"النقد الثقافي" عند عبد الله الغَذَّامِي "من نقد النصوص إلى نقد الأنساق"
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N° 23 Décembre 2016

"النقد الثقافي" عند عبد الله الغَذَّامِي "من نقد النصوص إلى نقد الأنساق"


محمد بن سباع
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

لقد اشتغل عبد الله الغذامي على تفكيك الثقافة العربية، مُؤَكِّدًا على أن عُيُوبَهَا ترجع إلى النسق الشعري مُمَثَّلاً في القصيدة، حيث أَوجَدَ هذا النسق مفهوم الفحل الشعري والطاغية السياسي، وعمل بالتالي على خلق ثقافة الأنانية وإقصاء الآخر، وإن فُحُولِ الشعراء العرب أَصنَامٌ يُـمَـِّثلُون هذا النسق الفُحُوليِ الذُّكُوري. وعليه فقد أعلن الغذامي عن موت النقد الأدبي؛ لأنّه يبرر النّصوص الأدبية وطابعها البلاغي الجمالي، وبالتالي فهو لم يعد مُؤَهَّلاً لكشف الأنساق الثقافية الـمُضمَرَة التي شَوَّهَت الثقافة العربية، ليؤكد الغذامي، على قُدُومِ "النقد الثقافي" كمُخَلِّصٍ للثقافة من سيطرة أنساقها مستعينا في ذلك بالتشريحية لتحليل النصوص وتحريرها من هيمنة ثقافة الحداثة.

الكلمات المفاتيح:النقد الأدبي، الحداثة، النقد الثقافي، الأنساق الثقافية، التشريحية.

Abdellah al-Ghadami affirme quand il dissèque la culture arabe que ses défauts reviennent à système poétique, a savoir, le poème. Il trouvait ce système, le concept du meilleur poète et le politique tyrannique. Du coup, il a créé la culture de l’égoïsme et l’exclusion de l’autre. La plupart des meilleurs poètes arabes ne sont que des marionnettes représentant ce système masculin. Et donc, al-Ghadami annoncé la mort de la critique littéraire car elle justifie les textes littéraires, leur rhétorique et leur esthétique, cela fait qu’elle n’est pas  à pour bien explorer les systèmes culturels sous-jacents qui falsifiaient la culture arabe, donc, al-Ghadami affirme l’arrivée de la « critique culturelle » comme un sauveur de la culture de la suprématie de ses systèmes.  Il s’appuie sur la dissection pour analyser les textes et les libérer de l’hégémonie de la culture du modernisme.

Mots-clés :critique littéraire, modernité, critique culturelle, systèmes culturels, déconstruction.

Abdullah al-Ghadami Confirms in his dismantling of the Arab culture, that its disadvantages are due to the capillary pattern represented in the poem; this pattern created the concept of the poetic stallion and the political tyrant, and thus worked to create a culture of selfishness and the exclusion of the other.the Arab stallion poets are idols representing this stallion male pattern. al-Ghadami announced the death of literary criticism because it justifies the literary texts and its rhetorical character aesthetic, and it is therefore no longer eligible to uncover the implicit cultural formats that tarnished the Arab culture, al-Ghadami Confirms, the advent of "the cultural criticism" as a saviour of the culture from the control of arrangements with the help of anatomy to analyse the texts and liberate them from the dominance of the culture of modernity.

Key words: literary criticism, modernity, cultural criticism, cultural formats, anatomical.

Quelques mots à propos de :  محمد بن سباع

أستاذ محاضر قسم "أ"، أستاذ بقسم الفلسفة جامعة قسنطينة2

مقدّمة

يعتبر الغذامي أهم ممثل لأحدث توجه نقدي في الفكر العربي المعاصر، والمسمى بـــ"النقد الثقافي"، وأبرز المفكرين الذين شغلتهم قضية المنهج المناسب لتحليل الثقافة العربية، فقد أخذ الغذامي على عاتقه مهمة استحضار مشروع "النقد الثقافي" إلى ساحة الفكر العربي، فقد كان هذا المشروع بالنسبة إليه هَمًا عَبَّرَ عنه في كل لقاءاته وحواراته وكتاباته. لم ينفك الغذامي كرائد للنقد الثقافي في الخطاب النقدي العربي أن اتصل بالباحثين والمفكرين، في المشرق والمغرب العربي من أجل عرض فكرته، لأنه آمن بأنّ "النقد الثقافي" أصبح ضرورة ملحة للثقافة العربية.

لقد ظهر مشروع "النقد الثقافي" عند عبد الله الغذامي، بالموازاة مع ظهور وانتشار هذا الأسلوب من النقد في مرحلة ما بعد الحداثة الغربية، حيث يعمل مشروعه على التَّحَوُّلِ من مبادئ النقد الأدبي الذي اختص لمدة زمنية طويلة بإبراز وتحليل الأبعاد الجمالية للنصوص الأدبية، إلى نقد جديد يختص بنقد الثقافة، فكان هدفه الأول هو كشف الأنساق المضمرة في النصوص الأدبية التي تشكل بنية الثقافة العربية، والتي تَتَّخِذُ منها قناعا تَتَخَفَّى وراءه، خصوصا منها الشعر الذي تَلَبَّسَت من خلال قيم الثقافة العربية بالأبعاد الشعرية، فأنتجت ذاتًا عربية مُتَشَعرِنَةً. لقد أدرك الغذامي، أنّ ثقافتنا نسقية، وأنّ سلوكنا نسقي، وإنّ هذا النسق يسيطر علينا منذ مدة طويلة، لذا فنحن اليوم في حاجة ماسة لممارسة "النقد الثقافي" من أجل التمييز بين الجميل والقبيح، وفضح الفحولة الشعرية والطغيان السياسي التي نتج عنها، ومنه مبرر تسمية هذه المقاربة بـــ"النقد الثقافي عند عبد الله الغذامي من نقد النصوص إلى نقد الأنساق". وعليه نتساءل: من هو عبد الله الغذامي؟ ما المقصود بالنقد الثقافي؟ وكيف يتم التَّحَوُّل من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي؟

أولاً: عبد الله الغذامي، الشخصية والمسار الفكري

ولد عبد الله محمد الغَذَّامِي في مدينة "عنيزة" قرب الرياض بالسعودية، عام 1946م، وقد قال عنه صديقه وزميله عبد الرحمان إسماعيل؛ الذي دَرَسَ معه في المعهد العلمي في ذات المدينة: "كان ذا صوت مسموع في جَنَبَاتِ المعهد، فقد كان شاعرًا، ذا مشاركات شعرية ونشاط ثقافي، يعرفه جميع أساتذته الذين جلس أمامهم في مقاعد الدراسة في المعهد"1. ليصبح هذا الشاعر أكبر نُقَّادِ الشعر ليس في إطار النقد الأدبي، وإنما في إطار النقد الثقافي، الذي ارتبط باسم الغذامي؛ لأنّه قَدَّمَه كمشروع جديد في قراءة الأنساق الثقافية العربية، بَيَّنَ من خلاله أنّ هذا الشعر-الذي كان هو ذاته، ينحت بعض نصوصه كصنعة ورثتها الثقافة العربية المعاصرة، عن الموروث الثقافي التقليدي-هو الذي تَسَبَّبَ بما فيه من بلاغة وشِعرِيَّة وإعلاء لِلجمالِي، في السيطرة على الشخصية العربية، والثقافة العربية بكل أنساقها.

ظهر عبد الله الغذامي كناقد في مجال الأدب، في مرحلة التَّمَخُّضَات الكبرى التي عرفها النقد العربي الحديث، مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين، التي شهدت بداية انهيار نسق في التفكير النقدي، وبداية ظهور نسق مختلف، َحَدَّدَت ملامحه العامة التيارات النقدية الغربية، إذ كان التفكير الجديد مَرُوقًا يُسَبُّ من أجله المرء، و يُشَهَّرُ به، ويلاقى عَنَتًا في الوسط الثقافي والتعليمي الذي يعيش فيه، وقد يُلعَنُ ويُكَفَّر2. ويمتد مشروع الغذامي النقدي من 1985إلى 2000يمثل التاريخ الأول، ظهور مؤلفه "الخطيئة والتكفير"، أما الثاني فهو تاريخ صدور كتابه "ثقافة الوهم"، وبدورها هذه المرحلة تنقسم إلى مرحلتين:

- مرحلة النقد اللساني البنيوي: وهي مرحلة ما بين 1985إلى 1991، وفيها ينهض مشروع الغذامي مُستنِدًا على أرضية لسانية محضة تستمد مفاهيمها من طروحات الفكر الغربي.

- مرحلة النقد الثقافي: وتمتد من 1991إلى 2000، وفيها تطوير لبعض الرؤى المطروحة في المرحلة الأولى، فيبرز النقد الثقافي في مقابل النقد اللساني3.

إنّه ما كان للغذامي أن يَتَّخِذ هذا الموقف، إلا لِحِسِّه النقدي من جهة، ولِتَأَثُّرِهِ ببعض المفكرين الغربيين مابعد-الحداثيين، من جهة أخرى؛ من أمثال رولان بارث Roland Barth(1915-1980) وجاك دريدا Jacques Derrida(1930-2004) وغيرهما، ولكن:" حتى ولو كان عبد الله الغذامي، كوجه عربي بارز للرُّؤية التشريحية في الفلسفة المعاصرة، إلا أنّ أهم ما يميزه عن أصحاب هذا المنهج في التفكير، هو كونه المثقف العربي المُتَشَبِّثُ بتراثه وتاريخه إلى أبعد حد ممكن"4. وبالفعل، فإنّ قارئ مؤلفات الغذامي، سواء المتقدمة منها أم المتأخرة، يتبين له تَنَوُّعَ فكره، وكذا اهتماماته، بين الاطلاع على الفكر الغربي ومحاولة الاستفادة منه، إلى الاشتغال بقضايا الثقافة العربية وهُمُومِها، وهذا ما جعل عبد الله بن أحمد الفيفي، يصف الغذامي ومشروعه النقدي الثقافي قائلا: "الغذامي مشروع كبير...هو في ذاته السُّلُوكِيَّة مشروع عربي يمشي على الأرض، يَعرِفُ ذلك فيه، كل من عرفه عن قرب إنساناً عربياً مسلماً، وأستاذاً ضَلِيعاً رائداً"5.     هذه شهادات بعض زملاء الغذامي والمتخصصين في دراسة فكره التي تُثَمِّنُ قيمة وأهمية الغذامي شخصاً متميزاً ومُفَكِّرًا ناقِدًا. لكن رُبَّمَا ليس هناك أفضل من يُحَدِّثُنا عن الغذامي من الغذامي ذاته، إذ يتحدث عن نفسه في كتاب "الموقف من الحداثة" قائلا: "إنني أدعو إلى الحوار وأنادي به، ولهذا فإنني أُرَحِّبُ بالاختلاف وأستبشر به، لأنه هو الذي يعطي فعاليتنا الثقافية حركتها وتفاعلها"6. وهذا هو هدف الغذامي من مشروع النقد الثقافي، الذي تحدّث عنه وعن مبادئه في كل مؤلفاته، والتي نذكر منها أَهَمَّهَا على النحو الآتي:

- الموقف من الحداثة 1989، الكتابة ضد الكتابة 1991، النقد الثقافي 1993، ثقافة الأسئلة 1993، نقد ثقافي أم نقد أدبي؟ 1994، الـمُشاكَلَة والاختلاف 2004، حكاية الحداثة 2005، تأنيث القصيدة 2005، القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة 2009، وغيرها من المؤلفات الأخرى.

ثانياً: مفهوم النقد الثقافي

لقد ارتبط النقد في الفكر ما بعد-الحداثي، بأسلوب جديد في التفكير وفي التفلسف، كان أهم ما مَيَّزَهُ هو الدَّعوَةُ إلى تجاوز الذات ومعرفة الآخر، وما ساعد في تَطَوُّرِ هذا الفكر، هو المعلوماتية والانفتاح التقني، ما زاد في ربط جسور التواصل بين الأنا والآخر وبالتالي بين الثقافات، وهذا ما قَوَّضَ الكثير من المفاهيم الحداثية، خصوصا ثنائية المركز والهامش، وفي ظِلِّ هذه التَّحَوُّلات، القائمة على التنوع والتعدد والاختلاف، ظهر "النقد الثقافي"، كأهم رؤية لما يسمى بــــــ"ما بعد البنيوية"7. وعليه، فإنّ قيمة وأهمية النقد، تكمن في كونه يُعَبِّرُ من جهة عن نهاية مرحلة هي مرحلة الحداثة، ويُعَبِّرُ من جهة أخرى، عن بداية مرحلة جديدة، هي مرحلة ما بعد الحداثة، حتى أنّ أغلب المراجع المتخصصة في فلسفات ما بعد الحداثة، تستخدم مصطلح "النقد الثقافي"، للتعبير عن هذه المرحلة الجديدة.

يتحدث الغذامي عن ظهور حركة "النقد الثقافي" في أوروبا في كتابه الرئيس "النقد الثقافي"، قائلا: "تُغَطِّي الدراسات الثقافية مساحة عريضة من الاهتمام اليوم، وقد حَظِيَت بِشُيُوعِ واسعٍ في التِّسعينيات، مع أنّه قد ابتدأت منذ عام 1964كبداية رسمية منذ أن تَأسَّسَت مجموعة بيرمينغهام تحت مسمى Birmingham Center for Contemporary Culturalstudies"مركز بيرمينغهام للدراسات الثقافية المعاصرة"، ومرّ المركز بتطورات وتحولات عديدة، إلى أن انتشرت عدوى الاهتمام النقدي الثقافي، مُتَصَاحِبَةً مع النظريات النقدية النّصوصية والألسنية وتَحَوُّلاتِ ما بعد البنيوية، لتتشكل من ذلك تيارات نقدية متنوعة المبادئ والاهتمامات، ولكن العامل المشترك بينها كلها، هو توظيف المقولات النظرية في نقد الخطاب"8. وقد عمل "مركز الدراسات الثقافية المعاصرة" بجامعة برمينغهام، في نشر صحيفة "أوراق عمل في الدراسات الثقافية"؛ تناولت وسائل الإعلام، والثقافة الشعبية والثقافات الدنيا، والمسائل الايديولوجية والأدب وعلم العلامات، والمسائل المرتبطة بالجنوسة، والحركات الاجتماعية، والحياة اليومية، وموضوعات أخرى متنوعة. لقد اعتُبِرَ تأسيس هذه الصحيفة، أمراً مُثِيراً ومُمتِعًا، لأنّه يبين أنّ القائمين على جامعة برمينغهام، يتخذون الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام مَأخَذَ الجِدِّ. لكن، لسوء الحظ إنّ هذه الصحيفة، لم تستمر طويلا، ومع ذلك، أثرّت تأثيرا كبيرا في مستقبل الدراسات الثقافية، والنقد الثقافي9.

هكذا، فقد ظهر "النقد الثقافي"، بوصفه نشاطا أو رؤية أو ممارسة نقدية، منذ ما يقارب الثلاثين عاما، ضمن رُؤَى ما بعد الحداثة النقدية، ظهر نشاطا يضع ثقله النظري، أو الفلسفي الأكبر، على دعامتين اثنتين، هما: دعامة الشمول أو الكلية ودعامة التَّعَدُّد، أو نقد التَّمَركز، فَتَخَلَّصَ من إِسَارِ الرؤى المنهجية أو الفلسفية المتطرفة، صوب جانب دون آخر أو مركز دون آخر، الأمر الذي عانت منه منهجيات الحداثة وما بعدها10.إنّ"النقد الثقافي"، ليس مجالاً معرفياً، بل هو مهمة متداخلة مترابطة ومتجاوزة ومتعددة، كما أنّ نقاد الثقافة يأتون من مجالات مختلفة، ويستخدمون أفكارًا ومفاهيم متنوعة، فبمقدور النقد الثقافي أن يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد وأيضا التفكير الفلسفي وتحليل الوسائط، وبمقدوره أن يُفَسِّرَ أيضا نظريات ومجالات علم العلامات، ونظرية التحليل النفسي والنظرية الماركسية والنظرية الاجتماعية والانثروبولوجية..الخ11.إنّ ما يميز الناقد الثقافي، هو أنه لا ينقد لأجل النقد، وإنما هو ينقد أولا معتمدا على وجهة نظر معينة، كأن تكون ألسنية مثلا أو ماركسية، كما أنّه من جهة أخرى، ينقد لِيُظهِر عَيبًا أو خَلَلًا في الموضوع الذي ينقده، مقدّما بالتالي تفسيرا أفضل له. ولكن ما هو المجال الذي ارتبط به ظهور النقد الثقافي؟. يقول الغذامي: "إنّ النقد الثقافي فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول (الألسنية)، مَعنِيٌّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي، بكل تَجَلِّيَاتِهِ وأنماطه وصِيَغِهِ، من حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي، وهو بهذا مَعنِيٌ، لا بكشف الجمالي كما هو شأن النقد الأدبي"12.بالنسبة إلى وظيفة النقد الأدبي، فإنها تَتَلَخَّصُ في تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قِيمَتِه ِالموضوعية، وقِيمَتِه التَّعبيرية والشُّعورية، وتعيين مكانته في خط سير الأدب، وتحديد ما أَضَافَهُ إلى التُّراثِ الأدبي في لُغَتِهِ، وفي العالم الأدبي كله وقياس مدى تَأَثُّرِهِ بالمحيط، وتَأثِيرِهِ فيه، وتصوير سمات صاحبه، وخصائصه الشعورية والتعبيرية، وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوينه والعوامل الخارجية كذلك"13.

هكذا، إذا كانت مهمة النقد الأدبي، تقويم الأعمال الأدبية بعد تحليلها، واكتشاف قوانينها الداخلية، فإنّ النقد الثقافي، يتجاوز هذه المهمة، ليخلق شبكة من التداخلات المعرفية، تشمل حقول المعرفة الإنسانية، الساعية إلى الكشف عن الأنساق المضمرة في النصوص الأدبية، التي لم يتمكن النقد الأدبي من كشفها والقبض عليها14. ليصبح "النقد الثقافي"، بحثا في علل الخطاب الثقافي، من خلال تفكيك النصوص، والبحث عن الأنساق المضمرة والمتخفية خلف جماليات النصوص. كما إنّ "النقد الثقافي" يدعو إلى رفض الرؤية الأحادية للنماذج والمظاهر الثقافية، بل إنّه يرفض تماماً مظاهر السَّيطرةِ الثقافية النَّسقية، ويدعو إلى تجاوز التصنيف الثقافي، لأنّ الثقافات ذات طبيعة اتصالية. لكن كيف يُمَارَسُ هذا الإجراء النقدي الثقافي؟ في النقد الثقافي يَتَنَامَى التأويل في بعدين، ظَاهِرٌ وخَفِيٌّ يُفَكِّكُ الأول أنظمة النصوص الثقافية الظاهرة ويكشف عن عللها، والمُتَحَكِّمات النَّسقِيَّةِ فيها، وهو إجراء يقوم على التقويض والإزالة وإقصاء المركزيات، على نحو غير مرتهن بمركزية النص الجمالية أو استقلاليته البنائية. أما الآخر، فيقوم على رُؤيَةٍ ما بعد حداثية مُضَافَة تَعتَمِدُ على ما يمكن تسميته، بنقد أو (تفكيك الامتصاص)، ويتمركز حول فاعلية الكشف عن السياقات التاريخية التي امتصها النص وأسهمت في إنتاجه، وهي سياقات مضمرة، لم تكن مقروءة في مرحلة البنيوية15.

إنّ "النقد الثقافي"، ليس مجرد نقد للنصوص، كما في النقد الأدبي، ولا هو مجرد فهم وتأويل للأنساق الثقافية ولا حتى مجرد قراءة لعلاقة التأثر والتأثير بين النصوص والأنساق المتحكمة فيها، إنّه رؤية نقدية فلسفية جديدة، تعبّر فعلا عن التحولات الحاصلة في مجال ما بعد الحداثة، خصوصا ما تعلق منها بتجاوز المركزية والتفرّد، نحو الاختلاف والتعدد مع التأكيد على ضرورة توحيد الثقافات والبحث في الهامش الثقافي، وهذا ما كان قد أهمله النقد الأدبي من قبل.

ثالثا: موت النقد الأدبي/ نحو نقد شعرية الحداثة العربية

1-الجميل الشعري/القبيح الثقافي

يتساءل الغذامي في بداية كتابه الرئيس "النقد الثقافي" قائلا: "هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟ هل جَنَي الشعر العربي على الشخصية العربية؟ هل هناك علاقة بين اختراع الفحل (الشعري) وصناعة الطاغية؟ هل في ديوان العرب أشياء أخرى غير الجماليات التي وقفنا عليها –وحق لنا-لمدة قرون؟ هل هناك أنساق قافية تسرّبت من الشعر وبالشعر، لتؤسّس لسلوك غير إنساني وغير ديمقراطي وكانت فكرة (الفحل) وفكرة (النسق الشعري) وراء ترسيخها ومن ثَمَّ كانت الثقافة16–بما أنّ أهم ما فيها هو الشعر-وراء شَعرَنَةِ الذات وشَعرَنَةِ القيم؟"17. أسئلة يحاول الغذامي أن يجيب عنها، من خلال مشروع "النقد الثقافي"، إذ تَبَيَّنَ له أنّ الثقافة العربية المعاصرة، تعيش تحت وطأة النسق الثقافي الحداثي، الذي وصفه بأنّه نسق شعري جمالي، يُكَرِّسُ مفهوم الفُحُولَة الشِّعرِيَّة، التي أَثَّرَت على المجالات الأخرى فَكَرَّسَت الاستبداد السياسي والاجتماعي، وهذا ما يؤكّده في قوله:" مشكلتنا أمام الشعر، إننا استسلمنا لقاعدة نقدية (بلاغية) ذهنية تمنعنا من النظر في عيوب الشعر، لأنّها تُحَرِّمُ علينا مُساءَلَة الشاعر عن أفكاره، وتُحَدِّدُ لنا مجال الرؤية فيما هو جميل وبلاغي18...هذا ما تُدَرِّبُنا عليه ثقافتنا، ممّا يمثّل مؤامرة جماعية، ضد العقل والذوق، تقبلناها وخضعنا لها وكَأَنَّما هي صنم صنعناه بأيدينا، ثم استسلمنا له خاضعين طائعين"19. وبناءً على هذا الوضع، فقد أصبحنا فعلا مساهمين في صناعة هذا النسق وتبرير وجوده من خلال تقبّلنا له، وتسليمنا بجماليته.

     تبيّن لنا آراء الغذامي التي ضَمَّنَها كل مؤلفاته على تنوع موضوعاتها، أنّ التَّحول من العمى الثقافي إلى البصيرة الثقافية، أصبح ضرورة ملحة، فالنقد الأدبي لم يعد سوى تبريراً للنصوص ولبلاغتها ولجماليتها، ومنه فإنّ الشعر، وما يسميه الغذامي بـــــ"ديوان العرب" هو من أدى إلى شَعرَنَة الأفكار والسلوكات، لذا فإنّ الغذامي يريد من "النقد الثقافي"، أن يقوم بوظيفة فك الارتباط بين المؤَثِّر والمُتَأَثِّر بين سلبية الدَّور الذي أَدَّاهُ الشعر والشخصية العربية ومن خلال ذلك، يقرّر أنّ الوظيفة التقليدية للنقد، قد كَرَّسَت تلك العلاقة؛ كَرَّسَتها لأنها شغلت فقط بأبعادها الجمالية ولم تجرؤ أبدا على اختراق الحُجَبِ التي تقع ما وراء ذلك، كانت مُمَارسةً عمياء، غير قادرة على التمييز لأنها تفتقر إلى الوظيفة النقدية الجذرية، التي تقوم بتنشيطٍ دائمٍ للمُضمَرات الدلالية القابعة خلف الغلالة الجمالية للنصوص20. فالنص الأدبي يمتاز بصفة الشاعرية، وهذه الصفة، هي التي تجعله أدبيا، خصوصا في مجال الشعر، وذلك من خلال سعي الشاعر، إلى إيجاد تَوازنٍ بلاغيٍ وإيقاعيٍ بين كلمات القصيدة. إنّ هذا الطابع الشاعري الجمالي المميز للنص الأدبي عموما وللشعر خصوصا، هو الذي قال عنه الغذامي: "والشاعرية بهذا، تَتَولَّى تمييز النص الأدبي عن (الرسالة) وبمجرد أن يولد هذا النص مُحَمَّلاً بالشَّاعِرية، يطير معها بعيدا عن المرسل، ويتم عزل (الرسالة) عن مرسلها، وتنقطع الرابطة بينهما"21.

     إنّ من بين السلبيات المترتبة عن إشباع النص بالشاعرية والجمالية، هو انحراف النص عن المعنى الحقيق إلى المعنى المجازي، لذلك نجد البلاغة العربية، تولي أهمية كبيرة إلى التشبيه والكناية والاستعارة وغيرها. وإضافة إلى أنّ الشاعرية تُوَجِّهُ اللغة عن أداء وظيفة التعبير عن الواقع، إلى التعبير عن نفسها،و هذا ما جعل الغذامي يستشهد بتمييز ابن سينا بين وظائف اللغة، إذ يقول: "يشير ابن سينا، إلى وظيفتين من وظائف اللغة، إحداهما الوظيفة التشبيهية، وذلك حينما تكون وجهة الرسالة اللغوية تهدف إلى إحداث الفعل والانفعال لدى المتلقي، بأن تؤثر في نفسه وتحركها نحو ما بعد النص: وهو الفعل. أما الأخرى، فهي وظيفة جمالية، غايتها العجب حسب عبارة الرئيس، وهي ما نسميه في مصطلحاتنا المعاصرة بالشّاعرية"22. إنّ هذه الوظيفة الجمالية، هي أهم مميزات الأدب العربي، وخصوصا الشعر حيث أَثَّرَت سلبا على اللغة في حد ذاتها، وأَثَّرَت على الثقافة العربية والشخصية العربية، وما زاد في تكريس هذا التأثير السلبي هو النقد الأدبي، الذي لا يتردد الغذامي دائما في إبداء رأيه حوله، أو بالتحديد، في توجيه انتقاداته له، والتي من بينها قوله: "أرى أنّ النقد الأدبي كما نعهده، بمدارسه القديمة والحديثة، قد بلغ من اليأس، حتى لم يعد بقادرٍ على تحقيق متطلبات المُتَغَيِّر المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده الآن عالمياً وعربياً، بما أننا جزء من العالم متأثرون به ومنفعلون بمتغيراته"23.

    إنّ النقد الأدبي يجب أن يزول لأنّ مبررات وجوده قد زالت، كما أنّه لم يعد يملك المنهجية الكفيلة التي تُسَايِرُ التطورات المعرفية الهائلة، ويبدو أنّ الغذامي قد بَنَي موقفه هذا على آراء بعض المفكرين ما-بعد البنيويين والعلماء الألسنيين، إذ نجد جاك دريدا مثلا يبيّن موقفه من النقد الأدبي قائلا: "في الواقع لا تبدو لي، لا قيمة النقد ولا قيمة الأدب، مضمونتين وواضحتين، بما فيه الكفاية، حتى نستطيع أن نَعهَدَ إلى النقد الأدبي، بعمليات الاستجواب والقراءة التي تًهِمُّنِي شخصياً، كذلك فإنّ هذه العمليات تفترض أن يُمَارِس "الناقد" الكتابة أيضاً، وهذا لا يشكل جانِباً من التصور السائد للنقد الأدبي"24، وهو الرأي الذي يُشَاطِره فيه رومان جاكوبسون RomanJakobson(1896-1982)، إذ يقول: "إنّ تسمية "ناقد أدبي" في تطبيقها على عالِمٍ يَدرُسُ الأدب، هي تسمية خاطئةٌ، مثلما هي خاطئة تسمية "ناقد نحوي" أو (معجمي)، في تطبيقها على اللساني، فالأبحاث التركيبية والصرفية، لا يمكن أن يَحُلَّ مَحَلَّها نَحوٌ مِعياري، وعلى غرار ذلك، فإنّ أي بيان يفصل الأذواق والآراء الخاصة بناقد معين على الأدب الخلاق، لا يمكنه، أن يحلّ محلّ تحليل علمي موضوعي لفن اللغة"25.

حقيقة إنّ النقد أكثر ارتباطا بالفلسفة، أما الأدب فيرتبط بالبلاغة، لكن النقد الأدبي في الثقافة العربية، أَبعَدَ الأدب عن النقد وحَصَرَهُ بالبلاغة، فابتعد النقد عن الفلسفة من جهة، وأصبح النقد الأدبي، فَنًا في البلاغة من جهة أخرى، موضوعه النصوص البليغة والجميلة، دون أن يَبحَثَ في عيوبها ونقائصها، وحتى ولو بحث النقد الأدبي في عيوب النصوص، فإنّه بحث يقتصر على العيوب اللُّغوية والعروضية، وهذا هو عيب النقد الأدبي قديماً وحديثاً، لذلك لا يتردد الغذامي في التأكيد على أنّ : "البلاغة كانت تحاول أن تنقد النص لتجعل منه عملا جماليا، ولكن البلاغة أُصِيبت بما أصيب به كثير من العلوم في أوقات مَرَّت على أُمَّتِنا، فصارت علما معياريا، يضع قواعد ثابتة سابقة لميلاد النص، ولم يستطع النقد بكل مدارسه، أن يَسُدَّ هذا العيب البلاغي، ومن هنا رأينا كثيراً من النقاد المحدثين في الغرب، يطالبون بإنهاء ما يسمى بالنقد الأدبي ويُعلِنُون موت هذا النقد، لأنّه لم يولد أصلاً"26. إنّ عيب النقد الأدبي، يكمن في أنّه يعطي الأولوية لجمالية النص على معناه، كما إنّه لا يعطي أَهميةً لقارئ النص، بقدر ما يهتم بكاتبه، لذلك نجد أنّ الشعر العربي دائما، يُعَبِّرُ عن ذاتية الشاعر. إننا نلاحظ أنّ هذه المفاهيم أصبحت تقليدية، بحيث حلّت مَحَلَّهَا مفاهيم جديدة مثل الكتابة والقارئ والمعنى وغيرها من المفاهيم الأخرى التي يقوم عليها النقد المعاصر.

لقد حدث تَحَوُّلٌ في النقد المعاصر، من جماليات النص إلى جماليات المعنى. وعلى الرغم من أنّ الغذامي لا ينفي أهمية الجانب الجمالي في النصوص، إلا أنّه يُنَبِّهُنَا إلى ما لم ينتبه إليه النقد الأدبي، ألا وهو أنّ مسألة الجمال اللُّغوي، أصبحت عيبا نَسَقِيًّا أَثَّرَ سلبا على ثقافتنا، بل على حضارتنا ككل، وهذا ما أدَّى به إلى التأكيد على أنّ الثقافة العربية جعلت النسق الثقافي يتميز بشرطين أساسيين، مَكَّنَاهُ من ترسيخ معناه حتى يصبح بحُكمِ المُعتقَد الأسطوري، هما: "أولا تعطيل الحس النقدي للأفراد، بحيث يَغَضَّونَ الطَّرَفَ عن التناقض، ولا يدركون أنهم واقعون فيه. والثاني، هو مفعولية الزمن، حيث إنّ التقادم يعطي السلوكات قيمة إضافية يجعلها تبدو طبيعية وفطرية، ولذا لا تتحرك الملاحظة اتجاهها ولا يجنح عموم الناس إلى مساءلتها تبعا لتسليمهم بالتوارث المتصل، وقبول ما وجدوا الحالة عليه"27.و لكن السؤال الذي يطرح هنا، هل فعلا يعتبر الشعر هو المُوَجِّه الوحيد لكل الأنساق الثقافية؟. يجيب الغذامي قائلا: "أنا لا أضع الشعر في معادلة السَّبَبِ والنتيجة، وإنّما أقول، إنّ الشعر (حامِل النسق) وأقول إنّ الشعر هو (العلامة) الكاشفة لهذا النسق وبما أنّ الشعر هو (علامة) على النسق، وبما أنّه (حامل النسق)، فإنّ الشعر هنا، يصبح هو المطبخ المنتج للنسق"28. هكذا يفضح الغذامي العيوب النسقية للثقافة العربية، التي يرى أنّها تتلخّص في الجانب الشعري، فلطالما أكدت مؤلفاته على الارتباط بين الجميل الشعري والقبيح الثقافي، الذي يعد النقد الأدبي تكريساً له؛ لأنه بَسَطَ عباءة الجمالي على الكثير من العيوب النَّسَقِية في الثقافة العربية: "فنحن محكومون بذهنية سميناها اصطلاحا بالقصيدة أو (العمودية) وهي ذهنية تَشَكَّلَت وتَنَامَت على مدى زمني متواصل، ولم ينقطع قَطُّ من أكثر من خمسة عشر قرناً، ولم تزل هذه الذهنية تلازمنا وتسايرنا وتحيط بنا، ليس فيما نقرأه من الماضي الزاهر فحسب، ولكن أيضا فيما نعيشه ونمارسه في حياتنا اليومية، سواء في الأدبيات الشعبية أم في اللغوي، الذي تتسرب فيه الخطاباتية والغنائية والتدفق الوجداني الثري، ويتجلى ذلك في الخطاب الأدبي، مثلما يتجلى في الخطاب السياسي والفكري"29.

2-اختراع الفحل الشعري وصناعة الطاغية

يقول الغذامي: "إنّنا أمام ظاهرة عالمية توجد وتعيش في كل الثقافات، حيث تبرز سلطة الفرد وتُعَزَّزُ ثقافيا ومسلكيا، بواسطة عمليات مترابطة، بعضها يحدث بقوة السلاح والجيوش، وبعضها يحدث بجيوش من نوع خاص وسلاح من نوع خاص، هو سلاح الكلمة، إنّه مسعى حثيث لامتلاك ناصية المعنى، والسَّيطَرةِ عليه"30. هذا هو الدور الذي قام به الشعر العربي، بمباركة النقد الأدبي، فقد جَنَت صفة الشاعرية على اللغة والخطاب اللغوي، بحيث جَرَّدَتهُ من فاعليته كما عزلته عن وقائعيته وهذا ما أنشأ ذاتًا عربية تتصف بصفات اللغة الشعرية ذاتها، أي ذاتًا شعريةً حالمة بعيدة عن الواقع فكانت النتيجة الأخطر التي ترتبت عن تَغَلغُلِ النسق الشعري في الذات العربية، هو قتل روح المبادرة النقدية إزاء عيوب الخطاب، لأنّ النقد انحصر في دائرة الأدب، مُبَرِّرًا لوجود الخطاب الشعري، بل ومُكَرِّسًا لهذا الوجود: "فقد جرى ثقافيا اختراع الفحل، الذي ابتدأ فحلاً شعرياً، غير أنّه تَحَوَّلَ ليكون فحلاً ثقافياً، يتكرر في كافة الخطابات والسلوكيات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وما ذاك في الأصل، إلا لِأَنَّ الشعر، هو علمنا وديواننا، وما يحدث فيه يصبغ شخصيتنا، ويؤثّر في تكويننا وتوجيه سلوكنا"31. إنّ الغذامي لا يعترض على الشعر، كفن من فنون الأدب وإنما هو يرى أنّ التأثير السلبي الكبير لخاصية الشاعرية التي يحملها الشعر على شخصيتنا العربية، يُحَتِّمُ علينا أن نتوجّه لهذا الوضع بالنقد: "فالفحل الشعري هو أخطر المخترعات الشعرية/الثقافية، وهو مصطلح ارتبط بالطبقة (طبقات فحول الشعراء) وارتبط بالتَّفَرُّدِ والتَّعَالِي (الشعراء أمراء الكلام) مثلما ارتبط بتوظيف اللغة توظيفًا منافقًا (يصورون الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق)"32. ومنه قوله تعالي "وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوُۥنَ٢٢٤أَلَمۡ تَرَ أَنَّهُمۡ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ ٢٢٥وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ ٢٢٦" [الشعراء: 224،225،226].

إنّ ما يرفضه الغذامي في الخطاب الشعري العربي، هو هذه النظرة الفحولية القائمة على تضخيم الأنا، وما يرافقها من كذب وتزييف، وهو لا يقصد بـــــ"الأنا" الشاعر الشخص المتكلم فقط، وإنما "الأنا الثقافية"، التي تعتبر انعكاسًا للنسق الثقافي السائد وتجسيدًا له، لأنّ: "الفحل، هو صِياغَةٌ شِعرِيَّةٌ في الأصل، ولكِنَّهُ يحول ليكون أنموذجا ذهنيا واجتماعيا وسياسيا، ولم يَعُد مجرد قيمة مجازية شعرية"34. ولقد استدل الغذامي بالكثير من الأبيات والقصائد الشعرية منها قصائد الأخطل والفرزدق وعمرو بن كلثوم  وغيرهم. وبناء على ذلك، أكد على أنّ: "القصيدة تضع منظومة قيم كعلامة نسقية، ومنه انغرس النسق الشعري، هذا النسق الذي نجده في الخطاب الشعري القديم، والحديث والتجديدي، نجده عند الفرزدق وجرير وأبي تمام والمتنبي، مثلما نجده عند نزار قباني وأدونيس. بل إننا نجده في الخطاب العقلاني، كما هو في الخطاب الشعري والخطاب السياسي والخطاب الإعلامي. لقد انتقل النسق وتَرَحَّلَ من الشعر إلى الخطابة ومنها إلى الكتابة35، ليستقر بعد ذاك في الذهنية الثقافية للأمة، ويتحكم في كل خطاباتها وسلوكاتها"36.

هكذا، فإنّ اللغة الشعرية لم تكتف باختراع الفحل المتصف بالأنانية ورفض الآخر والسعي إلى إقصائه، بل إنّ مفهوم الفحل في الشعر، قد تَرَتَّبَ عنه ظهور الطاغية في المجال السياسي، وهذا ما يدل على تأثير النسق الشعري على كل الأنساق الثقافية، وعلى كل مجالات الحياة، ولكي يوضح لنا الغذامي موقفه من كيفية تَرَتُّبِ ظهور الطاغية السياسي عن فكرة الفحل الشعري، يقول: "لو استخدمنا صفات الأنا الشعرية، لوجدناها هي بالتحديد ما يصف ويحدد صفات صدام حسين، وهذه الأنا المتضخمة الفحولية، التي لا تقوم إلا عبر التَّفَرُّدِ المطلق بإلغاء الآخر وبتعاليها الكوني، وبكونها هي الأصح والأصدق حكمًا ورأيًا، ويكون الظلم عندها علامة قُّوَّةٍ وسُؤدُدٍ.. والعالم محتاج إليها لأنها هي المنقذ الكوني، ولا يستقر وجودها، إلا بسحق الخصم، وهي الصوت المفرد، الذي لا صوت سواه وهذه هي الدلالات الشعرية، التي نجدها في شعرنا، منذ عمرو بن كلثوم إلى المتنبي إلى نزار قباني"37. إنّ شخصية الطاغية، هي تجلّي لشخصية الفحل في الشعر العربي، وهذا ما يدل فعلا، على تأثير الشعر على الثقافة والشخصية العربية المعاصرة فسلوكيات وتصرفات الطاغية تؤدي الدور ذاته الذي تُؤَدِّيهِ كلمات الفحل الشعري، فهي قائمة على الأنانية وإقصاء الآخر ومحاولة السيطرة عليه. ومثلما بَشَّرَنا الغذامي، بموت النقد الأدبي، فإنّه يُبَشِّرُنا كذلك بموت الفحل وموت الطاغية، لذلك يتساءل قائلا: "هل للشاعر مكان في القرن العشرين؟ سيكون الجواب كالسؤال إنكاريا حينئذ، نعم ليس للشاعر مكان، إنّه اسم فقد خانته، مثل صورةٍ فقدت إطارها فانتثرت في المتحف، لم يعد الشاعر ذاتًا طاغية، ولقد تَحَوَّل الإمبراطور الأوحد إلى فرد من الشعب وصار صوتا في أصوات، وصار رقما في كشوف تاريخية لا نهائية، وبقي الصمت والسخرية والانتهاك"38.

رابعا: ميلاد النقد الثقافي/نحو تأسيس فكر ما بعد الحداثة.

1-النقد، من تبرير الجمالي إلى نقد الثقافي.

يقول الغذامي في كلمة الشكر التي بدأ بها كتابه الرئيس "النقد الثقافي": "في سبيل إثارة قضية النقد الثقافي، كان لي شرف الالتقاء بعدد من العقول الفاعلة في الوطن العربي"39. يتجلى لنا أنّ الغذامي اختار هذه العبارات عن قصد، بل وبحذر شديد، فكلمة "السبيل" تعني الطريق الذي يكون له هدف محدد، والذي هو "النقد الثقافي"، وبما أنّ "النقد الثقافي"، ارتبط بالثقافة الغربية، وتحديدا بمرحلة "ما بعد الحداثة"، فإنّ الغذامي يريد أن ينسب لنفسه شرف أول مفكر عربي يقترح الاعتماد على مشروع "النقد الثقافي" لمعالجة مشكلات الثقافة العربية، وهو بالتالي، يحتاج في هذا المسعى إلى تأييد العقول المدبرة والأشخاص المختصين في هذا المجال.

وفق صيغة "موت الإنسان" التي تقول بها ما بعد البنيوية في الفكر الغربي، فقد قال الغذامي "بموت النقد الأدبي" الذي أعلن "إفلاسه النقدي"، فهو لم يعد قادرا على مُسَايَرَة التطورات المعرفية والمفاهيم اللغوية المعاصرة، ولقد تبين للغذامي أنّ المُخَلِّصَ من هذه الوضعية المتأزمة التي آلت إليها الثقافة العربية وتجلياتها في سلوك الشخصية العربية، هو "النقد الثقافي". "فالنقد الثقافي في تصور عبد الله الغذامي أداة للحفر في جينيالوجيا المتن الثقافي، الذي تُؤَلِّفُهُ الثقافة نفسها، وتُسَوِّقُهُ عبر قنوات كثيرة ومختلفة فيما يدعى بـــ "الحيل الثقافية" كالحكايات والنكت والبلاغيات والأكاذيب... وثانياً أداةً لتفكيك سلطة هذه الثقافة الذكورية/الفحولية وتشريحها، وتذويب ما اسماه الغذامي بــ "الشحم الثقافي"، وخلخلة كل أشكال النسق المُتَسَلِّطِ، كنسق التفحيل"40. يحاول الغذامي، من خلال نقده للأنساق الثقافية، التي درسها في مؤلفاته، سواء كانت شعرًا أم نثرًا، مثل قصائد حمزة شحاته، في كتابه "الخطيئة والتكفير" أو قصائد نزار قباني في كتابه "النقد الثقافي" أو قصص "ألف ليلة وليلة" في كتابه "اللغة والمرأة" وغيرها، أن يبين لنا برؤية الناقد الثقافي المُنَظِّر والمُمَارِس، كيف أن الأنساق المُضمَرَة في الثقافة، تمارس "حِيَلَها الثقافية" لتعمل على نشر "ثقافة الوهم". يقول الغذامي: "حينما تدفعنا خطانا إلى البحث في الأنساق الثقافية سنكتشف أننا نقرأ التاريخ البشري والسيرة البشرية، بوصفها حالاً من التفكير في المفاهيم والمصطلحات، وسنرى أنّ المسار البشري، هو مسار تَحَكَّمَت فيه المنظومات المفاهيمية والمصطلحية، وكأنما التاريخ البشري هو تاريخ في المصطلح والمفهوم"41.

حقيقة فقد ارتبط مصطلح "النقد الثقافي" بمرحلة ما بعد الحداثة، وجهود الكثير من المفكرين والفلاسفة، في التَّحَوُّلِ من النص إلى الخطاب، ومن الجانب الجمالي للنصوص إلى الجانب النقدي، وهذا ما نجده في أعمال بعض المفكرين الغربيين، من أمثال رولان بارث وميشال فوكوMichel Foucault(1926-1984)، وغيرهما من المفكرين الذين يؤكدون على محدودية النظرة الجمالية البلاغية للنصوص وفي هذا كله سعي لتجاوز مرحلة النقد الأدبي: "الذي التزم بالنص الأدبي بوصفه قيمة جمالية، يجري دائما السعي لكشف هذا البعد الجمالي وتبرير أي فعل للنص مهما كان، تحت مبدأ الأصل الجمالي، مما جعل الجمال مُنتَجًا بلاغيًا (مُحتَكَرًا) وصار للجمالي شرط مؤسساتي يُصِيغُهُ السيد الشاعر، ويقوم الفعل النقدي بعمليات التسويق والتعميم"42. وعليه، فإن هذا التسليم المُسبَق من قبل النقد الأدبي، بأن الشعر والجمالي، لا يمكن تصور أحدهما دون الآخر، هو الذي غطى على عيوب الثقافة من جهة، وأَثَّرَ سلبا على مستهلكي الثقافة، من جهة أخرى، لذلك فقد كان هدف الغذامي، في أولى مراحل تجسيد مشروع النقد الثقافي، هو فضح هذا الاحتكار للجمالي من قبل الشعري، وبالتالي العمل على تجاوز هيمنة ثقافة الحداثة، من خلال تجاوز النقد الأدبي ذاته.

مُشَبَّعًا بالكثير من المفاهيم والآليات المعرفية الغربية، ينطلق الغذامي في تطبيق مشروع "النقد الثقافي"، الذي يبدوا من خلال الحوارات والنقاشات التي أجراها مع مختلف الباحثين ووحدات البحث في المشرق والمغرب العربي، أنّه مُخَلِّصُ الثقافة والشخصية العربية من براثين النزعة الشعرية، التي كرسها الموروث الثقافي، فَنَصَّبَ عداءه لما اسماه بــــ "المنظور المؤسساتي للشعر"، لأنّ هناك تواطؤا غير مُعلَنٍ بين المؤسستين الثقافية والسياسية، يجعل من الأولى خادمة للثانية، أما الضحية، فهي الثقافة العربية، والحل حسب الغذامي، هو تفكيك الأنساق الثقافية، التي تتمركز حول ذات فحولية مُستَبِدَّةٍ، نافية للآخر وللمختلف. وحول هذه المهمة التي يقوم بها النقد الثقافي يقول الغذامي: "ولهذا، فإنّه يلزم نقديا أن نشرع في نقد المُستهلَك الثقافي الجماهيري؛ لأنّ نقد هذا المنتوج ذي الشعبية العريضة، سيكشف لنا عن (العيوب النسقية) الخطيرة الكامنة في وجداننا الثقافي وسنرى (الجميل) بمعناه الآخر، ولابد أن نكشف عن حالات (العمى الثقافي) التي بسببها نُعجَبُ بالعيب، ونَطرَبُ بالخطأ ونَطلُبُهُ ونُسَوِّقُهُ"43. إنّ هذا الجمالي، هو ما تُجَسِّدُهُ قصائد نزار قباني مثلا، لأنّ ما تحمله من فحولة شعرية، تكريس لإعلاء الذات وإلغاء الآخر، وما زاد من تكريس هذه الفحولة، أو بالتحديد، هذه الهيمنة الثقافية، هو التأييد الجماهيري الواسع، لهذا المشروع الاستفحالي، الذي سيعمل "النقد الثقافي" على نقد أنساقه.

يقرّ الغذامي، أنّ كلمة أدبي، لم تؤخذ إلاّ معنى واحد، هو ذلك الذي أقرّته المؤسسة الثقافية في الفكر العربي عبر التاريخ، ذلك أنّ الخطاب البلاغي الرسمي يحدد مواصفات للنسق الثقافي، إذا التزم بها صُنِّفَ تحت المؤسسة الثقافية العربية، وإذا لم يلتزم بها، استُبعِدَ منها: "فَكُلُّنَا نعرف كيف جرت معاملة (ألف ليلة وليلة) التي اعتبرت مما لا يليق إلاّ بالصبيان والنِّساء وضِعاف النفوس...و في مقابل ذلك نرى تقديراً عالياً لكتاب (كليلة ودمنة) فكاتبه (مترجمه) هو أحد فحول الخطاب الثقافي، كما أنّه كتاب معمول للملوك، ومن يُوصَفُون بالعُقَلاء"44. إنّ هذا التصنيف أضر بالأدب وبالتالي بالثقافة من ناحية أنه كَرَّسَ أنموذجين، الأول شَعبَوِي منبوذ وغير مُعتَرَف به. أما الثاني، فهو رسمي لا يرتقي إليه النقد، لأنه جمالي بالضرورة، وهذا ما عَطَّلَ الحس النقدي في الثقافة العربية، وبَرَّرَ لوجود خطاب ثقافي مُهَيمِن، لا يُمَارِسُ النقد، كما يرفض أن يُمَارَسَ النقد عليه.

2-تحولات المصطلح النقدي/من الأدبي إلى الثقافي

يقول الغذامي: "إنّ تحرير المصطلح من قَيدِهِ المُؤَسَّسَاتِي، هو الشَّرطُ الأساس لتحرير الأداة النقدية، مذ كان الارتباط بين الاثنين أَزَلِيًّا حيث إنّ إِعمال المصطلح النقدي الأدبي إِعمالاً لا يَتَسَمَّى بالأدبي، ويتخذ له صفة أخرى هي الثقافي، يستلزم إجراء تعديلات وتحويلات في المصطلح، لكي يُؤَدِّي المهمة الجديدة"45. إنّ هذه المهمة، تمر حسب الغذامي بمراحل ضرورية متتالية، هي: تحول في المصطلح النقدي ذاته، وتحول في المفهوم، وتحول في الوظيفة، وتحول في التطبيق، نحاول شرحها على النحو اللآتي:

أ-التَّحَوُّلُ في المصطلح

يعتبر التَّحَوُّلُ، أو النَّقلَة الاصطلاحية، أول وأهم مراحل التَّحَوُّل في الفعل النقدي، من الأدبي إلى الثقافي، وتكمن أهمية هذه المرحلة، في كَونِها تعمل على تخليص النصوص من الشَّرطِ الأدبي بمعناه المُؤَسَّسَاتِي، وهو المعني الذي تعرّفنا عليه من قبل، ويشتمل التحوّل الاصطلاحي، حسب الغذامي، على ستة اصطلاحات أساسية، هي على التوالي: عناصر الرسالة (الوظيفة النسقية)، والمجاز (المجاز الكلي)، والتورية الثقافية، ونوع الدلالة، والجملة النوعية والمؤلف المزدوج. وهنا يجري الغذامي مقارنة بين "النقد الأدبي" و"النقد الثقافي"، من ناحية المصطلحات المستخدمة في كل مجال فيقول: "هذا إِجمالٌ نُوَضِّحُهُ فيما يلي، حسب تحديد المصطلحات التي سَنَستَعِيرُها من النقد الأدبي، ونُحَوِّرُهَا لتكون صالحة للتوظيف في مجال النقد الثقافي، وهي مصطلحات: العنصر السابع، والدلالة النَّسَقِيَّة، والجملة الثقافية والمجاز الكُلِّي، والتَّورِية الثقافية، وهذه تحويرات لمصطلحات نقدية أدبية، تقابل كل واحدة منها: عنصر تركيب الرسالة على نفسها، والدلالة الضمنية والجملة الأدبية، والمجاز البلاغي والتورية البلاغية، مع مفهومي النسق المضمر والمُؤلِّف المزدوج".

إنّ هذه الأساليب تمثل المنطلق النظري والمنهجي، لمشروع "النقد الثقافي"، عند عبد الله الغذامي، إلاّ أننا سنركز على الإسهام الحقيقي الذي قَدَّمَهُ والمتمثل في الأساس الأول، والذي هو (عناصر الرسالة)، فمعروف أنّ رومان جاكوبوسن، قد بيّن أنّ الأنموذج الاتصالي، أو الفعل التواصلي، يتكون من ستة عناصر هي، على حد قوله: "إنّ المرسل يوجه رسالة إلى المرسل إليه، ولكي تكون الرسالة فاعلةً فإنها تقتضي بادئ ذي بدء، سياقًا تحيل عليه (وهو ما يدعى أيضا "المرجع" بإصلاح غامض نسبيا) سياقا قابلا لأن يدركه المرسل إليه وهو أن يكون لفظيا، أو قابلا لأن يكون كذلك، وتقتضي الرسالة بعد ذلك سَنَنًا مشتركا، كليا أو جزئيا بين المُرسِل والمُرسَل إليه (أو بعبارات أخرى بين المسنِن ومُفَكِّكِ سَنَنِ الرسالة) وتقتضي الرسالة أخيراً،اتصالا، أي قناة فيزيقية وربطا نفسيا، بين المرسل والمرسل إليه"46. لكن الغذامي، أجرى تعديلاً على هذا التقسيم، وأضاف عُنصراً سابعاً يتمثل في (العنصر النسقي)، يتحدث عنه قائلا: "إذا سلمنا بوجود العنصر السابع (النسقي) ومعه الوظيفة (النسقية)، فإنّ هذا يجعلنا في وضع نستطيع معه أن نوجّه نظرنا نحو الأبعاد النسقية التي تتحكم بنا وبخطاباتنا، مع الإبقاء على ما ألفنا وجوده، وتعودنا على توقعه في النصوص، من قيم جمالية وقيم دلالية، وما هو مفترض فيها من أبعاد ذاتية وأبعاد تاريخية واجتماعية. إضافة إلى ذلك، تأتي الوظيفة النسقية عبر العنصر النسقي وهذا ما يمثل بعدًا أساسياً في مبادئ النقد الثقافي"47. فإلي جانب الوظائف التي حددها جاكوبسون من قبل، والتي هي، التعبيرية والنفعية والمرجعية والمعجمية والتشبيهية والشاعرية فإنّ اللغة تصبح لها وظيفة جديدة، عند الغذامي، تتمثل في الوظيفة النسقية، التي تجعل الرسالة مهيأة للتفسير النسقي أي الكشف عن دلالتها النسقية التي هي: " قيمة نحوية ونصوصية مخبوءة في المضمر النصي في الخطاب اللغوي ونحن نسلم بوجود الدلالتين الصريحة والضمنية، وكونهما ضمن حدود الوعي المباشر كما في الصريحة، أو الوعي النقدي، كما في الضمنية. فالدلالة النسقية في المضمر وليست في الوعي، وتحتاج إلى أدوات نقدية مدققة، تأخذ بمبدأ النقد الثقافي لكي تكتشفها، ولكي تكتمل منظومة النظر والإجراء"48. هكذا، يصبح النص في "النقد الثقافي" عند الغذامي حدثا ثقافيا، لا مجرد قالب لغوي بلاغي جمالي، أما "الوظيفة النسقية" فقد كانت إسهاما كبيرا في الدراسات اللغوية و"النقد الثقافي" على حد سواء، يمثل أفقا جديدا في قراءة النصوص ونقد الأنساق الثقافية.

هذا بالنسبة إلى المرحلة الأولى، من مراحل الانتقال من "النقد الأدبي" إلى "النقد الثقافي"، والمتمثلة في التحول الاصطلاحي، أو النقلة الاصطلاحية، والتي اعتبرها الغذامي أهم مراحل هذا التحول، إلا أنّ المراحل الأخرى لا تقل أهمية، لأنّها استمرارية لمهمة التحول التي لا يمكن أن تكتمل دونها، بما فيها التحول في المفهوم.

ب-التَّحَوُّلُ في المفهوم

يتم التَّحَوُّل من "النقد الأدبي" إلى "النقد الثقافي" عند عبد الله الغذامي، من خلال التَّحَوُّل عن ظاهر النصوص إلى باطنها، بهدف الكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة فيها ونقدها، وهذا ما يدلّ على أهمية هذا المصطلح في مشروع "النقد الثقافي" عند الغذامي وذلك لأنّ: "مفهوم النسق المضمر، يأتي في نظرية النقد الثقافي بوصفه مفهوما مركزيا والمقصود هنا، أنّ الثقافة تمتلك أنساقها الخاصة، التي هي أنساق مُهَيمِنَة، وتَتَوَسَّلُ لهذه الهيمنة عبر التخفي وراء أقنعة سميكة، وأهم هذه الأقنعة وأخطرها في دعوانا، قناع الجمالية...إذ يعمل الجمالي، على التَّعمِيَة الثقافية، لكي تظل الأنساق فاعلة ومؤثرة ومستديمة من تحت قناع"49. لذلك يؤكد الغذامي، على ضرورة تمييز النسق الثقافي عن الأنساق الأخرى، حتى يمكننا الحديث عن مسألة "النقد الثقافي". وعليه، يتبيّن لنا، أنّ الغذامي لا يساهم فقط في تأسيس مشروع النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر، وإنّما يساهم كذلك، في وضع جهاز مفاهيمي خاص، لا نجد له مثيلا عند غيره من المفكرين، خصوصا مصطلحي "الوظيفة النسقية" و"الجملة الثقافية"، وعلى اعتبار أننا شرحنا من قبل مصطلح "الوظيفة النسقية" و"الدلالة النسقية"، نحاول توضيح مفهوم "الجملة الثقافية"، حسب تصور الغذامي، إذ يقول عنها إنّها: "حصيلة الناتج الدلالي للمعطى النَّسَقِي، وكشفها يأتي عبر "العنصر النَّسَقِي" في الرسالة، ثم عبر تصور مقولة "الدلالة النسقية". و"الجملة الثقافية" ليست عددًا كَمِّيًا، إذ قد نجد جملة ثقافية واحدة، في مقابل ألف جملة نحوية، أي أنّ الجملة الثقافية، هي دلالة اكتنازية وتعبير مكثف"50.

إنّ الجملة الثقافية، لها طبيعة خاصة، فهي ليست مجموعة من الألفاظ، يحصل معناها باجتماع هذه الألفاظ، وإنّما هي الفكرة التي تريد الثقافة أن تمررها عبر أنساقها، وميزتها أنها مضمرة لا ظاهرة. وهنا يظهر لنا، أنّ هناك تشابها كبيرا بين مفهوم "الجملة الثقافية" عند الغذامي، ومفهوم "العبارة" أو "المنطوق" عند ميشال فوكو، الذي يقول عنه: "لقد استَخدَمتُ في مناسبات عديدة لفظة "عبارة"، إما لأشير بها إلى "عدد من العبارات" (كما لو كان الأمر يعني أفرادا وأحداثا فردية)، أو لِأُمَيِّزَهُ عن تلك المجموعات، التي أسميها الخطابات (مثلما يتميز الجزء عن الكل). وتبدو العبارة لأول وهلة، كعنصر بسيط، أو كجزء لا يتجزأ، قابل لأن يستقل لذاته، ويقيم علاقات مع عناصر أخرى مشابهة له. فهي نقطة لا مساحة لها، غير أنّه بالإمكان رصدها ضمن مستويات توزّع وفي أشكال نوعية المجتمع، حبة تطفو فوق سطح نسيج، هي عنصره المكوّن. فالعبارة، أبسط جزء في الخطاب"51. إنّ العلاقة بين المنطوق والخطاب عند ميشال فوكو كالعلاقة بين الجزء والكل، أما إن أمكننا تصوّر وجود أحدهما دون الآخر، فإنّه يمكن تصور وجود المنطوق دون الخطاب لأنّ الخطاب بما هو مجموعة من المنطوقات أو العبارات، يتوقّف وجوده على وجود المنطوق. أما المنطوق، فله وجوده الخاص المستقل به. ولكن الأهم في كل هذا، هو أنّه مثلما يختلف مفهوم العبارة حسب فوكو عن الإشارة والجملة والقضية المنطقية وغيرها –و لن ندخل في تفاصيل المقارنة أكثر، لكي لا نخرج عن موضوع الدراسة-فإنّ "الجملة الثقافية" عند الغذامي، كذلك لها وجودها الخاص، إذ هي تختلف عن الجملة الأدبية والجملة النحوية. وهذا ما يجعلها بالتالي من بين أهم مبادئ نقد الأنساق الثقافية عند عبد الله الغذامي.

ج-التَّحَوُّلُ في الوظيفة

لا يتجه "النقد الثقافي" عند الغذامي، إلى الثقافة بمعناها الواسع، وإنّما يكون النقد موجها إلى عملية تلقي نص أو خطاب، من قبل القراء أو الجمهور، لأنّ ما لاحظه الغذامي، هو أنّ النصوص الأدبية، وتحديدا النصوص الشعرية تَستَخدِم الكثير من الحِيَل، أهمها بل أخطرها، تغييب العقل وتغليب الوجدان، من خلال تبرير القول الشعري والشخصية الشعرية، مثل شخصيتي المتنبي ونزار قباني وغيرهما لذلك فالنقد الثقافي مُوَجَّهٌ بالأساس لهذه الثقافة الشعرية: "لأنّ الشعر، لم يزل مُرتَهَنًا لعيوب نسقية، لا تجعله مهيأ، لأن يقود خطاب التحديث، وقد يكون هو العائق التحديثي"52. ليعمل النقد على أداء وظيفة جديدة، تتمثل في التحوّل من إبراز الجمالي الكامن في النصوص الشعرية إلى فضح حيل الثقافة، من خلال سبر أغوار القصائد الشعرية، وتبيان أنّها وسيلة في يد الثقافة، تستخدمها للتأثير على الشخصية العربية، وعلى الثقافة العربية بكل أبعادها.

د-التَّحَوُّلُ في التطبيق:

يهدف النقد الثقافي –كما تبيّن لنا إلى حد الآن- إلى دراسة الأنساق الخفية أو المضمرة للثقافة العربية، خصوصا منها الشعر؛ على اعتبار أنّه أثّر كثيرا في ثقافتنا، وجعل من الشخصية العربية شخصية شاعرة: "فالشعر، هو المخزن الخطر للأنساق المضمرة،، وهو الجرثومة المستترة بالجماليات، التي ظَلَّت تفعل فعلها، وتفرز نماذجها جيلا بعد جيل ليس في الخطاب الشعري فحسب، بل في كل التجليات الثقافية، بدءًا من النثر الذي تَشَعرَنَ منذ وقت مبكر، وكذا الخطاب الفكري والسياسي والتأليفي، بما فيه النقدي، وكذا في أنماط السلوك والقيم، ولغة الذات مع نفسها ومع الآخر"53.

إنّ التحولات السابقة الذكر، تعبر فعلا عن تحوّل في المصطلح النقدي، من الأدب إلى الثقافة، وتحديدا من النصوص الأدبية إلى الأنساق الثقافية، وهي تعيد النقد إلى معناه ومفهومه الحقيقي، وتوجهه إلى أداء وظيفته الأصلية، التي تُعَبِّرُ عن ارتباطه بالفلسفة قبل التحاقه بميدان الأدب، فكان التَّحَوُّلُ النهائي، من "النقد الأدبي" إلى "النقد الثقافي"، من خلال الاشتغال على قراءة النصوص الثقافية، أو بالتحديد، تفكيكها وتشريحها، ذلك أنّه بعد أن بيّن الغدامي مفهوم النقد الثقافي ووظيفته، عمل على توضيح طبيعة المنهج الذي يعتمد عليه النقد الثقافي.

3-تشريح النصوص/المنهج النقدي

إنّ من بين أهم المصطلحات التي يقوم عليها مشروع "النقد الثقافي" عند عبد الله الغذامي، نجد مصطلح "التشريحية"54الذي يقول عنه مبررا استخدامه له: "تخيّرت في تعريب هذا المصطلح، ولم أر أحدا من العرب، تعرض له من قبل (على حد اطلاعي)، وفكرت له بكلمات مثل (النقض/الفك)، ولكن، وجدتهما يحملان دلالات سلبية تُسِيءُ إلى الفكرة، ثم فَكَّرتُ باستخدام كلمة (التحليلية) من مصدر (حل) أي نقض، ولكنني خفت أن تلتبس مع (حَلَّلَ) أي درس بتفصيل، واستقر رأيي، أخيرًا على كلمة "التشريحية" أو تشريح النص، والمقصود بهذا الاتجاه، هو تفكيك النص من أجل إعادة بنائه، وهذه وسيلة تفتح المجال للإبداع القرائي، كما يتفاعل مع النص"55.كما يوضح لنا أكثر مفهومه للتشريحية وكيفية تطبيقها قائلا: "أسمي منهجي بالنصوصية، أو بالنقد الألسني، وأسمي الإجراء بالتشريحية، لأنّ ما نفعله إجرائيا، هو ممارسة التشريح فعليا، من أجل الوصول إلى سبر تركيبات النص وأبنيته الداخلية، ثم نأخذ بتفسير العملية تفسيرًا نُصُوصِيًا، يقوم على مبدأ من تفسير القرآن بالقرآن"56.

يطمح الغذامي أن يصبح النقد إبداعًا، ينافس الإبداع الأصلي ويحتاج بدوره إلى تشريح، لأنّ للنقد طَقسِيَّتُهُ ورموزه، ولذلك قد يصرفنا المنهج البنيوي التشريحي عن النص، لإقامة نص مركب جديد57. هكذا، فقد وجد الغذامي في إسهامات النقاد المعاصرين، من أمثال رولان بارث وجاك لاكان وجاك دريدا، وغيرهم، سندا قويا في إرساء قواعد مشروعه النقدي الثقافي، من خلال اعتماد منهج التشريح أو التفكيك، على أنّه إذا كان هدف هؤلاء، هو تمييز مستويات المعنى، مثلما نجد عند رولان بارث مثلا أو إعطاء القيمة للنص وبالتالي الكتابة، مثلما يؤكد على ذلك جاك دريدا، فإنّ الهدف الرئيس الذي يسعى الغذامي إلى تحقيقه، من وراء اعتماده منهج تشريح النصوص، هو تجاوز البعد البلاغي الجمالي للنص إلى بعده المنطقي، أي كشف السياقات الثقافية المضمرة فيه.

لقد حاول الغذامي استثمار التحولات والنتائج، التي عرفها مفهوم النقد في الفكر الغربي المعاصر، وتوظيفها في مجال نقد الأنساق الثقافية العربية، من أجل إظهار عيوبها، وتأثيراتها السلبية على الثقافة العربية والشخصية العربية ولكي يحرر "النقد الثقافي" عند الغذامي النصوص من ثقافة الحداثة، ومن النقد الأدبي التقليدي ذاته، فإنّ التشريحية كمنهج لإعادة قراءة النصوص، تبيّن لنا أنّ النّص لم يعد مُلكًا لمؤلفه، كذلك وأنّ قارئ النص لم يعد مجرد مستهلكٍ له فنحن: "لم نعد نقبل بالوقوف أمام النص كمتفرجين، ليس بيدنا غير تلقي ما قد قاله المؤلف58، هذه حالة مضى زمانها بارتقاء القارئ إلى منتج للنص، ولن يكون من الممكن العودة إلى الوراء، بعد أن خطا عقل الإنسان وخياله خطى واسعة إلى الأمام، كي يغزو النص من أعماقه ويعيد تشكيله"59. هكذا، تبدو القراءة التشريحية، أمام الغذامي كأجمل ما قدمه العصر من إنجاز نقدي أدبي، فهي تصلح لقراءة كل النصوص، فلا يتمرّد عليها أيّ نص، فهي ترسم مجالا تاما للتركيز على النص، وتفتح من جهة ثالثة، بابا للدور الإبداعي للقارئ، وتتحول به من مستهلك للنص، إلى صانع ومنتج له60. فالتشريحية بالنسبة للغذامي، رحلة استكشافية للنص، فهي لم تعد مجرد نقد سلبي للنص، ولا هَدمًا له، إنها على العكس من ذلك تماما، إعادة بناء للنص. ويستخدم الغذامي في حديثه عن النص، مصطلح "النص المختلف" كمقابل لمصطلح "النص الأدبي" الموجود في النقد الأدبي ويعرفه قائلا: "النص المختلف61، هو ذلك الذي يؤسّس لدلالات إشكالية، تنفتح على إمكانيات مطلقة من التأويل والتفسير فتحفّز الذهن القرائي وتستثيره ليداخل النص ويتحاور معه في مصطرع تأملي، يكشف القارئ فيه، أنّ النص شبكة دلالية متلاحمة، من حيث البنية، ومتفتحة من حيث إمكانيات الدلالة...و مع تَجَدُّدِ كل قراءة، نكتشف أنّ النص يقول شيئا لم نلاحظه من قبل، فكأننا أمام نص جديد، يختلف عن ذلك الذي عهدناه في قراءات سابقة"62. ولقد حاول الغذامي في أغلب مؤلفاته، أن يبيّن لنا كيفية تطبيق التشريحية على النصوص، خصوصا على القصائد الشعرية، على اعتبار أنّ الشعر لم يكن في الثقافة العربية مجرد خطاب، بل كان هو العلم والخطاب الحقيقي. إننا نجد أنّ الغذامي، قد قام بتشريح الكثير من قصائد الشعراء العرب، في أغلب مؤلفاته، خصوصا قصائد من يوصفون بفحول الشعر العربي، إذ نجده مثلا، يقوم بتشريح قصيدة "عمرو بن كلثوم"، مستشهدا ببعض أبياتها:

لنا الدنيا ومن أمسى عليها           ونبطش حين نبطش قادرينا

بغــــــاةً ظـــــالـمــين وما ظُـــــلِمنا            ولكـــــننــــا سنبــــــــدأ ظـــــــــالـمـينا

ملأنا البحـــر حتى ضاق عنا           ومــــاء البحـــــــر نملأه سفينا63

تعمل التشريحية، على التَّحَوُّلِ من ظاهر النص إلى باطنه، وهذا هو تحديدا ما يقصده الغذامي  بـــــ "النص المختلف" الذي لا يُنسَبُ إلى كاتبه (الشاعر)، وإنّما يصبح للقارئ دور في تأليفه، أو إعطاء معنى جديد له، فيُنظَرُ إلى كلام "عمرو بن كلثوم" مثلا، في "سياقه الثقافي"، الذي تولّد عنه. فالشاعر هنا، يتكلّم وفق "الأنا الشعرية" التي تولّدت عن القبيلة التي وجد فيها الشاعر، والتي ميّزتها التضخّم ونفي الآخر وإقصاءه، وهي ميزة أغلب القبائل العربية. ولكي يوضح لنا الغذامي أكثر بقية المفاهيم التي يقوم عليها النقد الثقافي والتي تتجلى أثناء الإجراء المسمى بتشريح النصوص، يواصل تشريح قصيدة "عمرو بن كلثوم"، فذكر منها قوله:

تــرانـــا بارزين وكـــل حَيٍّقد اتـــخــذوا مــخافتنا قـــــرينا

نحن الحاكمون إذا اطعنا             ونحن العازمون إذا عصينا64

هذه الجمل، التي نطق بها "عمرو بن كلثوم" تحيل إلى ما أسماه الغذامي، بـــ "الجملة الثقافية"، التي تحيل بدورها إلى النسق المهيمن الذي اتخذ الشعر كنسق ثقافي وسيلة لفرض هيمنته، ومنه مبرر أنّ فكرة الفحل الشعري، هي التي أدت إلى ظهور الطاغية السياسي.

خاتمة

- عطفا على ما سبق ذكره حول موضوعة "النقد الثقافي عند عبد الله الغذامي"، فإنّه يتبيّن لنا ما يلي:

-إنّ بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، أوجه اختلاف كثيرة، فإذا كان النقد الأدبي، يدرس النص وطابعه الجمالي رابطا إياه بالشاعر/ الكاتب، فإنّ النقد الثقافي مقابل ذلك، يعمل على قراءة الأنساق الثقافية ونقدها، متجاوزا الجانب البلاغي في النص، إلى كشف أو تفكيك جانبه الـمُضمَر، الذي تستعمله الثقافة لتمرير أنساقها، دون وعي من كاتب النص ذاته.

- لقد تبيّن للغذامي أنّ الشعر وحده يتحمّل وِزرَ ما لحق بالشخصية العربية من عيوب، ذلك أنَّه جعل منها شخصية شعرية فالشعراء العرب، كما يرى الغذامي، تميّزت شخصياتهم بالطَّمَعِ والنِّفاقِ والأنا المُتَضَخِّم ومنه وُصِف الشعراء العرب بفحول الشعر العربي، وهي سِمَةٌ مُتَرَسِّمَةٌ في الخطاب الشعري العربي، تسربت بالتالي إلى الخطابات والأنساق الثقافية الأخرى، التي انساقت وراء هذا البعد الشعري وانحرفت عما هو واقعي.

- إنّ الوضع الذي آلت إليه الثقافة والشخصية العربيتين، هو الذي جعل "النقد الثقافي" بالنسبة إلى عبد الله الغذامي مطلبا نقديا لابدّ منه، فقد كان الغذامي، مُتَفَتِّحًا على الفكر الغربي الراهن، كما امتاز بالرؤية النقدية للمفكر ما بعد-حداثي، الذي يفكّر خارج النسق لا داخله، فهو من أهم الذين تَبَنَّوا فكر ما بعد الحداثة، واستفاد من معارفها خصوصا اللسانيات والسيميولوجيا، وغيرها في نقد الأنساق الثقافية العربية، لكنّه لم يكن نقدا سلبيا هدّاما، وإنّما كان نقدا بناء هادفا، ينطلق من فضح تناقضات الثقافة، وكشف ألاعيبها المُضمَرة، ويسعى إلى إعادة بنائها نحو ما بعد الحداثة.

- لقد تمكّن الغذامي من بناء جهاز مفاهيمي خاص به يعبّر عن إسهامه الفعلي في تأسيس مشروع للنقد خاص بالثقافة العربية خصوصا مصطلحات "الوظيفة النسقية" و"الجملة الثقافية"، هذا إضافة إلى تعديله لأقسام الفعل التواصلي حيث أضاف عنصرا جديدا يساعد في نقد الأنساق الثقافية، ألا وهو "العنصر النسقي". أمّا التشريحية، فكانت أهم إسهامات الغذامي، التي على الرغم من أنها مستوحاة من التفكيكية كما تجلت معالمها في الرؤية ما بعد الحداثية عند جاك دريدا، إلا أنّ الغذامي نَحَتَ مصطلحا عربيا خاصا به، يكون أكثر تعبيرا عن كيفية تطبيق هذا المنهج، وكذا أكثر ارتباطا بالموضوعات الذي يطبق عليها، من خلال تشريح النصوص.

(1)- عبد الرحمان إسماعيل، من هو الغذامي؟، ضمن كتاب "الغذامي الناقد، قراءات في مشروع الغذامي النقدي"، تقديم عبد الرحمان بن إسماعيل، مؤسسة اليمامة الرياض، 2001، ص 8.

(2)- عبد الله إبراهيم، النقد الثقافي، مطارحات في النظرية والمنهج، ضمن كتاب جماعي "عبد الله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية"، ط3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأردن، 2003، ص 37.

(3)- حفناوي رشيد بعلي، قراءة في نصوص الحداثة وما بعد الحداثة، ط1، دروب للنشر والتوزيع، عمان، 2001، ص 198.

(4)- إدريس بلمليح، الرؤية والمنهج لدى الغذامي، ضمن كتاب "الغذامي الناقد، قراءات في مشروع الغذامي النقدي"، ص 17.

(5)- عبد الله بن أحمد الفيفي، قراءة في مشروع الغذامي، ضمن كتاب "الغذامي الناقد، قراءات في مشروع الغذامي النقدي"، ص 353.

(6)- عبد الله الغذامي، الموقف من الحداثة ومسائل أخرى، ط2، الرياض، 1991، ص 15.

(7)- "إن فكر "ما بعد البنيوية"، الذي يقترن في كثير من الأحيان بأعمال جاك دريدا، يتفحص فكرة الاختلاف بكل أوجهها، ويكشف أن سوسير، قد أبقى على بعض الافتراضات المسبقة (الميتافيزيقية) حول الذاتية واللغة (مثلا، تفضيل الكلام على الكتابة)، وهي بقايا (ضئيلة) من إطار المذهب التاريخي الذي لم يكن سوسير نفسه راضِيًا عنه. ويَدرُسُ فكر "ما بعد البنيوية"، الكتابة باعتبارها المصدر الإشكالي للمفارقة المتمثلة في: الذاتية والثقافة، في حين أنه كان يُعتَقَدُ في الماضي، بأنها ثانوية، والأمر الأهم، أن فكر "ما بعد البنيوية" هو بحث في كيفية قيام ذلك. وهنالك جانب آخر، من فكر "ما بعد البنيوية"، يشمل التساؤل الجذري بشأن "الآخرية" Otherness(لوفيناس وباتاي)، وكذلك بشأن العلاقة بين الذات والموضوع. وفي عمل دولوز، المُستَلهَمِ من نيتشه نجد أن "الشجرة" (وتعني البحث عن الجذور) الخاصة بعلاقة "الذات-بالموضوع" تتم مقارنتها بالجذمور Rhizome(ساق أرضية شبيهة بالجذر) العائد للفكر الأفقي، أو الفكر في حركة دائمة". أنظر: جون ليشته، خمسون مفكرا أساسيا معاصرا، من البنيوية إلى ما بعد الحداثة، ترجمة فاتن البستاني ط1المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ص 201.

(8)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، ط3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2005، ص 19.

(9)- حفناوي بعلي، مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن، ط1، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2007، ص 24.

(10)- بشرى موسى صالح، بويطيقا الثقافة، نحو نظرية شعرية في النقد الثقافي، ط1، دار الشؤون الثقافية العانة، بغداد، 2013، ص 5.

(11)- أرثرأيزابرجر، النقد الثقافي، تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسة، ط1، ترجمة وفاء إبراهيم ورمضان سبطاويسي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003ص 1.

(12)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 84.

(13)- سيد قطب، النقد الأدبي، أصوله ومناهجه، ط8، دار الشروق، القاهرة، 2003، ص 5.

(14)- يوسف حامد جابر، قراءة نقدية في كتاب "النقد الثقافي" لعبد الله الغذامي، مجلة "دراسات في اللغة العربية وآدابها"، العدد التاسع، تصدر عن جامعة سمنان الإيرانية بالتعاون مع جامعة تشرين السورية، 2012، ص 1.

(15)- بشرى موسى صالح، بويطيقا الثقافة، نحو نظرية شعرية في النقد الثقافي، المرجع السابق، ص 8.

(16)- يقول ميشال فوكو عن الثَّقَافَة: "كما لو أن الثَّقَافَة، إذ تتحرَّرُ في جزء منها في شبكاتها اللغوية والإدراكية والعملية، تُطَبَّقُ على هذه الشبكات شبكة ثانية تحيدها، وتقوم إذ تضاعفها، بإِظهارها واستِبعادها في الوقت نفسه"، أنظر: ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي بيروت 1990، ص 24.

(17)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 07.

(18)- يقول رومان ياكوبسون عن ارتباط الوظيفة الشعرية للغة بما هو فني وجمالي: " إن موضوع الشعرية، هو قبل كل شيء، الإجابة عن السؤال التالي: ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثرا فنيا؟ وبما أن هذا الموضوع يتعلق بالاختلاف النوعي الذي يفصل فن اللغة عن الفنون الأخرى، وعن الأنواع الأخرى للسلوكيات اللفظية، فإن للشعرية، الحق في أن تحتل الموقع الأول بين الدراسات الأدبية". أنظر: رومان ياكوبسون، قضايا الشعرية، ط1، ترجمة محمد الولي ومبارك حنور، دار توبقال، المغرب، 1988، ص 24.

(19)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 262.

(20)- عبد الله إبراهيم، النقد الثقافي –مطارحات في المنهج والنظرية والتطبيق-ضمن كتاب "عبد الله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية" ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2003، ص 39.

(21)- عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، النظرية والتطبيق، ط6، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006، ص 26.

(22)- عبد الله الغذامي، ثقافة الأسئلة، مقالات في النقد والنظرية، ط2، دار سعاد الصباح، الكويت، 1993، ص 70.

(23)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 12.

(24)- جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ط2، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، المغرب، 2000، ص 51.

(25)- رومان ياكوبسون، قضايا الشعرية، المرجع السابق، ص 25.                                                                                                                  

(26)- عبد الله الغذامي، الموقف من الحداثة ومسائل أخرى، المصدر السابق، ص 59.

(27)- عبد الله الغذامي، القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2009، ص 72.

(28)- عبد الله الغذامي، نقد ثقافي أم نقد أدبي؟، دار الفكر، دمشق، 2004، ص 45.

(29)- عبد الله الغذامي، القصيدة والنص المضاد، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994، ص 81.

(30)- عبد الله الغذامي، تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005، ص 120.

(31)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 119.

(32)- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

(34)- عبد الله الغذامي، نقد ثقافي أم نقد أدبي؟، المصدر السابق، ص 43.

(35)-  يعرف دريدا الكتابة قائلا: "إذا كنا نطلق كلمة لغة، على الفعل والحركة والفكر والتروي والوعي واللاوعي والخبرة والانفعال الخ. فإننا نميل الآن إلى أن نطلق كلمة "كتابة" على هذا، وعلى أشياء أخرى: لا نطلقها فقط على الحركات البدنية لعملية التدوين في الكتابة الأبجدية والكتابة التصويرية pictographiqueوالكتابة الرمزية idéographiqueولكننا، نطلقها أيضا على كل ما يجعل الكتابة ممكنة، ونطلقها أيضا فيما وراء الوجه الدال على الوجه المدلول "، أنظر: جاك دريدا، في علم الكتابة، ترجمة أنور مغيث، ط2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2002، ص 69.

(36)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 123.

(37)- المصدر نفسه، ص 192.

(38)- عبد الله الغذامي، تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، المصدر السابق، ص 124.

(39)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 5.

(40)- إدريس جبري، الإمكانيات والعوائق في المشاكلة والاختلاف، ضمن كتاب، الغذامي الناقد، قراءات في مشروع الغذامي النقدي تحرير وتقديم عبد الرحمان بن إسماعيل، مؤسسة اليمامة، الرياض، 2001، ص 32.

(41)- عبد الله الغذامي، القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة، ص 13.

(42)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 15.

(43)- المصدر نفسه، ص 168.

(44)- المصدرنفسه، ص 58.

(45)- المصدر نفسه، ص 62.

(46)- رومان ياكوبسون، قضايا الشعرية، المرجع السابق، ص 27.

(47)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 65.

(48)- عبد الله الغذامي، نقد ثقافي أم نقد أدبي؟، المصدر السابق، ص 27.

(49)- عبد الله الغذامي، نقد ثقافي أم نقد أدبي؟، المصدر السابق، ص 30.

(50)- المصدر نفسه، ص 28.

(51)- ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ط2، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1987، ص 76.

(52)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 83.

(53)- المصدر نفسه، ص 87.

(54)- استخدم الغذامي "التشريحية" كمرادف لكلمة "التفكيكية" التي يقول عنها جاك دريدا: "إن كلمة "التفكيك"، شأن كل كلمة أخرى، لا تستمد قيمتها إلا من اندراجها في سلسلة من البدائل الممكنة، فيما يسميه البعض ببالغ الهدوء "سياقا"، بالنسبة إلى، وكما حاولت أو ما زلت أحاول أن أكتب، لا تتمتع هذه المفردة بقيمة، إلا في سياق معين، تحل فيه محل كلمات أخرى، أو تسمح لكلمات أخرى أن تحدها: "الكتابة" écritureأو "الأثر" traceأو "الاخـ(تـــــ)لاف" deffarenceأو "الزيادة" supplémentأو "الهامش" margeأو "الباكورة" entameأو "الإطار" pareronsالخ"، ينظر: جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، المرجع السابق ص 62.

(55)- عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، النظرية والتطبيق، المصدر السابق، ص 48.

(56)- عبد الله الغذامي، ثقافة الأسئلة، مقالات في النقد والنظرية، المصدر السابق، ص 108.

(57)- حفناوي رشيد بعلي، قراءة في نصوص الحداثة وما بعد الحداثة، المرجع السابق، ص 196.

(58)- يقول رولان بارث عن المؤلف:"المؤلف شخص حديث، وهو من دون شك منتوج من منتوجات مجتمعنا، فالمجتمع حين خرج من العصور الوسطى مُعَضَّدًا بالتجريبية الانجليزية والعقلانية الفرنسية والإيمان الشخصي بحركة الإصلاح، قد اكتشف مكان الفرد، أو كما يقال بشكل أكثر نُبلًا، قد اكتشف "الشخص الإنساني"، وإنه لمن المنطقي إذن، أن يعقد المذهب الوضعي في مادة الأدب، أهمية عظمى على شخصية المؤلف، فهذا المذهب هو خلاصة الايديولوجيا الرأسمالية، ومحط غايتها". أنظر: رولان بارث، هسهسة اللغة، ترجمة منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، بيروت، 1999، ص 76.

(59)- عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، النظرية والتطبيق، المصدر السابق، ص 233.

(60)- قاسم المومني، عبد الله الغذامي وقراءة النص، ضمن كتاب، الغذامي الناقد، قراءات في مشروع الغذامي النقدي، المرجع السابق، 410.

(61)- يقول رولان بارث عن النص ما يلي: "إننا لنعرف الآن، أن النص ليس سطرا من الكلمات، ينتج عنه معنى أحادي، أو ينتج عنه معنى لاهوتي ("الرسالة"جاءت من قِبَلِ الله)، ولكنه، فضاء لأبعاد متعددة، تتراوح فيها كتابات مختلفة، وتتنازع دون أن يكون أي منها أصليا: فالنص، نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة"، أنظر: رولان بارث، هسهسة اللغة، المرجع السابق، ص 80.

(62)- عبد الله الغذامي، المشاكلة والاختلاف، قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في الشبيه المختلف، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994، ص 6.

(63)- عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المصدر السابق، ص 121.

(64)- المصدر نفسه، ص 122.

@pour_citer_ce_document

محمد بن سباع, «"النقد الثقافي" عند عبد الله الغَذَّامِي "من نقد النصوص إلى نقد الأنساق"»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ,
Date Publication Sur Papier : 2017-01-30,
Date Pulication Electronique : 2017-01-30,
mis a jour le : 24/02/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=2087.