أثر السياق في توجيه متشابه القرآن عند الإمام الكرماني
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N° 23 Décembre 2016

أثر السياق في توجيه متشابه القرآن عند الإمام الكرماني


فضيلة عظيمي
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يتناول هذا البحث أهمية السياق في توجيه التراكيب المتشابهة من الجانب اللفظي في القرآن الكريم، وكان مما توصل إليه البحث أن الكرماني كان لهمنهج واضح في التعامل مع التّراكيب القرآنية المتشابهة، فقد اعتمد على المنهج السّياقيفي تعليل ما بين تلك التراكيب من فروق واختلافات.وكانسياق الحال بعناصره المختلفة أداة هامّة في تعليل الاختلاف بين التراكيب المتشابهة.

ومن هنا فإنالمتشابهات القرآنية هي من أبرز الظواهر التي تتجلّى فيها تطبيقات النظرية السياقية.

الكلمات المفاتيح:السياق، التفسير، الآيات المتشابهة، سياق الحال، المنهج السياقي.

Cette étude traite l'importance du contexte dans  l’explication et l'interprétation  des compositions similaires verbalement dans le Coran،et Les résultats atteints à que  l'Imam al-Kirmani  avait une approche claire dans le traitement des compositions coraniques similaire،il a adopté le contexte  pour expliquer les différences entre  ces compositions.

Le contexte de la situation par Ses différentes composantes est un outil important pour expliquer les différences entre les compositions similaires.

Par conséquent،les similitudes sont des phénomènes coraniques importants qui reflètent les applications théoriques

Mots clés:Contexte، interprétation، versets semblables، le contexte de la situation les، l’approche

This study discusses the importance of context in the explanation and interpretation of similar compositions verbally in the Koran، and the results achieved Aque Imam al-Kirmani had a clear approach in the treatment of Koranic similar compositions، it adopted the context to explain the differences between these compositions.

The context of the situation، its various components is an important tool to explain the differences between similar compositions.

Therefore، the similarities are substantial Koran phenomena that reflect the theoretical applications

Key words:Context،interpretation،similar verses،the context of the situation،the contextual approach.

Quelques mots à propos de :  فضيلة عظيمي

استاذ مساعد أ، كلية الآداب و اللغات، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2

    

تعدّ نظرية السياق من أهم النّظريات اللّغوية التي لها الأثر البالغ والتأثير الكبير في مجال الدّرس اللّغوي الحديث، حيث إنّ الاتجاهات الحديثة في دراسة اللغة أكّدت هذه الأهمّية، بل إنّ إحدى المدارس قد انبنت بحوثها على فكرة السياق وهي المدرسة الإنجليزية بزعامة فيرث، على أن تراثنا اللغوي العربي قد تضمّن كثيرا من المباحث ذات الصّلة الوثيقة بالسياق، ويظهر هذا في مجالات مختلفة كاللغة والنحو والبلاغة والنقد الأدبي وبحوث الفقه والتفسير وعلوم القرآن، حيث كان السياق وسيلة هامّة في التفسير والتأويل وبيان دلائل الإعجاز.

السياق بين اللّغويين والأصوليين

السياق في اللغة

قال ابن منظور: " ساق الإبل وغيرها يسوقها سوقا وسياقا، وهو سائق سواق، شدد للمبالغة ...وقد انساقت وتساوقت الإبل تساوقا: إذا تتابعت، وكذلك تقاودت، فهي متقاودة ومتساوقة، ...وفي حديث أم معبد: فجاء زوجها يسوق أعنزا ما تسّاوق: أي ما تتابع، والمساوقة المتابعة، كأن بعضها يسوق بعضا "1.

وقال الجوهري:" ويقال: ولدت فلانة ثلاثة بنين على ساق واحدة، أي بعضهم على إثر بعض، ليست بينهم جارية"2.

 ومن المجاز:" هو يسوق الحديث أحسن سياق، وإليك سياق الحديث، وهذا الحديث مساقه إلى كذا، وجئتك بالحديث على سرده... وسياق الكلام تتابعه وتواليه وأسلوبه الذييجري عليه "3.

يستخلص من المعاني اللغوية السابقة أن السياق يدل على التتابع والتوالي، ويطلق على ما تتابع من الأشياء والدّواب وغيرها مماّ يملك تلك الصفة، ويتفق هذا المعنى اللغوي مع المعنى المجازي للسياق، فإذا أطلق على الكلام دلّ على تتابع ألفاظه وتواليها.

السياق في الاصطلاح

يعرّف السياق لدى علماء اللغة المحدثين بأنه العناصر اللغوية التي تسبق أو تلحق الكلمة أو العبارة ضمن الخطاب، حيث يتعلق معنى هذه الكلمة أو العبارة بتلك العناصر السابقة أو اللاحقة4.

لكنّ مفهوم السياق لا يقف عند حدود العناصر اللغوية الخالصة، بل يمتدّ ليشمل العوامل الخارجية المتصلة بالخطاب، وقد أدرجها علماء اللغة ضمن ما سموه سياق الحال ويعرّف بأنه: مجموعة الظروف الاجتماعية التي يمكن أخذها بعين الاعتبار لدراسة العلاقات الموجودة بين السلوك الاجتماعي والسلوك اللغوي ... ويسمى أحيانا بالسياق الاجتماعي للاستعمال اللغوي5.

ونتبين ممّا سبق أن السياق هو مجموع العناصر اللغوية وغير اللغوية التي تتصل بالعبارة أو بالنص ويتعلق بها المعنى.

فدلالة الكلام ليست بالضرورة ما يدلّ عليه ظاهر لفظه وهو ما نبّه عليه فقهاء اللّغة قديما وقرروا " أن المعاني قد لا يوصل إليها إلا بالظروف التي أحاطت بـــــــها، ومن ثَـمّ لا ينبغي أن يكتفي اللّغوي بالسماع، بل ينبغي أن يجمع إليه الحضور والمشاهدة"6. لأنّ لهما أهمّيةً بالغةً في فهم دلالات الألفاظ ومعانيها ومقاصد العرب فيما تستعمله من كلامها، ولهذا حرص أصحاب المعاجم على أخذ العربية من سياقها الذي تستعمل فيه، وذلك بالتنقّل بين البوادي ومواطن العرب الأقحاح.

ويمكن أيضا أن نستشف أثر هذا الجانب من السياق في نماذج كثيرة، منها ـــــ على سبيل المثال لا الحصرــــــ الأمثال التي كانت تُضرب في ظرف معيّن أو حادثة معيّنة، ثمّ تُذكر فيما بعد مورًّى بها عن مثلها في المعنى. ومعرفة هذه الأمثال وشرحها والإبانة عن معانيها والإخبار عن المقاصد فيها...كلّ ذلك يحتاج إلى الوقوف على أصولها والإحاطة بأحاديثها.7وهذا يشمل الأحوال والمواقف التي صدرت فيها.

أمّا ما يتعلّق بالسياق اللّفظي، ونقصد بذلك شرح اللّفظة وتحديد معناها من خلال استعمالاتها في الكلام فيمكن القول إنّه الأساس الذي قامت عليه أغلب المعاجم العربية، كمعجم مقاييس اللّغة لابن فارس ومعجم أساس البلاغة للزمخشري، حيث تذكر المعاجم المعنى الأصلي للكلمة ثمّ تفرع منه مختلف المعاني بحسب السياق، ومعنى ذلك أنّ " الألفاظ لا تعيش منعزلة في متون النّصوص بل مجتمعة مركّبة مع غيرها من الألفاظ، ولذلك كانت دراستُها منفردةً دراسةً عقيمةً غيرَ منتجة، فيجب أن يُستنتج معناها أومعانيها المتعدّدة من مجموع النّصوص التي تحدّد استعمالها، وتمكّننا من ضبط معناها ضبطا دقيقا ".8ويعدّ المشترك اللّفظي والتّرادف ظاهرتين بارزتين يمكن تتبّع أثر هذا النّوع من السّياق من خلالهما.

أمّا النّحاة فيمكن رصد مظاهر السياق لديهم في أبواب كثيرة ومختلفة من أبواب النحو، من أمثلتها ما نجده في موضوع الحذف حيث يتجلّى أثر السياق في تقدير المحذوف وفهم المعنى المقصود، يقول ابن الأنباري: " قد يستغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في الملفوظ دلالة على المحذوف لعلم المخاطب..."9.

ويقول ابن جني معلّلا حذف الصفة: "وقد حذفت الصفة ودلّت الحال عليها، وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: سِيرَ عليه ليل، وهم يريدون: ليل طويل، وكأنّ هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دلّ من الحال على موضعها، وذلك أنّك تحسّ من كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قولِه: طويل، أو نحو ذلك".10

فالتطويح والتطريح والتفخيم تُعدّ ضمن قرائن الحال الخارجة عن اللّفظ، وهذه القرائن " لا تُفهم من المقال بل تفهم من المقام أو الظروف المحيطة بالمقال... وهي تقف جنبا إلى جنب مع القرائن المقالية في تعيين المعنى الوظيفي النحوي "11.فقرينة الحال قد تعوّض قرينة المقال وقد تجتمعان معًا في الكلام، ولكن لا يمكن أن يخلو الكلام من إحداهما.

وأمّا البلاغيّون فإنّ اهتمامهم بالسياق يتجلى فيما يسمّى بالمقام الذي أولوه عناية فائقة. والمقصود بالمقام كلّ ما أحاط بالكلام  من مواقف وظروف وملابسات، وعلى المتكلّم أن يعرفها، فيوجز متى كان الإيجاز ويطنب متى استدعى المقام ذلك12. كما يتجلّى اهتمامهم بالسياق اللّغوي في دراستهم للأساليب والجمل، فقد راعوا القرائن والتمسوا من خلالها دلالات الكلام ومعانيه وأغراضه، وتعدّ نظرية النّظم مجالا تطبيقيا رحبًا، فهي تقوم على فكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال؛ فنظم الكلم أن " تقتفي في نظمها آثار المعاني في النّفس، فهو إذن يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض وليس هو النظم الذي معناه ضمّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق"13.

ويعدّ الأصوليون من أبرز العلماء الذين اعتمدوا السياق منهجا واضحا في فهم دلالات النصوص الشرعية انطلاقا من مناسبات النّص ومقاصد المتكلّم وقرائن الأحوال، وقد ألمح أبو حامد الغزالي إلى هذه الحقيقة فذكر أنّ قصد الخطاب يعلم بعلم ضروري يحصل من قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلّم وتغيّرات في وجهه، وأمور معلومة من عاداته ومقاصده، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس، ولا ضبطها في وصف، كأسباب النزول وتاريخه، والظروف التاريخية التي احتفت بالنّصوص كلّها14.

ويتجلّى وعي الأصوليين بأثر السياق في المعنى عند تفسير القرآن الكريم، حيث كانوا يعوّلون على السياق اللغوي وغير اللغوي في استنباط الدلالات، يقول السيوطي: " وأما ما لم يرد فيه نقل فهو قليل، وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالاتها بحسب السياق"15.وبناء على هذا نجد الأصوليين والمفسرين يجعلون السياق معتمدهم وحجتهم في العدول عن ظاهر اللّفظ ومعناه إلى معنى آخر يتماشى والسياق

وقد ميّز ابن تيمية بين نوعين من المفسّرين:

- صنف راعى المعنى الذي رآه من غير نظر إلى ما تستحقّه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.

- وصنف راعى مجرّد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلّم به، ولسياق الكلام16.

إنّ فهم دلالة الآيات يستند عند الأصوليين والمفسرين إلى القرائن المقالية والحالية، التي تمثل السياق بنوعيه؛ اللغوي وغير اللغوي.

فأما القرائن المقالية فتتجلى في اعتمادهم في تفسير الألفاظ على ما يجاورها من ألفاظ وتراكيب أخرى؛ فمما يظهر به أثر السياق في تحصيل المعنى أن اللّفظة القرآنية تستمد معناها أو جزءًا منه من الكلمات التي تتصل بها ضمن التركيب أو السياق، وبذلك تشكّل هذه الكلمات قرائن مقالية (لفظية) تعين على تحديد الدلالة.

       ومن نماذج هذا الأمر ترجيحهم دلالة المشترك اللّفظي اعتمادا على قرائن السياق، كتأويل معنى القرء في قوله تعالى: "وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِٱلۡأٓخِرِۚوَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٢٨"( البقرة: 228) بأنّه الطّهر، لأنّه جاء مؤنّثا بدليل أنّ العدد إذا كان مؤنّثا فالمعدود يجب أن يكون مذكّرا... إذ العدد يخالف المعدود في مثل هذا17.

وأمّا القرائن الحالية فتبرز عندهم في استدعاء ظروف الخطاب وملابساته في التفسير واهتمامهم بأسباب النزول التي تبين ما أحاط بنزول الآيات من ظروف وملابسات، تشمل الظروف النفسية والاجتماعية والتاريخية التي صاحبت نزول الآيات، ولأجل هذا كانت معرفة أسباب النزول من بين ما يشترط في المفسر.

ومن الظّواهر التي عرض لها المفسّرون بالشرح والتأويل اعتمادا على السياق ظاهرة المتشابه اللّفظي بين الآيات القرآنية.

المتشابهات القرآنية

يقصد بالمتشابهات في القرآن الكريم،الآيات والتراكيب المتماثلة الألفاظ التي تكرّرت فيه مع وجود اختلاف فيما بينها من زيادة أو نقص أو تقديم أو تأخير ... وهي تندرج ضمن ما يُسمى: علم الآيات المتشابهات،ومعناه: " إبراز القصة الواحدة في صور شتّى وفواصل مختلفة بأن تأتي في موضع مقدّما وفي آخر مؤخرًا، أو في موضع بزيادة وفي موضع من دونها، أوفي موضع معرّفا وفي آخر منكّرا، أو مفردا وفي آخر جمعًا، أو بحرف وفي آخر بحرف آخر، أو مدغما ومنّونا وهو من فروع التفسير" 18، على أنّ المراد بلفظ القصّة الوارد في التعريف ليس القصة بمفهومها الاصطلاحي، وإنمّا يُراد به الآية أو التركيب.

وقد ألّف في هذا العلم جماعة من العلماء منهم: أبو الحسن الكسائي (ت 189هـ)  وكتابه: مشتَبَهات القرآن، وذكر السّيوطي (ت 911هـ) أنّه أول من صنّف فيه 19، وأبو عبد الله محمّد بن عبد الله المعروف بالخطيب الإسكافي (ت 420) وكتابه: دُرّة التنزيل وغرّة التأويل، ومحمود بن حمزة بن نصر الكرماني (ت 505هـ) وكتابه: البرهان في توجيه متشابه القرآن، وأحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي الغرناطي (ت 708) وكتابه: ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللّفظ من آي التنزيل، والقاضي بدر الدّين بن جماعة (ت 733هـ) وكتابه: كشف المعاني في متشابه المثاني، ومجد الدّين محمّد بن يعقوب الفيروزابادي (ت 817هـ) وكتابه: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، وأبو يحيى زكريا الأنصاري (ت 926هـ) وكتابه: فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن، ونشير هنا إلى أن الفيروزآبادي وأبا يحيى زكريا الأنصاري قد اقتبسا كلَّ ما جاء في كتاب الكرماني  20.

تناول الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت 794هـ) موضوع المتشابهات في قسم من كتابه: البرهان في علوم القرآن تحت عنوان: علم المتشابه، ذكر فيه جملة من الذين صنّفوا فيه، وحصر التّشابه في ثمانية أقسام بينّها في كتابه. 21

وعرض الإمام جلال الدّين السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) قسمًا بعنوان: الآيات المشتبهات، أورد فيه بعض المؤلفات في الموضوع، ثم ذكر بعض الآيات المشتبهات وعلّل اختلافها.

ويعدّ كتاب البرهان في توجيه متشابه القرآن للكرماني كتابا نفيسا بل الأنفس في عصره من حيث تناوله للمتشابه في القرآن، ذلك أن العلماء المعاصرين للكرماني وغيرهم من الأئمة قبله " ... قد شرعوا في تصنيفه واقتصروا على ذكر الآية ونظيرتها، ولم يشتغلوا بذكر وجوهها وعللها والفرق بين الآية ومثلها، وهو المُشكل الذي لا يقوم بأعبائه إلاّ من وفّقه الله لآدائه ".22

 أمّا الكرماني فقد تفرّد عن أولئك بتتبّعه الدقيق للمتشابه في القرآن في جميع جزئياته، ولم يغفل أيّ موضوع من موضوعاته، لذلك عدّ كتابه " الأول من نوعه وبابه في المكتبة الإسلامية " 23. والظاهر من خلال هذا الكتاب أنّ الكرماني اعتمد على ذكائه الخاص في المسائل التي أوردها ولم يكن منها ما نقله عن غيره إلاّ بضع مسائل عقّب عليها برأيه الشخصي ولم يكتف بها، فقد ترجم له ياقوت الحموي في معجمه فقال عنه: " أحد العلماء الفهماء النبلاء، صاحب التّصانيف والفضل، كان عجبًا في دقّة الفهم وحسن الاستنباط،لم يفارق وطنه ولم يرحل، وكان في حدود الخمسمائة وتوفي بعدها، صنّف لباب التفسير وعجائب التأويل، والإيجاز في النحو، والنظامي في النحو، والإشارة والعنوان في النحو ".24

وقد حدّد الكرماني منهجه في الكتاب منذ البداية فقال في مقدمته: " هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التي تكرّرت في القرآن وألفاظها متّفقة، لكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان،أو تقديم أو تأخير، أو إبدال حرف مكان حرف أو غير ذلك ممّا يوجب اختلافا بين الآيتين، أو الآيات التي تكرّرت من غير زيادة ولا نقصان، وأبيّن ما السبب في تكرارها والفائدة في إعادتها، وما الموجب للزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير والإبدال، وما الحكمة في تخصيص الآية بذلك دون الأخرى، وهل كان يصلح ما في هذه السورة مكان ما في السورة التي تشاكلها أم لا ؟ ليجري ذلك مجرى علامات تزيل إشكالها وتمتاز بها عن أشكالها ".25

وإذا كانت نظرية النظم فحواها المناسبة التامة بين التركيب والسياق الذي ورد فيه، فإن هذا المبدأ يتجلّى أكثر من خلال المقارنة التي توفّرها المتشابهات في القرآن الكريم، والآلية التي تسمح بدراسة هذه المتشابهات دراسة تجلّي ما لاستعمالاتها المختلفة من دلالات وأسرار هي السياق، وفيما يأتي نماذج تكشف عن منهج الكرماني السياقي من خلال كتابه البرهان في توجيه متشابه القرآن، وقد قسمنا الظواهر التي تندرج ضمنها هذه النماذج إلى قسمين:ظواهر إفرادية وظواهر تركيبية.

أولا: الظواهر الإفرادية

نقصد بالظواهر الإفرادية، العناصر اللّغويّةالتي تؤدّي إحدى الوظائف الصّرفية أوالمعجمية؛ حيث تردفي تركيبينمتشابهين بصورتين مختلفتـين. ومن هذه العناصر: الأداة، والصّيغة، والعدد، والتّعيين، والنّوع، وإبدال فعل بفعل، أو إبدال اسم باسم، أو إبدال اسم بضمير.

1-الأداة

هي حروف المعاني على اختلافها، وأكثر ما جاء منها حروف العطف، ومن أمثلتها أن يرد التركيب في موضع بحرف الفاء و في موضع آخر بحرف الواو كما في: قوله تعالى:"فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا ٦١")(الكهف: من الآية61)، وقوله تعالى:"قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا ٦٣"(الكهف: من الآية63) .

فقد عطفت جملة (فاتخذ سبيله) في الآية الأولى بالفاء التي تفيد معنى التّرتيب والتعقيب، بينما عطفت في الآية الثّانية بالواو التي أفادت معنى التّرتيب وحسب.

ويرى الكرماني أنّ ورود الواو في الآية الثانية كان بسبب الحائل الذي وقع بين جملتي (فإني نسيت الحوت) و (واتخذ سبيله)، وهو قوله: "وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا ٦٣" (الكهف: من الآية63)، الذي زال معه معنى التعقيب، فكان العطف بالواو أولى 26، حيث قال تعالى::"قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا ٦٣"(الكهف:63) . فالسياق في الآية هو القرينة التي من أجلها كان الاختلاف في استعمال الحرفين.

2-الصيغة

ونعني بها الهيئة التي يكون عليها اللفظ اسمًا كان أم فعلًا، وهي أحد الاختلافات الظّاهرة بين الآيات المتشابهة، فقد يرد اللّفظ في موضع ما بصيغة ويرد في موضع آخر بصيغة مختلفة بحسب ما تقتضيه قرائن السياق. فممّا اختلفت صيغة الفعل فيه قوله تعالى: "فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِينَ ٦٤"(الأعراف: من الآية64)، وقوله تعالى:"فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ خَلَٰٓئِفَ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَاۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِينَ٧٣" (يونس: من الآية73) .

حيث إنّ الفعل الثلاثي(نجا) ورد بصيغة(أنجينا) على وزن أفعلنا في الآية الأولى، بينما جاء في الآية الثانية (نـجّينا) على وزن فعّلنا وكلا هما للتّعدية، وفي هذا يقول الكرماني: "...التّشديد يدلّ على الكثرة والمبالغة، فكان في يونس (ومن معه) ولفظ (من) يقع على كثرة ممّا يقع عليه (الذين)، لأنّ (من) يصلح للواحد والتثنية والجمع والمذكر والمؤنث، بخلاف (الذين) فإنّه لجمع المذكّر وحسب، فكان التّشديد مع (من) أليق "  27.            

 

3- العدد

نقصد بالعدد هنا الإفراد والتثنية والجمع، فقد يُستعمل اللّفظ مفردًا في موضع ويستعمل في موضع آخر مثنّى أو جمعا، وفي كلّ ذلك يكون السياق هو المؤثر، ومن أمثلته ما جاء في:

قوله تعالى في قصة صالح-عليه السلام -:"فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ٧٩"(الأعراف: من الآية79) ، وقوله تعالى في قصة شعيب-عليه السلام- :"فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡۖ فَكَيۡفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوۡمٖ كَٰفِرِينَ ٩٣" (الأعراف: من الآية93).

فقد أفرد الله تعالى لفظ(الرسالة) مع صالح وجمعها مع شعيب فقال:(رسالات)، ويرى الكرماني أنّ تخصيص الآية الأولى باللّفظ المفرد، قرينته تقدّم ذكر النّاقة في السورة، فصارت كأنّها رسالة واحدة  28وذلك في قوله تعالى:"وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٧٣" (الأعراف: من الآية73)، أي: رسالة من ربّكم، وهذه القرينة التي تقدّمت الآية هي ما اقتضى إفراد لفظ الرسالة، أمّا جمعه في الآية الثانية، فقرينتُه هي كثرة ما ذكره شعيب- عليه السلام- لقومه من الأوامر والنّواهي وتبليغها لهم، فصارت هذه كأنّها رسالات  29، ويعرف ذلك من قوله تعالى:"فَٱتَّقُواْٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ١٧٩" (الشعراء:179) إلى قوله: "وَٱتَّقُواْٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلۡجِبِلَّةَٱلۡأَوَّلِينَ١٨٤" (الشعراء:184). وهذه القرينة كذلك متقدّمة اقتضت جمع اللفظ، فاختلاف هاتين القرينتين هو الذي أدّى إلى اختلاف السياقين.

4- التعيين

  يراد بالتّعيين تعريف الأسماء وتنكيرها، وهو في الآيات المتشابهة أن يرد اللفظ معرّفا في آية منها ومنكّرا في آية أخرى، ومن أمثلته: قوله تعالى:"وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِٱلۡكَذِبَ وَهُوَ يُدۡعَىٰٓ إِلَى ٱلۡإِسۡلَٰمِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَٱلظَّٰلِمِينَ٧"  (الصف: من الآية7)، وقوله تعالى:"وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمۡ يُوحَ إِلَيۡهِ شَيۡءٞ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثۡلَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ ٩٣"(الأنعام: من الآية93).

فعرّف اللّفظ في الآية الأولى (الكذب) ونكّره في الآية الثانية، ويرجع تخصيص سورة الصّف بالتعريف لما فيها من إشارة إلى ما تقّدم من قول اليهود والنّصارى  30، وهو جعْلُهم البيّنات سحرًا، أي إلى ما تقدّم في سياق الآية حيث قال تعالى عنهم:"وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٦" (الصف: من الآية6) ، فقولهم: (هذا سحر مبين) هو كذب منهم، ولماّ تقدّم ما دلّ عليه صار هذا (الكذب) معلومََا ولهذا عرّف في الآية.

5-النوع

المقصود به تذكير الأسماء وتأنيثها على وجه العموم، وهو في التّراكيب المتشابهة ما وقع علىالفعل والاسم والضمير بحسب السّياق .

فمن أمثلة المتشابهات التي اختلف الفعل فيها تذكيرا وتأنيثا، قوله تعالى:"وَأَخَذَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٦٧"(هود:67) ، وقوله تعالى:"وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ ٦٤" (هود: من الآية94).

فالأوّل لم ترد فيه تاء التّأنيث بينما وردت في الثّاني، والتّذكير أخفّ على اللّسان في النّطق، غير أنّ تأنيث الفعل في الآية الثّانية إنّما حصل ليوافق ما بعدها  31وهو قوله تعالى:"كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ ٩٥"(هود: من الآية95)، أي أنّ هناك نوعا من التّجانس والتّشاكل بين (أخذت) و(بعدت)، وهو القرينة الدّالة على سبب الاختلاف.

6-إبدال فعل بفعل

من الظّواهر التي تعتمد على السّياق أن يرد التّركيب في موضع ما بفعل، ويرد في موضع آخر شبيه به بفعل قريبٍ منه دلاليا أو مختلفٍ عنه تماما، ومن أمثلة ذلك:

قوله تعالى:"۞وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٦٠" (البقرة: من الآية60) ، وقوله تعالى: "وَقَطَّعۡنَٰهُمُٱثۡنَتَيۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمٗاۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡهِمُٱلۡغَمَٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ١٦٠" (الأعراف: من الآية160) .

فقد يظهر لنا للوهلة أنّ الانبجاس مرادف للانفجار، لكنّ الأصل فيهما غير ذلك، وهذا لا يعني أنّ هناك تناقضًا بين التركيبين، وإنما السّرّ في الاختلاف بينهما يتّضح من الاطّلاع على سياق الآيتين في كلتا السورتين، فالتّركيب في سورة البقرة تلاه قوله تعالى:"كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ"(البقرة: من الآية60)، والتّركيب في سورة آل عمران تلاه قوله تعالى: "كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ " (الأعراف:من الآية160)، ويرى الكرماني أنّه لماّ جُمع بين الأكل والشّرب في السّياق الأوّل ناسب ذلك ذكر الانفجار من بعد وهو الأبلغ، ومعناه انصباب الماء بكثرة، ولم يكن كذلك في السّياق الثاني حيث اقتصر على لفظ الأكل، وهذا ناسبه ذكر الانبجاس ومعناه ظهور الماء  32، فالفرق بين السّياقين واضح وكلّ تعبير في الآيتين إنّما جاء لقرينة لاحقة في كلّ منهما.

7- إبدال اسم باسم

قد تختلف التّراكيب المتشابهة في استعمال الأسماء بإبدال لفظ منها مكان الآخر، وإذا تأمّلنا هذا الاختلاف وجدناه أمرًا مقصودًا لا تناقض فيه، ويستند في تعليله إلى قرائن السّياق، ومن أمثلة هذا النّوع ما جاء فيقوله تعالى: )قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ((آل عمران: من الآية47) ، وقوله تعالى: )قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ((مريم: من الآية20).

حيث أبدل لفظ (ولد) في سورة آل عمران بـ (غلام) في سورة مريم، وإنّما يرجع سبب هذا الاختلاف بين الآيتين  إلى أنّ الأولى تقدّمها ذكر (المسيح) ولد مريم _عليهما السلام_، أمّا الثّانية فتقدّمها ذكر (الغلام)  33.

فقد جاء في آل عمران قوله تعالى:"إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ٤٥" (آل عمران:45)،  وجاء في مريم قوله:"قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا ١٩" (مريم:19) ، فكلّ لفظ ناسب مكانه.

8- إبدال اسم بضمير

ونعني به استعمال الاسم ظاهرا في موضع ومضمرا في موضع آخر شبيه به، كأن يرد الفاعل مثلا في تركيبين متشابهين اسما ظاهرا في أحدهما ومضمرا في الآخر، وذلك بحسب ما يقتضيه السّياق كما في، قـوله تعـالى:"تِلۡكَٱلۡقُرَىٰنَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآئِهَاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَٰفِرِينَ١٠١" (الأعراف: من الآية101) ، وقـوله تـعالى:"ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِۦ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ نَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡمُعۡتَدِينَ٧٤"(يونس: من الآية74) .

فقد أسند (الطّبع) في آية الأعراف إلى ذات الله تعالى، أي أنّ الفاعل هنا اسم ظاهر هو لفظ الجلالة (الله)، بينما أسند في آية يونس إلى ضمير المتكلّم بصيغة الجمع للتّعظيم، وهذا الاختلاف يفسّره السّياق في كلتا السّورتين.

ففي آية الأعراف تقدّم ذكر (الله) بالكناية قبلها فاستدعى ذلك ذكره بالصّريح في ختامها34فقال:"أَوَ لَمۡ يَهۡدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ أَهۡلِهَآ أَن لَّوۡ نَشَآءُ أَصَبۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡۚ وَنَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ١٠٠" (الأعراف: من الآية100)، ثمّ قال بعدها:"كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَٰفِرِينَ" (الأعراف: من الآية101)، أمّا آية يونس فإنّ الأمر فيها مبنيّ على ما جاء فيها وفي الآية قبلها35، فالأفعال فيه مُسنَدَةٌ إلى ضمير المتكلّم بصيغة الجمع، وذلك في قـوله تعـالى:"فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ خَلَٰٓئِفَ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَاۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِينَ٧٣" (يونس: من الآية73)، وقوله :"ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم مُّوسَىٰ وَهَٰرُونَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦ بِ‍َٔايَٰتِنَا فَٱسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ ٧٥" (يونس: من الآية75)، وبهذااتّضح الفرق بين السّياقين اللّذين تطلّب كلّ منهما بنية خاصة ضمنالتركيب.

9- اختلاف الفاصلة

من المعلوم أنّ الآية القرآنية تنتهي بفاصلة تنسجم موسيقيّا وباقي فواصل الآيات الأخرى في السّورة، وهذه ميزة واضحة في القرآن الكريم، والفاصلة من الكلمات التي قد يقع الاختلاف فيها بين الآيات المتشابهة في السورة الواحدة أو في سور متباينة حيث تكون الآية مختومة في موضع بلفظ يختلف عنه في موضع آخر على الرغم من تشابه التركيب. وإذا كان الانسجام الموسيقيّ أو الصّوتيّ ممّا قد يؤثّر في نوع الألفاظ الفواصل، فإنّ السّياق بصفة عامة هو ما يستدعي ويفسّر الاختلاف بين هذه الألفاظ، ومن أمثلة اختلاف الفاصلة في تركيبين متشابهين ما جاء في قوله تعالى: "لَأَنتُمۡ أَشَدُّ رَهۡبَةٗ فِي صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ ١٣"(الحشر: من الآية13)، وقوله تعالى:"ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ" (الحشر: من الآية14) .

فقد قال في الأول: (لا يفقهون) وقال بعده (لا يعقلون)، ولاشكّ أنّ خاتمة كلّ من الآيتين تنسجم موسيقيّا مع خواتم الآيات الأخرى في هذه السّورة، لكنّ السّياق أيضا يقتضي الفاصلة التي فُصِلت بهاكلّ آية، ذلك أنّ الفاصلة الأولى متّصلة بقوله تعالى قبلها في آيتها :"لَأَنتُمۡ أَشَدُّ رَهۡبَةٗ فِي صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِۚ" (الحشر: من الآية13)، والمعنى: أنّ خوف هؤلاء المنافقين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أشدّ من خوفهم من الله تعالى، فهم يرون ظاهر الشّيء من دون باطنه فلا يفقهونه، والفقه معرفة الظّاهر والباطن 36، فناسب ذلك نفي الفقه عنهم، و" نفي فهمهم وانسلاخهم عن النّظر والتّدبّروالتّوفيق "  37.

أما الفاصلة الثانية فمتّصلة بقوله تعالى قبلها في آيتها وهو:"تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ" (الحشر: من الآية14)، أي أنّهم: " لو عقلوا لاجتمعوا على الحقّ ولم يتفرّقوا " 38، فهم لا يثبتون على شيء، وليس عندهم قانون يقفون عنده ويرتبطون إليه فقال تعالى: )ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ(، والعقل مشتقّ من قولهم: عَقَلتُ البعير إذا ربطته بعقال وهو الحبل، فلمّا نُفي عنهم الارتباط مع وصفهم بشتات القلوب أخبر الله تعالى أنّ سبب ذلك أنّهم لا يعقلون  39، فناسبت هذه الفاصلة الآية التي خُتمت بها.

ثانيا: الظواهر التركيبية

1-التقديموالتأخير

 ظاهرتا التّقديم والتّأخير من الظواهر الّتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالسياق، فتقديم لفظ(أو مجموعة ألفاظ) وتأخيره في موضع آخر لا يأتي إلاّ لغرض في الكلام، وهذا الغرض تدلّ عليه قرائن قد تكون مقالية وهي تمثّل السياق اللّغوي، أو تكون قرائن حالية وتمثّل سياق الحال أو المقام. وفيما يأتي نعرض نماذج للتقديم والتأخير في ألفاظ التّراكيب القرآنية المتشابهة، وكيف أنّ السّياق _ بنوعيه_ يساهم بشكل واضح في تفسير ذلك، وسنبدأ بالنّوع الأوّل وهو السياق اللّغوي.

1/1-السياق اللغوي

أ -تقديم كلمة على كلمة

من أمثلة المتشابهات التي يتحكّم السياق اللّغوي في بيان سرّ ترتيب بنيتها، نجد تقديم المفعول في آية وتأخيره في أخرى كما في، قوله تعالى:"لَقَدۡ وُعِدۡنَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا هَٰذَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ٨٣"(المؤمنون: من الآية83) ، وقوله تعالى:"لَقَدۡ وُعِدۡنَا هَٰذَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ٦٨" (النمل: من الآية 68) .

فالألفاظ واحدة في كلا التّركيبين غير أنّ ترتيبها يختلف، وذلك لأنّ ما في سورة (المؤمنون) قد جاء "على القياس، فإنّ الضّمير المرفوع المتّصل لا يجوز العطف عليه حتّى يؤكّد بالمنفصل، فأكّد (وعدنا نحن) ثمّ عطف عليه (آباؤنا)، ثمّ ذكر المفعول وهو (هذا)، وقدّم في (النمل) المفعول موافقة لقوله:"وَقَالَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبٗا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخۡرَجُونَ ٦٧" (النمل:67) ، لأنّ القياس فيه أيضا: كنّا نحن وآباؤنا ترابا، فقدّم (ترابا) ليسدّ مسد (نحن) "  40.

 ب -تقديم كلمة على شبه الجملة

قال تعالى:"وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ "(النحل: من الآية14) .

وقال تعالى:"وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ " (فاطر: من الآية12) .

فألفاظ الآية الأولى جاء ترتيبها على القياس؛ الفعل، والفاعل، والمفعول الأول، والمفعول الثاني، ثمّ الجارّ والمجرور، غير أنّ هذين (أي الجار والمجرور) قد تقدّما المفعول الثاني في الآية الثانية.ويستدل الكرماني في بيان سبب التّقديم بما ورد في السياق وهو قوله تعالى:"وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا"(فاطر: من الآية12)، فقد وافق تقدّم الجار والمجرور فيها تقدّمهما فيما بعد في الآية ذاتها  41، أي أنّ تقدّم شبه الجملة (من كلّ) على الفعل (تأكلون) هنا قرينة تدّل على سبب تقدّم شبه الجملة (فيه مواخر) على المفعول هناك.

أمّا تقديمه هو (أي المفعول ) على شبه الجملة في آية النحل، فيذكر ابن جماعة أنّه لمّا امتنّ الله تعالى على النّاس بتسخير البحر في الآية نفسها، ناسب ذلك تقديم (مواخر) ومعناها: شاقّة للماء، وأيضا ليَليَ المفعول الثّاني المفعول الأوّل لـ (ترى)، فإنّه أولى من تقديم الظّرف أو شبه الجملة  42.

         إنّ القرينة التي تضمّنها السياق في التّعليل كانت في سياق الآية نفسها، أي أنّها مجاورة  للوحدات المراد بيان سبب تقدّها مجاورة قريبة .

ج – تقديم شبه الجملة على شبه الجملة

لا يقتصر التقديم والتأخير في المتشابهات على الألفاظ وحسب، بل إنّ الأمر يمتدّ إلى الجمل وأشباهها، فقد يتقدّم في تركيب ما شبه جملة على آخر، ويتأخّر عنه في تركيب مشابه، وكذلك الحال بالنّسبة إلى الجملة، ولكنّ قرائن السّياق تبقى -دائما- هي الفيصل في تفسير علّة التّقديم أو التّأخير أو كليهما معًا، ففي قوله تعالى:"إِنَّٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ"  (الأنفال:من الآية72)، وقوله تعالى:"ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ " (التوبة: من الآية20).

وبالاعتماد على ما تمليه قرائن السياق يعلّل الكرماني سبب التقديم في السورة الأولى بأنها قد تقدّم  فيها ذكر المال والفداء والغنيمة  43  وذلك في قوله تعالى:"تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا" (الأنفال: من الآية67)، وقوله تعالى:"لَّوۡلَا كِتَٰبٞ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمۡ فِيمَآ أَخَذۡتُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٦٨" (الأنفال: من الآية68)، وقوله تعالى:"فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمۡتُمۡ حَلَٰلٗا طَيِّبٗاۚ وَٱتَّقُواْٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٦٩"(الأنفال: من الآية69)، فناسب هذا تقديم إنفاق الأموال في سبيل الله، أما في سورة التوبة فقد تقدّم قوله: (في سبيل الله) على قوله: (بأموالهم) لأنّ ذكر الجهاد قُدّم قبلُ في السورة  44، وذلك فيقوله تعالى:"وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ "(التوبة: من الآية16)، وقوله:"كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ"(التوبة: من الآية19) . فتقدّم ذكر الجهاد في هاتين الآيتين ناسبه تقدّم ذكر الجهاد في الآية بعدها.

د – تقديم جملة على جملة

في قوله تعالى:"قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ " (آل عمران: من الآية40)، وقوله تعالى:"قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا ٨" (مريم:8)، تقدّمت جملة (بلغني الكبر) في الآية الأولى على جملة (امرأتي عاقر)، بينما وقع خلاف ذلك في الآية الثانية، والسّبب أنّه " في مريم قد تقدّم ذكر الكبر في قوله:"وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي " (مريم: من الآية4)، وتأخّر ذكر المرأة في قوله:"وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا ٥"  (مريم: من الآية5)، ثمّ أعاد ذكرها فأخّر ذكر (الكبر) ليوافق (عتيا) ما بعده من الآيات وهي (سويا)،و(عشيا)، و(صبيا) "  45.

1-2:سياق الحال (المقام)

يشكّل سياق الحال (أو المقام) بعناصره المختلفة وسيلة هامة في معرفة معاني الآيات ودلالاتها، وعليه فإنه يُعتمد في تعليل بنية التراكيب المتشابهة ووضع كل تركيب منها في سياقه الصحيح. وأبرز عناصر المقام الّتي ظهرت لدينا ههنا في مبحث التقديم والتأخير عنصرا المخاطَب وأسباب النزول.

أ_ المخاطَب

من أمثلته قوله تعالى:"۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ١٣٥"  (النساء: من الآية135) ، وقوله تعالى:"يَٰٓأَيُّهَاٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ٨" (المائدة: من الآية8) .

بالتركيز على شبه الجملة من الجارّ والمجرور (لله) الّذي تأخّر في الآية الأولى وتقدّم في الآية الثانية  يعلّل الكرماني بأنّ (لله) في الأولى " متّصل ومتعلّق بالشّهادة بدليل قوله:"وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ" (النساء: من الآية135)، أي: ولو تشهدون عليهم، وفي (المائدة) منفصل ومتّصل بقوامين، والخطاب للولاة بدليل قوله:"وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ " (المائدة: من الآية8) " 46. فبِكون الخطاب في آية (المائدة) موجّها إلى الولاة - وهم المخاطبون- جاءت بنية التّركيب فيها بتقديم الجار والمجرور (لله)،  أمّا آية (النّساء) فيُفهم من خلال ما تقدّم فيها من آيات أنّ الخطاب موجّه إلى فئة من النّاس غير الولاة وهم الأزواج. فاختلاف المخاطبين - إذن- قرينة حالية أثّرت في بنية كلا التّركيبين.

ب -أسباب النّـزول

لاشكّ أنّ أسباب النّزول على- تنوّعها- تعين على فهم الآيات والمراد منها، وعليه فإن معرفتها ضروريّة، وهذا سيؤدّي -حتما- إلى الوقوف على أسرار جمّة في بُنى التّراكيب القرآنية بشكل عام، والمتشابهات منها بشكل خاصّ . ولمعرفة أثر هذه الأسباب في التقديم والتأخير نذكر بعض الأمثلة:

في قوله تعالى:"فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ " (البقرة: من الآية284).

وقوله تعالى :"يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ"(آل عمران: من الآية129).

وقوله تعالى : "ويَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ"(المائدة: من الآية18) .

وقوله تعالى:"يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُۗ"(المائدة: من الآية40) .

نلاحظ أنّ جميع هذه الآيات تقدّم فيها لفظ المغفرة على لفظ العذاب ما عدا الآية الأخيرة من سورة المائدة، وذلك " لأنّها نزلت في حقّ...السّارق والسّارقة، وعذابهما يقع في الدّنيا "  47  بدليل قوله تعالى:"وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٣٨" (المائدة: من الآية38)، وقوله: (فاقطعوا) صيغة أمر تقتضي وقوع العذاب في الدّنيا.

فسبب النّزول هنا تعلّق بحكم شرعيّ وهو إقامة الحدّ على السّارق، وعلى هذا فهو قرينة تقدّم بسببها لفظ العذاب على لفظ المغفرة .

2-الحذفوالذكر

يعدّ الحذف والذّكر في المتشابهات من بين الظّواهر الّتي يتجلّى فيها أثر السّياق بوضوح فحذف جزء من الخطاب في تركيب وذكره في تركيب مشابه إنّما يكون في الحالين موافقا للسياق، ولذلك وجدنا الكرماني يستند في تعليل الظاهرة إلى قرائـن - سياقية أو حالية - وسواء في ذلك أكان العنصر المحذوف حرفا، أم كلمة، أم شبه جملة، أم جملة، وبذلك يمكن الحديث عن نوعين من السّياق.

2-1: السياق اللغوي

أ -حذف حرف: في قوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ"(الأنعام: من الآية165)، وقوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ"(الأعراف: من الآية167).

نلاحظ اقتران الخبر (سريع) بلام التّوكيد في سورة الأعراف وسبب هذا الاختلاف كما - يقول الكرماني- هو ما تقدّم في الآية 48، حيث وقعت بعد قوله تعالى:"وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۢ "  (الأعراف: من الآية165)، وقوله تعالى:"كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِ‍ِٔينَ" (الأعراف: من الآية166).

فهاتان الآيتان ورد فيهما ذكر العذاب والعقاب الذي أخذ الله به القوم، فناسب ذلك توكيد الخبر (سريع العقاب) باللّام.

ب- حذف كلمة

قد تكون الكلمة المحذوفة اسما ظاهرًا وقد تكون ضميرًا ، من ذلك قوله تعالى:"وَوَصَّيۡنَاٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ")(لقمان: من الآية14)، وقوله تعالى:"وَوَصَّيۡنَاٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ"(العنكبوت: من الآية8) .

نلاحظ أن كلمة (حُسنا) المذكورة في الآية الثانية حُذفت في الأولى، ويعلّل الكرماني سبب الحذف بما ورد في سياق الآية ذاتها في قوله تعالى:"أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ" (لقمان: من الآية14)، الذي تضمّن معنى الإحسان فقام هذا المعنى مقام ما حذف 49وكان قرينة تدلّ على ذلك، أمّا آية العنكبوت فقد تقدّمها قوله تعالى:"وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَحۡسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعۡمَلُونَ" (العنكبوت: من  الآية7)، " وبرّ الوالدين من أحسن الأعمال، فناسب ذكر الإحسان إليهما "  50.

 ج-حذف شبه جملة ( الجار والمجرور )

قد يكون الاسم المجرور المحذوف مع الجارّ ظاهرا، وقد يكون مضمرا، من ذلك قوله تعالى: "وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ"  (الإسراء: من الآية41)، وقوله تعالى:"وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ" (الإسراء: من الآية89) .

فالأول حُذف منه شبه الجملة من الجار و المجرور وهو (للنّاس) بينما ذُكر في الثاني، وسبب الاختلاف بينهما أنّ الحذف برّره تقدّم ذكر (النّاس) في السورة، أمّا الآيـة الثانية فسبب ورود شبه الجملة (للنّاس) فيها هو عدم ذكرهم قبلها  51.

د  - حذف جملة

قد تحذف الجملة كما في قوله تعالى:"وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰٓ"(الإسراء: من الآية94)، وقوله تعالى:"وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ" (الكهف: من الآية55). فجملة )وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ(المذكورة في سورة الكهف حُذفت في سورة الإسراء، وبالرجوع إلى سياق كلّ آية نجد أن التّركيب الأوّل اتّصل بقوله تعالى:"أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرٗا رَّسُولٗا" (الإسراء: من الآية94)، أمّا التركيب الآخر فاتّصل بقوله تعالى:"إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا " (الكهف: من الآية55)، فكلتا الآيتين تضمّنت مانعًا من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم- ، واختلاف المانعين هو الذي أدّى إلى الحذف في السورة الأولى و الذكر في السورة الثانية  52.

2/2- سياق الحال (المقـام)

تتعدّد عناصر المقام في مبحث الحذف والذكر فتجد منها:

أ- المخاطَب: من ذلك: قوله تعالى:"وَسِيقَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ " (الزمر: من الآية71) .

وقوله تعالى:"وَسِيقَٱلَّذِينَٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ " (الزمر: من الآية73)

فنلاحظ أنّ الآية الأولى وردت فيها جملة )حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا (من دون واو، بينما وردت في الآية التي بعدها بذكر الواو وهي واو الحال، أي جاؤوها وقد فتّحت أبوابها 53، وبالرّجوع إلى ما جاء في كلّ آية نجد أنّ الخطاب في الأولى هو عن الكفار، وهم يأتون جهنّم وبابها مغلق حتّى إذا وقفوا عنده فُتح في وجوههم فجأة ليكون ذلك أشّد عليهم، بينما الخطاب في الآية التالية لها هو عن المؤمنين المتّقين الذين يأتون الجنّة وقد فُتحت أبوابها لهم قبل مجيئهم إليها استعدادا لاستقبالهم، فيكون ذلك إكرامًا لهم و إدخالاً للسّرور على قلوبهم54.

ب- أسباب النزول

في قوله تعالى:"وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ" (النحل: من الآية127) .

وقوله تعالى:"وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُن فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ " (النمل:70).

نلاحظ إثبات نون (تكن) في سورة النمل، بينما هي محذوفة في سورة النحل، وقد وقع مثل هذا الحذف في عدة مواضع من القرآن الكريم.

ويرجع تخصيص سورة النحل بالحذف دون سورة النمل - فيما يذهب إليه الكرماني - إلى أنّ " الآية نزلت تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم- حين قُتل عمّه حمزة ومثّل به فقال  - عليه الصلاة والسلام-: "لأفعلن بهم ولأصنعنّ"، فأنزل الله:"وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ ١٢٦وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ١٢٧"(النحل:126، 127)، فبالغ في الحذف ليكون ذلك مبالغة في التّسلّي، وجاء في النّمل على القياس لأنّ الحزن هنا دون الحزن هناك"55، أي أن سياق الحال في الآيتين مختلف.

ج-الموقف

إن التّركيز على الهيئة التي يكون عليها المخاطَب أو المتكلّم، وما يكون من حاله في أثناء توجيه الخطاب من الأمور التي تعين على معرفة سرّ اختلاف المتشابهات، وهو يدخل ضمن قرائن الحال كما ذكرنا.

ومن التراكيب التي اختلفت بنياتها لاختلاف المواقف قوله تعالى:"وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ٤٣" (الشورى:43)، وقولهتعالى:"وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ" (لقمان: من الآية17).

فكلتا الآيتين تحثّ على الصّبر ويكاد يكون التركيب واحدا في قوله تعالى:"إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ"،  غير أنّ هذا جاء بذكر اللّام المقترنة بالخبر في سورة الشورى، أمّا في سورة لقمان فقد وقع خلاف ذلك، وعلة ذلك أن الصبر نوعان : صبر على مكروه ينال الإنسان ظلمًا كمن قُتل بعض أعزّته، وصبرٌ على مكروه ينال الإنسان ليس بظلم كمن مات بعض أعزّته، فالصبر على الأول أشدّ والعزم عليه أوكد، ولذلك حسُن دخول اللاّم فيها، بينما الصّبر في سورة لقمان هو من النّوع الثاني، لذلك حذفت اللّام منها. فنحن - إذن- أمام موقفين مختلفين للصبر، وهذا الاختلاف هو الذي أثّر في بنية كلّ تركيب.

خاتمة

-                        لقد حقّق الأصوليون وعلماء التفسير السّبق في الاهتمام بالسياق والاستعانة به وسيلةً هامّةً من وسائل الكشف عن دلالة الألفاظ وأسرارها في القرآن الكريم، وذلك من خلال ملاحظة المناسبة بين مضامين الآيات ضمن السورة مع تحليلها نصّيّا وفق الاعتبارات الداخلية النصّيّة من جهة، وبحسب الاعتبارات الخارجية وقرائن الأحوال كأسباب النزول وعلاقة الخطاب بالمخاطبين وغير ذلك من العوامل والملابسات.

-                        شكّل المقام بعناصره المختلفة وسيلة مثلى لدى الأصوليين والمفسرين في توجيه معاني الآيات ودلالاتها، وفي تعليل بنية التراكيب المتشابهة ووضع كل منها في سياقه الصحيح، وقد برز أثر أسباب النزول في الوقوف على أسرار البنى والتراكيب لا سيما المتشابه منها.

-                        كانالإمام الكرماني يصدر عن منهج واضح في التعامل مع الآيات والتّراكيب القرآنية المتشابهة، حيث اعتمد المنهج السّياقيفي تعليل ما بينها من فروق؛ والكشف عن دلالات الألفاظ وأسرارها في الاستعمال القرآني.

-                        برزت مظاهر المنهج السياقي عند الكرماني في توجيه الآيات والتراكيب المتشابهةمن خلال تحليله وتعليله لأسباب الاختلاف الصرفي والدلالي والتركيبي بين المتشابهات:

-                        فقد يرد اللفظ في موضع بصيغة ويرد في موضع آخر بصيغة مختلفة، فيعلل ذلك بالنظر إلى السياق الذي وردت فيه تلك الألفاظ، ومراعاة القرائن السابقة واللاحقة.

-                        قد يستعمل اللفظ مفردا في موضع ومثنى أو جمعا في موضع مشابه، ومرجع ذلك إلى اختلاف القرائن السياقية. وهذه القرائن تسهم بقدر كبير في تجلية أسباب الاختلاف بين الألفاظ ضمن التراكيب المتشابهة.

-                        لقرائن السياق أهمية بالغة في بيان سبب الاختلاف بين المتشابهات من حيث تعريف الألفاظ وتنكيرها، ومن حيث نوع التعريف وطرائقه، وهذه القرائن قد تكون ضمن السورة الواحدة، وقد تمتد إلى ما هو خارج السورة.

-                        تكون القرائن المعتمدة في تعليل اختلاف التراكيب المتشابهة ضمن ذات الآية التي احتوت التركيب في الغالب، وذلك بأن تكون بنية التركيب توافق ما جاء في الآية التي تحتويه، إما عن طريق المشاكلة اللفظية، وإما عن طريق المناسبة المعنوية.

-                        إن السياق العام في كل سورة يضفي عليها سمة تعبيرية خاصة تختار من أجلها هذه اللفظة أو تلك، وبذلك فإن السورة الواحدة هي سياق ذاتها؛ بحيث تدل على سر اختيار لفظة فيها دون غيرها.

-                        قد يرد التركيب في موضع ما بفعل ويرد في موضع مشابه بفعل قريب منه دلاليا أو مختلف عنه تماما، كما أن التراكيب المتشابهة قد تختلف في استعمال الأسماء بإبدال لفظ منها مكان الآخر، وقد استند الكرماني في تعليل هذه الاختلافات إلى السياق.

-                        قد يستعمل الاسم ظاهرا في موضع ومضمرا في سياق مشابه، وبتتبعنا لتعليل هذا الاختلاف عند الكرماني نجد أن التراكيب المتشابهة مبنية على المماثلة بين ما ورد في سياقها، فإذا أظهر اللفظ فإن ذلك يكون موافقا لإظهاره من قبل، وإذا أضمر فلموافقة إضمار ضمن السياق كذلك، استنادا إلى مبدأ المشاكلة.

-                        ظاهرة التقديم والتأخير من الظواهر ترتبط ارتباطا وثيقا بالسياق، فتقديم لفظ أو (مجموعة ألفاظ) في موضع وتأخيره في موضع آخر لا يأتي إلا لغرض في الكلام، وهذا الغرض تدلّ عليه القرائن المقالية التي يتضمنها السياق اللّغوي، وتكون لها قيمة كبيرة في تعليل سبب التقديم والتأخير في بنى التراكيب القرآنية المتشابهة، سواء أكان التقديم والتأخير واقعين بين الألفاظ المفردة أم بين الجمل المركّبة.

-                        كان الحذف والذكر من بين الظواهر التي تجلى فيها أثر السياق بوضوح لدى الكرماني، فحذف جزء من الخطاب في تركيب وذكره في تركيب مشابه إنما يكون في الحالين موافقا للسياق من وجه على الأقل، وقد كان الكرماني يستند في تعليل الظاهرة إلى قرائن سياقية أو حالية، سواء أكان العنصر المحذوف حرفا أم كلمة أم شبه جملة أم جملة.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ المتشابهات القرآنية تعدّ المظهر الأبرز الذي تتجلّى فيه تطبيقات النظرية السياقية، وإن اختلاف هذه المتشابهات في الألفاظ المستعملة ليؤكّد انتفاء التّرادف في القرآن الكريم، إذ أنّ كلّ كلمة منه تؤدي معنى دقيقا محكما، وتناسب سياقها الذي وُضعت فيه، وهذا هو أساس الإعجاز البياني للقرآن.

1.ابن منظورمحمد بن مكرم بن علي، (دت)، لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرين، دار المعارف، (دط)، القاهرة، مادة (سوق).

2.                        الجوهري إسماعيل بن حماد، (دت)، تاج اللغة وصحاح العربية ، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، (دط)، بيروت، مادة (سوق).

3.الزمخشري جارالله أبو القاسم محمود بن عمر، (دت)، أساس البلاغة، تحقيق: عبد الرحيم محمود، دار المعرفة،د ط، بيروت، لبنان، مادة (سوق)، ص 225و ما بعدها.

4.                                               Philippe Amiel dictionnaire du français USBN Paris 1995, p236

5.Jean Dubois  et autres , dictionnaire de linguistique , p120.

6.                        ابن جني أبو الفتح عثمان، (دت)، الخصائص، تحقيق: محمد علي النّجار، دار الكتاب العربي، د ط، بيروت، لبنان، ج1، ص248.

7.ينظر: العسكري أبو هلال،1988، كتاب جمهرة الأمثال، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم وعبد الحميد قطامش، دار الفكر، ط2، بيروت، ص5.

8.                        المبارك محمد، 1932ه-1972م، فقه اللّغة وخصائص العربية، دار الفكر، ط5، بيروت، ص 164.

9.ابن الأنباري أبو البركات عبد الرّحمن محمد، (دت)، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين والبصريين، دار الفكر، (دط)، دمشق، ج1، ص93.

10.                      ابن جني، الخصائص، ج2، ص370، 371.

11.                       توامة عبد الجبار، 1994/ 1995م، القرائن المعنوية في النّحو العربي، رسالة دكتوراه دولة، جامعة الجزائر، ص53.

12.                      الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، 1423ه ـــــ 2003م، البيان والتبيين، تحقيق: درويش جويدي، (دط)، المكتبة العصرية، صيدا ـــ بيروت، ج1،ص79.

13.                       الجرجاني عبد القاهر، (دت)، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمد رضوان مهنا، (دط)، مكتبة الإيمان، المنصورة ــــ مصر، ص82.

14.                      ينظر: الغزالي أبو حامد، 1323ه، المستصفى في علم الأصول، المطبعة الأميرية، بولاق، ج2، ص41، 42.

15.                       السيوطي جلال الدين، 1973م، الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية، بيروت، ج02، ص 183.   

16.                      ابن تيمية أحمد، 1381ه، مقدمة في التّفسير، ط 1، مطابع الرياض، السعودية، ص356. 

17.                       ينظر: محمد فتحي الرّديني، 1418هـ/ 1997م، المناهج الأصولية، مؤسسة الرّسالة، بيروت، ص107.

18.                      القنوجي صديق بن حسن، أبجد العلوم، 1978م، تحقيق: عبد الجبّار زكّار، دار الكتب العلمية، (دط)،بيروت،لبنان، ج2، ص 121.

19.                      ينظر: السيوطي جلال الدين، 1425هـ / 2004م، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان، ص 480.

20.                     ينظر: الفيروز أبادي مجد الدين بن يعقوب،بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تحقيق: محمد علي النجار، المكتبة العلمية، (دط)، بيروت، د ت  . و ينظر: أبو يحيى زكريا الأنصاري، 1408هـ / 1988م، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن، تحقيق:محمد علي الصابوني، مكتبة رحاب، ط2، الجزائر.

21.                     الزركشي بدر الدين محمد بن عبد الله، 1408ه / 1988م، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت، لبنان، ج1، ص112.

22.                     الكرماني محمود بن حمزة بن نصر، 1406هـ / 1986م، البرهان في توجيه متشابه القرآن، تحقيق: عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان، ص 20.

23.                     الكرماني، المرجع نفسه، مقدمة المحقق، ص 15.

24.                     الحموي أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي، 1411هـ/ 1991م، معجم الأدباء، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان، ج5، ص 488.

25.                     الكرماني، البرهان، مقدمة المؤلف، ص 19، 20.

26.                     ينظر: المرجع نفسه ، ص121.

27.                     ينظر: المرجع نفسه، ص77.

28.                     ينظر: الكرماني، المرجع نفسه، ص 76. وينظر: الثقفي أحمد بن إبراهيم بن الزبير، 1403هـ /  1983م، ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد و التعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل،تحقيق:سعيد الفلاح، دار الغرب الإسلامي ،ط1، بيروت،ج1، ص 538.

 

29.                     ينظر: الكرماني، المرجع نفسه، ص 76.

30.                     ينظر: الكرماني، المرجع نفسه، ص184. وينظر: ابن جماعة بدر الدين، 1418هـ / 1998م، كشف المعاني في متشابه المثاني، تحقيق: محمد محمد داود، ط1، دار المنار القاهرة، ص 194، 195.

31.                      ينظر: الكرماني، المرجع نفسه، ص، 99. وينظر: ابن الزبير الثقفي،ملاك التأويل، ج2، ص661، 660.

32.                     ينظر: الكرماني، المرجع نفسه، ص30.

33.                      ينظر: المرجع نفسه ، ص 45.

34.                     ينظر: المرجع نفسه، ص 80.

35.                      ينظر: الكرماني، المرجع نفسه ، ص 80. وينظر:ابن جماعة، كشف المعاني،ص 108.

36.                     ينظر: الكرماني، المرجعنفسه، ص 183.

37.                      ابن الزبير الثقفي، ملاك التأويل،ج2، ص 1077.

38.                     الكرماني، البرهان، ص 183.

39.                      ينظر: ابن الزبير الثقفي، ملاك التأويل،ج2، ص 1078.

40.                     الكرماني، البرهان، ص 135، 136.

41.                     الكرماني، المرجع نفسه، ص  110. وينظر: ابن الزبير، ملاك التأويل، ج2، ص734، 735.

42.                     ابن جماعة، كشف المعاني، ص 130.

43.                     الكرماني، البرهان، ص 68. وينظر : ابن جماعة، كشف المعاني، ص 112.

          المرجع نفسه، ص 86.

44.                     المرجع نفسه، ص 45.

45.                     المرجع نفسه ، ص 54.

46.                     الكرماني، المرجع نفسه، ص43.  وينظر: ابن جماعة، كشف المعاني، ص 74، 75.

47.                     الكرماني، المرجع نفسه ، ص 70.

48.                     الكرماني، المرجع نفسه، ص 147. وينظر: ابن جماعة، كشف المعاني، ص 161، 162.

49.                     ابن جماعة، كشف المعاني، ص 161.

50.                     الكرماني، البرهان، ص 116.

51.                      المرجع نفسه، ص 118.

52.                     ينظر: المرجع نفسه، ص 168.

53.                      ينظر: ابن جماعة، كشف المعاني، ص 176، 177.

54.                     الكرماني، البرهان، ص 115.

55.                      الكرماني، المرجع نفسه، ص 172. و ينظر: ابن جماعة، كشف المعاني، ص 183.

@pour_citer_ce_document

فضيلة عظيمي, «أثر السياق في توجيه متشابه القرآن عند الإمام الكرماني »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ,
Date Publication Sur Papier : 2017-01-30,
Date Pulication Electronique : 2017-01-30,
mis a jour le : 09/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=2082.