الإدراك الجيوسياسي الصيني، بين موروث الماضي ومتطلبات الحاضرChinese geopolitical perception, between the legacy of the past and the requirements of the present
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°04 Vol 16- 2019

الإدراك الجيوسياسي الصيني، بين موروث الماضي ومتطلبات الحاضر

Chinese geopolitical perception, between the legacy of the past and the requirements of the present
ص ص 92-107
تاريخ الإرسال: 2018-01-06 تاريخ القبول: 2019-12-18

عبد الحليم غازلي
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

كان لسكان الصين القدامى نظرتهم الخاصة لبلدهم وموقعه في العالم، وأهمية الفضاء المحيط به بشكل عام. وقد اعتقدوا أنه إذا كان للعالم مركز، فإن الصين تمثل ذلك المركز. ولكونها كذلك، فهي إمبراطورية الوسط "l’empire du Milieu". وهو ما تدل عليه كلمة الصين باللغة الصينية zhong guo، وتعني أمة الوسط.

سأناقش من خلال هذا المقال تأثير مبادئ المدرسة الجيوسياسية الصينية القديمة في الدور الصيني الجديد على الساحة الدولية. وذلك لمعرفة إلى أي حد استطاعت القيادات الصينية تبني هذا الموروث القيمي العريق وتقاليده الضاربة في التاريخ كذخيرة فكرية وجيوسياسية سمحت لها بتجاوز الصعوبات المفروضة أمامها، وبلوغها المكانة الدولية التي تحتلها اليوم.

الكلمات المفاتيح: الصين، الفكر الكونفوشيوسي، الجيوسياسة الصينية، طريق الحرير، الجيوبوليتيك.

Les anciens Chinois avaient leur propre vision de leur pays et de son emplacement dans le monde. La pensée chinoise traditionnelle a toujours considéré que la Chine serait le centre du monde. En tant que tel, elle a toujours défendu son image d'« empire du Milieu ». Le présent article a pour but d’apporter plus de lumière sur l'influence de l'ancienne école géopolitique chinoise sur le nouveau rôle de la Chine sur la scène internationale contemporaine. Cela, en examinant dans quelle mesure les dirigeants chinois ont réussi depuis l’avènement de la république populaire de Chine à adopter cet héritage d'anciennes valeurs et traditions géopolitiques.

 Mots clés :Chine, Pensée confucéenne, Géopolitique chinoise, Route de la soie, Géopolitique

Ancient Chinese people had their own vision of their country and its location in the world. They had always considered China as the center of the world, which makes of it the Middle Kingdom. The purpose of this article is to shed light on the influence of the old Chinese geopolitical school on China's contemporary international role. It examines the extent to which Chinese leaders have been able to make of this ancient valuable heritage an intellectual and geopolitical repertoire that allowed them to overcome the difficulties and reach the international position they occupy today.

Keywords: China, Confucian thinking, Chinese geopolitics, Silk Road, Geopolitics.

Quelques mots à propos de :  عبد الحليم غازلي

جامعة الجزائر 3 abdelhalim.ghazli@gmail.com

مقدمة

يعد الموروث الفكري والحضاري والتقاليد السائدة في بلد من البلدان مفتاحا مهما لفهم تصرفاتها وسلوكها الخارجي على الساحة الإقليمية والدولية. وفهم الموروث الفلسفي والفكري الكونفوشيوسي المتمثل في التمييز بين الصيني وغيره من الشعوب، ومبدأ المركزية الصينية (Sino-centrisme) يعد فرصة مهمة لفهم إدراك الصين الجيوسياسي لأسبقية الأمة الصينية وتفوقها على بقية العالم. ويمكن النظر إلى كلا المفهومين كجزء من نظام القيم الكونفوشيوسية، الذي استخدم لوصف وجهات نظر الصين الدبلوماسية عبر العصور. والتي لا تزال تؤثر على التفكير الجيوسياسي الصيني الحالي وعلى تأثير الإدراك الجيوسياسي الصيني القديم على طموحات الصين وأدوارها الجديدة على الساحة الدولية.

من الواضح أن الإدراك الجيوسياسي الصيني كما سنطلع عليه لاحقا، قد تأثر بشكل كبير بالقيم الحضارية الصينية التقليدية. ولكن ذلك لا ينفي تأثر الفكر الجيوسياسي الصيني بالإنتاج الفكري الغربي في هذا المجال، وبالأخص ما جاء في كتابات المنظرين الألمان والأنغلوسكسون، وبشكل عام المدارس الكلاسيكية في الدراسات الجيوسياسية. وهي التي كانت تؤكد جميعها على مفاهيم محددة كمسألة البحث عن المجال الحيوي والسعي من أجل المزيد من القوة والأمن، وقبل هذا وذاك مسألة الحتمية الجغرافية والتفاعل الدائم الحاصل بين المعطيات الجغرافية ورسم السياسات الخارجية للدول.

هذا، كما أنه مما لا شك فيه أن التحولات المستمرة التي عرفتها ولا تزال العلاقات الدولية وبالأخص في المرحلة التي أعقبت الحرب الباردة، جعلت الحكومات الصينية المتعاقبة تضع أولويات استراتيجية وهي تحاول التكيف مع التطورات المتسارعة التي تعرفها الساحة الدولية. هذه الأولويات هي في صلب انشغالات المسؤولين الصينيين مذ بدأت الصين مشوارها نحو العالمية والخروج من طوق العزلة الذي ضربه عليها الاستعمار الغربي في البداية ثم الاصطفاف الأيديولوجي الذي وجدت نفسها فيه مرغمة عند ظهور جمهورية الصين الشعبية سنة 1949. أول هذه الانشغالات يتعلق بالرغبة في تحقيق التنمية الاقتصادية والقضاء على التبعية للغرب والتحول إلى قطب اقتصادي عالمي. بينما يتمثل الانشغال الثاني في الهاجس الأمني الذي يؤرق الصين على أصعدة مختلفة، سواء تعلق الأمر بالرغبة في القضاء على المطالب الانفصالية في غرب البلاد ووضع حد لما تعتبره نشاطا إرهابيا هناك، أو بالسعي لاستعادة الأقاليم التي انتزعت منها غصبا والتي نجحت في رد بعضها ولا تزال تطمح في استعادة البقية. وأخيرا تأمين جوارها القريب وخلق حالة من الاستقرار تسمح لها بتلطيف علاقاتها المتوترة مع بعض الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي ونزع بعض الألغام القابلة للانفجار في أي حين وفي مقدمتها الأزمة الكورية الشمالية وملفها النووي. الانشغال الثالث والأخير يختصر في هدف وحيد وهو إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب والقضاء على الحلم الأمريكي القائم على الهيمنة من خلال الأحادية القطبية.

من الملفت للانتباه أن النظرة الصينية للعالم اليوم ولكل الخطوات التي تعدها من أجل ولوج هذا العالم من الباب الكبير كفاعل دولي مؤثر، يمكن تصنيفها في ثلاثة دوائر أو حلقات تنظر من خلالها الصين إلى العالم وإلى أدوارها المستقبلية. دوائر ثلاثة لا تختلف كثيرا على ما ورثه الصينيون من تراثهم الجيوسياسي الذي قسم العالم منذ قرون خلت إلى ثلاثة فضاءات. ومنه تظهر أهمية فهم كيف يمكن أن يستمر أسلوب التفكير الجيوسياسي الصيني عبر القرون، بل ويترسخ عند محاولة الصين مرة أخرى التكيف مع معطيات عالم القرن الواحد والعشرين.

لذلك ومن أجل الإحاطة بالموضوع بالشكل الكافي، من المهم منهجيا الإجابة على الإشكالية التالية والتي تقوم على طرح السؤال التالي لمعرفة:إلى أي حد استطاعت القيادات الصينية عبر التاريخ، تبني هذا الموروث القيمي العريق وتقاليده الضاربة في التاريخ كذخيرة فكرية وجيوسياسية للتعامل مع الواقع الدولي المعاصر؟

تندرج ضمن هذه الإشكالية العامة مجموعة من التساؤلات التي تحاول الإلمام بأهمية الإدراك الجيوسياسي لدى القادة الصينيين وبالأخص القادة المعاصرين. من بين هذه الأسئلة: كيف سمح هذا الموروث القيمي العريق للقادة والحكومات الصينية المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية الصينية، بتجاوز التحديات المفروضة أمامها؟ ثم هل بالإمكان اعتبار بلوغ الصين المكانة الاقتصادية المتميزة التي تحتلها اليوم على الساحة الدولية نتيجة حتمية لتبني القادة الصينيين للمبادئ الكونفشيوسية؟ وفي الأخير هل من المعقول تصنيف كل السلوكات الخارجية الصينية ضمن موروث الكونفشيوسية، أم من الصواب الإشارة إلى أن صاحب القرار في الصين يبقى مثله مثل كل صناع القرار في العالم، مدركا لكل الإنتاج الفكري الفلسفي والجيوسياسي الذي أنتجته المدارس الغربية في هذا المجال، وفي مقدمتها كتابات كل من راتزل وماكيندر وغيرهما.

تقوم هذه الدراسة على فرضية أساسية مفادها أن السياسة الخارجية والاقتصادية الصينية اليوم من خلال محطات مختلفة سواء تعلق الأمر بتصنيف العالم إلى عوالم ثلاثة كما تم في الماضي مع ماو تسي تونغ، أو الرغبة في إحياء طريق الحرير القديم فيما بات يطلق عليه اليوم مع الرئيس شي جين بينج "حزام واحد، طريق واحدة (One Belt, One Road)1، تعد تجسيدا واضحا لكيفية استعانة القادة الصينيين إلى غاية اليوم بالتقاليد الكونفشيوسية، والتأثر الواضح بها.

وعليه ستكون هذه الدراسة فرصة لاستعراض التوجهات الجيوسياسية للصين من المنظورين الداخلي والخارجي، هذا دون إغفال الإشارة إلى بعض تطبيقات الإدراك الصيني الجيوسياسي للعلاقات الدولية وكيفية تفاعل الصين معها على مر الأزمنة، من خلال تبيان التأثر الواضح للفكر الجيوسياسي الصيني بالإنتاج الفلسفي والفكري الواسع للمدارس الجيوسياسية الغربية، وبالتحديد المدرسة الأنغلوسكسونية.

لذلك سنحاول مناقشة هذه الإشكالية ومحاولة الإجابة عليها من خلال التدرج في استعراض مجموعة من المعطيات بالمناقشة والتحليل. سنبدأ في خطوة أولى في محور نستعرض فيه فكرة المركزية الصينية وتطورها منذ الصين القديمة مرورا بالمرحلة التأسيسية لجمهورية الصين الشعبية ووصولا إلى المرحلة الحالية. سنعمل في خطوة ثانية في محور آخر على إسقاط هذا التصور الجيوسياسي الصيني للعالم المتطور عبر الزمن في أول اختبار له، من خلال ما عرف بنظرية العوالم الثلاث أو النظرة الماوية للعالم التي حاولت الصين من خلالها التعامل مع ظروف الحرب الباردة وانقسام العالم على أسس أيديولوجية. وفي محور أخير وكخطوة ثالثة سنتوجه إلى مناقشة التحول الذي طرأ على التوجهات الجيوسياسية الصينية عبر تسليط الضوء على تراجع الاعتبارات الأيديولوجية أمام تنامي المصالح الاقتصادية، وذلك من خلال إبراز الأدوات الاقتصادية الجديدة التي تفطنت لها الحكومة الصينية وذلك بإحيائها لطرق الحرير التجارية القديمة. والأكيد أنه رغم الطابع الاقتصادي لتلك الأدوات إلا أن الغاية من ورائها لم تعد مجرد ظهور للصين كطرف دولي قوي، بل قد يكون سقف طموحاتها أعلى من ذلك بكثير بحيث تؤسس لسلام صيني بديل للسلام الأمريكي. 

الإدراك الجيوسياسي الصيني التقليدي "المركزية الصينية"

اعتبرت الإمبراطوريات المتعاقبة على الحكم في الصين، أنه إذا كان للعالم مركز، فإن الصين تمثل ذلك المركز. وبما أن للعالم فعلا مركز، فإن الصين حتما موجودة في وسط ذلك المركز. الصين هي مركز العالم، هي إمبراطورية الوسط "l’empire du Milieu". 2وهو ما تدل عليه كلمة الصين باللغة الصينية zhong guo. فهي مركبة من كلمتين الأولى zhongوتعني الوسط، بينما كلمة guoتعني بالصينية الوطن أو الأمة، أي أمة الوسط، أو Zhong guaويقصد به "نور الوسط". 3

ظلت الصين طوال الفترة الممتدة من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثالث عشر تحت حكم سلالة تانغ Tangوسونغ Songبدون منازع الأمة الأكثر تقدما. وبحكم تعدادها السكاني وغناها وتقدمها، هيمنت بلا منازع على المنظومة الإقليمية في شرق آسيا.

ولذلك ليس غريبا أن يتم اعتماد تصنيف للعالم في هذه الفترة التاريخية يجعل من الصين مركزا له كما جاء في الشكل رقم 1. جاء في شكل خمسة حلقات مرتبة يشمل بعضها بعضا. حيث تمثل الحلقة الأولى في الوسط الميدان الملكي أو إمبراطورية الصين، بينما تمثل الحلقات الثلاث الأخرى التي تليه الشعوب المختلف التابعة لها، أما الحلقة الخامسة فتمثل البرابرة الذين لم يتم بعد تطويعهم.

وفقا لــجون فانسينت بريسيت Jean-Vincent Brisset  4فإن العالم في نظر الصينيين ينقسم إلى دوائر ثلاث، تمثل الصين مركزه:

§  في البداية هناك المركز، وفيه يوجد القلب المتمثل في عنصر الهان، وهو لب الصين وجوهره. وحدها الصين تحتل هذا المركز، وتتربع فيه دون منافس، وبقية الكون يدور في فلكها.

§  تتكون الدائرة الأولى من الأراضي التي تم ضمها من طرف الإمبراطورية من خلال إرسال جنود-فلاحين لتوطينهم بين سكان مختلفين عرقيا، ولكن بأعداد صغيرة. هؤلاء الجنود مع مرور الوقت وصلوا إلى الاعتقاد بأنهم يعتبرون شاغلي الأرض الشرعيين ويعلنون ولاءهم للوطن الأم الصين؛

§  الدائرة الثانية تتكون من الأتباع، أولئك الذين يجب أن يظلوا خاضعين ومخلصين للإمبراطورية.

§  وأخيرا، تتكون الدائرة الأخيرة من "البرابرة"، أو الخارجين عن طوع المركز، وقد يكونون أعداء، معارضين لمصالح الصين.


الشكل رقم 1: التصور التقليدي الصيني للعالم



Source :Gérard Dussouy. « Les théories géopolitiques Traité de Relations internationales.»Tome (I), Pouvoirs comparés. Paris : l’harmatan, 2006, p. 273.

 

في الواقع النظرة الجيوسياسية الصينية، قائمة في الأساس ومنذ البداية على نوع من التمييز الذي تطور عبر التاريخ بناءا على العلاقة ما بين عرقية الهان HANفي مواجهة غيرها من الأعراق الأخرى. أو بالأحرى المركزية الصينية (Sino-Centrism) ممثلة في "الإمبراطورية السماوية والدولة العليا"، مقابل "البرابرة المتخلفين" والتابعين لها بالضرورة.

1.                       تطور المركزية الصينية منذ الصين القديمة

التمييز بين الصيني وغيره من الأعراق يسلط الضوء على الاختلافات المكانية بين القبائل المختلفة منذ الصين القديمة. طبقت الصين منذ أسرة تشو (1046قبل الميلاد -771قبل الميلاد)، كلمة "هوا" لتمييز عرقية "هان" الصينية السائدة عن باقي الأقليات والأجانب، واصفة إياهم بتسمية "يي". ومع ذلك، وعلى أساس معانيها الأولية، فإن مثل هذا التمايز يعني الاختلاف المكاني بين هان الصينية والمجموعات العرقية الأخرى. وفقا للكونفوشيوسية الكلاسيكية، كتاب الشعائر: الملكية، على سبيل المثال، "هوا" و"يي" تستخدم لتمثيل مختلف طبائع وخصائص الهان الصينية والأقليات العرقية، على التوالي، بالإضافة إلى وصف الموقع الجغرافي المركزي الذي يحتله عرق "الهان" في قلب الصين. 5

وعليه ساد الاعتقاد بأن الأول يقود حياة أكثر تحضرا بكثير، بالنظر للنظام الاجتماعي والسياسي الناضج السائد آنذاك في عرقية الهان. بينما يتبع من هم من غير الهان حياة بدائية وحشية بسبب البدائية التي تعرفها طريقة عيشهم واتخاذهم الكهوف سكنا لهم. وبهذا المعنى، أصبح تدريجيا هذا التمييز شكلا من أشكال الهوية الثقافية والوعي الذي من خلاله يرى المرء أن لعنصر الهان تفوق ثقافي ومادي واجتماعي ونفسي وعاطفي وسياسي على بقية الأعراق. 6

وعلى هذا الأساس، يعزز هذا التمييز بين العرقين الإدراك الذي يركز على الصين ويركز على الهيكل الجيوسياسي الذي محوره عرق الهان في الصين. ويمكن تلخيص الإدراك الجيوسياسي والهيكل الجيوسياسي في هذه الحقبة عبر سمتين أساسيتين:7

 أولا، يتم التأكيد على المكانة المهيمنة والمركزية لعرق الهان في المركزية الصينية (Sino-centrisme) يسمح لهم فيه احتلال أكثر الأراضي اكتظاظا بالسكان في وسط الصين، في حين يدفع غيرهم إلى المراعي والصحاري والغابات في المناطق الهامشية. وفي الوقت نفسه، يعتبر هؤلاء تابعون لعرق الهان الذي يتم عبره اختزال الصين بأكملها، في كل من المجالين السياسي والاقتصادي.

ثانيا، تؤكد المركزية الصينية على الحضارة كمعيار هام يميز بين الصيني -الهان-وغيره من الشعوب. وبعبارة أخرى، أي شخص يقبل ويتبع الثقافة المتقدمة التي يتبناها الهان الصينيون (والتي عادة ما تشير إلى الأيديولوجية الكونفوشيوسية السائدة) ينظر إليه على أنه متحضر؛ وعلى العكس من ذلك، فإن أي شخص لا يقبل تلك الثقافة ويتحداها، فسينظر إليه على أنه متخلف.

ومع ذلك، فإن الإدراك الجيوسياسي الجديد لهذه النظرة المركزية سيواجه قريبا تحديا كبيرا في المواجهة المتكررة التي ستقوم بين العالم الشرقي (آسيا والصين على وجه الخصوص) والغرب (المتمثل أساسا في القوى الاستعمارية الأوروبية وحملات الاستكشاف) في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وبسبب الوضع المزري والمتدني مقارنة بالقوى الغربية خلال هذه المواجهة، انهار المخيال الجيوسياسي الصيني القائم على مركزية الصين في العلاقات الدولية. وقد كان لهذا الانهيار تأثير كبير مزدوج على الإدراك السياسي والشعبي "للمركزية الصينية" في الصين الحديثة. 8

لقد تم بناء نسخة جديدة من المركزية الصينية على أساس تغيير وتعميق فهم التمييز الحاصل بين عرق الهان وباقي الأعراق المتواجدة في الصين. في البداية، تغير هذا التمييز خلال هذا الوقت بشكل كبير من فكرة عرقية غالبا ما تستخدم لوصف القبائل أو المجموعات العرقية وتمييزها عن الدولة التي يتم تشكيلها من قبل الهان الصينية، إلى فكرة الدولة القومية الحديثة التي يتم استخدامها لوصف الوحدة الكبيرة للأمة الصينية بما في ذلك شعب هان الصيني وغير الهان. وعلى الرغم من أن عددا كبيرا من السياسيين الصينيين حاولوا من قبل إنشاء هذه الوحدة بين شعوب الصين المختلفة، إلا أنهم فشلوا. وعليه عزز الإذلال من جانب القوى الخارجية واحتلالهم لأقاليم صينية كثيرة مفهوم الصين بأسرها بوصفها وحدة واحدة. وفي هذا السياق، بدأ عدد كبير من السياسيين والباحثين الصينيين في إعادة النظر في تلك الثنائية التي تجاوزتها الأحداث ولم تعد لها قائمة في الصين اليوم. وبذلك، لجأوا إلى فكرة الدولة القومية التي تستخدم على نطاق واسع في النظام السياسي الغربي، وبالتالي محاولة بناء دولة حديثة في الصين.

وعلى هذا الأساس، تم وضع نسخة جديدة من الإدراك الجيوسياسي للمركزية الصينية، إلا أن هذه الأخيرة لم تبن على أساس تقييم متجدد للتمييز الذي كان قائما في الماضي بين عرقية الهان الغالبة وباقي الأعراق من الأقليات، لكنها تعد استمرارا للتقاليد القديمة المركزية. ذلك أن النسخة الجديدة من المركزية الصينية، حافظت على المركز المحوري لعرق الهان المكون الرئيسي في المجتمع الصيني بأكثر من 90% من التعداد السكاني،9والاختلاف الوحيد في النظام الجديد هو أن مفهوم المركزية في هذه الحالة أصبحت تمثل الأمة الصينية بدلا من عرقية الهان فقط. في حين تنسحب النظرة المركزية التمييزية لغير الهان بداخل الصين إلى الأجانب بدلا من الأقليات العرقية من غير الهان في الصين. وفي هذا السياق، تتخيل الصين نفسها، في النسخة الجديدة من الإدراك الجيوسياسي للمركزية الصينية، أنها مركز العالم الذي يضم عددا كبيرا من السكان، وموارد وفيرة وثقافات متقدمة، تعرف باسم "الإمبراطورية السماوية والدولة العليا"، في حين يتصور البلدان الأجنبية الأخرى على أنها همجية، متخلفة، ومهمشة، تابعة للصين.10

ولكن تجدر الإشارة إلى أن النسخة الجديدة من المركزية الصينية التي تشدد على تفوق الأمة الصينية على الدول الأجنبية سرعان ما تم إعادة النظر فيها والتراجع عنها تحت ضغط القوة العسكرية البريطانية والقوى الغربية الأخرى خلال عهد أسرة تشينغ، في إطارمعاهدة تيينتسين Tientsinفي أعقاب حربي الأفيون. ويمكن في هذا الإطار إحصاء سببين أساسيين يمكن من ورائهما فهم وتفسير لمذا تم التراجع عن إدراك الصين الجيوسياسي لأسبقية الأمة الصينية وتفوقها على بقية العالم، ونظرتهم أحادية الجانب للواقع الدولي من خلال الاعتقاد بسمو الهان وإيديولوجية "الإمبراطورية السماوية والدولة العليا". فمن ناحية، اهتزت ثقتهم في أنفسهم بشكل مهين بعد الانهزام في سلسلة من الحروب المتتالية ضد الغزاة الغربيين بعد حربي الأفيون ضد بريطانيا وفرنسا في 1839و1842. 11وفشلها في حرب جياوو Jiawuضد اليابان في 1894.12ومن ناحية ثانية وبعيدا عن ميدان الحروب، أدركت الصين تخلفها الكبير والواضح أمام التقدم الذي تعرفه الأمم الأخرى في ميدان العلوم والتصنيع الحربي والتجارة وغيرها من القطاعات.13

أ‌.                       ن

2.                       الجيوسياسة الصينية بعد قيام جمهورية الصين الشعبية

جرت المرحلة الأولى من عام 1949إلى غاية سنوات السبعينيات، وفيها تم تأطير الإدراك الجيوسياسي الصيني من طرف الإيديولوجية الماركسية الشيوعية. يمكن هنا تحديد اثنين من الخصائص الرئيسية للمنظورات الجيوسياسية الصينية خلال هذه الفترة. فمن ناحية، كانت الدبلوماسية الصينية تتبنى مواقف مناهضة للرأسمالية ومعادية للغرب. كانت الدولة الصينية في هذه الفترة دائمة الاصطفاف إلى جانب الاتحاد السوفيتي لمقاومة الدول الرأسمالية وممارساتها الجيوسياسية. ومن ناحية أخرى، اتسمت الممارسات الجيوسياسية الصينية خلال هذه الفترة أيضا بشكل من أشكال مكافحة الكونفوشيوسية ومبادئها التي تعتقد أنها ترتكز على مبادئ النظام الإقطاعي، وهو ما جعلها مستبعدة إلى حد كبير من الثقافة السياسية الصينية في ذلك الوقت. وقد انعكست هذه السمة المناهضة للكونفوشيوسية على الثقافة السياسية الصينية خلال هذه الحقبة بشكل خاص في "الثورة الثقافية" التي حاولت أن تبعد العناصر الإقطاعية من الثقافة الصينية السائدة آنذاك.14وبذلك، يمكن أن نرى أن الممارسات الجيوسياسية الصينية خلال هذه المرحلة قد تراجعت فيها بشكل واضح القيم الكونفوشيوسية التقليدية.

وقد سارع الزعيم الصيني ماو تسي تونغ سنوات الخمسينات إلى نشر خرائط استعملت في المدارس، تبرز فيها الصين وهي في كامل توسعها الجغرافي مشتملة على جميع الأقاليم الضائعة منها بل ومن ضمنها جمهوريات كازاخستان وقيرغيزستان في أقصى الغرب. 15

بينما تميزت المرحلة الثانية، بداية من سنوات الثمانيناتحتى هذا الوقت، بسياسة الانفتاح الصيني على العالم والإصلاح واتساع الهوة الإيديولوجية بين الصين والاتحاد السوفيتي آنذاك. تراجعت الدبلوماسية الصينية في هذه الفترة عن التفكير الجيوسياسي الشيوعي الراديكالي بشكل تام، وبدأت بالمقابل تتبع ما صار يطلق عليه بالاشتراكية الصينية. والتي كان من أبرز ملامحها هو اقتراب الصين أكثر من الدول الغربية الرأسمالية في المجال الاقتصادي. على سبيل المثال، في هذه الفترة، بدأت الصين في اتباع اقتصاد السوق وتبني نوع من الانفتاح داخل المجتمع الصيني. وللقيام بذلك، عادت الدولة الصينية إلى القيم والثقافة الصينية التقليدية، من أجل العثور على طريقتها المميزة الخاصة بها للتعامل مع الشؤون الدولية. وعلى هذا النحو، أدخلت القيم الكونفوشيوسية على جوانب الثقافة السياسية الصينية المعاصرة مجددا بعد أن استبعدتها سنوات الحرب الباردة. 16

وبهذا المعنى، فإن الممارسة الجيوسياسية الصينية الحالية ليست إلا استمرارا مباشرا لموروث تاريخي امتزجت فيه الأفكار الكونفوشيوسية القديمة التي تعتقد أن الصين هي مركز العالم والفلسفة الشيوعية التي جاءت لتعطي الصين بعدا عالميا وإنسانيا من خلال التضامن والعلاقات الوطيدة مع دول العالم الثالث بشكل أبرز.

ولكن من الضروري لفت الانتباه إلى أن الصين بعد تبنيها المذهب الشيوعي وحتى عندما عدلته إلى ما أسمته بالشيوعية الصينية، قد تراجعت بشكل ملحوظ عن أحد أبرز المبادئ الكونفشيوسية الجيوسياسية وهي اعتبار العالم الخارجي باستثناء الصين هو عالم متخلف وبربري لا يمكن إلا أن يكون خاضعا للصين.فخلافا للفكرة المركزية الصينية التي تؤكد على تفوق عرق الهان الصيني، تبنت الممارسات الجيوسياسية الصينية الحالية نهجا سياسيا يعتبر الصين جزءا من الخريطة السياسية للعالم الذي يقسم إلى دول وطنية مختلفة وسيدة، وبذلك تشدد الصين على بناء علاقة متكافئة بين دول العالم، لا تقوم على الهرمية أو هيمنة بعضها على الأخرى.ويمكن أن تظهر هذه الفكرة بوضوح في إطار السياسة الخارجية التي اتبعتها الصين والقائمة على ما سماه رئيس مجلس الدولة الصيني السابق شوان لاي "بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمي".17

II                       نظرية العوالم الثلاث (النظرة الماوية للعالم)

على الرغم من أنها قدمت إلى العالم على أساس أنها سلاح أيديولوجي قوي، أو نظرية علمية ماركسية للعالم آنذاك، إلا أن ما عرف بنظرية العوالم الثلاث في العلاقات الدولية كانت تنحدر في اتجاه الطروحات الجيوسياسية للعالم آنذاك. ولم يكن ذلك جديدا حيث أن تاريخ الفكر الشيوعي الصيني مذ نهاية الحرب العالمية الثانية كان يؤكد أن الحزب الشيوعي ثم جمهورية الصين الشعبية كانت دائما تدعم مواقفها الدولية اعتمادا على اعتبارات سياسية قائمة في الأساس على الجغرافيا.

وبالتالي بالرغم من الخطاب الثوري فان الإشارات المتعلقة بالجيوبوليتيك ظلت دائما مطروحة ومستمرة كما هو موضح في الشكل رقم 2، وتدل على تطابق كبير بين طروحات الموروث الجيوسياسي التقليدي العريق والطروحات الأيدولوجية الشيوعية التي تبناها النظام الشيوعي الصين منذ ماو تسي تونغ، وذلك بهدف الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الاستقلالية للصين وتحقيقا لمصالحها وبقائها. لذلك ظل ماو تسي تونغ طوال فترة الثنائية القطبية المزدوجة، شرق-غرب وشمال-جنوب يؤكد: "في اعتقادي، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يمثلان العالم الأول. القوى الوسطى مثل اليابان وأوروبا وكندا تشكل العالم الثاني. أما نحن، فإنا من العالم الثالث."18


الشكل رقم 2: التطابق بين الجيوبوليتيك الصينية القديمة مع نظرية العوالم الثلاثة لماو تسي تونغ


Source :Gérard Dussouy. « Les théories géopolitiques Traité de Relations internationales.» Tome (I), Pouvoirs comparés. Paris : l’harmatan, 2006, p. 273

 

.هذه المعادلة لخصت بشكل كبير الوضعية الدولية للصين، ونظرتها الأيديولوجية والجيوسياسية المزدوجة. ذلك أنها كانت تميز بين عدويها الأساسيين الدولتين العظميين الإمبرياليتين (عندما تحول الاتحاد السوفياتي إلى خصم بعد 1952)، حلفائها الأساسيين (أو ما أسمتهم فيما بعد بالمنطقة الوسطية Intermediate) وكذلك دورها كقائد للعالم الثالث. وهو يشير إلى تقسيم للعالم إلى مناطق تم تحديدها بطريقة غير متجانسة، بحيث المعيار الوحيد المستعمل في تقسيمها كذلك هو ما تمثله للاستراتيجية الصينية من مصالح.

انطلاقا من 1979غيرت الصين من استراتيجيتها تجاه العالم، وبدأت في الاقتراب أكثر من الغرب والولايات المتحدة في مرحلة حكم الزعيم دينغ زياوبينغ Deng Xiaoping. اشتهر هذا الأخير بمقولته: "لا يهم أن يكون القط رماديا أو أبيضا، الأهم هو أنه يمكنه أن يصطاد الفئران." 19وهو ما يعكس القدر العالي من البراغماتية التي أصبحت تتبعها الصين في سياستها الخارجية تجاه القضايا الدولية والإقليمية، وقدرتها على التكيف مع التحولات الدولية التي صاحبت حقبة الحرب الباردة، وأن تبدع في خلق دولة واحدة بنظامين مختلفين20وذلك بعد أن استرجعت هونغ كونغ وماكاو تحت سيادتها مجددا.

سمحت هذه البراغماتية للصين بمضاعفة أدائها الاقتصادي بشكل عام بحيث أضحا بعد سنوات قليلة ينافس كبريات الاقتصادات العالمية. فمنذ عام 1979، حطم نمو الاقتصاد الصيني جميع الأرقام القياسية. وتشير الإحصائيات أن الناتج المحلي الإجمالي قد نما سنويا بنحو 10% في المتوسط، كما بلغ نصيب الفرد من الدخل أربعة أضعاف ما كان عليه، بعد أن ارتفع مستوى دخل الفرد من 5% إلى أكثر من 20%، وهي الآن أعلى بنسبة 100٪ من الدول الغنية، وتتجاوز حاليا ما لدى العديد من الدول الآسيوية الناشئة.21

لذلك يرى فرانسوا جوايو François Joyauxأن النظرية الصينية التقليدية في الجيوبوليتيك لم يحصل وأن اختفت نهائيا، بل على العكس من ذلك لقد تجاوزت القرون.22وفي اعتقاده، فإن الفكر النظري للصين الشعبية حول العلاقات الخارجية، يتطابق بشكل كبير مع الفكر الصيني الكنفوشي القديم.

وعليه فإن هذا النوع من الاستمرارية يمكن تفسيره بالتواصل غير المنقطع للحضارة الصينية منذ ألفي سنة، عندما وضع فيه المفكرون الصينيون الصين في مركز العالم، وتبنى هذا الطرح مع تعديلات طفيفة قادتها في بداية القرن العشرين.

هذا، كما أنه من الواضح أن استمرارية هذه النظرية وتحديها للزمن، تفسر بشكل آخر رغبة لدى هؤلاء في التعبير عن الشعور الصيني بعقدة الحصار. وبالعداء التي تضمرها لها البيئة الخارجية. وهو ما يفسر الاستماتة التي تبديها الصين في سعيها لاستعادة ما تعتبره حقا لها في الأراضي والمجالات البحرية التي تعكر دائما صفو علاقاتها مع الدول المجاورة والدول الكبرى. ويوضح بشكل جيد إصرارها على استعادة مكانتها في مركز العالم التي ضيعتها ما بين القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

ولكن من أجل بلوغ ذلك تتبع الصين مبدأ استراتيجيا فريدا من نوعه يستند على ثقافة السرية والتمويه. وهذا ما يسميه بعض المحللين "تكتيكات النقاط العقلية" التي تستهدف مباشرة دماغ القائد العسكري للعدو لجعله يستسلم ولا يقاوم. وفيما يلي مثال يوضح الاستراتيجية الصينية: من أجل تعطيل وتحييد أي استراتيجية "للاحتواء" على الطريقة السوفياتية من طرف الولايات المتحدة. استطاعت الصين أن تجعل من نفسها ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في نظر الولايات المتحدة، بما في ذلك خلق حالة من الترابط والشراكة الاقتصادية القوية معها بحيث لا تستطيع الاستغناء عن مصالحها مع الصين.الاستراتيجية الصينية غير مباشرة، وهي حذرة. 23

تريد الصين بالتأكيد أن تسترجع مكانتها الحقيقية التي تناسبها في العالم اليوم، تلك التي تتوافق مع ما تمنحه لها ديمغرافيتها، شساعة أراضيها، وعمق وثراء تاريخها وثقافتها الضاربة في القدم عبر القرون. 24

ولكن كل ذلك لا يعني بالضرورة انتهاء الصين من حسم كل معضلاتها الجيوسياسية. ذلك أنها لا تزال تنتظرها معضلات كبيرة لم تجد بعد خلاصا لها، أو على الأقل بناءا على المبدأ الذي سبق الإشارة له، لا تعتقد أن الوقت مناسب لحسمها بالطريقة التي تشاء. فهي لا تنقصها الحجة المقنعة، ومن حيث القوة قد بلغت من التقدم اقتصاديا وعسكريا ما يسمح لها بتحقيق أهدافها بكل سهولة، ولكنها تتحين الفرص وتستغلها على أحسن وجه. من بين تلك المعضلات:

                أ‌.     لا تزال الصين تعاني من عدم استكمال سيطرتها على الأقاليم الأخرى ذات الأغلبية السكانية من غير أغلبية الهان Han، الواقعة في شمال البلاد وغربها. ولم تسترد بشكل كامل سيطرتها على الأقاليم التي تقطنها أقليات تجاهر السلطات المركزية الصينية العداء وترغب في الانفصال التام عنها. وبشكل آخر لم تفلح بعد في بسط سيطرتها على الأقاليم التي خرجت من سلطتها منذ الغزو الأوروبي لأراضيها.

            ب‌.     هذه الأقاليم كما هو موضح في الخريطة رقم 1، هي: إقليم التبت، إقليم منغوليا الداخلية، وإقليم شينجيانغ Xinjiangالذي تسكنه الأغلبية المسلمة من الإيجور. هذه المناطق كانت تاريخيا تحت الحكم الصيني عندما كانت الصين قوية وخسرتها عندما أصبحت ضعيفة.

الخريطة رقم 1: الأقاليم التي فقدت الصين السيطرة الكاملة عليها


Source :www.axl.cefan.ulaval.ca/asie/chine-map-regions_aut.htm

 

            ت‌.     كما لا تزال الصين تواجه تحديات صعوبة جوارها الجغرافي. حيث وعلى الرغم من أنها استطاعت أن تعدل من حدة مطالبها الجغرافية دون أن تتخلص منها، وهي وإن سلمت بفقدانها لمساحات شاسعة من جغرافيتها التي تحولت تحت الوجود الأوروبي إلى دول مستقلة، مثل الهند الصينية (الفيتنام حاليا) التي انتزعتها منها فرنسا، أو برمانيا والنيبال التي اقتطعتها بريطانيا، أو تايوان وكوريا وساخالين من طرف اليابان، وآخرا وليس أخيرا منغوليا من طرف روسيا.25إلا أن الصين ظلت مع ذلك تطالب ببعض مما اقتطع من أراضيها في سنوات التبعية والخضوع. سواء كان ذلك في شكل أراضي تم اقتطاعها أثناء التواجد الأوروبي على أراضيها، كهونغ كونغ أو ماكاو أو تايوان أو من طرف الاتحاد السوفياتي زمن الحرب الباردة، أو في شكل مساحات بحرية في بحر الصين الجنوبي ظلت الصين تعتقد لحد الساعة أنها تشكل جزءا لا يتجزأ من سيادتها كما تدل عليه الخريطة رقم 2.وقد اشتد الخلاف بينها وبين الدول المجاورة لها في هذا البحر، بعد أن ثبت أن هذا الأخير يعج بثروات طبيعية هائلة، في مقدمتها احتياطات نفطية كبيرة.


الخريطة رقم 2: الأرخبيل محل تنازع بين الصين والدول المجاورة لها في بحر الصين الجنوبي



Source :Dorian Malovic. « Washington menace Pékin en mer de Chine méridionale » La Croix, le 31/05/2015. https://www.la-croix.com/Actualite/Monde/Washington-menace-Pekin-en-mer-de-Chine-meridionale-2015-05-31-1318140(تم نصفحه في 11/12/2017)

 


ومع ذلك، فإن الليونة التي أبدتها الصين في علاقاتها الجديدة مع العالم وبالأخص الدول الغربية وبعض دول الجوار القريب، لا يمكن أن تفسر على أنها تراجع صيني على طموحها في دور بارز على الساحة الدولية وكذلك عن مطالبها الترابية في مناطق شاسعة من جوارها الجغرافي. لذلك فإنه من المحتمل دائما أن تفرض المشاكل الجيوسياسية الكامنة في جوارها الإقليمي مع العديد من جيرانهانفسها على جدول أعمال أصحاب القرار الصينيين. وقدأظهر القادة الصينيون بالفعل الكثير من التصميم على نقطتين لا تحتملان المساومة والتنازل على الأقل، وهما تشكلان جزءا مهما مما يسمى بالدائرة الثانية للاهتمامات الجيوسياسية الصينية: الحدود البرية لشمال الصين من جهة وإقليمها البحري من جهة ثانية، فيما يعرف ببحر الصين الشرقي وخاصة بحر الصين الجنوبي.

لذلك يظل التصور الصيني لمحيطها الخارجي والفضاء الجغرافي الذي تحتله يخضع إلى جملة من المحددات التي تجعله لا يؤمن بالواقع الحالي والحدود المقبولة عموما في القانون الدولي العام. وهي بالتالي تسعى بشكل لا يدع مجالا للشك إلى إعادة النظر في هذا الواقع الذي تراه مجحفا بحقها، ويعد جزءا من تراكمات تاريخية ترتبت عن الحقبة الاستعمارية والتدخل الخارجي في شؤون الصين. كمثال على ذلك، نشرت السلطات الصينية في عام 1954خريطة تكشف أن الحدود الحقيقية للصين هي حدود الإمبراطورية التي كانت قائمة في الفترة ما قبل حرب الأفيون (1840) والمعاهدات غير المتكافئة التي نجمت عنها.

III                     تراجع الاعتبارات الأيديولوجية/الجيوسياسية وتغليب المصالح الاقتصادية

قامت الصين مع بداية الثمانينات كما سبق الإشارة له، باتباع منهج جديد للدفاع عن مصالحها ووجودها، وذلك من خلال استراتيجيتها للانفتاح على العالم الخارجي وإعطاء أهمية أكبر للعلاقات الاقتصادية والسوق العالمية وتحقيق التنمية الاقتصادية. 26وكان ذلك في تناغم تام مع ما قاله سان تزو في فن الحرب "اجعل نفسك لا تقهر أولا".27 لقد تفطنت الصين إلى أن الاقتصاد لا يقل أهمية عن إعداد الجيش، وهو في عالمنا اليوم معيار لقوة أي بلد، بل هو أكثر من القوة العسكرية. لذلك تستمد الصين قوتها أولاً من اقتصادها، الذي يظل تطويره الأولوية الأولى منذ الإصلاحات التي بدأها القادة الصينيون.

في نظر القيادة الصينية لم تعد اللعبة الصفرية تحكم العلاقات الدولية. وبفضل هذه الرؤية الجديدة التي اعتمدتها الصين مع شركائها الدوليين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وأوروبا، استطاع الاقتصاد الصيني استقطاب قدر كبير من الاستثمارات الخارجية التي كان في أمس الحاجة إليها في تلك الفترة، بالإضافة إلى تمكن الصين من إيجاد أسواق واعدة لصادراتها التي تعد مصدر الزيادة الأكبر في ناتجها القومي الإجمالي.

إن إضفاء الشرعية على مفهوم المصلحة الوطنية، بدلا من الاستعاضة عنها بالنهج الأيديولوجي للعلاقات الدولية (لأنه لم يغفل أبدا)، سهل إدماج الصين في المؤسسات الدولية. وعلى وجه الخصوص، في المنظمة العالمية للتجارة التي انضمت إليها سنة 2001. وقد سعت الصين، مع وجود العديد من المزايا لدخول السوق العالمية، إلى إثبات أنها الآن "قوة دولية مسؤولة". وبهذا المعنى، فقد تعاملت بكثير من الحكمة وضبط النفس في عديد من القضايا الدولية والإقليمية منذ بداية التحولات التي عرفتها سياستها الخارجية مع بداية التسعينيات.

وقد أدى الاندماج الناجح للغاية للصين في التجارة العالمية والزيادة السريعة في قوتها الاقتصادية إلى ظهور حالة من الحساسية في علاقاتها مع باقي القوى الكبرى، حيث أصبحت تشكل على نحو متزايد تحديا لأهم قوة في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية. القضية ليست بسيطة: الصين نمت وأصبحت قوة رئيسية عالمية محتملة، ومنافسا قويا لباقي الفاعلين الدوليين، فقط من خلال اتباع قواعد العمل التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية. وبما أن القيادة الصينية تخشى من أن تمنع الولايات المتحدة الأمريكية عاجلا أو آجلا صعود البلاد بشكل ما، فإنها تمارس ضبطا ملحوظا في سياستها الخارجية. ويتجلى ذلك في السياسة الخارجية المتمثلة في "التواري عن الأنظار" في الشؤون الدولية التي أطلقها دنغ زهاو بينغ والتي تهدف إلى مداراة النمو السريع للصين وإخفائه. وقد كشفت الأزمة المالية لعام 2008عن تغير الدور الإقليمي للصين، وأجبرت الولايات المتحدة، التي تعتبر القوة الرائدة في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، على القبول بالأمر الواقع.

أدركت الصين جيدا أنها من أجل مواصلة ظهورها على الساحة الدولية والاستمرار في إنجازاتها الاقتصادية العملاقة على الصعيد العالمي بشكل لا يلفت انتباه الدول الكبرى إليها، ستكون بحاجة إلى بيئة دولية سلمية، تتجنب فيها المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.28كما أدركت الصين أنها بحاجة إلى أسطول أكثر قوة للحد من التواجد المعزز للولايات المتحدة الأمريكية في مجال اهتمامها التقليدي في شرق وجنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، وهو أمر ليس بالسهل على الإطلاق بالنظر إلى ميزان القوة العسكرية الواضح الذي هو لصالح الولايات المتحدة. لذلك وجدت الصين نفسها مجبرة على إيجاد بدائل للحد من هذا الواقع الأقرب إلى الحصار من قبل الولايات المتحدة وحلفائها لمصالحها في المنطقة. وقد وجدته في العودة مجددا إلى رموز الماضي من خلال الالتفاف ولو لحين عن الضغوطات الأمريكية وإعادة إحياء ما كان يطلق عليه بطريق الحرير. من خلال هذا المشروع فإن الصين قد أوجدت لنفسها فرصة جديدة، للتوسع في تجارتها ومد شبكة قوية من العلاقات والأحلاف مع جوارها الجغرافي وشركائها في المنطقة، والعمل على ترسيخ واقع دولي جديد تكون الصين فيه أحد اللاعبين الرئيسيين.

ووفقا للخطط المعلنة من قبل الصين، فإن طريق الحرير الجديد (أو كما سمي لاحقا باسم "حزام واحد، طريق واحد") الذي أطلقه شي جين بينغ، رئيس جمهورية الصين الشعبية في عام 2013، سينشئ حزاما اقتصاديا يشمل أكثر من 60دولة في غضون عقد أو عقدين من الزمن من شأنه أن يعيد تعريف شبكة الصين في آسيا وأوروبا وأفريقيا.

من الواضح أن الهدف الطموح للصين من خلال مشروع حزام واحد، طريق واحد هو تغيير طبيعة التوازنات الدولية القائمة في العالم اليوم، من خلال جعل منطقة أوراسيا في مركز المبادلات الاقتصادية والثقافية العالمية، وبالتالي جعل الصين محورها الرئيس، وكسر هيمنة القوى البحرية، الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة في مقدمتها التي ظلت تهيمن على حركية العلاقات الدولية منذ قرن من الزمن أو يزيد.

1.                       طريق الحرير الجديدة

لا يزال مصطلح "طريق الحرير"،29الذي صاغه أول مرة الجغرافي الألماني Ferdinand von Richthofenفرديناند فون ريشتوفن في عام 1877،30يحظا باهتمام واسع من طرف الباحثين والمهتمين بالشأن الصيني، والاعتبارات الجيوسياسية المترتبة عن التحركات الصينية على الساحة الدولية وبخاصة في شقها التجاري والاقتصادي. كان طريق الحرير القديم من أكبر شبكات المبادلات التجارية في العالم، بحيث اعتبرت في حينها محورا اقتصاديا بمعنى الكلمة، ربط أهم المراكز الحضارية والاقتصادية على الأرض حتى فجر الاستكشافات العظيمة.31إلا أن أهميتها الاقتصادية والثقافية قد تراجعت شيئا فشيئا إلى أن اختفت، على الرغم من أن بعض أقسامها كانت قيد الاستخدام حتى القرن العشرين. بيد انه في العقود الأخيرة أصبح إعادة إحيائها على جدول أولويات القيادة الصينية مرة أخرى. وقد أعطاها الرئيس الصيني شي جين بينغ Xi Jinpingزخما جديدا بوضعها في صميم سياسته الخارجية.

طريق الحرير، الذي كان مزدهرا لأكثر من ألف سنة، فقد تدريجيا أهميته العالمية، والسبب الكبير وراء ذلك هو أن الملاحة البحرية التي ازدادت قوة بفضل التكنولوجيات الجديدة، مثل البوصلة والسفن الأكثر أمانا، وما إلى ذلك، أعادت تشكيل الخريطة الجيوسياسية للأرض بشكل جوهري. مما دفع خطوط التجارة العالمية إلى اتخاذها بديلا عن الطرق التقليدية. لا يجب أن نغفل أيضا أن الحركية والتحولات الجيوسياسية التي عرفها مسار هذه الطريق الحافل بالنزاعات وتداول الممالك والدول جعلها أكثر خطورة وأقل أمانا.

ولم يقتصر دور تلك الطريق على التجارة فحسب، بل كان أيضا بمثابة نقطة التقاء الحضارات الكبرى في الغرب والشرق. حيث كانت بمثابة قناة أتاحت الفرصة لتبادل المعلومات والمعتقدات والأفكار والمذاهب الدينية والأساليب الفنية والتكنولوجيات. 32

وليس من قبيل الصدفة إذن أن حاولت بعض الدول الكبرى السيطرة على جزء كبير من طريق الحرير، ولكن دون جدوى حيث لم يحصل وأن نجحت دولة ما في هذا السعي.

ولكن ذلك لم يمنع الصين من محاولة إحياء هذه الطريق خدمة لمصالحها الجيوسياسية، فقد قررت بعث هذه الطريق مجددا من خلال المشروع الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ Xi Jinpingرسميا في 2013والذي أطلق عليه اسم: One belt, one road initiativeوالتي عرفت أكثر باسم مبادرة طريق الحرير الجديدة. ستقوم الصين من خلال هذا المشروع بشق آلاف الكلومترات من الطرق وشبكات السكك الحديدية، وبناء عشرات الموانئ والمحطات والجسور وشبكات الاتصالات وأنابيب الغاز والنفط على طول الطريق من آسيا إلى غرب أوروبا. ومشروعا آخر لطريق بحرية سميت: «21stCentury Road Economic Belt» 

2.                       من السلام الأمريكي PAX AMERICA، إلى السلام الصيني PAX CINICA

هذا المشروع سيسمح للصين بأن تجعل من نفسها مركزا للتجارة العالمية وتربط اقتصاديات كل هذه المناطق باقتصادها. وهو ما قد يعزز من مكانتها التي ظلت تنشدها وهي أن تكون مركزا للعالم.

كما أن اعتمادها على الجانب التاريخي ورموزه، جاء ليدعم السياسة الصينية الحالية وفي مقدمتها بناء آسيا جديدة محررة بشكل تام من التواجد والهيمنة الأمريكية. وتأكد هذا بشكل خاص، بعد تلقي الصين دعما قويا من طرف روسيا في جوان 2015للمشروع وقبولها الانضمام إليه بعدما تأكدت من أن المشروع لن يضر بمصالحها، وحرص الصين أيضا على تغليب الجانب الاقتصادي للمشروع ساهم في هذا التوجه الروسي.

وقد تم بالفعل إصدار ميزانية استثمارية بقيمة 40مليار دولار لهذا الغرض. وفي مارس 2015، أعلن رئيس الوزراء الصيني عن إنشاء صندوق استثمار خاص يسمى "شركة طريق الحرير المحدودة."

ومن الواضح أنه من خلال هذه المبادرة، تعتزم الصين توجيه اهتماماتها الجيوسياسية نحو آسيا الوسطى وأوروبا، وهي استراتيجية تهدف إلى الالتفاف على ساحل شرق المحيط الهادئ والتقليل من تأثير الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأقصى ونفوذهم المتزايد في المنطقة، خاصة مع إعلان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما استراتيجيته الجديدة في آسيا والمحيط الهادي والتي أطلق عليها تسمية المحور (The U.S Asia Pivot). 33

هناك العديد من المسالك لطرق الحرير التاريخية، ولكن الصين اختارت إحياء طريقين كما هو مبين في الخريطة رقم 3، واحدة عبر البر والأخرى عبر البحر. تسمى الأولى بـ "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير " تبدأ من شين جيانغ مرورا بكازاخستان وآسيا الوسطى وإيران والعراق وسوريا وتركيا وهكذا وصولا إلى أوروبا ثم تستمر من خلال بلغاريا ورومانيا وجمهورية التشيك وهولندا وألمانيا. من الواضح في المسار الذي اختير لهذه الطريق،وجود أهداف جيوسياسية. وهي ذات الملاحظة التي يمكن أن تقدم فيما يخص الطريق البحرية. فهو يتعلق بإعادة إدماج أفغانستان وباكستان والعراق وحتى إيران في الاقتصاد العالمي ببناء هذه الهياكل الأساسية الضخمة من بين أمور أخرى ومن ثم تنجح اقتصاديا مع البلدان التي فشلت فيها الولايات المتحدة عسكريا. أما الطريق الثاني المسمى "طريق الحرير البحرية للقرن الحادي والعشرين" ستنطلق من الموانئ الرئيسية في غوانغتزو وكانتون ويمر عبر تايلاند وفيتنام وماليزيا وسنغافورة ثم إندونيسيا والمحيط الهندي فسريلانكا ثم البحر الأحمر، ثم قناة السويس والبحر الأبيض المتوسط. ومن المتوقع أن تلتقي الطريقان البرية والبحرية في مدينة البندقية الإيطالية.

يتضح جليا بالنظر إلى طول هذه الطريق وأهمية المواقع التي تعبر منها، وأهمية البلدان الشريكة، أنه إذا نجحت هذه المبادرة، فإنها ستسمح للصين باستخدام جميع قدراتها ومهاراتها للقيام بدور رائد على الساحة العالمية. مثل هذا المشروع إذن يستجيب للأولويات الوطنية ويخدم المصالح الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية الصينية بشكل رئيسي. أدنى هذه الأولويات هو فك العزلة الحاصلة على غرب الصين والأقاليم المجاورة له، وكل ما يعني ذلك من مكاسب اقتصادية وتنموية هائلة. وأقصاه هو رؤية الصين لآسيا أو على الأقل وسط وشرق آسيا، قارة خالية من الوجود الأمريكي. 34

الخريطة رقم 3: طريق الحرير الجديدة

 

Source : Florent AMAT. « Chine et Eurasie. Quelles ambitions et contraintes pour les Routes de la soie? » https://www.diploweb.com/Carte-Chine-et-Eurasie-Quelles-ambitions-et-contraintes-pour-les-Routes-de-la-soie.html(تم تصفحه في 25أوت 2018)

 

وعلى الرغم من أن مشروع "طريق الحرير" الجديد يعرض كمشروع اقتصادي، فإن له أيضا مكونا استراتيجيا. وفى كتابه "الاستراتيجية الوطنية العظمى" الذي كتب في سنة 2001، حث الجنرال ليو يازو الذي كان في عام 2009المفوض السياسي لجامعة الدفاع الوطني بلاده على "التحرك غربا". 35واتخاذ جملة من الإجراءات، كإنشاء مراكز للتبادل الاقتصادي والتجاري في المناطق الحدودية، تكون بمثابة نواة لسوق مشتركة في آسيا الوسطى في المستقبل، مع الصين بوصفها الفاعل الرئيسي. كما دعا إلى فتح "جسر بري بين أوروبا وآسيا لتشكيل اتحاد اقتصادي أوروبي-أسيوي كبير وتنمية مصالح مشتركة مع الدول الغربية لتحييد الحصار الأمريكي للصين".36

من الواضح أن الصين اتخذت من طريق الحرير استراتيجية احتواء لها للضغوط الأمريكية الممارسة عليها وهي الالتفاف على ما يمكن أن يصدر من طرف هذه الأخيرة في بحر الصين الجنوبي وباقي الممرات البحرية التي هي تحت سيطرة الولايات المتحدة وحلفائها المباشرين. وعلى الرغم من أن الحكومة الصينية ترفض بشدة اعتبار مبادرة طريق واحد وحزام واحد، عل أنها مخطط جيوسياسي (وفقا للصيغة الرسمية: تشانغي، وهو ما يعني تقريبا مبادرة للعمل من أجل الصالح العام)،37إلا أنها تظل في الواقع مشروع يهدف إلى تحويل مسار التجارة الدولية للصين من المحيطات إلى البر الأوراسي. الرهان الذي يرمي إلى تجسيد طريق واحد حزام واحد، هو استعادة الدور الاقتصادي والسياسي والثقافي التاريخي للصين.

ومع هذا، لا تعني ضرورة الالتفاف برا رفض للمبادلات عبر البحر، والدليل على ذلك أن طريق الحرير البحري في القرن 21يشكل جزءا هاما من المشروع. ومع ذلك، فإن الطريق البرية تبقى تتمتع بقدر أكبر من الاهتمام، والتي، من وجهة النظر التاريخية، تعني محاولة الصين بكل هدوء القضاء تدريجيا على ما يسمى بالسلام الأمريكي PAX AMERICA، وولوج عصر السلام الصيني PAX CINICAفي آسيا.38

في الأخير يجب الإشارة أيضا، إلى أن هذه الطريق بغض النظر عن آثارها الإيجابية على الصعيد الجيوسياسي، فهي كذلك ذات أهمية لا تقدر بثمن بالنسبة للاعتبارات الداخلية البحتة المتعلقة بإدارة الحكومة الصينية لأقاليمها غرب البلاد. ذلك أن هذه الطريق ستكون فرصة لفك العزلة على هذه المناطق التي تتسم بصعوبة التضاريس والمناخ، وستشكل أيضا فرصة لنقل التنمية إليها والحضارة على غرار باقي أجزاء الصين. هذه المبادرة ستسمح للحكومة الصينية بوضع حد للنوايا الانفصالية والنزعة المعارضة التي تغلب على مواقف السكان في هذه المناطق ذات الأغلبية السكانية من غير الهان.

خاتمة

من الواضح أن التوجهات الجيوسياسية الصينية الحالية لا تزال تحت تأثير الكونفوشيوسية، وإن كانت لا تخضع فقط إلى هذا التأثير. وبالتالي لا يبدو أن الإدراك الجيوسياسي الصيني قد عرف تغيرا كبيرا بداية بالفلسفة التقليدية القائمة على أفكار كونفوشيوس، وصولا إلى النظام الشيوعي القائم منذ 1949. وحتى وإن حصل أنه تحت تأثير من الحزب الشيوعي الصيني والأيديولوجية الشيوعية، تراجع تأثير الكونفوشيوسية على التوجهات الجيوسياسية الصينية إلى حد ما. فمن ناحية، استوعبت الممارسات الجيوسياسية الصينية الحالية عناصر من الفلسفة الماركسية، دون أن تحول من أن تتبنى الصين في إطار ممارساتها الجيوسياسية الخريطة السياسية الحديثة للعلاقات الدولية.ولكن من الواضح أن الممارسات والتوجهات الجيوسياسية الصينية في السنوات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة كانت قريبة جدا إلى تبني المخرجات النظرية للمدارس الجيوسياسية الغربية.

لا يمكن أن ننفي أن الدولة الصينية اليوم لا تزال تعتبر الفلسفة الصينية التقليدية الكونفوشيوسية ذخيرة معرفية وعقائدية تؤثر في إدراك وتفاعل النخبة الحاكمة في الصين للشؤون العالمية، ولكن مع ذلك يبدو جليا تأثر صانع القرار الصيني بشكل ملفت للانتباه بما جاء به كل من هالفورد ماكيندر ونيكولاس سبيكمان وتلامذتهما من تنظير، يترجم بالأخص في الاهتمام الصيني المتزايد بالمناطق التي عدت من طرف هؤلاء جزءا من قلب العالم كما صنفوه في أعمالهم المشهورة. فطريق الحرير في شقها البري والبحري ستكون ترجمة فعلية لما جاءت به هذه المدارس النظرية في إطار الدراسات الجيوسياسية الكلاسيكية على اختلاف توجهاتها، بين من يغلب أهمية اليابسة مثل ماكيندر ومن يرى أن القوة تكمن في الهيمنة على البحار كما كان يعتقد أيضا ألفريد ماهان. وقد عملت الاستراتيجية الصينية اليوم على إيلاء أهمية واضحة لهذه الطروحات التي كانت في الماضي ولاتزال جزءا من خارطة الطريق التي اتبعتها بريطانيا ومن بعدها الولايات المتحدة في رسم سياساتهما العالمية.

وعلى هذا الأساس، يمكن النظر إلى الممارسات الجيوسياسية الصينية الحالية باعتبارها جملة متجانسة من المبادئ الجيوسياسية الكونفشيوسية القديمة يضاف إليها بعض المبادئ الشيوعية الحديثة إلى جانب التنظير الجيوسياسي الغربي، ولكن في تناغم كبير مع التحولات الدولية الحاصلة اليوم وبشكل متسارع.



الهوامش

1.المشروع الذي أعلن عنه الرئيس الصيني شي جين بينج Xi Jinpingفي سبتمبر 2013، والذي كشف فيه لأول مرة عن رؤية الصين الجديدة في إحياء طريق الحرير القديمة باسم مبادرة "طريق واحد حزام واحد" (OBOR)، اعتبره المتتبعون مخططًا لاستراتيجية كبرى لتوسيع نفوذ الصين عبر آسيا ومن ثم العالم.

2.                                               Laurent Murawiec. « L’Esprit des Nations, cultures et géopolitique.» Paris : Odile Jacob, 2002, p. 35.

3.Xavier Walter. « Petite Histoire de la Chine. » Paris : Éditions Eyrolles. 2007, p. 25

4.Jean-Vincent Brisset. « La chine, une puissance encerclée. » Paris : IRIS (collection Enjeux stratégiques) 2002, p. 24.

5.Ning An. "Confucian geopolitics: Chinese geopolitical imaginations of the US war on terror" Submitted in fulfilment of the requirements for the Degree of Doctor of Philosophy. School of Geographical and Earth Sciences College of Science and Engineering. University of Glasgow April 2017, p. 56

6.Ning An. Op. Cit, p. 58

7.Ibidp. 59

8.Ning An. Op. Cit, p. 60

9.Robert D. Kaplan. « La revanche de la géopolitique, ce que les cartes nous disent des conflits à venir. » Traduit de l’Anglais par Anaïs Goacolou. Paris : Éditions du Toucan, 2012, p. 297

10.                                            Ning An. Op. Cit, p. 63

11.                       وقعت حرب الأفيون في منتصف القرن التاسع عشر في فترة حرجة من التاريخ الصيني الحديث. حرب الأفيون الأولى خاضتها الصين ضد بريطانيا العظمى بين عامي 1839و1942. في حين وقعت حرب الأفيون الثانية، بين عامي 1856و1860، حيث خاضتها الصين هذه المرة ضد كل من بريطانيا العظمى وفرنسا مجتمعتين. خسرت الصين الحربين وكان من تبعات هزيمتها، التنازل عن إقليم هونغ كونغ لسيطرة بريطانيا، وفتح موانئها للتجارة دون قيد، ومنح حقوق خاصة للأجانب العاملين فيها. بالإضافة إلى ذلك، كان على الحكومة الصينية أن تذعن لقيام البريطانيين بزيادة مبيعاتهم من الأفيون في الأسواق الصينية.

12.                      طالع حول هذا الموضوع:

13.                                            Jack Patrick Hayes. « The Opium Wars in China. » Asia Pacific Foundation of Canada. https://asiapacificcurriculum.ca/system/files/2017-11/The%20Opium%20Wars%20in%20China%20-%20Background%20Reading_1.pdf(تم تصفحه في 12/09/2017)

 

14.                                            Robert D. Kaplan.Ibid, p. 298

15.                                            Ning An. Op. Cit, p. 65

16.                                            Ning An. Op. Cit, p. 67

17.                                            Robert D. Kaplan.Op. Cit, p. 298

18.                                            Xavier Walter. Op. Cit, p. 10

19.                                            Ning An. Op. Cit, p. 68

20.                                          Gérard Dussouy. « Les théories géopolitiques Traité de Relations internationales.» Tome (I), Pouvoirs comparés. Paris: l’harmatan, 2006, p. 274.

21.                                           Fan Di. "Reflecting on Deng Xiaoping’s ‘Cat Theory’ of Economic Reform.” THE EPOCH TIMES, October 18, 2016. https://www.theepochtimes.com/reflecting-on-deng-xiaopings-cat-theory-of-economic-reform_2173740.html(تم تصفحه في 20ديسمبر 2017)

22.                      "دولة واحدة ونظامان" هو مبدأ دستوري صاغه الزعيم الصيني دنغ زياو بينغ، لإعادة توحيد الصين في أوائل الثمانينيات. واقترح أنه لن تكون هناك سوى صين واحدة، ولكن المناطق الصينية مثل هونج كونج وماكاو وتايوان يمكن أن تحتفظ بنظمها الاقتصادية والإدارية الخاصة بها، بينما تستمر بقية الصين الاشتراكية بنظامها الخاص.وبموجب هذا المبدأ، يمكن للأقاليم المسترجعة أن تستمر في إقامة نظام حكومي قانوني ومالي خاص بها، بما في ذلك ربط علاقات تجارية مع بلدان أجنبية.

23.                                          Encyclopedia Universalis. https://www.universalis.fr/encyclopedie/chine-economie/2-le-decollage-de-l-economie-chinoise/

24.                                          François Joyaux. « Géopolitique de l’Extrême-Orient ». Tome I. Espaces et politiques, Bruxelles, Complexe, 1991, p. 136, In : Gérard Dussouy. « Les théories géopolitiques Traité de Relations internationales.» Tome (I), Pouvoirs comparés. Paris : l’harmatan, 2006, p. 273.

25.                                          Mehdi Taje. « Géopolitique de la Chine : enjeux et défis. » http://pf-mh.uvt.rnu.tn/324/1/Géopolitique_de_la_Chine.pdf. (تم تصفحه في 25/09/2017) p. 13

26.                                          Mehdi Taje. Op.Cit, p. 37

27.                                          Robert D. Kaplan. Op. Cit, p. 297

28.                                          Robert D. Kaplan. Op. Cit, p. 301

29.                                          Xavier Qin. « Introduction à la pensée stratégique chinoise traditionnelle. Principes anciens et applications actuelles» Civilisation, Avril 2010, http://www.china-institute.org/articles/Introduction_a_la_pensee_strategique_traditionelle_chinoise.pdf, p. 10, (تصفحه  في 12/02/2018)

30.                      هذه الاستراتيجية الصينية جاءت استجابة لضرورة احتواء الولايات المتحدة التي جاءت بمفهوم جيوسياسي جديد في أكتوبر 2011، والذي أطلقت عليه إدارة الرئيس أوباما اسم "المحور الآسيوي". تدفع هذه الاستراتيجية إلى تغيير شامل في سياسة الولايات المتحدة الخارجية من خلال التزامها بالحفاظ على الوضع الراهن في شرق آسيا، فضلا عن زيادة تفعيل دورها الإقليمي الرائد. تعد استراتيجية المحور الآسيوي في الأساس، مخططا جيوسياسيا بما يتضمنه من أهداف عسكرية وسياسية واقتصادية لمقارعة طموحات الصين. وفي إطار إستراتيجية المحور، عززت الولايات المتحدة تحالفاتها في المنطقة، وقامت بتجهيز الدول التي تعتبر من أهم المنافسين للصين (الفلبين واليابان وفيتنام) بأدوات عسكرية حديثة. وبدأت أيضا في نشر جزء كبير من إمكاناتها العسكرية في المنطقة.

31.                      يعود تاريخ طريق الحرير التاريخية إلى أحد أباطرة الصين من عائلة هان Hunالذي أوفد أحد رسله إلى أوروبا ومن ثم تحول ذلك المسار الذي اتخذه الرسول إلى طريق يتبعها التجار. يبلغ طول هذه الطريق 6500كم.

32.                                          Viktor Eszterhai. “The Geopolitical Significance of One Belt, One Road from a Historical Perspective.” PAGEO. Geopolitical Institute. March 14, 2017. www.geopolitika.hu/en/2017/03/14/the-geopolitical-significance-of-one-belt-one-road-from-a-historical-perspective/(تم تصفحه في 15/01/2018)

33.                                           Pan Zhiping. “Silk Road Economic Belt: A Dynamic New Concept for Geopolitics in Central Asia.” China Institute of International Studies,  www.ciis.org.cn/english/2014-09/18/content_7243440.htm  (تم تصفحه في 11/09/2017)

34.                                           Viktor Eszterhai. Op. Cit, www.geopolitika.hu/en/2017/03/14/the-geopolitical-significance-of-one-belt-one-road-from-a-historical-perspective/(تم تصفحه في 15/01/2018)

35.                                           Barthélémy Courmont.  « LA STRATÉGIE DU PIVOT VERS L’ASIE D’OBAMA EN QUESTION » Recherches internationales, n° 106, janvier-mars 2016,

36.                                           Rolland Nadège, « La nouvelle Route de la soie. Les ambitions chinoises en Eurasie », Politique étrangère, 2015/3(Automne), p. 136

37.                                           Rachel Vandenbrink. “Asia’s Turn to Geopolitics: China and Japan in Central and Southeast Asia.” http://web.isanet.org/Web/Conferences/HKU2017-s/Archive/77c581ce-94fe-4c91-815d-b5f337400688.pdf, (تم تصفحه في 16/12/2017)  p. 12

38.                                           Rolland Nadège. Op. Cit, p. 142

39.                                           Viktor Eszterhai. Op. Cit, www.geopolitika.hu/en/2017/03/14/the-geopolitical-significance-of-one-belt-one-road-from-a-historical-perspective/(تم تصفحه في 15/01/2018)

40.                                           Viktor Eszterhai. Op. Cit, www.geopolitika.hu/en/2017/03/14/the-geopolitical-significance-of-one-belt-one-road-from-a-historical-perspective/(تم تصفحه في 15/01/2018)


 

@pour_citer_ce_document

عبد الحليم غازلي, «الإدراك الجيوسياسي الصيني، بين موروث الماضي ومتطلبات الحاضر»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 92-107,
Date Publication Sur Papier : 2019-12-26,
Date Pulication Electronique : 2019-12-26,
mis a jour le : 02/02/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=6301.