الاتجاهات البلاغية في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر بين هاجس التأصيل، ومسعى الت...
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N° 25 Décembre 2017

الاتجاهات البلاغية في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر بين هاجس التأصيل، ومسعى الت...


فريد عوف
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

عكفت في هذا المقال على الإجابة عن إشكالية محورية في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر، وهي البلاغة العربية بين هاجس التأصيل، ومسعى التجديد، وقد ألممتُ فيه بجهود النقاد الجزائريين في تجديد هذه المادة التراثية في زمن عصفت فيه بها حملة تشكيك من الحداثيين الداعين إلى (موت البلاغة)، والترويج للطرح النقدي الغربي بمناهجه من البنيوية إلى التفكيكية كطرح بديل. وقد تناولت فيه جهود ثلة من النقاد الجزائريين كـ عبد الملك مرتاض، وعبد الملك بومنجل، وأحمد يوسف، حبيب مونسي، ومسعود بودوخة، وعلي ملاحي، ومسعود صحراوي، وخليفة بوجادي، وعبد القادر فيدوح، في تأصيل البلاغة وتجديدها.            

الكلمات المفاتيح: البلاغة؛ التأصيل؛ التجديد؛ مناهج؛ النقد.

Cet article entreprent de répondre à une problématique cruciale au sein du discours critique algérien moderne à savoir : La rhétorique arabe entre l’obsession de l’authenticité et les efforts du renouvellement.

Il traite des efforts des critiques algériens pour le renouvellement de cette matière patrimoniale à une époque connaissant une compagne acharnée de la part des modernistes, qui appellent à la mise à mort de la rhétorique et qui mettent en avant l’approche critique occidentale, avec ses méthodes en allant du structuralisme jusqu’au « Le pragmatisme », la considérant comme approche alternative qu’ils ont nommée « la nouvelle rhétorique ».

C’est dans cette optique que des critiquex algériens ont œuvré afin de développer la rhétorique. Comme Abdelmalek Mortad, Abdelmalek Boumendjel, Ahmed Yousef, Habib Mounsi, Messaoud Boudoukha, Ali Mellahi, Messaoud Sahraoui, Khelifa Boudjadi et AbdelKader Fidouh

Mots clés :Rhétorique, enracinement, le renouvellement, les méthodes, critique

This article attempts to answer a crucial problem within the modern Algerian critical discourse: Arab rhetoric between the obsession of authenticity and the efforts of renewal

It deals with the efforts of Algerian critics for the renewal of this patrimonial material in an era of a fierce companion on the part of the modernists who call for the killing of rhetoric and which put forward the Western critical approach with its Methods from structuralism to "pragmatism", considering it as an alternative approach which they have called "the new rhetoric".

It is in this perspective that Algerian critics have worked to develop rhetoric. like Abdelmalek Mortad, Abdelmalek Boumendjel , Ahmed Yousef, Habib Mounsi, Messaoud Boudoukha, Ali Mellahi, Messaoud Sahraoui, Khelifa Boudjadi et AbdelKader Fidouh

Keywords:Rhetoric; rooting; renewal; methods; criticism

Quelques mots à propos de :  فريد عوف

طالب دكتوراه، قسم اللغة والأدب العربي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2

@table_des_matieres

   لم تكن البلاغة القديمة لتَفي بغايات الدراسة الأدبية للنصوص، أو بالأحرى التعرّف على أدبيتها، فظهرت (الشعرية) كمفهــــــــــــــوم غربي، وإجراء قرائي للخطاب، بُني على فلسفة الشكلانيين الروس على رأسهم (رومانجاكبســــــــــــــون)             (RomanJakobson)، ووظائفه الستة التي تُنظّم حركة النشاط اللغوي، و تحدّد غاياته، ومدى قدرة الخطاب على أداء (الوظيفة الشعرية)، فهو يرى أنّ "الشعرية يمكن تحديدها بوصفها ذلك الفرع  من اللسانيات الذي يعالج الوظيفة الشعرية في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للغة، وتهتم بالمعنى الواسع بالوظيفة الشعرية لا في الشعر وحسب"92. ويتبيّن من هذا المفهوم سعي الشعرية إلى توسيع دائرة أفقها بالتوسّع على كلّ أجناس الكلام (شعر، نثر...)، وهو ما كانت تعوز البلاغة القديمة.                   

مدخل

ليست قضية تجديد البلاغة العربية حديثا ابتدعناه من كفّ يومنا، بل كانت الدعوة إليه منذ القديم، فقد كان حازم القرطاجني (ت. 684ه)يحثّ على مواصلة البحث في الدرس البلاغي، ويعدّ البلاغة علما واسعا مفتوحا، و"البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار فيها"1.

 وكانت الدعوة إلى التجديد البلاغي في العصر الحديث عند الغرب بعد ظهور الاتجاهات النقدية الحديثة التي أصدرت (حكم بالإعدام) على (البلاغة العجوز)، وأحلّت الأسلوبية (وريثا شرعيا لها)، وكانت الدعوات إلى إعادة النظر في رسم الخرائط البلاغية بتأسيس (بلاغة جديدة) تستوعب تلك النظريات النقدية واللسانية الحديثة، فكان رولان بارت نفسه يبحث للبلاغة القديمة عن ثوب جديد، حيث كتب سنة 1963م قائلا: "ينبغي إعادة التفكير في البلاغة الكلاسيكة بمفاهيم بنيوية، وسيكون ـحينئذـ من الممكن وضع بلاغة عامة، أو لسانية لدوال التضمين، صالحة للصوت المنطوق، والصورة والإيماء..."2.       

 وقد دخلت المناهج النقدية الغربية، قديمها وحديثها الوطن العربي، وتمثّلها النقاد العرب دراسةً وترجمة وتطبيقًا، وبدأ الشكّ يخيّم على الأذهان بعدم جدوى البلاغة القديمة إنْ لم تغترف من ينابيع النظريات اللسانية واللغوية الغربية، لذلك دعا محمد العمري إلى إعادة الشرعية للدرس البلاغي الذي يسعى إلى جعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج، ويستوعب المفهومين معا من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها، ويوسّع منطقة التقاطع إلى أقصى حدّ ممكن. "فقد حدث خلال التاريخ أنْ تقلّص البعد الفلسفي التداولي للبلاغة، وتوسّع البعد الأسلوبي حتى صار الموضوع الوحيد لها، فكانت نهضة البلاغة حديثا منصبّة على استرجاع البعد المفقود في تجاذب بين المجال الأدبي (حيث يهيمن التخييل) والمجالالفلسفي المنطقي، واللساني (حيث يهيمن التداول)"3.                                      

   ودعا باحثون من قبله إلى قراءة البلاغة العربية قراءة أخرى عن طريق ربطها بما اسْتُحدث من بحوث في شتى المناهج النقدية التحليلية أمثال أمين الخولي، وأحمد حسن الزيات، وأحمد الشايب، ومصطفى صادق الرافعي وغيرهم من الذين انصبّت جهودهم على الربط بين الدرس البلاغي العربي القديم، والدرس الأسلوبي الحديث، ولا شك في أنّ دعوتهم إلى التجديد كانت نتيجة شعورهم بحاجة البلاغة القديمة إلى تطعيمها بالمفاهيم النقدية الجديدة، وأنّ قصور البلاغة القديمة يعود إلى سوء طريقة تقديمها للمتعلمين*4.

1-اتجاهات البلاغة العربية في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر:                                                     

 أمّا مساعي تجديد البلاغة العربية في النقد الجزائري المعاصر فهي جزء لا يتجزأ من المحاولات العربية لتأسيس نظرية بلاغية عربية عن طريق ربط الصلة بين البلاغة القديمة والاتجاهات النقدية الغربية كالبنيوية والأسلوبية والسيميائية والتداولية والشعرية، فظهرت خمسة اتجاهات بلاغية هي:                                              

*اتجاه إحيائي:متمسك بالبلاغة القديمة، يدعو إلى إحياء النموذج القديم من البلاغة الجرجانية، والسكاكية. عكف أصحاب هذا الاتجاه على شرح وتفسير وتحقيق مصادر البلاغة العربية القديمة.  وهم غالبا من النقاد الجزائريين الذين كانت بدايتهم النقدية تقليدية، ومن ثَمَّ انفتحوا على مختلف التوجهات النقدية المعاصرة،كـ عبد الملك مرتاض، وعبد الحميد بوزوينة، ومحمد ناصر، وعبد الحميد هيمة، ومحمد صغير بناني، وعبد الملك بومنجل،ومسعود بودوخة.

*اتجاه أسلوبي (البلاغة الأسلوبية): وهو أكثر شيوعا، يقوم على ربط البلاغة العربية القديمة بالأسلوبية الحديثة مثل عبد الملك مرتاض، عبد الملك بومنجل، مسعود بودوخة...

 *اتجاه سيميائي (البلاغة السيميائية أو بلاغة التواصل): ويقوم على ربط البلاغة العربية بالسيميائية الغربية وقوانين التواصل مثل عبد الملك مرتاض، حبيب مونسي، وأحمد يوسف.                                      

*اتجاه تداولي (البلاغة التداولية): ويقوم على ربط البلاغة بالتداولية ونظرية الأفعال الكلامية ومقاصد الخطاب. ومن هؤلاء: مسعود صحراوي، وخليفة بوجادي.                                  

*اتجاه شعري (الشعرية): وبُني هذا الاتجاه على مفاهيم الشعرية الغربية، ومحاولة تجديد البلاغة العربية عن طريق التفتح على مختلف النظريات الشعرية الغربية مثل وظائف اللغة الستّة لجاكبسون. ومن النقاد الجزائريين: علي ملاحي، الطاهر بومزبر، عبد القادر عميش.

 2-إشكالية البحث وفرضياته:

  يتأسس المقال على الإجابة عن إشكالية محورية وهي كيفية تفاعل الخطاب النقدي الجزائري المعاصر مع الوافد الغربي من الاتجاهات النقدية، وتصوره للبلاغة الجديدة التي بُبنيت في النقد الجزائري على أساسين: تراثي بتأصيل البلاغة العربية، وحداثي بالتثاقف مع الآخر، وربط عملية تجديد البلاغة القديمة بالاتجاهات الغربية، فمن البلاغة الأسلوبية، إلى البلاغة الشعرية، والبلاغة السيميائية، والبلاغة التداولية، وبلاغة التأويل كطرح بديل.

  وهذا الطرح يقودنا إلى التساؤل أيضا:هل كان الخطاب النقدي الجزائري المعاصر خطابا تواصليا فاعلا في البحث عن مسارات التقاء بين البلاغتين القديمة والمعاصرة؟ أم كان خطابا إسقاطيًّا تعسفيًّا؟ وهل يمكن التوفيق بين بلاغتين تقوم كل واحدة منهما على مبادئ معرفية ومنهجية تختلف عن الأخرى؟

3-منهج البحث:

 وبما أنّ غاية المقال هي عرض جهود النقاد الجزائريين في تطوير البلاغة، فإنّ المنهج المتبع كان وصفيا استعراضيا استقرائيًّا، مع استحضار الجوانب التاريخية، ومشفوعا بإجراءات نقد النقد لتقييم هذه الجهود.

4-الدراسات السابقة:

  لقد كانت الدعوة إلى تجديد البلاغة العربية مبكرة في النقد العربي، وكان من الفرسان المجلّين الذين امتطوا جواد البلاغة الجديدة في دراساتهم، أحمد حسن الزيات في كتابه (دفاع عن البلاغة) سنة 1967م،حيث دعاالبلاغيين المعاصرين إلى اهتمامهم بـ الأسلوب، وبذلك يكون قدّ شقّ طريقا جديدا في الدرس البلاغي لدراسة الأساليب الفردية على ضوء الدراسات الحديثة في مجال الأسلوبية التي ماهي إلاّ بلاغة حديثة. فالأسلوب عند الزيات "هو الهندسة الروحية لملكة البلاغة"5.

   وإلى جانب الزيات قدّم أمين الخولي رؤية حديثة للبلاغة العربية في كتابه (فن القول)، ولم يقلّل من شأن البلاغة القديمة، بل رأى أنّ التطوّر الحاصل في الحياة عامة، والفنون والآداب بصفة خاصة يقتضي للبلاغة مسايرة العصر، والارتقاء من النظريات والفلسفات والقواعد الجزئية إلى مدارج الفن والجمال للوصول إلى غايتين: "عملية وهي تحقيق مصالح الأفراد والجماعات، وفنية هي الإمتاع بالتعبير عن الإحساس بالجمال، أو بالتذوق الناقد لروائع الأداء الفني، المترجم عن الشعور بالحسن"6. ناهيك عن جهود أخراة كأحمد الشايب في كتابه (الأسلوب)، ومازن المبارك (الموجز في تاريخ البلاغة)، ومصطفى ناصف (اللغة والبلاغة والميلاد الجديد)، وسلامة موسى (البلاغة العصرية واللغة العربية)، وهلم جرا.

   أمّا في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر، فقد كان من أهمّ الأعمال النقدية التي سجّلت رؤية جديدة للبلاغة العربية كتاب (نظرية البلاغة-2010م-) لــ عبد الملك مرتاض، و(تأصيل البلاغة (2015م)، مماطلة المعنى في شعر المتنبي (2010م)، والموازنة بين الجزائريين : مفدي زكريا ومصطفى الغماري(2015م) لـ عبد الملك بومنجل، حيث حاول  مرتاض أن يمدّا جسور التواصل والتثاقف بين التراث والحداثة عن طريق الاستفادة من المنجز النقدي الغربي في حقل البنيوية والشعرية والأسلوبية والسيميائية والتأويلية والتفكيكية والتداولية، بغية تأسيس بلاغة جديدة.؛ وحاول بومنجل تقديم تصور جديد عن علم البلاغة يلقي عنه تهمة الجمود ويفتح أمامه آفاق التطور والتوسع والتجدد.

  هذا،وقد لقيتُ من النصب والعناء في جمع مادة هذا البحث، وتمحيصها، حيث تناولتُ برؤية شاملة تفاعل النقاد الجزائريين مع المناهج النقدية الغربية على تعاقبها من مرحلة البنيوية إلى ما بعد البنيوية، في صورة هذه الاتجاهات البلاغية الجديدة.

 وكان هذا البحث جهدا استعراضيا يروم إلى كشف هذه التحوّلات التي طرأت في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر في إطار المثاقفة والتواصل مع الخطاب النقدي الغربي، واستندت ُفي ذلك إلى الدراسات النقدية الجزائرية في حقل الأسلوبية والسيميائية والتداولية عند النقاد الجزائريين كـ عبد الملك مرتاض، وعبد الملك بومنجل، ومسعود صحراوي، وأحمد يوسف، وحبيب مونسي، وصلاح الدين ملاوي.

وسأتناول -فيما يلي-بعض هذه الجهود لتجديد البلاغة العربية في التجربة النقدية الجزائرية المعاصرة بشيء من التفصيل:

   أوّلا: عبد الملك مرتاض والأسلوبية الحديثة:                             

  كانت دعوة عبد الملك مرتاض مبّكرة إلى تجديد البلاغة العربية في كتابه (نظرية البلاغة)، الذي صدر سنة 2010م، وذاد فيه عن البلاغة العربية القديمة في ظلّ تداعيات النقد الغربي، وأشهَرَ قلمه في وجه الذين يزعمون بعدم وجود أيّ وظيفة للبلاغة العربية في وقتنا الراهن، فقال: "إنّ بعض الجامعيين، ربما اعتقد أنّ وظيفة البلاغة لم يعد لها، على عهدنا هذا، أيّ معنى، وأنّها في سبيلها إلى الزوال والتلاشي حتما، ذلك بأنّ الذوق العام قد تغيّر لدى الناس فلم يعد يستهويهم الكلام الجميل، ولا الأسلوب الأنيق. ونحن لا نرى ذلك رأيا، و لا نقرّ به حكما؛ ذلك بأنّ البلاغة بالقياس إلى تدبيج الكلام، هي بمثابة النحو بالقياس إلى إقامة الإعراب، فكما لا يجوز للناس أن يستغنوا عن النحو أبدا، فإنّهم لن يستطيعوا الاستغناء أيضا عن البلاغة في أيّ شكل من أشكالها"7، لأنّ وظيفتها امتدّت إلى كلّ الاستعمالات – لدى خاصة الناس وعامتهم- في المحاورات اليومية، والآداب الشعبية، عبر كلّ اللغات الإنسانية، وعبر كلّ العصور، فهم يتنافسون في زخرفة القول، والتلوين البياني- من غير أن يشعروا- في أحاديثهم في المناسبات الاجتماعية والسياسية وغيرها.            

  اتّصلت البلاغة الجديدة بالأسلوبية اتصالا وثيقا حتّى عُدّت هذه الأخيرة (هي الوريث الشرعي للبلاغة)، وكان مرتاض يرى أنّ البلاغة في محاسن الكلام وخلوّه من الركاكة والعيّ، ويستنكر ما حلّ اليوم بألسنة الناس من لحن في القول، وفساد في الذوق، وفي هذا يقول: "هل انتهى عصر البلاغة، وجاء عصر اللابلاغة، حقا؟ أي هل انتهت العناية بجمالية الأسلبة، والإيلاع بالزخرفة، فشُيّعا إلى مثواهما الأخير تشييعا حزينا، وجاء عصر العيّ والفهاهة، والحصر والركاكة، حتى لا يكاد أحد يفهم أحدا، وحتّى لا يكاد المتحدث يعبّر عن أغراضه بلغة جميلة النسج، سليمة السبك، صحيحة المخرج؟..."8.             

  انتقد مرتاض البلاغة القديمة لعنايتها بدراسة الجزئيات في الظاهرة اللغوية الواحدة، لأنّ "مادتها هي الشواهد المتفرقة والأمثلة المجتزأة، فهي بلاغة الشاهد والمثال والجملة المفردة، إذا استثنينا مبحث الفصل والوصل الذي يعالج قواعد الربط ما بين جملتين.   

  وغنيّ عن البيان أنّ الدرس الأسلوبي اللساني يستحيل أن يتخذ مادة فحصه من الشاهد والمثال، والبديل لذلك عنده معالجة نص أو خطاب أو مدونة تشتمل على مجموعة من النصوص يجمع بينها جامع من مؤلف، أو موضوع، أو فنّ أو عصر"9.                                                            

  وكان عبد الملك مرتاض يرى أنّ الطريقة السائدة قديما في تعليم البلاغة العربية عادت عليها سلبا، لقوله: "لم نرد من تأليف هذا الكتاب إلى تعليم البلاغة التي كرر العلماء المتأخرون ما انتهى إليه العلماء الأولون، فشحنوا كتبهم بالشواهد المقتلعة من أصول نصوصها، فأفسدوا البلاغة، في منظورنا، وتجانفوا بها عن وظيفتها الجمالية الحقيقية، أكثر مما أحسنوا إليها، فمن شاء أن يتعلم هذه القواعد فإنّما سبيله إلى تلك الكتب يجترها ويلوكها، والله معينه، ولو جئنا شيئا من ذلك في كتابنا هذا لما كنّا أتينا بجديد، ولكنّا اضطُررنا إلى اجترار تلك الشواهد المقزّعة الممزعة التي تكررت في كتب البلاغة التي أُلّفت: منذ ابن المعتز إلى المراغي..."10.                                                         

  والسبيل القويم لتجديد البلاغة العربية هو إعادة النظر في مناهج التعليم العربي لتقديم البلاغة بالصورة الصحيحة للمتعلمين، وفي هذا يقول مرتاض: "إنّا ندعو إلى تقرير نصوص أدبية أنيقة رفيعة يمكن تنوير المتعلمين من خلال استيعابها وتذوّقها، ومن ثمّ حفظها، بملامح البلاغة لينسجوا عليها حين يكتبون أو حين يخطبون، لا أنّهم يُمنون بتعلّم قواعد بلاغية تستشهد بأبيات مقتلعة من أصول قصائدها، وإقامة قواعد محنّطة عليها، تشبه قواعد النحو الصفراء"11.                     

  وممّا سبق، يتبيّن أنّ مرتاض يصبو من البلاغة الجديدة إلى أن تكون منهجا لتحليل الخطاب، حيث برهن على العلاقة الحميمية التي تربط البلاغة بعلم النص، وقد أكّد هذه العلاقة من قبله سعيد حسن بحيريفي كتابه (علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات سنة 1997م)، إذ يقول:"لا يَخفى أنَّ لِمُناقشتِنا لحدودِ البلاغة وعلاقتها بعلم لغةِ النصِّ دلالةً واضحة على الصِّلة بينهما إلى الحدِّ الذي جعلَ بعض الباحثين يعدُّها السابقةَ التاريخيَّة لعلم النص"12. كما يشترك هذا الرأي مع قول هنريش بليت: "إنّ تصورا للبلاغة من هذا القبيل يتضمن أمرين: أولهما ضرورة وجود علم عام للنص يكون صالحا، لا لدراسة النصوص الأدبية وحدها، بل لدراسة غيرها من النصوص على اختلافها، وثانيهما الفكرة المتضمنة في أنّ كلّ نص هو يشكل (بلاغة)، أي أنّه يمتلك وظيفة تأثيرية. وبهذا الاعتبار فالبلاغة تمثّل منهجا للفهم النصي مرجعه التأثير"13.                                                

  ولكن لا يدفعنا هذا الرأي إلى الغلوّ في الإعراض عن تلك الإجراءات البلاغية التجزيئية التي تعود إلى البلاغة القديمة، بل يجب أن يحافظ عليها التحليل النصي في إجراءاته وعملياته؛ لأنّها تحلّل بدقّة كيفية قيامها بوظائفها التوصيلية وأثرها الجمالي.   حثّ مرتاض الباحثين على جعل البلاغة الجديدة ذات مقاصد نفعية براغماتية فكرًا وسلوكًا تعبيريًّا لعامة المتعلمين في وظائفهم الاجتماعية والسياسية والثقافية14، ومعنى هذا أن تتجاوز البلاغة الجديدة وصف النصوص إلى إنتاج الخطابات، "ليقيم منها علما توليديا. « Genegatif » يبحث في كيفية الإنتاج الخلاّق للنصوص..."15، وبذلك فهو يعيد قراءة البلاغة.

 ومن هنا، فقد أخذت البلاغة –عند مرتاض- بُعدا تداوليا لتتصل بأغراض الناس عامتهم وخاصتهم في محاوراتهم اليومية، وعند رجال الثقافة والساسة والحكّام في خطبهم التي ينشدون منها (التأثير والإقناع) على السامعين، وهذا ما يبشّر بعودة الازدهار للبلاغة في ثوبها الجديد لاتصالها بالحياة المعاصرة علميا وسياسيا وثقافيا ودينيا وواقعيا، وكونها تمسّ جميع شرائح المجتمع، والسواد الأعظم من أذواق الناس، وفي هذا يقول مرتاض: "وليست البلاغة، ونحن نتحدث عن البلاغة الجديدة، خالصة للمثقفين وحدهم، بل هي مما يشترك فيه العوام وأهل الطبقات الاجتماعية الدنيا أيضا. ولذلك ربما وجدنا هؤلاء العوام يتفاصحون، ويتصرفون في زخرفة القول في حدود مستويات لغتهم، حين يضطرون إلى تناول الكلام في مناسبة من المناسبات الاجتماعية أو السياسية في قراهم، أو في أحيائهم التي يقطنون..."16، وكلّ من يرضى بأن يكون امرءًا عموميا، يشتغل بشؤون الناس في الدولة، هو مضطر إلى أن يكتب، أو إلى أنْ يخطب، في المقامات. ومن جعل نفسه كاتبا أو خطيبا فعليه أنْ يحسن الكتابة والخطابة. فيبلّغ ما في نفسه للناس من أقرب طريق، وأقل كلام، وأعظم تأثير"17.            

 ومعنى هذا أنّ مرتاضا يرى بأنّ البلاغة ليست محصورة على المثقفين والعلماء، لكنّها تتعدى لتشمل السواد الأعظم من الناس على اختلاف فئاتهم، وحدودهم المعرفية، ومكانتهم الاجتماعية، ومن ثَمَّ تصبح العامية بلاغة باعتبارها أداة للتوصيل، هذا وقد لقيت العامية معارضة عنيفة من طرف بعض الدارسين، لأنّها ألحقت ضررا كبيرا بالبلاغة العربية –كما ذهب إلى ذلك الزيات- في قوله: "من أجل ذلك طغت العامية، وفشت الركاكة، وفسد الذوق، وأصبحت العناية بجمال الأسلوب تكلّفا في الأداء، والمحافظة على سرّ البلاغة رجعة إلى الوراء..."18. فالعامية تفتقر إلى قواعد ثابتة، فهي تختلف من مكان إلى آخر، بل تكاد تتعدد مفرداتها في القطر الواحد، وفي هذا يقول رابح تركي –عن العامية-: "كما أنها فقيرة فقرًا شديدًا في مفرداتها ولا يشتمل متنها على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي فقط، وهي فوق ذلك كلّه لتعدد أنماطها في البلد الواحد لغة مضطربة كل الاضطراب في قواعدها، وأساليبها، ومعاني ألفاظها وتحديد وظائف الكلمات في جملها، وربط الجمل بعضها ببعض إلى غير ذلك كما أنها تخلو من المصطلحات العلمية، ومن الدقّة في التعبير في غير مجالها الحياتي وأداة هذا شأنها لا يمكن أنْ تقوى مطلقًا على التعبير عن المعاني الدقيقة، ولا عن حقائق العلوم والآداب والإنتاج المنظم. ولذلك فهي لا تصلح أنْ تكون أكثر من أداة تخاطب في الشؤون العادية. ومن ثم لا يجوز اتخاذها أداة للكتابة وما يطلب منها من أغراض لأنها لا تصلح لأن تكون لغة عامة (لاختلاف العاميات حتى في البلد الواحد)"19.

 وقد ازدادت الحاجة في عصرنا هذا إلى البلاغة كحاجة الناس إلى علم النحو لبناء كلامهم بناء سليما، وارتبطت البلاغة بجذورها التاريخية بفن الخطابة عند أرسطو، وصارت البلاغة أكثر من ضرورة في إنتاج الخطاب ليؤدي وظيفتيه الإقناعية والتأثيرية، وبخاصة – في نظر مرتاض-عند أربع فئات معاصرة هي20: أ-الساسة الخطباء. ب-العلماء والمثقفون. ج-رجال الدين. د-المحامون.

   ويرى مرتاض أنّ البلاغة التي نتحدث عنها، والتي زعمنا أنّها جديدة، ليست امتدادا لخطابة علي بن أبي طالب، ولا زياد بن أبيه، ولا قطري بن الفجاءة، ولا الحجاج بن يوسف. فأولئك كانوا يرتجلون فيبهرون ويسحرون ببيانهم العجيب، ونسج كلامهم القشيب.                                                       

  وإنّما البلاغة الجديدة ذات بُعد نفعي، وهي:

- الخطب التي يرتجلها الساسة والحكام بأنفسهم، لا من نسج كتّابهم ومستشاريهم.

- النصوص التي يكتبها الأدباء والعلماء والمثقفون التي تتمتع بشعرية النسج الأدبي على تفاوت في النسب.

 - الخطب التي ينسجها – ارتجالا-أئمة المساجد والدعاة للتأثير في السامعين.

- المقالات التي يصممها المحامون للدفاع عن موكليهم.

- النصوص التي يتكافَأُ فيها المستوى في الإرسال والتلقي، يقول مرتاض: "إنّ أفصح الكلام وأبلغه لو يُلقى في متلقين لا يفهمون لغة ذلك الكلام لما كان له أيّ تأثير؛ وإذن، فلا بد من تضافر متلقين بلغاء، بالمقدار الذي يشترط فيه وجود باثين، أيضا، بلغاء: يتذوقون الرسالة الأدبية المتلقاة، ويتحسسون جمالها، وإلاّ فإنّ جمالية الأدب تفقد كلّ معنى لها إذا ظلّت أحادية الجانب. من أجل ذلك قامت كلّ البلاغات، عبر تاريخ الآداب الإنسانية الطويل، على تكافؤ الإرسال والتلقي"21.         

  والحقّ أنّ التكافؤ بين المرسل والمتلقي ليس سابقة جديدة؛ لأنّ البلاغة القديمة لم تكن تُغيّب هذا التساوي بين الطرفين، وإلاّ لماذا كان البلاغيون القدامى يشدّدون على مراعاة مقتضى الحال (لكل مقام مقال)، أو على حدّ القول المأثور (خاطب الناس حسب عقولهم)؟ أليس هذا من صميم البلاغة؟ وهذا على خلاف ما ذهب إليه مرتاض بأنّ البلاغة القديمة كانت تهتمّ بالباث أو المرسل أكثر من المتلقي.                                               

  يرى مرتاض أنّ علاقة البلاغة بمناهج النقد الأدبي المعاصر علاقة طبيعية، فلا تعارض بينهما، لأنّ هذه المناهج النقدية الحداثية ماهي إلاّ جهود لتطوير البلاغة، وبناء صرح البلاغة الجديدة.                            

انطلق مرتاض من ثلاثة مفاهيم متداولة في حقل الأسلوبية والسيميائية والتداولية والشعرية، ليثبت حضور البلاغة فيها، وهذا يعني إمكانية دفع عجلة التطور للبلاغة العربية عن طريق الاستفادة من المنجز النقدي الغربي، وهذه المفاهيم هي:22     -مفهوم الانزياح انطلاقا من العدول.                                             

 -مفهوم التداولية انطلاقا من معنى المعنى

 -مفهوم الأسلوبية انطلاقا من البديع.

كما يرى مرتاض بأنّ البلاغة الجديدة عمادها الخيال الكلّي، لا الصور الجزئية من تشبيه واستعارة وكناية، وفي هذا يقول: "وقد انتهينا إلى أنّ الصورة البلاغية لا تتم باصطناع الأدوات البلاغية التقليدية من استعارة ومجاز، وكناية وتشبيه، ولكن الصورة البلاغية التي هي في أوّل الأمر وآخره، صور فنية قد تتم لدى الأدباء الكبار خارج ذلك المجال، دون أن ينقص ذلك من قيمتها الفنية شيئا"23. ومعنى هذا أنّ الصورة البلاغية ليس بالضرورة أن تكون تشبيها أو استعارة أو مجازا، لكن قد تكون واقعية، وهي ما أطلق عليها رولان بارت بـ "الصورة التقريرية"24، وهي "صورة حرفية في الحالة الخالصة"25.     

   ثانيا: عبد الملك بومنجل: البلاغة مادة قابلة للإضافة والتجديد:   

   تناول بومنجل قضية تجديد التراث البلاغي العربي بثوب عصري، ورؤية جديدة في كتبه النفيسة (تأصيل البلاغة)، (مماطلة المعنى في شعر المتنبي)، و(الموازنة بين الشاعرين: مفدي زكريا ومصطفى الغماري). وتتأسسهذه النظرة الجديدة على المبادئ الآتية:

 - أنّ "البلاغة بنك الناقد الأدبي"26، لا يمكن الاستغناء عنها، كما لا يمكن أنْ تحلّ المناهج النقدية الغربية بديلا عنها، لأنّ غاية هذه الأخيرة هي "اكتشاف الدلالة، واكتشاف الجمال"27، وهو ما كانت تنشده البلاغة القديمة. ومن هنا "يحتاج صاحب المنهج البنوي إلى معطيات علم البلاغة لأنّ بنية الأدب لغوية أساسا...ويحتاج صاحب المنهج السيميائي إلى معطيات علم البلاغة، لأنّ مهمته العبور من اللفظ إلى الدلالة، ومن المعنى إلى معنى المعنى... أمّا صاحب المنهج الأسلوبي فما هو إلاّ بلاغي بزيّ حديث..."28.

  -أنّها علم قابل للإضافة والتجديد شأنه شأن بقية العلوم، ومن ثَمَّ فقد صار لزاما على المعاصرين أن لا يغلقوا باب الإضافة إلى هذا العلم بحجة (ما ترك الأول للآخر شيئا)، بل يجب أن يفتحوا الباب على مصراعيه للتجديد، وذلك بالانطلاق من النقاط التي استقر عليها القدماء من قوانين جمالية للشعر والنثر، ويوسّعوا مجال بحثهم في كلّ فنون الأدب الحديثة، كالقصة والرواية والمسرحية، والمناظرات. ويدعّم هذا الرأي قول صلاح فضل: "فقد كانت بلاغتنا القديمة تدور في مجملها حول فرع واحد من الشعر هو القصيد الغنائي فحسب، مختلطا ببعض النماذج النثرية المتفاوتة في مستواها. أمّا بقية فنون الشعر من درامي وقصصي وملحمي شعبي، وفنون القصة والرواية والمسرح، فضلا عن الصور التليفزيونية والسينمائية، والفنون الرقمية المحدثة- فلا علاقة لها بالبلاغة التقليدية و لا مجال لاستيعابها في مباحثها، ومن ثمَّ انكمش تداولها في الخطاب النقدي المعاصر، وأصبحت بحاجة ماسة لإعادة التحديث والتجديد، شريطة أن يكون ذلك برؤية علمية معاصرة، تضمن أسسا بلاغة جديدة ترتبط بالنصوص الأدبية، وتتوسل بالمناهج الأسلوبية الحديثة، بل أن تضع القوانين التجريدية العامة للأنواع الإبداعية المختلفة"29.                                   

  – أنّها علم لتحليل الخطاب: حيث دعا المعاصرين إلى أن يتجاوزوا البحث في الجملةالتي وسمت بها البلاغة القديمةإلى معالجة النصوص، وهو ما ورد في قول أمين الخولي: "...فإنّنا اليوم نمدّ البحث بعد الجملة إلى الفقرة الأدبية، ثمّ إلى القطعة الكاملة من الشعر أو النثر ننظر إليها نظرتنا إلى كلّ متماسك وهيكل متواصل الأجزاء نقدر تناسقه وجمال أجزائه وحسن ائتلافه..."30.

  وقد جسّد بومنجل هذه الرؤية الجديدة للبلاغة العربية في دراستيه التطبيقيتين: (مماطلة المعنى في شعر المتنبي، والموازنة بين الشاعرين الجزائريين)، وكان في مستوى راق من الإبداع والإقناع والإمتاع. ففي كتاب (مماطلة المعنى في شعر المتنبي) استثمر بومنجل ثقافته البلاغية في دراسة شعر المتنبي دلاليا أي الألوان البلاغية وصلتها بالمعنى، وهذا على خلاف ما هو شائع أنّ الألوان البيانية جهاز مفاهيمي يسقطه الدارس على البيت الشعري أو عبارة  بتحديد عناصر التشبيه من مشبه ومشبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه، والاستعارة ، والكناية، ويحصر أثرها في الوضوح والبيان، في حين تناولها  من حيث أثرها في تأخير وصول المعنى إلى القارئ، لأنّ المتنبي كان في زمانه يمارس مماطلة وتأجيلا للقارئ.                                                                                                            

   كما استطاع الباحث أن يضع أصابعه على موضع السرّ في غموض الشعر عند المتنبي، مستثمرا ثقافته التراثية، ولغته المشرقة، وشاعريته، بداية باختيار مصطلح (المماطلة)، والتمييز بينه وبين (التعقيد) و(الإبهام)، ثم حسن استثمار الأدوات الإجرائية للبلاغة العربية (لاسيما الألوان البيانية) في تطبيقاته على شعر المتنبي أبياتا ثمّ قصائد لتكتمل الصورة في الأذهان. 

 أمّا كتاب «الموازنة بين الجزائريَّين مفدي زكريا ومصطفى الغماري» فهو دراسة نقدية وأسلوبية وبلاغية موازِنة في غاية الأهمية بين شاعرين جزائريين كبيرين يُعد كل واحد منهما أبرز شعراء جيله، وهما مفدي زكرياء، ومصطفي محمد الغماري. ورغم أنّ المؤلف اختار له عنوانا تراثيا يذكّر بكتاب الآمدي الناقد العربي المشهور «الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري»، فإنّ منهج الموازنة كان مختلفا جدا حيث اعتمد المؤلف على جملة من المقاييس الفنية والأسلوبية والبلاغية. فقد بنى أحكامه في هذه الموازنة على سلامة الطبع والذوق، وثقافته البلاغية، ورغم إيثاره للمصطلح البلاغي العربي القديم (التجنيس، التضمين، الاقتباس...)، فإنّه كان لا يتناول لونا بلاغيا أو محسنا بديعيا لأحد الشاعرين، حتّى يبيّن أثره، ووقعه في النفس، ودلالته، وحسنه وقبحه، نذكر من ذلك قوله في بعض شعر مفدي زكريا: "إنّ جميع هذه الجناسات لا تضيف شيئا إلى المعنى"31. وقوله: "إنّ الكثير من هذه التضمينات والاقتباسات ليس له من وظيفة فنية تستدعي حضوره"32. وقوله في بعض آخر: "ما أجمل هذا التشبيه البليغ للدموع الحزينة، وما ألطف –قبله-هذا النداء الرقيق أمّاه..."33. وقوله: "يغدو الجناس عنصرا فنيا ثمينا لا يصح أن يهمل..."34.

ثالثا: مسعود بودوخة والبلاغة الأسلوبية:                                          

  يُعَدُّ تجديد التراث البلاغي –في نظر بودوخة-ضرورة حتميةفرضه تطور المعارف الإنسانية، وبروز الاتجاهات النقدية، والنظريات اللغوية والجمالية التي زاحمت البلاغة في وظائفها وهي دراسة (بنية اللغة)، و(جمال الكلام)، و(الإقناع)، و(التأثير)، و(الإمتاع).                                                          

ورغم ثراء البلاغة القديمة وسعتها، فإنّها "في حاجة إلى توظيف مباحثها في الإفـــــــــــــــادة والاستفادة من الاتجاهات التي تمخضت عنها الدراسات اللغوية والأسلوبية الحديثة"35، لإعادة بعث البلاغة، وتأسيس ما سميّ بـ(البلاغة الجديدة) التي يلتئم فيه القديم بالحديث، حيث "أفادت البلاغة من الدراسات النقدية ذات الطابع اللساني دقة المنهج وتحديد الموضوعات، كما أنّ الدراسات النقدية الحديثة التفتت إلى ما في البلاغة من عناصر ثرية، كالسياق والمقام، والجوانب التداولية للخطاب، يضاف إلى ذلك ما تضمنته البلاغة القديمة من جوانب أخرى تتصل بالخطاب كآليات التأثير والإقناع والعناصر الجمالية للفن القولي وغيرها من الجوانب"36.

 وكان الوجه الجديد للبلاغة العربية هي (البلاغة الأسلوبية)، لاشتراكهما في المنحى الجمالي وموضوعهما اللغة. ولا يخفى على أحد ما بين الأسلوبية والبلاغة من علاقة ترابط حميمي حتّى عُدت الأسلوبية "بلاغة حديثة ذات شكل مضاعف"37، أو"هي الوريث لعلوم البلاغة"38.

 يرى بودوخة أنّ القاسم المشترك بين البلاغة العربية القديمة والأسلوبية الغربية الحديثة هي ثلاثة مقوّمات أسلوبية جمالية أساسية هي: "الانزياح، التوازي، والإيحاء"39، وهي مبادئ بُنيت عليها الأسلوبية الحديثة، وهذا ما يتيح إمكانية تطوير الدرس البلاغي العربي بمنجزات الغرب في الدرس الأسلوبي الحديث وغيره من المناهج الأخرى.

 ولبناء بلاغة جديدة يرى بودوخة أنّه يتعين على الباحثين حسن استثمار الموروث البلاغي القديم، والإضافة والتجديد بإلحاق كلّ ما هو نافع ومفيد من الوافد الغربي للوصول إلى صياغة (أسلوبية عربية)، ولا يتحقق هذا البُعد إلاّ بــالتوفيق بين البلاغتين القديمة والحديثةـ، وذلك بـ:                                            

  -العناية بالمادة البلاغية القديمة لأنّ فيها كنوزًا قيّمة، ومفاهيم لا تختلف كثيرا عن الدلالات الحديثة إلاّ في المصطلح، فالتشاكل عبّر عنه القدماء بالمشاكلة أو التوازن أو التماثل، والانزياح عبّر عنه القدماء بالعدول وهكذا...             

- الاستفادة من نظريات علم الجمال القديمة والحديثة، العربية والغربية؛ لأنّ العلاقة بين البلاغــــة، وعلم الجمال وثيقة لقول (وولف): "البلاغة، أو ما يقال بيننا الآن علم الجمال"40. فقد كانت البلاغة العربية القديمة تنشد (الجمال في الكلام)، وفي هذا يقول بودوخة: "قد يختلف الباحثون حول البلاغة القديمة وتاريخها ومنهجها، ولكنهم يجمعون على تأكيد الطابع الجمالي لهذه البلاغة"41. وكانت كلّ الفلسفات والنظريات القديمة والحديثة تتفق على أنّ الجمال الأدبي أو الفني في العمل الإبداعي لا يتحقق إلى بوجود ثلاث سمات أسلوبية هي: التنوع الذي يعدّ "مطلبا لا غنى عنه لأيّ عمل فني ينشد لنفسه التميّز والإمتاع اللذين يتحققان بتلك الدهشة والمفاجأة التي تحمل المتلقي على التأثر والإعجاب..."42. ثم (التناسب) الذي "لا يقتصر على التشابه بين العناصر، مادام المعيار الذي يدخل في ذلك هو وجود علاقة منتظمة بينها قد تعتمد على التقابل أو التناظر أو الاختلاف..."43. أمّا السمة الأخيرة فهي الإيحاء، و"هو كل ما يثيره فينا العمل الفني، ذو الغاية الجمالية من عواطف وخيالات وأحاسيس ومعان، لا تكون نتيجة التغيرات والإشارات الواضحة المحددة للعمل الفني، بل هي –في الغالب-وليدة التلميح دون التصريح، والإيماء دون التوضيح..."44.                                        

 واستثمربودوخة ثقافته النقدية التراثية والحداثية في البحث عن مواطن الالتقاء بين البلاغة وعلم الجمال عند القدماء والمحدثين، وهي حقيقة لا مندوحة عنها،ويسترسل في الكشف عن هذه العلاقة فيقول: "وعلينا إذا أردنا الحديث في موضوع الجمال بين أهل الفكر وعلماء البلاغة، أنْ نركز على إبراز المعاني المشتركة بين الجمال والبلاغة، وأنْ نعمد كباحثين إلى التذكير الدائم بالنقاط الظاهرة أو الواضحة الجلية في مفهوم الجمال عند أهل الفكر مثل: النظام والخير، والنفع، والإمتاع، والتناسب، والوضوح ... إلخ. كلّ ذلك جاء عندما تكلّم علماء البلاغة والنقاد العرب عن مفهوم البلاغة، ومما يوحي أنّ البلاغة العربية في إطارها الأدبي الواسع، بما تحويه من إرشادات وملاحظات، تتناول الإبداع الشعري أو النثري، كانت تقوم مقام الدراسات الجمالية عند المفكرين..."45.                           

  –الاستفادة من المناهج النقدية الغربية لتطوير البلاغة موضوعا ومنهجا؛ لأنّ البلاغة ليست منهجا في تحليل النصوص. ويساعدها الاستعانة بتلك المناهج -وخاصة الأسلوبية-على تطوير مباحثها، وموضوعاتها، واكتساب صفة (العلمية) أي تصير منهجا في تحليل الخطاب، ولها أدواتها الإجرائية.                                       

-الاستفادة من الدرس الأسلوبي الغربي لتأسيس أسلوبية جمالية عربية لتجاوب خصائص الأسلوبية مع البلاغة العربية القديمة، حيث تتقاطعان في الأسس التي يقوم عليها الفن القولي، وهي على الترتيب: "العدول والانزياح، والتوازي والتناسب، والتكثيف والإيحاء"46.                                                          

  والواقع أنّ الأسلوبية والبلاغة العربية تتقاطعان في أكثر من موضع، غير أنّ بعض الدارسين يرى بأنّه على الرغم من "وقوع المحاولات الأسلوبية الحديثة تحت مقصدية تحديث البلاغة القديمة، إذ نظر إليها على أنّها البلاغة الجديدة...وهي وريث البلاغة، وهي بديل في عصر البدائل،...وهي وإن تواشجت في مع البلاغة بأكثر من علاقة ومسار إلاّ أنّها تفترق عنها في العناية والمفهوم والإجراء. وأنّ الالحاح في إسباغ التصور الحديث عن المفاهيم والحقول القديمة يؤدي إلى السقوط في فخ التقويل المزيّف، ويفضي بنا إلى تداخل الحدود بين البلاغة والأسلوبية، فإذا كانت الأسلوبية في بعض وجوهها امتدادًا للبلاغة فهي نفي لها في الآن نفسه، وباختصار فإنّ أجلى فروقها ترتسم بنقص الصفات الأسلوبية الآتية: النصية، الوصفية، الكلية، البعدية، الكتابية"47.                                                          

ثالثا: حبيب مونسي-أحمد يوسف، والبلاغة السيميائية:

  إذا كان بودوخة ربط البلاغة بالدرس الأسلوبي، فإنّ حبيب مونسي، وأحمد يوسف اتّجها إلى إعادة قراءة البلاغة العربية برؤية سيميائية معاصرة مسايرة للتطور الحاصل في وسائل الاتّصال والتبليغ، فلم تعد البلاغة بالكلمة المفردة، أو الجملة، أو النص المكتوب، بل صارت البلاغة بلاغات: بلاغة الصورة، بلاغة السينما، بلاغة اللوحة الإشهارية، بلاغة المسرح، بلاغة الألوان...وغيرها.

  ولكي تكون البلاغة العربية القديمة قادرة على معالجة كلّ تلك المستجدات لابدّ أن تُغذَّى بالعلوم العصرية كعلم السيميولوجيا؛ لأنّ لكلّ صورة بلاغية دلالات، أو (رسالة) بالتعبير البارتي. مع العلم أنّ الدرس البلاغي العربي القديم لم يُغفل الحديث عن أصناف الدلالات، وهذا ما أورده الجاحظ في البيان والتبيين، إذ يقول: "وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثمّ العقد، ثمّ الخطّ، ثم الحال، تُسمى نصبة. والنصبة هي الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا تقصر عن تلك الدلالات..."48.                         

أ-بلاغة الكتابة المشهدية، نحو روية جديدة للبلاغة العربية. حبيب مونسي:

  وهو عنوان دراسة قيّمة للناقد الجزائري حبيب مونسي، نشرها في مجلة التراث العربي، في شهر جانفي 2003م، أراد فيها أن يبيّن تصوره للبلاغة الجديدة.

 والكتابة المشهدية عند مونسي هي بالتعبير المعاصر (الصورة الفنية عند "جابر عصفور")، أو (الصورة الأدبية "عند أمين الخولي")، أو (الصورة الشعرية عند "جماعة الديوان")، هذه الصور التي حصرتها البلاغة القديمة في ألوان البيان من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية، يستخلصها الدارس من الجملة الواحدة، أو البيت الشعري، أو السطر النثري مبتورة عن النص ككلّ متماسك، وكأنّها جهاز مستقّل يحلّل الجملة إلى عناصر من مشبه و مشبه به، وأداة، دون النظر في العلائق بينها، وبعيدا عن الذوق والجمال، وعن هذا يقول مونسي: "لقد نشأ وهم التابعية فيها من الدرس البلاغي المدرسي الذي يتوقف في البيت الشعري، والسطر النثري، عند العناصر البلاغية وحدها، وكأنّها عناصر مستقلة، يمكن استخراجها من الصنيع الفني دون أن يفقد توازنه"49. وأنّ هذه الصور هي عمليات أصلية سابقة متخمرة في ذهن المبدع ثمّ يسكبها في أيّ موضع أراد، وليست لاحقة نتيجة الفراغ من التحويل والانجاز، "وهو زعم يجعل التشبيه والاستعارة والكناية ناشئة في صلب الاختمار الفني الذي يحدث في الغياب"50.   

 وليست الصورة البلاغية عند مونسي مادة متحفية للتجميل والتفاخر والتباهي، وإنّما هي التي تترجم أحوال النفس، ومكنوناته، وما يجيش في الصدور من الأحاسيس والمشاعر، لأنّ الجملة الواحدة، أو البيت الشعري لا يُفصح عن فيض الخواطر، ولا يتأتى ذلك إلاّ بالمشهد النصي، إذ يرى مونسي أن"البلاغة هي روح الكتابة المشهدية، وأنّها ليست فضلة تنضاف إلى أصل سابق عليها للتحلية والتجميل. والقراءة التي تغفل عن حقيقة التشكيل البلاغي للصور داخل التركيب المشهدي، قراءة تفوّت على نفسها خيرا كثيرا. كما أنّنا حين نقدم لفظ البلاغة على الكتابة، وننسبه إليها، نسعى إلى هدم الوهم الذي يفصل بين فعل الإنشاء، والتجميل البلاغي المزعوم، وأن ندعو إلى قراءة البلاغة بعيدا عن كونها مباحث مستقلة...بل قراءتها وهي فاعلة في صلب النصوص، والصور والمشاهد. وإلاّ فكيف يمكن أن نجد ضرورتها إن نحن عزلناها في بيت يتيم؟"51.         

  إنّ المتفحص للتركيب الشعري والأسلوب النثري في كليته والتحام أجزائه، سريعا ما يتراجع عن ذلك الوهم، مدركا أنّه أمام بناء واحد تتعدد فيه الألوان وتتسع بفضل كافة العناصر القائمة فيه، فلا فضل للفظ على آخر، ولا مزية لأسلوب على غيره، بل الفضل والمزية جميعا للبناء المحكم المتماسك"52. واستدلّ مونسي بمثال من الشعر العربي القديم، ليؤكد قصور البيت الشعري عن رسم الصورة الشعرية، تناوله بذوق رفيع وحسّ بلاغي، وهو قول الشاعر امرؤ القيس:                   

ولَيلٍ كَمَوجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدولَهُ * عَليّ بأَنْـواعِ الـهُمُومِ ليَبتَلي

 يقول مونسي: "فإذا نحن قرأنا هذا البيت، وحاولنا عزل العناصر البلاغية، وفق الفهم القديم، لم يبق لنا في البيت إلاّ الليل، والهموم، والابتلاء. صحيح أنّها بؤر التوتر في البيت الشعري، بيد أنّها ليست كذلك في ذات الشاعر. بل إنّ حضور البحـــر في أعماقه ومخاوفه-وهو ابن الصحراء-يطل علينا من أعماق، وربما ارتدت إلى خواطر أسطورية، تُغذيها حكايات الغرق والهلاك. وقد كان في مقدور الشاعر أنْ يشبه الليل بالصحراء –بحره المألوف-ولكن حديث النفس في مخاوفها يتجاوز المألوف إلى المخوف، ويبتعد عن الداجن إلى الوحشي"53. غير أنّ المشهد لم ينته؛ لأنّ البيت الذي يليه*54مكّن للاستعارة أنْ تفعل فعلها حين تقارن الليل مرة أخرى بالخيمة العظيمة المسدلة الستائر. هذا التراكب بين التشبيه المفضي إلى الاستعارة، لا يعضده في البناء المشهدي سوى التحويل الذي يحول الستائر إلى هموم مسدلة سوداء مظلمة. فحركة النفس في هذا الموقف لا تشعر بالهموم الليلية على الصورة السطحية التي يشعر بها العامة من الناس، ولكنها تغترف من مخاوف الشاعر المطمورة ظلالها وأثقالها، فتصعد إلى حدسه الفني موجا متلاحقا مرتفعا يغرفه، وخيمة عظيمة تشتمل عليه فتسدل ستائرها، وهو امتداد آخر يمكّن الهاجس المستوحش من ملامسة صورة الجمل الهائج الذي يسحق صاحبه تحت كلكله"55.            

   وواضح ممّا سبق أنّ مونسي متأثّر بالخيال الرومانسي عند جماعة الديوان (1921م) (العقاد وشكري والمازني)، وجماعة أبولو (1932م) (أحمد زكي أبو شادي، أبو القاسم الشابي). فهذا الشاعر أبو القاسم الشابي ينقلنا إلى أفق الصورة بقوله في إحدى رسائله لصديق له: "الشعر يا صديقي تصوير وتعبير. تصوير لهذه الحياة التي تمرّ حواليك مغنية ضاحكة لاهية أو مقطبة. واجمة بالية أو وادعة حاملة راضية...أو تصوير لآثار هذه الحياة التي تحس بها وتعبير عن تلك الشعور بأسلوب فني جميل ملؤه القوة والحياة، يقرأه الناس فيعلمون أنّه قطعة إنسانية من لحم ودم وقلب وشعور، لأنّهم يحسون أنّه قطعة من روح الشاعر"56.

  انتقد مونسي منهج القدماء في تقديرهم لبلاغة الصور الفنية من تشبيه واستعارة وكناية، حيث تجنح رؤاهم إلى التقنين العقلي الصارم، ولهذا حثّ على تجاوز ذلك بقوله: "ولكننا ندعو إلى تجاوز فهم أطرته النزعة العقلية، فجففت فيه منابع الحسّ والجمال، وأحالت جمالياته إلى ضرب من العمليات الرياضية الخالية من الإثارة والاستفزاز. وفي المقابل نريد أنْ نقدّم للتشبيه فهما آخر يمكّننا من استعادة صفاء الذات وطواعية تلقيها وتعاطفها، دون أنْ تفقد معرفتها المتنوعة، فإذا التشبيه، والاستعارة، والكناية ... عمليات تقع في صلب العملية الإبداعية ذاتها، تدفعها الذات في الدفق الشعري حين يعترضها التعبير برؤى مستجدة، يكون من المحتم عليها أنْ نستغرقها، إمّا عن طريق توازي التشبيه أو تداخل الاستعارة وتماهيها، أو إشارة الكناية"57.                                                                                                              

  ب-السيميائيات والبلاغة الجديدة أحمد يوسف:

  أمّا أحمد يوسف فيرى بأنّ التقدّم الحاصل في العلوم الإنسانية والنفسية والاجتماعية والفلسفة واللسانيات ووسائل التواصل، كان دافعا لإعادة النظر في الفكر البلاغي ليؤدي وظيفة كبرى، وليصبح بلاغة عامة، ومقاربة ومنهجا في تحليل الخطاب سيميائيا عن طريق اللغة الواصفة. بعدما كانت البلاغة مختزلة في عصور خلت في حدود الجملة أو حدود الإقناع، أو تجويد فن القول، وفي هذا يقول: "لا يمكن التستّر على ذلك التناقض الحاد اذي ألفت البلاغة نفسها فيه بعد أنْ انخرطت                                            في البرمجة السياسة متوخية فضيلة الإقناع، والعملية التعليمية طلبا للتبليغ المبسط، وهكذا طفقت تفقد خصيصتها البيانية بوصفها فنّا عاما، فانحصرت في تجويد فن القول وتحسين الكتابة، وتطريس اللغة الأدبية، ثم انكفأت على ذاتها انكفاء سلبها ديناميتها النصية، فارتكست في التبسيط والاختزال المدرسيين، وانطوت على نفسها ضمن حلقة التقعيد لتصبح فريسة سهلة للانقضاض عليها، والطعن عليها، والقدح في مشروعها العلمي"58.                              

  ولهذا عدّ البلاغة السيميائية هي الوجه الجديد للبلاغة العصرية، وعن هذا يقول: "إنّ الانتماء إلى الحداثة وما بعدها هو انتماء إلى بلاغة السيميائيات الأيقونية ...ولما كان حد البلاغة العام يتمثل في (فن القول) و(فن الإقناع) الذي أملته مجتمعات الحداثة وما بعدها بالترسانة الضخمة لوسائل الإعلام والاتصال، لم تخرج مقاربات البلاغة عن إطار التحليل السيميائي للخطاب الذي يسعى إلى البحث عن كلياته وقوانينه وأنساقه ومعرفة أجزائه، بحيث يتم تقطيع الوحدات الخطابية تقطيعا يحاكي الإجراء اللساني الوصفي، ويتجاوزه في الآن نفسه، لأنّه يتعدى حدود الجملة، ومن هذا المنطلق تمّ النظر إلى البلاغة على أنّها فرع من الخطاب، إن لم تكن نظرية للخطاب..."59.ومن ثَمَّ فإنّ البلاغة والسيميائية توآمان، لأنّ موضوعهما: (خطاب الإقناع)، إذ يقول: "البلاغة هنا-بهذا المفهوم-مرادفة للسيميائيات من حيث هي هندسة ذهنية لعوالم اللغة والفكر. إنّ خطاب الإقناع لا يعني فقط إجراء سبر استقرائي والقيام بعمليات حسابية، ولكن ينضاف إليها بسط الحجج، وهكذا غدت البلاغة الجديدة حجاجية في منطلقها وعمومية في متصوراتها، وبرهانية في حقيقتها"60.                                                       

   ويبدو واضحا أنّ ما أصطلح عليه بـ(البلاغة الجديدة) تمّ فهمه في إطار المناهج النقدية الغربية، بما فيه الاتجاه السيميائي، وقد اعترف تودوروف عام 1979م: "بأنّ السيميولوجيا يمكن أنْ تفهم باعتبارها بلاغة معاصرة، وقد اتضح أنّ مفهوم بلاغة الخطاب مرهون بالاعتداد بها كعلم لكلّ أنواع الخطاب، علم عالمي في موضوعه وفي منهجه... وقد التقى هذا التيار ببحوث تحليل الخطاب من منظور وظيفي تداولي لغوي، كما أخذ يصبّ بشكل مكثّف في اتجاهات علم النص"61.      

رابعا: البلاغة الجديدة، ومشروع الخطاب التداولي:                       

   لقد خرجت البلاغة، بهذا الانفتاح على مجالات الخطاب من حدود البُعد الجمالي الذي كانت محصورة فيه، نازعة لأن "تصبح علما واسعا للمجتمع"62، وكان ذلك نتيجة "الأهمية المتزايدة للسانيات التداولية، ونظريات التواصل، والسيميائيات، والنقد الأيديولوجي، وكذلك الشعرية اللسانية في مجال وصف الخصائص الإقناعية للنصوص"63.              

  وربط الاتجاه التداولي البلاغة الجديدة بأفعال الكلام تقريرا وإنجازا، فالنص الأدبي ليس مجرد خطاب لتبادل الأخبار والأقوال والأحاديث، بل يهدف إلى تغيير وضع المتلقي عبر مجموعة من الأقوال والأفعال الإنجازية، وتغيير نظام معتقداته، أو تغيير موقفه السلوكي من خلال ثنائية: افعل ولا تفعل"64.                                      

  وقد لقيت البلاغة التداولية في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر اهتماما كبيرا من النقاد الجزائريين، وقد اقتفوا خطى الغرب في تجديد البلاغة العربية باسم ذلك المشروع النقدي وهو التداولية، وبخاصة أنّ العلاقة بين البلاغة القديمة والتداولية الغربية علاقة وطيدة؛ لأنّ مباحث التداولية أصلها بلاغي بكلّ المقاييس حتى ذهب سليمان بن سمعون*65إلى القول بأنّ "فهم البلاغة يعني فهم التداولية فهما علمان متداخلان وقد تطوّر هذا التداخل فيما بعد إلى أنْ أصبحت التداولية تهتم بالسياق وأنواعه ونظريات أفعال الكلام وهذا كلّه موجود في الدراسة البلاغية للأدب"66.                           

1-مسعود صحراوي والبلاغة التداولية:

  لقد كان كتاب (التداولية عند العلماء العرب-2005م-) لـ مسعود صحراوي أهمّ دراسة في النقد الجزائري المعاصر لتجديد البلاغة العربية، وهي تُثبت للعيان تجاوب البلاغة العربية القديمة مع النقد الغربي بإمكانية استثمار المادة البلاغية في مجال التداوليات.     

 وتتأسس التداولية عند منظريها على نظرية الأفعال الكلامية التي كان لها حضور في البلاغة العربية القديمة، ومن هنا دعا مسعود صحراوي إلى "إعادة قراءتها قراءة معاصرة، تمتشق سلاح المناهج الحديثة، وما أفرزته من جهاز مفاهيمي، مع الابتعاد عن التعسف في تطبيق ذلك على مفاهيم التراث تطبيقا قسريا، ومع إبداء التحفظ الواجب الذي يفرضه استصحابنا للوعي باستقلالية التراث العربي، فلا يجوز أنْ ننسى أنّ لهذا التراث خصائص ابستمولوجية تجعل منه منظومة مستقلة ومتميزة ومتكاملة..."67. ولكن هذا لا يعني أنّ تراثنا غير قابل للتحاور العلمي والتثاقف مع معطيات العلوم المعاصرة كالفلسفة التحليلية، وعلم النفس المعرفي، وعلوم التواصل واللسانيات.                                                        

ورغم أنّ التداولية قد فتحت نافذة كبرى على التراث البلاغي العربي، ووسّعت من آفاق رؤيتنا له، فإنّه لا يمكن الاستهانة بجهود المعاصرين أمثال أوستين (J.L.Austin) وتلميذه ج.ر. سيرل (.J R Searle)في تطوير هذا المنهج أولا، وتجديد البلاغة ثانيا بتحديث وظيفة اللغة، وفي هذا يقول صحراوي : "إنّ العمل الذي أنجزه الفيلسوف أوستين يُعدّ عملا فلسفيا ذا فائدة لسانية هامة، بالنظر إلى أنّه نجح في بلورة فكرة أنّ وظيفة اللغة هي التأثير في العالم وصناعته، وليست مجرد أداة للتفكير أو لوصف الأنشطة الإنسانية المختلفة. وهذا التحديد الجديد لوظيفة اللغة هو أبسط معنى لما سمّاه: الفعل الكلامي"68. وكان من فوائد بحث أوستين أنّه لا ينبغي الاعتداد كثيرا بالتمييز بين الخبر والإنشاء مادام كلاهما يحمل فعلا كلاميا إنجازيا69.                     

  واستفاد الدرس البلاغي من حقل التداواليات بتطوير معايير التمييز بين الخبر والإنشاء، حيث كان في كلّ مرحلة معيار تصنيفي معيّن، فكان العلماء العرب في المرحلة الأولى يعتمدون معيار (قبول الصدق والكذب)، و(مطابقة النسبة الخارجية)، فمعيار (القصد)70. وتمخض عن تلك المعايير التمييزية عدة تقسيمات للخبر والإنشاء، وهي مختلفة في أسسها المعرفية وأدواتها الإجرائية بين تقسيمات منطقية وأخرى تداولية، وقد نتجت عنها ثلاثة أصناف كبرى هي: الخبر، الإنشاء الطلبي، الإنشاء غير الطلبي71. واتّسعت الأغراض الكلامية لأداء فائدة تواصلية معينة أو تنبيه المخاطب، أو تأكيد الرسالة الإبلاغية له، أو ندائه، أو إغرائه أو تحذيره، أو توبيخه72.              

ويخلص صحراوي في الأخير إلى القول بأنّ التداولية –بمقولاتها ومفاهيمها الأساسية: كسياق الحال، وغرض المتكلم، وإفادة السامع، ومراعاة العلاقة بين أطراف الخطاب، ومفهوم الأفعال الكلامية، يمكن أنْ تكون أداة من أدوات قراءة التراث العربي في شتى مناحيه ومفتاحا من مفاتيح فهمه73...                                     

2-صلاح الدين ملاوي ونظرية الأفعال الكلامية:

  تناول ملاوي في دراسة بعنوان (نظرية الأفعال الكلامية في البلاغة العربية)، فوجد بأنّ هذه الأفعال التي يعزو اكتشافها للباحث أوستين، كانت مبحثا بلاغيا في علم المعاني باسم (الخبر والإنشاء).

  وكان لتفتّح النقاد العرب على الخطاب التداولي الغربي أعظم الأثر في ازدهار البلاغة العربية، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة السائدة في البلاغة الحديثة، والتنبيه إلى بعض القضايا البلاغيةالـمُغْفَلَة-في علم المعاني-، والتي يمكن اختصارها فيما يلي:       -اهتمام البلاغيين المحدثين بالأساليب الإنشائية الطلبية كالاستفهام والأمر والنهي والتمني والنداء، وإغفالهم الحديث عن الأساليب الإنشائية غير الطلبية، وفي هذا يقول ملاوي: "ولهذا تجد البلاغيين لا يقيمون وزنا للأساليب غير الطلبية، فأضاعوا على الضاربين في أطباق البلاغة حظّا من فقه أساليب العربية وأسرار نظم العبارة"74.

 - اعتقاد البلاغيين الخاطئ في التقابل بين الخبر والإنشاء؛ لأنّ مصطلح الخبر صفة للكلام توهم ناظرها أنّها مقطوعة النسب عن منشئها المخبر، فلا تحيل على المتكلم إلاّ بطريق الاستدلال. بينما يتّصل المصطلح الآخر به، ويرتكز على مفهوم الفعل الكلامي. فكان أولى أنْ ينهض التقابل، إذا كانا، حقّا يتخالفان، بين الإخبار والإنشاء من حيث المعنيان عملان يصدران عن المتكلم"75. ومن هنا فإنّ "الإخبار لا يعدو أن يكون عملا يصدر عن المتكلم، ويحصل من جهته، وهو لا يختلف، من هذه الناحية، عن مختلف ضروب الإنشاء كالاستفهام والتعجب والأمر ونحوهنّ؛ بدليل أنّ ما تجده من فرق بين الإخبار والاستفهام، لا يزيد عن الفوارق التي بين الاستفهام ونظيره التعجب بوصفهما من الإنشاءات. فقولك مثلا: هل جاء زيد؟ يكافئ قولك: جاء زيد. وما الفرق إلاّ من حيث كون الأول يمثل عمل الاستفهام، والثاني يمثّل عمل الإخبار (الإثبات)..."76.                 

  والحقّ أنّ البلاغيين حينما رسموا حدودا بين الخبر والإنشاء كتقسيم السكاكي للبلاغة إلى معان وبيان وبديع، كانت الغاية من تقسيمهم تعليمية؛ وإن كان الثابت تاريخيا وجود التداخل بين الخبر والإنشاء أحيانا لاشتراكهما في أغراض بلاغية، فقد يقع الخبر موقع الإنشاء، ومن أغراضه التي ذكرها القزويني (ت739هـ) "للتفاؤل، أو لإظهار الحرص في وقوعه، والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يحتمل الوجهين، أو للاحتراز من صورة الأمر. أو لحمل المخاطب على المطلوب..."77؛ ومع ذلك، فإنّ الدعوة إلى إلغاء الحدود بين الخبر والإنشاء وهم، لأنّه شتّان أنْ نقول: "هل جاء زيد؟" أو نقول: "جاء زيد"، فالأولى جملة طلبية، فالسائل جاهل بمجيء زيد يريد معرفته، والثانية جملة خبرية تقريرية فيها إثبات بمجيئه، وفي هذا يقول الآخوند محمد كاظم الخراسانيفي كتابه (كفاية الأصول): "ثم لا يبعد أنْ يكون الاختلاف في الخبر والانشاء أيضاً كذلك، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته، وإنْ اتفقا فيما استعملا فيه"78.                           

3-خليفة بوجادي: نحو منظور تداولي لدراسة البلاغة العربية: مشروع لربط البلاغة بالنص: وهي دراسة قيّمة في تجديد البلاغة العربية شارك بها بوجادي في ملتقى دولي بالمملكة العربية السعودية سنة 2011م، وكان عنوان الملتقى (ندوة الدراسات البلاغية: الواقع والمأمول).                                   

  تناول بوجادي المفاهيم التداولية في تدريس البلاغة العربية لجعل مباحثها أكثر حيوية، وأوفر حظّا لدى المتمدرسين لارتباطها بالواقع الفعلي لاستعمال اللغة، وكونها اتّصال وتداول.                                

  وفي هذا الوجه الجديد للبلاغة العصرية، عدّ بوجادي البلاغة "علما للاتّصال"79، و "هي المعرفة باللغة أثناء استعمالها، وبكلمة هي فن القول:                                                     

-فنّ لكونها متّصلة بالذوق، والاستخدام الشخصي للغة.

-القول، لأنّها متصلة بالأداء الفعلي للغة"80.  

  وتقوم البلاغة الجديدة عند بوجادي على "مبدإ الاتّصال، واستخدام اللغة استخداما سليما"81. والعناية بالعناصر الاتصالية الثلاثة: "متكلم، خطاب، مخاطب". وهي العناصر التي كان لها حظّا وافرا في البلاغة العربية القديمة، وهو ما يؤكّد بُعدها التداولي.                                                          

أ-تداولية المتكلم:                                    

  أعلت البلاغة العربية القديمة من شأن "المتكلم بوصفه منتج الخطاب، وباعثه، ولأنّه وحده الذي يستطيع تحديد الدلالات ومقاصدها"82. على خلاف اللسانيات الحديثة التي كانت متمركزة على الخطاب مغفلة منتجه مع رواج فكرة (موت المؤلف)، "ولم يبدأ الاهتمام بالمتكلّم إلاّ مع اللسانيات البنيوية بعدّه أساس فهم المعنى وقصد الدلالة"83.                

ب-تداولية المخَاطَب:

 حظي السامع في الدرس البلاغي العربي القديم بمنزلة لا تقل أهمية عن المتكلم، كذلك كان الشأن بالنسبة للتداولية التي تتقاطع مع البلاغة العربية؛ حيث إنّ من أهمّ مجالاتها الاهتمام بالسامع وإيلاء المخاطب عناية، لأنّه "هو من يُنشَأُ له الخطاب ومن أجله، وهو مشارك في إنتاج الخطاب مشاركة فعالة، وإن لم تكن مباشرة...."84، وقد ذهب أبو هلال العسكري في (الصناعتين) إلى القول بأنّ: "البلاغة في الاستماع، فإنّ المخاطب إذا لم يحسن الاستماع، لم يقف على المعنى المؤدي إليه الخطاب، والاستماع الحسن عون البليغ على إفهام المعنى"85. وفي هذا يقول إبراهيم الإمام: "حسبك من حظ البلاغة ألاّ يُؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يُؤتى الناطق من سوء إفهام السامع"86.                                                          

ج-تداولية الخطاب:                                   

   عني الدرس العربي القديم بالخطاب على اختلاف علومه، "ولم يفصل البنى اللغوية التي تناولها عن واقع استعمالها، فضلا عن وصفه اللغة أثناء استعمالها خطابا. وهذه من أهم القيم التداولية التي يتميّز بها، والتي لا يختلف فيها عن مجال التداولية الذي حدده اللسانيون حديثا في وصف اللغة في استعمالاتها، دون تجريدها من تداولها العادي"87.             

   أمّا الدرس البلاغي فاتصل بمسألتين أساسيتين في الخطاب من صميم البحث التداولي، وهما "مقتضى الحال، والخبر والإنشاء"88.                                                         

  إنّ مراعاة المقام أو مقتضى الحال في الخطاب عملية مهمة في تحقيق التواصل الناجح، وكان للبلاغيين العرب إشارة إلى ذلك، وفي هذا يقول- كمال بشر - أحد علماء اللغة العرب-: "ليس كلّ كلام صحيح صحة لغوية مطلقة، صالحا لمقامه، أو موفقا في أداء رسالته، في ظروفه وحاله، ففي هذه الحالة ينقص ضرب آخر من الصحة، وهي صحة الإيصال والتوصيل على وجه معين يقابل أغراض الكلام، ويُعنى بمقاصده، هذا الضرب من الصحة هو ما نسمّيه (الصحة الخارجية)، ويُنعّته علماء العربية بمطابقة الكلام لمقتضى الحال"89.                                           

  وعلى ضوء هذه العلاقة المتشابكة بين البلاغة العربية القديمة، والتداولية الحديثة يروم بوجادي إلى تأسيس (التداولية البلاغية) في الدرس العربي؛ لأنّ كثيرًا من مباحث البلاغة العربية يمكن ربطه بمقامات تواصلية حية، تجعل من الدرس البلاغي العام واقعا حيّا، يحياه المعلّم والمتعلّم على حدّ سواء. ونسجّل في الأخير بأنّ البلاغة العربية وحدها، بمباحثها العديدة، تقدّم نظرية كاملة للاتّصال، والمقاربة بينها وبين اللسانيات التداولية أكثر من ممكنة"90. ثم يستنتج قائلا: "ويمكن القول بأنّ التداولية وجه من وجوه البلاغة. ولقد اتّضح أنّ الدرس البلاغي العربي القديم قد عرف نظرية بلاغية متطورة جدا، وهي نظرية للتواصل عند كثير من الدارسين، لا تختلف عمّا تعرضه اللسانيات التداولية الحديثة"91.               

خامسا: البلاغة الجديدة، وشعرية الخطاب:

   لم تكن البلاغة القديمة لتَفي بغايات الدراسة الأدبية للنصوص، أو بالأحرى التعرّف على أدبيتها، فظهرت (الشعرية) كمفهــــــــــــــوم غربي، وإجراء قرائي للخطاب، بُني على فلسفة الشكلانيين الروس على رأسهم (رومانجاكبســــــــــــــون)             (RomanJakobson)، ووظائفه الستة التي تُنظّم حركة النشاط اللغوي، و تحدّد غاياته، ومدى قدرة الخطاب على أداء (الوظيفة الشعرية)، فهو يرى أنّ "الشعرية يمكن تحديدها بوصفها ذلك الفرع  من اللسانيات الذي يعالج الوظيفة الشعرية في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للغة، وتهتم بالمعنى الواسع بالوظيفة الشعرية لا في الشعر وحسب"92. ويتبيّن من هذا المفهوم سعي الشعرية إلى توسيع دائرة أفقها بالتوسّع على كلّ أجناس الكلام (شعر، نثر...)، وهو ما كانت تعوز البلاغة القديمة.                   

  والشعرية عموما هي محاولة وضع نظرية عامة ومجرّدة ومحايثة للأدب بوصفه فنّا لفظيا، إنّها تستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبية، فهي إذن تشخص قوانين الأدبية في أيّ خطاب لغوي93...             

   لقد كان للشعرية وللوظائف الستّة التي وضعها رومان ياكبسون أعظم الأثر في النقد العربي عامة والنقد الجزائري المعاصر خاصة، حيث اسْتُقبِلت (الشعرية) مصطلحا ومفهوما بإسهال حادّ حتى جرى على الألسن مجرى الدم في العروق، فيُقال: (شعرية الخطاب الشعري، شعرية الخطاب السردي، شعرية الرواية، شعرية المسرح، شعرية الصورة...)، لكنّنا إذا أمعنا النظر فيها، وفي فصولها، لم يُرد أصحابها سوى بلاغتها؛ لوجود علاقة تقاطع بين البلاغة والشعرية ، ولهذا يمكن وضعها ضمن التيار الشعري الذي يحاول تجديد البلاغة.                                           

   إذن ظهر هذا الوجه الجديد للبلاغة العربية في النقد الجزائري المعاصر، وهو (البلاغة الشعرية)، وهي محاولة للملمة مسائل البلاغة القديمة ووضعها في إطار منهجي منظّم ليصير مقاربة في تحليل الخطاب، لأنّ البلاغة تنشد الجمال أو الشعرية، ولا يحققها سوى الانزياح وظواهر بلاغية وأسلوبية كامنة في الخطاب.                        

  ولكثرة الدراسات النقدية الجزائرية في حقل الشعريات، سأقتصر على بعض النماذج لإضاءة الرؤية عن صور البلاغة الجديدة ككتاب (شعرية السبعينات لـ علي ملاحي 1995م)، (أصول الشعرية العربية لـ الطاهر بومزبر-2007م-)، وكتاب (شعرية القصيدة الثورية في للهب المقدس لـ نوارة ولد أحمد -2008م-)، و(شعرية الخطاب السردي لـ عبد القادر عميش -2011م-).                                                    

  يتأسس موضوع العلاقة بين البلاغة وفن الشعر على أساس أنّ كليهما من فنون الصناعة الشعرية في مجال اللغة94. وهذا التصوّر هو الذي حمل علي ملاحي على نفي صفة (الشعرية) في كتابه (شعرية السبعينات) عن شعراء هذه الفترة في الجزائر مثل الشاعرة ربيعة جلطي التي قال عنها: "ربما كانت هذه العلة المخلة بالشعرية السبعينية ناجمة عن عدم التمكن من الناحية الحداثية ... والانجذاب إلى المواقف الحماسية...التي زادت من وطأة المعايير الايديولوجية وغلبة الأساليب الخطابية الحادة الحافلة بقناعات تحتمل الصواب والخطأ ... أو على الأقلّ مرحلية الوجود.."95.                            

  وعلى ضوء هذا القول فسّر ملاحي افتقار الشعر السبعيني إلى مستوى الأداء الجمالي والبلاغي بهيمنة الايديولوجية والدفاع المقيت عن مواقف تحتمل الصحة والخطأ. والواقع أنّ هذا الحكم كان قاسيا؛ لأنّ "البلاغة تتحدَّد أساسًا بوصفها فعالية خطابية واستدلالية يتوسَّلها المتكلِّم لعرض فكرة أو فرض نظرية، وفي الحالين تقوم البلاغة سياسة في القول مخصوصة يتلطف منها المتكلم إلى تحصيل مطلوبه: حمل المخاطب على الإذعان والتسليم بما يلقى إليه من مضامين وإن لم يعتقد فيها حقيقة قائمة، لأن التعويل في مقامات التخاطب التي قصدها التأثير إنما يرتكز على سحر البيان وسلطة الكلام، وليس صحَّة "المعلومة" أو صدق الخطاب"96.                                           

  وتأسّف ملاحي على ما حلّ بالشعر في وقتنا الراهن من فساد وإسفاف في حوار أجرته معه الصحفية الجزائرية زهرة ديك في 1/7/2008م، ومن خلاله عبّر عن رؤيته الشعرية الناضجة، وهي "أنّ القصيدة في نهاية المطاف مشهد جمالي ممتع يتأسس على اللغة الاستعارية المكثفة التي تجعل من لغة الشعر إيقاعا مفارقا للغة الأجناس الابداعية الأخرى" 97.   

   أمّا الطاهر بومزبر في كتابه (أصول الشعرية العربية) فيرى بأنّه آن الأوان لإعادة قراءة تراثنا البلاغي بمنظور حداثي، وصياغته في قوالب منهجية واصطلاحية معاصرة تتوافق وتنسجم مع معطيات روح العصر، واستحداث طرائق أكثر فعالية لتحليل الخطاب، وإن كان القدماء لم يُغفلوا كثيرا منها سواء تعلّق بالشعرية، أو القضايا اللسانية والتداولية، لكن تحتاج إلى تطعيمها بمنجزات الغرب الحديثة في مجال اللسانيات، وفي هذا يقول: "يمكن القول بأن دراسة الخطاب اللساني العــربي بآليات ومقاربات منهجية معاصرة أضحى جديرا بالاهتمام بين الباحثين، والعلماء المختصين في حقوله المختلفة على اختلاف منطلقاتهم ومشاربهم نظرا لما وفّره علماء اللسان العربي في الخطاب التراثي من خلال المسح الشامل لمختلف علومه..."98.                                                                                                               

  وكانت القضية المحورية في كتابه "مساءلة بسيطة ذات إطار مرجعي لساني في الخطاب العربي التراثي تحت علم الشعريات وهو (منهاج البلغاء وسراج الأباء لـ حازم القرطاجني)، وحجم انسجامه الممكن مع الدوال اللسانية المكثفة الشديدة التركيز..."99. ومعنى هذا أنّ موضوع دراسته هو البحث عن مواضع التوافق بين نظرية حازم القرطاجني البلاغية مع الشعرية الغربية، وتناولها بلغة عصرنا، ومصطلحاته، والغرض من ذلك إقامة مناهج لسانية لها هويتها العربية، وأصولها التراثية..."100. وقد كان حازم سبّاقا إلى كثير من القضايا المتصلة اليوم بالخطاب الشعري وزّعها على ثلاثة محاور، وهي "أصول دلالية، أصول بنائية، وأصول أسلوبية"101، و "تفرّد باهتمامه الكبير بالإبلاغية، أو الظروف والشروط الموضوعية التي تكتنف ميلاد (خطاب شعري)، مع صدارة المتلقي في عملية تواصل من هذا النوع، ففي كلّ (مَعرف، أو معلم، أو مأمّ، وحتى منهج)، نراه يلحّ على ضرورة مراعاة نفس المتقبّل...فنراه يكرّر كل عبارة (ملائمة للنفوس أو منافرة لها)"102.       

 وقد ألفى بومزبر تقاطعا كبيرا بين بلاغة حازم القرطاجني وكثيرا من النظريات اللسانية الغربية كالشعرية وعلم الخطاب والأسلوبية ونظرية التلقي والتواصل. لكنه يرى بأنّ ذلك "ليس محاولة وسعيا لكي يصير الأموات معاصرين لنا نستشيرهم ونحاورهم في أشياء مستجدة لا يمكن لهم فيها رأي. وإنّما حاولنا إثبات وتأكيد قديم عند العرب، جديد على الحضارة الغربية المعاصرة من خلال (المنهاج)..."103. ونثني على الجهد الذي بذله بومزبر في تنقيبه عن أصول الشعرية العربية؛ لأنّه ليس من السهولة بمكان تناول المفاهيم البلاغية القديمة بمصطلحات معاصرة، لم يكن للقدماء لهم فيها ناقة ولا جمل.         

 وتجاوز عبد القادر عميش الخطاب الشعري إلى الخطاب السردي في كتابه (شعرية الخطاب السردي –سردية الخبر-)، وهذا يعني إمكانية توسع البلاغة لتشمل كلّ أشكال الخطاب، وأجناس الأدب، فالشعرية تسعى لمعرفة بلاغة الخطاب، وهو ما ذهب إليه عبد القادر عميش في قوله: "نحسب أنّ بلاغة الخطاب ماهي سوى شعريته. فإذا كانت بلاغة الخطاب هي لباسه فإنّ شعريته هي روحه المجسّدة في انحرافات أو انزياحات القراءة. فالقراءة الانزياحية للخطاب السردي تهدف إلى ردم فجوة دلالية في الشفرة المعجمية. أو لإظهار جمالية الخطاب، والكشف عن إشراقاته المحققة من خلال المجازات الأسلوبية، ولأنّ للقارئ معانيَ وأفكارا أكثر ممّا لديه من الكلمات..."104.                               

   وكان لحضور البلاغة العربية (في مقاربته الشعرية) على نصوص أبي حيان التوحيدي السردية بنسبة معتبرة، نجدها في المباحث الآتية:                                                       

-سردية الخبر

-شعرية الصورة الفنية (الصورة المركبة، والصورة المعنوية).

-شعرية الصورة المتوسعة.

-شعرية الانزياح.

-الإنسان والإدراك الجمالي.

-التناص.

-ازدواج الطباق.

-التعبير باللفظ الواحد

سادسا: عبد القادر فيدوح، وبلاغة التأويل:

  من الخطأ الجسيم الاعتقاد بأنّ (التأويل) اختراع حداثي صنعته المدنية الغربية، وهو منفصل عن البلاغة، لكن الحقيقة غير ذلك فهو يضرب أطنابه في التراث النقدي والبلاغي العربي، إذ جعله أبو حيان التوحيدي (ت414هـ)ضربا من البلاغة سمّاه (بلاغة التأويل) في قوله: "وقال أبو سليمان: البلاغة ضروب: فمنها بلاغة الشعر، ومنها بلاغة الخطابة، ومنه بلاغة النثر، ومنها بلاغة المثل، ومنها بلاغة العقل، ومنها بلاغة البديهة، ومنها بلاغة التأويل"105. وهذه الأخيرة هي:" التي تحوج لغموضها إلى التدبر والتصفح، وهذان يفيدان من المسمع وجوها مختلفة كثيرة نافعة، وبهذه البلاغة يتسع في أسرار معاني الدين والدنيا، وهي التي تناولها العلماء بالاستنباط من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام، والحظر والإباحة...وهاهنا تنثال الفوائد، وتكثر العجائب، وتتلاقح الخواطر، وتتلاحق الهمم، ومن أجلها يُستعان بقوى البلاغات المتقدمة بالصفات الممثلة، حتى تكون معينة ورافدة في إثارة تالمعنى المدفون، وإنارة المراد المخزون"106.           

  والجدير بالذكر أنّ التأويل ليس منهجا نقديا لتحليل الخطاب بل هو فعل قرائي يمارسه المتلقي بنفسه لاكتشاف الحقائق والدلالات المتوارية خلف النصوص، واختراق ما يحوم حولها من دواع غامضة من أجل بلوغ الفهم، وبذلك يتحول القارئ إلى ناقد منتج للخطاب، حيث يبني خطابا إبداعيا جديدا غير النص الأصلي.                          

  وفن التأويل متّصل بأكثر من حقل معرفي (البلاغة، الفلسفة، الإعجاز، اللسانيات، وغيرها)، ويعدّ أحد الأدوات الإجرائية المهمّة التي يستعين بها الناقد المعاصر في تحليل الخطاب على ضوء المناهج النقدية الحديثة من أسلوبية وسيميائية وتداولية وشعرية وتفكيكية.                                                       

  ولعلّ أبرز تجربة نقدية جزائرية معاصرة في مجال (التأويل)، والتي يمكن عدّها من التجارب الفذة في الخطاب النقدي الجزائري خاصة، والعربي عامة، هي جهود عبد القادر فيدوح الذي قدّم مادة معرفية كافية لبناء (نظرية في التأويل) من خلال كتبه كـ (نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية سنة 2005م، و (إراءة التأويل ومدارج معنى الشعر سنة 2009م)، إلى جانب مقالات منشورة مثل (الفهم بين التأويل والهرمينوطيقا)، و(مرقاة النص ولا تناهي التأويل).                           

  استقى فيدوح (نظرية التأويل) من مرجعيتين هما: الفلسفة العربية الإسلامية، والفلسفة الغربية (علم الهرمينوطيقا)، فهو يرى بأنّ التراث الإسلامي خلّف نظرية تأويلية عربية تمتّد صلاحيتها عبر الزمان والمكان، وتستمدّ طاقتها وحيويتها من البلاغة العربية التي بدأت نشاطها بفهم القرآن الكريم والبلاغة النبوية لتوصيل الشريعة الإسلامية وتفقيه المسلمين في أمور دينهم ودنياهم، وفي هذا يقول: "ولعلّ الاهتمام بالبلاغة لم يكن له الدور الفعال إلاّ عندما تبلورت إشكالاتها على مستوى تحديد الخطاب البياني، فانقسم المهتمون بذلك إلى فريقين: أحدهما عني بتفاصيل الخطاب وتفسيره، أمّا الثاني فاهتمّ بكيفية إنتاج الخطاب المبين، وكان أبرزهم المعتزلة الذين كان لهم فضل السبق في بلورة معالم المصطلح البلاغي بوصفه سياقا إجرائيا لصحة مزاعمهم التي كانت تتعارض مع صحة مزاعم خصومهم؛ الأمر الذي مكّن كلّ فريق من ضبط استدلالاته تحت سقف البلاغة بكلّ تفاصيلها من ضوابط وأنواع"107.                                        

  وإذا كان فن التأويل يتأسّس عند الغربيين على حالة (تجنب سوء الفهم) عند شلايمرمخر ((Friedrich Daniel Ernsschleiermacher، أو (لا محدودية المعنى) في تفكيكية جاك دريدا (Jacques Derrida)، أو طابعها الفلسفي التجريدي، وما ينجرّ عنها من فوضى وتشويش على القارئ بحضور الدوال وتغييب المدلولات. فإنّ التأويل في نظر فيدوح بدت معالمه في البلاغة العربية في "صورة اللفظ والمعنى، ثمّ أعقبتها نظرية معنى المعنى عند عبد القاهر الجرجاني والتي كانت في أساس مبدئها اللامتناهي بالقوة...حيث تكون درجة المعنى الحقيقي (المعنى الأول) بالفعل ودرجة المعنى لهذا المعنى الحاصل بالفعل (المعنى الثاني) إمّا بطريق الاستعارة أو التمثيل، وأمّا بطريق الكناية لا تكونان متناهيتين عندما يكون القول ليس شعرا. وأمّا معنى المعنى الممكن بالكناية أو بالاستعارة والتمثيل فهما مما لا نهاية له بالقوة في الشعر، ومما لا نهاية له بالفعل في القرآن"108. وهذا لا يعني أنّ التأويل ينحصر معناه في نقل المعنى المجازي إلى دلالته الحقيقية، وفي هذا يقول فيدوح: "يميل عن جادة الصواب من يعتقد أنّ التأويل في موروثنا العربي هو نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي، أو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، فقط. صحيح أنّ دقة المفاهيم، ووضوح الرؤية تبدو مكثفة لغلبة البيان على صحة الدلالة، لكن الأمر يتجاوز هذا المنظور الضيق الذي من شأنه أنْ يحدّ الكشف عن الدلالة المجازية..."109.                                                     

  ومن هنا، فإنّ التأويل–في نظر فيدوح-يتجاوز معناه الشائع لأداء وظائف بلاغية إفهامية إقناعية، ونلمس هذا في قوله: "لقد كرّست البلاغة العربية جهدها لفهم النص القرآني، مما أدى إلى التسليم بإعجازه، بوصفه لا متناهيا بفعل مشيئته في كلّ زمان ومكان. لذا كان حرص العرب على دراسة البلاغة في غاية الأهمية بغرض إمكانية توفير الإقناع، وبوصفها الأداة الإفهامية لمحاربة أهل البدعة والباطل في فهم النص الشرعي، واستخراج الاستنباطات السريعة الحكم"110.         

  من الواضح ممّا تقدّم، أنّ التأويل اتّسعت مجالاته، ووظائفه البلاغية -في نظر فيدوح-في الفلسفة العربية الإسلامية، لتشمل ما يلي:                                                       

أ-الوظيفة الإفهامية

يؤدي التأويل وظيفة إفهامية محاولة للإمساك بالمعنى، وهذا في قوله: "وهذا ما دعت إليه الفلسفات الحديثة التي اعتبرت الفهم أحد أطراف طرائق التأويل، وقد عبّر عن ذلك غادمير (Gadamer)، في قوله: "الفهم دائما تأويل، وتبعا لذلك يمثّل التأويل الشكل الجلّي للفهم..."111. وكانت بدايته بالجانب الديني ثم اتسع ليشمل جميع مجالات المعارف الإنسانية والاجتماعية والتاريخية وخاصة الفلسفة، وتحوّل التأويل من المؤلف ودلالة كلمة إلى المتلقي وطريقة فهمه، وإعادة إنتاج النص من جديد.               

ب-الوظيفة الإقناعية:  

 استعملت المدارس الكلامية التأويل للدفاع عن مواقفها عن طريق الحجاج، وأدى ذلك إلى توسع البلاغة على جميع الخطابات، وفي هذا الشأن يقول: "من كلّ ذلك يتضح أنّ توجّه المنظور التأويلي في الفكر العربي، على وجه الخصوص، كان ينطلق من موقف المتناظرين أو الخصوم بعضهم ببعض لإمكان مقارعة الحجة بالحجة والدليل العقلي..."112.      

ج-الوظيفة المقامية أو السياقية:

   لقد اتّصل التأويل بالمعنى المقامي لفهم المعنى وهو ما اُصطلح عليه في البلاغة العربية بـ (مقتضى الحال)، وفي هذا يقول: "وليس المقصود من المعاني هو تلك المحمولات الدلالية لمعاني الكلمات بقدر ماهي معان لفعل الفكر في منظومتها الاجتماعية والتي تحتوي في مضامينها جهاز المعرفة كاملا، وهي الأداة الفعالة التي يتمّ بها الإنجاز، حيث لا شيء يكون إلاّ باللغة، ومتى ما كانت اللغة أداة طيعة في يد الذات العارفة استطاع (عقل الفكر) أنْ يخلق من واقعية الأشياء إنجازا من الصورة وما يشبهها، من إشارة المبنى التي تولد المعنى، ومعنى المعنى، والمعاني المتواليات"113.                             

الخاتمة

    وصفوة القول، ومن خلال هذه القراءة الواصفة لجهود النقاد الجزائريين في تجديد الفكر البلاغي توصّلتُ إلى النتائج الآتية:

 - إنّ تجليات الحداثة في الخطاب البلاغي الجزائري المعاصر ظهرت في ربط الباحثين الجزائريين بين التراث البلاغي العربي، والمناهج النقدية الغربية على تعاقبها، فاستفاد الدرس البلاغي مفاهيم جديدة من حقول معرفية ونقدية كعلم السيميولوجيا، وعلم الجمال، وعلم النفس، والشعرية، والتداولية، وعلم التأويل، والأسلوبية، وعلم النص، وتحليل الخطاب.                  - ساهم النقاد الجزائريون في إثراء المنظومة الاصطلاحية للبلاغة العربية مستفدين من النقد الغربي كمصطلح الانزياح، والتناص والصورة الشعرية، هذه الأخيرة التي أخذت دلالات جديدة تتضافر في تشكيلها عناصر لغوية وغير لغوية من رمز وإشارة ولوحات إشهارية، وصور واقعية بعدما كانت محصورة في التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز في البلاغة التقليدية.

-ساهم النقاد الجزائريون في تطوير البلاغة مفهوما وتصورا ووظيفة لتصير علما واسعا للمجتمع يستعين بها الخطيب للتأثير على السامعين، والمحامي في الدفاع عن موكليه، ورجال السياسة في الترويج لسياستهم، بمعنى أنها أخذت أبعادا نفعية تداولية؛ كما رأينا ذلك عند عبد الملك مرتاض؛ ناهيك عن دورها في عملية التواصل الإنساني من خلال ارتباطها بعلم السيميولوجيا.

- كما ساهم النقاد الجزائريون في بناء نظرية بلاغية عربية مستفدين من التراث العربي، والمنجز النقدي الغربي، وهي البلاغة العامة التي كانت وظيفتها في الماضي مختزلة في التزيين وتحسين الكلام، ومتصلة بجنس واحد من الكلام هو (الشعر)، وتعتني بالجزئيات، فقد حثّ بومنجل على تعميم البلاغة على باقي أجناس الكلام كالرواية والمسرح والمناظرة، وأن تتجاوز البحث في الجزئيات إلى تحليل النصوص، ودراسة الأسلوب.

-هذا، وقد ظهرت خمسة اتجاهات بلاغية في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر، فمن الاتجاه الإحيائي المتمسك بالبلاغة القديمة، إلى الاتجاه الأسلوبي، والسيميائي، والشعرية، والاتجاه التداولي، فالتأويلي. وكان ذلك ثمرة الجهود السابقة التي ساهمت في دفع عجلة تطور البلاغة

الهوامش

1.حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تح.محمد الحبيب ابن الخوجة، تونس، الدار العربية للكتاب، ط3، 2008م، ص88.

2.ـ-رولان بارت، البلاغة القديمة، تر. عبد الكبير الشرقاوي، نشر الفنك، البيضاء، 1994م، ص5.

3.-محمد العمري، البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، المغرب، افريقيا الشرق، ط2، 2012م، ص12.

4.-منير محمد خليل ندا، التجديد في علوم البلاغة في العصر الحديث، رسالة لنيل درجة الدكتوراه، إشراف علي العماري، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ص3.وقد روى لنا الباحث منير محمد خليل ندا رحلته العلمية لتعلّم البلاغة، إذ يقول: "ولقد كنا ونحن طلاب في القسم الثانوي في معهد القاهرة الديني، نحس بجفاف البلاغة وكتبها، ونتساءل: أهذه هي البلاغة حقا؟ وهل يجوز أن يتعلم طالب البلاغة أول ما يتعلم التنافر والتعقيد والغرابة، وأن يكون ذلك أول ما ينطبع في ذهنه عن البلاغة؟ ثم هو لا يجد بعد ذلك-إذا ما أخذ يتعمق في الدراسة-إلاّ جدالا طويلا عقيما، مملاّ، يخرج منه في النهاية بأنّ الخلاف لفظي، أو أنّ الجهد لا يكافئ النتيجة، وتبحث عن البلاغة فتجدها ضائعة مطمورة تحت هذه الأمواج العارمة من المصطلحات والمحترزات والفرعيات التي لا حصر لها"

5.حمد حسن الزيات، دفاع عن البلاغة، القاهرة، عالم الكتب، ط2، 1967م، ص74.-

6.أمين الخولي، فن القول، القاهرة، دار الكتب المصرية، د.ط، 1996م، ص265.

7.عبد الملك مرتاض، نظرية البلاغة، متابعة لجمالية الأسلبة: إرسالا واستقبالا، ط2، دار القدس العربي، وهران، ط2، 2010م، ص273.

8.المصدر نفسه، ص7.

9.- سعد عبد العزيز مصلوح، في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية-آفاق جديدة-لجنة التأليف والتعريب والنشر، جامعة الكويت، ط1، 2003م، ص-ص67-68.

10.عبد الملك مرتاض، نظرية البلاغة، ص9.

11.المصدر نفسه، ص9.

12.-سعيد حسن بحيري، علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، مكتبة لبنان ناشرون، الشركة المصرية العالمية للنشر –لونجمان، ط1، 1997م، ص5.

13.هنريش بليت، البلاغة والأسلوبية، نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، تر. محمد العمري، ص24.

14.عبد الملك مرتاض، نظرية البلاغة، ص9.

15.سعيد حسن بحيري، علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، ص10.

16.عبد الملك مرتاض، نظرية البلاغة، ص274.

17.المصدر نفسه، ص-ص9-10.

18.أحمد حسن الزيات، دفاع عن البلاغة، القاهرة، عالم الكتب، ط2، 1967م، ص22.

19.-سلوى السيد حمادة، اللهجة العامية كأحد أسلحة القضاء على العربية، صحيفة اللغة العربية، بيروت لبنان، مقال نُشر يوم 25/11/2016.

20.المصدر نفسه، ص-ص278-290.

21.عبد الملك مرتاض، نظرية البلاغة، ص225.

22.المصدر نفسه، ص145.

23.عبد الملك مرتاض، نظرية البلاغة، ص11.

24.رولان بارت، قراءة جديدة للبلاغة القديمة، تر. عمر أوكان، ص173.

25.المرجع نفسه، ص173.

26.عبد الملك بومنجل، تأصيل البلاغة، ص15.

27.المصدر نفسه، ص16.

28.المصدر نفسه،ص17.

29.صلاح فضل، تجديد التراث البلاغي، أعمال المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي، ج1، ص12.

30.أمين الخولي، فن القول، ص-ص239-240.

31..-عبد الملك بومنجل، الموازنة بين الشاعرين الجزائريين مفدي زكريا ومصطفى الغماري، الجزائر، دار قرطبة للنشر والتوزيع، ط1، 2015م، ص113

32.المصدر نفسه، ص125.

33.-المصدر نفسه، ص98.                                                                                                             

34.المصدر نفسه، ص116.

35.مسعود بودوخة، الأسلوبية والبلاغة العربية، ص4.

36.مسعود بودوخة، الأسلوبية وخصائص اللغة الشعرية، ص9.

37.بيار غيرو، الأسلوبية، تر. منذر عياشي، ص9.

38.صلاح فضل، أساليب شعرية معاصرة، القاهرة، دار قباء، د.ط، 1998م، ص14.

39.مسعود بودوخة، الأسلوبية والبلاغة العربية، ص4

40.صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص38.

41.مسعود بودوخة، الأسلوبية والبلاغة العربية، ص29.

42.المصدر نفسه، ص20.

43.المصدر نفسه، ص23.

44.المصدر نفسه، ص24.

45.المرجع نفسه.

46.مسعود بودوخة، الأسلوبية والبلاغة العربية، ص5.

47.بشرى موسى صالح، المنهج الأسلوبي في النقد العربي الحديث، مجلة علامات، جدة، مج10، ع40، 2001م.

48.الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، تح. عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط7، 2008م، ص76.

49.- حبيب مونسي، بلاغة الكتابة المشهدية، نحو رؤية جديد للبلاغة العربية، سوريا، مجلة التراث العربي، العدد89، جانفي 2003، ص148.

50.المرجع نفسه، ص148.

51.المرجع نفسه، ص163.

52.حبيب مونسي، بلاغة الكتابة المشهدية، نحو رؤية جديد للبلاغة العربية، ص-ص148-149.

53.المرجع نفسه، ص149.

54.54. * البيت الذي يليه هو : فقلت له لما تمطى بصلبه     وأردف إعجازا وناء بكلكل.

55.حبيب مونسي، بلاغة الكتابة المشهدية، نحو رؤية جديد للبلاغة العربية، ص149.

56.محمد الصالح الجابري، الشعر التونسي المعاصر، الشركة التونسية للتوزيع، ط1، 1974م، ص253.

57.حبيب مونسي، بلاغة الكتابة المشهدية، نحو رؤية جديد للبلاغة العربية، ص152.

58.أحمد يوسف، السيميائيات والبلاغة، مجلة علامات، ع 28، الدار البيضاء، المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، 2007م، ص111.

59.المرجع نفسه، ص112.

60.المرجع نفسه، ص112.

61.صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص96.

62.هنريش بليت، البلاغة والأسلوبية، تر. محمد العمري، ص22.

63.المرجع نفسه، ص22.

64.جميل حمداوي، من الحجاج إلى البلاغة الجديدة، المغرب، أفريقيا الشرق، د.ط، 2014م، ص.93

65.*سليمان بن سمعون أستاذ جامعي وباحث جزائري معاصر في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة غرداية.

66.سليمان بن سمعون، البلاغة وعلاقتها بالتداولية والأسلوبية وعلم النص، مجلة الواحات للبحوث والدراسات، العدد 17، 2012م، ص46.

67.مسعود صحراوي، التداولية عند العلماء العرب، ص8.

68.المرجع نفسه، ص222.

69.المرجع نفسه، ص223.

70.مسعود صحراوي، التداولية عند العلماء العرب، ص223

71.المرجع نفسه، ص224.

72.المرجع نفسه، ص225.

73.المرجع نفسه، ص226.

74.-ملاوي صلاح الدين، نظرية الأفعال الكلامية في البلاغة العربية، مجلة كلية الآدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد خيضر بسكرة، العدد 4، جانفي 2009.

75.- المرجع نفسه.

76.المرجع نفسه.

77.-القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، تح. محمد عبد المنعم خفاجي، منشورات دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، ط5، 1980م، ص245.

78.الآخوند محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول، تح.سامي الخفاجي، إيران، انتشارات لقمان، ط1، 1413هــ، ص-ص93-94.

79.-خليفة بوجادي: نحو منظور تداولي لدراسة البلاغة العربية: ندوة الدراسات البلاغية: الواقع والمأمول،المملكة العربية السعودية، 2011م، ص713.

80.المرجع نفسه، ص714.

81.المرجع نفسه، ص716.

82.خليفة بوجادي: نحو منظور تداولي لدراسة البلاغة العربية، ص718.

83.المرجع نفسه، ص718

84.المرجع نفسه، ص 725.

85.أبو هلال العسكري، الصناعتين، تح. علي محمد البجاوي-محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط1، 1952م، ص16.

86.المرجع نفسه، ص16.

87.خليفة بوجادي: نحو منظور تداولي لدراسة البلاغة العربية، ص735

88.خليفة بوجادي: نحو منظور تداولي لدراسة البلاغة العربية، ص735.

89.كمال بشر، فن الكلام، القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر، د.ط، 2003م، ص80.

90.خليفة بوجادي: نحو منظور تداولي لدراسة البلاغة العربية، ص745

91.المرجع نفسه، 745.

92.رومان جاكبسون، قضايا الشعرية، تر.محمد الولي ومبارك حنون، المغرب، دار توبقال، 1988م، ص35.

93.حسن ناظم، مفاهيم الشعرية، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م، ص9.

94.صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص47.

95.علي ملاحي، شعرية السبعينات، ص48

96.مصطفى الغرافي، البلاغة والايديولوجيا، معابر –موقع الكتروني-، دمشق، سوريا، نيسان 2015م.

97.- علي ملاحي، العلاقات الشخصية أصبحت تجعل هذا وذاك شاعرا فحلا، حوار أجرته زهرة ديك، صحيفة الحوار الجزائرية، بتاريخ: 01/07/2008م.

98.الطاهر بومزبر، أصول الشعرية العربية، الجزائر، منشورات الاختلاف، ط1، 2007م، ص11.

99.المرجع نفسه، ص14.

100.المرجع نفسه، ص13.

101.المرجع نفسه، ص200.

102.المرجع نفسه، ص201.

103.الطاهر بومزبر، أصول الشعرية العربية، ص.202

104.عبد القادر عميش، شعرية الخطاب السردي –سردية الخبر-قسنطينة، دار الألمعية للنشر والتوزيع، ط1، 2011م، ص8.

105.أبو حيان التوحيدي، الامتاع والمؤانسة، ج2، تح.هيثم خليفة الطعيمي، بيروت، المكتبة العصرية، د.ط، 2011م، ص254.

106.أبو حيان التوحيدي، الامتاع والمؤانسة، ج2، ص255.

107.عبد القادر فيدوح، إراءة التأويل ومدارج معنى الشعر، سورية، دمشق، دار صفحات للدراسات والنشر، ط1، 2009م، ص32.

108.المرجع نفسه، ص32.

109.المرجع نفسه، ص66.

110.عبد القادر فيدوح، إراءة التأويل ومدارج معنى الشعر، ص32.

111.المرجع نفسه، ص68.

112.المرجع نفسه، ص71.

113.عبد القادر فيدوح، مرقاة النص ولا تناهي التأويل، مجلة حوليات التراث، مستغانم، الجزائر، ع07، 2007م، ص98.

@pour_citer_ce_document

فريد عوف, «الاتجاهات البلاغية في الخطاب النقدي الجزائري المعاصر بين هاجس التأصيل، ومسعى الت... »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ,
Date Publication Sur Papier : 2017-12-13,
Date Pulication Electronique : 2017-12-13,
mis a jour le : 17/10/2018,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=2364.