الاغتراب السياسي في الشعر الجزائري الحديث في مرحلة التحولاتPolitical alienation in modern Algerian poetry in the phase of transformations
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 Vol 16- 2019

الاغتراب السياسي في الشعر الجزائري الحديث في مرحلة التحولات

Political alienation in modern Algerian poetry in the phase of transformations
ص ص 137-152
تاريخ الارسال: 28/06/2017 تاريخ القبول: 24/03/2019

موسى كراد
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تسعى هذه الورقة البحثية إلى تسليط الضوء على ظاهرة الاغتراب في المتن الشعري الجزائري في مرحلة التحولات (الثمانينيات والتسعينيات)، وذلك بالحديث عن نمط ذاع في مجتمع وذات الشاعر الجزائري آنذاك، ألا وهو الاغتراب السياسي، نتيجة ظروف وخلفيات مختلفة تنوعت بين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث تجلى اغتراب الشاعر في تلك الفترة من خلال ثلاثة مستويات.

-   اغتراب الشهيد.

-   مأساة الجزائر واغتراب الذات الشاعرة.

-   اغتراب العرب والقضية الفلسطينية في الشعر الجزائري.

الكلمات المفاتيح: الاغتراب السياسي، الشعر الجزائري الحديث، مرحلة التحولات

Cet article vise à mettre l’accent sur le phénomène de l'aliénation dans la poésie algérienne dans les années 80et 90en parlant plus précisément de l'aliénation politique qui a caractérisé le style du poète algérien à l'époque suite aux changements des circonstances politiques, économiques, sociales et culturelles. Cette aliénation a été apparente à plusieurs niveaux : l’aliénation des Martyrs, la tragédie de l'Algérie et l'auto-aliénation du poète et l’aliénation des Arabes et la cause palestinienne dans la poésie moderne algérienne.

Mots clés:Aliénation politique, la poésie algérienne moderne, Phase de transitions

This paper seeks to shed light on the phenomenon of alienation in the Metn poetic Algerian in phase shifts (eighties and nineties), and then talk about the style and the type popularized and shot to the community and with the Algerian poet at the time, that is, political alienation, as a result of circumstances and different backgrounds ranging from political, economic and social and cultural, where the alienation of the poet in this period of over three levels. - Alienation martyr - The tragedy of Algeria and self-alienation of the poet. - Alienation of the Arabs and the Palestinian cause in Algerian modern poetry

Keywords: Political alienation, Modern poetry Algerian, Phase transitions

Quelques mots à propos de :  موسى كراد

المركز الجامعي عبد الحفيظ بالصوف – ميلةadab.kerrad@yahoo.com

توطئة    

 اعتبر الدارسون مرحلة الثمانينبات والتسعينيات من القرن الماضي نقطة تحوّل هامة سادت فيها حالة من الحزن فرضها وضع مأساوي عاشته وعايشته الأمة العربية الإسلامية عامة والجزائرية خاصة، حيث راح الشاعر وهو في أوج موته وانكساره يرقب ويتطلع بخطى ثابتة نحو التحديث والتجديد. و" لما كان الإبداع فعلا مضادا للموت والفناء كانت الكتابة مشروعا مستقبليا.. والإضافة والتجديد نوعا من تحقيق الذات ...  وتعبيرا عن وجهة نظر "1.  فاتّجه الشاعر إلى " تفكيك اللغة الشعرية الموروثة وتشييد لغة جديدة تحمل صفات الوجود المتجدد"2إذ  "لم يكن من بد من تلغيم النص، وتفجير بنيته المنخرقة لتأسيس بلاغة معاصرة تستجيب لدواعي التغيير في واقع الإنسان"3

مما أدى إلى إنشاء تجارب شعرية قدّمت المشهد الجديد بكل حمولاته وملابساته، والتي أفضت إلى " غموض النص من جهة، وانفتاح البناء النصي على متاهة الجيل من جهة أخرى "4، وقد وصف أحمد يوسف في كتابه " يُتم النص " " هذا الجيل بجيل اليتم، الذي يفتقد إلى أب يستند إليه، ويلوذ إليه، فراح يتبنى فلسفة خاصة ولغة جريئة انفجارية تتوشح هالة من السواد، وتركب غيايات التجريب والتجديد، وترسم واقع الشاعر بريشة الرفض والتجاوز "5،   فراح يلون أشعاره من خلالها بألوان التعبير والصور وينسج بخياله فضاء رحبا من الحرية، حرية شخصية للذات الشاعرة وأخرى للقارئ المتلقي.

والمتتبع للنص الشعري في الفترة المذكورة سيرى بوضوحٍ أنّ المعجم الشعري الجزائري لم يخرج عن ألفاظ الحزن والضياع واليأس، ثم " لفظ الوطن ثم يأتي بعد ذلك لفظ الموت مشكلا معجما وجدانيا مأساويا يبنى على ألفاظ كلها توحي بالمأساة، الدم والجراح، الفجيعة الدموع، الهم الأوجاع، الخراب، الدمار، الجنازة، الحزن، الألم"6، حيث يرجع ذلك للظروف السياسية والاجتماعية التي عاشتها البلاد في تلك الفترة، فانعكست جليا في التجربة الإبداعية للكاتب.

1.                       مفهوم الاغتراب ودلالاته

للاغتراب معانٍ ودلالات عديدة، تعكس طبيعة النظر إليه والرؤيا الفنية له، فتتبع اللفظ في المعاجم العربية يشير إلى أنَّه مشتق من الفعل غَرَبَ، يغربُ، بمعنى غاب واختفى وتوارى وتنحى وبَعَدَ عن وطنه إذ جاء لفظ الاغتراب في المعاجم العربية بمعنى الغربة عن الوطن، فقد أشار الفراهيدي إلى هذا المعنى بقوله: " الغربة: الاغتراب عن الوطن، وغرب فلان عنَّا أي تنحى وأغربته وغرَّبته، أي نحيته، الغربة النوى والبعد"7.

ويؤكد هذا المعنى الجوهري، إذ يقول:إنّ التغريب: النفي والإبعاد عن البلد مشيراً إلى الحديث النبوي الذي أمر بتغريب الزاني إذا لم يحصن8. وأشار ابن منظور إلى أن لفظ (الغرْب) بمعنى الذهاب والتخفي عن الناس، وترد الغربة والغرب بمعنى النوى والبعد، ويُقال غرَّب في الأرض إذا أمعن فيها، ورجل غريب ليس من القوم، والغريب الغامض من الكلام، وتبعه الزبيدي في تاجه9.

      إذن نجد أنّ لفظة الاغتراب تشير في أغلب معانيها إلى الغربة المكانية والابتعاد عن الوطن، إذ تشترك هذه الدلالة بجذر واحد هو (الانفصال عن) وبإرادة ذاتية أي حصول الانفصال برغبة الذاهب وإرادته،

                   أما في الاصطلاح فقد عدّ معظم الدارسين أنّ ظاهرة الاغتراب إنسانية وُجدت في مختلف أنماط الحياة الاجتماعية، وفي كل الثقافات ولكن بدرجات متفاوتة، ذلك أنَّ الاغتراب قد يعني الانفصال وعدم الانتماء، ويُعرّف أيضاً بأَنَّه وعي الفرد بالصراع القائم بين ذاته والبيئة المحيطة به، وبصورة تتجسد في الشعور بعدم الانتماء والسخط والقلق 10.

  لكن على الرغم مما كتب عن ظاهرة الاغتراب، فإنّ تداخل التخصصات أدى إلى تضارب الآراء، والاتجاهات والميول، فالمصطلح مازال يكتنفه بعض الغموض، وربما كان ذلك أمراً طبيعياً شأنه شأنَ غيره من المصطلحات المثيرة، ومع هذا التباين، وذلك الغموض، وتلك الاختلافات في الرؤى وأساليب المعالجة، فإنّ أغلب تلك الجهود التي بُذلت نجدها تتفق مع بعضها البعض، وتشير أغلبها إلى دخول عناصر معينة في مفهوم الاغتراب مثل (الانعزال) و(الوحدة) و(الغربة) و(الانفصال) و(الانخلاع) و(التخلي) و(الانتقال) و(التجنب) و(الابتعاد) والانسلاخ عن المجتمع، والعجز عن التلاؤم، والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع واللامبالاة، وعدم الشعور بالانتماء، بل أيضاً انعدام الشعور بمغزى الحياة 11. إذ أنَّ هذه الظاهرة تختلف من إنسان لآخر تبعاً لطبيعة تلك الشخصية، وحجم معاناته النفسية، فضلاً عن طبيعة علاقته بمن حوله، إذ يتميز كل إنسان بقدرة محددة ومعينة في توجهه لمعالجة المشاكل التي تواجهه والتي تختلف فيها درجات المعالجة واللامبالاة، إذ نلمس في هذا المصطلح تنافراً قائماً بين حال المرء، وما ينبغي أن يكون عليه12.

                   وقد حدّد عدد من الباحثين المحدثين دلالات الاغتراب ومضامينه والمتمثلة في العجز والاستسلام، والهراء، وفقدان المعنى، والتحلل من القواعد العامة المتبعة، أي ضعف الالتزام بالأعراف الاجتماعية المنظمة للسلوك، وكذلك الغربة الثقافية من خلال الشعور بالانفصال عن القيم السائدة في المجتمع، والعزلة الاجتماعية التي تعني الشعور بالوحدة والانفصال، وقطع العلائق الاجتماعية، فضلاً عن الغربة الذاتية التي تمثل القضية الجوهرية، إذ أنها تشير من طرف آخر إلى أن الفرد لم يعد يملك زمام ذاته13.وقد يتداخل المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ليعطيا مفهوماً واحدا، هو: الابتعاد عن الناس بالجسم والفكر، فالاغتراب عاطفة قد تستولي على المرء ولاسيما الفنانين، الذين –ربما- يعيشون في قلق وضياع نتيجة شعورهم بالبعد عما يحلمون  14.

   وقد شكّلت قضية الاغتراب أحد الروافد الهامة للفكر الإنساني، ومن مكونات الواقع الاجتماعي والنفسي والاقتصادي للفرد والمجتمع على السواء. وهي قضية وإشكالية لا يخلو منها أي عمل فني أو أدبي يعبّر عن الإنسان البدائي والمعاصر وإحساسه بالتمزق والضياع واللانتماء والقهر والاستلاب.

                   فلقد تعرض الإنسان – تاريخياً - لحالات اغتصاب، وقهر، واعتداء، وتشويه مسَّت شخصيته الإنسانية، فبدت عليه مشاعر البؤس والشقاء والاغتراب، فضلاً عن العقد النفسية مما يعني " إنّ مفهوم الاغتراب يشير إلى النمو المشوه للإنسان، حيث يفقد مقومات الإحساس المتكامل بالوجــود والاستمرارية" 15. عبر كامل أطوار حياته.

2.                       لمحة عن الاغتراب في الشعر العربي

                   لقد عرف الإنسان العربي الغربة والاغتراب، حيث عاش حياته متنقلا من مكان إلى آخر باحثا عن مواطن الكلأ والماء فألفت قدماه الّتنقل ولكن قلبه بقي معّلقا دائما بأول منزل، فوقف على أطلاله وجعلها رمزا لاغترابه النفسي والعاطفي، وخلق لخطابه الشعري مشاركا افتراضيا حتى يشاركه غربته، وليتسنى له الإفصاح عما في نفسه من مشاعر الأسى والحسرة، وهاهو "امرؤ القيس" يخاطب قبرا أمامه جمعته به الغربة المكانية فهو في جبل عسيب بعد أن انفطر قلبه على موت أبيه وانكسر خاطره لانعدام المعين:

أَجارتَنا إِنَّا غَرِيبانِ هاهنَــــــــــــــــــا

وكُل غَرِيبٍ لِلغرِيبِ نَسيب

وَليس غرِيبا من تَنَاءتْ دياره

وَلكن من وارى التُّراب غَرِيب"16  

 

                   فهو يرى أن الغريب ليس من بعد عن الوطن ولكن الغريب من تخّلى عنه القريب، وغدر به البعيد وسكن الّلحد ولم يجد عنه محيدا، كما لم يغب الاغتراب بأنواعه الأخرى عن شعراءالعصر الجاهلي، فهاهم الشعراء الصعاليك يبتعدون عن قبائلهم بعد أن استحال عليهم العيش معهم، فجعلوا من الصحراء القاحلة موطنا لهم ومن الوحوش بديلا عن أهاليهم يقول الشنفرى :

" أَقيموا بني أُمي  صدور مطيكم

فَإِنِّي إِلى أَهلٍ سواكُم لَأَميلُ"17  

 

فهو يفضل التشرد في الصحراء على البقاء في هامش مجتمع عنصري يسوده الظلم والأنانية لا مكانة فيه إ لا لصاحب مال أو نسب.

ويأتيالإسلام فيجعل للمرء هدفا يزيح عنه الاغتراب الّنفسي، ويحكم الأواصر بين أفراده فينتفي الاغتراب الاجتماعي، ويجعل للفقير نصيبا من مال الغني يدفعه له بطيب خاطر فيبعد عنه الاغتراب الاقتصادي، فتصبح الّنفس مطمئنة راضية، ويزهد الشاعر الذي تحركه المشاعر في قول الشعر،

لكن سرعان ما يتغير حال المجتمع بعدما تقلبت أحوال البلاد وكثرت الصراعات وتنافس الّناس من أجل الدنيا الفانية، فعاد الشعراء ليعزفوا لحن اغترابهم بعدما خالجهم الشعور بالإقصاء ولا انتماء.ففيالعصر الأموي يمثل "جرير" قمة الاغتراب الاقتصادي" فعلى الرغم من أن الشاعر كان من شعراء البلاط الأموي إلا أنه اكتوى بنار التجربة، وعانى من الاغتراب الاقتصادي الذي دفع به دفعا شديدا إلى اتخاذ الرحلة وسيلة ونمطا لمعالجة اغترابه " 18، فقصد الخلفاء واشتكى ضيق الحال وضياع العيال، فأمهم تنتظره لاطمة خدها لشدة ما تعانيه مع صغارها الجياع:

"  أَشْكُو إِليك فاشكني ذُرية

لَا يشبعون وأُمهم لَاَ تشْبع

رِشْني فَقد دخَلتْ عَلي خَصاصةٌ

مِما جمعتَ وكُلَّ خَيرٍ تجمع19  

 

فالشاعر لم يجِد بدا من أن يشكو حاله، فيمد يده مستجديا ليسد رمق عياله، وليس أشق على نفس الحر من أن يرى نفسه يتذلل من أجل لقمة،وهذا ما ينكأ جرحه النفسي أكثر.

ولا يمكن المرور على العصر العباسي دون الوقوف عند أبي العلاء المعري. فقد زادت ظلمة عينيه بزيادة اغتراب روحه، فصار لا يرى إلا ضلال الّناس وظلمهم:

رأَيتُ الحقَّ لُؤْلُــــؤَةً تَـــــــــــــــــوارت

يلج من ضلَالِ النَّاسِ جم

وَقد يلْقَى الغرِيب عَلى من ولاه

أَعز علــيك منخَالٍ وعـــــــــم20

 

ولا يشعر بغربة الغريب إلا من ذاق مرارة الغربة وعانى ألآمها، فصارت نفسه تبحث عمن يشاركها غربتها ويقاسمها لوعتها، وقد يجد غريب المكان من يواليه فيكون أعز من قرابته وأهله.

ولا اغتراب أصعب على نفس المؤمن من العيش تحت سطوة كافر يسلبه أرضه ويمنعه من أداء شعائر دينه. وظل الاغتراب بأنواعه المختلفة ملازما للشاعر صاحب الحس المرهف.

ولم يسلم منه شعراء العصر الحديث نظرا لما تعرضت له المنطقة من استعمار للبلاد واستدمار للقيم الاجتماعية والدينية والسياسية وغيرها فها هو "السياب" تتجلى غربته الحادة كما يتجلى إيمانه بوطنه،إلى جانب ذلّ حاله يقول الشاعر :

" الريح تَلْهثُ بِالهجِيرة كالجثَامِ عَلى الأَصيلِ

وعَلى القلَاعِ تَظَلُّ تطوى أَو تنشر لِلرحيلِ

زحم الخليج بِهِن مكْتَدحون جوابوا  بِحار

من كُلِّ حاف نصف عارِي21

فهؤلاء الذين يجوبون البحار يحملون معهم فقرهم وحاجتهم، لم يجدوا غير الرحيل فهو قدرهم، والغربة تناديهم في كل لحظة من حياتهم، والاغتراب يحتويهم فلا يترك لهم مجالا لرؤية ما وراء الأفق، صورة تكاد لا تفارق مخيلة أي شاعر عربي، فمرة يمس قلمه جرح الجماعة الكادحة، ومرة يمس جرحه العميق فيصيح من شدة الألم والبياتي صاح ولم يجد إلا الوحشة تغمره:

" وحدي بِلَا وعد أَصيح يا أَنت

  تَغْمرني وحشَةٌ واللَّيلُ لَم يأت 22

       وتبقى ظاهرة الاغتراب سمة واضحة ترافق الشاعر العربي في كل العصور مؤكدة على شفافية إحساسه، ورقة مشاعره ومعايشة لواقع شعبه ووطنه.

3.                       الاغتراب السياسي في الشعر الجزائري الحديث في مرحلة التحولات:

ويقصد بالاغتراب السياسي شعور الفرد بالعجز إزاء المشاركة في اتخاذ القـرارات السياسـية، والجوهرية لمجتمعه وبلاده فهـو" شـعور المـرء بعـدم الرضـا وعـدم الارتيـاح للقيـادة السياسـية والرغبـة فـي الابتعاد عنها وعن التوجهات السياسية الحكومية والنظام السياسي برمتـه ... شـعور الفـرد بأنّه ليس جزءاً من العملية السياسية وأنّ صانعي القرارات السياسية لا يضـعون لـه اعتبـارا" 23؛ بمعنـى أنّ الفـرد يشـعر بعـدم القـدرة علـى التأثير فـي المجـال السياسـي، فهو عاجز عـن إصدار قرارات سياسية، يفتقد لمعـايير تشـكيل نظـام سياسـي، وفـي المقابـل غيـر مرتـاح ولا يشعر بالانتماء في الوضع القائم .

                    فلقد عانى الشاعر الجزائري خلال الفترة الاستعمارية من قهر وظلم ونفي تجلى في اغترابه السياسي، فلم يعد قادرا على الاحتمال فثار ثورته في وجه المستدمر الذي جعل الفرد الجزائري غريبا في وطنه باقترافه لجرائم وتجاوزات خطيرة.يقول عبد الله شريط واصفا مشاعر الغربة التي تنتابه وبلاده ترزح تحت نير الاستعمار:

غريب حيثما أمشي طريد

وفي عيني ذلي وانتحابي

وكل بنيك منبوذين مثلي

وكل بنيك مثلي في اغترابي24  

 

وبعد فترة استعمارية طويلة كابد الشعب فيها الويلات بزغت شمس الاستقلال.. لكن الاغتراب عن الواقع السياسي بقي سمة بارزة حتى في هذه المرحلة.

                   فالمتأمل للقصائد الحديثة المكتوبة في سنوات الثمانينيات والتسعينيات يلاحظ كثرة الانتقاد للأوضاع السائدة، فقد وجد الشاعر نفسه محاصرا بدوامة من التناقضات كان أهمها إحساس الشاعر باللاجدوى، والقيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير عنه.

نجد سعد الله مثلا في إحدى قصائده يقول:

خدعتني

وعدتني حريتي

فلم أجد سوى قفص25

      كما نجد شعراء هذه الفترة يبرزون فساد السلطة من خلال رصدهم للصرعات السياسية حول كرسي الحكم، وما صاحب ذلك من انهيارات اجتماعية لم تولّد إلاّ الدمار والخراب، مقررّين في الآن نفسه عدم قدرتهم على التغيير من خلال إبانة الحصار الذي يعيشونه بسبب قمع السلطة. يقول يوسف وغليسي:

صقران يقتتلان يا ملك الملوك

ويهويان على سنابل حقلنا

لا غالب إلا الخراب ولا ضحية غيرنا26.

                   يصور الشاعر الوضع السياسي السائد الذي يقوم على تقاسم السلطة، ليس بالحوار والشورى، وإنما بالصراع والاقتتال، مما يؤدي إلى انتشار الخراب داخل البيئة البشرية التي يكون فيها الشعب دائما هو الضحية. ويعبر الشاعر أحمد حمدي عن قلقه على مصيره المجهول في عصر الموت كما أسماه فيقول:

أذكر قائمة المغضوب عليهم

أتحسس رأسي!

أذكر قائمة المحضورات

في عصر الموت

الحب... الميلاد... الكتب

الأرض... الشعر... الثورة27.

فالعصر عصر ممنوعات عليها علامة قف أو ممنوع الاقتراب، فأهم شيء تحافظ عليه بوجود هذه المحظورات هو رأسك، أن تكون من الأحياء، وهذا هو قلق الاغتراب الوجودي، أي أن تكون أو لا تكون (أقصد حياتك أو موتك).

                   ليس مستغرباً أن يصبح الوطن منفى كبيراً، والسجن وطناً يمارس فيه الإنسان حريته المسـتلبة خارجاً، ما دام المواطن داخل الوطن محاصراً بقائمة طويلة من الممنوعات التي تتصل بحريته الشخصـية؛ الميلاد، الحلم والحب، التفكير، العاطفة، الغناء، غير أن الأشد سوءاً هو أن يكون "وعي" المواطن هو المطارد وليس مجرد الجسد، فالزمن زمن الموت والفجيعة.

   ويمكن أن نوجز الاغتراب السياسي في أنواع ثلاثةِ عبّرت عن الواقع السياسي والشعري في مجمله، وذلك من خلال النماذج الشعرية المختارة، وهي:

-                       اغتراب الشهيد،

-                       الاغتراب ومأساة الجزائر،

-                       اغتراب العرب والقضية الفلسطينية في الشعر الجزائري.

‌أ.اغتراب الشهيد -  سقوط الرموز القيمية -   في الشعر الجزائري:

                   إنّ الشعر والكتابة وسيلتان للتعبير عن الرأي، ومنعهما دليل قوي على غياب الديموقراطية وحرية التعبير، وهذا ما جعل بعض الرموز القيمية التي ناضلت وقدمت النفس ليعيش الوطن تسقط وتغترب في أرضها ومبادئها التي كافحت من أجلها، فأصبح الشاعر الجزائري يعيب هذا الزمان المتعفن؛ فهو زمن خيانة الشهيد، لم تتحقق فيه الأحلام التي ناضل من أجلها والتي تمثل في الوقت ذاته أحلام الشعب، يقول أحمد حمدي:

ما زلت أجوب الشارع

(ضيق شارع الاستقلال

فسيحة ساحة الشهداء )28

                   فقد استعمل الشاعر عبارة (شارع الاستقلال) رمزا لهذه المرحلة التي ضاعت فيها أحلام الشعب، وعبارة (فسيحة ساحة الشهداء)، ليرمز بها إلى كثرة الشهداء الذين سقطوا لتحيى الجزائر حرة... لكن مجموعة من الخونة استغلت القضية والشعارات جاعلة من الشهيد ورقة تتاجر بها، يقول عبد العالي رزاقي وهو ناقم على هؤلاء:

أنا أعرفهم

أوراقهم مكشوفة

دخلوا أيامنا واغتصبوا أحلامنا

وانتحلوا قمصان عثمان

تخلى الله عنهم29.

                   فهو يتحدث عمن استفاد من الثورة والاستقلال، وهم وحدهم يتنعمون ويتمتعون، بينما الشعب المسكين يبحث عن لقمة عيشه بكد وذل في صورة اغترابية مخزية ومحزنة، كل ذلك لأنهم يخرجون لك ورقة رابحة لا تعرف الخسارة وهي الشهيد والشهداء والشرعية الثورية، لكن هيهات فكل ذلك شعارات رنانة تستغل العواطف والأشجان، بينما الحقيقة فهي الخيانة واغتصاب الأحلام والأموال.   

                   وها هو علي ملاحي يشير إلى أساليب السلطة وكيف سارت بالوطن إلى السقوط في متاهات الاغتراب والانهيار والموت، وأثر السياسة المنتهجة على المجتمع الجزائري:

أراك على الأرائك

في كؤوس الخمر

في جلسات من سلبوا

يديك..من الندى

ومن الشهب

....................
الله يا وطني النضير

بالمغريات
وبالنجوم
وباللآلئ والغيوم

تكسر الحب الوفير

بالمومسات
وبالقرار المستدير

الله يا وطني النضير30.

                   إنّ أسباب الأزمة عند علي ملاحي وإن بدت أخلاقية، فهي مرتبطة حسبه بالممارسة السياسية، وبمن لديهم مقاليد الحكم الذين تجاوزوا المصالح العامة إلى المصالح الخاصة، فأدوا بأساليبهم إلى انهيار الوطن بدل بنائه، هذا الوطن الذي ضحى من أجله شهداء أبرار، فها أنت تراهم يقيمون جلسات لشرب الخمر واللهو والمجون، وهو ما يمثل قمة الاستهتار والسخرية لما قدمه المجاهدون والشهداء لأجل هذا الوطن.

                   وهاهي ربيعة جلطي ترى أن تضحيات الشهيد (عيسات إيدير) ذهبت هباء، لأن الورثة خانوا وصيته، وتخلوا عن أهداف الثورة فتقول:

من حصب القائمة ينهض " عيسات "

متكئا على دمه

يمزق مد طوابير العاطلين، والمواسم المغلقة

خبرا: لعمال " الحجار" والمبللين برائحة

النفط وملح البحر في " أرزيو "

مشهد من رؤيا متسكع بـ ساحة

" بورسعيد " أو " الشهداء "31

                   وفي قصيدة أخرى تُمثل الشاعرة الشهيد يتساءل عن المسؤول عن الأوضاع المزرية والمتدهورة في الجزائــر، وما آلت إليه؟، وربما يقول في نفسه ألهذا قدمت نفسي والنفيس؟ أهكذا تحفظ الأمانة يا ساستي ويا شعبي؟ وا حسرتاه! تقول:

" عبان " يشهر في وجه الريح قلبه

يشم على عنق التاريخ حقيقة رهيبة

يجلس محاذيا لجدار منطفئ

من يحاكم؟

و ... " عبان " صار شارعا يصعد إلى الأسفل

في العاصفة 32.

                     إنّ كل ما ناله الشهيد هو وضع اسمه على لافتات الشوارع والمؤسسات الحكومية، بحيث غدا شعارا يتغنى به الناس، في الوقت الذي أهمل فيه المسؤولون مواصلة المسيرة وتحقيق ما كان يصبو إليه الشهداء بعد الاستقلال، يقول عبد العالي رزاقي:

يا أيها الشهداء

قوموا فالمقابر قد تباع لغيركم

" ديدوش " لم يحلم بغير لقائكم

واليوم يوضع في المزاد البربري33

                   وهي إشارة للتفريط في الأرض والوطن الذي راح ضحيته هؤلاء العظماء، ويذكّر الشاعر هؤلاء السماسرة بأنّ الشعب مازال متمسكا بمبادئ الثورة، يقول:

يا سادة الوطن المقدم للبنوك هدية

مليون يسري في دم الفقراء

ما زال دمنا نداء الثورة الأولى

وما زلنا نمارس حبنا العربي34

                    فالشاعر مغترب يرفض هذا الواقع وسلبيات الوضع الراهن في وطنه، ويعلن وفاءه وحبه الأزلي الذي يسري في عروقه وعروق الفقراء، للأرض والوطن والثورة في سبيلهما.

                    لقد ضحى من أجل هذا الوطن الشهداء، وجعلوا حياتهم ودماءهم قربانا ليحيا الباقون ويحافظوا على الوطن. فإذا ضاع الوطن فماذا نقدم للشهداء؟، والشاعر حكيم ميلود أحس بغصة الألم، والوطن ممزق فذكَّرنا دون أن يذكر ميثاق الشهداء:

لم يبق غير الرماد

وما أنبتتنا به الريح من تعب

وضياع على طرقات الفجائع

نحمل تعويذة العشق والموت

للوطن التائه في الرؤى والحنين35.

فقد حفظوا لنا الوطن، لكنّنا ضيعنا كل شيء؛ أحلامهم، أحلامنا وتهاوت كل القيم والمبادئ وكل ما بنوه لنا. وفي مقطوعة فنية جميلة يستحضر أحمد شنة شهيدا قال عنه أنّه (آخر الشهداء) ليشهد معه ما آل إليه الذي ضحى من أجله.. يدعوه ثم يبكي من خلاله حال الوطن ويعترف له بجرأة أنّنا بعنا القضية وخننا العهد.. وأصبحنا عارا عليه وعلى الوطن..

جفّ النّهار وشــاخ الوحي واللّهـب

فاحمل رفاتك أن القبـر ينتحــب

................

ودع دمــاءك وارحل من خرائطــنا
 

 

الأرض ماتت ومات الحـب والعرب
  

يا آخــر الصلوات في مساجدنـــا

أدعوك حتّى يجفّ الصوت والغضب

أدعوك كي تورق الصحراء في جسدي

إنّي ظمـأت وهذا البحر يقتـــرب

أدعوك كي ترفض الألقاب في زمــن

أضحى الرجـال على جدرانه قصب

كنّا نسميك إعصـارا وملحمـــــة
 

واليوم ضاقت بك الأسمــاء والكتب 

يا آخر الشهـــداء بين أذرعنـــا
 

ارحل فأوراس حلــم سوف يحتجب

بعنـــاك للروم فاخرج من مصاحفنا
 

شاخ الصهيل وشاخ الصمت والصخب

......................

قد أنكروك فلا تسكــن قصائدهــم
 

 

واخــرج من القبر حتّى تسقط الرتب

كم عــانق البحر في عينيك شاطئـه
 

لولاك لم تحـبلْ الشطــآن والسحب  

لولاك مـا كـان هذا الفجر معبدنــا
 

لولاك ما أينــع التــاريخ والنسب36

 

وبعدما بَعَثَهُ من مرقده في شعره يطلب منه الرحيل حتّى لا يزيده كمدا وحزنا واغترابا، ولم يعط للشهيد حق الكلام في رمزية متعالية، وبمنطق المعترف بالذّنب الراضي بأي عقاب ينزل. لقد كان الشهيد رمزا للماضي الحافل بالانتصار والزهو والكبرياء، ولكنه في حاضر الشاعر يعيش اغترابا وسقوطا لقيمته وقيمه الرمزية المعنوية، لأنه يمثل قيمة تاريخية مفتقدة في زمن الاغتراب.

لقد تغنى شعراء الجزائر كثيرا بالرموز القيمية التاريخية، والتي منها (الشهيد)، وذلك لما يعنيه من إحساس بالوطن وبالماضي والتاريخ، وبه مارسوا الحنين الجارف إلى هذا الوطن وإمكاناته وعانقوا المقامات الشامخة له، فكان الاغتراب اغترابا قيميا.

‌ب.                     الاغتراب ومأساة الجزائر

إنّ ربط الأدب عامة والشعر على وجه الخصوص بمرجعياته التاريخية والسياسية، وسياقاته الاجتماعية والثقافية أمر محتوم لا مفر منه فتأمل الشعر العربي والجزائري منذ نشأته يكشف لنا عن تزامنه مع هذه المرجعيات وتلك السياقات. وانطلاقا من هذا الربط الخاص بين فن الشعر والمرجعيات العديدة لا نجد غرابة في ارتباط الشعر الجزائري على وجه التحديد بالسياق السياسي منذ ظهوره الأول.

فليس خفيا أن الكاتب/ الشاعر لا يمكن أن يكتب بعيدا عن الظروف، التي يعايشها بكونه ذات داخل وطنه ومجتمعه، وبخاصة الظرف السياسي، إذ عبّر شعره عن الظروف السياسية والتاريخية وأخلص لها.

إذا علمنا أن الخطاب الشعري الذي تضمنه الشعر الجزائري الحديث منذ السبعينيات قد تماهى مع الثورة التحريرية بكل تفاصيلها وتحولاتها، والثورة الاجتماعية التي أعقبت الاستقلال، وحاورت المصائر الفردية والجماعية بكل طموحاتها وانكساراتها بعد ذلك، بداية من الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات حين بلغت الصراعات السياسية أقصاها مع بروز أصوات تدعو إلى قيام نظام سياسي جديد، وهكذا ظهرت نصوص في الشعر الجزائري، - جرّاء هذه الظـروف الجديــدة -، تعبر وبطرق مختلفة عن هذا الوضع المتأزم الذي بلغ ذروته مع بداية التسعينات التي اتسمت باستعمال العنف، وغياب الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي.

غير أن هذا العنف والتأزّم - وإن كان من طبيعة البشر السلبية-  فإنّه كان محفزا ايجابيا ودافعا قويّا لإثراء المتن الشعري الجزائري ومنحه نفسا جديدا نحو التطوّر والإبداع والدفع به للأمام، فهذا العنف، أو ما يعبّر عنه بالأزمة الوطنية أو العشرية السوداء، قد أنتج وعيّا نقديّا متميّزا لها الأدب.

لقد خلقت هذه الظروف المتأزمة في العالمين الغربي والعربي أدبا بأشكال جديدة، ارتبط فيه المصير الفردي بالمصائر الجماعية، ولأن الجزائر (إبان العشرية السوداء) ليست بعيدة عن هذه الحال المتأزمة، وعن هذا الحراك الشعري فقد أدى إلى ظهور أشكال جديدة للتعبير لم تكن معروفة من قبل.

إنّ الأزمة الوطنية خلال العشرية السوداء تختلف عن الثورة التحريرية في ظروفها ودقائقها وملابساتها، فإذا كانت الثورة قد قامت ضدّ عدوّ معلوم، هدفها الحرية واسترجاع السيادة الوطنية على غرار الثورات العربية، تبقى ظروف الأزمة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد مجهولة غامضة لحدّ الساعة، وإن مهّدت لها الصراعات الإيديولوجية والسياسية منذ انقلاب 19جوان 1965وصولا إلى أحداث أكتوبر1988، التي شملت كل التراب الوطني، لتعلن جرحا عميقا لم يندمل بعد.

كل هذا أدّى إلى تلاشي الأحلام وفقدان الثقة واستفحـال الأزمة الوطنيـة والتمرّد على المبادئ والقيم، صحبه تمرّد من نوع آخر، إنّه التمرد الأدبي على الشكل التقليدي للشعر بقيّمه الجمالية الكلاسيكية، أنموذج تجلّت فيه بعض المعايير الجمالية والفنية استطاعت أن تعكس ما أسلفنا الحديث عنه من تغيرات كبرى مسّت الوطن خلال عشرية كاملة.

مست البلاد والعباد - في التسعينيات -  أزمة أتت على الأخضر واليابس، أفقدت الشاعر جدوى لحياته، بل زرعت في نفسه أسباب العدمية والفناء الدائم.  من هنا بدأ الشعراء في إبراز مواقفهم وخطاباتهم ورؤيتهم لما يحدث في بلدهم، فالتقى الكثير من الشعراء في الرؤيا، حيث يقرر يوسف شقرة مع أحمد حمدي ألا جدوى من الحوار إذا كان المخاطب ميتا لاهيا مهتما بنوبات (الراي) وعواء الساسة:

وأحاور موتى

يستدرج بعضي بعضي الآخر

في حفلة قتل

تصهل فيه ( نوبات الراي )

و ( دعاء ) الشيخ

و ( عواء ) الساسة

وطني يتألم من رأسه37.

إنّ حفلة القتل التي حدثنا عنها الشاعر صنعها أهل القرار والحكام كل على مستواه، وكأن الأدوار المنوطة بهؤلاء اختزلت فيما لا طائل منه سوى الألم والضياع واليأس، فبعد أن كانت الثقافة والدين والسياسة الأعمدة التي تبنى عليها أية أمة، فقد اختصرت في خطابات جوفاء تصدر عن عقول خاوية، ابتعدت عن جادة الصواب والطريق، وبذلك فحفلة القتل كانت لقتل المجتمع برمته، وصرفه إلى سفاسف الأمور، وليس القاتل هنا سوى أولئك الذين أسندت إليهم القيادة والذين يشبههم الشاعر بالرأس مركز القرار لدى الإنسان. ويمكن أن نقول بأن أزمة الوطن والألم الذي يعانيه سببه الرأس غير الواعي، غير المدرك لحقائق الأمور، رأس مليء بأفكار وأطروحات أدت إلى وأد هذا الوطن، فالألم هنا ألم أفكار لا ألم أجساد، ويقول أيضا:

تتهاوى أنظمة الرمل

( .......)

تتساقط أوسمة اليأس

( ......)

اشتبكت في حلم موبوء

ينهض من زمن اليأس

ليواصل أعراس البؤس38.

وقد حاول الشاعر أن يساير هذا الظرف (المحنة) ويصور الألم والوجع المـدفون بـين الدفقات الشعرية، وهو ما وضحه الشاعر مصطفى دحية في نصه (مدونة أخرى للموت)، فهو مـوقن بالموت واستقباله في كل الأحوال، لكن هذا الظرف فاجأ الجزائر علـى غـرة منهـا، وأوقع أبناءها في فتنة أصبح الموت الحد الفاصل بين هذه النزاعات، فلبس الموت فـي التوظيف الشعري لباس المكر والخديعة وهتك الأعراض، يقول:

الأيام
تحترق الفجيعة في السؤال:

من يدفن الموتى إذا قدم السؤال؟!

ورأيت ظلك ذات ليل مترف الخطوات

                             ينتف ظلّه

وأنا أسود حبر خوفي بالأمل

كانوا جميعا يهرعون إلى عنان الأرض...

يكتلحون بالأقدار...

كنت خطيبهم...

من يدفن الموتى إذا اصفّر الأجل؟!39

                   فـ (الأيام، الفجيعة، يدفن الموتى، ظلك، ليل، حبر، الأرض) تكرس الوجع؛ الذي ألهب المجتمع الجزائري عموما، فالتعاسة غلبت على يوميات الشعب الجزائري، فقد كثر التقتيل الذي أدى إلى تراكم جثث ملطخة بدماء الأبرياء، فلم تجد من يواريها الثرى.

وليس بعيدا عن هذا المدلول يأخذنا الشاعر فاتح علاق حين يتساءل في قصيدة ( صحراء ) عن نقطة للبدء، وقد عشّش اليأس في الأحداق وتحولت الشوارع إلى أنهار من دم فشبه العيون بالأزهار، غير أنها أزهار تلقح باليأس وترتوي بالدم بدل الماء. إنه زمن الدم واليأس والاحباط:

من أين البدء

من طلع اليأس على الأحداق

أم من أنهار الدم

من سيف الليل وصمت الخيل40

لقد ارتبط الاغتراب في الشعر الجزائري في فترة التسعينيات بذلك الجرح العميق الذي أحدثته يد الفتنة التي أتت على الأخضر واليابس. فربيعة جلطي عبرت عن الحدث السياسي 05أكتوبر 1988، وكانت شاهدة على هول الفاجعة التي شكلت نقطة الفصل بين زمن للخنوع والصمت الثقيل، وآخر للانتفاضة جوبه بالقمع والاضطهاد تقول:

يا عصافيري الملونة

كيف تغنين؟

والبوليس يقف بين اللهاة والحلق

يتمشق الموت وإنزال العقاب

(......)

يشق الخراب.. يبهر الحلم41.

تقوم هذه القصيدة على مزيج من القمـع والمطاردة والاستدعاء والتحقيقات والمداهمة، لم يعتن الشاعر فيها بسرد أحداث متتابعة قدر اعتنائـه بطرح رؤية شديدة الاختزال كثيفة الترميز تعكس علاقة المواطن بالسلطة. هذه العلاقة لا تجيء مباشرة بين طرفي الصراع، وإنما من خلال (الشرطي) الأداة الفعلية لتنفيذ الإجراءات، الذي تمثل صـورته كل ما تعتنقه السلطة من مفردات البطش والاستبداد.

عذرا أيتها العصافير فليس الزمن زمن غناء!!، هكذا تقول ربيعة جلطي، فلم يترك البوليس وقتا للّهو والغناء، بل جعلنا نترقب موتنا وإنزال العقاب بنا، بجريمة أو دونها، فالحياة كلها مختصرة في المسافة بين اللهاة والحلق، هي حياتنا وموتنا، هي سعادتنا واغترابنا.

                     ويقول عز الدين ميهوبي واصفا لحظات من الفقد والانكسار والألم الذي يعيشه الشاعر ومن ورائه الأمة بفعل محنة جعلته يشعر بالاستلاب والضياع والتشتت.

قلت (يا عراق إني

((متعب

((هذا خطاي

((تعجن الاثم يداي

كلما أبصرت طيرا من بلادي

قلت نبئني...

دمي المذبوح مات 42

وفي قصيدة أخرى يصور الشاعر واقعا سياسيا عقيما، تتوالى فيه صور الإحساس بالأسى والتشتت والألم التي تدل على حالة التمزق القصوى التي تعيشها الذات الشاعرة، التي قد تبلغ أحيانا بالتدرج نحو الفناء كسبيل للخلاص والهروب، يقول:

لم أجد وطنا يحتويني

سوى دمعة من عيون الوطن

لم أجد غير أغنية من رحيق الصباح

الذي لا يعود

لم أجد غير هذا المسافر دون حدود

لم أجد غير هذا التراب الذي ينهش الحزن

أطرافه والفتن

يسأل الناس قبرا وفاتحة للوطن43

لم يبق للشاعر غير دمعة يذرفها للوطن وقبرُ يدفنه فيه وفاتحة يقرأها عليه، فكل شيء مات بالنسبة إليه الوطن والإنسان والتراب ويقول أيضا في " بكائية بختي ":

أستح أن ألمح الورد يموت

وأغني

استحي مني

ومن عمري يموت

أستحي مني

ومن عاري أموت44.

فالشاعر يلوم نفسه ويستحي منها؛ فكيف تغني وتنشد وورود الحياة تموت، كيف يغني وأخيار الرجال والأصحاب تموت، أي طعم ولون للغناء بعد قطف هذه الورود؟!ويضيف في قصيدة ( شمعة لوطني ):

هم الطالعون من الموت في زمن

شكله جمرة

لونه خمرة

طعمه حسرة

والبقية شيء من الموت والانكسار45.

أنها سنين الجمر التي مرت على الجزائر، وأطعمتها الحسرة والندامة، وتركتها تعيش الموت والانكسار والاغتراب. نجد شاعرا آخرا اكتوى قلبه لأحزان بلاده ووطنه وما عايشه من أوضاع سياسية مزرية، فنجد في شعره جرسا حزينا، ومسحة مأسوية، يقول:

تحطم في داخلي الإنسان

تحطمت في داخلي طفولتي

واكتملت فجيعة الحرمان

وصرت يا أماه

أحس بأنني مهرب من تربتي

كطحلب الحيطان46.

يضعنا الشاعر هنا أمام لوحة مغرقة في السواد والمأساوية، صورة شخص يشرف على الهلاك، بعد أن تحطمت آماله وأحلامه وتحطم معها ذلك الإنسان البريء براءة الأطفال، لقد أصبحت المأساة تتلبسه وتخطف منه البسمة وتزرعه في أراضي اليأس والألم. فلقد جلبت الأزمة السياسية للجزائر وشعرائها الموت والمأساة والقتل والعبث، يقول فاتح علاق في ذلك:

هذا زمان الدم

قابيل يقتل هابيل

أوديب يقتل لاووس

فاهرب إلى جثة واحتجب47.

هنا نلمس بعض التصريح المموه بأن المخاطب هو الشاعر حينما يأمر (أدخل إلى جثة واحتجب) وما الجثة إلا ذلك الجسم والجسد الخامل الذي أنهكته المحن وانعدم إحساسه بذاته فأضحى ميتا... فهى دعوة إلى الموت والهروب إلى عالم الأموات الذي لا قتل فيه ولا دم (حياة). فلقد تغير الزمان إلى زمن الدم، زمن الموت، زمن يجرأ فيه الأخ على قتل أخيه، لقد جعل الشاعر الموت والهروب إليه كسبيل للخلاص من وطأة واقع سياسي عقيم، نجده يقول أيضا:

هو الموت حط على حبة القلب

والليل سيف يحط على الجيد إما تعب

انتظر طعنة من هنا

وانتظر طعنة من هناك

أطلق رصاصتك الآن وفارتقب

      قاتلا لا يراك48.

لقد توسع الشاعر في وصف معالم الفوضى والارتباك التي يعانيها عالمه والموت العشوائي المتربص بالفرد، ومن ورائه الوطن، والأبيات في مجملها تحمل إدانة للواقع الذي قُتل فيه كل جميل.

وها هو عياش يحياوي الذي جمع في قصائده كل ألفاظ معجم الاغتراب، وقد تعطر دمه بالمأساة، وفي العلقم المسموم اغتسل وضمه الحزن أشلاء، فيقول يبكي غربته:

غريب من دمي تتعطر المأساة...تكتحل

غريب من حياض العلقم المسموم اغتسل

يضم الحزن أشلائي سكارى ضوءها ثمل

يقطرها عصيرا باكيا في عمقه الآجل49

وإذا التفتنا إلى قصيدة (من أقوال غيلان الدمشقي) يحاول الشاعر عبد الحميد شّكيل نقل صورة عن اضطهاد رجال السياسة لكل من يحلمون بالإصلاح والتغيير، يقول:

مضينا أسرعنا في المسير

لعلنا ندرك قوافل الرحيل

لكنما: محاكم التفتيش والعذاب

والشرطة ومزوروا الصكوك

أصدروا تعليمة تقول

بالحرف الواحد تقول

أن لا خروج للذين يحلمون

بعودة الطيور والربيع50

لم تكتف السلطة بفرض هذا الواقع الاغترابي المهين، بل منعت كل تغريدة فيها أمل للخروج من هذه الشرنقة والقوقعة الاغترابية، وأعلنت ألاّ خروج للذين يحلمون بعودة الطيور والربيع.

إنّ مما يضاعف شعور المرء بالاغتراب هو افتقاده الأمن داخل وطنه، وشعوره بأنـه منفصـل عن نظام السلطة، الذي يجري تطبيقه في المجتمع. فلا أشد رهبة في أن يجيء الخوف ممـن يفتـرض أن يكون هو المانح للأمن مثل رجل الشرطة.

لكن رغم الواقع السياسي الأليم تحدى الشعراء السلطة بشعرهم والقصيدة، فها هو نوار بوحلاسة يعلن بأنه لن يخاف هذه المرة لأن الصمت جبن، آملا في تغيير العلاقات المتردية والقوانين المتحكمة في الأوضاع الراهنة يقول:

سأقص كل ما رأيت

وأقول أشياء كثيرة

وهذه المرة لن أخاف من شمس الظهيرة

حتى لو أبعدوني عن مسكني

وأهلي... والجدران... والحبيبة

سأقول أشياء كثيرة

حتى لو مزقوني إربا إربا

حتى ولو أحرقوا القصيدة

لانني عشت أيامي في صمتي

و الصمت جبن51.

إنَّ مأساة الجزائر جراء تلك الأزمة في تسعينيات القرن العشرين شهدت اغترابا للوطن والذات والمجتمع برمته، فالكل خائف ومنعزل يشك في كل شيء وأي شيء، انعدمت الطمانينة والأمن النفسي، وحل محلهما الخوف والهلع، حتى إنك لو طلبت نسخة طبق الأصل عن بطاقة تعريفه لسبب بسيط لامتنع عن إعطائك إياها، فالجرح لم يندمل بعد، جرح مازال يؤلم إلى يومنا هذا!

‌ج.                     اغتراب العرب والقضية الفلسطينية في الشعر الجزائري

إنّ مظاهر الاغتراب السياسي في الشعر الجزائري الحديث لم تقتصر على القطر الجزائري فقط، بل كثيرا ما يشير الشعراء إلى الواقع السياسي العربي المغترب، حيث يلفتون إلى مظاهر القمع والفساد والانهيار الحاصل بشكل عام، محيلين ذلك إلى سلوك الحكام.

فالملاحظ في هذه الفترة أنّ الشاعر تخطى حدود الوطن فشارك المواطن العربي مآسيه وما يلاقيه من اضطهاد واستبداد الحكام؛ فكان يتألم لأحواله ويشعر بما يشعر به من غربة واغتراب في ظل تلك الأوضاع السياسية، فقد أصيب الشاعر باليأس بسبب الحالة التي وصل إليها الوطن العربي وما يتعرض له من إرهاب وذعر وأطماع.. في ذلك يقول عمار بوالدهان:

 

فكيف أغني

ونحن العرب

نعانق في الشرق أتربة وجراح

ونحيا على طلقات البنادق

وتكوى مآذننا باللهب

ونرضى المجازر... ونرضى المشانق

ونخشى الرياح

ونمزج ألحانا بالنواح52.

يلوم الشاعر نفسه ويعاتبها، فكيف بها تغني وإخواننا يقتلون، !؟ ومساجدنا تدنس وتحرق، كيف نغني ونحن نرضى المجازر والمشانق! فهو آنذاك نواح وليس غناء.

يجمع معظم الشعراء بأن الحكام السياسيين هم السبب في كل ما لحق بالعرب؛ فهم الذين خذلوا الشعب ولهثوا وراء مصالحهم، غير مكترثين بالصالح العام، خانوا البلاد واستبدوا بالناس، زارعين فيهم الخوف والرعب، يقول الشاعر:

يا سادتي الأقزام

ضيعتم دياركم وشعبكم

ضيعتم التيجان في آخر الزمان53.

ثم يقول:

يا سادتي سيوفكم من الحطب

لم تخدعوا سوى جماهير العرب

من قدم الانجيل والقرآن

سلمتم السلاح في " القتال " في " بغداد "

نسيتم الفتوح والأمجاد

قاتلتم إخوانكم، شنقتم القبائل الأكراد

وأصبح الخائن فيكم سيدا يستعبد الأسياد

شنقتم الأحرار في السودان

قتلتم الثوار في تطوان

يا سادتي اللئام

فليسقط الحاكم بعد الحاكم

الطاغية الجبان

لتسقطوا يا سادة الخداع والإجرام54.

في هذه المقطوعة الشعرية المؤلمة والقاسية يفضح الشاعر عمار بوالدهان من كانوا سببا في تعاستنا وذلنا وانكسارنا، ولاسيّما أمام الأخر المستعمر الغاشم، الذي مازال حكامنا الأبرار يتوددون إليه، ويخافون منه شاهرين سيوفا من حطب للخداع والنفاق، باعوا وخانوا وأجرموا فليسقطوا الحاكم بعد الحاكم.!. 

وبقيت القضية الفلسطينية محط اهتمام الشاعر الجزائري في هذه المرحلة، فنجد عبد الحميد بن هدوقة متضامنا مع أصحاب القضية متحسرا على ضياع فلسطين من أيدي العرب الذين انقادوا وراء العهود الكاذبة وأغوتهم الخطب الرنانة، يقول:

كان الزمان صغيرا

والشعوب غريرة

بالخطب الكبيرة

وكان بيع ومساومة

وكانت كؤوس مريرة

والجدود والعهود

والبنت الصغيرة

لم تتحرر بالرغم من مرور السنين55.

لم تتحرر فلسطين من قيود العبودية والاستعمار، فسيطر اليأس على أصحاب هذا الحلم الكبير، لذا نجد الشعراء ساخطين على الحكام الذين باعوها وساوموا اليهود عليها. إذ بقيت فلسطين أسيرة لم تجد من يفك أسرها، وأصبح تحريرها حلما مستحيلا ومفقودا، يقول الشاعر:

واستمرت الأغنية

نفس الأغنية

لتحرير الأخت

العربية

بالعهود

بأسلحة عاد وثمود

ومضت السنون

والحكام الأقدمون

وتحررت أمم وشعوب

ولكن الأغنية

ما زال نغنيها إلى متى نغنيها؟

لم نغنيها!

للحلم المفقود56.

ويقول محمد الأخضر عبد القادر السائحي مصورا ثورته وسخطه، ورفضه لسياسة الحكام الذين خانوا فلسطين وشعبها على لسان طفل فلسطيني:

أبتاه قرأت كتاب الثورة سفرا سفرا

ومسحت فنادقها الحمراء دما مرا

وشربت عصير الغدر كؤوسا

ملأتها أيدي الأعداء نبيذا... عفوا

أعني أيدي الإخوة57.

لقد خان العرب الثوار ورخصوا دماءهم، خوفا على مصالحهم وزعامتهم، خوفا على مناصبهم، فباعوا وخانوا، يقول:

أنشر صورة من خانوا (تل الزعتر)

أكتب من جبل النار

ذكرى يتلون فيها من غدر الثوار

أكتب بمداد الثورة

رسم الوطن العربي

رسما لا يعرفه الحكام

من مشرقنا حتى مغربنا58

في السياق نفسه ينتقد بوزيد حرز الله توجهات الحكام العرب الذين قبلوا التسوية مع العدو جريا وراء الأموال والمناصب متخليين عن المبادئ القومية، يقول:

فهذه رسالتي أمامكم موضوعها استقالتي

من منصب يعشقه العرب

و لتشهدوا بأني مواطن

من طينة رافضة

معاندة59

ويلقي باللائمة على الأئمة، ولعله يقصد بهم كل المثقفين الذين تخلوا عن رسالتهم، فكانت النتيجة ضياع مجد العرب، يقول:

فالله صورني

أودعني سمائه الملبدة

أرسلني مزودا بآية الجهاد

أوكلني بشرح ما أهمله أئمة البلاد

تفجري مدينتي

وعانقي اللهب

لترجعي

جميع ما من مجدنا سلب60.

ثم يعود مخاطبا الحكام فاضحا لجرائهم وجبنهم بقوله:

يا أيها الذين

تاجروا بعرضنا

ووقعوا عن خزينا

وآمنوا بما يحيك بعضنا لبعضنا

قصوركم

بنوككم

فجوركم

أوراكم مكشوفة

لا تتعبوا أنفسكم

قد يغفر الإله

ما تقدم من ذنبكم

لكنما مدينتي من

جبنكم بريئة61.

تكشف هذه الأبيات عن وجوه معاناة الشاعر من خلال ألفاظ معينة تؤكد معاني الاغتراب، ويغلب عليها الحسرة - من حكم هؤلاء الساسة والحكام-، وهمس النفس الباكية، وظهور كآبة وغربة الأنا والمدينة التي تعيش قمة حزنها، والقلق إزاء كل ما يحيط بها. يعلن تمرده عليهم، معيبا عليهم جبنهم، وخيانتهم لقضايا العرب خوفا من الأعداء، فيقول في تحدي شجاع وجريء:

سفينتي يا سادتي لما تزل مسافرة

تعلمت من بحرها ركوب ما أرهبكم

سفينتي وحيدة لكنها مثابرة

حرفتها رغم الردى المغامرة

وأنها ضد الذي أخرسكم

ومرغ أمامكم عزتكم62.

      يستحضر عز الذين ميهوبي رمز "صلاح الدين"، القدس والأمجاد الماضية، ويناديه مستصرخا راجيا عودته بعد الذي حلّ بفلسطين:

أين الشموخ العنتري وهـــل

كلّ الذي كنـــا رؤى وكــرى

ذقنــا الهوان .. الذل.. في بذخ

يا ويلتـــاه ! العار فينــا .. سرى!

عد يا صلاح الدين، فالبلاء أتى

والقــدس لـيل .. ظل معتكــــرا63  

 

فالشاعر هنا يستجدي روح (صلاح الدين) العائدة، بكل ما يمثله صلاح الدين/الرمز من مبادئ ورؤى ومواقف وأعمال. فنحندون صلاح في بلاء وعار.

خاتمة

ونختم هه الدراسة بجملة من النتائج منها:

-                       لقد تغنى شعراء الجزائر كثيرا بالرموز القيمية التاريخية، والتي منها (الشهيد)، وذلك لما يعنيه من إحساس بالوطن وبالماضي والتاريخ، ومن خلاله مارسوا الحنين الجارف إلى هذا الوطن وإمكاناته وعانقوا المقامات الشامخة له، فكان الاغتراب اغترابا قيميا.

-                       كان لفلسطين ومآسيها حضور مكثف في الشعر الجزائري، وفي هذا الشأن يقول عبد الله ركيبي: " لا نغالي إذا قلنا إنّ الإنتاج الأدبي الجزائري شعرا ونثرا في القرن الماضي دار في معظمه حول ثلاثة محاور: الوطنية، والعروبة، والوحدة العربية وفلسطين"64، فاغتراب الشاعر عن الواقع السياسي لم يقتصر على الظروف والأزمات التي مرت بها الجزائر فحسب، إنما كانت تأثرا بما كان يجري من حوله في الوطن العربي ككل.  وهذا دليل واضح على إحساس الشاعر الجزائري (الشعب الجزائري) بما يجري حوله وتأثّره بما يلاقيه إخوانه في شتى البقاع من العالم.

-                        إنَّ مأساة الجزائر - جراء تلك الأزمة في تسعينيات القرن العشرين – جعلت الوطن والذات والمجتمع برمته يعيشون اغترابا متنوعا، فالكل خائف ومنعزل يشك في كل شيء وأي شيء، انعدمت الطمانينة والأمن النفسي، وحل محلهما الخوف والهلع، حتى إنك لو طلبت نسخة طبق الأصل عن بطاقة تعريفه لسبب بسيط لامتنــــع عن إعطائك إياها،فالجــــــرح لم يندمل بعد، جرح مازال يؤلم إلى يومنا هذا !.

إنّ مظاهر الاغتراب التي ارتسمت في الشعر الجزائري عبر مظاهر سياسية سمتها الفساد والطغيان والانهيار الأخلاقي العام، هي التي أدت- حسب الشعراء- إلى الانهيار الاجتماعي في مختلف مستوياته، مؤكدين على أنّ الانهيارات الاجتماعية، وأغلب أشكال التأزّم الموجودة في الواقع الاجتماعي والثقافي الفكري سببها أدوار السلطة

الهوامش

1. محمد نجيب التلاوي: القصيدة التشكيلية في الشعر العربي، الهيئة المصرية للكتاب، 2006، ص 2

2.حمد يوسف: يتم النص والجنيالوجيا الضائعة، منشورات الاختلاف، المغرب، ط1، 2002، ص 26

3. محمد بنيس: ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، دار العودة، بيروت، ط1، 1979، دار تو بقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب ط2، 2001 ص .127

4. محمد بنيس: كتابة المحو، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1994، ص 53.

5. حمد يوسف: يتم النص والجنيالوجيا الضائعة، ص 363.

6.كمال فنيش: البناء الفني في الشعر الجزائري المعاصر، مخطوط، جامعة قسنطينة، 2000، ص 76..

7. الفراهيدي، كتاب العين، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي 4/41.

8.ينظر: الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، 1/191، وينظر: سنن النسائي الكبرى للنسائي 4/257.

9. ينظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة غرب، تاج العروس، الزبيدي، مادة غرب.

10.                     ينظر: أحمد محمد الجرموزي، الاغتراب وعلاقته ببعض متغيرات الصحة النفسية، (أطروحة دكتوراه) ص25.

11.                      ينظر: قيس النوري، الاغتراب اصطلاحاً ومفهوماً وواقعاً (بحث) ص4.

12.                     أحمد علي ابراهيم الفلاحي، الاغتراب في الشعر العربي في القرن السابع الهجري -دراسة اجتماعية نفسية، دار غيداء للنشر والتوزيع، ط1، 2013، ص: 08.

13.                      ينظر: عبد القادر موسى حمادي المحمدي، الاغتراب في تراث صوفية الإسلام (أطروحة دكتوراه)، ص16.

14.                      ينظر: حافظ الشمري، الغربة والاغتراب في شعر نازك الملائكة، (بحث) م كلية الآداب، ص131.

15.                      علي وطفة، المظاهر الاغترابية في الشخصية العربية، عالم الفكر، العدد الثاني، أكتوبر، ديسمبر، 1998، ص: 47.

16.                     امرؤ القیس، دیوان امرؤ ألقیس، دار الكتب العلمیة بیروت لبنان، ضبطھ وصححھ: مصطفى عبد الشافي، د ط، د ت، ص: 49

17.                      یوسف خلیف، الشعراء الصعالیك في العصر الجاھلي، دار غریب للطباعة، القاھرة، د ط، د ت، ص: 168

18.                     فاطمة محمد حمید السویدي، الاغتراب في الشعر الأموي، مكتبة مدبولي، مصر، ط: 1، سنة: 1997، ص: 6

19.                      جریر بن عطیة بن حذیفة، الدیوان، تحقیق رمزي مكاوي، المكتبة العصریة، صیدا، بیروت ،ط: 1، سنة 1429 ه ،. ص: 3

20.                     أبو العلاء المعري، دیوان أبو العلاء المعري، تحقیق محمد عبد الرحیم، دار الكتب الجامعیة،بیروت لبنان، ط: 01. سنة: 20

21.                     محمد راضي جعفر، الاغتراب في الشعر العراقي (مرحلة الرواد) دراسة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سنة: 1999، ص 24.

22.                    المرجع نفسه، ص: 27.  

23.                     محمد خضر عبد المختار، الاغتراب والتطرف نحو العنف، دراسة نفسية اجتماعية، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1999، ص: 35.

24.                     عبد الله شريط، الرماد، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، ص: 53-54.

25.                     أبو القاسم سعد الله، الزمن الأخضر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985، ص: 369.

26.                     يوسف وغليسي، تغريبة جعفر الطيار، دار بهاء الدين للنشر والتوزيع، قسنطينة، الجزائر، ط2،2003، ص:46.

27.                     أحمد حمدي، قائمة المغضوب عليهم، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980، ص: 58.

28.                     المصدر نفسه ص: 63.

29.                     عبد العالي رزاقي، أطفال بورسعيد يهاجرون إلى أول ماي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط2، 1983، ص: 16-17.

30.                     علي ملاحي، العزف الغريب، الجاحظية، الجزائر، 2011، ص: 49- 54- 55.

31.                      ربيعة جلطي، تضاريس لوجه غير باريسي، دار الكامل، دمشق 1981، ص: 71.

32.                     المصدر نفسه ص: 74.

33.                     عبد العالي رزاقي، أطفال بورسعيد يهاجرون إلى أول ماي، ص: 62.

34.                     المصدر نفسه، ص: 62.

35.                     حكيم ميلود، جسد يكتب أنقاضه، منشورات التبيين، الجاحظية، الجزائر، 1996، ص: 11 .

36.                     أحمد شنة، زنابق الحصار، شركة الشهاب، الجزئر، 1989، ص:73- 74-  .75

37.                     أحمد حمدي، أشهد أني رأيت، دار الحكمة، الجزائر، 2000، ص: 14.

38.                     المصدر نفسه، ص: 14.

39.                     مصطفى دحية، اصطلاح الوهم، ص: 22- 23.

40.                     فاتح علاق، آيات من كتاب السهو، ص: 49.

41.                      ربيعة جلطي، شجر الكلام، منشورات السفير، مكناس المغرب، ط1، 1991، ص: 11.

42.                     عز الدين ميهوبي، اللعنة والغفران، منشورات دار الأصالة، سطيف، الجزائر، 1997، ص: 35.

43.                     المصدر نفسه، ص: 69.

44.                     المصدر نفسه، ص: 69.

45.                     المصدر نفسه، ص: 77.

46.                     مالك بوذيبة، عطر البدايات، منشورات اتحاد الكتاب، دار هومة، ط1، 2003، ص: 53.

47.                     فاتح علاق، آيات من كتاب السهو، ص: 59.

48.                     المصدر نفسه، ص: 60.

49.                     حسن فتح الباب، شعر الشباب في الجزائر بين الواقع والآفاق، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، دط، 1987، ص: 156.

50.                     مجلة أمال، شعر ما بعد الاستقلال، ص: 204.

51.                      المصدر نفسه، ص: 107-108.

52.                     عمار بوالدهان، معزوفة الظمأ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، ص: 13.

53.                     المصدر نفسه، ص: 26.

54.                     عمار بوالدهان، معزوفة الظمأ، ص: 28.

55.                     عبد الحميد بن هدوقة، الأرواح الشاغرة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط3، 1981، ص: 37.

56.                     المصدر نفسه، ص: 38.

57.                     مجلة أمال، شعر ما بعد الاستقلال، ص: 231.

58.                     المصدر نفسه، ص: 232.

59.                     حرز الله بوزيد، مواويل العشق والأحزان، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1984، ص: 64.

60.                     المصدر نفسه، ص:65.

61.                     المصدر نفسه، ص: 66-67.

62.                     المصدر نفسه، ص: 68.

63.                     عز الدين ميهوبي، في البدء كـان أوراس، دار الشهاب، الجزائر، ص: 195- 196 -197.

عبد الله ركيبي، فلسطين في النثر الجزائري الحديث، مجلة الثقافة، تصدرها وزارة الثقافة، الجزائر، العدد،27 جوان، جويلية،1975، ص37

@pour_citer_ce_document

موسى كراد, «الاغتراب السياسي في الشعر الجزائري الحديث في مرحلة التحولات»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 137-152,
Date Publication Sur Papier : 2019-04-11,
Date Pulication Electronique : 2019-04-11,
mis a jour le : 11/04/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=5490.