ثقافة السلامة المهنية: مقاربات سوسيو-تنظيميةThe professional culture of safety: socio-organizational approaches
XML sitemap


Archive of the Arts and Social Sciences magazine


Issue 01 April 2004


Issue 02 May 2005


Issue 3 November 2005


Issue 04 June 2006


Issue 05 June 2007


Issue 06 January 2008


Issue 07 June 2008


Issue 08 May 2009


Issue 09 October 2009


Issue 10 December 2009


Issue, June 11, 2010


Issue 12 July 2010


Issue 13 January 2011


Issue 14 June 2011


Issue 15 July 2012


Issue 16 December 2012


Issue 17 September 2013


Journal of Arts and Social Sciences


Issue 18 June 2014


Issue 19 December 2014


Issue 20 June 2015


Issue 21 December 2015


Issue 22 June 2016


Issue 23 December 2016


Issue 24 June 2017


Issue 25 December 2017


Issue 26 volumes 15 2018


Issue 27 volumes 15 2018


Issue 28 volumes 15-2018


Issue 01 volumes 16-2019


Issue 02 volumes 16-2019


Issue 03 volumes 16-2019


Issue 04 volumes 16-2019


Issue 01 volumes 17-2020


Issue 02 volumes 17-2020


Issue 03 volume 17-2020


Issue 01 volumes 18-2021


Issue 02 volumes 18-2021


Issue 01 volumes 19-2022


Issue 02 volumes 19-2022


Issue 01 volumes 20-2023


Issue 02 volumes 20-2023


Issue 01 volumes 21-2024


About the magazine

advanced

Archive PDF

Issue 04 volumes 16-2019

ثقافة السلامة المهنية: مقاربات سوسيو-تنظيمية

The professional culture of safety: socio-organizational approaches
ص ص 49-64
تاريخ الإرسال: 2018-12-17 تاريخ القبول: 2019-12-18

جمال الدين عاشوري
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تعالج مختلف العلوم على غرار الأرغونوميا، وعلم نفس التنظيم والعمل موضوع السلامة المهنية مفصولا عن ثقافة المجتمع الخارجي، وثقافة التنظيم. بهذا فإن تعرض الإنسان لمخاطر إصابات العمل، والأمراض المهنية مازال يهدده، على الرغم من توفر المؤسسات على لجان الوقاية والأمن، وعملها على تدريب العمال. والسبب في ذلك راجع إلى غياب الاهتمام ببناء ثقافة سلامة إيجابية بالمؤسسة. تتطرق هذه الورقة البحثية بالدراسة والتحليل إلى مفهوم بثقافة السلامة المهنية، على اعتبار أن السلامة فعل اجتماعي يلازم الفرد في حياته اليومية، ويتأثر بمجموع القيم الثقافية والمعايير الاجتماعية. لذلك فالحاجة العلمية والعملية تدفع إلى الاقتراب من الموضوع من زاوية سوسيولوجيا التنظيم والعمل، لتحقيق الفهم الجيد للموضوع، ومحاولة حصر ما يحيط به من متغيرات تؤثر فيه. خلصت الدراسة إلى أن تحقيق الفهم التكاملي لموضوع ثقافة السلامة المهنية يستوجب الاقتراب من الموضوع من زوايا سوسيولوجيا التنظيم المختلفة، كون الموضوع متشعب ومتداخل مع متغيرات عديدة، يستدعي الاقتراب في وضعية التفاعلات الفردية (الجزئية) والجماعية (الكلية).

الكلمات المفاتيح: ثقافة السلامة المهنية، الثقافة التنظيمية، السلامة المهنية، المقاربة السوسيولوجية.

Malgré la surveillance sur l'application des mesures de sécurité nécessaires, l’exposition humaine aux risques d’accidents au travail encore menacés. Cela est dû au manque d'intérêt à créer une culture de sécurité positive dans l'organisation. Cet article va prendre le concept culture de la sécurité professionnelle considéré comme un fait social qui accompagne l'individu dans sa vie quotidienne. Cet acte étant influencé par des centaines valeurs culturelles et normes sociales. C'est pour cela qu'il est nécessaire d'approcher au sujet à partir des paradigmes socio-organisationnel pour bien comprendre le sujet, et bien adapter les variables approches. Pour avoir une compréhension intégrée au sujet de la culture de la sécurité au travail -d'après cette étude-, il est nécessaire d'utiliser les différents approches de la sociologie de l'organisation. Le fait que le sujet soit complexe et se croiser de nombreuses variables, se oblige de l'approcher à l'interaction individuelles et collectives

Mots-clés : Culture de la sécurité professionnelle , culture de l'organisation, sécurité du travail, approche sociologique.

Despite monitoring the application of the necessary safety measures, human exposure to the risks of workplace. This is due to the lack of interest in creating a positive safety culture in the organization. This paper examines a culture of occupational safety, because safety is a social work that accompanies the individual in his daily life and is influenced by the sum of cultural values and social norms. Therefore, the scientific and practical need leads to approaching the subject from the point of view of sociology of organization, in order to achieve a good understanding of the subject, and to try to reduce the variables that surround it. This study concluded that achieving an integrated understanding the culture of occupational safety requires approaching the topic from different organizational sociology angles, as the subject is complex and overlapping with many variables, requiring approach in the position of individual and collective interactions.

Keywords: Professional culture of safety, organizational culture, occupational safety, sociological approach.

Quelques mots à propos de :  جمال الدين عاشوري

جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2djamelisso@hotmail.com

مقدمة

يحوز موضوع السلامة على اهتمام عديد المؤسسات الدولية والوطنية، مضافة إلى قطاعات مختلفة، على غرار السلامة المهنية والمرورية والسياحية والملاحية وغيرها. هذا الاهتمام وليد الحاجة الملحة للتخلص من المخاطر التي تهدد البشر والطبيعة والممتلكات، فنسبة من هذه الأخطار يكون مصدرها الإنسان لجهله أو إهماله. بهذا يكون التعريف بالسلوكيات الخاطئة والمضرة بالنفس وبالغير، وبمصادر الخطر، وطرق التعامل معها؛ سبيلا للتقليص منها أو استبعادها بالأساس. ولتزايد الحاجة إلى الأمن والسلامة، تعددت التخصصات العلمية التي تهتم بالسلامة في مجالات مختلفة. فظهرت السلامة المرورية، والفكرية، والمهنية، بل إنها طالت كل الإنجازات البشرية المادية وغير المادية حتى تحولت في بعض المجتمعات إلى ثقافة حياة، تتجلى في مختلف الممارسات في الطريق والسوق والعمل.

إن الفهم والتفسير الجيد والمنطقي لهذه الثقافة تتيحه المداخل النظرية، التي تمثل المرجعية التصورية والميدانية للبحث، وتبعا لهذه الأهمية سنتعرض لبعض المداخل النظرية التي وقع الاختيار عليها لاقترابها من موضوع ثقافة السلامة المهنية. ونظرا لحداثة الموضوع فقد واجهتنا صعوبة استنباطه من التراث السوسيو-تنظيمي، الذي لم يتناوله بصفة مستقلة ومباشرة، إلا ما وقع في خضم التنظير لثقافة التنظيم.

أولا: إشكالية الدراسة

ظل موضوع السلامة المهنية حبيس التنظيرات والدراسات التقنية، التي تنظر إلى التعليمات والتوجيهات الوقائية كقواعد وحركات جافة، يكفي تعليمها للعمال أو للمتربصين منهم للتعامل تقنيا مع المخاطر أو الزملاء لتفادي الإصابات أو الحوادث على غرار علم السلامة المهنية والأرغونوميا؛ إلا أن الإثباتات الميدانية ما فتئـت تبين عدم كفايتها (التوجيهات والقواعد) لعدم استنادها لتصورات اجتماعية موحدة وقيم وعادات وتقاليد، تؤيدها السلوكيات والممارسات اليومية للأفراد باختلاف مراتبهم الاجتماعية أو الوظيفية، فهذا التعدد والتباين يدفع إلى طرح مقاربات لموضوع السلامة المهنية، تقوم على افتراض أنها تمتد إلى المراحل الأولى من التنشئة الاجتماعية، لتثبت وتدعم وفق الثقافة التنظيمية السائدة بالمؤسسة المستخدمة،  بهذا فالمقاربة السوسيو تنظيمية للموضوع تأخذ بتفاعل متغيرات السلامة ضمن البيئة الاجتماعية الداخلية والخارجية.

على الرغم من كون السلامة أو ما يعرف بالأمن في مفهومه الشامل فعلا اجتماعيا، إلا أنه لم يأخذ له مكانة بين مواضيع السوسيولوجيا الكلاسيكية والحديثة، الإمبريقية والنظرية،فقد عرف هذا الموضوع اهتمام وتشخيص مختلف العلوم بمعزل عن البعد الاجتماعي، والمقاربات السوسيولوجية التي تتوفر على أدوات منهجية، تشكل قالبا تحليليا يبين أبعاده وتشعباته الاجتماعية، وكيفية تفاعلها فيما بينها في صورتها الجزئية التفكيكية، وبين المتغيرات الاجتماعية الأخرى في الصورة الكلية للمجتمع حسب سياقاته المكانية والزمنية .

يشير التراث السوسيولوجي إلى أن الاهتمام بالمواضيع الواقعية والمستحدثة، يتيحها الخيال العلمي الاجتماعي (السوسيولوجي) الذي يتميز به علماء الاجتماع؛ إذ أنهم يبدعون حسب الأمريكي رايت ميلز Wright Mills's أدوات منهجية وتحليلية تمكنهم من معالجة المواضيع الاجتماعية وفق طروحات جديدة، تضفي فهما أعمق للظواهر المحيطة بالإنسان بتسليط الضوء على معانيها ودلالاتها، لتجعل من المشكلات الفردية متاعب بحثية تثير الباحث السوسيولوجي، وتدفعه إلى استرداد ما يتعلق بها1. ففهم الفرد لا يمكن أن يتم بمعزل عن الأفراد الآخرين، وبمعزل عن البناء الاجتماعي الذي يتواجد فيه. هذا الربط بين الفرد والبناء تتيحه القدرات العقلية للباحث. على هذا المنوال ينبغي للاجتهادات السوسيولوجية الراهنة أن تكون أكثر تفتحا على الواقع، وأكثر تحررا من "الطقوسية المعرفية" على حد تعبير النمساوي بول فيرابند2؛ فالراهن يشهد ظهور المواضيع الجديدة، التي تستدعي الدراسة الآنية قبل التفاقم والتزاحم الموضوعاتي. حينها يستحيل على الباحث الاجتماعي فهم الجديد بمعزل عن الجذور الأولى للظواهر.

عملية البناء الموضوعاتي تستدعي تحديد الهدف منه (فهم وتحليل ثقافة السلامة المهنية، والتعرف على أبعادها ومكوناتها)، واختيار أرضية البناء المناسبة (طبيعة المؤسسة محل الدراسة، ونوعية متغيراتها التنظيمية)، وتوزيع المهام على الفاعلين في العملية (الفرد/ الجماعة، والمؤسسة، والحكومة، ومؤسسات التنشئة الاجتماعية)، وتحديد نوع الأدوات المنهجية المناسبة (المقاربات النظرية).

تعتنى السوسيولوجيا بموضوع الثقافة كونها الموجه الكبير للفعل الاجتماعي، والمفسر لكثير من الظواهر الاجتماعية القديمة والحديثة، وبعد التسليم بتعدد وتنوع الثقافات انشغلت حقول علم الاجتماع بالثقافات الفرعية، فعلم اجتماع التنظيم والعمل يتناول بالدراسة والتحليل موضوع ثقافة السلامة المهنية وفق المنظور التفاعلي والمغلق، بذلك فمقاربات سوسيولوجيا التنظيم تحاكي في تنوعها اختلافات الظاهرة بين المجالات المكانية والزمانية والمجتمعية، فما هي ثقافة السلامة المهنية؟ وما هي دواعي اهتمام السوسيولوجيا بهذا الموضوع؟ وأي المداخل أقرب لفهم ثقافة السلامة المهنية؟

ثانيا: بحثا عن تعريف لثقافة السلامة المهنية

يعتبر هذا المفهوم المركب من المفاهيم الحديثة نسبيا، لذلك يصعب الإجماع على تعريفه، ويمكن القول أن المبادرات الأولى في تحديد أبعاده قد تمت بمعزل عن الإسهام السوسيولوجي، فالأمن أو السلامة كمفهوم قد هيمنت عليه المقاربات السياسية والعسكرية التي اختزلت غالبا مفهوم الأمن في القوة، وتجنيد الأفراد (وتسليحهم) لحماية الحدود السياسية للبلدان من التهديدات الخارجية (الاجتياحات العسكرية خصوصا)، لذلك جاءت تعريفات الأمن أو السلامة ضيقة، واختزالية لأبعد الحدود لبعض عناصر السلامة. وهو ما يستدعي الاستدراك لتقديم تعريف أكثر اتساع مضافا إلى مفهوم الثقافة.

للسلامة معنيين: الأوّل محدّد في الخطاب والممارسة ويتجسد في تبرير السياسيّين لتقليص الحريّات المدنية باسم الأمن القومي، وعندما تقوم المدارس بتركيب أجهزة الكشف عن المعادن لتفتيش من يدخل إليها، وتثبيت كاميرات المراقبة عبر طرقات المدرسة باسم أمن الطلاب؛ أما المعنى الثّاني فيحمل دلالات أوسع نطاق من الأول، كونه مجموعة متنوّعة من الظواهر المتعلّقة بالتفهّمات الثّقافية للسّلامة، والأمان، والفوضى، وانعدام الأمن ودمج هذه الظّواهر مع مشكلات اجتماعيّة؛ كالبطالة، والجريمة، والمرض، والتي تكون مؤثّرة -بشكل مباشر أو غير مباشر- في السلامة، من خلال رؤية الفاعلين المحليّين3.وعلى هذا فالتداول المجتمعي للسلامة يتعدد ويختلف من مجتمع إلى آخر، وتتدخل فيه عدة عوامل، وهو شامل لجميع نواحي الحياة اليومية.

تعددت تعاريف السلامة المهنية بحسب أهميتها بالمؤسسات والآليات المتبعة لتفعيلها، حيث يتداخل مفهوم السلامة مع مفاهيم أخرى، إذ يعمد بعض الدارسين لاستبدال مفهوم السلامة الصناعية بالأمن الصناعي في الأوساط المعرفية، إلا أن مفهوم الأمن يظهر عليه شيء من الاختصار لأنه يدل على الهدف ولا يدل على الفعل، كما أن الترجمات المتأخرة للفظ "sécurité" بالفرنسية يقابله في اللغة العربية لفظ "سلامة" لأن هذا المفهوم يبدو عليه الشمولية والجمع بين مفهومين أساسيين هما: الأمن والصحة معا، لتكون السلامة الصناعية بذلك برنامجا يضم نظامين متكاملين هما الأمن المهني الذي يوفر وقاية للموارد البشرية من أخطار العمل، والتأمينات الاجتماعية التي توفر رعاية وحماية ضد الأخطار المختلفة التي يتعرض لها العامل في موقع العمل4. فالسلامة المهنية حسب سعيد السالم تتضمن معنى الحرص على توفير الأساليب والآليات الفعلية التي يتم من خلالها حماية العمال قبل وقوع حوادث العمل والأمراض المهنية، وبعد وقوع حوادث العمل كذلك عن طريق توفير الرعاية الصحية والاجتماعية وإحساس العامل بالأمن الوظيفي الذي يجعله في راحة نفسية تجاه مستقبله.

ظهر حديثا مفهوم أوسع من مفهوم السلامة المهنية أو السلامة في العمل عموما، كونه يتعدى البعدين السابقين –حماية الموارد وتوفير الرعاية-الذين يشير إليهما مفهوم السلامة المهنية؛ وهو حفظ الصحة والسلامة والبيئة المترجم عن اللغة الانجليزيةHealth Ssecurity and Environment بالحفاظ على البيئة الخارجية لمحيط المصنع، والاستغلال غير العقلاني للموارد الطبيعية دون الإخلال بتوازن الطبيعة، والمساومة في حق الأجيال اللاحقة ... وقد جاء مفهوم السلامة مقرونا في بدايات ظهوره بالصناعة (الأمن الصناعي) لأنه كان وليد الثورة الصناعية التي نتج عنها حوادث عمل وأمراض مهنية خطيرة جدا، وامتد تأثيرها السلبي إلى المجتمعات الريفية، ناهيك عن الحضرية، وأوجدت نمطا جديدا في العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الصناعية. فالعمال المتوجهين من الزراعة إلى الصناعة غير مدربين على طريقة التعامل مع الآلات، ولا يعلمون بتأثير الظروف الفيزيقية السيئة التي يعملون فيها على صحتهم أو لعدم وجود بدائل عمل أخرى.

بعد ظهور المؤسسات الخدماتية، وعودة بعض الحرف اليدوية، والمؤسسات الفلاحية إلى ساحة المنافسة، ظهرت مهن جديدة، وأوجدت معها مخاطر مهنية جديدة تستدعي التعريف بها، وتدريب الأفراد على طرق التصدي لها والتعايش معها، وأخذا بهذه المتغيرات، فالسلامة في العمل لم تبق مقتصرة على العمل في المصانع، وإنما هي متعلقة بكل نشاط إنساني يتفاعل بموجبه الإنسان مع المحيط الطبيعي والمادي. والسلامة المهنية هي الكفيلة بحماية العامل في بيئة العمل باختلاف طبيعة النشاط الذي يزاوله (حرفة أو فلاحة أو خدمات أو صناعة).

عرف عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل والرستاين Ammanuel Wallerstein الثقافة5 بأنها: "مجموعة من المقدمات المنطقية أو الفرضيات (الافتراضات) والممارسات المشتركة، ليست مشتركة بالضرورة بين كل أفراد المجموعة في كل وقت، ولكن مشتركة بين معظم الأفراد في معظم الأحيان، والمشاركة هنا يجب أن تكون علنية. غير أن الأهم من علنيتها أن تكون لاشعورية؛ إذ قلّما تكون هذه الفرضيات محل نقاش أو خلاف"6.

يغطي هذا التعريف أبعادا هامة للثقافة هي:

1.                       أنها تتضمن التصورات والممارسات التي تكون علنية ولاشعورية، حتى تنشأ عليها الجماعة لتكون محل إجماع.

2.                      أنها تكتسي طابع التشاركية بين معظم أفراد المجتمع في وقت من الأوقات.

3.                       التسليم بوجود التغير الثقافي، وإمكانية حدوثه في أي وقت.

4.                       أن هناك ثقافة عامة (مهيمنة)، وثقافة فرعية محتواة ضمنها.

بدأ استخدام مفهوم "ثقافة السلامة" على المستوى الدولي في أعقاب تقرير أعدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 1991 بعد حادثة تشيرنوبيل يوم 26/04/1986 بأوكرانيا، والناجمة عن التسريبات والانفجار النووي الحاصل بالمحطة، ومنذ ذلك الحين عمدت المنظمات والباحثون إلى تطوير هذا المفهوم من خلال تطبيقه على نطاق أوسع في صناعات غير نووية، وربطه بالحاجة إلى نهج وقائية للصحة والسلامة المهنيتين، وبالجوانب الإنسانية والسلوكية، لإدارة فعالة للسلامة والصحة المهنيتين7.

قدم مكتب العمل الدولي من جهة أخرى تعريفا لثقافة السلامة بكونها "الثقافة التي يكون فيها الحق في بيئة عمل آمنة وصحية محترما على جميع المستويات، وتشارك فيها الحكومات وأصحاب العمل والعمال مشاركة نشطة لضمان بيئة عمل آمنة وصحية من خلال نظام من الحقوق والمسؤوليات والواجبات المحددة، ويمنح فيها مبدأ الوقاية أولوية قصوى. ويقتضي تكوين وصون ثقافة وقائية للسلامة والصحة استخدام جميع الوسائل المتاحة لزيادة الوعي العام والاطلاع على مفاهيم المخاطر والأخطار وفهمها ومعرفة طريقة منعها أو السيطرة عليها"8. يضيف هذا التعريف على أصحاب العمل والعمال، الحكومة كفاعل رئيس في الترويج لثقافة السلامة بالمنشآت؛ حيث تحترم بيئة العمل الصحية والآمنة، وتضمن الوقاية والحماية عن طريق وضع القوانين والقواعد لتلافي وقوع الحوادث، وهي تتشكل لدى الأفراد بالتعريف المستمر لمخاطر العمل وسبل الوقاية منها. 

أما عبد الله الصعيدي فعرف ثقافة السلامة المهنية بأنها: "جمع اجتماعي من القيم والأعراف والاتجاهات والسلوكيات المشتركة وذات الإجماع الاجتماعي، والتي تضبط أنماط السلوك الاجتماعي، وتكون قوة مؤثرة في ضبط الأفراد، وتعزيز امتثالهم ومجاراتهم لأعراف المجتمع وقوانينه، ومقاومة من يخرج على الإجماع الاجتماعي، وذلك بقصد تحقيق الاتزان الأمني في المجتمع"9. ثقافة السلامة المهنية وفق هذا التعريف ذات طابع اجتماعي بحت، يلغي إمكانية تشكل الثقافات الفرعية المضادة عند الجماعات الثانوية أو الأفراد، كما أن تحقيق الأمن وفقه يتحقق بمجرد إجماع المجتمع على محددات السلوك ومعاييره، ليتقوقع حولها ويلغي كل أشكال التغير والتفاعل الثقافي.

تأسيسا على التعريفات السابقة فإن ثقافة السلامة المهنية هي مجموع القيم والتصورات والعادات والطقوس والسلوكيات المتعلقة بالوقاية من أخطار المهنة (إصابات العمل، والأمراض المهنية، والتلوث)، وتتجلى في الممارسات اليومية اللاشعورية للأفراد والجماعات، لتصبح بحكم التكرار من سمات أفراد التنظيم، المميزة لهم عن غيرهم، عن طريق استعمال أساليب التنشئة التنظيمية المتاحة كالتكوين، والتدريب، والأيام التحسيسية، وكل ما من شأنه تنمية الوعي الوقائي لدى الأفراد الفاعلين في التنظيم.

ثالثا: أهمية الاهتمام بثقافة السلامة المهنية في المؤسسة

تمت الإشارة في المقدمة إلى أن لموضوع ثقافة السلامة المهنية امتدادا عميقا، يكاد يمس جميع المؤسسات الاجتماعية باختلاف نشاطاتها، إنتاجية كانت أو تربوية أو قضائية أو تكوينية. لهذا الامتداد علاقات تأثيرية عكسية. فلو أخذنا على سبيل المثال مؤسسات التربية باعتبارها أحد أهم المؤسسات الاجتماعية صناعة للثقافة بالمجتمع، فإنها ترسم معالم ثقافة السلامة الايجابية، وإذا ما تحقق التكامل بين مؤسسات المجتمع يمكن أن تسهم المؤسسات الاقتصادية والصناعية في إعداد برامج التعليم وفقا لما يتوافق وثقافاتها التنظيمية، والمصلحة العامة للمجتمع ككل.

اهتمام علم الاجتماع بالعلاقات الاجتماعية هو الذي قاد الفرنسي جورج فريدمان Georges Feridman إلى دراسة المشكلات الإنسانية المتعلقة بالآلات الصناعية، ووجهة العمل الإنساني في خضم التطور التكنولوجي الذي أفرز مخاوف جلية في الوسط العمالي. كما حاول توضيح موقف علم الاجتماع من كل هذا في خمسينيات القرن الماضي10، وتطرق أيضا إلى العلل المتعلقة بتقسيم العمل، إلا أنه لم يتطرق إلى سؤال الثقافة أو الهوية بشكل مدقق في المصطلح، وهنا نطرح كما يقول سانسوليو Renaud Sainsaulieu موضوعا بحثيا أكثر تعقيدا، كون المؤسسات المعاصرة تستدعي التحلي بذكاء إضافي لفهم السؤال المعاصر حول الهوية ضمن الإنتاج11، فالهوية الثقافية من حيث هي سمات، والقيم والاتجاهات المشتركة بين أعضاء التنظيم الواحد، والتي تميزه عن غيره من التنظيمات، تحتاج إلى مهارة كبيرة للتعرف الميداني على مكونات هذه الأبعاد، فما يؤثر على الأدوار والعمليات التنظيمية بشكل كبير هو الثقافة التي يكون توجيهها للسلوك في الغالب غير ظاهر.

إن الاهتمام بموضوع الأمن يؤسس له أولريش بيك Ulrich Beck عند معالجته في كتاب "مجتمع المخاطر العالمي: بحثا عن الأمان المفقود"12 لمشكلة الأمن الشامل، وقد ظهر مفهوم السلامة المهنية مواكبا لمستجدات الأعمال والمهن الجديدة، وتوسع ليشمل جميع المهن والقطاعات الإنتاجية والخدمية، بل وحتى الحياة اليومية للأفراد. وفي المرحلة المعاصرة توسعت أبعاد ودلالات السلامة، لتشمل حماية الأفراد صحيا، ونفسيا، واجتماعيا لتحقيق الرفاه، وحماية الموارد المادية من التلف وحماية الموارد الطبيعية من النفاد، لضمان بقاء التوازن الأيكولوجي، وحماية حق الأجيال اللاحقة، وحماية بيئة العمل، والبيئة الطبيعية من التلوث، وكذا حماية المنشأة ككل من كل التهديدات الخارجية كعمليات التخريب والنهب والسرقة. إن هذه الحماية تكفلها القوانين التي تشرعها وتشرف على تطبيقها مختلف الهيئات الدولية والمحلية، والفاعلين الميدانيين من التنظيمات مختلفة النشاط الإنتاجي من خلال التخطيط لبرامج السلامة المهنية التي تحقق الحماية التامة لوسائل الإنتاج البشرية والمادية، وتشرف الحكومة على الرقابة على تطبيق هذه البرامج والالتزامات القانونية من خلال دوائرها المتخصصة؛ فمفتشية العمل على سبيل المثال تقوم بالمراقبة والتفتيش الميداني لمدى التزام أرباب العمل بتوفير مستلزمات الوقاية والأمن، وتوفير بيئة عمل صحية13.

 تشرف إدارة متخصصة في كل تنظيم على ما يتعلق بصحة العمال وسلامتهم، وهي مقسمة إلى وحدات وفروع بحسب حجم المؤسسة وطبيعة نشاطها، تعمل جاهدة في اتصالها الدائم بأعضاء التنظيم لغرس ثقافة سلامة إيجابية. يجب الإشارة هنا إلى نقطة مهمة مؤداها أنّ تحقيق هذه الأخيرة لا يتأتى بمجرد إنشاء خلية تنظيمية أو توفير معدات الوقاية والأمن، بل تحتاج إلى خطوات عملية علمية، تتطلب مدة زمنية متفاوتة حتى تصبح تشاركية، ويتم تثبيتها، وتنطبع في سلوكيات الأفراد وممارساتهم اليومية.

يهتم علم اجتماع التنظيم والعمل بثقافة السلامة المهنية لاعتبارها موضوعا متشعبا في علاقته بعديد المتغيرات التنظيمية، ويمكّن التنظيمات من إعداد برامج الوقاية والأمن التي تتوافق مع ثقافة عناصرها البشرية، ليحصل التحكم في المخاطر المختلقة (الحوادث والإصابات المهنية)، فهذه الأخيرة في بعض الأحيان تكون مقبولة ضمن القيم الثقافية للمجتمع واتجاهاته، فمهنة السياقة مثلا توجهها بعض القيم الجمعية لدى السائقين الجزائريين كما بينت الدراسة الميدانية التي أجرتها فرقة بحث في جامعة الجزائر؛ "أين وجدت أن عدم احترام قوانين المرور أصبحت كعادة طبيعية مقبولة لدى أغلبية الناس، وهناك عوامل عديدة تساهم في تعزيزها وانتشارها"14. فالواجب دراسة هذه العوامل والتعريف بها وبخطورة مخالفة القوانين أو التصرفات الخطيرة أثناء استعمال الطريق15.

إن الغاية الجوهرية من أي بحث علمي هي تحقيق المنفعة العملية، وتحصيل المعرفة العلمية، وهذا الموضوع شامل للمنفعتين مجتمعتين؛ فعلميا يسمح التعريف بقيم السلامة لدى الأفراد، ومواقفهم تجاهها وممارساتهم بالاقتراب أكثر من حقيقة الظواهر الاجتماعية، وابتكار تقنيات بحثية أكثر اقترابا من الموضوع، لتحقيق التراكمية المعرفية؛ أما عمليا فالإحاطة بالمؤثرات الفعلية في سلوك الإنسان تتيح التنبؤ بسلوكه، وإمكانية توجيهه أو التغيير في ثقافته المتعلقة بالسلامة، لتتوافق وثقافة المؤسسة، لكي لا يحدث تعارض ثقافي قد يتحول إلى صراع.

تفادي ما من شأنه تشكيل ثقافات مضادة لدى أعضاء التنظيم الواحد يتحقق بواسطة التأصيل للمشكلة التي تعترض عمليات التسيير، والوقوف على المقاربات النظرية التي تقدم نموذجا جاهزا للفهم، والعنصر الموالي تفصيل في هذا الشرط الأخير، كمحاولة لتقديم بعض أدوات التحليل النظرية لدراسة موضوع ثقافة السلامة المهنية.

رابعا: ثقافة السلامة المهنية في ضوء السوسيولوجيا التنظيمية

اهتمام سوسيولوجيا التنظيم والعمل بموضوع ثقافة السلامة المهنية–لاعتباره مشتملا على البعد الفني والتنظيمي في آن واحد-متعلق بأهمية الموضوع في حد ذاته على المستوى العملي في أماكن العمل، وما يثيره من قضايا نظرية وعلمية تستدعي الدراسة. فعلم اجتماع التنظيم والعمل ينظر إلى هذا الموضوع من زاوية تأثره وتأثيره على عدة متغيرات من داخل التنظيم ومن خارجه، من منطلق أن العمال لا يصلون إلى المؤسسة مجردين ثقافيا، بل هم يحملون إليها في بعض الحالات ثقافات مهنية، وأحيانا أخرى ثقافات خاصة بالجماعات غير الرسمية، ولا يمكن بحال إغفال تأثير هذه الثقافات الخاصة على سلوك الأفراد داخل التنظيم.

اهتمام علم الاجتماع بثقافة السلامة المهنية ينطلق من كونها عملية اجتماعية تفاعلية، سواء كان ضمن عملية تفاعلية تسبق تنصيب العامل بالمؤسسات كعملية التعليم والتنشئة التي تتم في الأسرة والمجتمع ومؤسسات التربية والتعليم والتكوين، أو كما صوره بعض علماء الاجتماع في اتصال الإنسان مع الآلة التي يعمل عليها، أو تفاعل العامل مع زملائه أو مع الإدارة. دراسة ثقافة التنظيم بهذه الطريقة تأخذ بتأثير وتأثر البيئة الخارجية بالتنظيم. أما المقاربات الثانية فهي التي تتناول ثقافة السلامة المهنية كعملية تنظيمية محضة؛ تعكس فلسفة وقيم المؤسسة دون تأثير المجتمع فيها. وسيشتغل هذا العنصر بالمقاربات الأولى. 

حدد فيبر موضوع علم اجتماع العمل في موضعين رئيسين: يدور الأول منهما حول تحديد كيفية دخول العمال ميدان الصناعة، أما الثاني فيتمحور حول الظروف الموضوعية التي يواجهها أولئك العمال داخل المؤسسة، في تفاعلاتهم اليومية فيما بينهم، وبينهم وبين الإدارة، والظروف التي يعملون فيها، فالحياة المهنية داخل المصنع -إذا ما تجاوزنا طرح فيبر-يميزها التفاعل بين عناصر التنظيم المادية والبشرية، والتنظيم والبيئة الاجتماعية الخارجية التي تحيط به.

تتحدد نوعية حياة العمل في بعض زوايا طرح فيبر مع ما قدمه كاست وروزوايغKast Fremont E. & James E.Rosenzweig من أنها تظهر في ثلاثة مستويات تتمثل في الأفراد، والمديرين، وجماعات العمل. فعلى مستوى الأفراد نجده في ديمقراطية (تشاركية) الإدارة، وتزايد فاعلية العاملين للمشاركة في اتخاذ القرارات. أما على مستوى المديرين، فيعبّر عنه بالجهود الرامية إلى زيادة الإنتاجية من خلال تحسين نوعية العلاقات الإنسانية، والحياة الاجتماعية. أما بالنسبة للمستوى الثالث -مستوى جماعات العمل-فيتعلق بالمشاركة العادلة في الدخل والمكافآت وظروف العمل الجيدة، فضلا عن السلامة المهنية للعاملين في العمل، وروح العمل كفريق متكامل16.

 

1.                       نظرية الاتفاق البنائي

تؤكد النظرية على التنشئة الاجتماعية كعملية يتم من خلالها تكريس التوافق الاجتماعي، والانطباع المشترك بين أفراد المجتمع الواحد بسبب تهيئتهم اجتماعيا وفق قواعد ومعايير موحدة.

تحدد القواعد الثقافية للمجتمع سلوك أعضائه، وتقوم تلك القواعد بنفس الطريقة التي يشكّل بها البناء الخارجي لمبنى معين من تصرفات الأشخاص الذين يسكنونه17، فالسلوك التنظيمي بأي مؤسسة سيكون له أنماطه التي ينتظم فيها، وإذا ما أجرينا عملية تفكيكية عليه فسوف نجد خصوصية سلوك الجماعة عن الأخرى من نفس المؤسسة عند وجود اختلافات في الأبنية الفرعية للوحدات الإنتاجية أو الخدمية، فترسم ممارسات معينة يتشابه فيها أعضاء تلك الأبنية.

إنه وبمجرد الخروج عن هذه الأبنية تستبدل القواعد الثقافية بأخرى تتوافق مع الفضاء أو الدور الذي يكون فيه الفرد؛ فالتركيب الاجتماعي للقواعد ينطبق على الأوضاع الاجتماعية وليس على الأفراد أنفسهم، فمفتش العمل مثلا لديه ثقافة سلامة لا يفرضها أو يطبقها على جميع المؤسسات التي يقوم بتفتيشها، فالمراقبة على تطبيق تعليمات السلامة من قبل المؤسسة والأفراد تكون تبعا لنشاط المؤسسة التي يتواجد بها لغرض التفتيش، بهذا فهو يحكم عليها استنادا لمعيار النشاط الذي تزاوله.

يسمي علماء الاجتماع الأوضاع في البناء الاجتماعي بالدور، والقواعد التي تشكل سلوك من يحتل تلك الأوضاع الاجتماعية بالمعايير، وهناك بعض القواعد الثقافية التي لا ترتبط بأي دور أو مجموعة من الأدوار الاجتماعية، وهناك ما يسمى بالقيم، وهي خلاصة مشاعرنا لطرق المعيشة التي تنال الاستحسان، والتي تقوم بالدور الأساس الذي تنشأ منه معايير معينة18.

يحقق التسليم المشترك بين أفراد المجتمع حول القيم والمعايير التوافق الاجتماعي الذي يوجّه التصرفات والتصورات، وفقا للقواعد التي جرى التعريف بها وإشاعتها عن طريق مؤسسات التنشئة المختلفة، ليتحقق من خلالها الترابط الاجتماعي والتكامل، ويسود النظام في المجتمع.

يقر أصحاب هذا الاتجاه بوجود مؤثرات ثقافية بديلة في المجتمعات المعقدة، أين توجد معايير وقيم تنافس بعضها البعض، وحتى داخل التنظيمات غير العائلية، فممارسات الوقاية الصحية كغسل اليدين مثلا قبل كل تناول للوجبات ينظر إليها لدى بعض الفئات على أنها سلوك واع وحضاري لتجنب الأخطار الصحية، بينما قد يقيمها آخرون على أنها من قبيل والمبالغة، وفي أسوأ الأحوال قد ينظر إلى هذا السلوك على أنه دليل على الإصابة بالوسوسة. 

النظام الاجتماعي في المجتمع هو نتيجة توافق بين أعضائه حول كيفية التصرف، والأشياء التي تكون موضع تفكير. وعلى الرغم من الاختلافات الثقافية بين الجماعات المختلفة، ووجود الفئات الثقافية المعارضة، الموجودة في الثقافات الكلية؛ إلا أنه يغلب التوافق الكلي. هذا لأن ّكل المجتمعات تمتلك قيما معينة حول الأهمية التي لا يختلف عليها أحد، وتسمى هذه القيم بالقيم المركزية أو المحورية التي تضمن الترابط الاجتماعي19.

2.                      المقاربة التفسيرية ذات البعد الثقافي

ظل الاهتمام بالجانب التقني كمؤثر على الإنتاجية مهيمنا على الدراسات التنظيمية فترة زمنية طويلة، إلى حين بروز مجموعة من الرواد المعاصرين الذين أخذو يدرسون تأثير العامل الثقافي على المردودية، والتسيير الفعال الموارد البشرية حسب ما تقضيه مصلحة المؤسسة، مع مراعات الخصوصية الثقافية للأفراد.

أسس كل منديل Deal وكندي Kennedy، وبيتر Peter وويترمان Waterman تحليلهم من خلال النموذج الإرشادي الوظيفي للثقافة التنظيمية، وقد راج لديهم هذا المفهوم الذي يتكون حسبهم من القيم والمعتقدات ومعايير السلوك، وترتبط في نشأتها وتشكيلها بتاريخ المؤسسة، وتظهر في الإنتاج المادي والرمزي. فهي تعبر عن الحقائق التي تكوّن السمات الثقافية لمؤسسة ما20.

يعتبر الفرنسي رينو سانسوليو Renaud SainSaulieu من المؤكدين كذلك على ضرورة الاهتمام بالتحليل الثقافي للمؤسسات، لفهم حقيقة الظواهر التي تحدث داخلها، وهو كثيرا ما يدعو من خلال مؤلفاته "علم اجتماع العمل"، و"الهوية في العمل"21 إلى ضرورة الاهتمام بالضوابط الثقافية المتجذرة في عمق السلوكيات الفردية والجماعية داخل المؤسسة، فعلى الرغم من صعوبة التعرف على هذه الضوابط إلا أنه لا ينفي إسهامها بشكل كبير في توجيه سلوك العاملين في التفاعلات اليومية مع وظائفهم أو مع بقية زملائهم أو رؤسائهم أو مرؤوسيهم.

بين سانسوليو أنه يمكن تحديد ترسيمات مختلفة للسلوكيات داخل المؤسسة حسب الاصناف الاجتماعية المهنية، وقد انتهى إلى اختصارها في أربعة نماذج ثقافية رئيسة: "فالأولى تميز العمال المختصين غير الأكفاء أكثر من غيرهم، فتنطبع ثقافتهم بطابع العلاقات الإنصهاري. أما الثانية فهي على العكس من الأولى؛ إذ تحيل إلى القبول بالاختلافات وعلى المفاوضة، وهي بصورة خاصة من صنع العمال المحترفين، ونجدها كذلك لدى بعض التقنيين الذين يزاولون مهنة فعلية، ولدى الإطارات التي يمارس أعضاؤها وظائف تأطير فعلية أيضا. بينما تتناسب وضعيات الحراك المهني طويل الأمد الذي تعيشه غالبا الإطارات عصامية التكوين أو التقنيون، فيكون نمط الاشتغال العلائقي هو نمط التناغم الانتقائي والريبة تجاه المجموعات المتشكلة داخل المؤسسة. في حين تتسم رابع ثقافات أوساط العمل بالانزوائية والتبعية، نجدها لدى العمال فاقدي التأهيل، والذين تعوزهم ذاكرة عمالية، مثل العمال المهاجرين والفلاحين"22.

تتكون المنظمة إذن من عدة ثقافات فرعية يحملها الأفراد الذين تلقوها عن طريق التنشئة الاجتماعية، ونتيجة للتفاعلات اليومية في العمل تتداول استعمالات وتصورات وقيم وافتراضات بين الأعضاء، ترعاها الإدارة وتعمل على تنميتها لتشكل بمرور الزمن هوية الجماعات التنظيمية التي تعزز من روح الانتماء، والتضحية من أجل الجماعة، والمصير المشترك، والاندماج الاجتماعي، فعملية التنشئة الاجتماعية حسبه لا تنقطع، بل تستمر ضمن المؤسسة التي لا تنفصل عن الضوابط الاجتماعية التي يرسمها المجتمع.

تعمل المؤسسة على التخطيط والتنظيم لعملية التنشئة التنظيمية، ومرافقتها لغرض تشييد البناء الذي لا يكتمل على حد تعبير سانسوليو، كون عملية التنشئة سيرورة لا تنتهي. وحسب مقاربته فإن ثقافة السلامة المهنية هي محصلة لثلاث عوامل رئيسة هي:23

أ‌.  الثقافة السابقة للعامل، والتي يمكن أن تكون مرتبطة بجنسه أو انتمائه أو الخبرة المهنية التي يكون قد حصل عليها في عمل آخر أو مؤسسة أخرى.

ب‌.                     الوضعية المهنية للعامل داخل المؤسسة، والتي تتضمن الفئة الاجتماعية وكذا شكل تنظيم العمل.

علاقة السلطة والتبعية التي تحكمه داخل المؤسسة، وما يترتب عن ذلك من استراتيجيات، سواء في علاقاته بالمؤسسة أو بالآخرين (يمتلك الفاعل الاستراتيجي خبرة في إقامة علاقات شخصية وجماعية). الخبرة المهنية والقوة التي يمتلكها الفاعل الاستراتيجي ضمن منصة التنظيم، والوسط الاجتماعي الذي نشأ فيه الفاعل، لذلك فالفعل الاستراتيجي لا يتاح لجميع الموظفين. هذه العوامل مشتركة تجعله قادرا على التوسط بقوة في توجيه حياة المؤسسة 24.

تبعا لهذه العوامل فإن ثقافة السلامة المهنية تتشكل لدى الأفراد نتيجة التفاعل المستمر مع البيئة المهنية والاجتماعية والتنظيمية، وهي متفاوتة بحسب المتغيرات الشخصية للأفراد (السن، والجنس، وتخصص التكوين، وسنوات العمل...)، والمتغيرات التنظيمية (طبيعة وظيفة الفرد، وطبيعة نشاط المؤسسة، ومكانة الفرد ضمن الهيكل التنظيمي، وتقسيم السلطة، وعلاقات العمل والقوة...). والسمة الغالبة على ثقافة السلامة هي قابليتها للتعديل والتغيير لإمكانية التعديل في أبعادها، خصوصا الأبعاد التنظيمية.

على الرغم من التعدد الثقافي داخل التنظيم إلا أن الهوية الثقافية التنظيمية التي تنصهر فيها الهويات الفرعية تمثل عبر الزمن السمة المميزة للتنظيم عن غيره، وإجماع أعضاء التنظيم عليها يعزز من الاستقرار الاجتماعي والتنظيمي، والتوحد في الأهداف ووجهات النظر حول المواضيع. فالقيم والسلوكيات الوقائية لدى أعضاء التنظيم الواحد تعزز من الترابط الاجتماعي النظامي، الذي يحافظ على وحدة الأهداف التنظيمية، كلما تجنب الأفراد الأمراض المهنية وحوادث العمل، واتبعوا تعليمات الحماية الموحدة.

3.                      نظرية الفعل الاجتماعي

إن الحديث عن هذه المقاربة يدعو إلى المرور بإسهام كل من الألماني ماكس فيبر Max Weber، والأمريكي تالكوت بارسونز Talcott Parsons. وهذه المقاربة تأخذ تصرفات العاملين على أنها أفعال مقصودة، توجهها غايات الفرد والجماعة، ويصل تأثيرها إلى الآخرين (الفرد والجماعة) ضمن البناء الاجتماعي.

يشار إلى فيبر (1864-1920) على أنه أول الداعين إلى تبني منظور الفعل الاجتماعي، فرغم إقراره بأهمية التدقيق في البنى الاجتماعية مثل الطبقات والأحزاب السياسية، والتنظيميات الكبيرة الحجم في التحليلات السوسيولوجية؛ إلا أنه لا يهمل كون هذه البنى تتشكل نتيجة الأفعال الاجتماعية التي يقوم بها الأفراد25. بل إنه اعتمد على الفعل الاجتماعي كوحدة لتحليلاته، بالأخص ما تعلقت بالتغير الاجتماعي

السلوك في حد ذاته وحدة تحليلية غير مكتملة، واكتمالها أحيانا ما يتحقق حين يرتبط الواقع السیكولوجي بالسلوك الفردي، لیصبح فعلا إنسانیا أنجزه فاعل، بينما يصبح هذا الفعل اجتماعيا إذا كان الدافع أو الغایة ذات طابع اجتماعي بالأساس26؛ أين يصل تأثيره وامتداده إلى أفراد آخرين يشتركون في الفهم. فالمجال المنظم الذي يمارس فيه الإنسان الفعل العقلاني وفقا لما ترسمه القوانين الرسمية الرشيدة وصلت إليه أوربا نتيجة الارتقاء إلى النظام الرأسمالي الذي يرسم له النموذج البيروقراطي نظمه وقواعده، وينفي وجود العادات والتقاليد الاجتماعية، والسمات الشخصية كمحدد لسلوك الأفراد داخل التنظيم البيروقراطي. -فالبناء الاجتماعي نتاج الفعل الاجتماعي-فهذه المقاربة تأخذ التنظيم على أنه بناء رسمي لا يتأثر بالبيئة الاجتماعية التي تحيط به ويتعامل معها.

واستخدم فیبر تصنیفا مكونا من أربعة أنماط من الفعل الاجتماعي، تتباین وفقا لدوافع الفاعلین:27

أ‌.  الفعل التقلیدي: "أنا أقوم بذلك لأني دائما ما أقوم به"، فهذا النمط یفعله الفاعل دائما (العادة)، ويرى فيه التوافق مع النسق الاجتماعي.

ب‌.                     الفعل العاطفي: "أنا لا أستطيع التوقف عن القيام بذلك، فكل ما أقوم به لأجلك"، هذا يمارسه الفاعل بناء على حالته العاطفية، كأن يترك الفرد مقعده في الحافلة لشخص مريض أو مسن ليجلس مكانه. فهذا الفعل توجهه مشاعر التعاطف مع الأشخاص العاجزين.

ت‌.                     الفعل الموجه قيميا: القيام بهذا الفعل يكون بحسب قيمته؛ إذ "كل ما أهتم به هو ذلك أو لا شيء آخر مهم غيره".

ث‌.                     الفعل العقلاني أو الهادف: هذه الطريقة هي الأفضل والأكفأ لتحقيق ذلك، ولكن تووجد طريقة أكثر كفاءة لتحقيق هذا" فهذا الفعل يتحدد بوعي الفاعل الذي يسعى دائما لانتهاج الطريقة الأكفأ والأفضل لتحقيق أهدافه، بل إنه سيسعى دائما للتطوير في طرق الأداء لتمون أكثر فاعلية. فهذا النمط من الفعل أصبح سمة غالبة في المجتمع الرأسمالي نتيجة القيم والأخلاق البروتستانتية التي نشأ عليها الفرد الغربي.

   يدعو فيبر إلى هذا النمط الأخير في نموذجه البيروقراطي الذي يقوم فيه الفاعلون بتأدية الأعمال بالطريقة التي تضمن سلامتهم، وسلامة زملائهم من تلقاء أنفسهم، والأكثر من ذلك أنهم يقررون البرامج الوقائية التي تحقق التقليل من أخطار وحوادث العمل. وتمرير هذه السلوكيات يكون عن طريق الآراء والقيم والمعتقدات المتوارثة، والتي من شأنها الإسهام في التحولات الاجتماعية.

في الصورة النهائية من التحولات الاجتماعية التي وصل إليها المجتمع الغربي، تبنى الأفراد أساليب التفكير العقلاني والترشيد التي تأخذ بمعايير الكفاءة المرتكزة على المعرفة التقنية، فهذه المعايير حسب فيبر هي التي يستند إليها المجتمع الحديث لصياغة قيمه واتجاهاته، وليست العادات المتوارثة والدين كما في المجتمعات التقليدية28، إلا ما كان في بعض العقائد الدينية التي تعمل على حشد الطاقات لتحقيق التغير الاجتماعي، ولا تفرض التمسك بالقيم الثقافية التقليدية.

حاول فيبر أن يقدم نموذجا مغايرا للفكر الماركسي في أساسه وجوهره؛ أين قدم شواهد ومعطيات تشيد بدور المعتقدات الثقافية في عملية التغير الاجتماعي، وأن الرأسمالية لم تنبع من القوى الاقتصادية، وإنما من التغيرات الثقافية والروحية السائدة في المجتمع. فالرأسمالية بالنسبة لفيبر طفل له أسلوب معين في التفكير والفعل، وليس مجرد نمط إنتاجي نابع من القوى الاقتصادية29.

فالمجتمع الأوربي حسب هذا الطرح وصل إلى مرحلة الرأسمالية نتيجة القيم الثقافية البروتستانتية (الكالفينية خصوصا) التي تغرس في الفرد قيم الالتزام بنظام محدد في تأدية العمل، والمبادرة والترشيد في الإنفاق وعقلنة السلوك. فهذه القيم مجتمعة هي روح الرأسمالية الحديثة (القيم المشتركة).

   إضافة إلى الإسهام الكبير الذي قدمه ماكس فيبر في إعادة بعث الاهتمام بالفعل (الفرد) ضمن التحليل السوسولوجي، فإن ما قدمه بارسونز من إضافاتجدير بالدراسة، بالأخص ما صاغه في مؤلفه بناء الفعل الاجتماعي (1937)، وما أعقبها من توسع في طرح النظرية في كل من مقالات في النظرية الاجتماعية والتطبيقية (1949)، ونحو نظرية عامة للفعل والنسق الاجتماعي (1901)، وأوراق في نظرية الفعل (1953).

طبق بارسونز نظريته الشهيرة "النسق الاجتماعي" على التنظيم، ثم كشف بعد ذلك بناء التنظيمات، ووظائفها، وانطلاقته في ذلك جاءت مستندة إلى تصور التنظيم كنسق اجتماعي يتألف من أنساق فرعية مختلفة، كالجماعات والأقسام والإدارات، وأن هذا التنظيم بدوره يعد نسقا فرعيا يدخل ضمن نسق اجتماعي أكبر وأشمل كالمجتمع. ثم حلل بعد ذلك التنظيم من وجهة نظر ثقافية نظامية، مؤكدا على التوجيهات القيمية السائدة في التنظيمات المختلفة. النسق القيمي في التنظيم هو المحدد لكل الظروف الداخلية والخارجية التي يواجهها التنظيم30، وهذا ما أغفله فيبر من قبل؛ إذ جرد الفاعل الإداري في العمليات التنظيمية من القيم المجتمعية التي يحملها، لتركيزه على إعطاء نموذج مثالي في العملية التنظيمية. "فالمجتمع الإنساني حسب بارسونز غير ممكن بدون ثقافة مشتركة، تسمح للناس بالاتصال والفهم فيما بينهم، وبالعمل باتجاه أهداف مشتركة. إن وجود ثقافة مشتركة هي شرط وظيفي مسبق أو حاجة أساسية لكل مجتمع يريد البقاء، والنظام المتقن للفعل الإنساني غير ممكن من دون نظام رمزي مستقر نسبيا"31.

الثقافة التنظيمية كنسق يتفرع عن الثقافة المجتمعية حسب مقاربة بارسونز، وهي بدورها تتفرع إلى عدة ثقافات فرعية عديدة، منها ثقافة السلامة التي تتفرع عنها ثقافة السلامة المهنية والإدارية، وكل من هذه الثقافات الفرعية لديها قيمها وسلوكياتها الخاصة وصولا إلى ثقافة السلامة لدى الفرد الواحد. فالنسق التنظيمي من وجهة نظر تفكيكية يحتوي على عدة ثقافات فرعية. لكن ما يكن طرحه كسؤال هنا: ألا يؤدي هذا التعدد إلى الصراع؟

حسب بارسونز فإن التعدد لا يودي إلى صراع، فهذا التعدد هو نتيجة التغير في الوظائف والبناء، وما دام التسليم المشترك حول المكونات الرئيسة لثقافة السلامة قد تم الإجماع عليها، فإن هذا الشرط الوظيفي سيعزز الاستقرار والتكامل بين المكونات الثقافية، وسيحدث بذلك التوازن بين الثقافات الفرعية.

رصد بارسونز خمسة مكونات لتكامل الأفراد والجماعات في التنظيم، وهي: النسق القيمي السائد في المجتمع مع أهداف التنظيم، وبتحقق هذا التكامل تتحقق الأدوار التنظيمية لتصبح ملائمة لتوقعات أعضاء التنظيم، تلك التوقعات التي يكتسبها الأفراد من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، ويتدعم هذا التكامل بوجود أنماط معيارية محددة تنظم العمليات المختلفة التي يتم من خلالها مواجهة المتطلبات الوظيفية التي يتطلبها النسق32. إن التوقعات التي تتشكل لدى العمال عن طريقة تعامل إدارة المؤسسة مع المخالفين لإجراءات الوقاية يرسم لديهم حدود الفعل الذي يجنبهم مواجهة القواعد.

إن تحقيق التكامل بين قيم المجتمع وأهداف التنظيم يدل على تبعية التنظيم للمجتمعي الكلي، فهذا الأخير يوجه أهداف التنظيم وفق تحديد الأدوار والأفعال التي يقيمها الفاعل الاجتماعي تبعا للتنشئة الاجتماعية التي تلقاها خارج التنظيم وداخله. جاء تركيز بارسونز على مكونات التكامل من منطلق أنها تؤكد إسهام النسق التنظيمي في تحقيق المتطلبات الوظيفية الخاصة للمجتمع الكلي، وعلى التنظيم أن يضمن لها الاستمرارية إذا ما أراد تحقيق وظائفه، ويمكن تصنيف المتطلبات حسب وظائفها إلى قسمين: الأولى آلية تتضمن مطلبي التكيف وتحقيق الهدف؛ أما الثانية فهي تنظيمية تعبر عن الظروف الداخلية للنسق، ويشمل مطلبي التكامل وتدعيم النمط.

يشير مطلب التكيف (التوافق) في التنظيم إلى توفير الموارد البشرية الماهرة التي تتوافق قيمها مع قيم السلامة المهنية بأي تنظيم كان، والأنماط المعيارية المنظمة للتموين بمواد الإنتاج، وتجهيزات الوقاية المناسبة لنوعية النشاط لتحقيق أهداف التنظيم، وهذا المطلب لا يعمل إلا إذا حدثت تغيرات داخل النسق أو خارجه تستوجب نشاط التكيف، فمستلزمات الحمالية الفردية والجماعية قد جرى تطويرها نتيجة الاكتشافات الجديدة في ميدا. أما مطلب تحقيق الهدف فهو ذلك الجانب من النسق الذي يرتبط بتحقيق غايات الفاعلين من خلال النشاط المشترك، والحد الأمثل للإشباع الجماعي في ضوء الأهداف العامة للتنظيم. والعلاقة بين وظيفتي التكيف وتحقيق الهدف تكمن في أن كل منهما متصل بالأبعاد الخارجية للنسق33. يتم وفق هذا المطلب تعريف الموارد البشرية بأدوارها، والأهداف التي سيعملون على تحقيقها، فبتطابق الوسائل مع الغايات يتجه النسق نحو تحقيق أهدافه.

ويدل مطلب التكامل على العلاقات التي تتم داخل النسق التنظيمي من جهة، وإلى العلاقة بين هذا النسق والأنساق الأخرى والمجتمع (النسق الكلي)، وخاصة ما تعلق منها بتحقيق التماسك والتضامن بين هذه الوحدات. في حين يعبّر مطلب تدعيم النمط وتصريف التوتر عن "مدى قدرة النسق على التدعيم الذاتي أو الداخلي للنسق، وتحقيق الاستقرار والاستمرار خلال الزمن، وتعتبر القيم والمعايير والرموز الثقافية دالة في تحقيق هذه الوظيفة، لهذا يرى بارسونز أن تدعيم النمط أكثر ارتباطا بالنسق الثقافي34. يعمل هذا المطلب على تحقيق التكامل الرأسي، ويحتاج إلى مطلبين مدعمين ومتلازمين حسب بارسونز هما: "مطلب تدعيم النمط المعبر عن مدى الانسجام والتطابق بين الأدوار التي يؤديها الفرد في التنظيم، والأدوار التي يقوم بها في الجماعات الخارجة عن نطاق التنظيم كالأسرة مثلا، وهذا بدوره يفرض ضرورة وجود ميكانزمات تساعد على خلق الانسجام والتوائم النسبي بين التوقعات التنظيمية والتوقعات التي تحدث خارج نطاق التنظيم. أما المطلب الثاني فهو احتواء التوترات التنظيمية واستيعابها من خلال ضمان وجود دافعية كافية لدى الفرد ليستطيع تأدية مهامه التنظيمية"35، والالتزام بآليات الحماية الفردية كقيمة تنظيمية تعزز استقرار الوظيفي داخل المؤسسة، وهذا الاستقرار سينعكس على المؤسسات الأخرى والمجتمع الكلي.

توصل بارسونز في إطار معالجته للمتطلبات التنظيمية إلى تصنيف التنظيمات تبعا لوظيفتها في المجتمع الكلي، ثم إطار التنظيم الداخلي، فعلى المستوى الخارجي ينظر بارسونز إلى التنظيم الاقتصادي على أنه يحقق مطلب الموائمة في المجتمع، والسياسي يؤدي مطلب تحقيق الهدف، والاجتماعي يحقق مطلب التكامل بين وظائف المجتمع أما التنظيم القانوني فيعمل على تدعيم النمط واحتواء التوترات التنظيمية. بل إن نظرته التفكيكية للأنساق التنظيمية قد أخذت به أبعد من ذلك؛ حيث قدم تصنيفا داخليا للتنظيم الواحد يقوم على التمييز بين ثلاث أنساق فرعية في التنظيم -فنظرية النسق عند بارسونز تقوم على تفكيك المفكك وصولا إلى أصغرها وهو الفرد-فإدارة السلامة كنسق فرعي تضم النسق الفني الذي يختص بالنشاطات الفنية المتعلقة بطريقة أداء العمل الآمن، وترتيب بيئة العمل، وتقديم معدات الوقاية الأنسب. أما النسق التسييري فيهتم بالأمور المتعلقة بحاجات التكوين والتدريب في مجال حفظ الصحة، وصياغة خطط الوقاية والتدخل، وإعداد برامج حفظ الصحة والأمن والبيئة تبعا لإمكانات المؤسسة. في حين يعمل النسق النظامي على الربط بين النسقين الماضيين لإحداث التكامل في أدوار الفاعلين في عملية السلامة (مصلحة الأمن، ومصلحة البيئة، ومصلحة الصحة، والعمال)، وبين النسق التنظيمي، والأنساق الاجتماعية الفاعلة في العملية (الحكومة، مؤسسات الصحة والوقاية، المجتمع المحلي).

يكشف هذا التصنيف على وظائف الأنساق الفرعية لكل تنظيم، وإقامة شبكة اتصال بين هذه الأنساق تحقق التوازن في الأدوار على المستوى الداخلي، والتكامل على المستوى الخارجي مع بقية الأنساق الأخرى، ومع المجتمع الكلي. فهذا النسيج الاجتماعي حسب بارسونز "يستمر بفعل الثقافة المشتركة التي تسمح للناس بالاتصال والفهم فيما بينهم، والعمل باتجاه أهداف مشتركة. إن وجود ثقافة مشتركة هي شرط وظيفي مسبق أو حاجة أساسية لأي مجتمع يريد البقاء"36

إن تركيز بارسنز على الميكانزمات التي من شأنها تدعيم النمط وتحقيق التكامل بين أنساق التنظيمات في إطارها الداخلي والخارجي قد أخذ ببارسونز إلى إغفال بعدي التغير والصراع في التنظيم، بل إن تناول بارسونز لظاهرة التغير جاءت مقترنة بالتوازن الذي يهدف التنظيم من خلاله (التوازن) إلى تفعيل المتطلبات الوظيفية لإقامة التوازن ومواجهة التغير، والمحافظة على وجوده واستمراريته. فالانتقال من صورة المجتمع البسيط إلى المعقد تتم بصورة بسيطة وسلسة، ينجم عنها تغير في القيم المسيطرة على النظام الاجتماعي.

4.                      نظرية الممارسة الاجتماعية

تعتبر هذه النظرية من الأطر التفسيرية الأكثر اقترابا من الحياة الاجتماعية، فهي تأخذ من جهة تأثير القيم الثقافية على الفعل الاجتماعي، ولا تهمل من جهة أخرى ميولات وخصوصية الأفراد في وطريقة تأديتهم للأفعال وفقا للطريقة التي يرون أفضليتها.

"تكتسب نظرية الممارسة الاجتماعية أهميتها في العلوم الاجتماعية والإنسانية بسبب قدرتها التفسيرية المتنوعة والملائمة لكشف طبيعة الظواهر الاجتماعية والإنسانية المختلفة، فعن طريقها يمكن كشف التباينات الاجتماعية والثقافية في آن واحد، كما يمكن تفسير ظاهرات السياسة والاقتصاد والثقافة والدين والفن والعلم، دون أن تفقد النظرية مصداقيتها"37. فهذه المقاربة تعالج الظواهر الانسانية بصورة تكاملية، تجمع فيها بين الماكروسوسيولوجيا (البناء الاجتماعي) والميكروسوسيولوجيا (الفعل الاجتماعي) في تحليلاتها ودراساتها، فسلوك الأفراد لا يمكن فهمه معزولا عن البناء الاجتماعي والمجال التاريخي الذي يتواجد فيه الفاعل، وهذا ما أغفلته نظرية الفعل الاجتماعي التي أخذها تفكيك الأبنية وتحديد وظائفها عن الاشتغال بمحددات السلوك لدى الفرد. هذا السقط الابستمولوجي عمل عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديوPierre Bourdieu جاهدا إلى تقويمه من خلال اهتمامه بالبناء والفعل عبر الزمن.

"المممارسة الاجتماعية عند بورديو ليست مجرد فعل صادر في الزمن الحاضر، ولكنها فعل موجه من الماضي، فعل تاريخي. فكما لا بد أن تتضافر عدة ظروف قبل هطول المطر، فكذلك الممارسة هي محصلة خبرات مكتسبة أو موروثة، تتضافر لتقييم الواقع المعيش، وتحديد طبيعة الفعل الملائم في لحظة ما. فالممارسة نشاط إنساني يقوم به فاعل يمتلك قدرة على صنع الاختلاف، ولكنها ليست قدرة ذات متعالية، وإنما قدرة فاعل نشط مكافح. لذلك فإن الفاعل شخص محمل بخبرات متراكمة، رأسمال نوعي يكتسبه من خلال عملية التنشئة والتعليم، يولد لديه مجموعة من الاستعدادات تمكنه من ممارسة الأفعال المختلفة في إطار بنية محددة"38.

بل إن امتداد ممارسات الفاعلين ضاربة في المستقبل "الذي يوجه الممارسات الحالية، ويتم التعرف عليها في العلاقة بين الهابيتوس من جهة، وبصفة خاصة في البناءات المؤقتة والأحكام المتعلقة بالمستقبل، والتي تتشكل في مدة علاقة معينة ضمن الفضاء الخاص المحتمل؛ من جهة أخرى هناك حالة محددة من الفرص الممنوحة موضوعيا من قبل العالم الاجتماعي. ومعنى المستقبل على الأرجح يكمن في العلاقة الممتدة في عالم مبني تبعا للأصناف الممكنة (لأجلنا) وغير الممكنة (لأجلنا)، المتعلق بالأولويات المسبقة من قبل الآخرين ولأجل الآخرين"39.

يمتلك المتفاعلون داخل المجال حسب بورديو استعدادات قيمية، وأنماطا من الممارسة المشتركة نسبيا، تميزهم عن شاغلي المجالات الأخرى، فالمجال الصناعي يتميز عن المجال الخدماتي مثلا في البناء التنظيمي والممارسات الشخصية لأعضائه، بهذا فإن النظرة التفكيكية للمجتمع تتيح ضرورة الاهتمام بالأبنية الاجتماعية وفقا لخصوصياتها، وليس وفق النظرة الشمولية (الماكرو) التي لا تقف على حيثيات الظواهر. فالفرد في حياته اليومية يتعامل مع المجالات وفقا لما تمليه من طريقة في اللباس والكلام والاستعمال، فالعامل في مجال عمله مع زملائه يقوم بممارسات بطريقة معينة، وإذا ما كان داخل الإدارة فإن سلوكه سيتغير ليتوافق مع ما يمليه الفضاء الإداري من الاختصار في الكلام، والعناية بالهندام. فلو أخذنا هذا المثال لنطبق عليه مقولة بورديو عن الحيازة والإزاحة، والفروقات ممكنة الظهور في الرأسمال الرمزي40 والهابيتوس الخاص بالأفراد على الرغم من توحد البناء التنظيمي. فتعامل الإدارة مع عمالها يكون بطريقة متفاوتة وفقا للرأسمال الرمزي الذي يتمتع به الفرد، ومدى قدرته على استعمال الهابيتوس، فإذا لم يتحقق ذلك فإن العمال سيشعرون بالإزاحة لمجرد دخولهم إلى الإدارة، لحيازة المجال من قبل الإداريين الذين يجيدون استعمال هذا المجال وحيازته، وغيرهم تظهر عليه انطباعات الجدية والصرامة في هذا المجال فيشعر بالإزاحة، وبمجرد هيمنة الإداريين على الفضاء تعود العلاقات الاجتماعية بين الإداريين إلى طبيعتها، بل إن الشعور بالهيمنة على الفضاء الإداري أحيانا يظهر حتى بتواجد غير الإداريين (أو الوافدين من إدارات أخرى) ضمن الفضاء.

فحيازة الفاعلين لأي مجال تكون مستندة إلى ما هو مسطر من ممارسات منتظرة ضمنه، إلا أن الأفراد يبتكرون استراتيجيات جديدة للتوافق مع ما يتطلعون إليه من ذلك المجال، فالمؤسسة الاقتصادية مثلا كمجال تمارس فيه نشاطات مربحة موجهة لتحقيق أهداف المؤسسة تتفاوت استراتيجيات أعضائه على الرغم من واحدية الخطة التنظيمية، وضبط نشاط الفاعلين ضمن إطار محدد من الممارسات السليمة، إلا أن ذلك لا يمنع من تميز كل واحد باستراتيجياته الخاصة للتوافق مع المستجدات والمواقف دائمة التغير، بل إن الاستراتيجيات ذاتها يطرأ عليها التغير والتعديل إذا دعت الضرورة لذلك. ثم إن أعضاء التنظيم وربما رأس الهرم ذاته سيقوم بممارسات خاصة بمجال آخر، كالترفيه أو امتهان التجارة الإلكترونية في وقت الدوام للحساب الخاص، أو الدعاية لفائدة مرشح حزبي معين والأمثلة على ذلك كثيرة في واقع المؤسسات.

تعيد المؤسسة إنتاج ثقافة السلامة لدى عمالها عن طريق عمليات التكوين والتدريب التي يتلقونها، ليسهموا بدورهم في نقل هذه الثقافة إلى الوافدين الجدد، فقيم السلامة بالمؤسسة يعاد إنتاجها وفقا لمجالات العمل الفرعية، عن طريق القوانين التنظيمية التي تسنها الإدارة، لتجعل العمال تحت هيمنتها، إلا أن محاولات الاحتواء هذه تلقى دفاعا من قبل الطبقات الدنيا التي تبتكر استراتيجيات يتيحها الهابتوس الخاص بهم لتجاوز الرأسمال النوعي الخاص بذلك المجال، أو قد ينجم صراع معلن أحيانا، وضمني في أخرى كشكل من أشكال التعبير عن الرفض.

يعتبر الفرنسي ميشال دوسارتو Michel De Sarteau من المتأثرين بتحليلات بورديو، خصوصا نظرية الممارسة الاجتماعية التي أسهب في نقلها وتطويرها ضمن كتابه 'ابتكار الحياة اليومية'. يركز في تحليلاته على أن المجالات بمختلف أنواعها حقل للصراع بين ثنائيتين اثنتين هما: الاستراتيجية41 (التي يعمل الخبراء والمختصون في المجال على ممارسة التفكير لرسم أنماط الفعل المعقولة ضمنه بغض النظر عن الزمن لتحقيق عملية الضبط المعمم للسلوك الاجتماعي) والتكتيكا أو التكتيكية42 (المتمثلة في إرادات الأفراد داخل الاستراتيجية وهي تتميز بكونها متعدّدة ومتناقضة أحيانا، لها سلوكيات تختلف حسب المواقف والظروف). فالأفراد الذين ينضمون إلى مؤسسة معينة (سياسية، علمية، اقتصادية، أو دينية) لا يخضعون بالضرورة إلى القوانين القهرية لهذه المؤسسة سوى على سبيل الالتزام الظاهر. كونهم يشتغلون في الخفاء عبر الزمن لصناعة أنماط سلوكية خاصة، تتميز بالقابلية للتعديل والتغيير بحسب مستجدات الاستراتيجية (التدبير بمهارة).

القوانين والتعليمات الخاصة بالسلامة المهنية على سبيل المثال قد صاغتها الإستراتيجية العقلانية التي تتحكم في ممارسات المكان، استنادا للسلطة والقوة التي تتمتع بها، وتوحدها في مراحل الزمن المختلفة لتمثل ما يسمى مجازا بثقافة السلامة المهنية للمؤسسة. إلا أن هذا الأمر مستحيل التطبيق على أرض الواقع، فالتكتيكية التي يمتلكها الأفراد تتيح لهم استعمال المجال وفق اختلاسات تراوغ من خلالها القواعد التنظيمية والثقافية التشاركية، لتحل محلها الممارسات الثقافية الخاصة بالفرد وفق ما تمليه عليه منفعته. هذا ما دفع بدوسارتو إلى القول لا توجد قطيعة بين العمل وأوقات الفراغ بسبب أن الإستراتيجية والتكتيكية موجودة في كليهما، لذلك نجده يقول: "هناك تجانس بين هاتين المنطقتين من النشاط (العمل وأوقات الفراغ)، فهما تتكرران وتدعم إحداهما الأخرى. تنتشر في مواقع العمل تقنيات ثقافية تخفي الإنتاج الاقتصادي تحت خيالات المفاجأة والحقيقة والتواصل، وبالتبادل يمنح الإنتاج الثقافي حقلا تتوسع بفضله العمليات العقلانية، التي تتيح إدارة العمل بتقسيمه وتربيعه وتكثيفه. هناك تمييز يطغى غير التمييز الذي يوزع السلوكيات تبعا لمكانها (العمل أو الراحة) ويصفها تبعا للمكانة التي تحتلها في هذه الخانة... في المكتب أو الورشة أو السينما. هناك اختلافات من نمط آخر، فهي تستند إلى طرائق الفعل أو شكليات الممارسة"43. فالممارسة في هذه المجالات تختلف عن بعضها وفقا للإستراتيجية، ووفقا للتكتيكية التي تميز شكليات الممارسة للفرد.

إن نظرة ميشال دوسارتو إلى التكتيكية على أنها ماثلة في الأفراد مسلوبي الإرادة، والمغيبين عن الإسهام في البناء الثقافي للمؤسسة أو المجتمع، كونهم مجرد مستهلكين، تدعو إلى إعادة النظر في تسمية أو تعريف الإستراتيجية (العقلانية)؛ فهذه الأخيرة لا يميزها الثبات الذي قال به دوسارتو؛ إذ أن الاستراتيجيات ذاتها تمارس تكتيكية في الزمن (كتغيير في الإستراتيجية)، مجسدة في محاولات لاحتواء الاختلاسات التي يقوم بها الفاعلون داخل المجال.

الممارسات التي تحصل في المجال حسب دوسارتو إما أن تكون استعمالا أو استهلاكا، بحسب ظهور ذاتية الأفراد في الممارسة، فحالة الاستهلاك يكون فيها الفرد مجرد متلق للمنتجات الثقافية أو المادية دون أن يكون له الدور في إنتاجها، ولا حتى التعديل عليها وفقا لاستعماله التكتيكي. فالقيم الاجتماعية أو التنظيمية التي لا يسهم الأفراد في إنتاجها أو التعديل عليها يكونون بمحل المستهلك المتلقي، المطرود من الإنتاج. أما إذا كان الفرد يجسد هذه القيم وفق تكتيكيته الخاصة، أو يشارك في إعداد برامج السلامة المهنية، فإنه يكون مستعملا وليس مجرد مستهلك. نفهم من هذا أن القيمة الثقافية الواحدة قد يستهلكها بعض الأفراد ويستعملها آخرون.

خاتمة

وققا لما تم عرضه، فإن معالجة موضوع ثقافة السلامة المهنية لم يحظ بعناية كبيرة ضمن الإسهام السوسيولوجي، نظرا للتشعبات الكبيرة التي تميز هذا الموضوع، وتقاطعه في الدراسة مع علوم أخرى. كما أن هذا المفهوم مركب، ويحتاج الخوض فيه من جانب علم اجتماع التنظيم إلى الإلمام بالجانب المعرفي لعلم السلامة المهنية والأرغونوميا، والثقافة. والجانب العملي من الممارسات اليومية للفرد داخل التنظيم، والجوانب التي توجه هذه الممارسات.

   على الرغم من عناية المقاربات السوسيو-تنظيمية بموضوع الثقافة التنظيمية، إلا أن هذا الاهتمام لم يشمل بدرجة كبيرة بعد ثقافة السلامة المهنية، بل اقتصر في غالب الاجتهادات على السلطة، وعمليات الاتصال، والالتزام، والهوية، أما قيم السلامة وممارساتها فلم يتم الإشارة إليها بتفصيل سوى ما جرى من خلال المنظور الضيق لمفهوم الأمن الوظيفي (ضمان العامل بقائه في العمل بالمؤسسة التي يشتغل فيها أو الانتقال للعمل في مؤسسة أخرى، فالمهم أن يكون في مأمن من البطالة، ويحصل ما يكفل له العيش في حالة العجز أو التقاعد)، وآليات المحافظة على استقرار النظام بالمؤسسة.

حاولت هذه الدراسة -انطلاقا من المقاربات النظرية-أن تبين المداخل التي يمكن من خلالها معالجة موضوع ثقافة السلامة المهنية، ولو على سبيل الاقتراب في معالجاته لموضوع الثقافة بشكل عام أو ثقافة المنظمة بشكل خاص. تتوافق المقاربات التي تم التطرق إليها في أن ثقافة السلامة المهنية تتميز بكونها مجموع القيم والاتجاهات والممارسات التي تكتسي طابع التشاركية، يتميز بها أفراد التنظيم الواحد، وتتحول بفعل عمليات التنشئة الاجتماعية والتنظيمية والتكرار ضمن المراحل الزمنية المختلفة إلى سمة تميز التنظيم عن غيره من التنظيمات الأخرى وتصنع له هويته الخاصة.

تتفق المقاربات النظرية التي تم التطرق إليها في كون ثقافة التنظيم أو ثقافة السلامة المهنية في تفاعل مع الثقافة الكلية للمجتمع؛ إذ تسهم الثقافة الاجتماعية في توجيه ثقافة السلامة المهنية، وهذه الأخيرة بدورها يكون لها التأثير على الثقافة في تشكيل أو تغيير القيم الثقافية للمجتمع بالإيجاب أو بالسلب، لذلك فدراسة موضوع ثقافة السلامة المهنية يتطلب اعتماد المقاربات التي تم عرضها ضمن هذه الورقة، لتشكيل خلفية نظرية متكاملة حول الموضوع؛ إذ لا يمكن الجزم بأفضلية مقاربة على أخرى إلا بالاحتكام إلى أبعاد الموضوع، وطبيعة البيئة التنظيمية، والاجتماعية، والمسارات البحثية. ومهارة الباحث في اختيارها وتوظيفها.

   تم التركيز في هذا البحث على المقاربات المعالجة لموضوع ثقافة السلامة المهنية على أنها عملية اجتماعية تتفاعل فيها المؤسسات بالمجتمع الكلي ومكوناته الفرعية لتشكل معالم الهوية الشخصية والتنظيمية؛ ويبقى مجال التوسع فيها متاحا للبحوث اللاحقة. والبحث كذلك في المقاربات التي تعالج الموضوع باعتباره عملية داخلية، تنبعث من السمات التنظيمية الخاصة مفصولة عن التأثير الذي يمكن أن تحدثه البيئة الاجتماعية الخارجية.


الهوامش

1. أنظر: رايت ميلز، الخيال العلمي الاجتماعي، تر: عبد الباسط عبد المعطي، دار المعرفة الجامعية، مصر، 1997، ص14.

2.                        بول فيرابند، ثلاث محاورات في المعرفة، ترجمة: محمد أحمد السيد، منشأة المعارف، مصر، 1998. ص-ص 11-14.

3. خالد كاظم أبو دوح، "علم احتماع الأمن: محاولة للتأصيل"، مجلة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2017، ص-ص 8-9.

4.                        [1] مؤيد سعيد السالم، إدارة الموارد البشرية المعاصرة مدخل استراتيجي تكاملي، ط1، دار إثراء، عمان، 2009، ص-ص 364-365.

5. ساق إيمانويل والرستاين هذا التعريف في مستهل التقديم لانعقاد المؤتمر الرابع عشر للجمعية العالمية لعلم الاجتماع في مدينة منتريايل بكندا صيف 1998، بصفته رئيسا للجمعية.

6.                        إيمانويل والرستاين، علم الاجتماع الغربي: مساءلة ومحاكمة، تر: محمود الذوادي، ط1، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 2011، ص20.

7. مكتب العمل الدولي، إطار ترويجي للسلامة والصحة المهنيتين، التقرير الرابع (1)، مؤتمر العمل الدولي، دورة 93، جنيف، 2005، ص5.

8.                        نفس المرجع، ص7.

9. عبد الله الصعيدي، "الثقافة الأمنية ودورها في التنمية"، مجلة الفكر الشرطي. مجلد9. عدد4، الامارات العربية المتحدة، 2001، ص19.

10.                     عايش جورج فريدمان مرحلة الثورة الصناعية، وما أنتجته من تغيرات واسعة على فضاءات الحياة والعمل المختلفة، فحاول من خلال مؤلفاته تحديد وجهة العمل البشري المستقبلية في ظل هيمنة التقنيات الصناعية، أنظر: Friedmann. G., Où va le travail humain? Paris, Gallimard 1950, p108.

11.                      Renaud Sainsaulieu, L'identité au travail: les effets culturels de l’organisation, Presses de la PFNSP, Paris, 1977, P255.

12.                     يعتبر هذا الكتاب من أكثر الاسهامات السوسيولوجية الجادة في معالجة مشكلة الأمن الشامل، الذي رأى صاحبه أنه في طريق الانقراض في عصر الحداثة. للاطلاع أنظر: أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثا عن الأمان المفقود، علا عادل وآخرون، إشراف فيصل يونس، ط1، المركز القومي للترجمة، مصر، 2013.

13.                      نهاد عطا حمدي، زيد غانم الحصان، الأمن الصناعي وإدارة محطة الخدمات، ط1، دار اليازوري، الأردن، 2008، ص-ص 65-66.

14.                     حمو بوظريفة، "أهمية العادات في الحياة الاجتماعية والاقتصادية"، أعمال الملتقى الدولي حول الثقافة والتسيير، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية،1992، ص-ص17-30

15.                      لا يقتصر الاهتمام بمستعملي الطريق السائقين المهنيين أو العاديين في بناء ثقافة السلامة المرورية، وإنما يدخل ضمنها كل مستعمل للطريق من السائقين والراجلين وعمال صيانة أو تعبيد الطريق المستعمل، ورجال الأمن وشرطة المرور، بل يتعداها إلى الأطفال في سن مبكرة من عملية التربية المرورية في البيت أو في رياض الأطفال ثم المدرسة.

16.                     سعد العنزي، سما سعد خير الله الفضل، "فلسفة نوعية حياة العمل في منظمات الألفية الثالثة"، مجلة العلوم الاقتصادي والإدارية، مجلد 13، عدد 45، 2007، ص69.

17.                      فليب جونز، النظريات الاجتماعية والممارسة البحثية، ترجمة: محمد ياسر الخواجة، ط1، مصر العربية للنشر والتوزيع، مصر، 2010، ص48.

18.                     المرجع نفسه.

19.                      المرجع نفسه، ص50.

20.                     elavallée. E. La culture d'entreprise, Edition d'organisation, Paris, 2002, p32[1] نقلا عن: بن رمضان سامية، "أدبيات المؤسسة في المقاربات السوسيولوجية" 32- 48، مجلة العلوم الاجتماعية، عدد 18، ماي 2016، ص42.

21.                     للمزيد من الاطلاع أنظر: Renaud Sainsaulieu, Op cit, p254.

22.                     دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة: منير السعيداني، مراجعة: الطاهر لبيب، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2004، ص178

23.                     بدران دليلة، "الهوية المهنية للعامل بين الاندماج والأمن الوظيفي: مقاربة سوسيوثقافية لكلود دوبار وسانسوليو لمنظور أزمة الهوية"، مجلة التراث، جامعة الجلفة، 2017، ص123.

24.                     Renaud Sainsaulieu, Op cit, P257

25.                     أنتوني غيدنز، علم الاجتماع، ترجمة: فايز الصياغ، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005، ص76.

26.                     بن رمضان سامية، المرجع السابق، ص43.

27.                     فليب جونز، المرجع السابق، ص129.

28.                     أنتوني غيدنز، المرجع السابق، ص72.

29.                     فليب جونز، المرجع السابق، ص133.

30.                     السيد الحسيني، علم اجتماع التنظيم، د.ط، دار المعرفة الجامعية، مصر، 1994، ص73.

31.                      هارلمبسوهولبورن، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، ترجمة: حاتم حميد محين، ط1، دار كيوان، سورية، 2010، ص22

32.                     السيد الحسيني، المرجع السابق، ص74.

33.                      محمد عبد المعبود مرسي، علم الاجتماع عند تالكوت بارسونز بين نظريتي الفعل والنسق، مراجعة: أحمد رأفت عبد الجواد، ط1، مكتبة العليقي الحديثة، مصر، 2001، ص155.

34.                     المرجع نفسه، ص-ص157-158.

35.                      السيد الحسيني، المرجع السابق، ص76

36.                     هارلمبسوهولبورن، المرجع السابق، ص22.

37.                      أحمد موسى بدوي، "ما بين الفعل والبناء: بحث في نظرية الممارسة لدى بيير بورديو"، 9-22، مجلة إضافات، عدد 08، خريف 2009، ص11.

38.                     نفس المرجع، ص12.

39.                      Pierre Bourdieu, Le sens pratique, Les Edition des Minuit, Paris, 1980, p108

40.                     يقول بورديو: "إنني أدعو رأسمالا رمزيا كل نوع من أنواع الرأسمال (الاقتصادي، الثقافي، التعليمي أو الاجتماعي) عندما يكون مدركا طبق مقولات الإدراك ومبادئ الرؤية والانقسام، وأنظمة الترتيب، وقواعد التصنيف والمعارف وكل ذلك، في جزء منه على الأقل نتاج اندماج البنيات الموضوعية للحقل المعين؛ أي بنية توزيع الرأسمال في الحقل المعين" بيار بورديو، أسباب عملية: إعادة النظر بالفلسفة، ترجمة: أنور مغيث، ط1، دار الأزمنة الحديثة، بيروت، 1998،

41.                     يقول دوسارتو: "أسمي استراتيجية حساب العلاقات في القوة الذي يصبح ممكنا عندما تعزل ذات لها الإرادة والسلطة (شركة، جيش، مؤسسة علمية). فهي تفترض مكانا يمكن حصره أو تقييده كمكان خاص، هو القاعدة التي تدبر فيها وقائع خارجية في شكل أهداف أو تهديدات (الزبائن أو المنافسين، الأعداء...) على غرار علم التدبير المؤسساتي (management)، كل عقلنة استراتيجية تعمل قبل كل شيء على عزل "الخاص" عن "بيئة" معينة، أي مكان السلطة والإرادة الخاصة". أنظر: ميشال دوسارتو، ابتكار الحياة اليومية: فنون الأداء العملي، محمد شوقي الزين، دار العربية للعلوم ناشرون، ط1، بيروت، 2011، ص93.

42.                     التكتيكية حسب دوسارتو حركة داخل مجال الرؤية للعدو، وداخل المكان الذي يراقبه... تستفسد من الفرص وتخضع إليها دون قاعدة أساسية تخزن فيها أرباحها... يتيح لها هذا اللامكان بلا شك التنقل، لكن بالانقياد إلى مصادفات الزمن لتغتنم فرصة القبض على الإمكانات التي تتيحها اللحظة الآنية... إنها حيلة ذكية (أو فن الضعيف كما عبر عنه كارل فون كلوزيفيتش). أنظر: نفس المصدر، ص-ص 94-95.

43.                     ميشال دوسارتو، المصدر نفسه، ص83.

 

 

@pour_citer_ce_document

جمال الدين عاشوري, «ثقافة السلامة المهنية: مقاربات سوسيو-تنظيمية»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 49-64,
Date Publication Sur Papier : 2019-12-26,
Date Pulication Electronique : 2019-12-26,
mis a jour le : 26/12/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=6265.