفة الإغريقية "البوسط/ سقراطية"، على اعتبار أنها قامت بتركيب نظريات سابقة قدمت لنا على أنها ميثولوجية لا ترتقي إلى مستوى اللوغوس الفلسفي الصارم.

 خاتمة

ما يمكن أن نستخلصه من النقد النيتشوي الموجه إلى أكبر فيلسوف في الأزمنة اليونانية القديمة، بل أكبر مُفكِّر عالمي بشهادة كبار الفلاسفة أنفسهم هو أن أفلاطون -باعتباره رمزا من رموز انحطاط الحضارة والفلسفة اليونانية- يجب أن يكشف معالم هذا الانحطاط، فقد كانت الفلسفة في العصر الأوّل الممتد من البدايات الهوميرية مروراً بالفلاسفة على شاكِلَة: طاليس وأناكسيمنديريس وهيراقليطس وأناكساغوراس وأمبادوقليس، وأدباء على شاكلة إسخيليوس وسوفوكليس، ورجال الدولة مثل بيركليس الأثيني؛ فلسفة تراجيدية تؤمن بلاغائية الكون، وبحركيته وصيرورته العمياء وعودته الأبدية اللاهادفة، ووحدة الوجود المتمثّل في العالم الكائن هنا فقط وإلغاء لكل ثنائية أو مفارقة متعالية، وكان الفن والنظرة الجمالية البريئة هي المسيطرة، ولكن الفلسفة أصبحت بعد الفيلسوف سقراط ويوربيديس الشاعر المسرحي مختلفةً تماماً، إذ تم التأسيس لفلسفة تتشكّك في الحواس، وتتشبّث بالعقل الذي أنتج بتحليلاته وتوهّماته عالم الوجود والثبات المفارق، وتمّت إدانة الفن كالموسيقى والرقص المنتشي الدائري لصالح التأمل والنظر والجدل الصاعد للسماء الباهتة، والشيء الظاهر من هذا التقسيم النيتشوي للفلسفة اليونانية هو أن موقع أفلاطون ليس موجوداً في مرحلة القوة والعبقرية الإغريقية، مرحلة التراجيديا، بل موقعه كائن في مرحلة الانحطاط والتدهور، أين ظهرت الفلسفة المثالية والفكر النظري البعيد عن الوجود الواقعي الصائر، والأكثر من ذلك أن افلاطون ذاته هو من مؤسسي الانحطاط الإغريقي والغربي بأكمله.

أما مسألة قيمة النقد النيتشوي لفلسفة أفلاطون، فهي في مجملها مستمدّة من التوجّه الفلسفي لنيتشه، فعلى الرغم من أنه يعلن في الكثير من المواقع عن رفضه للانتماء والتمذهب، معتبراً ذلك من الأعمال الصبيانية، فإنه في الحقيقة يمثل الفلسفة الحيوية اللاعقلية، أو الاتجاه اللاعقلي للحياة، بوصفها نزعة مضادّة للفلسفة المثالية القديمة التي سيطرت على ألمانيا في القرن الثامن والتاسع عشر من خلال الدروس الهيجلية. ولذا فمن المنطقي أن يكون نيتشه معادياً لكل فلسفة تتّخذ معيارها ونموذجها للمعرفة والحقيقة الوجودية من العقل لا الفنّ، ومن المثال لا الواقع، ومن الحقيقة لا الأسطورة، من الثبات لا التغير...الخ. ومن أجل ممارسة النقد الجذري للمثالية، كان يجب على نيتشه العودة إلى الأصول الأولى لهذه الفلسفة، فوجدها في فلسفة سقراط أوّلا وبدْءا، ثم تطوّرت في فلسفة أفلاطون. وعلى ذلك فإن النقد النيتشوي لمثالية أفلاطون -وإن صادف الحقيقة في الكثير من الأحيان- لا يُعدُّ سوى استجابة لمطلب المذهب الفلسفي الذي ينتمي إليه نيتشه. فمن أجل إثبات الحياة وجب نفي عالم المُثُل، ومن أجل رفع العقل وجب وضع الأسطورة، ومن أجل إعادة تأسيس فلسفة الصيرورة بما هي تعبير عن طبيعة الوجود، وجب إسقاط التأثيم واستبداله بالتطبيع

 1. أبو حيان التوحيدي، 1991، المقابسات، تحقيق وتعليق حسن السندوسي، الطبعة الأولى، دار المعارف للطباعة والنشر والتوزيع، سوسة، المقابسة رقم 64، ص 151-152.

2Martin Heidegger, 1999, Nietzsche, tome 1, traduit par Pierre Klossowski, editions Gallimard, Paris, p 143.                                                                                                 

3.يسري إبراهيم، 1990، نيتشه عدو المسيح، الطبعة الأولى، سينا للنشر، القاهرة، ص 119.

4.Martin Heidegger, 1992, Chemins qui ne mènent nulle part, traduit par Wolfgang Brokmeier, éditions        Gallimard, Paris, p p 261- 262.                                                                                   

5.فريدريك نيتشه، 2005، هذا الإنسان، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لماذا أنا حكيم جدا، فقرة 8، ص 37. وإنساني، إنساني جدا مع ملحقي، فقرة 1، ص 107.

6.فريدريك نيتشه، 1996، أفول الأصنام، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، الطبعة الأولى، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، قضية سقراط، فقرة 3، ص 19.

7.فريدريك نيتشه، 2006، ما وراء الخير والشر، ترجمة حسان بورقية، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، مدخل وIعن أحكام الفلاسفة المسبقة فقرة 190، ص ص 12– 97.

8.أفلاطون، 1994، بوليتيكوس (محاورة رجل الدولة)، ترجمة شوقي داود تمراز، المجلد الثاني ضمن المحاورات الكاملة، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت ص 114-120. وأيضا أفلاطون، 1994، السوفسطائي (علم تقسيم العلوم)، ترجمة شوقي داود تمراز، المجلد الثاني ضمن المحاورات الكاملة، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، ص 209.

9.Gisèle Souchon, 1998, Les Grands Courants de L’individualisme, édition Armand Colin Masson, Paris, pp 71– 84. ET Friedrich Nietzsche, 1972, Ainsi parlait Zarathoustra, traduit par Henri Albert, édition club géant, paragraphe I Des Mouches de la place publique, p 48.                                               

10ألكسندر كواريه، مدخل لقراءة أفلاطون، ترجمة عبد المجيد أبو النجا، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، مصر، ص 11– 16. ومن أهم المؤلفات الفلسفية التي نهجت طريقة أفلاطون الحوارية نجد على سبيل التمثيل لا الحصر:

أبو حامد الغزالي، القسطاس المستقيم، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي، تحقيق ابراهيم أمين محمد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ص 194وما تلاها.

David Hume, 1982, Dialogue sur la religion naturelle, traduction d’un anonyme de 18esiècle, Hatier, Paris.

11فريدريك نيتشه،دت، مقدمة لقراءة محاورات أفلاطون، ترجمة محمد الجوة وأحمد الجوة، دار البيروني للنشر والتوزيع، صفاقس، الطبعة الأولى، ص 5– 63.

12فريدريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، مرجع سابق، مدخل، ص 12.

13Friedrich Nietzsche, 1991, Par de là le bien et le mal- prélude à une philosophie de l’avenir, traduction d’Henri Albert, librairie Général Française, §, p 184.                               

14ول وايرل ديورانت، قصة الحضارة – حياة اليونان، الجزء 7، ترجمة محمد بدران، دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع بيروت-المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تونس، ص 469.

15Jean – Michel Rey, 1971, L’enjeu de signes, lecture de Nietzsche, édition de seuil, Paris, p 256.            

16نجد مسرحيتين كوميديتين تنتقدان سقراط هما:

أريسطوفانيس، 2012، الضفادع، ترجمة عبد المعطي شعراوي، الطبعة الأولى، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 358، مارس 2012، بيت 1495، ص 180.

Aristophane, 1966, les Nuées, traduit Marc-Jean Alfonsi, édition G F Flammarion, Paris, vers 1465, p212.

17Friedrich Nietzsche, 1995, La volonté de puissance, tome 1, traduit par Geneviéve Bianquis, éditions Gallimard, Paris, I, aph 380, p 183. Et  Charles Andler, Nietzsche sa vie et sa pensée III Nietzsche et le transformisme intellectualiste la dernière philosophie du Nietzsche, Librairie Gallimard N R F paris, 5eédition, p 390.                                                                                     

18Karl Jaspers, 1980, Introduction à la philosophie, traduit par Jeanne Hersch, librairie Plon, France, pp 10– 11.                                                                                                                           

19طه عبد الرحمن، 2002، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص 13.

20هانز جورج غادامير، 2007، الحقيقة والمنهج -  الخطوات الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، الطبعة الأولى، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، طرابلس، ص 483.

21جمال مفرج، 2003، نيتشه عند دعاة التقدم العربي، مقالة وردت في التيارات الفلسفية الغربية الحديثة وأثرها على الفكر العربي، طبع دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، عين مليلة-منشورات مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، جامعة منتوري قسنطينة، ص 27.

22أفلاطون، 2001، أوطيفرون، ترجمة زكي نجيب محمود، مكتبة الأسرة، (دون مكان)، ص 31– 32.

23[*]Platon, 1993, Ménon, traduit Monique Canto-sperber, édition G F Flammarion, 2eme édition, Paris, § 71e-72c, p128.

24دنيس هويسمان، علم الجمال "الاستطيقا"، ترجمة أميرة حلمي مطر، دار إحياء الكتب العربية، (دون مكان)، ص 22– 23.

25أفلاطون، 1986، القوانين، ترجمة محمد حسين ظاظا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الكتاب الثاني، ص 129.

26أفلاطون، 1994، هيبياس الكبرى (ماهية الجمال)، ترجمة شوقي داود تمراز، المجلد الربع من المحاورات الكاملة، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، ص 214.

27محمد أندلسي، 2002، نيتشه وسياسة الفلسفة، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ص 97.

28جيل دولوز، 1998، نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، ص 99.

29ميشال فوكو، 1990، الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع الصفدي وسالم يفوت وآخرون، مركز الإنماء القومي، بيروت، ص 255.

30جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، مرجع سابق، ص 99.

31محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة، مرجع سابق، ص 97.

32.توماس هوبز، 2011، اللفياثان – الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، الطبعة الأولى، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث "كلمة" ودار الفارابي، أبو ظبي / بيروت، ص 62.

33جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، مرجع سابق، ص 99.  وأيضا أفلاطون، هيبياس الكبرى، مرجع سابق، ص 233. وقد انتقد هيبياس مثالية الطرح السقراطي قائلا: "أنت يا سقراط، تختبر الجمال وتختبر كل فكرة عامة، بتناولها بشكا منفصل وبتحليلها تحليلا عقليا، وتكون النتيجة أنك تخفق من أن تعي أهمية واستمرارية المواد التي تتألف الحقيقة منها، (...) تتصور بأنه يوجد شيء ما، توجد صفة مميزة أو طبيعية جوهرية تختص باثنتين منهما (شيئين) معا، لكن ليس بكل منهما على انفراد (...) إن هذه الحالة هي الحالة العقلية التي انخفضت لها أنت وأصدقائك. كم هي جامحة وسطحية، وغبية، وغير مفهومة (...) أعرف عقلية كل مدرسة علماء الجدل (إذا كنا كلانا رجلين عادلين، ألا يكون كل واحد منا عادلا بمفرده؟ وإذا كان كل واحد منا ظالما، ألا نكون كلانا هكذا ...)". إن هذا النص في اعتقادنا، من أهم النصوص التي ينتقد فيها أفلاطون مذهبه الخاص إلى جانب نصوص من البارمنيدس، وهي منطلق النقد النيتشوي بالتحديد، إذ نجد في إرادة القوة نصوصا ترتكز على هذا النقد بالذات، لذا فإن نيتشه في نقده لأفلاطون مدان لأفلاطون ذاته.

34Platon, 1995, Protagoras, traduit Émile Chambry, édition Garnier- Flammarion, Paris, 1967, § 315e – 316e, p 48. Et Gilbert Romeyer Dherbey : les sophistes, presses universitaires de France, Quatrième édition, Paris, p 18.

35أفلاطون، القوانين، مرجع سابق، الكتاب الرابع، ص 225.

36وولتر ستيس، 1948، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ص 158. وأيضا النص الأصلي:

 Platon, 1966, la république, traduit par Robert Baccou, édition Garnier-Flammarion, Paris, livre VII, § 515b-516b, p 273-274.                                                      

37Platon, la république, Op, cit, livre X, § 616d-617e, p382. et Platon : Ménon, Op, cit, § 82c-d, p 157.

38جون ديوى، 1960، البحث عن اليقين، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية-مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة -نيويورك، ص 50.

39أفلاطون، 1990، الجمهورية، تقديم جيلالي اليابس، موفم للنشر-طبع المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، الكتاب العاشر، ص 447– 448.

40فريدريك نيتشه، 2001، العلم الجذل، ترجمة سعاد حرب، الطبعة الأولى، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، الكتاب الثالث فقرة 125، الأخرق، ص 118.

41Friedrich Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, Op. cit, le prologue de Zarathoustra, §2, p 11.                  

42Martin Heidegger, chemins qui ne mènent nulle part, Op. cit, pp 257– 262.                                            

43عبد الغفار مكاوي، 1995، شعر وفكر دراسات في الأدب والفلسفة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص 259.

44بيار هيبر سوفرين، 2002، زرادشت نيتشه، ترجمة أسامة الحاج، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ص 44– 49.

٭ أحيل القارئ إلى مقالة كتبتها مؤخرا عنوانها:"الدين الإسلامي والصيرورة في هيرمينوطيقا "عدو المسيح": نيتشه مسلمًا؟ !" فيها أفند الأطروحة التي قال بها البعض من الأساتذة المتحمسون دون وجه حقيقة إلى إمكانية إسلام نيتشه لو لا جنونه. إننا نعتقد أن دخول نيتشه للإسلام – وهذا أمر غير وارد إطلاقا -لا يخدم الإسلام ولن يضيف له مرتبة شرف بين الأديان.

45Eugen Fink, 1965, la philosophie de Nietzsche, traduit par H. Hildenbend et A. Lindenberg, Les éditions de minuit, Paris, pp 26– 105– 176.                                                            

٭ تجدر بنا الإشارة إلى أن نيتشه، يميز بين أفلاطون التاريخي، أي كشخص وفيلسوف عيني، والأفلاطونية كنزعة سادت كل التاريخ الغربي إلى يومنا هذا. لكن هذا التمييز لا يعني الانفصال." فنيتشه ينظر إلى أفلاطون كحدث رمزي، وهذا ما يسميه الأفلاطونية. لذلك فاهتمام نيتشه بأفلاطون هو أبعد من أفلاطون التاريخي، وسوف ندرك أن نيتشه إنما يستهدف هنا، عبر أفلاطون كل الثقافة المتأثرة بأفلاطون. " فإن مات أفلاطون الأثيني، فإن أفكاره عاشت وتطورت، وتم استثمارها دينيا وفلسفيا، لذا فلأفلاطونية أكثر امتدادا وتطورا ونموا من أفلاطون التاريخي، وهذا ما يبرر الاهتمام بالأفلاطونية من طرف نيتشه، لأنها خرقت الحدود الزمنية والمكانية الأصليين." نقلا عن: جمال مفرج، 2004، قضايا الثقافة الإنسانية في مشروع نيتشه الثوري، أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة، جامعة منتوري قسنطينة، السنة الجامعية2003– 2004، ص 212.

46Friedrich Nietzsche, la volonté de puissance, tome I, Op. cit, livre I § 62, p 25.                             

47.Blaise Pascal, 2005, Pensées, éditions de la seine France, Article III de la nécessité du pari, aph 219- 612p 91.                                                                                                                             

48ول وايرل ديورانت، قصة الحضارة – حياة اليونان، الجزء 7، مرجع سابق، ص 490. ومن الكتب التي تشير إلى تمهيد أفلاطون للديانة المسيحية نجد:

يوسف الصديق،دت، قصيد بارمنيدس مع دراسة جان بوفرييه في الفكر البارمنيدي، دار الجنوب للنشر، تونس، ص 70.

-Friedrich Nietzsche, Aurore pensées sur les préjugés moraux, traduit par julien Hervier, édition Sigma, (S.L), § 496, p 256.                                                                                             

Martin Heidegger, Nietzsche I, Op. cit, p 72.                                                                 

Emile Faguet, En lisant Nietzsche, ancienne libraire furne, Paris, p 78.                               

49Martin Heidegger, Nietzsche I, Op.cit, p 182.                                                                                          

50محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة، مرجع سابق، ص 61.

51جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، مرجع سابق، ص 250.

52Gilles Deleuze, 1979, logique de sens, les éditions de minuit, Paris, p 292.                                                        

53بيار هيبر سوفرين، زرادشت نيتشه، مرجع سابق، ص 117.

54Eugen Fink, la philosophie de Nietzsche, Op.cit, p 187.                                               

55Friedrich Nietzsche, Aurore pensées sur les préjugés moraux, Op. Cit, § 43, p 46.                               

56Emile Faguet, en lisant Nietzsche, Op.cit, p 73.                                                                                                              

57Friedrich Nietzsche, la volonté de puissance I, Op. cit, livre II, § 262, p 315.             

58فردريك نيتشه، 1938، هكذا تكلم زرادشت – كتاب للكل ولا لأحد، ترجمة فليكس فارس، مطبعة جريدة البصير، الاسكندرية، الكتاب الأول، مستهل زرادشت 6، ص 12. وصفاء عبد السلام على جعفر، 2001، محاولة جديدة لقراءة فريدريش نيتشه، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، ص 303.

59Martin Heidegger, NietzscheI,Op.cit,pp148–171.                                                                                

60جيل دولوز، 1998، نيتشه، ترجمة أسامة الحاج، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، ص34.

61Friedrich Nietzsche, 1977, Fragments posthumes été 1882- printemps 1884, traduit par Anne-Sophie astrups et marc de Launay, éditions Gallimard, Paris, § 13[10] p 474.              

62فريدريك نيتشه، 2006، جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، IIIمعنى المثل الأعلى الزهدي، فقرة 25، ص 135.

63فريدريك نيتشه،1998،هذا الإنسان، مرجع سابق،VIفقرة 1، ص 107. ورودولف شتاينر، 1998، نيتشه مكافحا ضد عصره، ترجمة حسن صقر، الطبعة الأولى، دار الحصاد للنشر والتوزيع، سوريا، فقرة 8، ص 62.     

64Martin Heidegger, Nietzsche, tome I, Op.cit, p 129.                                                                                           

65Friedrich Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, Op. cit, livre I, des contempteurs du corps, p 30.                     

66George Morel, 1971, Nietzsche, III création et métamorphoses, aubier – Montaigne, Paris, p 116.                                                                                                                        

67Friedrich Nietzsche, considération inactuelles I et II, tome 2 : de l’utilité et des inconvénients de l’histoire pour la vie suivi de fragments posthumes (été 1872-hiver 1873-1874), p   283, § 23[1].

نقلا عن محمد الشيخ، 2008، نقد الحداثة في فكر نيتشه، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ص 248.

68Friedrich Nietzsche, 2000, La philosophie à l’époque tragique des grecs suivi de Sur l’avenir de nos établissements d’enseignement, traduit par Jean-louis Backes, Michel Haar et Marc B. de launay, éditions Gallimard, Paris, § 02, p17.

69يوسف كرم، 1936، تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، (دون مكان)، ص 91– 92.      

70أفلوطين، 1970، التاسوعة الرابعة – في النفس، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، المقال الثامن، فقرة 1، ص 324.

71بو نصر الفارابي، 1993، كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين، موفم للنشر، الجزائر، ص XXXVII. حيث ورد العنوان التالي: كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس.

72يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، المرجع السابق، ص 92.

73Aristote, la métaphysique, Op.cit, livre A chapitre 6– 987a, p 61. « C’est après les philosophes que nous venons de citer, (qu’a éclos le système de pensée) de Platon. (Il) suivait en grande partie pas à pas ces derniers Pythagoriciens ; mais (il) avait aussi ses doctrines propres, ou (il) s’éloignait de l’école Italique. Platon, dans sa jeunesse, avait d’abord fréquenté Cratyle … ». Livre M chapitre 4– 1078b, p 441. « La doctrine des Idées a été inspirée à ceux qui les défendent, par la persuasion ou ils étaient de la vérité des opinions d’Héraclite, sur le flux perpétuel de toutes les choses ».                                                                                                          

74ابن رشد، 1967، تفسير ما بعد الطبيعة، الطبعة الأولى، دار المشرق المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص 63.

75يمكن الإشارة إلى أن هناك الكثير من الكتب والمؤلفات تتبنى نظرية الهجين، أو التلفيق الأفلاطوني مثل:

وولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص 166– 167.

عبد الرحمن بدوي، 1979، أفلاطون، وكالة المطبوعات الكويت – دار القلم بيروت، ص 148.

عبد الرحمن بدوي، 1979، ربيع الفكر اليوناني، الطبعة الخامسة، وكالة المطبوعات الكويت – دار القلم بيروت، ص 114.

76فريدريك نيتشه، مقدمة لقراءة محاورات أفلاطون، مرجع سابق، ص 20. وأيضا أرسطوطاليس، 2009،الميتافيزيقا، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، الطبعة الثالثة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع،الكتاب الأول، فصل 6، فقرة 987ب/5، ص 279. والكتاب الثالث عشر، فصل 4فقرة 1078ب /30، ص 562.

77أفلاطون، 1995، كراتيليوس ( في فلسفة اللغة)، ترجمة عزمي طه السيد أحمد،  الطبعة الأولى، منشورات وزارة الثقافة، عمان، ص 208.

78ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، مرجع سابق، ص 66.

79بيار هيبر سوفرين،  زرادشت نيتشه، مرجع سابق، ص 114.

80Charles Werner, 1962, la philosophie Grecque, édition petite bibliothèque PAYOT, Paris, p 20-21.

81هانز جورج غادامير، 2002، بداية الفلسفة، ترجمة على حاكم صالح وحسن ناظم، الطبعة الاولى، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بنغازي، ص 180– 187.

82أفلاطون، 2002، بارمنيدس، ترجمة حبيب الشاروني، الطبعة الأولى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ص 23.

83ميشلين سوفاج، 1981، برمنيذس، ترجمة بشارة سارجي، الطبعة الأولى،  المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص 125.

84أفلاطون، 2000،  ثياتيتوس أو عن العلم، ترجمة أميرة حلمي مطر، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص 86.

85أفلاطون، المرجع نفسه، ص 81.

86فريدريك نيتشه، مقدمة لقراءة محاورات أفلاطون، مرجع سابق، ص 67- 68.

87فريدريك نيتشه، مقدمة لقراءة محاورات أفلاطون، المرجع السابق، ص 62.

88Charles Werner, la philosophie Grecque, Op, cit, p71.

89Platon, 1965, Phédon, traduit Émile Chambry, édition Garnier-Flammarion, Paris, §63e-64d, p 112.  

90فريدريك نيتشه، مقدمة لقراءة محاورات أفلاطون، مرجع سابق، ص 92.

91Platon, Phédon, Op, cit, § 87c-88b, p 143.

92الكسندر كوايريه، مدخل لقراءة أفلاطون، مرجع سابق، ص 12.

93فريدريك نيتشه، مقدمة لقراءة محاورات أفلاطون، مرجع سابق، ص 49.

94عبد الله إبراهيم، 1998، المركزية الغربية إشكالية التكون والتمركز حول الذات، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص 176.

95وولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص 125. من أجل التوسع في مسألة التصنيف والتعريف عند سقراط   وأفلاطون يمكن الاستعانة بـ: ول وايريل ديورانت، قصة الحضارة – حياة اليونان، مرجع سابق، الجزء 7، ص 229. وعبد الرحمن بدوي، أفلاطون، مرجع سابق، ص 37.

96ثيوكاريس كيسيديس، 2001،  سقراط مسألة جدل، ترجمة طلال السهيل، الطبعة الثانية،  المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والاشهار، الجزائر، ص 147.

97أرسطوطاليس، الميتافيزيقا، مرجع سابق، الكتاب الثالث عشر، فصل 4، فقرة 1078ب/30، ص 562.

98محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر نيتشه، مرجع سابق، ص 247.

99أسوالد اشبنغلر، تدهور الحضارة الغربية، ترجمة أحمد الشيباني، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، الجزء الأول، فقرة 5، ص 56-57. وسمينا اشبنغلر بالنيتشوي لأنه يعترف في الصفحة 38من الكتاب المذكور  أعلاه أنه مُدان لنيتشه عمليا بكل شيء، وأن نظرة نيتشه إلى الحياة هي التي جعلته يستشرفها.

@pour_citer_ce_document

عبد الكريم عنيات, «النيتشوية كسعي دؤوب لقلب الأفلاطونية. »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp: 154- 175,
Date Publication Sur Papier : 2015-05-01,
Date Pulication Electronique : 2016-01-12,
mis a jour le : 04/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=1348.