السوسيولوجيا والمقاربة النقدية للنص الأدبي
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N° 23 Décembre 2016

السوسيولوجيا والمقاربة النقدية للنص الأدبي


عبدالله بن صفية
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يسعى هذا البحث إلى تسليط الضوء على العلاقة القائمة بين علم الاجتماع والنقد الأدبي، مركّزا على ما قدّمته النظرية السوسيولوجية للنقد من آليات ساعدته على إنتاج معرفة علمية تتعلّق بالظاهرة الأدبية وبتجلياتها النصية، وهي المساعدة التي وَسِعت منذ بواكيرها الأولى كلّ ما يجمع المجتمع بالإبداع الأدبي، سواء في تتبع شروط إنتاج النص أوإعادة إنتاجه، لأنّ النظرية السوسيولوجية المهتمة بالأدب تؤمن بأنّ الأدب لا يقوم  بمعزل عن سياقه الاجتماعي؛إذ ليس هناك أدب منفصل عن شروط إنتاجه الاجتماعية، فالمجتمع يلفّ سيرورة الإبداع، ويوجّه سُبله في كثير من الأحيان، وهذا ما يؤسس لأحقية النقد في مساءلة الأديب والأثر الأدبي والقارئ بآليات السوسيولوجيا.

الكلمات المفاتيح: السوسيولوجيا، الأدب، النص، المجتمع، النقد.

La présente étude vise à déterminer la relation entre la sociologie et la critique littéraire, en se concentrant sur les mécanismes que la théorie sociologique a fourni à la critique pour l'aider à produire une connaissance scientifique reliée au phénomène littéraire et ses aspects textuels. Cette aide a constitué depuis les premiers jours  tous ce qui relie la communauté à l'œuvre littéraire, tout en traçant les conditions de création d'un texte ou de sa recréation, car la théorie sociologique qui s’ intéresse à la littérature estime que la littérature n’ est jamais isolée du contexte social; Il n'y a pas eu une littérature séparée des conditions de sa production sociale étant donné que la société enveloppe le processus de créativité, et souvent le dirige, et c’ est ce qui établit le privilège de la critique à interroger l'écrivain, l’œuvre littéraire et le lecteur en utilisant le mécanismes de la sociologie.

Mots clés:sociologie, littérature, texte, société, critique.

The present study aims to shed light on the relationship between sociology and literary criticism, focusing on the mechanisms provided by sociological theory, which helped to produce a scientific knowledge related to the literary phenomenon and its textual aspects. This aid has comprised, since its first days, everything that combines community  to the literary work , both in tracing  the terms of producing a text  or reproducing it, because the sociological theory that is  interested in literature believes that literature does not stand in isolation from the social context. A as a result, there has not been a separate literature from the terms of its social production, because society wraps the process of creativity, and  often directs its ways, and this is what establishes  the eligibility of the critique in questioning the writer, the literary impact, and the reader  by using  the mechanisms of sociology

Key words:sociology, literature, text, society, criticism.

Quelques mots à propos de :  عبدالله بن صفية

طالب دكتوراه علوم بجامعة باتنة 01 

تقديم

تقدّم السوسيولوجيا نفسها اليوم كاتجاه معرفي أثبت جدواه وفعاليته في دراسة وتحليل مختلف تمظهرات النشاط الإنساني تحليلا علميا يتسم بالدقة في التناول تنظيرا وتطبيقا، والصرامة في ضبط الحدود الإبيستيمولوجية للموضوعات المتناولة، وقد غدت السوسيولوجيا بذلك أرضا صلبة يمكن الارتكان إليها في استيضاح واستنطاق الخفي من الظواهر وتفسير الجلي منها، بحثا في الأشكال والتمظهرات، وصولا إلى سياقات الانبناء الخارجية.

وتمشيا مع مساق هذا الطرح، نجد أنّ الأدب، بما هو نشاط إبداعي إنساني، في اهتمامه بتصوير المجتمع بذاكرته الجمعية وموضوعاته الراهنة ورؤاه المستقبلية المشتركة، قد نال قدرا كبيرا من الاهتمام السوسيولوجي، ونلمس هذا بجلاء في الدراسات التنظيرية والتطبيقية عند كلّ من "لوكاتش" و"غولدمان" و"ألتوسير" "وبيير زيما" وغيرهم، وهو الاهتمام الاجتماعي الذي سوّى لنا ما نصطلح عليه اليوم "علم اجتماع الأدب"، بما هو إسهامٌ جديد يحاول أن يزيح الفواصل بين ما هو أدبي وما هو سوسيولوجي  ويؤكد أنّ ثـمّة مجالاً مشتركاً بينهما يستحق الاهتمام والدراسة من أجل فهمٍ أكثر عمقاً للنص الأدبي ومنه لأحوال المجتمع.

وهو الاهتمام نفسه الذي أسّس لمجموعة من النظريات التي تسعى إلى مقاربة النصّ الأدبي من وجهات مختلفة، وأعطى الناقد الأدبي مجموعة من الآليات التحليلية ليتعامل بها مع النص، بل وأكثر من ذلك، ضبط اتجاه تحليله وتعامله مع النصوص تبعا للوجهة التي يختارها من منظور اجتماعي، لعلّ أبرزها ثلاث متكاملة، هي: نظرية الانعكاس، الدراسات السوسيو- نصية، وسوسيولوجية القراءة، والتي سنعرض لها في عملنا هذا بالترتيب.

1-                      نظرية الانعكاس

لقد جاء مصطلح الانعكاس للتدليل على النظرية القائمة أساساعلى الصفة التي تتمظهر بها الأشياء منعكسة انعكاسها في المرآة، والنظرية هنا تضع الأدب والمرآة في كفتين متقابلتين متوازيتين، لتبيان أنّ ما يقوم به النصّ الأدبي ما هو إلاّ انعكاس لواقع اجتماعي واقتصادي وسياسي معين، وهو في ذلك مثل المرآة التي تعكس صور الأشياء وحركاتها والمتغيّرات التّي تطرأ عليها على النحو الذي هي موجودة فيه في الواقع دون زيادة أو نقصان، وبناء على هذا فقد حُدّدمعيار القيمة الأدبية لدى أصحاب هذه النظرية في الحكم على جودة هذه النصوص من عدمه بناء على علاقتها بالواقع الذي تعكسه، أو تحاكيه، أو تقوم بتصويره، وذلك على اعتبار أنّ النصّ الأدبي هو أوّلا وأخيرا وليد المجتمع الذي نشأ في كنفه وابن السياقات السوسيو ثقافية المؤطرة لتمظهراته ودلالاته على تنوعها واختلافها.

ويعتبر "جورج لوكاتش"(1)رائد هذه النظرية بامتياز، والواضع الأبرز لمبادئ هذا الاتجاه الذي يعدّ امتدادا لفكرة تشربها "لوكاتش" من كتابات الفلسفة الجدلية التي تعود بأصولها إلى الفيلسوف الألماني "هيجل" وبعده " ماركس"، فأفاد منهما في بلورة فكره، خاصة في ظلّ ما تحدث عنه "كارل ماركس" بصدد الصلة القائمة بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج من جهة، والثقافة والفنون والفلسفة ... من جهة أخرى، وذلك وفقا لما أطّره الفيلسوف الألماني بمصطلحي "البنية التحتية" و"البنية الفوقية"، حيث وضّح بناءً على هذين الاصطلاحين أنّ العلاقةالقائمة بينهما علاقة جدلية قائمة على التأثر والتأثير؛ فالبناء التحتي بحسبه يرتكز على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي وأيّ تغيير يلحقه يؤدي ضرورةً إلى تغيير في البناء الفوقي الذي يعود بدوره فيؤثر في البناء التحتي من خلال توطينه أو تغييره. وتبعا لذلك فإنّ أيّ تغيير يلحق المجتمع نتيجةً للتحولات الاقتصادية والاجتماعية هو مؤثر بالضرورة في الوضع الإنساني، ومن ثمّة في شكل نصوص الأدب ومضامينها بما هي جزء مهم من البنية الفوقية، وهذا يعنى أنّ الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي ولا بدّ من النظر إليه وفق هذا المنظور، ودراسته في إطار هذه الفكرة، وقد دعا "ماركس" بهذا الصدد إلى البحث عن الظواهر الاجتماعية داخل النصوص الأدبية في أكثر من مقام.

والانعكاس حسب "جورج لوكاتش" هو نتاج جدل الذات والموضوع من ناحية، وإعادة بناء للطرفين من ناحية أخرى،أو هو بصيغة أخرىالبنية الذهنية التي يتمّ التعبير عنها بالكلمات. وإذا نقلنا هذا الأساس المعرفي إلى الفن، قلنا إنّ كلّ إبداع يعكس الواقع على نحو لا يخلو من فاعلية الذات ولا من الوجود المستقل للموضوع، ويعني ذلك أنّ كلّانعكاس إبداعي هو تصوير للواقع على نحو فني مشحون بالانفعال الذاتي الذي لا ينفصل عن موقف اجتماعي، هو الأساس الموضوعي لتوجيه بؤرة الانعكاس(2)، وما دام الأديب وفق هذا المنظور محاكيا لما هو واقع في زمنه فعليه أن يتّخذ في كتابته طريقا من ثلاث: أن يمثّل الأشياء كما كانت في الواقع أو كما يتحدث عنها الناس وتبدو عليه، أو كما يجب أن تكون(3).وهو الأمر الذي لطالما أراد "لوكاتش" إثباته في كتاباته عن "بلزاك" و"إميل زولا"أثناء بحثه عن جدلية العلاقة بين النص الأدبي وبين دلالات البنيات الاجتماعية.

وهذا ما يؤكده"هيبوليت تين"(4)الذي يعدّ من أهم نقاد القرن التاسع عشر الساعين إلى إحداث مزج بين العلم والأدب، وقد اعتبر "تين" الأدب صناعة إبداعية من بيئة معينة، أي أنّه نص إبداعي موجّه وفقا لقسريات ثقافية سابقة عن عملية الإبداع تصنع بنيته وتصرف دلالاته وفق منحى مفروض عليه مسبقا، بلون مختلف من نصّ إلى آخر، اللون الذي تقتضيه عوالم الأديب الداخلية فالأدب - من هذا المنظور- وإن أنتج في كنف هذا الأديب أو ذاك فهو ليس عملاً شخصياً محضاً، بل هو عمل تمّ إنتاجه في زمان ومكان معينين مصدره الجماعة التي ينتمي إليها المبدع، أوالمجتمع الذي يلفّه ويلفّ مضامين نصّه. وعلى هذا الأساس يذهب "تين" إلى القول بأنّ الأدب فعليستجيب فيه المبدع لمجموعة من العوامل يراها "تين" المعايير الأساسية التي من خلالها ينتج أدب أيّة أمة وهي المعايير التي حدّدها في ثلاث: الجنس والبيئة والزمن.

 أ – الجنس /العرق: ويقصد به الخصائص القومية المميزة لكلّ أمة من الأمم، وهي الخصائص التي تجعل أدب أمةٍ ما متميزا عن أدبأمةٍ أخرى بالنظر إلى اختلاف وتباين الخصائص القومية، وقد اعتبره "تين" "أقوى العوامل تأثيراً في الإنتاج الفكري، ذلك لأنّه يمثل خلاصة الزمن الطويل الذي تكوّنت فيه مقومات الجنس وصفاته المكتسبة التي أصبحت غريزية لا سبيل إلى إزالتها والتخلص منها"(5)، فمجموع الاستعدادات الفطرية التي تميّز فئة مخصوصة من الناس التي انحدرت من أصل واحد، لها تأثيرها على تركيبة الذات المبدعة،ومزاجها، ونمط تفكيرها ورؤيتها للعالم،بمثل ما لها تأثير على جانبها العضوي الخارجي على النحو الذي تثبته الأنثروبولوجيا، وهو ما يطبع النصَّ بخصوصية الجنس الذي ينتسب إليه مبدعه.

يعزى الاختلاف الحاصل في التشكيلات الأدبية ومضامينها على اختلاف أنواعها - بحسب "هيبوليت تين"- إلى ما يرثه المبدع من خصوصيات ثقافية يستمدّها فطريا من الجماعة التي ينتمي إليها، وينحدر سلالةً منها، ولذلك يمكن القول بأنّ أدب الجنس السامي يختلف عن أدب الجنس الآري، وأدب المشارقة يختلف عن أدب المغاربة، وأنّ الشعر العربي يختلف كلّ الاختلاف عن الشعر الغربي ... وعلى هذا النحو تُستصدر الأحكام الفاصلة، وتستنبط المعايير المميزة، وتربط النتاجات بأصولها الأولى، التي هي أصول المبدع ذاته، وهو ما يولّد للناقد خصائص جاهزة مسبقا يمكنه الاستئناس بها حين عملية تصنيف الأعمال، وحين محاولة ربطها بمصادرها، وهو في الوقت نفسه ما يمكن أن يحيل إلى الفئة الاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها الأديب حتى وإن انتسب إلى غير أرضه.  

ب – البيئة / الوسط:ويقصد بهاانعكاسات الفضاء الجغرافيفي النصّ الأدبي، وهو الفضاء الذي ينسب إليه العمل الإبداعي وصاحبه في الوقت نفسه وغيرهما من أفراد المجتمع الذين تجمعهما بهم صلات ثقافية معينة، فالبيئة هي "موئل الإنسان وعالمه الذي يتشكل فيه وبه. وتعني البيئة لدى "تين" كلاً من المناخ الجغرافي والاجتماعي على السواء، ومن هنا فإنّها لا تسهم في تشكيل الذات المبدعة في تطورها ونموها فحسب وإنّما تشارك أيضاً في صياغة المادة أو العالم الذي يتخلّق في العمل الأدبي ومن خلاله"(6)،فالإنسان حسب "تين" ابن بيئته خاضع لواقعها ومعطياتها، فهو ليس بمعزل عنها، وليس بمعزل عن عاداتها وتقاليدها ولا يمكنه أن يكون كذلك لأيّ سبب من الأسباب، فهو مرتبط بها، متصل بثوابتها ومتغيراتها؛ فالمناخ العربي مثلا يختلف عن المناخفي إنجلترا وهو ما يؤثر في تشكيل مزاج الفرد العربي ومزاج الفرد الإنجليزي، ومن ثمّة يتأثر أدبهما بالمزاج الخاضع للبيئة، وهو ما يفرز للقارئ نصوصا مختلفة شكلا ومضمونا.

ج-الزمن/ التاريخ:ويعني به روح العصر، وامتدادات النصّ تاريخيا، ومجموع الظروف السياسية والثقافية والفنية والدينية التي لها تأثيرها في المنتج الأدبي، وتصاحب عملية إبداع النص،ويؤكد "تين" بهذا الصدد أنّ الفن جوهر التاريخ إذ هو أحسن ناقل له فاللحظة التاريخية التي يعيش فيها الكاتب تعدّ ذات أهمية قصوى لو أدركنا ماهية هذه اللحظة، ويفرّق "تين" بهذا الصدد بين العصر والفترة  والمرحلة، فـــيذهب إلى أنّ: "العصر أوسع بكثير من مفهوم المرحلة أو الفترة لأنه يشمل كلّ ما تعرفه بروح العصر التي يصوغها الفعل الإنساني والتراث الإنساني كما تعيها وتمارسها هذه اللحظة التاريخية"(7).

إنّ (الجنس/ البيئة/ الزمن) هي عوامل أدّت مهمة ربط الأدب بسياقه الاجتماعي فحدّدته مصدرا، منه الانطلاقة وإليه العودة في حال أراد القارئ تحليل النص وفهمه، ولذلك نجد أنّ مصطلح "الانعكاس" بما يقتضيه من آليات ورؤى تحليليةقد اتصل اتصالا وثيقا بالمنهج الاجتماعي الدارس للأدب مؤكدا على الصلة الوثيقة بين الأدب والمجتمع، مخالفا نظرية الفن للفن التي تبني آفاقها على جثث المبدعين في غياب أيّ اهتمام بالسياقات الخارجية التي تنشئ النص. لذا نجد أنّ الناقد الذي يؤسّس كتاباته على نظرية "الانعكاس" يدرس العمل الأدبي على أساس أنّه جزء من النظام الاجتماعي، فيبيّن كيف ولد هذا العمل، وما علاقته بالأنظمة الأخرى، وما الأشياء التي يرمي إليها.يقول "جورج لوكاتش" عن هذا المنهج: "إنّه منهج بسيط جدا، يتكون أولا وقبل أيّ شيء من دراسة الأسس الاجتماعية الواقعية بعناية"(8)، وهو ما يعني "أنّ الأدب يصوّر لنا الحياة الاجتماعية في الفترة التاريخية التي كتب فيها، ويعطينا صورة واضحة عن وقائع اجتماعية محددة"(9)وهو ما يقتضي ضرورة الولوج إليه قراءةً وتحليلا من باب السوسيولوجيا وذلك بتوسّل ما تمنحنا من آليات استكشافية وأدوات للقراءة.

وفي هذا السياق، واستنادا إلى كتابات "جورج لوكاتش" بما تضمنته من مفاهيم خاصة: بالفرد الإشكالي، البطل الإشكالي التشيؤ، الوعي الممكن، الوعي الزائف، .... وغيرها من الاصطلاحات الأخرى التي طوّرت فيما بعد، انبرى "لوسيانغولدمان"(10رائد البنيوية التكوينية ليؤسس نظريته المتعلقة أساسا بعلم اجتماع الرواية، وقد جاءت أفكاره أكثر عمقا في دراسة بنية الأعمال الإبداعية واستكناه دلالاتها في ظلّ التغيرات الاجتماعية والاقتصادية مقارنة بأفكار أستاذه "لوكاتش"، حيث ذهب في إطار أوسع إلى اقتراح ما أسماه "تماثل البنى"، والذي قصد به تذاوت المبدع والمجتمع لحظة الكتابة، وهو ما لخّصه "غولدمان" في اتجاهين حين أقرّ بأنّ:"الأديب يفعل ما يفعل إمّا لأنّه ينتمي، اجتماعيا، إلى فئة محددة، بإمكانه التعبير عن أفكارها، أو لأنّ سيرته الذاتية وبسبب وقائع معينة، تتوافق مع تجارب فئة اجتماعية، لا ينتمي إليها بالضرورة، أو أنّ الأديب يبدع ما يشاء من دون أن يبتعد، في الحالات جميعها عن الأرض التي تهيؤها له الجماعة"(11)، وعن طريق هذا التماثل استطاع "غولدمان" تفسير السبب الكامن وراء قدرة الفرد على التعبير الإبداعي والفني عن تطلعات الذات الجماعية التي هو جزء منها، أو التي قد تجمعه بها علائق معينة أمكنه من خلالها التعبير عن أفكارها ورؤاها وأحلامها، فوصل بذلك النصّ الأدبي بالأطر الاجتماعية والثقافية التي تلفّه والتي يجب الاستناد إليها حين عملية القراءة .

لقد حاول "غولدمان" البحث عن العلاقات الرابطة بين الأثر الأدبي وسياقه الاجتماعي/ الاقتصادي، الذي سبق تكوينه مشبّها العلائق الألسنية بين المفردات والتراكيب اللغوية، بالوسط الاجتماعي وتركيباته البنيوية، حيث الأثر الأدبي مكوّن من تراكيب لغوية لا يُمكن فهمها إلا في ظلّ علاقاتها كبنية متكاملة، لتفسر على أحسن وجهٍ انطلاقاً من بنية المجموعة كلها في علاقتها بالسياقات الخارج نصية التي ترتبط معها وظيفيا.  ليكون "لوسيان" بهذه النظرة قد وافق أستاذه في المبدأ الذي تتشكل وفقه النصوص الأدبية بالرغم من الخصوصية والعمق الذي تمتعت به تنظيراته وتطبيقاته على الرواية.  ‏

ويجب التنويه في هذا المقام إلى أنّ "لوسيان غولدمان" قد اقترح اصطلاح "الرابطة الوظيفية" بدل مصطلح الانعكاس الذي رفضه، وذلك لما يبديه - حسبه- مصطلح "الرابطة الوظيفية" من مرونة في الاستخدام، وما يفرضه من تساوق بين الآثار الأدبية وبين توجهات الوعي الجماعي للفئات الاجتماعية، ناهيك عن نيته في وضع مسافة فاصلة بين الأدب بما هو نص إبداعي له خصوصياته، وتخييلاته، وتوجهه الفكري والإيديولوجي المرتبط أساسا بتوجه المبدع، وبين المجتمع الذي يساهم في عملية التشكيل والبناء لكن دون أن يكون هو ذاته (بشكل مطابق) المقصود و المعبّر عنه في النص.

وسواء وضعنا مفهوم محاكاة الأدب لما هو اجتماعي تحت مسمى "الانعكاس" أو تحت اصطلاح "غولدمان" "الرابطة الوظيفية" إلا أنّ هذا التحديد لمفهوم الأدب، ووظيفته، ومعيار الحكم عليه، يصيبه الارتباك لعدة أسباب ومن عدة أوجه، وعلى رأس مواطن هذا الارتباك اهتمام أصحابه بالمضامين على حساب الأشكال، وانصرافهم الكلّي إلى ربط المتون النصية بالسياق الاجتماعي، وجعل فهمه حكرا على هذا السياق في ظلّ عملية مقارنة بين ما هو موجود في النص الأدبي وبين ما يقابلها في الواقع الخارجي، ناهيك عما وقعوا فيه من إهمال للجانب الفني الجمالي.

2/ سوسيولوجية النص الأدبي

تقوم هذه النظرية أساسا على رفض ما جاءت به نظرية الانعكاس، من حصر لدور النصّ في تصوير حالة المجتمع لا غير، بل واعتباره نتاجا ماديا شأنه في ذلك شأن أيّ نتاج آخر، كما رفضت الاقتصار في دراسة الأدب على المضامين دون الأشكال، فالدلالة حسبهم تتحدّد انطلاقا من الشكل، وليس فقط من خلال المضامين والدلالات الاجتماعية التي تحملها. وبداية هذه النظرية كانت بمثابة "أوّل محاولة منظمة للربط بين أشكال التعبير الأدبي وطبيعة الواقع الاجتماعي، وهو ربط يتجاوز بكثير كلّ الأفكار التي سادت القرن السابع عشر عن أثر البيئة والمناخ على الشخصية القومية وعلى القومية التي تؤثّر كذلك في المؤسسات السياسية والاجتماعية"(12)، ويُرجع أصحاب هذه النظرية السبب في ذلك إلى تهميش اللّغة بإيحاءاتها وأشكالها بما تحمله من شحنات معرفية وأيديولوجية كامنة، ومن ثمّةجاءت دعوتهم إلىالتعامل مع النصّ انطلاقا من لغته بفهم التراكيب اللغوية في النصّ الأدبي على مستويين؛ مستوى الاستعمال اللغوي العامي المعروف في الواقع، ومستوى التوظيف الجديد في النص المثخن بالدلالات والقائم على عديد من المرجعيات، ويقتضي التحليل الاهتمام بالمستويين معا.

ولذلك اعتبر أصحاب هذه النظرية، وعلى رأسهم "ميخائيل باختين"(13)، النصّ الأدبي مجموعة من اللّغات المتحاورة والتي تختلف تمظهراتها تبعا للفئات الاجتماعية الممثلة داخل النص بمعجمها وبلاغتها، وأيديولوجيتها، للتعبير عن مصالحها وعن رؤاها فيصبح النصّ الأدبي بذلك فضاء خطابيا ذا قيمة مرجعية متشاكلة مع الواقع والأيديولوجيا عن طريق اللّغة ورموزها المستخدمة. «فالنظام اللغوي عند "باختين" مثله مثل النظام الاجتماعي ككلِّية متعادية ومتناقضة وليس كنظام قواعد مجردة يستخدمها الفرد ليتكلم ويصدر أقوالاً»(14). وقد ذهب "باختين" في طرحه إلى أنّ العلاقات اللّغوية هي في حقيقتها علاقات إيديولوجية «ففي الواقع يعطي الشكل اللغوي للمتكلم في سياقات بيانية دقيقة، الأمر الذي يفترض سياقا إيديولوجيا دقيقا كذلك، ففي الواقع، نحن لا نلفظ، أو نسمع كلمات بل حقائق أو أكاذيب، أشياء جيدة أو سيئة، هامة أو تافهة، مليحة أو قبيحة .... إنّ الكلمة معبأة دائما بمعنى إيديولوجي وواقعي»(15). وهي كلمة تنتمي إلى نظام اجتماعي ديناميكي متغير لا يؤمن بالثبات، فتتغير بذلك محمولاتها الإيديولوجية لتكون دائما المؤشّر على كلّ التحولات المجتمعية " فالكلمة محملة دائما بمضمون أو بمعنى أيديولوجي أو واقعي على هذه الشاكلة تفهمها ولا تستجيب إلا للكلمات التي توقظ فينا قصدا أيديولوجيا، أو لها علاقة بالحياة"(16)، في تشابكاتها المختلفة وفي حواريتها الدائمة.  

ومن هذا المنظور غدت دلالات اللّغة بإحالاتها وإيحاءاتها وقائع اجتماعية في حدّ ذاتها، بل هي أصوات متصارعة على حدّ قول "باختين" داخل تركيب حواري قد يرد معلنا صريحا وقد ينثال متخفيا في متن النص الأدبي ليجسد ما يزخر به الواقع من تجانس فكري وتعايش ثقافي وصراعات إيديولوجية، أو بعضا من ذلك كلّه، نظرا لمحدودية النص زمنيا ومكانيا. وهذا ما جعل الدراسات السوسيو – نصية فيما بعد تنطلق في تعاملها مع النصّ من النصّ ذاته لتربط دلالاته الجزئية فيما بعد بسياقه الاجتماعي المنتج له، أي تبدأ بالنص باعتباره كينونة مغلقة مكتفية بذاتها إلى أن تتولّد الدلالات الداخلية للنص، فيتمّ ربطها بالخارج النصي ربطا للمتن وشكله بالواقع، استزادة للفهم وإثراء للدلالات في ظلّ علاقة النص، بنيةً ومعنى، بما ولد في كنفه.

فالسياق الخارجي بما يخلّفه من أثر في ذات المبدع هو ما يعطي للنصّ شكله ومضمونه. فإذا اعتبرنا أنّ العمل الأدبي هو ابن بيئته، فإنّنا نقرّ ضمنا بأنّه ابن السياق الذي يعيشه المبدع ويعيد ترجمته فنيا من منظوره الخاص، وبناء على ذلك تكون دراسة المناخ الاجتماعي والثقافي ضرورية لفهم بعض جوانب هذا العمل، ذلك أنّ البيئة الثقافية والاجتماعية جزء لا يتجزأ من الظاهرة الأدبية؛ كما أنّ المعنى النصّي مرتبط ارتباطا وثيقا بالسياق الذي ينتمي إليه حتّى يمكن أن نفهمه بشكل ملائم، لأنّ كلّ كاتب ينتمي إلى زمانه، وكلّ مؤلف، كيفما كان، لا بدّ وأن يعكس روح العصر الذي ينتمي إليه(17). وعليه يجب أن نموقع الكاتببعد الاطلاع على نصه شكلا ومضمونا من خلال ما تمنحنا إياه اللّغة برموزها وتراكيبها ونظامها من دلالات في سياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي أنتج النص داخله حتى يمكن قراءة نصوصه قراءة ملائمةلأنّ علاقة النصّ بالمؤلف وعلاقة المؤلّف بواقعه المعيش تكونان معطى أساسيا في تداولية النص الأدبي،أي في النظرية السياقية للدلالة(18).

وفي السياق نفسه، وانتصارا للجانب الشكلي للنصوص نجد إلى جانب "باختين" الناقد التشيكي"بيير زيما"(19)، الذي يرى بأنّ «الطرح الشكلاني يلخص بطريقة معينة برنامج سوسيولوجيا النص، له قبل كلّ شيء، قيمة إجرائية تجريبية، حيث إنّنا كلما أُحلنا على بنى لسانية (دلالية، تركيبية،سردية) أمكننا ذلك من تقديم مسوّغات، قابلة للمراجعة، لكن عندما نتحدث عن الوعي أو الحقيقة التاريخية المنعكسة بواسطة عمل أدبي فإنّ المراجعة التجريبية حينئذ تصبح صعبة أو مستحيلة»(20).وهو بذلك يرفض الحدود المفهومية الخطابية للنظرية النقدية التقليدية، ويصرّ على الجانب اللغوي الذي يعتبره ركنا ركينا في محاولة فهم العلاقة التي تجمع النصّ والسياق الاجتماعي. يقول بهذا الصدد إنّ  «العلاقة بين الأدب والمجتمع لا يمكن وصفها إلاّ على المستوى اللغوي»(21)،فاللّغة هي بنية اجتماعية ثقافية بمحمولات إيديولوجية، والنص الأدبي ما هو إلا  ملفوظ يشكّل قسما ( ضمنيا أو ظاهرا) من حوار واسع بين جماعات يجوز أن تدخل مصالحها ورؤاها للعالم من نزاعات معينة(22)، وأنّ النصّ الأدبي بشكل عام والنصّ السردي بشكل خاص مجبر على نقل هذه الرؤى بشكل ديمقراطي، في دائرة حوارية لا تكتفي بكتابة هواجس الذات ورؤاها من منظور يقصي الآخر أو يهمشه.

لقد انصرف هذا الاتجاه النقدي إلى قراءة النصّ الأدبي في حلقته اللسانية المغلقة، بعيدا عن سياقات إنتاجه، وقد اعتمد أصحابه على دراسة اللّغة أوّلا بما هي الحدّ المستغرٍق لكلّ الحدود المكوّنة للنص، مستفيدين مما وفّرته اللسانيات من مفاهيم جديدة أعطت الريادة للبنى والأساليب والأشكال على حساب المضامين، بحثا عن أنماط التمظهر الدالة بذاتها عن معاني النص بعيدا عن أيّ وصل ظاهر بالمؤلف وسياقات الإنتاج، ليخلَّف هذا الربط إلى المرحلة الثانية التي تستدعي إلى جانب ربط الأشكال بالمضامين النصية الظاهرة السياقات الاجتماعية والثقافية الخارجية المنتجة للنص الأدبي والموجهة لدلالاته، والهدف من عملية التأخير هذه هو الاكتفاء بمنطوق النصّ وعدم تقويله ما لم يقله، على النحو الذي كان سائدا في كتابات النقاد الاجتماعيين الكلاسيكيين الذين كانوا لا يلجون النصّ إلا بعد أن يعرّجوا على الكاتب والسياق الاجتماعي المحيط به الذي كتب فيه وعبره النص الإبداعي، وهو ما ولّد للقارئ نصوصا نقدية إسقاطية، تبحث عن تبريرات اجتماعية لأحكام مسبقة داخل المتن الأدبي، فلم يعد بذلك الأدب إلا مرتعا للاستشهاد وموئلا للاستدلال على الواقع.

3/ سوسيولوجياالقراءة

إنّ محاولة القبض على فعلالقراءة وعلى جمهوره مسألة تبدو مردودة للوهلة الأولى لعدة أسباب، لكنّها في البحث السوسيولوجي تغدو ممكنة ومتاحة بما يمتلكه هذا البحث من إمكانات للإحصاء وآليات للكشف والمساءلة تمكّنه من تفعيل مقارباته والوصول إلى النتائج المرجوة، بل حتّى إلى بلورة نظرية شاملة تلفّ فعل القراءة ومجتمعه(23).

تؤمن هذه النظرية بداية بأنّ لا وجود لنصّ خارج وعي القارئ، "فإذا كان فعل الكتابةيصدر عن ذات مبدعة، فإنّه لا يتحقق ولا يوطّن إلاّ من خلال فعل ملازم هو فعل القراءة"(24)، وبذلك تكون القراءة هي الوجه الثاني الذي يكتمل به فعل الإنتاج. فالنص الأدبي بالتعريف هو "بنية دلالية تنتجها ذات ( فردية – أو جماعية) ضمن بنية منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية محدّدة"(25)، يُقرأ النصّ عبرها كفعل بعدي، وبذلك يأخذ فعل القراءة أهميته وقيمته المنتجة للنص. وهو ما جعل النظرية الاجتماعية الأدبية توليه أهمية بالغة، وتمنحه مساحة من الاهتمام والدراسة ضمن مجال اختصاصها لتنّصفه كحلقة ختامية مهمة لا مناص منها لتكملة عملية التواصل الإبداعي مع مجتمع القراءة.

ولمّا كان تعامل القارئ مع النصّ وتجاوبه معه يقف على نوعية الكتابة وكيفية التلقي، فقد اهتمت سوسيولوجيا القراءة كثيرا بالنظام الداخلي للنص في علاقته بفضاء تجربة المتلقي وآفاقه، وكذا زمن الكتابة وزمن القراءة، معتبرة فعل القراءة فعلا منتجا مولّدا للدلالات، يجب الاهتمام به وضبط مساراته وتحديد قواعده، لكن شريطة أن لا يتوقف هذا الفعل عند حدود العالم الداخلي الذي تنشئه المعطيات اللغوية والبنائية في النصّ الأدبي بالرغم من انطلاقه منها، بمعنى أنّ النص " المقروء " يحقّق العملية التواصلية بجدارة حين يربط القارئ الحصيف دلالاته الداخلية بالعالم الخارجي الذي كتب فيه النصّ مع مراعاة الزمن الذي يقرأ فيه. ومن هنا تؤكد النظرية الاجتماعية على ضرورة اندغام وعي القارئ بتشكّلات النصّومحتوياته بغية فهمه واستنطاقه و تحليله تحليلا يفي بحق مقصدية النص الاجتماعية، لكي يرسم أبعاده الفنية والموضوعاتية، وليدرك أمداءه، وبذلك تصبح القراءة فعلا إنسانيا منتجا لا يختلف في شيء عن فعل الكتابة بما هو فعل سابق عنها.

ويعتبر الفرنسي "روبير إسكاربيت"(26)من أبرز الباحثين الذين اهتموابالدرس السوسيولوجي الأدبي، وأكثرهم اهتماما بسوسيولوجية الجمهور والقراء، وبالنصّ الأدبي لحظة إنتاجه مرة ثانية من طرف القارئ وما ينجرّ عنه من آثار تواصلية أو تبليغية أو إيديولوجية أو جمالية وغير ذلك مما يفرزه في علاقته بالقارئ، وفي هذا السياق أكّد "إسكرابيت" في أكثر من موضع من كتابه"سوسيولوجيا الأدب" بأنّ الاستناد إلى ما هو خارج النص يسعف كثيرا في فهم العمل الأدبي، لأنّ العمل الأدبي حسبه ليس نتاجا خالصا للكاتب فقط، ولكنّه أيضا تعبير وترجمة للشروط الاجتماعية الموجّهة لمجتمع القراءة، ولهذا فسوسيولوجيا الأدب تركّز على فعل الكتابة وعلى النصّ وتتجاوزهما إلى عمليات النشر والتداول الأدبي ووقع المؤلَّف على القراء، وأثر النصّ بمضامينه الفكرية والإيديولوجية في القار ئ فردا وفي مجتمع القراءة جماعة.

في هذا السياق، يفرق "إسكاربيت" بين نوعين من الجمهور ويضع كلّ واحد منهما داخل إطار معرفي  مختلف عن الآخر هما جمهور الكاتب وجمهور الناشر(27)،أمّا بالنسبة لجمهور الكاتب فهو الجمهور الحاضر في عملية الخلق منذ إرهاصاته الأولى، إلى ساعة المخاض وصولا إلى زمن الاكتمال، وهذا الجمهور هو ذاته مجتمع القراءة الضمني الذي يتخيّله المبدع ويكتب له، ويحاوره ويسائله، ويحذف لأجله ما يراه لازم الحذف، ويضيف من أجله ما يجب إضافته، وهو بالمقابل ذاته الجمهور الذي يتوجّه المبدع بعمله إليه وينتظر منه الرأي والنقد.

 وبالمقابل نجد أنّ جمهور الناشر، على خلاف ذلك، إذ هو الجمهور الذي يستهدفه النشر كمقتن للعمل الأدبي لا غير، وهو ما يستوجب الدعاية والإشهار وعرض المنتوج دون أيّ اهتمام كبير بالمضامين(28)، فيُهتم إزاءه بالعناوين والأغلفة الخارجية والتصديرات والألوان والصور وإغراءات دلالة الكلمة المركِّزة على عواطف الجمهور ونوعية الخط ولون الورق وغيرها من مغريات الاقتناء وشروط التسويق التي تستوجبها المنافسة.

وتأسيسا على هذه الرؤية، لا يمكن إصدار أيّ حكم على نجاح العمل الأدبي أو فشله بالنظر إلى الجمهور بنوعيه؛ سواء في شاكلته الأولى المتخيَّلة التي تستقرّ في ذهن المبدع ولا تبرحه أو في شاكلته الثانية الحقيقية المقبوض عليها من طرف الناشر بما يأسر به من بهرج وزخرف، وهو ما يستدعي معيار "عدد المبيعات"(29)كحل رئيسي يمكن الاحتكام إليه حين الحديث عن النجاح أو الفشلبغضّ النظر عن طبيعة المشتري، هذا إضافة إلى ما يخلّفه العمل من أثر في ذات القراء جماعة لا أفرادا، وفي هذا السياق يقول "روبير إسكاربيت": "الكاتب الناجح هو الكتاب الذي يعبّر عما كانت تنتظره الفئة الاجتماعية، والذي يكشف هذه الفئة أمام نفسها. إنّ الانطباع لدى القراء بأنّه خطرت لهم الأفكار نفسها وأحسّوا بالمشاعر ذاتها، وعاشوا الطوارئ نفسها، هو واحد من الانطباعات التي يذكرها غالباً قراء كتاب ناجح"(30)

ومن ضمن ما توصل إليه "إسكرابيت" في بحثه السوسيولوجي/ الأدبي تحت عنوان من العناوين التي تحدث فيها عن مشاركة المبدع في عملية الإنتاج من طرف الجمهور الحقيقي،تمييزه بيننوعين منالقراءة: "القراءة العارفة" و"القراءة الذوقية"، وهما القراءتان اللتان يفرق بينهما باعتبار القراءة الأولى حصيفة واعية تسعى إلى رفع الحجب عن القيم الجمالية للنص، فتسائل الكتابة الأدبية للكشف عن الخفي ولاستنطاق المخبوء الدلالي، وهي بذلك قراءة "يمرّ المطّلع فيها وراء الزخرف ليدرك الظروف التي تحيط بالإبداع الأدبي، محلّلا مقاصده، محلّلا وسائله"(31)فينفد عبرها القارئ من خلال التشكيلات اللغوية الظاهرة نحو أعماق النص مستعينا بخزينه الثقافي أو فضاء تجربته أو نصّه القابع بلغة "جوليا كرستيفا" إلى المعاني والدلالات الخفية، ومما يسم هذا النوع من القراءة أنّها قراءة على درجة عالية من الذكاء والذوق والمعرفة، فهي محيطةبالفعلالإبداعي وقواعده وآفاقه وتهدف في نهايتها إلى إحقاق الفائدة  والمتعة وهو عادة ما يتحقق لها.

 أمّا القراءة الثانية فذوقية مقيّدة بجملة من المعطيات التي تصنعها الدعاية والشائعة التسويقية. وهي ذاتها القراءة التي يرصدهاويتتبعها الناشر حين تعقّبه لتأثير الكتابات في جمهور القراءة، عبر وسائط مختلفة على رأسها وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها، فإن لاحظ الإعجاب اعتبر العمل ناجحا وانصرف إلى المبدع لتحفيزه وتمديد عقده، وإن سجل غير ذلك انصرف عنه إلى غيره. وعليه فإنّ مقياس هذا النوع من القراءة تجاري وذوقي تتحكم فيه جملة من المعطيات التي تصنعها الدعاية والسمعة في كثير من الأحيان.

 وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنّ القراءة الذوقية ميزتها التغيّر المستمر وعدم الثبات على نصّ بعينه، أو على معيار جمالي واحد، شأنها في ذلك شأن تذوّق أغاني اليوم، إذ كلّما ظهرت سحائب جديدة انصرفت إليها كلّ الآذان، ولمّا غدت هذه القراءة المنصرفة إلى كلّ ما هو جديد مركزا استهلاكيا بامتياز فإنّ الأعمال الأدبية العالميةأصبحت تعاني من التهميش والعزوف الذي يقودهالهوى وفساد الذوق إلى المنتهى. وبناء على هذا يمكن القول بأنّ فعل القراءة  فعل متقلب من فترة زمنية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر غيره، وذلك تبعا لكثير من العوامل المؤثرة، النائسة بين العامل الداخلي النفسي والعامل الخارجي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني وغيرها من العوامل المؤطرة لعملية الإنتاج.

وغير بعيد عن هذا الطرح، نجد "جاك لينهارت"(32)يوافق"إسكرابيت" فيما ذهب إليه من أحكام، فبعد أن أقرّ بأنّ الظاهرة الأدبية هي من زاوية أخرى، واضحة ودقيقة، ظاهرة اجتماعية: "وأيديولوجية ترتبط أساساً بسلم القيم الاجتماعية، وعلى أنّ الجمهور ليس كتلة متجانسة، بل تتدخل المصالح الفئوية أو الطبقية المتعارضة غالباً لتتمفصل على مستوى القراءة"(33)،تناول هو الآخر بالدرس والتحليل في كتاباته إلى جانب شروط الإنتاج النصي حقولا جديدة ترتبط بأثر النص في مجتمع القراءة، وجوانب السيرورة الاجتماعية للنص، وبذلك يرفض "لينهارت" ما ذهب إليه "ياوس" ومن لفّ لفّه في تعاملهم مع القارئ المثالي وإهمالهم القارئ الحقيقي، فهم: " يحاولون أن يروا كيف أنّ الجوانب الأسلوبية، والبلاغية للنص، يمكن أن تفترض قارئاً معيناً أو ضمنياً أي: قارئاً يقع في أفق الانتظار... بمعنى أنّهم يتوقعون وجود إرادة محتملة لدى الجمهور القارئ من خلال قراءة النص. ولكنّهم لا يذهبون أبداً للبحث عنها من جهة القارئ المحسوس بالذات. فهم لا يقومون بتحريات ميدانية لمعرفة كيف يفكر القارئ، وماذا ينتظر من العمل الأدبي"(34). وهو ما جعل "جاك لينهارت" يشجّع البحوث الميدانية ويحاجج بالمحاولات التي أجراها "روبير إسكاربيت" بهذا الصددمحيلا إلى أنّ الإشكالية قد أصبحت متمركزة حول فعل القراءة وعلى طبيعة القراء، مع إقرار مسبق بتعدّد الجمهور الفعلي كما يجسده الواقع المعيش، والذي نلمح فيه عامة أصنافاً ثلاثة(35):

أ-الجمهور المتخيّل/ المحاور: وهو الجمهور الحاضر في ذات الكاتبولا يفارقه، الجمهور الذي يكتب له بُغية إقناعه، فهومفروض في أصول عملية الخلق الأدبي، ولا مناص من حضوره تخييلا في ذات كلّ مبدع حين عملية الإنتاج، فهو الرقيب والمحاور طيلة فعل الكتابة، وهو الموجّه الأوّل لشكل النصّ الأدبي ودلالة مضامينه.

ب-الجمهور الوسط:"الكاتب فرد من هذا الجمهور يجسد همّه ورُؤاه، ويتحمّل رسالته، فهو لسان حاله، وكلُّ صنيع لا بدّ له أن يحمل هموم هذا الوسط وآماله ونبوءاته"(36)، فالجمهور الوسط هو الجمهور الذي ينتمي إليه المبدع، وهو الذي تجمعه به أطر اجتماعية وثقافية متأصلة، فيكتبه، مستمدا مادته من حياته، ليتوجّه إليه في الأخير بهذه الكتابة، ومن ضمن ما يجمعه بهذا الجمهور ويجعله جزءا منه أذكر:

- اللغة: وهي وسيلة للاتصال، واللسان المشترَك الذي يتخاطب به أصحاب اللّغة الواحدة، فاللّغة هي منظومة من الإشارات والدلالات المساهمة في التنشئة الاجتماعية للفرد والجماعة، ومكوّن من أهمّ مكونات الهوية، وهي كلغة أم مركزٌ جامع للمنظومة الثقافية، وعنصرٌ مكرّس للقومية العابر مفهومها للحدود الجغرافية التي يؤطرها مفهوم الوطن. والأديب بالنظر إلى لغته، فهو ينتسب إلى فئة اجتماعية محدّدة وهي الفئة ذاتها التي تمنحه مع اللّغة بمشتركاتها اللفظية والدلالية حمولة ثقافية توجّه فكره نحو أطر فكرية محدّدة ومخصوصة، كما تجعله هذه اللغة أكثر ارتباطا بمتكلميها، وفي العادة أكثر المدافعين عنهم وعن قضاياهم بشتّى أنواعها.

- الوطن: وهو الوحدة القاعدية التي تجمع نسقا اجتماعيا يكوّنه مجموعة من الأفراد داخل حيز جغرافي واحد، وهو الحيز الذي تتوحد فيه الذكريات بتوحد التاريخ، وتأتلف فيه المصائر بائتلاف الرؤية إلى المستقبل، والأديب بما هو جزء من هذا الوطن يكو ن أكثر المنتسبين إحساسا بما يحدث فيه وأكثر المدافعين عنه وعن قضاياه، وعليه يدخل ما يكتبه في نطاق مفهوم الالتزام بما هو دفاع عن قضايا الوطن، ومحاولة دؤوبة لإيجاد حلول للمشاكل التي يتخبط فيها، وذلك باعتبار وطنه كينونة خاصة منفصلة عن الأوطان الأخرى.

- الدين: وجد الدين لينظّم حياة الأفراد وليوجّهها نحو الهدف الواحد دنيويا وأخرويا، وهو بذلك سمة روحية تعقد صلة الفرد كإنسان بمجتمعه الأكبر الذي يتصل به روحيا خارج الحيز الذي يرسمه الوطن وتحدده اللّغة؛ لأنّ مجال الدين أوسع زمنا ومكانا، ومن شأن هذه الروابط الروحية أن تقلّص النزعات في ذات الفرد نفسه، وبين ذاته وبين الآخرين، ولذلك فكثيرا ما يتمّ الحديث عن عمليات الضبط الاجتماعي والنفسي لدى الفرد والمجتمع، وعما يؤديهالدين من دور في تقويم سلوك الفرد وبناء أسس قيمية ضابطة للعلاقات و الروابط الاجتماعية حين الحديث عن أهمية الدين ودوره.والأديب إن جمعته علائق دينية مع مجتمعه فإنّ أعماله ضرورةً ستنطبع بسمات هذا الدين، فتتشرّب ألفاظه وتوظّف دلالاته وتدعو إلى ما يدعو إليه انتصارا إلى قناعات الذات المبدعة وفقا لوعيها الخاص، ومسايرة للتوجه الروحي الذي يسير المجتمع وفقا لمعالمه في عملية تأطير العلاقات وضبط الأطر العامة للحياة.

- الثقافة:  وهي مثلما تناقلتها الألسن نقلا عن كتاب "الثقافة البدائية" لـ "إدوارد تايلور" ذلك الكلّ الديناميكي المعقّد الذي يشمل المعارف والفنون والمعتقدات والقوانين والأخلاق والتقاليد والفلسفة والأديان والعادات التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه بوصفه عضواً فيه، والثقافة من هذا المنظور تحتوي على مجموعة من العناصر المادية والمعنوية التي يكتسبها الفرد حيناتصاله بواقعه الاجتماعي، فتوجّههوترصد له طرائق التعامل مع مجتمعه وكيفية السير على معالمه العامة، وتضمن له في الوقت نفسه الحياة وسطه في حالة من الانسجام والاندغام. ولمّا كان الأديب فردا من أفراد هذا المجتمع فإنّ أدبه حتما سيتسم بسماته، فيعبّر عنها تارة ويدعو إليها تارة أخرى. وبما أنّ المجتمع وحدة كبرى تستوقف الأديب بما تختزنه له من مناهل يرثها أو يكتسبها فإنّه يجد نفسه مضطرا لإنتاج نصه إلى استثمار كلّ الجوانب التي تشكّل هذه الوحدة، والثقافة هي أبرز دال على وجودها وتميزها، فهي المرآة التي تبرز السيرورة وترصد أمداء الخصوصية. 

ج-الجمهور الواسع:وهو الذي يتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية لجودة العمل، فينتشر من العادة بلغته ثمّ بلغات أخرى عن طريق الترجمة، ويضمن - لأنّه يستحقّ أن يقرأ - بقاءه ضمن أجيال من القراء وضمن جمهور واسع منهم، محافظاً على قيمتهبالرغم من تبدّل الأحوال، وتغيّر طرائق الكتابة وتجدّدها، وفعل الترجمة من العادة هو الفعل الصانع للجمهور الواسع الذي يتجاوز الجمهور الوسط ويتعدّاه زمنا ومكانا، وكثيرا ما يحصل فيكتسب النص الأدبي أدبيته وقيمته ومعها شهرة صاحبه ومكانته بفضل الجمهور الواسع وليس بواسطة الجمهور الوسط(37).

وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى أنّ القراءة من هذا المنطلَق الذي يُظهر جمهورها وأنواعها، فعل غير بريء، فعل لا يشفع له استحضار قارئ ضمني أثناء عملية الكتابة، أو تحديد أنواع القراءة، لأنّهفي الأصل لا يصدر عن نزعة جمالية ومعرفية محضة، بل هو فعلمُسلِم أمره ومقدّم ولاءه لعوامل خارجية لا ترتبط بالنصّ ذاته، تتصل بمدى معرفة القارئ بالمؤلف، ومدى شهرة النص على مستوى مراكز الإعلام، ومدى نجاحه تسويقيا من طرف دور النشر، وغيرها من العوامل التي لا تمتّ بأيّ صلة لفنية النصّ وجودة مضامينه، وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّ كلّ قراءة مهما كان نوعها (عارفة/ ذوقية) هي قراءة "يمكن تبرير أحكامها بتفكيك مرجعياتها الداخلية والخارجية،لتظهر عيوبها وعيوب اختياراتها، وعند هذا الحدّ تزول فكرة القراءة الموضوعية"(38)، وفكرة النقد المنهجي، وتنحاد أمام أعيننا تلك الصور التي نتمثلها متعالية كأنّها خرافة.

وفي نهاية هذا المساق يبدو لنا أنّ سوسيولوجيا القراءة أثبتت أنّها تتعامل مع فعل متفلت، فعل قد يكون القائم به حقيقيا أو افتراضيا، وقد يأخذ أشكالا مختلفة وأنماطا متباينة وأنساقا متداخلة ومتماهية، هذا إن غضضنا الطرف عن الكتلة اللامتجانسة للجمهوروأذواقه المختلفة.وهو ما يجعل هذاالموضوع محلّ استزادة سوسيولوجية وسؤالا يستحق مزيدا من الاهتمام والدراسة، لكن داخل إطار كلّي جامع يركّز على نصية النص ودلالاته إلى جانب الاهتمام بالذات المبدعة، لأنّها العين الثاقبة التي تستنطق المكامن الاجتماعية المتعطشة إلى الغور في مسبباتها قبل أعراضها أو حتى آثارها في الفرد كوحدة صغرى قبل المجتمع كبنية كبرى، وبفضل الذات المبدعة يتأسّس المفهوم الجديد للمجتمع بعيدا عن فكرة الحصر في المنظومات والمؤسسات، فيكتب الأديب مجتمعه كما هو كائن وكما يريده أن يكون، فيتسع بذلك الأفق الإبداعي ويبرز له المسار المجتبى.

 

 

خاتمة

وفي الختام يمكن القول بأنّ النظرية الاجتماعية المهتمة بالأدب، المشتغلة على نصوصه، هي نظرية قديمة/حديثة، فهي ضاربة بجذورها إلى أولى المؤلفات التي تحدثت عن الأدب، ونقصد في هذا المقام "فن الشعر" لأرسطو، وحديثة لأنّ الاهتمام بنصوص الأدب من طرف الباحثين السوسيولوجيين في وتيرة متزايدة إلى درجة وصل فيها الأمر إلى إفراد مجال يهتم بنصوص الأدب وفي المقابل حيّز علمي يرتكز عليه في تفعيل مقارباته وبناء نتائجه، هو "علم اجتماع الأدب"، ولذلك فقد تَجمَّع للسوسيولوجيا من التراكمات المعرفية المتعلقة بالدراسات الأدبية ما تفتخر به وتزخر به مكتبتها.

إنّ الدراسات السوسيولوجية المهتمة بالأدب تحتاج - بالنظر إلى واقعها - إلى تضافر الكثير من الجهود لتعميق إشكالياتها وتجذير إجاباتها التي تبتدئ بقضية المحاكاة والانعكاس الأدبي، مرورا بالفلسفات والإيديولوجيات التي ترى في الأدب جدلية قائمة بين واقع مرفوض ووعي مأمول، وصولا إلى ما يعتبر الرهان الأكبر عندها والمتمثّل في تحقيق المعادلة الصعبة في الدراسات الأدبية أي في استخلاص الحقيقة الاجتماعية دون إلغاء أدبية الأدب وجمالياته النصية المتعارف عليها داخل نطاق النقد الأدبي، وهو ما تود الأبحاث المتأخرة إدراكه في سعي دؤوب.

وأخذا بعامل الانتماء، علينا أن نعترف بأنّ الدراسات النقدية السوسيولوجية العربية المقاربة للنص الأدبي، والتي أفادت من "علم اجتماع الأدب" كثيرا، على قلتها وتأخرها، [بالرغم من إيمانها بما تحمله من صيغ منهجية مضبوطة وآليات إجرائية فاعلة في التقعيد لقراءة منتجة لنصوص الأدب] هي دراسات قاصرة إذا نُظر إليها من زاوية الدور الذي يلعبه الأدب في تشكيل القيم الاجتماعية والوعي السياسي والنهضة الثقافية، وإذا تمّت مقارنتها بما أنتج في الدول الغربية حول الموضوع، كمّا ونوعا، فما كتبه "جاك لينهارت" من دراسات وبحوث، وما كتبته "مدام دوستايل" وما اشتغلت عليه من نصوص منذ البدايات الأولى للقرن العشرين، وكذا ما قدمه "روبير إسكاربيت"، "وإيدانوف"، و"بليخانوف"، و"لوكاتش"، و"ألتوسير"، و"غولدمان"، و"جورج غورفيتش"، و"ليو لونتال"، و"برسلون" و"سولتر"، وفي قراءة أكثر تطورا "بول ريكور" ... وغيرها من الكتابات التي جمعت في كثير من الأحيان بين التنظير والتطبيق، [ ولو أن معضمها قد ركز على الرواية كنصّ أدبي قابل للتحليل والتدليل، لاعتبارات موضوعية ترتبط رأسا بطبيعة الرواية المشرّحة لأوضاع اجتماعية معينة داخل زمان ومكان محدّدين] وهو ما اهتدت بهديه الدراسات العربية السوسيولوجية لكن بشكل محتشم، وغير دقيق، مما أبعد كثيرا من الدراسات عن هدفها الأسمى المتمثّل أساسا في إفراد سوسيولوجيا الأدب في الوطن العربي بخصوصيات تولّدها المقاربات المشتغلة على النصوص الأدبية العربية خاصة، هذا إن استثنينا بعض الجهود النقدية التي تعتبر أعمالا جادة داخل هذا الحقل يمكن انتهاج منهجها في اهتمامها بالأدب العربي، الذي يحتاج مزيدا من النظر والاهتمام قديمه وحديثه.

 وعلى رأس هذه الجهود العربية التي تستحق الإشادة والتقدير نظير ما قدمته للساحة النقدية في محاولتها لبلورة/ استنبات منهج نقدي اجتماعي على دراية بخصوصيات النصّ الأدبي العربي شكلا ومضمونا، شعرا ونثرا، كتابات الباحث المغربي المعاصر "سعيد يقطين"، الذي حاول من خلالها إعادة تمثّل مفاصل النظرية الغربية وآلياتها التطبيقية بشكل مبسط ودقيق، فهو الذي أقرّ في أكثر من موضع  بوجوب ربط النص بالمجتمع بما هو صورة من صوره منظورا إليها بأعين المبدع بشكل خاص،  وذلك على اعتبار أنّ النصّ ليس مجرد بنية مغلقة بل لأنّه نسق معرفي جمالي تداولي لا يمكن بأيّ حال إفراده وقراءته بعيدا عن بنيات أخرى خارجية مؤسسة لوجوده، وعلى جميع المستويات، ويشير "يقطين" في هذا السياق إلى أنّ هذا التفاعل الداخلي الخارجي بين البنيات لا يتمّ إلا بفعل القراءة التي يجب توجيهها نحو أهدافها بمعالم تتساير والأفق السوسيونصي الجديد الذي يدعو إليه كبديل للسوسيولسانيات التي دعا إليها "بيير زيما" وغيره ممن تأثروا برؤاه في أكثر من مؤلف. هذا دون أن ننفي وجود جهود نظرية وتطبيقية أخرى سابقة كان لها بعض الصدى من مثل كتابات كلّ من : شبلي شميل، وسلامة موسى، وعمر الفاخوري، وفي بعض كتابات محمود أمين العالم، ولوبس عوض وغيرهم.

1-      جورج لوكاتش:(1885-1971)  كاتب وناقد مجري، ماركسيالنزعة والتوجّه،يعده معظم الدارسين مؤسس الماركسية الغربية في مقابل فلسفة الاتحاد السوفيتيباعتبارها ماركسية شرقية.من مؤلفاته: (الرواية التاريخية/ تحطيم العقل/ دراسات في الواقعية/ التاريخ والوعي الطبقي / بلزاك والواقعية الفرنسية).

2-ينظر: محمد حمدي إبراهيم، نظرية الدراما الإغريقيَّة، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة – مصر، ط1، 1994. ص:56.

3-ينظر: شكري عزيز ماضي، في نظرية الأدب، دار المنتخب العربي، بيروت- لبنان، ط1، 1993، صص: 79/ 80.

4-      هيبوليت تين: (1828- 1893) مؤرخ وناقد أدبيوفني فرنسي، عرف بإيمانه بالفلسفة الواقعية، وقد عمل على نشرها أكثر من منظّريها الأوائل من مثل "أغست كونت"، فكان لصوته أصداء فنية وأدبية، من مؤلفاته: (الفلاسفةالإنشائيون في القرن التاسع عشر / رسائل في النقد وفي التاريخ).

5-      كوثر عبد السلام البحيري،الاتجاهات الحديثة للنقد الأدبي -معدراسة مقارنة بين النقد الأدبي العربي والغربي، مكتبة الإنجلو مصرية القاهرة – مصر، ط1، 1979. ص: 93.

6-      صبرى حافظ: الأدب والمجتمع- مدخل إلى علم الاجتماع الأدبي، مجلة فصول، المجلد الأول، العدد الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة – مصر، يناير 1981.ص:65.

7-المرجع نفسه. ص: 68.

8-إنريك أندرسون أمبرت، مناهج النقد الأدبي، تر: الطاهر أحمد مكي، مكتبة الآداب، القاهرة - مصر، ط1، 1991.ص:123.

9-محمد اللبيدي، علم اجتماع الأدب، دار المعرفة الجامعية، السويس - مصر، ط1، 2004. ص: 103.

10-    لوسيان غولدمان: (1913- 1970) ولد ببوخارست برومانيا، وهو ناقد ومفكر اجتماعي، تشبّع بالفكر الماركسي ودعا إلى رؤاه بعد أن شجعته على ذلك كتابات أستاذه "جورج لوكاتش" التي كانت لها كبير الأثر في كتاباته، عرف باهتماماته الكبيرة بالتخوم الجامعة بين الأدب وعلم الاجتماع وكان له فيها كثير من الأعمال. من مؤلفاته: (من أجـل علم اجتماع الرواية / البنيات الذهنية والإبداع الثقافي / الماركسية والعلوم الإنسانية).

11-                       فيصل دراج، نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافيالعربي، الرباط - المغرب، ط1، 1999. ص: 49.

12-                                            Allan Swingewood&Laurenson: the Sociology of Literature, HarperCollins, New Youk-1972. p 23.

13-    ميخائيل باختين: (1895- 1975)لغويومنظر أدبي روسي، عاش مضطهدا، ولم يعرف فكره الحداثي النور إلا بعد وفاته، ساهم بطروحاته في تحديد تصورات نظرية عامة وشاملة حول اللغة والشعرية والسيميائية في علاقاتها المتشابكة مع المجتمع والتاريخ، من مؤلفاته: (الخطاب الروائي/ شعرية دوستويفسكي / رابليه وعالمه).

14-                       بيير زبما، النقد الاجتماعي، ترجمة عايدة لطفي، دار الفكرللدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة – مصر،ط1، 1991. ص:186.

15-                       عمار بلحسن، نحو سوسيولوجيا للنص الأدبي، مجلة التبيين، الجاحظية، ع5، 1989، ص: 86-87.

16-                       ميخائيل باختين، الماركسية وفلسفة اللغة، ترجمة: محمد البكري، دار توبقال للنشر، الدار البضاء – المغرب، ط1، 1986. ص:93.

17-                                             Thomas pavel, Le mirage linguistique,Editions de Minuit, Paris,1988, p68.

18-        Jacques PROUST,L'Objet et le texte : pour une poétique de la prose française du XVIIIe siècle, Librairie Droz, Paris,1980.p11

19-    ولد "بيير زيما" عام 1946 في مدينة براغ التشيكية، عرف بتنظيراته الاجتماعية الأدبية، انصبّ اهتمامه حول علم اجتماع الأدب بما هو الإسهام الجديد الجامع بين الحقلين العلمي والفني، ويعدّ مؤلفه: (النقد الاجتماعي؛ نحو علم اجتماع للنص الأدبي) من أكثر  المؤلفات جدية في هذا الحقل، حيث دعا فيه إلى رفض الدراسات التبسيطية للنصّ الأدبي وذلك لعدة اعتبارات أهمها ارتباطه الوثيق بالسياق الاجتماعي المثخن بالغموض ناهيك عن السياقات الإنسانية الأخرى التي تدخل في نطاق هذا الحيز.

20-                                           P.V Zima Indifférence Romanesque, Sartre, Moravia,Camus,le Sycomore,Paris,1982,p 17   

21-                      بييرزبما، النقد الاجتماعي. ص:184.

22-                      ينظر: ميخائيل باختين ،الماركسية وفلسفة اللغة. ص:87.

23-    ينظر: حبيب مونسي، القراءة والحداثة؛ مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق – سوريا  ط1، 2000. ص: 205.

24-    المرجع نفسه والصفحة.

25-                      سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب، ط2، 2001. ص: 32.

26-    روبير إسكاربيت: (1918- 2000)، كاتب وصحفي وناقد أدبي فرنسي، أستاذ للأدب الإنجليزي بالجامعات الفرنسية، له من المؤلفات ما يقارب الخمسين عنوانا في شتى الميادين، أذكر منها : (سوسيولوجيا الأدب / ثورة الكتاب / النظرية العامة للإعلام والاتصال / نظرية المعلومة والسياسة التطبيقية / الكتابة والاتصال).

27-                       روبير إسكرابيت، سوسيولوجيا الأدب، تر: أمال أنطوان عرموني، عويدات للنشر، بيروت – لبنان. ط3، 1999.ص: 136

28-                      ينظر: حبيب مونسي، القراءة والحداثة. ص: 206.

29-                      ينظر: المرجع نفسه والصفحة.

30-                      روبير إسكرابيت، سوسيولوجيا الأدب. ص: 151.

31-                       المرجع نفسه. ص: 120.

32-    جاك لينهارت: عالم اجتماع فرنسي، وأستاذ بجامعة باريس، انصب اهتمامه على الأدب من منظور اجتماعي، له كثير من الدراسات التي اعتمد فيها النص الأدبي متكأ لبناء مقارباته السوسيولوجية. من أبرز مؤلفاته: (قراءة سياسية للرواية).

33-                       رشيد بن جدو، قراءة القراءة، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع: 48، يناير 1988. ص: 16.

34-                       جاك لينهارت، حوار، مجلة الكرمل، بيروت – لبنان. ع: 36 .1990. ص: 66.

35-                       ينظر: روبير إسكاربيت: سوسيولوجيا الأدب. ص: 105وما بعدها.

36-                       حبيب مونسي، القراءة والحداثة. ص: 208.

37-                       المرجع نفسه. ص: 209.

38-                       المرجع نفسه. ص: 215.

@pour_citer_ce_document

عبدالله بن صفية, «السوسيولوجيا والمقاربة النقدية للنص الأدبي »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ,
Date Publication Sur Papier : 2017-01-30,
Date Pulication Electronique : 2017-01-30,
mis a jour le : 09/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=2064.