النقد العربي المعاصر بين العلمية والابهار
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N° 25 Décembre 2017

النقد العربي المعاصر بين العلمية والابهار


مختار ملاس
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

لقد استطاع النقد الغربي أن يفرض نفسه علينا، فدخل ديارنا، ولم تمر فترة من الزمن حتّى احتضنته مدارسنا وجامعاتنا، وأصبح مجبرا على أساتذتنا أن يدرسّوه، ويتعمقوا فيه، وعلى طلبتنا أن يفهموا غثّه وسمينه، فيحفظونه في صدورهم، ويعظمون من شأنه. ولعلّ عدم وجود مصفاة أو غربال يغربل ما يؤلّفه المثقّف العربي ولا سيّما منه في النقد الأدبي، فقد حوصرنا بمؤلفات نقدية هجينة لا تّغني ولا تسمن من جوع، حتّى بات النقد العربي المعاصر غارقا في وحل من السفسطات والمماحكات والمغالطات.

ويأتي هذا البحث في سياق التعريف بالجانب المظلم من الحداثة النقدية العربية من خلال تتبّع حركة الثورة المضادة لهذه الحداثة منذ الرعيل الأوّل حتّى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.

الكلمات المفاتيح: النقد الغربي، النقد العربي الحديث، المثاقفة، العلمية، الابهار

La critique occidentale a pu imposer ses droits dans notre territoire, il est entre dans nos maisons, et dans un période courte il est embrassé par nos école, et par nos universités, ainsi il est devenu obligatoirement à nos enseignants et à nos étudiants de bien absorper ce critique, et de bien consulter Peut-être l'absence d'une passoire ou un tamis qui tamisé toute les créations des intellectuels arabes, surtout au domaine de la critique littéraire, nous étions encerclés par des œuvres vraiment Hybride et maigre, Ainsi, Cette recherche vient pour définir la côté obscur de la modernité critique arabe, en suivant le mouvement de la contre-révolution de la modernité depuis la première génération jusqu'à la première ère du XXIe siècle.

Mots-clés : critique occidentale - critique arabe moderne, scientifique - éblouissante

Western criticism has been able to impose its Straights on our territory, it enters our homes, and in a short period it is embraced by our schools, and by our universities, so it has become obligatory to our teachers and our students to properly absorb this criticism, and to consult well

Perhaps the absence of a strainer or sieve that sifted all the creations of Arab intellectuals,Perhaps the absence of a strainer or sieve that sifted all the creations of Arab intellectuals, especially in the field of literary criticism, we were surrounded by truly Hybrid and lean, Thus, this research comes to define the dark side of Arab critical modernity, following the movement of the counterrevolution of modernity from the first generation to the first era of the twenty-first century

Keywords: Western Criticism - Modern Arab Criticism - Academic - Scientific – dazzling

Quelques mots à propos de :  مختار ملاس

أستاذ محاضر أ،  قسم اللغة والأدب العربي، كلية الآداب واللغات، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف2.

إذا كان النقد الغربي قد سعى إلى تجديد رؤاه النقدية إلى العمل الأدبي من خلال منظومته الفكرية والفلسفية، وهو ما يحسب له، ويرفع من شأنه، فإنّ النقد العربي في هذا العصر إنّما يعيش ويقتات من فضلات موائد الغرب، فهو إلى ذلك لم يأخذ من الحداثة إلاّ اسمها، ولم يعرف من التجديد إلاّ قشوره، حتّى كدنا أن نتّفق مع قول أحدهم ألاّ وجود "لنقد عربي، بل لمثقفين عرب يمارسون النقد الأدبي"1. فمنذ الأطروحات الأولى لما نسميه بالحداثة النقدية العربية كانت عقول الغربيين هي الّتي تفكّر، وألسنهم هي الّتي تُملي، وأيديهم هي الّتي تخطّ، ولئن استطاعت الأصالة اللغوية والتشبّع بالتراث لدى نقاد الحداثة العربية الأوائل أن تحميهم من السقوط في أحابيل الثقافة الغربية، حيث مع الانبهار الشديد بهذه الثقّافة البرّاقة ظلوا محتفظين ببعض خصوصيتهم العربية، فإنّ غيرهم قد جرفهم السيّل، وسحرهم البريق، فإذا بهم-وهم على ذلك النحو-يغرقون في الوحل، فيترهّل فكرهم، وتتهاوى قصورهم الّتي كدّ في بنائها أجدادهم.

لقد تاه النقد العربي المعاصر في حداثته، داخلا في حالة من الاغتراب اللغوي والفنّي، بحيث إنّك لا تجد كتابا يتطرق إلى النقد الحداثي، فيلامس نظرية او مدرسة او منهجا إلا وتجد صاحبه وهو يتحدّث عن أساتذته الغربيين وكأنهم رسل وأنبياء لا ينبغي أن يناقش كلامهم، فتردّ آراؤهم. فطروحاتهم أيا كان مصدرها ووزنها فإنّها قانون ودستور يجب أن تُثبّت أركانه، وتُرسى مراكبه. ولذلك كان الفخر كلّه أن تكون المصادر التي تنهل منها هي تلك التي لا تكون بهذا اللسان العربي المبين، فإن كانت باللغة الفرنسية أو الإنكليزية فذلك أفضل، ولا ضير إن كانت باللغة الصينية والاسبانية أو غيرهما، ذلك أن الحرف العربي أصبح علامة على التخلّف والرجعية. ومن أنكر هذا الرأي فلينظر شبيها له عند عامة النّاس.

لقد أصبحت الإحالة إلى أحد من الغربيين أيّا كان اسمه أو وزنه العلمي حجّة لصاحبه، أمّا وأنّ هذا الاسم من كبارهم كرولان بارت وجوليا كريستيفا وريفاتير وكلود ليفي ستراوس وغيرهم فذلك برهان وسلطان مبين، تتماهى في حضرته كل الحجج العربية أيا كان شأنها وفي أيّ زمان كانت قديما أو حديثا. فلم تعد أسماء من مثل الجاحظ وابن طباطبا وقدامة والقرطاجني ترعب كما كان الأمر عند المتأخرين وبعض رواد الحداثة.

لقد أصبحت كلمة أجنبي صفة ترفع كلّ شيء، وكلمة عربي صفة تشوّه كلّ شيء، وأصبح الناقد العربي مثل بسطاء هذه الأمة المخذولة لا يسأل عن قيمة الأشياء، لأنه يكفيه أن يعرف أصحابها، ومهما كانت الشعارات المرفوعة من قبل بعضهم مثل شعار سلطة النصّ وموت المؤلف، يبقى الأمر في حدوده النظرية لا يتعداه إلى أكثر من ذلك.

وفضلا عن قيمة المصدر الأجنبي وثقله في الفلسفة النقدية العربية المعاصرة، يعتمد الناقد العربي المعاصر في تلميع أطروحاته النقدية على تلك النصوص الغربية الغريبة الغامضة التي تكثر فيها التصنيفات والتفريعات التي توحي-حسب ظنّهم-بالصحة والعلمية التي أصبحت الركن الذي يركن إليه كل شيء. ولا يكتفي الناقد بالأفكار الغامضة، وإنّما يحوكها، كما هو حال أساتذته الغربيين، في لغة غريبة متقعّرة حتّى يظنّ الظانّ أنّ ما كتب إنّما هو الحقّ بعينه، والحقيقة عينها. 

ولقد يثور بعضهم منكرا هذا التحامل على النقد الغربي بدعوى أنّ الذي جعل هذا النقد يفرض نفسه في الفلسفة النقدية العربية المعاصرة هو قيمة ما يطرحه من أفكار، وما ينيره من عتمات، ونحن أيضا لا ننكر الجانب المشعّ من هذه الثقافة الغربية، ولكننا قد ننكر أيّما إنكار حالة الانبطاح التي آل إليها النقد العربي في تلقيه لهذه الثقافة التي تختلف في مصادرها وطرائقها وغاياتها عن الثقافة العربية. لقد أصبحنا ونحن نتصفح بعضا من الكتب النقدية الحديثة لبعض النقاد العرب نظنّ أنّنا إزاء كتب مترجمة، لا كتبا ألّفها نقاد عرب، وذلك لما نجد فيها من امتهان للفكر الغربي لغة وأسلوبا وعقيدة. إنّ هؤلاء (النقّاد) أطاحوا بأهرامات وجبال من العلماء التراثيين بدعوى أنّ المنهج العلمي لا يعترف إلاّ بالنصّ وحدوده، في حين أنّهم قدسوا وألّهوا كثيرا من فلاسفة الغرب ونقادهم، حتّى بات كلامهم إنّما هو وحي يوحي، انظر إلى ذلك عندما تُذكر أسماء من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو.

فيتلقي الحداثة النقدية العربية

ورغم الانبطاح شبه الكلي الذي عايشته الثقافة النقدية العربية في تلقيها للمنجز النقدي الغربي منذ مراحلها الأولى إلى الوقت الراهن، فإنّ ذلك لم يمنع من تعالي بعض الأصوات تنكر هذا المسخ الذي آل إليه النقد العربي الحديث الّذي تحول فيه الناقد العربي من منتج وفاعل إلى مجرد بوق يهلل للثقافة الغربية، ويمتاح من مخزونها من دون وعي وتبصّر. لقد رفض هؤلاء النقاد السكوت على شخير بعض من الغارقين في التغني بجمال الثقافة الغربية ورجالاتها، فلم يرضوا أن يكونوا مجرد شطاح في حضيرة هذه الثقافة الممسوخة.

1الحداثة العربية والرعيل الاول

ولقد كان للرعيل الأول الدور الأول في هذا الذود، حيث تكفّل عدد من النقاد بالنهوض بمهمة الدفاع عن الإرث العربي في جوانبه الفكرية والدينية والأدبية ضدّ تلك الحمالات الشرسة التي تسعى الى تدليسه، في محاولة لمسخ الثقافة العربية وتغريبها. ونظرا لأنّ طه حسين كان أكثر المتهجّمين على الثقافة العربية وتراثها، المتودّدين إلى الثقافة الغربية وأقطابها، فإنّه كان كذلك أكثر من تعرض للهجوم من قبل من كانوا آنئذ حائط الصدّ ضد كلّ من تسوّل له نفسه العبث بمقداسات هذه الأمة.

ويعدّ كتاب «طه حسين في ميزان العلماء والأدباء» خير دليل على ما قام به هؤلاء العلماء الأجلاّء في سبيل مقاومة تلك الأفكار الهدّامة الّتي كان يحاول طه حسين وأتباعه أن ينفثوا من خلالها سمومهم في قلب هذه الثقافة الأصيلة، ظنّا منهم أن هذه الثقافة قد فقدت عبقها ونظارتها، وأنّه قد آن الأوان أن تُجدّد دماؤها، وتُبتر بعض أغصانها. ولقد جمع فيه صاحبه الأستاذ محمود مهدي الاستنبولي ثلة من صفوة هذه الأمة من أمثال مصطفى صادق الرافعي، محمود محمّد شاكر، أنور الجندي، محمّد الخضر حسين وغيرهم ممّن استخدموا أقلامهم في الردّ على بعض مهاترات وشبهات طه حسين.

ويتجلّى من خلال هذا الكتاب مدى شراسة الهجوم الذي شنّه هؤلاء العلماء ضدّ طه حسين، واصفين إيّاه مرة بالعميل2، ومرة بالجاهل العصبي المقلد3، حتّى لقد أشفق عليه الأستاذ محمود شاكر-كما قال- "من بدورات عبقريته، فهي تصوّر له الأشياء كما يريدها هو، لا كما يجب أن تكون، فيتورط، فيحتال فتكون حيلته كالكذبة البلقاء لا تجد ما يسترها"4. وهكذا لم يكن طه حسين عند هؤلاء جميعا، كما أشار إلى ذلك محمود مهدي الاستنبولي-مجرد "بوق من أبواق الغرب، وواحدا من عملائه الّذين أقامتهم لخدمة مصالحه، وتنفيذ مخططاته، وترويج حضارات وثقافته، ليدفع المسلمين إلى الخضوع له"5.

ورغم قوة هذا الرعيل الأول وشدة بأسه إلاّ أنّ محاولاته في كبح جماح أولئك المسحورين بالثقافة الغربية قد باءت بالفشل، وذلك أنّ الظلام الّذي كان يغطّ فيه المجتمع العربي قد جعل كلّ ما يلمع يحسبه الناس ذهبا، حيث إنّ المغلوب-وهو حال الامة العربية في تلك الفترة-مفتون دائما-كما قال ابن خلدون-باتباع الغالب الذي كثيرا ما يسحر المغلوب ببعض اللآلئ المزيّفة. إنّ الأفكار الجديدة التي جاء بها أنصار الحداثة قد جعلت الكثيرين ممّن غشاهم الظلام، فسحرهم البريق، يهرولون نحوها غير عابئين بخلفياتها الفكرية والفلسفية ذات المرجعيات الدينية غير الإسلامية.

وتجدر الإشارة ههنا إلى أنّ جانبا من هذا الفشل الذي منيت به محاولات هؤلاء العلماء في تنوير القارئ العربي وتنبيهه إلى خطورة ما يحاك ضدّه من مؤامرات باسم الحداثة والعولمة إنّما مردّه إلى الطريقة التي استخدموها في مجابهتهم لهذا التمرّد الفكري والأدبي، حيث كان العنف اللفظي والمعنوي هو سلاح الكثير منهم، وهو سلاح قد يقوّي من شوكة الخصم، ويزيد من قناعة القرّاء بصحة ادعاءاته، فضلا على أنّه يجب الاقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلّم الّذي قال: «من تعلّم لغة قوم أمِن شرّهم». وتعلم اللغة هنا ليس المقصود به الجانب اللفظي وحسب، وإنّما الفكري أيضا، ذلك أنّ معرفة فكرهم معرفة صحيحة قد تجعلنا أكثر قدرة على ردّ افتراءاتهم وأكاذيبهم، ومن دون ذلك ستبوء كلّ المحاولات بالفشل الذريع.

وقد يكون أحيانا كلام رجل من عامة الناسّ أبلغ أثرا في نفوس العامة من عالم الدين أو الفيلسوف أو المفكر الكبير، ذلك أنّ عامة النّاس قد تنظر إلى هؤلاء على أنّهم لا يعرفون كثيرا من أحوالهم، ومن ثمّ، فلا يحقّ لهم أن يتحدّثوا بدلا عنهم، أو يفتوا لهم في أمورهم الخاصّة. وشبيها بذلك حال هؤلاء العلماء بالنسبة للقارئ العربي المهووس بالحداثة والحداثيين، فهو لن يقبل منهم لأنّهم-حسب رأيه-كلاسيكيون ورجعيون وظلاميون وأجلاف، تحجرت عقولهم، وكسُدت أفكارهم، فلا يجدر به أن يصغي لأقوالهم، أو يمتثل لأوامرهم ونواهيهم. ولهذا كان التأثير الذي يحدثه كلام واحد من الحداثيين أو من يُظنّ أنّه منهم، في نفوس هؤلاء القرّاء أو مريديهم أعظم أثرا من كثير من الحجج والأدلة التي قد يقدّمها المحسوبين على التيار المضاد للحداثة. 

ويجب أن نشير ههنا إلى أنّه-كما ذكرنا آنفا-أنّ تيار الحداثة في بداية النهضة العربية لم يستطع أن يجرف إلى أعماقه إلا قلّة قليلة من نقاد الأدب العربي، حيث ظلّ الكثيرون محافظين على بعض ماء وجوههم، وظلّ اعتزازهم بتراثهم بمثابة الحصن الحصين الذي صانهم من الانغماس في وحل الحداثة الغربية. فرغم سعيهم نحو تحديث الفكر النقدي والادبي العربيين من خلال استلهام منجزات الثقافة الغربية، إلاّ أنهم كانوا حريصين على عدم التماهي في هذه الثقافة، وذلك بحسن الأخذ والاقتراض، وفي هذا الشأن يمكن أن نحيل إلى ما ذكره أحد أعمدة النقد العربي الحديث صاحب أشهر كتاب حديث في تاريخ النقد الأدبي عند العرب، الأديب والمترجم إحسان عبّاس، وذلك من خلال الحوار الّذي أجراه معه كلّ من فيصل دراج ومريد البرغوثي، حيث قال: "إنّني ضدّ (الاقتراض الشديد) الّذي يجعل الإنسان يتصرّف بما لا يخصّه. لا خلاف على ضرورة الاستفادة من الثقافة النقدية الغربية، شريطة إدراجها في منظور متميّز يعرف الفرق بين إشكاليتنا الثقافية وإشكالية الآخر، لقد استفدت شخصيا من ثقافة الغرب، غير أنّني كنت أحوّل هذه الثقافة إلى عنصر من العناصر المتعدّدة الّتي أتعامل بها مع النصّ المدروس، والّذي ينتمي إلى بيئة ثقافية خاصّة به، ومن دون هذا التخصيص، فإنّ الدارس يقع في وهم فكري مزدوج، ينكشف الوهم الأوّل في انتقال التاريخ الثقافي العربي، ويتجلّى الوهم الثاني في جهل التاريخ الثقافي للآخر، وكما معروف، فإنّ العملية النقدية مرآة للوعي التاريخي الذي يكتشف الفوقي بين نصوص مختلفة، ويتعرّف على الأسباب التاريخية"6.

ولم تكن هذه التحذيرات الّتي كان يُدلي بها بعض من أنصار الحداثة كافية لإيقاف زحف قطار الحداثة في النقد الأدبي، ذلك أنّ كل ممنوع مرغوب، ولا يكفي المرء هنا مجرد التنبيه والنصح، وإنّما يحتاج الأمر إلى وعي كبير بالمرحلة، وبحث مستميت عن الوسائل الكفيلة لإنارة الفكر العربي المعاصر بخطورة الانفتاح اللامشروط على الثقافة الغربية. وبناء على ذلك فإن شوكة الحداثيين وأنصارهم بدأت تقوى أكثر فأكثر، ولم تعد النصائح والتحذيرات تؤثّر في السامعين والمتلقّين. ويوما بعد يوم حدث نوع من الخفوت للثورة المضادة للحداثة الغربية، وهو ما جعل الباب يُفتح على مصراعية، فتخلو الأرض لأنصار الحداثة كي يُقيموا صروحهم، ويعلوا قبابهم، حتّى أوشك ظلامهم أن يغطى كلّ شيء.

2أزمة الحداثة العربية والثورة المضادة

ولقد ظنّ أنصار الحداثة ومريديهم أنّ ظلامهم الدامس قد أرخى سدوله، فانطفأت كلّ الشموع والمصابيح التّي كانت تسعى إلى إنارة بعض العتمات، لكن هيهات ... هيهات، فقد ظلت بعض الأصوات تظهر بين الحين والآخر تبدي انزعاجها من هذا المدّ الحداثي الرهيب الّذي أتى على الأخضر واليابس، ففقد بعتمته نظارة النقد أوّلا، ثمّ ما لبث أن أفقد نظارة الأدب أيضا.

ولقد كان العقد الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين بمثابة انتفاضة كبيرة في وجه الحداثة والحداثيين، حيث ما انفك العديد من نقاد الحداثة أنفسهم، أو من حذى حذوهم يلوحون برفضهم للحداثة التي لا تتواصل مع التراث، منكرين هذا الاندفاع اللاوعي لبعض النقاد العرب نحو هذا العالم المتهالك الذي أصبح غثّه أكثر من سمينه. وفي هذا الشأن يُبدي أحد الباحثين أسفه من تلك الندوات والملتقيات التي ما زالت تقام هنا وهناك احتفالا بالحداثة الغربية ومناهجها ونظرياتها، مع أنّ الوعي بالأزمة في نقدنا العربي قد كان بين 1991و1995، محتجّا في ذلك بالمؤتمر الدولي الموسوم بـ (النقد الأدبي في منعطف القرن) الّذي عُقد في القاهرة سنة 1998م، حيث صرف نظره عن كثير من المشكلات التي يعاني منها النقد العربي، موجّها اهتمامه فقط نحو اتجاهات وقضايا النقد الغربي في منعطف القرن العشرين7.

ولقد اختار الباحث حجازي أن يسم كتابه بـــــ (النقد العربي وأوهام الحداثة) كي يؤكّد بما لا يدعو إلى الشكّ أنّ الحداثة عموما، والحداثة العربية على وجه الخصوص قد أثبتت فشلها، وهي اليوم في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في كثير من جوانبها. وقد أبان الباحث في هذا الكتاب عن رفضه الشديد للمناهج النقدية المعاصرة التي تزعم أنّها تسعى إلى تحقيق الصرامة العلمية، ذلك أنّ النقد الأدبي "ليس علما ولا يمكن أن يكون كذلك في يوم ما، وأنّ ما يردّده ممثّلو الحداثة العربية، وما بعدها، في هذا الصدد، ليس صحيحا. حقّا حاول النقد، في النصف الثاني من القرن العشرين أن يضع نفسه في صفوف العلوم الإنسانية والتجريبية، انطلاقا من سعيه نحو تأسيس نظرية لغوية مجرّدة، تستند إلى المبادئ الكلّية والقوانين العامة على ضوء منهج الملاحظة، ومنهج اختبار الفروض. ولكن هذه النظرية، وتلك المناهج ليست كافية حتّى يصبح النقد علما من العلوم، نظرا لأنّه لا يمكنه أن يضع إطارا نظريّا عامّا لدراسة الآثار الأدبية بوجه عام، لأنّ طبيعة النظرية النقدية ذاتها، لا تسمح لنا بإنجاز النظرة الكليّة المجرّدة الّتي ينجزه العلم الوضعي"8.

وهكذا فإنّ هذا الباحث يعيب على بعض رواد الحداثة العربية-وقد استشرى الأمر بعد ذلك-لما وقعوا فيه من خلط، وذلك حينما تصوّرا أنّ الظاهرة الأدبية تحمل الأعراض نفسها الّتي تحملها الظاهرة الطبيعية، ومن ثمّ فقد حاولوا أن يستعينوا بمناهج العلوم التجريبية والطبيعية لتحليل وتفسير الظاهرة الأدبية، مع أنّ الفرق بين الحالتين واضح وجليّ9.

وبناء على ما توصل إليه أحد الباحثين، يذكر لنا الباحث حجازي جملة من مظاهر أزمة النقد العربي:

1التغريب الناتج عن تطبيق مناهج النقد الغربي بقضّها وقضيضها.

2نقل عدد من المناهج الصادرة عن عقلية رؤية ماديّة لا يمكن تطبيقها على أدبنا من جهة، وتلبيس الماضي منجزات المدارس الغربية المعاصرة من جهة أخرى.

3الغموض والإبهام والتعقيد في لغة الناقد ومناهج بحثه.

4قطع الصلة بالقيم، في المستويين الأدبي والنقدي، والتراخي أمام الحديث والأخذ منه دون فحص أو تأمّل.

5العفوية والعشوائية في التعامل مع الفكر الوافد، وعدم الاكتراث بخصوصية الثقافة العربية، وعدم حسم مشكلة المصطلح، وما يثيره من بلبلة وسوء فهم في التناول والترجمة.

6سوء الترجمات وعدم قدرتها على توصيل المعرفة توصيلا حقيقا.

7شيوع أسلوب المعادلات الرياضية والرموز الجبرية على نحو لا يتحمّله النصّ.

8غياب التهيؤ الذهني العلمي في حقل الدراسات الأدبية10.

إنّالهموم التي طرحها سمير حجازي هي هموم عدد من النقاد والباحثين في هذه المرحلة. ويعدّ الباحث والناقد وليد قصاب أحد هؤلاء النقاد الغيورين على النقد العربي والهوية العربية الإسلامية، وقد كان كتابه (مناهج النقد العربي الحديث- رؤية إسلامية) محاولة من الباحث للنظر في غثّ هذه المناهج النقدية وسمينها.ولقد أقرّ الباحث في مقدمة هذا الكتاب أنّ مادته هي في أصلها محاضرات ألقاها على طلبته في الجامعة، وأنّه قد لمس لديهم معاناة وشكوى- كانت من قبل معاناته وشكواه- "من صعوبة هذا النقد الأدبي الحديث وطلسمة عباراته ومصطلحاته، وكثرة جعجعته حول طحين قليل قديم، ومع ذلك فقد ضُخّم هذا النقد الغربي بعرضه في المرايا المحدبّة"11.

 وهكذا فإنّ الباحث ينعت هذا النقد الأدبي الحديث، في موضع آخر، بأنّه نقد "مأزوم مؤُوف بالعلل (...)، يُشتكى من عبثيته بعضه ولا معقوليته، ومن طموحه وشططه، ومن دكتاتوريته وأحاديته، ويُشتكى من غموضه وعتمته، ومن عدم تأثيره وجدواه، ومن مماحكاته اللفظية العبثية، وتلاعب بالنصوص ودلالاتها، ويُشتكى من غربته عن طلبة العلم، بل أساتذتهم المتخصصين أنفسهم"12.   

كما يؤكد الباحث وليد قصاب الحقيقة الّتي أصبحت معروفة عند خاصة أهل النقد وعامتهم، والّتي ألمحنا إليها سابقا؛ وهي أنّ النقد العربي الحديث ما هو إلاّ نسخ مشوّهة أحيانا عن النقد الغربي، فهو يحذو آثاره- على حدّ قول الباحث- حذو القذّة القذّة. ولذلك كانت أزمته أزمة متعدّدة وخانقة، فهو لم يرث عن النقد الغربي كلّ علاّته وآفاته وحسب، وإنّما حمل فوقها أوزارا كثيرة13. وتكمن أعراض أزمة النقد العربي الحديث حسب الباحث في النقاط الآتية:

1-"أنّ هذا النقد المحتذى هو نتاج فكر غربي صادر عن حضارة غير حضارتنا، لذلك فإنّ الأبده من البدهي أن يكون ملوّثا برؤى وتصوّرات وفلسفات تخالف رؤانا وتصوّراتنا الإسلامية والعربية.

2-أنّ هذا النقد العربي مستمدّ من الأدب الغربي، وهو أدب ذو نكهة ومذاق ورؤية مضمونية وفنّية يخالف كثيرا منها ما هو معروف في آدبنا العربي الاسلامي.

3-أنّ العيش على مائدة الآخر هو نوع من التلاشي فيه، والغرق في يمّه، هو ضرب من الانمساخ أمامه، والانبهار به. وفي ذلك كلّه ما لا يليق بحقّ العقيدة، ولا الهوية، والكرامة الإنسانية.

4-ثمّ إنّ التعبّد في محراب هذا الفكر الغربي وحده-وإن كان صالحا، وما الكثير منه كذلك-والاكتفاء بمجرد اجتراره أو محاكاته، هو قتل لروح الإبداع فينا، وتشجيع على الانمساخ والاتكالي. إنّ التقليد يغتال التفكير المتوثّب، ولن تشرق شمس الحضارة الإسلامية العربية من جديد إلاّ إذا ارتدت عباءة الآباء، وخلعت عباءة الغرباء"14.

وإلى جانب هؤلاء الباحثين الّذين جندوا أنفسهم للتصدّي لهذا الاغتراب النقدي الّذي ما انفكّ ينخر مفاصل الهوية العربية الإسلامية، علت، في هذه المرحلة أيضا، أصوات أخرى من أبناء الحداثة أنفسهم، أصوات لم يرقها ذلك التفسخ والترهل الذي آل إليه النقد العربي المعاصر، فآثرت ألاّ تظلّ صامتة، وأن يعو صوتها ليفضح جانبا من هذه الحداثة المزعومة.

ولعلّ حجتنا في هذا المقام هو زعيم الدراسات الأسلوبية في نقدنا العربي الحديث، الناقد والباحث سعد مصلوح الّذي لم يقف صامتا إزاء ما يُنتهك من جرائم في حق الفكر العربي باسم الحداثة والتجديد، حيث يقول هذا العَلَمُ في معرض حديثة عن أزمة التواصل العلمي في الدرس الأسلوبي العربي: "إنّ ثمّة كلمة لا مناص من إيرادها صدد أزمة التواصل العلمي البادية بين المشتغلين بالدرس الأسلوبي العربي وغيرهم من النقّاد، وهي أزمة قاطعة لرحم العلم الواشجة، وكابحة لأسباب التحديث والتطوّر. ولعلّه من طبائع الأمور أن يُلْقِيَ كلا الفريقين بالتبعة على صاحبه. بيد أنّ الإنصاف يقتضينا أن نكون أدنى إلى التماس العذر لأهل المحافظة منّا إلى تبرئة ساحة دعاة التحديث. إن الدّرس الأسلوبي العربي المعاصر يكابد العلل القادحة ما يُكابد على يد بعض دعاته، وعلى يد من يَسْتَذْرُونَ بِجَنَابِهم صدقا أو دعوى. فليس حقيقا بالرّيادة من ينقطع عن قضايا لغته وتراثه، حتّى لكأنّه يحرق من ورائه سفائن «طارق». وليس حقيقا بها من يجعل من الإغراب على القرّاء بالمصطّلح الأجنبي والتترّس بأعلام الفرنجة ميزة يتمزّى بها على بني ثقافته، وَوَزَرًا يحتمي به من مواجهة النصّوص، ومن يتصدّى للترجمة ونقل الفكر عن مصادر الأسلوبيات في الغرب دون أن تستحكم أدواته اللغوية والمفهومية، فيخرج على النّاس بمعَمَّيَات أجاءت الكثيرين منهم إلى اطّراح أمر الجديد بالكلّية. دعك من كثرة كاثرة لا ترى منهم إلاّ كلّ هجوم على ما لا يحسن، يجتاز لنفسه أخطر العنوانات، فيورد تحتها أهون الكلام، طلبا للمثالة بين الّناس. وبِدارًا يعالجها العارفون المتلبثون"15.

ولئن كنّا لا ننكر قيمة هذه الأصوات في هذه المرحلة، والصدى الّذي أحدثته في نفوس كثير من القراء، فإنّ ذلك لم يكن كافيا لردع زحف قطار الحداثة العربية الذي كاد أن يقضي على كلّ ما كان يشعّ في أرض النقد العربي. ورغم كثرة هذه الأصوات أحيانا فإنّ صداها كان خفيفا ومتفرّقا لم تكن له القدرة الكافية للتمكين لنفسه، وفرض هيمنته في وجه هذا المدّ الحداثي المتكالب. ولقد كان النقد العربي المعاصر في حاجة كبيرة إلى اليد الطولى التي تأخذ بيده لتنقذه من الغرق المحتوم في أوحال ما أصبح يُطلق عليه اليوم اسم الحداثة.

عبد العزيز حمودة منارة النقد المعاصر

لئن كانت كثير من هذه الأصوات لم تستطع أن تلفت الأسماع إليها، فلقد ظهر الصوت الذي يقضّ المضاجع، ويخرم الاسماع، إنّه صوت الناقد الخريت عبد العزيز حمودة، هذا العلم الذي في رأسه نار قد رفع عقيرته عاليا، منددّدا بما آل إليه النقد الحديث من تسفيه للثقافة العربية، وتمجيدا وتعظيما للثقافة الغربية. لقد كان الأستاذ عبد العزيز حمودة فلقة من فلقات الفكر النقدي المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت ثلاثيته (المرايا المحدبة)، (المرايا المقعرة)، (الخروج من التيه) بمثابة الضربات القاسمة لظهر الحداثة النقدية بشقيها الغربي والعربي. ولعلّ كتابه المرايا المقعّرة هو، بشهادة أحد اعلام النقد العربي الحديث (جهاد فاضل)، "أحد أهم الكتب الأدبية والفكرية العربية التي صدرت في الحقبة الحديثة. ذلك أنّ الكتاب لا يهدف فقط إلى رد الاعتبار للبلاغة العربية وحدها، بل وأيضا إلى قيم ومفاهيم ومصطلحات كثيرة فقدت معناها أو جرى تشويهها على مدى ربع القرن الماضي، على أيدي من يسمّون الحداثيين الّذين أساؤوا أيّما إساءة ليس إلى الحاضر الأدبي وحده، بل إلى الماضي التراثي بوجه عام"16.

ويمكن أن نرصد مظاهر القوة في صولة حمودة النقدية في النقاط الآتية:

1-إنّ عبد العزيز حمودة ليس فقيها من الفقهاء، ولا شيخا من الشيوخ، وإنّما أحد أبناء الحداثة العربية، شرب من مائها، واستنشق هواءها، فهو أستاذ الأدب الانجليزي، خريج جامعة كورنيل الامريكية التي نال منها درجة الماجستير والدكتوراه في الأدب المسرحي، معظم مؤلفاته تجري في نطاق المثاقفة مع الآخر، ومعظم مصادره ومراجعه غربية بحتة. وهو ما يجعل آراءه لها الأثر في نفوس أنصار الحداثة الذين كثيرا ما كانوا يتمسّحون فيمن نقدوهم من الشيوخ وعلماء الدين وأنصار التراث بعدائيتهم للتجديد والتغيير، وبرجعيتهم وتصلّب فكرهم، فهم يخوّفونهم "عن طريق التلويح بهذه التهمة، آملين أن يضعوهم موضع الدفاع عن أنفسهم أو الصمت عنهم"17.

2-إنّ الّذي جعل صوت حمودة يحدث ذلك الأثر في النفوس هو أن الناقد لم يكشف زيف الحداثة والحداثيين من الخارج، وبالوسائل التي عادة ما يستعملها التراثيون في تصديهم لبعض أنصار الحداثة، وإنما كشف زيفها من الداخل، حيث استخدم وسائل الحداثيين أنفسهم، وحاربهم بأسلحتهم وذخائرهم. فلم يكن عبد العزيز حمودة مجرد واحد من أولئك الذين أغضبهم سفه بعض الحداثيين وشططهم في تبني أفكار الغربيين، والدفاع عنها أيا كانت قيمتها ومصدرها، وإنّما كان رجلا فقه دهاليز الحداثة ودواليبها، ووعى وهادها وتلالها، وخبر سافلها وعاليها، وهو ما أهّله أن يكون محاربا شرسا يرمي القنابل فلا تخطأ رميها.

3-لم يكن عبد العزيز حمودة واحدا من أولئك النقاد الذين أصابهم الغثيان مما آلت إليه الحداثة النقدية العربية، فأخذوا خطّ الدفاع، محذرين ومنبّهين من أزمة النقد العربي المعاصر، وإنّما آثر الهجوم على الدفاع، آثر الزحف على البقاء في خندق النصح والتحذير، فكانت ثورته على الحداثة العربية ثورة شاملة وعامة اتسمت بالقوة والصرامة والحدة والرزانة والهدوء، وهو ما شهد له بها أحد رواد الحداثة العربية؛ الناقد محمود الربيعي الذي قال في سياق تنويهه بكتابه (المرايا المحدبة): لم يحدث-على قدر علمي- أن نوقشت أراؤهم (يقصد الحداثيين) من قبل بمثل هذا الهدوء والشمول اللذين ظهرا في كتاب عبد العزيز حمودة «المرايا المحدبة»"18.

لقد شنّ عبد العزيز حمودة حربا شعواء لا هوادة فيها على أنصار الحداثة الذين مسخوا النقد العربي، فأفقدوه نظارته وبهاءه، وألقوا به في غياهب الظلمات، حتّى بات غريبا لا نعرف منه إلا اسمه. لقد تحوّل النقد على يد من يسمّون أنفسهم حداثيين إلى مجرد هذيان وخزعبلات، لا ماء فيه ولا هواء، وكأن نقاد الحداثة ما هم اليوم إلاّ مدمنو مهلوسات، فهم يهذون بكلام أبعد ما يكون عن العلمية والعقل.

ولقد بدا اتزان حمودة في طريقة نقده للنقد العربي المعاصر، حيث إنّ امتعاضه من ضحالة هذا النقد وترهله لم يٌفقده توازنه، فيثور على الحداثة ذاتها رافضا لها شكلا ومضمونا، وإنّما كان مالكا لزمام نفسه، متّسما بالحكمة والرزانة. فهو ليس ضدّ تحديث الخطاب الإبداعي والنقدي، لأنّ ذلك أمر طبيعي يدعو إليه التطوّر والتحوّل في الحياة الإنسانية، حيث يقول في هذا الشأن: "أعرف جيدا أنّ البعض سيسارع إلى اتهام هذا الكتاب بالرجعية. لكن الحقيقة أنّ هذه الدراسة ضد الحداثة. لقد عشنا قرونا طويلة من التخلّف الحضاري يجعل الحداثة ضرورة من ضرورات البقاء، وليست ترفا فكريا. لكن السؤال الّذي تثيره الدراسة الحالية في إلحاح لست نادما عليه هو: أيّ حداثة نعني؟ حداثة الشكّ الشامل، وغياب المركز الرجعي، واللعب الحرّ للعلاقة، ولا نهائية الدلالة، ولا شيء ثابت، ولا شيء مقدّس! والإدارة الّتي تخلص إليها الدارسة واضحة «نحن فعلا بحاجة إلى حداثة حقيقية، تهزّ الجمود، وتدمّر التخلّف، وتحقّق الاستنارة، لكنّها يجب أن تكون حداثتنا نحن، وليست نسخة شائعة من الحداثة الغربية»"19.

وهكذا فإنّ عبد العزيز حمودة لم يكن ضد الحداثة بما هي تجديد وتطوير، وإنّما كان ضدّ الحداثة المزيّفة، تلك الحداثة التي تعتمد على كثير من المساحيق ومواد التجميل من أجل تلميع صورتها، فتظهر جميلة وفاتنة، مع أنّها قبيحة ومشوهة. ولقد وقع الكثيرون مفتونين ومنبهرين بصورة النقد الحداثي، وكان من هؤلاء حتّى كبار الباحثين والنقاد. وقد صرح بذلك عبد العزيز حمودة، فهو نفسه كان واقعا في زمن مضى أسير هذا النقد الحداثي المتبرّج. يقول في هذا الشأن: "وقفت طويلا منذ السنوات الأولى على وجه التحديد، أمام كتابات البنيويين العرب، أو الحداثيين العرب، بإحساس ظلّ حتّى وقت قريب مزيجا من الانبهار والشعور بالعجز"20. ويقول في موضع آخر، في الصفحة الموالية: "في جميع المناسبات التي تعاملت فيها مع النقّاد العرب الحداثيين لم أنخلّص من ذلك الانبهار. حدث ذلك وأنا أقرأ دراسات كمال أبو ديب عن الشعر الجاهلي (...). حدث نفس الشيء عند تعاملي مع كتابات جابر عصفور وهدى وصفي وحكمت الخطيب، وترجمات سامية أسعد، وآخرين لا عدّ لهم ولا حصر، ممّن ركبوا موجة البنيوية في جدية وإخلاص أحيانا، وفي غير جدّية أو إخلاص أحيانا أخرى21. ولعلّ أهمّ هذه المساحيق الّتي دأب الحداثيون على استخدامها حسب رأي عديد النقّاد ومن بينهم عبد العزيز حمودة هي:

1-الرسومات والبيانات

بناء على رغبة الحداثيين في تحقيق علمية النقد، فإنّهم قد سعوا إلى البحث عن الوسائل الكفيلة لتحقيق طموحاتهم. ولقد قادهم بحثهم المستميت إلى تبني طريقة الجداول والبيانات والرسومات التّي أصبحت تستخدمها كثير من العلوم. ولئن كانت الرغبة في تحقيق علمية النقد الأدبي هي الحجة التي يتحجّج بها الحداثيون في جريهم وراء هذا الهمّ المزعوم، فإنّ الهدف الخفيّ الذي لم يعلنوه هو أنّ هذه الجداول ما هي إلا مجرّد مساحيق لتجميل نصوصهم النقدية حتّى تٌصبح أكثر إغراء للقرّاء.

وهكذا لم يعد همّ الناقد في تحليل القصائد هو وضع اليد على مواطن الجمال والتأثير فيها، بل أصبح الهمّ كلّه هو كيفية تشكيل هذه القصائد وفق جداول ومنحنيات بيانية، وتحديد المعادلات الرياضية التي من شأنها أن تجعل القارئ منبهرا بالطريقة التي حُلّلت بها هذه القصائد. ولئن كان البعض حذرا في استخدام هذه الآلية، فلم يتمادى في احتكامه لهذا الجانب، فإنّ البعض الآخر قد أوغل في الأمر إيغالا، حتّى لجّ فيه، فبات تحليله للقصائد يتشكّل في تراكيب هندسية، ومعدلات رياضية غريبة ومعقّدة، ولم يعد القارئ في حاجة إلى الإحساس بجمال القصيدة المدروسة، والتمتّع بسحرها وفتنتها، بل همّه حلّ هذه المعادلات الرياضية، واستيعاب الجداول والمنحنيات البيانية. يقول عبد العزيز حمودة: "إن القارئ يجهد نفسه كثيرا في متابعة الجداول الإحصائية التي تعدّد تكرار وحدات لغوية، وتلك الّتي تقدّم تحليلا نحويا للقصيدة. لكنّ ذلك الإجهاد لا يُقارن بالحرية الكاملة والمحاولات المستميتة الّتي يجب عليه أن يبذلها عندما يواجه بالرسوم (دوائر ومتوازيات وأشياء أخرى كثيرة لا تحدّدها المعلومات الهندسية) تدخل القارئ في متاهة إثر متاهة، ليخرج منها في نهاية الأمر مٌجهدا، مٌرهق الفكر، وقد فقد توازنه تماما، بعد أن ابتعد أميالا عن النصّ الشعري بدلا من الاقتراب منه"22.

ولقد كانت الرغبة في تعجيز القارئ هي هدف هؤلاء النقاد الحداثيين تأسيا بالإبداع الحداثي، وذلك لأنّ عجز القارئ على الفهم، يدعوه إلى الشعور بالضعف من جهة، وتعظيم هذا النقد وإكباره من جهة أخرى. ولقد كان الشعور بالعجز حالة سيطرت على الكثير من القراء، بله النقاد المتخصصين الذين أخفى بعضهم شعوره بالعجز، وصدع بعضهم الآخر منكرا هذا الإسفاف في استخدام تلك الجداول والبيانات. ولقد كان عبد العزيز حمودة أحد هؤلاء الّذين عايشوا حالة العجز يوم أن كان تواضعه يدفعه إلى تعظيم هذا النقد، ظنّا منه أنّ أصحابه يتمتعون بقدرات عالية لا يستطيع أن يرتقي إليها، يقول في هذا الشأن: "ممّا كان يعمّق ذلك الإحساس بالعجز تلك الرسوم التوضيحية (يُفترض أنّهاكذلك!) والبيانات والجداول الإحصائية والرسومات المعقّدة من دوائر ومثلثات وخطوط متوازية ومقاطعة وساقطة، والّتي كانت تبعدني – وما زالت حتّى اليوم-عن الأعمال الأدبية موضوع المناقشة، بدلا من أن تقرّبني منها. فقد كنت أقف أمامها في عجز كامل عن فكّ طلاسمها أو «شفرتها» كما يحلو للبنيويين أن يقولوا. وطوال تلك السنوات كنت أنحي باللائمة على جهلي وتخلّفي عن اللحاق بركب الدراسات الأدبية والنظريات النقدية الحداثية، وهو تخلّف كنت أقبله عن طيب خاطر، بسبب أعبّاء الوظائف الإدارية الّتي أثقلت كاهلي لسنوات، وفي أحيان كثيرة كنت أنحي باللائمة على تدنّي معدّل ذكائي-الفطري منه والمكتسب"23.

2-اللعب بالمصطلحات

كانت المصطلحات وما زالت هي مفاتيح العلوم، ولا يمكن لعلم ما أن يبلغ شأوه ما لم تكن للمصطلحات الدور الأكبر في ذلك. ولقد استغل الحداثيون هذه الآلية أبشع استغلال، حيث أفرغوا المصطلح من جدواه، وجعلوه مسحوقا لتجميل نصوصهم النقدية، فكلّ المصطلحات القديمة ركنت جانبا، لا لشيء سوى لأنّها لم تعد تساير الحركة الحداثية، واستبدلت بمصطلحات جديدة براقة ولامعة.

وهكذا لم يعد المصطلح في النظرية النقدية الحديثة يمثّل حاجة علمية، إنّما مجرد موضة، فهو يحتاج بين الفينة والأخرى إلى التغيير كي يظل جديدا، لا يبعث على الشعور بالملل والفتور، الأمر الّذي أدّى إلى خلق فوضى اصطلاحية عارمة. ولقد امتعض محمد عناني من هذا الأمر امتعاضا شديدا، حيث قال: "قد استفحل الأمر حتّى أصبح (موضة)، فلم يعد أحد يستخدم كلمة (مشكل) أو (مشكلة) على الإطلاق تفضيلا لكلمة، (إشكالية)، وهي مصدر صناعي من نفس المادة، ولها معناها المحدّد، ولها معناها المحدّد باعتبارها ترجمة لكلمة أجنبية معروفة هي problematic(المأخوذة عن الفرنسية لفظا ومعنى)، والّتي قد تعني القضيّة الّتي تجمع بين متناقضات؛ فهو يفضّلها لغرابتها وطرافتها، ولم يعد البعض يستخدم كلمة (التناول) أو (المعالجة) أو (المنهج)، لا بل ولا الدّراسة- مفضّلا كلمة (المقاربة)، وهي ترجمة غريبة لكلمة approachالإنجليزية الّتي تعني أكثر من أيّ من هذه الكلمات، وإن كانت قد توحي للقارئ بفيض عميم من المعرفة والتبحّر في المذاهب الحديثة"24.

ولقد شارك عبد العزيز حمودة عناني امتعاضه وتحسّره ممّا آل إليه استخدام المصطلح في النقد العربي الحديث، ومن حالة الفوضى الاصطلاحية الكبيرة التي أتت على الأخضر واليابس، حيث رأى أنّه ممّا يزيد من الألم هو أن بعض الحداثيين قد يتعمّدون في ترجمتهم للمصطلحات الجديدة اختيار الترجمة الخاطئة لمجرد أنّها موضة، ويتجنبون بعض المصطلحات القديمة لأنها غدت سيئة السمعة في قاموس الحداثة وما بعدها. وقد كشف حمودة عن رأيه في هذا التحامل للحداثيين على المصطلحات القديمة حينما استخدم مصطلح التحليل، مشيرا-بنبرة ساخرة-إلى أنّ هذا المصطلح قد فقد نظارته عندهم، وساءت سمعته25، فلم يعد قادرا على الوفاء بطموحاتهم العلمية المزعومة، فهم يستخدمون بدلا منه مصطلحات أخرى مثل القراءة أو المقاربة.             

ولعلّ الرغبة في الإبهار كانت هي المعوّل لدى المحدثين، فكثير من المصطلحات تلمس فيها صفة الإبهار أكثر من الصفات الأخرى الّتي هي ادعى أن تكون من صفات المصطلح كالوضوح والدقة والفصاحة. ولقد أدت الرغبة في الإبهار بالمصطلح إلى أن تتحوّل المنظومة المصطلحية المعاصرة إلى جملة من المصطلحات الغريبة الناشزة مثل كاريزما، الأليغورة أو الليغورة،الغراماطولوجيا. ولقد كان لهذا الأمر أثر كبير على المتلقّي الّذي عايش حالة من الانبهار بهذا النقد الجديد. وهو ما عاناه عبد العزيز حمودة في مرحلة تلقيه لهذا النقد بمصطلحاته الجديدة الغريبة الّتي شعر معها بالعجز والضعف، حيث يقول: "لكن ذلك الانبهار، كما قلته، خالطه طوال الوقت شعور عميق-لم أفصح عنه حتى اليوم-بالعجز: العجز عن التعامل مع هذه الدراسات البنيوية، وفهم أهدافها، بل فهم وظيفة النقد ذاته في ظلّ المصطلحات النقدية المترجمة والمنقولة والمنوعة والمكلفة الّتي أغرقونا فيها لسنوات"26.

3-اللغة المراوغة

لقد عرف الحداثيون أنّهم استطاعوا أن يأسروا قلوب قراء الأدب، ولا سيّما الشعر منه، عن طريق تلك اللغة الغريبة الغامضة التي سمّاها بعضهم باللغة المراوغة، والّتي فرضت نفسها بقوّة، وتمكّنت من إزاحة طرف قوي ظلّ لفترة طويلة من الزمن يدافع عن وجوده، ألا وهو الجانب الموسيقي. لقد وعى الحداثيون خطورة هذه اللغة الساحرة الّتي بمقدورها أن تجعل القارئ يخضع لها، وينسى في حضرتها كلّ العيوب الأخرى الظاهرة منها والخافية.

واستنادا إلى هذه الحقيقة فقد رأى هؤلاء الحداثيون أن يستغلوا هذه الوسيلة الساحرة في مجال النقد الأدبي أيضا، لاسيّما وأنّها تمتلك تلك القدرة العجيبة التي تستطيع أن تجعل المتلقي يعيش حالة من الانبهار والعجز، فيحسب أنّ ما تقوله هذه اللغة هو الجديد الّذي لم يسبق إليه أحد، غير مدرك ما تخفيه وراءها من ضعف وهزال.

ولئن تمكّنت هذه اللغة من السيطرة على عقول كثير من القرّاء والمتلقين فترة طويلة من الزمن، فشغل سحرها القلوب، فإنّها ما لبثت أن فقدت سحرها، وظهرت على حقيقتها، حيث أبدى العديد من النقاد امتعاضهم من هذه اللغة الغريبة، كما هو حال وليد قصاب الذي ابدى استياءه الشديد من هذه اللغة التي "تُعُمّد فيها الإبهام والإلغاز للضحك على الذقون، والإيهام بأنّه كالكهنوت المقدّس، لا يستطيع أن يلج عالمه إلاّ الندرة النادرة من أهل الحظوة"27

ولقد كشف عبد العزيز حمودة في أكثر من موضع من كتابه المرايا المحدّبة استياءه الشديد من هذه اللغة الغريبة المراوغة التي ولع بها الحداثيون العرب ولوعا، فإذا هم يبذلون كلّ جهودهم في سبيل اتقان أساليبها، ذلك أنّها قد "أصبحت لازمة من أهمّ لوازم نقد الحداثة، وما بعد الحداثة"28.

إنّ الخواء الروحي الذي يعاني منه نقاد الحداثة العرب قد جعلهم يحسبون كلّ ما يلمع في أيدي الغربيين ذهبا، حتّى أصبح ينطبق عليهم قول أحد أبناء الفكر الغربي الأديب والكاتب الفرنسي جان دي لابروبير29: "بعضنا ينجح بذكاء وبعضنا ينجح بغباء الاخرين". وهكذا تعاظم فكر الغربيين أمام غباء الناقد العربي الذي يحذو آثار الغرب شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى إذا ما دخلوا جحر ضبّ دخلوه30.

 فالفلسفة العبثية الغربية قد سعت إلى إفراغ كل شيء من معناه، داعية إلى الغموض والابهام، وكانت اللغة النقدية التي من خصائصها الوضوح والإبانة هدفا لهؤلاء، فلوثوا مياهها حتّى لا نستطيع أن نعرف هل في النهر جواهر ولآلئ أم مجرّد أحجار لا قيمة لها. وهكذا عجز البنويون-كما يقول حمودة-عن الوصول إلى اكتشاف المعنى داخل النصّ، وذلك لأنّهم قد سعوا إلى مقاربته بوساطة هذه "اللغة النقدية المراوغة الّتي تلفت النظر إلى نفسها متذرعة بعملية التفسير"31. وكذلك فعل التفكيكيون "استبدلوا بعملية النقد أدبية اللغة النقدية. وهكذا أضافوا إلى فوضى الدلالة-بسبب اللعب الحرّ للعلامة والبينصية والانتشار وغياب المركز المرجعي، بل اختفاء التفسيرات الموثوقة والتأثير-لغة نقدية تتعمّد لفت النظر إلى نفسها بعيدا عن النصّ. وفي نهاية المطاف وصل التفكيكيون إلى نفس ما انتهى إليه البنيويون، وهو حجب النصّ"32.

4-التراث مسحوق

  لعلّ الصورة القاتمة للنقّاد الحداثيين الذين ألقوا بكلّ همومهم وأحلامهم في أحضان الفكر الغربي، قد جعلت عددا من النقّاد العرب يفقد ثقته فيهم تماما، فلقد عاثوا فسادا في أرض الفكر العربي، فشوهوا ملامح النقد، ودنسوا روح الإبداع الأدبي، حتّى لقد أصبح كلّ عمل يقومون به يٌعدّ نوعا من أنواع الإبهار والاغراء، ومحاولة لتبييض الصورة وتلميعها عند القارئ العربي الّذي بدأ يدرك أهدافهم ونواياهم السيئة.

وفي هذا الصدد نجد أنّ بعضا من النقّاد العرب قد رأى في عودة الحداثيين للبحث والتنقيب في التراث العربي فكرا ونقدا-بعد ما أهملوه، واتهموه بالقصور والهجنة-مجرد مسحوق من المساحيق الّتي من شأنها أن تضفي شيئا من الجمال واللمعان على خطابهم الحداثي، وذلك في محاولة منهم لحفظ ماء وجههم، ورفع تهمة التغريب عن بحوثهم وطروحاتهم. وفي هذا الصدد يرى شكري عزيز الماضي أنّه "على الرغم من استشهاد النقّاد الجدد بشذرات من النقد القديم، وذكر الجرجاني كثيرا، فإنّ المرء يشعر أنّ هذه المحاولة تهدف إلى تسويغ آرائهم وأفكارهم أكثر من التواصل والتفاعل الجدّي مع التراث النقدي أو تطوير آراء الجرجاني بدليل أنّهم لم يلتفتوا إلى تلك الشذرات إلاّ بعد احتكاكهم بآراء النقاد الغربيين، وهي مسألة تثير قضيّة مهمّة؛ وهي كيفية التعامل مع التراث النقدي"33.

ولقد كان عبد العزيز حمودة من المؤيّدين لهذه الفكرة، والداعمين لها، حيث إنّه وإن لم يتّهم جميع الحداثيين العرب، فإنّه يرى أنّ عودة بعضهم إلى التراث النقدي "جاءت من منطلق تأكيد شعار الأصالة والمعاصرة، درءا للأخطار الّتي يعنيها الجهر بانفتاحهم الكامل على الحداثة وما بعد الحداثة الغربيتين. ولكن الواقع، تنظيرا للنقد وتطبيقا له، كان يؤكّد دائما أنّ الثنائية جوفاء مفرغة تماما من المعنى، إذ تبقى العودة إلى التراث مجرّد ذرّ الرماد في العيون، أو نوعا من التجمّل الضروري لترويج الاكذوبة الحداثية"34.

ولقد خلص حمودة في الأخير إلى أنّ الحداثيين العرب كانوا يأملون من الحداثة أن تكون "مدخلا «لتحديث» العقل العربي وبداية نهضة ثقافية وتكنولوجية جديدة، وهي نهضة تتطلب التفاف القاعدة العريضة حول قادة الفكر هؤلاء، حتّى يتحقّق التحديث الشامل. ولكن بسبب سوء النقل والغموض من ناحية، وفشله في إدراك خصوصية الثقافة العربية من ناحية ثانية، انتبهوا إلى تكريس ثنائية أو ازدواجية الثقافة العربية وتعميق «الشرخ» بدلا من رأب الصّدع، بعد أن فشلوا في إغراء الجماهير العربية العريضة بالسير وراءهم، وأصبحوا في نهاية الأمر مجموعة منعزلة يكتبون لأنفسهم فقط!"35.

الخاتمة

وملاك الأمر في هذا الباب أنّ الناقد العربي قد راح، في هذا العصر، يقتفى خطى الغربيين، فيأخذ عنهم قضّهم وقضيضهم، متوهمّا أنّه بذلك إنّما يسعى إلى تحقيق علمية النقد الّتي ما فتئ يتشدّق بها هؤلاء الغربيون، غافلا أو متغافلا عن حقيقة جليّة مفادها أنّ العبثية التي توجّه فكرهم وطروحاتهم هي التي تجعلهم لا يسعون إلى الوصول إلى أهداف وغايات، وإنما يدورون في حلقات مفرغة، فكلّ حلقة تشدّها حلقة، إلى ما لا نهاية من الحلقات. وهكذا فالعلمية التي يدعونها هي الوهم الذي يوهمون به أنفسهم وغيرهم، وقد اتخذوا لذلك أقنعة هي تلك اللغة المراوغة الغريبة الغامضة، والجداول والمصطلحات البراقة.

لقد ظنّ هذا الناقد العربي أنّ النجاح الّذي حقّقه هؤلاء الغربيون على المستوى المادي يجعلهم مؤهّلين لتحقيق النجاح عينه على المستوى الإنساني، ولذلك فقد رأى أن يأخذ بأفكارهم دون غربلة أو تمحيص، فلوّث لغته كما لوّثوها، ونحت مصطلحاته كما نحتوها، واستخدم الجداول والمربعات والمستطيلات والمنحنيات كما استخدموها. ولئن كان الغربيون يسعون من خلال فلسفتهم المادية إلى التخلّص من عباءة روحانية النقد، ومحاولة ارتداء عباءة العلمية الّتي تجعل كلّ شيء يخضع للتجريب والتشريح، فإن الناقد العربي التابع المقلّد المنبهر كان حاله كحال عوام أمته، لا يأخذ إلاّ بالقشور، ولا يرى الحداثة إلاّ في شكلها فقط، ولذلك كان سعيه إلى تحديث الخطاب النقدي العربي شكليا فقط، فاستحضر جميع المساحيق الّتي تجمّل بها النصّ النقدي الغربي، وألبسها النقد العربي حتّى يوهم القارئ البسيط أنّه استطاع أن يخرج النقد العربي من براثن الظلامية والتقليد، إلى نور الحداثة والتجديد.

ولئن استطاع نقّاد الحداثة أن يوهموا القارئ العربي بحداثتهم المزعومة فترة من الزمن، فقد سقط القناع، بعد أن بلغ السيّل الزّبى، لاسيّما حينما تجنّد لهذا الأمر عدد من النقاد الأصفياء الذين لم يرقهم ذلك الإسفاف في التمسح بالحداثة لتدجين وتدليس كلّ شيء، كاشفين الكثير من عوراتهم وأغاليطهم، وهو ما يُنبئ بقرب انجلاء ظلام الحداثة، ليخرج النقد العربي من هيمنة وسطوة النقد الغربي على طموحاته وأحلامه.  

1.فيصل دراج: مقدمة كتاب حكاية المنهج، تأليف: برونو كليمون، ترجمة: سلمان حرفوش، السلسلة: مرايا الثقافة المعاصرة، دار كنعان للدراسات والنشر-سوريا، سنة 2011، ص11.

2- ينظر: طه حسين في ميزان العلماء والأدباء، إعداد وتقديم وتعليق: محمود مهدي الاستنبولي، ط1، المكتب الإسلامي، القاهرة، سنة 1403ه/ 1983م، ص391.

3.- ينظر: نفسه، ص114.

4.- نفسه، ص259.

5.- نفسه، ص10.

6.- إحسان عبّاس: أنا ذلك الراعي، مجلّة الكرمل، جامعة حيفا، فلسطين، ع51، ابريل1997، ص101

7.- سمير سعيد حجازي، النقد العربي وأوهام والحداثة، ط1، مؤسسة طيبة للنشر والتوزيع، القاهرة، سنة 2005، ص239.

8.- نفسه، ص248.

9.- نفسه، ص252.

10- نفسه، ص253.

11- وليد قصّاب: مناهج النقد الأدبي الحديث-رؤية إسلامية،ط1، دار الفكر، دمشق، سنة 1428ه/2008م، ص13.

12- نفسه، ص10.

13- نفسه، ص ن.

14- نفسه، ص ن

15- سعد مصلوح: في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية الحديثة-آفاق جديدة، ط1، جامعة الكويت، الكويت، سنة 2003، ص13و14.

16- جهاد فاضل، مرايا عبد العزيز حمودة-حداثة الانبهار بالعقل الغربي، مجلة الأدب الاسلامي، تصدر عن رابطة الأدب الاسلامي، السعودية، م08، ع32، 1423ه/ 2002م، ص60.

17- محمود الربيعي، النقد الأدبي (وما إليه)، تقديم وترتيب الفصول: محمد عبد اللطيف حماسة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، سنة 2001، ص157

18- نفسه، ص157

19- عبد العزيز حمودة، المرايا المحدّبة-من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع232، أبريل/ نيسان 1998، ص 8و9.

20- نفسه، ص 11.

21- نفسه، ص 12

22- نفسه، ص38.

23- نفسه، ص 11و12.

24- محمد عناني: المصطلحات الأدبية الحديثة-دراسة ومعجم انجليزي-عربي، ط3، الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان-مصر، سنة 2003، ص8.

25- عبد العزيز حمودة، المرايا المحدّبة-من البنيوية إلى التفكيك، ص 12

26- نفسه، ص 11.

27- وليد قصّاب: مناهج النقد الأدبي الحديث-رؤية إسلامية، ص13.

28- عبد العزيز حمودة، المرايا المحدّبة-من البنيوية إلى التفكيك، ص 17.

29- جان دي لا برويير: (Jean de La Bruyère) أديب وكاتب فرنسي، وًلد في باريس، عام1645، له كتاب مشهور عنوانه كتاب طبائع وعادات هذا القرن. توفي في فرساي في 10 مايو 1696.

30-  حدثنا محمد بن عبد العزيز حدثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ!». متفق عليه

31- نفسه، ص7.

32- عبد العزيز حمودة، المرايا المحدّبة-من البنيوية إلى التفكيك، ص8.

33- شكري عزيز الماضي، إشكاليات النقد العربي الجديد، ص20، نقلا عن: عبد العزيز حمودة، المرايا المقعّرة، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع272، أغسطس 2001، ص191.

34- عبد العزيز حمودة، المرايا المقعّرة، ص191.

35- نفسه، ص489.

36المراجع:

37إحسان عبّاس، أنا ذلك الراعي، مجلّة الكرمل، جامعة حيفا، فلسطين، ع51، ابريل1997م.

38برونو كليمون، حكاية المنهج، ترجمة: سلمان حرفوش، تقديم: فيصل دراج، السلسلة: مرايا الثقافة المعاصرة، دار كنعان للدراسات والنشر-سوريا، سنة 2011م.

39سعد مصلوح: في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية الحديثة-آفاق جديدة، ط2، جامعة الكويت، الكويت، سنة 2003م.

40محمود مهدي الاستنبولي وآخرون، طه حسين في ميزان العلماء والأدباء، ط1، إعداد وتقديم وتعليق: محمود مهدي الاستنبولي، المكتب الإسلامي، القاهرة، سنة 1403ه/ 1983م.

41عبد العزيز حمودة، المرايا المحدّبة-من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع232، أبريل/ نيسان 1998م.

42عبد العزيز حمودة، المرايا المقعّرة، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع272، أغسطس 2001م.

43جهاد فاضل، مرايا عبد العزيز حمودة-حداثة الانبهار بالعقل الغربي، مجلة الأدب الاسلامي، تصدر عن رابطة الأدب الاسلامي، السعودية، م08، ع32، 1423ه/ 2002م.

44محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة-دراسة ومعجم انجليزي-عربي، ط3، الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان-مصر، سنة 2003م.

45وليد قصّاب، مناهج النقد الأدبي الحديث-رؤية إسلامية،ط1، دار الفكر، دمشق، سنة 1428ه/ 2008م.

46محمود الربيعي، النقد الأدبي (وما إليه)، تقديم وترتيب الفصول: محمد عبد اللطيف حماسة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، سنة 2001م.

47سمير سعيد حجازي، النقد العربي وأوهام والحداثة، ط1، مؤسسة طيبة للنشر والتوزيع، القاهرة، سنة 2005م.

@pour_citer_ce_document

مختار ملاس, «النقد العربي المعاصر بين العلمية والابهار»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ,
Date Publication Sur Papier : 2017-12-13,
Date Pulication Electronique : 2017-12-13,
mis a jour le : 17/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=2356.