الجَسَدُ في الخِطَابِ الرِّوائيِّ العَربيِّ قِرَاءَةٌ في أَنْمَاطِ التَّمْثِيلِThe body in the arab novelist discourse: a reading of the modes of representation
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°03 Vol 16- 2019

الجَسَدُ في الخِطَابِ الرِّوائيِّ العَربيِّ قِرَاءَةٌ في أَنْمَاطِ التَّمْثِيلِ

The body in the arab novelist discourse: a reading of the modes of representation
ص ص 112-126
تاريخ الإرسال: 2018-12-08 تاريخ القبول: 2019-09-24

محمد مزيلط
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تَنطَوِي مَوْضُوعَةُ الجَسَدِ في الخِطابِ الرِّوائيِّ العَرَبيِّ المُعَاصِرِ على أهميَّة بالغَةٍ، وتُشَكِّلُ مَوضُوعًا بحثيًّا مُتميِّزًا، ولَعَلَّ مَرَدَّ ذلكَ إلى تَشعُّبِ مَسَالِكِهَا، كونُهَا تَتَخَطَّى حُدُودَ الأدَبِ، وتَتَعَالَقُ مع مَجَالاتٍ أُخْرَى على غِرَارِ الخِطَابِ الدِّينيِّ، وعِلْمُ الاجتماعِ، والأُنثرُوبُولُوجِيا.

ومن هُنَا تَكْمُنُ أَهمِيَّةُ هذِهِ الورقَةِ العِلميَّةِ السَّاعية إلى بَيَانِ طَرائِقِ تَمْثِيلِ الجَسَدِ في الرِّواية العربيَّةِ عَبْرَ مَسَارَاتِهَا التَّاريخيَّةِ من خِلالِ مِحْوَرين: الكِتَابةُ، والنَّقْدُ. وقَد اِتَّضَحَ لَنَا من البَحْثِ الأوَّليِّ، أنَّ عَدَدًا من نُصُوصِهَا لم يَخُرُجْ عن نَظِيرِهِ الغَرْبيِّ في الرِّهَانِ على التَّمثُّلِ الإِيرُوسِيِّ للجَسَدِ، وهو ما يَبْعَثُ على التَّسَاؤُلِ، لِمَ تُثِيرُ الموضُوعَةُ المُشَارُ إليها سالِفًا جَدَلاً في الثَّقَافَةِ العَرَبيَّةِ أَكْثَرَ من غَيرِهَا؟ ألاَّ يُمْكِنُ أن تُبَطَّنَ بِحُمولاتٍ غَيْرَ التي ذُكِرَتْ؟

الكلمات المفاتيح: جسد، إيروس، ثاناتوس، طابو، ما بعد حداثة.

Le thème du corps dans le discours romancier arabe contemporain jouit d'une grande importance, comme il constitue un sujet de recherche si particulier. Ceci pourrait être expliqué par son aspect multidimensionnel, car il dépasse les frontières littéraires pour s'entrelacer avec d'autres domaines tel le discours religieux, la sociologie et l'anthropologie.

Ce qui précède est une justification pour cette contribution scientifique qui vise à démontrer les codes de représentation du corps dans le roman arabe à travers son parcours historique en focalisant sur deux axes : l'écriture et la critique. Il nous s'avéré, grâce à une première lecture, qu'un nombrer de textes ne s'est pas éloigné du roman occidental dans l'enjeu de l'assimilation érotique du corps, un constat qui motive cette problématique : pourquoi le thème du corps provoque-t-il un tel débat dans la culture arabe plus que dans d'autres ? Ne pourrait-il pas receler d'autres charges que celles mentionnées ?

Mots clés : Corps, Eros, Thanatos, Tabou, Postmodernisme.

The theme of the body in the contemporary Arabic novelist discourse is of great importance. It constitutes a particular research subject for its multidimensional aspect which goes beyond literary borders and intertwines with other domains such as religious discourse, sociology, and anthropology. This paper aims to demonstrate the modes of representing the body in Arabic novels throughout history by focusing on two axes: writing and criticism. Based on the statement that some Arabic texts did not move away from the Western novel in the issue of the erotic assimilation of the body, this paper seeks to answer the following research questions: why the theme of the body raises such a debate in Arab culture more than in others? And could it not conceal other charges than those mentioned?

Key words: Body, Eros, Thanatos, Taboo, Postmodernism.

Quelques mots à propos de :  محمد مزيلط

جامعة ابن خلدون تيارتmezilmed1@gmail.com

مُقدِّمَةٌ

يَحْمِلُ الجَسَدُ في الخطاب الروائيِّالعربيِّ طابعًا إشكاليًّا؛ لأنَّهُ يتأرجَحُ بين استبدادين: (ثقافةُ الاستِبدَادِ، واستِبدَادُ الثَّقَافَةِ) على حدِّ تَعْبيرِ "فيصل الدراج"، فثقافةُ الاستِبدَادِ تدلُّ على سُلوكٍ مُترسِبٍ في سُلْطةِ المرجع التي تَعْمَلُ على رسم خُطوطٍ حمراءَ للفعلِ الثَّقافِيِّ، تُصنَّف في أُطُر الطابوهات الثَّلاثة: الدِّين، السياسة، إضافةً إلى الجنس، الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالجسَدِ. وفي المُقابل هُناك ثَقَافةٌ مُستبِدَّةٌ، وهي خَاصيَّةٌ مُميِّزةٌ للفِعْلِ الثَّقافيِّ في أَحَدِ توجُهَاتِهِ، حَيْثُ تَعْمَلُ جَاهِدةً إلى إلغاء كُلَّ حُدُودٍ، وتحطِّمُ كلَّ طابو يعترض سبيلها، وتبتغي الوُصُولَ إلى المُطْلَقِ الذي قال عنه "إدوارد الخراط": «لا وجود للحرية إلاّ إذا كانت مطلقة، في الأساس: منطلقا، وطريقا، وهدفا على السواء»1. فالراجحُ أنَّ حريَّةَ المُنطلَقِ لا تَتَأتَّى للخراطِ ولا لِغَيرِهِ دُونما مُمَاحَكَاتٍ مع ثقافَةِ الاستبدَادِ، أمَّا حُريَّةُ الطَّريقِ في هذا المقامِ عادةً ما تُوصَفُ بأنَّها نزعةٌ ميكافيليَّةٌ مَقِيتَةٌ. ومن هذه الزَّاويا يتَّضحُ أنَّ البحثَ في ضوابط الكتابةِ الرِّوائيَّةِ يَحْمِلُ طابعًا سِجَاليَّا جَدَليًّا، يَكادُ يَكُونُ لا متناهيًا، مادام الصِّراعُ لم يُحْسَم فيهِ لأيِّ طَرَفٍ.

يُشَكِّلُ هذه البحثُ الباحثُ في أَنْمَاطِ تمَثيلِ الجَسَدِ في الخطاب الروائيِّ العربيِّ فَصْلاً من فُصول الصِّراعِ المُشار إليه سالفاً، ولأجلِ ذلك بُنِي على أساسٍ جَدَليٍّ، تتَّضِحُ معالِمُهُ في ثُنَائيَّةِ: (الكتابة والتَّلقِّي)، فقد تَنظُرُ عملية التَّلقِّي في بعض توجُّهاتِها إلى تِيمَة الجَسَدِ على أنَّها شكلٌ من أشكالِ الثَّقافةِ المُستبِدَّة بالمُقَدَّساتِ، وفي توجُهٍ مُخْتَلِفٍ يُنْظُرُ إلى التِّيمَةِ ذاتها نظرةً أقلُّ ما يُقال فيها إنَّها مُخْتلِفَةٌ عن الأُولى، وما يَنسَحِبُ على عملية التَّلقِّي يَنْسَحِبُ على فِعْلِ الكتابةِ أيضًا.

وبناءً على ما تقدَّم فإنَّ كُلَّ إشكاليَّة من الإشكاليات التَّالية تجدُ مشروعِيتَهَا في بداية هذه الوَرَقَةِ إلى حين تقديمِ أجوبةٍ موضُوعيَّةٍ عَنْهَا. فلماذا تَحْرِصُ بعضُ الكِتابات الرِّوائيَّة العربيَّة على اختزالِ الجسد في دائرة إيروسيَّة ضيِّقَةٍ؟ وهل الجَسَدُ عاجزٌ عن محمُولاتٍ أخرى غير الشَّهوانيَّة!ألا تغدو تلك المُحاولات مُجَرَدَ كَسْرٍ للتجانُسِ الذي يُميِّز الذائقة الجماليَّة العربيَّة؟ فَضْلاً عن كونها استِعَارةٌ لمنظُومَةٍ إبداعيَّة غربيَّةٍ لها خُصُوصياتها وسِياقاتها، ألا يمكنُ أن تَنْدرِجَ تلك الكتاباتُ ضِمْنَ خِطابٍ سُوسيُولُوجيٍّ أشمل يدعو صراحة إلى « لَبْـرَلَةٍ جنسيةٍ»2؟ وبالتَّالي لا يغدو الجسَدُ وَلِيدَ حَاجَةٍ نصيِّةٍ؛ بٍقدر ما هو توظِيفٌ دُوغمَائيٌّ. إنَّ هذه الأسئلة وما شَاكَلَهَا لا تمنعُ من طَرحِ أُخرَى مُختلفةٍ تتأسَّسُ على تَصَوُّراتٍ مُغَايرَةٍ تمامًا. فلماذا الطَّرْحُ الإيروسيُّ للجَسَدِ في الثَّقافة العربيَّة أكثرُ إثارةً للجَدَلِ بالقياسِ إلى ثقافات الأمم الأُخرى؟ وهل ينفي أصحابُ التَّيار المُتَصَنِّعْ -على حدِّ وصف "بيير شارتيه"-وُجُودَ أَكثر من "إيما بوفاري"؟ ألا يَنْطوِي ذلك الطَّرحُ على أبعادٍ رمزيَّةٍ عميقةٍ، يَتعَينُ كَشفُ كُنْهَهَا، وأنساقَ مُضمَرة يتوجَّبُ تعريتها؟ ومتى تحينُ اللَّحظةُ التي يُتعامل فيها مع الجَسد بوصفِهِ نَسَقًا ثقافيًّا؟ ثُم إنَّ الأدبَ تعبيرٌ جماليٌّ في المقام الأوَّلِ، فكيف يُحْكَمُ على الجمالِ بمعاييرَ غريبةٍ عن طبيعتِهِ؟ خاصَّة إذا عُلِمَ أنَّ فلسفة "كانط" الجماليَّة رَفَضَتْ كُلَّ مُقايَسَةٍ للجَميلِ بالحَسَنِ، أو النَّافعِ، أو المُلائمِ. هي أسئلةٌ كثيرةٌ إذن، تَتَنَاسَلُ، وتَسْتَعصي على الإجابةِ؛ ولذلك لم يُتْرَك لها العِنَان، ولذلك يسعى البحثُ للإجابةِ عن بعض ما طُرِح منها.

1. قبليَّاتٌ

إنَّ الحديثَ عن تمثيلاتِ الجَسَدِ في الخطاب الروائيِّ العربيِّ كِتابَةً وتلقيًّا متشعبٌ، ومُعقَّدٌ، كما سَبَقَتْ الإيماءَةُ إلى ذلك. ويبدو أنَّ كُلَّ تحليل لتلك التَّمثيلاتِ بمعزلٍ الأُطُرِ الفلسفيَّة لن يُفْضي إلى فهمٍ عَمِيقٍ وشُمُولي لحقيقَتْهَا؛ ولهذا الغرض يتعيَّنُ البَحْثُ عن مداخلَ فلسفيَّةٍ تُمكِّنُ من بلوغ ذلك المُبتَغَى. لقد شكَّل الجَسَدُ بؤرةً مهمَّةً من بُؤرِ الفِكرِ النِّسويِّ وما بعد النِّسويّ، وهو من أهمِّ التِّيمات التي تشكِّلُ نُصُوصَهُ الإبداعيَّة، ومن المعروف أيضًا أنَّ ما بعد النِّسويَّة شنَّت حملةً شَعْواءَ ضِدَّ ما يُوصَفُ لديها بالمركزيَّة البطريكيَّةِ الذُكُوريَّةِ، ولا تخرجُ تلك الحملةُ عن أُطُر الصِّراع بين المركز والهامش الذي جسَّدتْهُ اتجاهات "ما بعد الحداثة" ضِدَّ التنوير وما أفْرَزَهُ من نُظُمٍ، وظَوَاهرَ، وقيَّم، وأنساق.

وإلى هنا، تمَّ الاهتداءُ إلى مدخلين مُهمَّين للتحليلِ. الأوَّل: خاصٌّ، ويتَّصِلُ أساسًا بالنِّسويَّةِ وما بعدها. والثَّاني: عامٌّ، ويتعلَّقُ بالانعطافَةِ الفلسفيَّةِ الكُبرى من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. لكن التَّحديدَ المُشار إليه لا يعني أنَّ فهم الجسد لا يكادُ يتمُّ إلاَّ من طريقِ تلك المَدَاخل، كما لا يُفْهمُ من ربط الجسد بالنِّسويَّة وما بعدها أنّ كُلَّ كتابةٍ مُحتفِيةٍ بالجسد هي نسويَّةٌ بالضَّرُورَةِ. 

بعدما حُدِّدت المداخل التي تُيسِّرُ طريق البحث والتَّحليل، يتعيَّنُ أيضاً تقديم قبليَّة أُخرى تَتعلَّقُ بالتَّصوُّرات الدِّينيَّة، والفلسفيَّة، والاجتماعيَّة للجسد. ويبدو أنَّ كلَّ تمَثُلٍ، يسْتَنِدُ إلى إطار أو أكثر من الأطُرِ الثَّلاثة المذكورة اتِّفاقًا، أو اختِلافًا وتعارُضًا.

2. 1المنظور الدِّيني للجسد

سيقتصرُ الحديثُ عن المَنْظُور الدِّيني للجَسَدِ عن الإسلام فقط، وهذا نظرًا لاعتبارات مَنهجِيَّةٍ بَحْتَةٍ تُمليها طبيعة البحث. فعادة ما يُوضَعُ الجَسَدُ كحدٍّ مُقابلٍ للرُّوحِ، كما أنَّهُ غالبًا ما يأتي دُونَها في المَرْتَبَةِ والأهميَّةِ، وهذا ما أكَّدَهُ"حسن حنفي" لدلالات الجسد في القرآن الكريم، حيثُ اقْتَرَنَ بالغوايةِ في قوله تعالى: ﴿فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ فَقَالُواْ هَٰذَآ إِلَٰهُكُمۡ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ ٨٨﴾ {سُورَةُ طه/ الآية 88}. كما اقترنت دلالَةُ الجَسَد بالفِتنَةِ في قِصَّةِ سيدنا سليمان في قوله عزَّ وجلَّ:﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾{ سُورَةُ ص/ الآية 34}.واُستُعْمِلَتْ في القرآنِ الكريمِ ألفاظٌ أُخرَى تَقْتَرِبُ دلالَتُهَا من الجسد منها: الجِسْمُ، والبَدَنُ، وقدَّمَ"حسن حنفي" مثالاً عن البَدَنِ في قوله تعالى:  ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾{ سُورَةُ الأنبيَاءِ/ الآية 36}. وقال في تفسيرها «فالبدن وسيلة لأداء الشعائر وتجليات الروح»3. وهو تفسيرٌ غريبٌ جدًّا، لم نَعْثُرْ على أصلٍ لَهُ. كما أنَّ سياقَ الآيةِ لا يَتَّفِقُ مع ما ذَهَبَ إلَيهِ "حنفي". وذَكَرَ"ابن كثير"في تفسيره «إنمّا البدن من الإبل»4.

كما لا تتَّفِقُ أيضًا وُجْهَة ُنَظَرِ"محمَّد إقبال عروي" عمَّا انتهى إليه "حسن حنفي"، فالخطابُ القُرآنيُّ حسب رأي"عروي" قد احتفى بالجَسَدِ، ورسَمَ لهُ طرِيقَ الطَّهَارَة والزِّينَةِ والارتقاءِ. غيرَ أنَّ هذا الاحتفاء مترتِّبٌ عن الاحتفاء بالنَّفس في المقَام الأوَّل. وهذا بشهادة "عروي" نفسه، فقد ذَكَرَ أنَّ الشَّريعة حفظت مصالِحَ الانسانِ «وفي مقدمتها حفظ النفس، أي حفظ الجسد»5. يُفْهَمُ من هذه العبارة أنَّ البَاحِثَ وقَعَ في تَسْويةٍ بين كينونتين مختلفتين، أو أنَّه يُقرُّ بتبعيَّة الجسد للروح، وهي أَشْرَفُ مَرْتَبَةً منهُ، والدَّليل على ذلك التَّشريف ما ذكره "الألوسيُّ" في تفسير قوله عزَّ وجلَّ:﴿وَيَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا ٨٥﴾{سُورَةُ الإسْرَاء/ الآية 85}.«والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي إذ ما من شيء إلاّ وهو مضاف إليه عزّ وجلّ بهذا المعنى وفيها من تشريف مالا يخفى كما في الإضافة الثانية أي هي من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تكدرها عيون البشر»6. ووَرَدَ في سُورَةِ الأعرافِ:﴿وَإِذۡأَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ ١٧٢﴾{ سُورَةُ الأَعْرَافِ/ الآية 172} تُشِير الآية الكريمة إلى اللَّحظةِ التي أخذ المولى عزَّ وجلَّ من بني آدم الميثاق. واستدلَّ بها " الفخر الرَّازيُّ" لِدَحْضِ القَولِ بالتَّناسُخِ. «لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنّا كنّا قبل هذا الجسد في جسد آخر وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلا»7. وكان أَخذُ الميثاقِ بهذا التَّصوُّر في الأزل البعيد الذي كانت النَّفْسُ فيه مُفارِقةً للجَسَدِ.

والعائدُ إلى كتابِ الرُّوح "لابن قيِّم الجوزية" يجد عدَّة دلائل تُفيدُ بتشريفِ الرُّوح على الجَسَدِ في المنزلةِ، ومن جُملتها: المسألةُ الثَّامنة عشرة التي تُقدِّمُ خَلقَ الأرواحِ على الأجساد، فضلاً عن اعتماد الرُّوح كمِعْيَارٍ للتَّمايُز بين مَرَاتِب النَّاس، فهناك: المُقَربين، فأصْحَابُ اليمين، ثُمَّ المكذِّبين. وفي مَسْأَلةٍ أُخْرَى يُقدِّمُ "ابن قيِّم الجوزية" «الانسان بروحه ونفسه لا ببدنه»8. وفي الكتاب مسائل أخرى تُؤَكِّدُ ذلك التَّشريف، يَعْسُرُ حصرُهَا جميعًا بين طيَّاتِ هذا البحث المُوجَز، كما يستعصي أيضًا تقديمُ بقيَّة الدَّلائلِ المُفيدة بتشريفِ الرُّوحِ في المراجع الأخرى. كما لم يقدِّم البَحْثُ بعض الآراء المُناقضة للطرح السَّابق التي ترى في الدِّين العدوَّ اللَّدود للجسد9، وقد يُفتح لها مجالا فيما بعد إن سنحت لنا الفرصة لذلك.

وفي الأخير نجد أنَّ التَّصوُّرَ الدِّينيِّ أكْرَمَ الجَسَدَ والرُّوح معًا، ولم يَنتَقِصْ من شأنِ الجَسَدِ، بدليلِ أنَّ النَّعيمَ الذي خصَّ الله به عبادِهِ إنَّما هو نعيمٌ جسديٌّ، يبدأُ من طِيبِ المأكل، والملبسِ، ويُتَوَّجُ بالنَّظَرِ إلى وجه الله الكريم، لكن الوصولَ إليه لا يتمُّ إلاَّ من طريق تَزِكِيَةِ النَّفس العاقلة لجِماح الجسد، وهو ما زادها تشريفًا عليه، لكنَّ هذا التَّشريف للروح لا يُفسِدُ للوُدِّ قَضِيةً مادام لا ينتقِصُ من قيمة الجسدِ. وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى أنَّ الدِّيانات السَّماوية ميَّزت بين الرُّوح والنَّفس. فالرُّوح عطاءٌ إلهيٌّ، مُتَعَالٍ على الجسد، وبذلك، فهي أقربُ إلى الملائكيَّةِ، في حين أنَّ مفهُومَ النَّفس، هو حلولُ الرُّوح بالجسَدِ، وبالتَّالي قد تكون مُطمئِنَةً، أو أمَّارةً بالسُّوءِ كما وُصِفت في القرآن الكريم، وبهذا، يكون التَّصوُّر الدِّيني أكثر توازنًا في الموقف من الجسد، وهذا إذا ما قِيْسَ بالتَّصوُّرات الوضعيَّةِ التي بالغت في تدنيس الجَسَدِ كما سيأتي بيانُهُ.

2. 2المنظورُ الفَلسَفِيُّ للجَسَدِ

يمكنُ الوقوفُ على التَّصوُّرات الفلسفيَّة القديمة للجسد مع فلاسِفَةِ الإغريق، الذين احتَدَّ الجَدَلُ بينهم في عدَّةِ مسائل نظريَّة تتعلقُ بالمعرفةِ، والوُجُودِ، والأخلاقِ. فقد أنكر "أفلاطون"على "السُّفسُطائيّين" تعلُّقَهُم باللَّذاتِ الحسيَّةِ، وبِنَاءَهُمْ للمعرفَةِ على أساسٍ حسيٍّ. وقَادَتْهُ فلسفَتُهُ المثاليَّة إلى نُكرانِ كلّ ما يتَّصِلُ بالجسد وعالم الحواس، وصوَّرَ ذلك على نحوٍ ساخرٍ من خلال قصَّة الكهف الرَّمزيَّة، الواردة في الكتاب السَّابع من "الجمهورية". كما قسَّم الوجودَ إلى عالمين: عالمُ المحسوسات، وهو العالم الذي ينتمي إليه الجسد، والعالم المعقول، وهو عالمُ المُثُلِ المجرد، وسُمِّي معقولاً؛ لأنَّه لا يُدرَك إلاَّ بالعَقْلِ، وهو منتهى المعرفة، يقول في ذلك: «فالسجن يقابل العالم المنظور...أمّا رحلة الصعود لرؤية الأشياء في العالم الأعلى فتمثل صعود النفس إلى العالم المعقول...فآخر ما يدرك في العالم المعقول بعد عناء شديد هو مثال الخير»10. من هنا يتَّضحُ أنَّ الوجود في ذاتِهِ، أو الوُجُود المثالي غير مُتَحقِّقٍ في عالم الحسِّ، وللتَّمثيل على الطرح الأفلاطونيِّ بالإنسان يُقال: إنَّ الإنسان لا يمثِّلهُ زيدٌ وَحدَهُ، ولا عمرو وحدَهُ، فكلاهما يُقدِّم لنا نُسخَةً عن نفسِهِ، أمَّا الإنسانُ كأُنموذَجٍ، أو المثالي، لا يُدْرَكُ كماهية إلاَّ خارج النُسخَةِ، أي في الأُنموذَج الكائِن في عالمِ المُثلِ المفارق للجَسَدِ. 

يُلْتَمَسُ في هذا الطَّرح تحيُّزٌ واضحٌ من لَدُن "أفلاطون" في تكريسِ دُونِيَّةِ الحِسِّ، وعلى نحوٍ غير مُبَاشرٍ: الجَسد. ويتَّضحُ ذلك أكثر في تقسيمِهِ لبنية النَّفسِ «فهناك جزء من هذه النفس يرتبط عضويا بالجسد أي بنظام الحاجيات والغرائز ويجد مركزه في أسفل الجسم حيث تشتهي النفس وترغب وتجوع...الخ وهذه هي النفس الشهوانية أو الراغبة وتقابل هذا الجزء نفس أخرى، النفس العاقلة المتحررة من قيد الحس والمرتبطة بالعقل إنّها الجزء الإلهي في الانسان»11.يُفْهَمُ من هذا التَّصورِ أنَّ النَّفسَ كُلَّما تعلَّقَتْ بالجسد ومَلَذَّاتِهِ إلاَّ وسَقَطَتْ عنها الأنوارُ الإلهيَّةُ، وابتعدت عن الحقِيقَةِ، وعالم المُثُل بأكثرَ من خُطوةٍ. كما لا تَخْتَلِفُ نَظْرَةُ "أرسطو" كثيرًا عن سلَفِهِ، إذ ربط الرُّوحَ والعقلَ بالأحرارِ من النَّاسِ، وفي المُقَابِل رَبطَ الجسدَ، والمادةَ، والشَّهوةَ بالعبيدِ منهم، كما جَعَلَ الحقَّ في التَّفلسُفِ وقفًا على الأحرارِ، دونَ النِّساء والعبيدِ.

كما يُكرِّسُ "الكوجيتو" الدِّيكارتي أيضًا النَّزعةَ الأفلاطونيَّة القائلة بالوُجُودِ الماهويِّ المُفارقِ للجَسَدِ، ولعالم الحواسِ، فَمَنْهَجُ الشَّك «لم يكشف إلا عن تزامن لحظة الوعي ولحظة الوجود ليكشف عن وعي مفارق متعال أدرك من خلاله أنه جوهر كل ماهيته أو طبيعته لا تقوم إلاَّ على الفكر»12. إنَّ لحظة الشَّكِّ الديكارتيَّة التي تقُودُ إلى اليقين هي لَحْظَةٌ إِدْراكِيَّةٌ معزولةٌ عن كلِّ ما هو ماديٍّ؛ فهي لحظةٌ انعزال الجَوهَرِ المُفَكِرِ عن الجوهر المُمتدِّ في الزَّمانِ والمكانِ، وبالتَّالي فإنَّها لا تحتاجُ إلى جَسَدِ تتحيَّزُ فيه لكي تدرك كينونَتَهَا، بل إنَّ نفيَهُ سبيلٌ أوَّليٌّ لبيان وُجُودِها.

إنَّ ما قامت به فلسفة "أفلاطون"، وديكارت وَمَنْ سَلَكَ سبيلَهُمَا إزاءَ الجسد يُوصَفُ بالتَّهميشِ، والإقصَاءِ، والعنُف من لدن "عبد الرَّحمن التليلي" «فكل نزوع جسدي مدان، فالرغبة هي علامة بؤس الإنسان، والجسد هو سر شقائه، ولابد من إماتة الرغبة في التحرر والتخلص من الجسد»13. فاعتِبَارُ الجَسَدِ أيقُونَةً للرغْبَةِ، ينطَوِي تحت إشكاليَّةِ الاختزال الخاطئ التي سيُفصَّل فيها لاحِقًا.

يبدو أنَّ تكريسَ مركزيَّة الرُّوح، ومركزيَّاتٍ أُخرى من قِبل الفَلسفَةِ الغربيَّة في اتجاهها المِثاليّ أَوْقَدَ شَرَارَةَ فلسفَةٍ جديدةٍ؛ أو إديولوجيَّةٍ جديدةٍ عَمِلَتْ جاهِدَةً على تفكيك تلك المركزيَّات، وإعَادَةِ الاعتبار للهوامِش بكل تَنْوِيعَاتِهَا، ولا سيما الجسد، ويتَمحضُّ الشَّأنُ هنا لفلسفة "فريدريك نيتشه"، وامتداداتها، فقد وجد "نيتشه" الإيمان بمركزيَّة الرُّوح التي لم يَكُنْ وَقْفًا على الفلسفة الغربيَّةِ فحسب؛ بل يتعداهُ إلى المسيحيَّة نفسها. ويرى "نيتشه" أنَّ المسيحيين كانوا «يحتقرون الجسد: لم يكونوا يأخذونَهُ بعين الاعتبار؛ بل كانوا ينظرون إليه كعدو. وغرابتهم تكمن في اعتقادهم أنه بإمكان المرء أن يحمل روحا طيبة في جسد مسخ، جسد يبدو كجثة...ولكي يقنعوا الآخرين بهذا كان لزاما عليهم أن يقدموا فكرة الروح الطيبة بشكل آخر، تحويل القيمة الطبيعية إلى أن يصير ممكنا اعتبار شخص شاحب، وسقيم، ومتحمس إلى حد الحماقة، هو موضوع الكمال اعتباره إنجيليا، ومخلوقا ممجدا»14. وأَنْكَرَ "نيتشه" كُلّ قيمةٍ خُلُقيَّةٍ، ودعا إلى شَنْقِ الفلاسفة الأخلاقيِّين. ومن هذا فلا غرابة أن يرفضَ أيضا القيَّم الدِّينية. واعتقد أنَّ المسيحيَّة وقعت في تناقُضَاتٍ صريحةٍ حينما جمعت بين الرُّوح الطيِّبة والجَسَدِ المدنَّس.

وأكَّدَ "نيتشه" المَوقِفَ ذَاتَهُ في بحثٍ آخر أنَّ الجسدَ هو العَقْلُ، وأضَافَ «جسد وروح أنا-هكذا يتكلّم الطفل. ولم لا ينبغي على الناس أن يتكلموا مثل الأطفال»15. فالفَهمُ الطُّفُوليُّ يحمل بُعدًا رمزيًّا يُحِيلُ إلى الفطرةِ، ويتَّضِحُ من هذا الرَّأْيُ مَدَى الحَاجَةِ إلى الاحتِكَامِ إلى القيَّم الفِطرِيَّة القبليَّة، التي لا ترتبطُ بأيِّ فكْرٍ فَلسفِيٍّ، ولا بأيِّ نُزُوعٍ إيديولوجيٍّ، ومثَّلَ لها كلِّه بِفهْمِ الطِّفل لكينُونَتِهِ التي لا يُمكِنُ أن تُخْتَزلَ في الرُّوح دُونَ الجَسَدِ.

وفي الأخيرِ يمكنُ القَولُ: إنَّ الماهِية، والهويَّة من المَنظُور النِّيتشَوِيِّ لا تتَحقَّقُ إلاَّ بالجسَدِ. وقَد وجَدَ الفِكْرُ النِّسويُّ ضَالَّتَهُ في فلسفة "نيتشه". ومن هذا المنظور يتَشَكَّلُ افتراضٌ مفادُه أنَّ احتفاءَ بعض الكتَابَات الرِّوائيَّةِ بالجَسَدِ، هو تعبيرٌ عن كيانات هامشيَّة تَبحَثُ عن هويتها من خلال التَّعبِير بِجَسِدهَا.  

2. 3المنظورُ الاجتمَاعيُّ للجَسَدِ

لا يَقِلُّ المنظورُ الاجتماعيُّ للجَسَدِ تعقيداً وتَشَعُبًا عن سابِقَيْهِ، ولذلك سَيَتَوقَّفُ البحثُ عِندَ بَعْضِ تجلِّياته. وسينطلقُ من لحظةٍ تاريخيَّةٍ مُبكِّرَةٍ جدًّا من تاريخ المجتمعات الإنسانيَّة، يبدو أنَّها شكَّلت علامَةً مفصليَّةً في بناء تصوُّرَاتٍ أساسيَّةٍ حِيَال الجسَدِ، وبناء المجتمع بوجه عامٍّ. ويتعلَّقُ الأمرُ بلَحظةِ ما يُعْرَفُ بتقسيم العمل بين الرَّجل والمرأة، فبِنْيَةُ الرَّجل الجَسديَّة القويَّة أهَلَتْهُ للقيام بِمَهَامَّ صعْبَةٍ ارتبطت بالصَّيدِ، ومُدَافَعَةِ كُلّ أشكال العُدوان عن المأوى؛ الأمر الذي مكَّنه من احتلال المركز في الحياة الاجتماعية، في حين قامت المرأة بمهام ثانوية ترتبطُ أسَاسًا بتدبير شؤون البيت، واكتفت بدورٍ هامشي.

لعلَّ هذه المركزيَّة، أو الأُبويَّة الذكُوريَّة كما تُنعَتُ لدى البعض، هي التي تفسِّرُ النَّظرة الدُّونيَّةَ للمرأة في بعض المجتمعات، والحَضَارات ومنها اليُونَانِيَة التي «أفرطت في الانحطاط بوضعية المرأة إلى أدنى درجة وبجذور تعود إلى الأصل الأسطوري فنجد الربات في الأساطير الإغريقية ولدن من ربة الأرض وهي من نسل الليل فارتبطت المرأة في اللاَّوعي الإغريقي بالظلام...هكذا ارتبطت المرأة بالشر وليس بالانحطاط فقط»16.

ولم يتوقَّفْ الأمْرُ عند هذا الحدِّ فَحَسب؛ بل ترتَّبَتْ عَنْهُ مُضَاعَفَاتٌ أخطر. ويشير "بيير بورديو" إلى أنَّ الهَيمَنَةَ الذكوريَّة جعلت «العالم الاجتماعي يبني الجسد واقعا مجنسا، ومؤتمنا على مبادئ رؤية مجنَّسة. وينطبق هذا البرنامج الاجتماعي المستدمج للإدراك على كلّ الأشياء في العالم، وفي المقام الأول على الجسد نفسه في حقيقته البيولوجية»17. لقد عمَّقتْ هذه المُمَارَسَة الصَّدعَ، وأدَّت إلى ميلادِ مُنظَّمَاتٍ وحركاتٍ جديدةٍ، ولعلَّ من أبرزها "النِّسويّة" بمختلف توجُهاتها وامتِدَادَاتها، كَما تعمَّقت الهُوَّة بين الجنسين (الرجل/المرأة). وأَصْبحَت الاسْتِعمَالاتُ اللُّغويَّةُ المألوفةُ في التَّواصل الاجتماعي مُبَطَنةً بِحُمُولات استعاريَّة جنسانيَّة، تُكرِّسُ تلك الهَيمَنةِ، تجلَّت في شَكْلِ ثُنائيَّاتٍ: (فاعل/مفعول به)، (أعلى/أسفل)، (مملوء/أجوف) ... والتَّطرفُ لا يتولَّدُ منهُ إلاَّ تطرُّفٌ من جنسِهِ. فقد نَجَمَ عن ذلك العُنفِ اللَّفظيِّ الاستِعَاريِّ عنفٌ مادِيٌّ، ولغويٌّ من صِنوِهِ، ولا يقلُّ عَنْهُ حدَّةً، وهو ما تَعكِسُهُ بعضُ السُّلُوكات الجِنسيَّة الشاذَّة سواء على مُستوى الواقع المُعاش، أو عن طريقِ تَصْويرِهَا على المستوى الفنيّ، بكُلِّ أشْكَالِهِ، ولا سِيما الرِّواية. ومن هُنا فإنَّ محاولةَ تحلِيلِهَا تَسْتَلْزِمُ الوَعيَ بهذا السِّياقِ الاجتمَاعيّ.

لقد أتاحَ هذا العَرضُ الموجَز الوقوفَ على بَعْضِ الحقائقِ المتَّصِلَة بالجَسَدِ في المنظومة الدِّينيَّة، والفَلسفيَّة، والاجتماعيَّة التي شكَّلت مركزيَّة الرُّوح كمُقَابلٍ لهامِشِيَّة الجسد، وتبيَّن ممَّا تقدَّم أنَّ الجسد لم يأخُذُ وَضعًا مُتّزناً إلاَّ في المنظور الدِّينيّ، أمَّا في بقيَّة المنظورين أُدِين، وحُوِّل إلى أيقونة للخطيئَةِ، والدَّنس، والأغْرَبُ في هذا كلِّه أنه كُلَّما ذُكر إلاَّ وقد اُستُحضِرت معه المرأَةُ دونَ الرجل. ومن هنا جاءت التوجُهات ما بعد الحداثية لِتُعِيدَ لهُ الاعتبار.

3. الجَسَدُ بين الفِكتُورِيَّة والبُوفَارِيَّة

سنتطرقُ في هذا المبحث إلى تمثيلاتِ الجَسَد في الخطاب الروائيِّ العربيِّ من مِنْظَارِ فِعْلِ الكتابَةِ. واختيارُنا للفِكتُوريَّة، والبُوفارِيَّة إنَّما هو على سبيلِ المجازِ. فالفكتوريَّةُ تُحيلُ إلى حِقْبَةٍ من حِقَبِ تطوُّرِ المجتمع الانجليزيِّ على عَهْدِ الملكة "فكتوريا"، وتميَّزَ بطابِعِهِ المحافظ، وانعكَسَ على الهِندام المُحْتَشَمِ السَّائدُ آنذاك. ولعلَّه يتطابَقُ تمامًا مع الرِّواية العربيَّة في طَوْرِ تكوينِهَا، فقد ابتعَدَتْ عن كُلِّ أنماط الوصفِ الإيروسِيِّ للجسد. كما ينطبِقُ أيضًا على الإنتاجِ الرِّوائيِّ الأوروبيِّ للقرنين السَّابع عشر والثَّامن عشر، لكنَّ هذا الوضع لم يَصمُدْ أمامَ مَعَاوِلِ البُوفاريَّةِ نسبة إلى "إيما بوفاري" بطلةُ رواية "غوستاف فلوبير" الذي قضى بها على مَقُولَةِ "الفن العفيف"؛ لأنهَّا بِكُلِّ بساطةٍ مَقُولةٌ يُوتُوبيَّةٌ، ولا وُجُودَ لتلك المجتمعات المَوصُوفَةِ في أدب تلك الحقبة إلاَّ في المُدُن الفَاضِلَةِ، فالواقعُ لا يُمْكنُ أبدا أن يكونَ بتلك الصِّفَةِ الملائكيَّةِ التي اُرتُسِمَت في تلك النُّصُّوص. واستطاع بذلك كَشْفَ تناقضاتِ البُرجوَازيَّة.  ودَفَعَ مُوكِّلُهُ أثناء جلسة المحاكمة قائلا: «إن اللاأخلاقية موجودة في واقع العصر لا في الأعمال الفنية التي ما هي إلا تمثيل أمين للواقع الإجتماعي»18. ووضع "فلوبير" من خلال الرَّواية تلك لبنةً مُهمَّةً في التَّأسِيسِ للواقعيَّة الانتقاديَّةِ، كما فَتَحَ أُفُقاً واسِعًا للنُّصوص التي اصطبغَتْ بِصِبْغَتِهِ.

تَعكِسُ السَيرُورَاتُ التَّاريخيَّة للروايةِ العربيَّة من التَّأسيسِ إلى التَّأصِيلِ صَيرُورَةً مُوَازِيةً لِتَطوُّراتِهَا الموضُوعَاتيَّة من فكتوريَّةٍ إلى بوفاريَّةٍ. إلاَّ أنَّ تلك الصَّيرُورَةَ لم تمر دُونَ مَخاضاتٍ عَسِيرَةٍ، جراء اصطدامها بِسُلْطَةِ المرجع، ودُونَ إثارةِ إشكاليَّات ستُنَاقَشُ لاحقاً.

ويَصْعُبُ الحديث عن حضورٍ مميَّزٍ للجسد في الأشكال السَّرديَّة المُؤسِسَة للرِّواية العربيَّةِ؛ لأنَّ التَّناوُلَ الجنسانيَّ للجسد ظلَّ إلى حدِّ تلك الحِقبَةِ من قبيل الطَابُوهَات، على الرَّغم من كَسْرِهِ من قبل النُّصُّوص التُّراثيَّة كقصَصِ ألف ليلة وليلة، وأشعار "أبي نوَّاس"، إلى جانب الكتابات العربيَّةِ الجنسانيّة التُّراثيَّة مع "السيوطيِّ"، و"النفزاويِّ"، و"التيفاشيِّ"، والحقبة التي نقصدُهَا هنا حصرها "عبد الرحمن بو علي" بين (1834-1902) وتتعلَّقُ بأعمال "رفاعة الطهطاوي" و"فرح أنطون"، و"سعيد البستانيّ"، و"فرنسيس مراش الحلبيّ"؛ لأنّها لم تُفَصِّل في وَضْعِ المرأَةِ العربية. ولعلَّها ببعض ذلك فوَّتت فُرْصَةً للنفاذ لعالم الجسد وإشكاليَّاتِهِ.

ولم يَتَأَتَ للرواية العربيَّة طرْحَ مَوضُوعِ المرأةِ على نحوٍ جَرِيءٍ إلاَّ مع المرحلة الثَّانية، التي مثلت رواية "زينب" قمَّتها؛ لأنَّها استطاعت استيعابَ التَّجارب السابِقَة، كما أنَّها فَتحت أُفقاً واسعًا للرِّوايات التي جاءت بعدها. «والموضوع الذي طرحته روايات هذه المرحلة وهو موقف المجتمع العالم من الحب والمحبين»19. لكن على الرغم من هذا كُلِّه بقيتْ الرِّوايةُ العربيِّةُ تَمْشِي على استحياءٍ بخصوصٍ مَوضُوعَةِ الجسد، ولعلَّ مردَّ ذلك عائدٌ إلى سُلْطَةِ الدِّين؛ لأنَّ طابو الدِّين والجنس مُتَلازمَين، ومن شَأْنِ كُلِّ خرقٍ لأحدِهما أن يُفضِيَ إلى الآخر. ومن فُرْطِ تلازُمِهما أيضاً أنْ حصل تداخلٌ عَجِيبٌ بينهما في مخيال الرِّوائي العربيّ، إلى درجةٍ أصبحَ فيها كلُّ خَرْقٍ لطابو الدِّين والجنس معًا وجها من أوجه خرق طابو السياسة.

غير أنَّ "نبيل سليمان" له رأي مخالفٌ لما أُشير إليه سَابِقًا. ويعتقدُ أنَّ السُّلْطَةَ الاجتماعية أكثرُ تشدُّدًا بخصوص الجسد من السلِّطة الدِّينية، ويشير في هذا الصَّدد أنَّ «السلطان الاجتماعي، مبارك من السلطان السياسي ولغرض في نفس يعقوب يحرم على الكتابة أن تخترق تخوم الجسد العربي...هكذا ترى هذا السلطان مثلا يبدو أكثر غيرةوحماسة وأشد تطرق حين تتجرأ الكتابة على تعبير جنسي ما، أو مناوشة دينية ما، على الرغم من أن السلطان السياسيّ قد يكون ملحدا أو متحررا بنسبة أو أخرى من القيود الجسدية السائدة»20.

لا يمكنُ أن تُختزَلَ سُلطَةُ المرجع في الاجتماعية والسِّياسيَّة فحسب؛ بل هُناك سُلْطةٌ دينيَّةٌ روحيَّةٌ تحركُ السُّلطتين السَّابقتين ضدَّ كُلّ مساسٍ بالأخلاق العامَّةِ، وهنا تُطرحُ إشكاليَّةُ أَخْلَقَةِ عالم الفنِّ والجمال. وهو الإشكال الذي استطاعت المنظومَةُ الإبداعيَّةُ الرِّوائية العربيَّة طرحَهُ لحظة وقوفها على عتبة "البوفارية". فهل يُعْقَلُ أَنْ نُشَرْعِنَ الرِّواية؟

طُرِحَتْ في فاتحة هذا البحث إشْكَاليَّةُ مُقَايسَةِ الفنِّ بالأخْلاَقِ، التي تختَزِلُهَا حِيرَةُ أدونيس، «كيف أحرر الشعري من الشرعي، والجمال من الأخلاقي؟»21. هو سؤالٌ له مشروعيَّتهُ، فعالم الفنِّ والجمال يختلف عن عالمنا الواقعي الخاضع لقواعد ونظمٍ خَاصَّةٍ. إنَّ مبدأَ الفَصْلِ بين العلم، والأخْلاَقِ، والفنّ، تَجَسَّدَ بوضُوحٍ في فلسفة "كانط" من خلال نقوده الثلاثة: نَقْدُ العقل المحض، نَقْدُ العقل العمليِّ، نَقْدُ ملكة الحُكم، وهذا بعداستحالة الجمع بين تلك المجالات في بوتقةٍ واحدةٍ، إثر تَصدُّعِ النَّسَقِ الدِّينيِّ الذي كان ينهض بهذا الأمر؛ وذلك، نتيجة لِظُرُوفٍ تاريخيَّةٍ مَعرُوفَةٍ تتمثَّلُ في تراجُعِ دورِ الكَنِيسَةِ، والحُكم اللاَّهوتيِّ، أمام التَّنوير الأوروبيِّ.

 وقد عالج "كانط" مسألةَ المُقايسَةِ في (نقد ملكة الحكم) نظرا لخصوصيتها. وأكد أنَّ «الجميل هو ما يُمْتَثَلُ من دون مفاهيم بوصفه موضوع رضا كلي»22. لكن الطَّرحَ الكانطيِّ إذا كان ينفي قِيَاسَ الجمالِ بمعيار الأخلاق، فهذا لا يعني أنه يُكرِّسُ الشُّذوذ الأخلاقيّ، وهَتْكَ عرض أخلاق الجماعة باسم الجمال. بدليل أنَّه أبقى في طرحِهِ قاعدة الكُلِّية كمعيار لمقياس الجمال. فما أراه جميلاً يُكوِّنُ عندي قناعة بأنَّه هو كذلك عند غيري. ويمكنُ أن تُعمَّمَ هذه القاعدة على القبيحِ أيضًا.

بناءً على الاعتبار السَّابق، هل يَسْتَطيعُ القارئُ لروايةِ "الخبز الحافي" لمحمد شكري، المُحتفيةُ بالعَهْرِ، والفُحْشِ، والشُّذوذِ، أن يجزم بأنَّها يمكنُ أن تكون موضُوعَ رِضى كُلِّي عند بقيَّةِ القُرَّاءِ؟ وأكثَرُ من هذا فقد شاع أنَّ شُكري كتبها متأثرًا بسيرة "جان جينيه" "يوميات لص". وفضلاً على هذا فإنَّ بنية النَّص تأبى تحقيق أفق التوقع لدى القُرَّاء بخصوص القواعد المتعارف عليها، فالتَّركيب السَّردي -بشهادة "سعيد بنكراد"-«في مجمله ليس سوى لقطات عامة تشكو ممّا يؤثث الفواصل ويسقط الروابط الممكنة والمستحيلة ويمنح البياضات معنى: بالإمكان التخلص من مقاطع كثيرة تقول الشيء نفسه إلا أن القيام بذلك سيكون مسا بخاصية من خاصيات النص التي ترى من خلال التحقق، فهي مبثوثة في الآثار التي تولدها هذه اللقطات في نفسية المتلقي، فالتكرار هنا ضروري، لأنه إصرار على القـذارة وإدمان عليها. إن النص ذاته ليس نصا إلا من خلال هذه الخاصية ذاتها»23.

وبناءً على الاعتبارات السَّابقة يَصْعُبُ الحديثُ عن قاعدةِ امتِثَالِ الجمال (الرضا الكلي) في النَّصِّ الذي يبدو أنَّه يُؤسِّسُ لشعريَّةٍ مُغايرةٍ، فيبدو أنَّ الكُلَّ يحسُّ بالقُبح فيه.ولا يمكن قُبُولَهُ إلاَّ في إطار ما أصبح يُعرف بِشِعريَّة القُبح. لكنَّ القُبح قد يَشُقُّ طريقه للجمالِ إذا لم يكن مقصُودًا لذاته، وهذا ما عكسه "غوستاف فلوبير" تقريبًا مع شخصيةِ "إيما" المُسْتَهتِرَةِ. وهذا ما أرادته أيضًا بعض الكتابات التُّراثيَّة، وسَيُفَصَّل في هذه المسألة لاحقاً، لكن في المقابل هناك كتابَاتٌ تراثيَّةٌ أخرى لا تطَّرد مع المسلك المُشَارِ إليه، مَثَلُهَا في ذلك كمثلِ الكتاباتِ الرِّوائيَّة العربيَّةِ المُعَاصِرَةِ، بحيث لم تَسْلَمْ من الإسفاف والابتذال. وقارب "عبد الله الغذامي" بعضَهَا مُقَاربةً ثقافيَّةً. وقدَّم أُنموذَجًا للتَّحليل، تمثَّلَ في مدونتين: (الروض العاطر في نزهة الخاطر) للنفزاويِّ، و(روضة المحبين ونزهة المشتاقين) لابن القيِّم الجوزيَّة. وقد وجد في نصِّ النفزاويِّ مثالاً لثقافة الوهم التي وسم بها "الغذّاميُّ" كتابه، نتيجة لفهمه القاصر للمتعة الجنسيَّة24.

4. الجسد من البُوفاريَّة إلى النِّسويَّة الرَّاديكاليَّةِ

إن التَّحقيبَ الأدبيَّ لَيَنْطَوي على مزالقَ خطيرةٍ خاصَّةً إذا ما اُعتُمِد فيه مِعيَارٌ تاريخيٌّ، أو سياسيٌّ، أو أيّ معيار آخر غير أدبيّ، وتَصْنِيفُ حقْبَةٍ جديدةٍ لسيرُورَاتِ الجسد: (النِّسويَّة الرَّاديكاليَّة) لا يخلو من زلاَّتٍ أيضًا. لكنَّنا مع ذلك حاولنا قَدْرَ الإمكان اعتماد معيارٍ نصيٍّ، يتمثَّلُ أساسًا في وضع الجسَدِ بين كل تلك النُّصُّوص. ونَحْسَبُ أنَّهُ قد حَصَلَ تحوُّلٌ عميقٌ في التَّعامل مع الجسد في الحقبة البُوفاريَّة التي يمثِّلها جيلٌ من النِّسويَّات بدأ مع "لطيفة الزيّات"، و"نوال السعداويّ" و"ليلى بلعبكي"، ويمكن أن تُضافُ لهنَّ: "غادة السَّمان"، و"فاطمة المرنسيّ". فقد حاولنَّ من خلال إبداعِهِنَّ كغيرهنَّ من النِّسويَّات الغربيَّات مواجهة الهَيمَنةِ الذكوريَّة، والنِّضال من أجل حقوق المرأة، والمطالبة بالمساواة مع الرجل، ورَفْضِ الإكراهَاتِ المُمارسة على المرأَةِ العربيَّةِ.

ولا يُفهَمُ من الحديث عن الرِّوايات النِّسويَّةِ أنَّهُ استثناءٌ لصِنوتها الرِّجاليَّةِ؛ لأنَّ «النِّسويَّةَ ليست مقصورة على النساء حصريا، فهناك دارسون ومفكرون كُثر تحمسوا لقضاياها وأسهموا فيها إسهاما وفيرا»25. على غِرارِ: "واسيني الأعرج" و"حيدر حيدر" وغيرهم من الرِّوائيين، الذين لا تخلو أعمالهم من توظيفٍ للجسد. ومع هؤلاء، وظهور ما يُصطلح عليه بالموجة الثَّانية من النِّسويَّةِ العربيَّة، أو ما يُنعَتُ في أدبيَّات الفكر المُعاصر بما بعد النسويَّة: المُتمثلة في جيل "سلوى النعيميّ"، و"علوية صبح"، و"فضيلة الفاروق"، ومع هؤلاء وأولئك، أخذ الجسد منحًى إيروسيًّا تصاعديًّا لم يَسْبِقْ له مثيلٌ، ليطرحَ أكثرَ من علامةِ استفهامٍ: أولا: عن تصنيف هذا النَّمط من الكتابة، والجيل من الرِّوائيين. وثانيا: عن أسباب الحقيقية لهذا التَّوجه، وأخيرا: عن التَّمثيلات المتنوِّعة للجَسَدِ ضِمْنَ الخطاب الرِّوائيّ.

للإجابة عن السُّؤَالِ الأوَّل، لابدَّ من العَودَةِ دائمًا إلى السِّياق الفلسفيِّ الذي ظهرت فيه تلك الكتابات. ويتعلقُ الأمرُ هنا بالنِّسويَّةِ في موجتها الثَّانية التي عاصرت "ما بعد الكولونياليَّة" «وتلتقي نصوص النظرية النسويَّة ونصوص ما بعد الكولونيالية في جوانب كثيرة من نظرية الهوية، والاختلاف، واستدماج الذات إديولوجيا بالخطاب السائد، وكذلك تقديم استجابات مقاومة متنوعة لمثل هذه السيطرة لبعضها البعض يمكن أن نتبيَّن تشابهات بين "كتابة الجسد" في النسوية وكتابة "المكان" في الكولونيالية»26.

فإذا كانت الموجةُ الأُولى استجابةٌ لصَوتِ تحرير المرأة لـ: "قاسم أمين" مطلع القرن المنصرم، فإن الجيل الثَّاني الذي ذكرناه، هو استجابة فيما يبدو لمن قال بالحرف الواحد: «إن الجنس في المغرب بوابة للانخراط في العولمة»27. وكأن سُبل الانخراط في العولمة ضاقت إلاَّ من طريق الجنس!وهو استجابةٌ أيضًا للفكر النِّسويّ المُتطرفِ، الذي يُنَادي بالقَضَاء على الأُسْرَةِ الكلاسيكيَّة؛ لأنَّها كانت المؤسَّسة المسؤولة عن قَهْرِ المرأة وتقليص دورها. وهنا نلمَسُ استِجَابةً للصَّوْتِ القائِلِ «والأسرة الناتجة عن ذلك الزواج هي أسرة بطريكية أبوية، فآدم هو السيد والمسؤول عن حواء والأطفال، حواء والأطفال هم فروع، منتجات من الرجل آدم، ليس هذه هي الأسطورة الوحيدة التي نستطيع استخلاص مفهوم الدين للجنس فيها»28. فَقِصَّةُ سَيِّدِنا آدم علَيْهِ السَّلامُ أُسْطُورَةٌ!وهي المسؤولةُ عن شقَاءِ حواء وأبنائه!وأسرتُهُ بِطرِيكيَّةٌ !

يبدو أنَّ الرِّوايات ذات التَّوجُّه ما بعد النِّسويّ لم تكن في منأى عن ذلك الخطاب المُتَطرفِ.  ولعلَّ ما يُؤَكِّدُ هذا التَّقارُب أسبَابٌ مختلِفَةٌ، منها: هيمَنةُ الأديولوجيِّ على الأدبيِّ، فالطرائقُ التي بواسِطتِهَا الجَسَدُ مُبطنة بِحُمُولاتٍ إديولوجيَّةٍ، وليست فنيَّة، ويمكنُ التَّدليلُ على هذا الأمر برواية "سيِّدة المقام" لـ"واسيني الأعرج" بحيث يُصوِرُ المُختَلِفْ مَعَهُ إديولوجيًّا على نحوٍ ساخِرٍ، بالاعتماد على مشاهد جنسيَّةٍ شاذَّةٍ، يقول في وصف أحد الإسلامويين: «يشقشق قليلا بعادته التي لم تعد سرية ثم يأتي لينام قرير العين»29.ومن هذا المنطلق تنتفي حُجَّةُ فنيَّة الجنس في الخطاب الروائي. ويصبحُ توظيفُهُ توظيفًا إديولوجيًّا، يخضعُ لاعتباراتٍ دُوغمائيَّة أكثر ممَّا هي فنيَّة.

بَقِيَتْ الإجَابةُ عن آخِرِ سُؤالٍ، ويتعلَّقُ بالمَحمُولاتِ الممكنة للجَسَدِ، ويبدو أنهَّا لا تَنْحصِرُ في الجانب الإيروسيِّ، وهذا اختزالٌ وقعتْ فيه الكثيرُ من الرِّوايات العربيَّة، سواءً لدى الأسماء التي أشرنا إليها سابقًا، أو أُخرى لم نَأْتِ على ذكرها.

4. 1الاختِزَالُ المُخِلّ

إن الجسَدَ لا يمكن أن نختزله في بعد إيروسيٍّ ضيِّقٍ ويمكنُ العَودَةُ إلى رواية: "برهان العسل" لسلوى النعيمي، أو "اسمه الغرام" لعلوية صبح للوقوف على هذا النَّمط من التَّمثيل. بل إنَّه قادرٌ على حمل أبعاد ثاناتوسية30. وقد استطاع "سعيد الوكيل" في كتابه "الجسد في الرواية المعاصرة" الاهتداء إلى جملة من التَّمثيلاث الثاناتوسية للجَسَدِ في الرِّوايةِ العربيَّة.

سَنقتَصِرُ في هذا المقام على تقديم التَّمثيل العِرْفَانيِّ بالاعتماد على رواية "التِّبر" لـ: "إبراهيم الكوني"، التي يقدِّمُ فيها عَلاقَةَ حُبٍّ بين رجلٍ من الطَّوَارِقِ يُسَمَّى: (أخيد) وجملٌ يُدعى: (الأبلق) أهداه له أحد زعماء القبائل، ويُقدِّم لنا فيها أُنموذج الجسد السَّاعي إلى الفناء والعودة إلى الأصل من خلال حركة الجمل الرَّمزيَّة الذي أحبَّهُ "أوخيد" في سبيل الخلاص من عالم الحياة المستند في تكوينه حسب فلسفة "الأيورفيدا" إلى نظريَّةِ العناصِرِ الخمس العظمى، ومنها ما ورد في الرواية: التُّراب، والنَّار، والماء. وهو ما تعكسه حركة الجمل الأولى« الألم جعله لا يجد راحة في وضع ولا مكان على أرض، انتزع رأسه وانتفض، فتصفد الدم في خياشيمه حيث خرج اللجام»31. إنَّها لحظة التَّخلُصِ من الأَصْلِ التُّرابي، ثم تأتي اللَّحظة الموالية «اللّي رجله في النار ما يسمع آه من النار»32. لحْظَةُ التَّخلُّصِ من الأصل الثاني النَّار، فالجملُ يتخبط في ضحضاح من النَّار دون أن يسمع صوت سيِّده. لتأتي آخر لحظة «جف حلقه ويبس فمه، فشل في أن يستحلب اللعاب. العطش. العطش»33. وهنا يتخلَّصُ من آخر مكون مكونات الحياة الماء.

تمكَّن "الكونيُّ" في هذا المقتطف من تقديمٍ ممَّيزٍ للتَّمثُّلِ العرفانيِّ للجسد، ولم تخلُ بقيَّةُ أعماله الروائيَّة من مِثْلِ ما قُدِّم، خاصَّة ًفي رُبَاعِيَّةِ الخُسُوفِ، وجمع فيها بين خُصُوصِيَّتَهُ المحليَّة: فضاءُ الصَّحراءِ، والانخراط في الإنسانيَّة عبر الأسئِلَةِ الوُجُوديَّة الكُبرى التي تُؤرِّق الإنسان. وهذا ما غاب عن التَّمثيلاتِ الإيروسيَّة التي أشرنا إليها؛ وهذا بسبَبِ الاختزال الذي وقعت فيه.

كما استطاعت "أحلام مستغانمي" وانطلاقا من داخلِ الكتَابةِ النِّسويَّة أن تُقدِّم تنويعاتٍ مُختلِفةٍ في تمثيلها للجسد: حضاريَّة، إيديولوجيَّة، وجوديَّة. ويمكن أن نأخذ رواية "ذاكرة الجسد" كأنموذَجٍ للتَّدلِيلِ على تلك التَّنويعات. فقد قدَّمت الجسد من منظارٍ حضاري، تَتَحدَّد معالِمُه من زاوية التَّبئير الداخلي لشخصيَّة كل من "أحلام" الشرقيَّة وتجسِدُ رؤية السَّاردة، مقابل "كاترين" الغربيَّة.

فحينما تقدَّمت فتاةٌ عَارِيةٌ أمام طلبةِ الفُنُونِ الجميلةِ كموضُوعٍ للرَّسْمِ اضطَّرب الفنان "خالد" الشَّرقيّ الذي لم يرسم منها سوى الوجه، وبرَّر موقِفَهُ قائلاً: «فاعذريني. إنّ فرشاتي تشبهني، إنّها تكره أيضا أن تتقاسم مع الآخرين امرأة عارية ... حتّى في جلسة رسم »34. إنَّ هذا التمثيل الجسدي يعكسُ رؤية "كاترين"، والرؤية الحضاريَّة الغربيَّة بحيث «لا يعود هنا كينونة معزولة عن الحياة مسيجة بالمحرمات التي تغرب عن الإنسان عن ذاته بقدر ما تستلب منه جسده الأكثر خصوصية وحميمية»35. وفي مقابل ذلك تُمثِّل شخصية أحلام التَّصور الشرقيِّ للجسد، ويمكن ذلك في حسرة خالد لأجل الزواج المستحيل «ولذا أتقبل تلك الزغاريد التي انطلقت في ساعة متقدّمة من الفجر، لتبارك قميصك الملطّخ ببراءتك، كآخر طلقة ناريّة تطلقها في وجهي هذه المدينة»36. تعكس هذه الصُّورة البيانيَّةُ: (تلطخ البراءة) هذه الطقوس الاحتفاليَّة في الأعراس ما مدى قُدسيَّة الجَسَد، والعُذريَّة في الثَّقافة الشَّرقيَّة، وفي الآن ذاته مدى الاختلاف العميق في المجتمعين الذين تنتمي إليهما كُلٌّ من كاترين، وأحلام. فضلاً عن بُعد اللُّغة الرِّوائيَّة عن خَرْقِ الذائِقَةِ الجماليَّةِ بالتَّعفُفِ عن الإغراق في التَّفاصِيلِ الجنسيَّة للجَسَدِ، واُستبدلَتْ بلُغَةٍ استعَارِيَّةٍ وصفت الجسد دونَ إسفافٍ وفي لُغَةٍ شعريَّةٍ.

ويمكنُ إدراكُ التَّمْثِيل الإيديولوجيِّ للجسد في الرِّواية بتأويلِ شخصيَّة خالد الفاقد لذراعِهِ الأيسر، ككنايةٍ عن سُقُوط اليسار في التجربة السياسية الجزائرية كَمشرُوعٍ كوزموبيوليتيّ، خاصَّة بعد أكتوبر 1988، والذي يَحمِلُ على تأكيد هذا التَّأويل هو بنيةُ الشَّخصيَّة ذاتها، حيثُ تَعْكِسُ الحِقَب المختلفة للتَّاريخ الجزائريِّ المُعاصر ابتداءً من الثَّورة التَّحرِيرِيَّة، إلى الاستقلالِ إلى متاهاتِ العَتَمَةِ. أمَّا التَّمثِيلُ الوُجُودِيِّ فنلمسُ مَعالمَهُ أيضاً لدى الشَّخصيَّة ذاتها في مُخْتَلَفِ تجلِّياتِهِ، بدءًا بالغُربةِ المكانيَّةِ بتونس، ثمَّ بباريس، الفَضَاءُ المُفَارَقَةُ الذي في حياة الشَّخصيَّة، فخالدٌ كان في الصُّفوفِ الأولى المحارِبة لهذه العاصمة الكُولُونيَاليَّةِ، ومن المفارقات أنَّهُ لا يجِدُ مكانًا يأوِيهِ بعد التَّحرير سِوَاها!ثُمَّ يعيشُ حالةً من الاغتِرَابِ فيَعجِزُ عن المُواجهةِ، بحيث يتردَّدُ كثيرًا في العَودة إلى الوطن ومواجهة السُّلطةِ التي كانت سَببًا في مُعَاناتِهِ. وهو ما يُولِّدُ فيه تجلٍّ آخر من تجلِّيات الاغترابِ يتمثَّلُ في الإحساس بالانفصالِ عن الكيان الأصليِّ، ويسعى إلى تعويضِهِ بعالم الفنِّ.

يتَّضحُ ممَّا تَقَدَّمَ أنَّه يمكِنُ الخروج بِالجَسَدِ عن النَّمَطيَّةِ الغَريزيَّةِ التي حُصِرَ فيها إلى مَحمُولاتٍ أرحب، وأعمَقْ، على غِرارٍ التمثُّلِ العِرفَانيَّ المُميِّز لكتابات الكونيّ. فضلاً عن تمثيلاتٍ أُخرى كالحضاريَّة، والإيديولوجيَّة، ناهيك عن الوُجُوديَّة الحاملة لأسئِلَةِ الإنسانيِّ المُطلق، ولعلَّها كانت سببًا مكَّن "نجيب محفوظ" من شقِّ طريقه نحو العالميَّة. ويبقى التَّمثُّلُ الإيرُوسِيُّ محلَّ سُخْطٍ؛ نظرًا لكَثْرَةِ المعترضين عليه، وضيقا جدًّا، وقد وجدنا موقف "سعد البازعي" يؤكِّدُ منطقيَّةَ النَّتيجة المُسْتَخلَصَة من هذا المبحث، قائلاً «ليس من الضروري مصادمة المتلقي برقصة أيروتيكية أو بشعر متمرد على قيم أخلاقية محددة لكي يحدث الإبداع، بل إن مصادمة كتلك توصف بالاختراق الأسهل والتبسيطي مقارنة بتخوم أكثر رفاهة وصعوبة»37، كتلك التنويعات التي أُشير إليها سابقاً. ولعلَّ هذا كـافٍ لوصفه بالاختزال المُخلّ، مادامت هناك إمكانية للتنويع. وإلاَّ سَيُؤوَّلُ ذلك التقوقع على أنّه عيٌّ، وحصرٌ على مستوى الكتابة يَتعيَّنُ اجتنابه. لأَنَّه ينتقِصُ من شِعريَّة النَّص.

4. 2وَهمُ التَّمثُلِ والتَّمثيلِ

غالبًا ما نُلفي انحيازًا للتَّمثِيلِ الجنسويِّ للجسد في تجارب دُوَن غيرها. ففي حوار مع الرِّوائيّ "أمين الزاوي" ردَّ عن سُؤالٍ بخُصُوصِ جُرْأَتِهِ في التَّعاطي مع الجسد. قائلاً: إنَّه أقلُّ جُرأةً من النُّصُّوص التُّراثيَّة. وتقريبًا، الرَّدُّ نفسُهُ نُلْفِيهِ لدى الرِّوائيين الذين يقاسمُونَهُ الاتجاه، إذْ يَشْكُونَ سُلطةَ المرجع عليهم، على الرغم أنّ نُصُوصَهم -كما يقولون-لا تعدو مجرد تمثُلٍ لنصوص تراثيَّة أَجْرَأ، وهذا تقريبًا ما وَرَدَ على لسان الرِّوائي "نبيل سليمان" في كتابه "فتنة السرد" معلقاً على منع تداول روايته "مدارات الشرق".

يبدو أنَّ هذه الحجَّةَ واهيةٌ، خاصَّة إذا نُظِرَ إلى الجنس في النُّصُّوصِ التُّراثيَّةِ كغاية لا كَوَسِيلةٍ. فَضْلاً مطبَّات القراءة الاجتزائيَّة لتلك النُّصوص؛ لأنَّ من شأن ذلك أن يُفضيَ إلى إسقَاطاتٍ خاطئةٍ. ويُمكِنُ التَّدليلُ على ذلك بألف ليلة وليلة، فقصَصُها ليست مجرد حكاياتٍ مُتَنَاسلةٍ عن بعضها، تَعِجُّ بمظاهر الخلاعة، والمُجون، والفُحش؛ بل هي مثالٌ متميِّزٌ من أمثلة النُّصُّوص الباحثة عن الاتِّزان الجنسويّ في المجتمع، خاصَّة إذا ما تمَّ إدراك كُنْهَ العلاقةِ التي تربطُ القصَّة الإطار بالقصص التي تَتَضَمَنُهَا.

فقد قدَّم "جيرهارد فيشر" مقالاً مُميَّزا في هذا الخصوص، وحاول تقديم المواقف المُتَنَاقضة من المرأة والجنس مَعًا، وذلك في قراءةٍ حاول فيها تَوخِي الشُّمولية في الطَّرح والتَّحلِيلِ، إذ جَمَعَ فيها القِصَّة الإطار وهي قِصَّةُ شهرازد مع الملك شهريار، مع القصص الجزئيَّة التي ترويها شهرزاد.

ومثَّل لذلك التَّناقض برؤية شخصيَّتين مختلفتين: امرأةُ الصُّندوق، وشهرزاد. فالأُولَى وَقَعَتْ أَسِيرَةً للجنّي يوم زفافها، وما يميُّزها أنَّها شهوانيَّةٌ، فاللَّذةُ «والرضاء الجنسي وحدهما هما ما يدفعاها للسعي إلى الرجال، هذه الفكرة المتطرفة، التي تنأى عن المثال الاجتماعي للأمومة في مجتمع قائم على النظام الأبوي، إنما هي، بلا ريب، تحد واضح لسيطرة الرجال مما يتطلب تصحيحها على الفور»38. فالنَّهمُ الجنسيّ الأنثويُّ لدى امرأة الصُّندوق يُشَكِّلُ خطرًا حقيقيًّا على تماسُكِ المُجتَمَعِ، كما يَنمُّ عن سُلُوكٍ مرضيٍّ، يُصاحبه سلوكٌ مرضيٌّ آخر يتمثَّل في الهيمنةِ الذكوريَّة، فتعملُ على كَبْحِهِ نحو فضيع جدًّا ينتهي بالاغتصاب. وهنا تظهر الشَّخصيَّة الثَّانية "شهرزاد" لتخلق التَّوازن المفقود نتيجة العنف الذكوريِّ «فعندما تروي شهرزاد قصصا فاحشة عن نساء فاسقات وإفراطهن الجنسي، فإن المثال الخاص للرواية يعارض الحقيقة المحظورة والمغرية في آن، وذلك بتقديم نموذج عكسي، ممثلا في شخصيتها...باعتبارها البطلة الذكية والورعة في الوقت نفسه، يقصد به ضمان التزام القراء بالطريق الصحيح، اجتماعيا وأخلاقيا. وتماما مثلما تعارض فضيلة شهرزاد وتلغي السلوك الفاحش لامرأة الصندوق في القصة الإطارية نفسها»39. والوصول إلى التَّحضُّر حسب "جيرهار فيشر" لا يتأتى إلاَّ بالتَّطور من شخصية امرأة الصندوق إلى شخصيَّة شهرزاد. ولا يمرُّ دُونَ تفكيكِ الأبويَّة، وخلق الاحترام المتبادل بين الجنسين.

أمَّا فيما يخص القول بِتَمَثُّلِ النُّصُّوصِ التُّراثيَّة الأخرى، على غرار كتاباتِ "السُّيوطيِّ"، و"التِّيفاشيِّ"، فإنَّه لا يخلو من مغالطة أيضًا، باعتبار طابعها التَّصنيفي، فهي مُصنَّفات أشبه بالمعاجم المتخصِّصة، وخاصَّة كتاباتُ السُّيوطيّ، وليست نصوصا إبداعية، ويُبيِّنُ "وليد صالح الخليفة" علل تصنيف تلك المدونات، التي لم يُلتَجأ إليها إلاَّ للحاجةِ « وقد أخذ المشرعون في كتابة رسائلهم لتنظيم العلاقات الجنسية اعتمادا على النص القرآني، وعلى السنة النبوية بالدرجة الأولى وإلى جانب ذلك شعر العرب بالحاجة إلى تنظيم تلك العلاقات بسبب اتّصالهم المباشر بالثَّقافاتِ الأُخرى كالهنديَّة والفارسيَّة التي كانت قد عرفت العديد من المؤلفات في هذا الموضوع »40. فالأمم التي دخلت في الإسلام قد تكون لها عاداتٌ خاصَّةٌ في الجنس، وشاذَّةٌ تتنافى مع التَّعاليم الإسلاميَّة، ولعلَّ هذا ما حمَّل "السُّيوطيُّ" على التَّصْنِيفِ في ذلك. والعائدُ لنواظرهيجد عَرْضَهُ للجنس جافَّا، إذْ لم يُصَّبْ في قالبٍ سرديٍّ مُثيرٍ، فهو أشبه بالعرض الجاف الذي يُقدِّمُه اللَّفظ في دلالته المعجميَّة. والأمر نفسُه تقربيا في "أوصاف النِّساء" للتِّيفاشيِّ، وبهذا نجد اختلافًا في سياق التَّأليف، وبالتَّالي فإنَّ حُجَّة تمثُّل النُّصُّوص التُّراثية الجريئة من قِبَلْ الرِّوائيين تبدو واهيةً من منظور ما قُدِّمَ. هذا باختصار شديدٍ عن الوَهْمِ الحاصِلِ في تمثُّلِ النُّصُّوص التراثيَّةِ.

أمَّا عن التَّمثيل، فيبدو أنَّ بعض التَّمثيلات الجنسيَّة للجسد قد وقعت في مطبٍّ من نوعٍ مختلفٍ عن الأوَّل، لكنَّهُ ينسحبُ على ما يُصطَلَحُ عليه بالنِّسويِّين أكثر من نُظرائهم من النِّسويَّات؛ لأنَّ النِّسويِّين نَذَرُوا أنفسهم للدفاع عن حقوق المرأة المهضومة من قِبَل الرجل، أو ما ينعتونهُ بالبطريكيَّةِ الذُكوريَّةِ، والتي تعني حُكمَ الأبِ وممارسةَ الكبتِ على الأنثى، وتكريس دُونيَتها على حد وصف "سعد البازعي"، و"ميجان الرويلي".

لكنّ النِّسويَّةَ سارت في اتجاهين: اتجاهٌ يقوم على أساس (الجنس): النِّسويّ، وآخر على أساس (الجُنوسة) وهو ما بعد نسويّ. فالقائل بالجنس يقوم على التَّمايز البيولوجيّ، وبالتَّالي فهو أكثر أُصُوليَّةً (رادكالية)، فظهرت بموجبه «حركات نسوية متطرفة تدعو إلى التخلص من جنس الذكر وحق ممارسة المرأة حريتها الجنسية (المثلية)»41. وبناءً على هذا الاعتبار يجدُ النِّسويُّون أنفسَهم خارج إطار النِّسويَّة التي يعتقدون أنَّهم يمثلونها من خلال كتاباتهم، وبالتَّالي يُصبِحُ ذلك التَّمثيل أقرب إلى الوهمِ منه إلى الحقيقة. ولو أنَّ الاتجاه ما بعد النسويّ يعيد لهم بعض الشرعية؛ لأنَّه يقوم على أساس الجُنوسة (الجندر) جاء لكي يحقق التَّوازن، ويحدُّ من تطرف الاتجاه السَّابق؛ لأنَّه يقوم على أساس «مجموعة من العلاقات التي تمنحها المنظومة الاجتماعية للرجل والمرأة من أجل تسيير حياتهما، فما بعد النسوية لا علاقة لها بالجنس بقدر ما لها علاقة بالجندر»42. لكنَّ الحديث على عن سيادة الاتجاه الأوَّل الرَّادكاليّ المتطرف في مرحلة سابقة مع الموجة الأولى من النِّسويَّة، وتراجعه لاحقًا أمام الموجةِ الثانية لا يصدِّقُه الواقع على الأقل، فخِطَابُ التَّطرف هو السائد، والخطاب ما بعد النِّسويّ يسيرُ نحو التَّطرف أكثر فأكثر؛ بدليل أنَّ بعض الحكومات الغربيَّة ماضيةٌ في الاستجابة إلى مطالبه، وتَقْنِيِنهَا.

لكنَّ وَهْمَ التَّمثِيلِ لا ينسحب على النِّسويِّين فحسب؛ بل وعلى النِّسويَّات أيضًا، وهذا ما يَدْعَمُ وُجْهَةَ نظرنا السَّابقة. فتطرُفُ بعضِ النِّسويات جَعَلَهُنَّ يرفضنَّ أن يَتحَدثَ صَوتُ غيرِهنَّ باسمهنَّ حتىَّ وإن كُنَّ ناقداتٍ نسويَّات مثلَهُنَّ، وهذا ما نفهمُهُ من طرح "أليسون جاغرا" التي قالت «إنّ جماعة النساء اللائي ينشدن استبعاد حيواتهن من دائرة فحص نقدي تقوم به نسويات من الخارج يتقدمن بعدة حيثيات لهذه الرغبة. تجادل جماعة المومسات بأنّ النسويات من الطبقة الوسطى يجهلن الظروف الحقيقية لحياة البغاء»43. والكتابةُ الرِّوائيَّة هي شَكْلٌ من أَشكَال الفحص النَّقدي، ويدَّعي أصحابُها بأنَّها نوعٌ من الانتصار لذلك الصوت المهمَّش. في حين أنَّها تَعْرِيُةٌ لذلك المهمَّشِ الذي لا يريد أَنْ يُتَنَبَهَ إليه؛ لأنَّ من شَأْنِ ذلك أن يُعَمِّقَ من حدَّة العداوة له، كما سَبَقَتْ الإشَارَةُ.

5. التَّلقِّي النَّقديُّ لتمثيلات الجَسَدِ

أمَّا بخصوص التَّلقِّي النَّقديّ لِمَوْضُوعَةِ الجسد، فلا يخلو من مفارقاتٍ أيضًا، بفعل تناقُضِ التَّلقِّيات بين تلقٍ نافٍ لتلك الأعمال، وآخر باحثٍ لها عن مُسوِّغاتٍ لانتهاك قُدسيَّة الجسَدِ. كما يمكن التَّمييزُ بين التَّلقِّي الاستهلاكيّ الذي يتوقفُ عند حُدُودِ النَّصِّ بانطباعات لا تخلو معظمها من قدحٍ في النُّصُّوص الرِّوائيَّةِ وأصحابِها، وقد يخرجُ عن حُدُودِ اللِّياقة العلميَّة، وهذا ما يميِّزُ المتلقِّي غير المتخصِّص، وقد ينزلقُ إلى مطبَّاتِه أكادميون، ومتخصِّصُون، ومن شأن هذا النَّمط من التَّلقِّي أن يَدْعَمَ حُجَّة أصحاب الكتابات المحتفية بالطرح الإيروسيِّ، القاضي بجهل المتلقِّين، ورَجعيَّتهم، وبُعدَهُمْ عن الرُّوح العلميَّة في النِّقَاشِ، وعن رُوحِ العَصْرِ في الحياة. وفي المقابل يمكِنُ الحَدِيثُ أيضًا عن نمطٍ آخر من التَّلقِّي، يبدو أنَّه أقرب إلى القِرَاءَةِ المُنتجَةِ، فأصحَابُهُ قُرَّاءٌ وليس مجرد متلقِّين، وعملوا على تقديم قراءاتٍ نقديَّةٍ للتَّمثيل الأيروسيّ للجسد، التي تنوَّعَتْ بين التَّفسير الكُولونيالي، والنَّفسيّ.

5. 1التَّفسيرُ الكولونياليّ

حاول "عبد الله إبراهيم" تقديم مسوغاتٍ للحضورِ الجنسيّ في الرِّواية العربيَّةِ تحت غِطَاءِ الكولونياليَّة، وقدَّم  رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" لــ "الطيّب صالح" كأنموذج، فالجنسُ في الرِّواية مبطنٌ بحمولاتٍ رمزيَّةٍ تعكسُ جدليَّةَ المُستَعْمِرِ والمُستَعْمَرِ «من خلال شخصيات ورؤى تنتمي إلى طرفي التَّناقض المذكور، ومن أجل بلورة هذه الفكرة تلجأ الرِّواية إلى تقنياتٍ سرديَّةٍ كثيرةٍ لتجسيد هذا الموضوع الذي ظلَّ أحد شواغل الرِّواية العربية منذ نشأتها الأولى، لكن "الطيّب صالح" يُضْفِي على الموضوع طابعا تراجيديّا، حينما يُغلِف العلاقة بين الرموز الحضارية بالعنف، والشبق والموت، فتتخطى الشخصيات مستواها النصي المباشر لتتصل بمجالات الصراع المتوتر بين الشرق والغرب»44.

فالشرقُ مُمثَّلٌ في الرِّواية بشخصيَّة "مصطفى سعيد" يُجسِّدُ الفُحولة الجامحة إلى وطء الغرب ممثلاً ببنات لندن، يقول: «وأنا الجنوب يحن إلى الشمال والصقيع، آن همند قضت طفولتها في مدرسة الراهبات، عمتها زوجة نائب في البرلمان حولتها في فراشي إلى عاهرة»45. في هذا المقتطف يجسد عُنْفًا مُضَاعَفًا من الشرق على الغرب، فقد حوَّل "مصطفى سعيد" الفتاة الغربيَّة من حياة الرهبنة إلى الفُحش والعهر. كما اختزل "الطيّب صالح" الغربَ في جنس الأنثى، وما تحملُهُ من مقوِّماتٍ معنويَّةٍ دالةٍ على الخضوعِ للهيمنةِ الذُّكُوريَّةِ. وهذا ما يَنعَتُه "جورج طرابيشي" بتجنيس العلاقات الحضاريَّةِ «فالرجل الأبيض يعتقد ويتصرف على أساس أن جميع نساء المستعمر مباحاة له، ويرد الرجل المستعمر بتطرف مماثل: أن كل امرأة بيضاء مشتهاة »46. وقدَّم طرابيشي إلى جانب روايةِ "موسم الهجرة إلى الشمال"، روايَةَ "عصفور من الشرق" لـ: "توفيق الحكيم" الذي عَمَدَ فيها الحكيم إلى هجاء الغرب عن طريق تَأْنِيثِهِ. وهكذا تمكَّن النُّقاد من الاهتداء إلى مُسوِّغٍ يبرِّر التَّمثيل الجنسيّ للجَسَدِ. 

5. 2التَّفسيرُ النَّفسيُّ

قدَّم "جورج طرابيشي" مساهمةً مُميَّزة في بحث الموسوم بــ: عقدة أوديب في الرِّواية العربيَّة، واتَّخذ مجموعةً من النُّصُّوص الرِّوائيَّة كنماذج للتَّحلِيلِ منها بعض روايات "سهيل إدريس"، ذات الطابعي السِّيري، وعمل على البرهنة على فرضية قتل الأب. ولا يَنْحَصرُ التَّلقِّي النَّفسيّ في الأوديببيَّة فحسب؛ بل كذلك على (التداعي) بوصفه مفهومًا نفسيًّا، وآلية عملية تنهض بوظيفة علاجية. وهذه التِّقنية تتكثَّفُ في الرِّواية السِّيرية أيضًا، ويُؤكِّدُ "جابر عصفور" أنَّ هذا النَّمط يكشفُ بِوُضُوحٍ عن «ميل الفرد المعاصر إلى الإفضاء بمكنون نفسه، والاعتراف لنظيره القارئ بما يدني هذا الاعتراف إلى حال شعائري أقرب إلى التطهر بالبوح الذي يشبه إفصاح السيرة الذاتية عن كاتبها، أو شبه استـرسال الذات المستلقية على أريكة التحليل النفسي في شكل مواز من أشكال الاعتراف التطهري »47.

فروايةُ الاعترافِ كما يصطلحُ عليها "جابر عصفور" أشبه باعترافات المذنبين في الكنيسة، تتيحُ لصاحبها تصريف الشُّعور المؤرِّق له بواسطةِ الكتابةِ الذي تُمثِّل غُفرانًا، فيتماهى عالم الحقيقة المُعاشة من قِبل الكاتب مع عالم الخيال، ويُوفِّرُ لنفسه كَشْفًا وفي الآن ذَاتِهِ حجابًا، ومن شأن ذلك كلّه أن يخلِّصه من الكبت دون أن يُكتشف أمره من قارئه. وكذا تصبحُ الأوديبيَّةُ، والتَّداعي حالتين مرضيتين لدى الرِّوائيين، تُضاف إلى الحالات غير العادية التي ميَّزت الكتابة الروائيَّة. وفي الأخير نجد أنَّ التَّفسيرات النَّفسيَّة لم تدَّخر أيضا أيَّ جُهْدٍ في اختلاق مسوِّغاتٍ إضافيَّةٍ لذلك التَّمثيل الجنسويّ.

6. تركِيبٌ: عنفٌ بالجسد، وعُنفٌ على الجسد

بعد متابعة مختلف التَّمثيلات للجسد في بعض الكتاباتِ، فضلاً عن النُّقُود الموجَّهة لتلك التَّمثيلات اتَّضَحَ أنّها جاءت في سياق ردِّ فعل نزعة ما بعد حداثية ضدَّ الحداثة؛ فراديكاليَّة منظُومةِ القِّيم الفلسفيَّة، والاجتماعيَّة، والسياسيَّة كبَّلت الجَسَدَ الإنسانيّ، وبوجه خاصٍّ الأنثويّ بمجموعةٍ من المحظُورات، فاستحال الجَسَدُ بموجب ذلك إلى طابو من الطَّابوهات التي لا يمكن المساسُ بِقُدُسيَّتِها؛ وبالتَّالي فلا غرابةَ أن يُقَابَلَ الفِعْلُ بردِّ فعلٍ أعنفَ مِنْهُ، وأخذ العنف الجسديٌّ بذلك توجهين اثنين: عُنْفٌ بالجسد، وهنا يُتَّخذُ كواسطة لممارسة العنف. وعُنْفٌ على الجسد، وهو أخطر من سابقه، لقيامه على مبدأ الغائية؛ أي أنَّ ذلك العنف الممارس غايةٌ في حدِّ ذاته. وهذا ما يلاحظ في كتابات "رشيد بوجدرة" فعنف الخطاب الجنسيّ عنده، يوازيه عنفٌ لغويٌّ قلَّما يُعثر على نظيرا له حتَّى في "الخبز الحافي"، ولا حتى في أيِّ نصٍّ من النُّصُّوص الروائيَّة التي قرأناها على الأقل.

وفضلاً عن هذا كُلِّه فقد أَبانَت تمثيلاتُ الكتابةِ والتَّلقِّي التي قُدِّمت -على قلَّتها-عن كثير من الحالات المرضية التي اِعْتَرَتْ بعضَ الكتاباتِ الرِّوائيَّة العربيَّة في تمثيلاتها الجنسيَّة للجسد. فبعضُها يعاني من شعور بالنَّرجسية، ضِدَّ الآخر الذي مَارَسَ عليه عُنْفَهُ في حقبة تاريخيَّة. والبعضُ الآخرُ يُكابِدُ في عوالمِ اللاَّشُعُورِ، فلا يكاد يجد مَنَاصًا من ذلك إلاَّ من طريق الكتابة الرِّوائيَّة. وآخر لا يلتمسُ طريقًا لكسر رُهَاب طابو السُّلطة السِّياسيَّة إلاَّ من تحطيم طابو الجنس المُقدَّس من قِبَل تلك السُّلطة. في حين فضَّلت أخرى ضَرَبَ طابو الدِّين بطابو الجنسِ بتكريسِ الشُّذوذ، والمثليات تحت غطاء النِّسويَّة الرادكالية، وكانت بهذا الصنيع أعظم نيتشويَّة من نيتشه نفسه؛ لأنَّ هناك دراساتٌ أشارت إلى وقوف نيتشه ضدَّ المرأة والمثليات، وبالتَّالي لم يستطعْ الفكاكَ من المثالية والميتافيزيقا التي نَذَرَ عمره لنقضها؛ لأنَّهُ في هذه النقطة بالذات كان يفكر انطلاقا من مقولاتها، بينما سقطت كتاباتٌ أُخْرَى في مرض "الفيتيشية". ولا تكاد كل الحالات التي ذكرناها أن تخرج من الإطارين المذكورين سابقاً: عنف بالجسد، وآخر على الجسد. لقد أَبَانَ هذا التَّركيب عن مدى تأثير التَّصوُّرات الفَلسفيَّة، والاجتماعيَّة المتطرفةِ حول الجسد في إنتاج خطاب أكثر تَطَرُفاً، ولم تكن نابعًا من قناعات محضَّة، بقدر ما هو نابعٌ من ردِّ فعل تجاه الخطابات السَّابقَةِ، أفْضَى في نهاية المطافِ إلى حالات ٍيمكن أن تُوصَفَ بأنَّها مرضيَّة.

7. خاتمةٌ

بالإضافة إلى ما تقدَّم، خَلصت هذه الورقةُ البحثيَّةُ إلى مطبَّات أُخْرَى، وَقَعَت فيها الكِتاباتُ الرِّوائيَّة التي تمثَّلت الجَسَدَ من مَنْظُورٍ إيروسيٍّ، أوَّلها خطأُ الاختِزَالِ، فقد حَوَّلت تلك الكِتَاباتُ الجَسَدَ إلى أيقُونَيةٍ للجِنْس فالجَسَدُ كثيرًا ما يُستَعمَلُ كَقَرِينَةٍ للجنسِ من فُرْطِ ذلك التَّمثِيلِ الاختِزَاليِّ. والحقُّ، أنَّ الجَسَدَ أقْدَرُ على حَمْلِ تمثيلاتٍ أُخْرَى غير ذلك، إذْ بِالإمكانِ إحَاطَتَهُ بحُمولاتٍ أيديولوجيَّةٍ، حضاريَّةٍ، وجوديَّةٍ، وبوَجهٍ عامٍّ، مختلفُ التَّجلِّيات الإنسانيَّة في تنوُعها.

وقع بَعْضُ الروائيِّين العَرب في نوعٍ من الوَهْمِ في التَّمثيلِ، نتيجة اعتقادِهِم تمثيلَ الجَسَدِ النِّسوِيِّ المَقْمُوعِ، والدِّفاع عن حقُوقِهِ المشروعة المتمثِّلة في المُسَاواة مع الرجلِ على كافَّة الأصعدةِ، ونَبْذِ كُلِّ أشْكَالِ المَيزِ ضدَّ الأُنُوثة، ولا يَنْسَحِبُ الأمرُ على الرِّوائيِّين النِّسويِّين فَحَسب؛ وإنَّما على النِّسوياتِ أيضًا. ولعلَّ ما يَحْمِلُ على هذا الوَصْفِ هو رفضُ بعض الحركاتِ النِّسويَّة أن يكونَ الجَسَدُ موضُوعَ مساءَلَةٍ نقديَّةٍ، وسَبَقَتْ الإِشَارَةُ في متن هذا البحثِ إلى أنَّ الكِتَابةَ عنهُ تُعَدُّ شَكْلاً من أَشكَال تلك المُسَاءَلاتِ. يُضافُ إلى هذا الوَهْمِ وَهْمٌ ثانٍ يتعلَّق أسَاسًا بالتمثُلات الخاطئة لبعض النُّصُّوص التُّراثيَّةِ العربيَّة الجنسانيَّة كـ: ألف ليلة وليلة التي أثبتت بعض الدِّراسات أنَّها لا تعكسُ ذلك الفهم النَّمطي، أي بوصفها أُنموذَجًا مثاليَّا لأدب المجون والرَّذيلة.

ويمكنُ أن يُضافإلى النَّتائجِ السَّابقَةِ إشكاليَّةُ التَّوظيفِ الدُّوغمائيِّ للجَسَدِ، على نحو تحوَّل فيهِ إلى أداةٍ لتمريرِ خِطَاباتٍ ونفي أُخرَى مناقضة لها. وبالتَّالي خرج عن أُطُرِ التَّوظيفِ الفنيِّ.

الهوامش

1.إدوارد الخراط: أنا والطابو، مقاطع من سيرة ذاتيَّة للكتابة، مجلة فصول، مج11، ع03 الهيئة المصريَّة للكتاب، القاهرة، مصر، 1992، ص41.

2.  عبد الصّمد الدّيالمي: سوسيولوجيا الجنسانيَّة العربيَّة، دار الطليعة، ط1، بيروت، لبنان،2009، ص166.

3.حسن حنفي: الروح والجسد في القرآن الكريم، مجلة عالم الفكر، ع04، مج37، المجلس الأعلى للثَّقافة والفنون، الكويت، 2009، ص10.

4.   إسماعيل أبو الفداء بن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج3، دار الفكر، ط1، بيروت، لبنان، 2000، ص1252.

5.محمد إقبال عروي: مستويات حضور الجسد في الخطاب القرآني، مجلة عالم الفكر، ع04، مج37، المجلس الأعلى للثقافة والفنون، الكويت،2009، ص29.

6شهابُ الدِّين محمود الألوسيِّ البغدادي: روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، ج15، دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت، لبنان، ص153.

7. محمَّد فخر الدِّين الرَّازيِّ: التَّفسير الكبير، ج15، دار الفكر، ط1، بيروت، لبنان،1981، ص51.

8.  شمس الدّين أبو عبد الله بن قيّم الجوزيّة: الرُّوح، في الكلام على أرواح الموتى والأحياء بالدلائل من الكتاب والسُنَّة والآثار وأقوال العلماء، دار القلم، ط2، بيروت لبنان،1983، ص174.

9.   ينظر، ياسين بوعلي: الثَّالوث المحرم، دراساتٌ في الدِّين والجنس والصِّراع الطبقيِّ، دار الطليعة، ط2، بيروت لبنان، 1978، ص 23. 

10. أفلاطون: الجمهورية، تر فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطِّباعة والنَّشر، الإسكندريَّة، مصر،2003، ص406.

11.   محمَّد هشام: في النَّظرية الفلسفيَّة للمعرفة، أفلاطون-ديكارت-كانط، أفريقيا الشَّرق، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان،2001، ص21.

12. عبد الرحمن التّليلي، عنفٌ على الجسد، مجلة عالم الفكر، ع04، مج37، المجلس الأعلى للثَّقافة والفنون، الكويت، 2009، ص155.

13. المرجع نفسه، ص152.

14. فريدريك نيتشه: إرادةُ القوةِ، محاولة لقلب كل القيم، تر: محمد النَّاجي، أفريقيا الشَّرق، الدَّار البيضاء، المغرب، 2011، ص91.

15. فريدريش نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، تر: علي مصباح، منشورات الجمل، ط1، كولونيا، ألمانيا،2007، ص75.

16. يمنى طريف الخولي: النِّسوية وفلسفة العلم، مجلة عالم الفكر، ع02، مج34، المجلس الأعلى للثقافة والفنون، الكويت،2005، ص16.

17.  بيير بورديو: الهيمنة الذكوريَّة، تر: سلمان قعفراني، مرا: ماهر تريمش، المنظمة العربيَّة للتَّرجمة، ط1، بيروت لبنان،2009، ص28.

18.بيير شارتيه: مدخل إلى نظريات الرواية، تر: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، ط1، الدَّار البيضاء، المغرب،2001. ص114.

19.عبد الرحمن بوعلي:المغامرة الروائيَّة، بحث في تشكيل الرِّواية العربيّة وتطورها في الأدب العربي الحديث، ط2، منشورات ضفاف، مؤسسة النخلة للكتاب، وجدة، المغرب، ص127.

20. نبيل سليمان: في الإبداع والنَّقد، دار الحوار للنشر، ط2، اللاَّذقيَّة، سوريا،1996، ص72.

21. أدونيس: الشَّرع والشِّعر، مجلَّة فصول، ع03، مج11، الهيئة المصريَّة للكتاب، القاهرة، مصر،1992، ص66.

22. إمانويل كنت: نَقْدُ ملكة الحكم، تر: غانم هنا، المنظمة العربيَّة للتَّرجمة، ط1، بيروت، لبنان،2005، ص111.

23.  سعيد بنكراد: السَّردُ الرِّوائيُّ وتجربة المعنى، المركز الثَّقافي العربي، ط1، الدَّار البيضاء المغرب، بيروت، لبنان، 2008، ص144.

24.  ينظر: عبد الله الغذامي: ثقافة الوهم، مقارباتٌ حول المرأة الجسد واللُّغة، المركز الثَّقافي العربي، ط1، بيروت، لبنان، 1998.

25. أوما ناريان وسندرا هاردنغ: نقض مركزية المركز، تر: يمنى طريف الخوليّ، ج1، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2012، ص16.

26  بيل أشكروفت وآخرون: دراسات ما بعد الكولونياليَة، المفاهيم الأساسية، تر: أحمد الروبي وآخرون، المركز القوميُّ للتَّرجمة، ط1، القاهرة، مصر،2010.

27.عبد الصّمد الدّيالمي: سوسيولوجيا الجنسانيَّة العربيَّة، ص166.

28.  ياسين بوعلي: الثالوث المحرم، دراساتٌ في الدِّين والجنس والصِّراع الطبقيّ، ص25.

29.   واسيني الأعرج: سيِّدة المقام، موفم للنشر، الجزائر،2007، ص115.

30. الثاناتوسية: تتمثل نزوة الموت في النزعة الأساسية عند كل كائن هي للعودة إلى الحالة اللاَّعُضويَّةِ، فإن نزوة الموت تنزع إلى العودة إلى حالة سابقة.

31.  إبراهيم الكوني: التِّبر، دار التَّنوير، ط3، بيروت، لبنان، 1992.ص36.

32. المصدر نفسه، ص36.

33.  المصدر نفسه، ص40.

34.  أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد، دار الآداب، ط15، بيروت، لبنان،2000، ص95. 

35. معجب الزهرانيّ: مقاربات حوارية، مؤسَّسةُ الانتشار العربيِّ، ط2، بيروت لبنان،2013، ص41.

36. أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد، ص364.

37.  سعد البازعيّ: قلقُ المعرفةِ، إشكاليَّاتٌ فكريَّة وثقافيَّة، المركز الثَّقافي العربيِّ، ط1، الدَّار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، 2010، ص51.

38.  جيرهارد فيشر: فوضى الجنس، التَّحرر، الخضوع: عملية التحضُّر وتأسيس نموذج لدور الأنثى في القصَّة الإطارية لألف ليلة وليلة، تر:سمر عطار، مجلة فصول، مج11،ع04 الهيئة المصريَّة للكتاب، القاهرة، مصر، 1994 ، ص134.

39.  المرجع نفسه، صص 141-142.

40.  وليد صالح الخليفة: مرض الحب، إسطوغرافيا الجنس والآلهة، مجلة كتابات معاصرة، ع34، مج09، بيروت، لبنان،1998، ص81.

41.  علي عبود المحمداوي وآخرون: خطابات الما بعد في استنفاد أو تعديل المشروعات الفلسفيَّة، منشورات ضفاف، الرِّياض، دار الأمان، الرِّباط، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، ،2013، ص267.

42. المرجع نفسه، 264.

43. أوما ناريان وسندرا هاردنغ: نقض مركزية المركز، ص39.

44.  عبد الله إبراهيم: الرِّواية العربية وتعدد المرجعيَّات والثَّقافات، سلالاتٌ وثقافاتٌ، مداخلة ضمن ندوة: الرِّواية العربيَّة ممكنات السَّرد، ج02، المجلس الأعلى للثقافة، الكويت، 2009، ص ص 11-12.

45. الطيب صالح:موسم الهجرة إلى الشَّمال، دار العودة، ط02، بيروت، لبنان، ص 34.

46.  جورج طرابيشي: شرق وغرب رجولة وأنوثة، دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرِّواية العربيَّة، دار الطليعة، ط04، بيروت، لبنان، 1997، ص10.

47. جابر عصفور: زمن الرِّواية، الهيئةُ المصريَّة للكتاب، القاهرة، مصر، 1999، ص247.

@pour_citer_ce_document

محمد مزيلط, «الجَسَدُ في الخِطَابِ الرِّوائيِّ العَربيِّ قِرَاءَةٌ في أَنْمَاطِ التَّمْثِيلِ»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 112-126,
Date Publication Sur Papier : 2019-10-07,
Date Pulication Electronique : 2019-10-07,
mis a jour le : 09/10/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=6019.