نموذج التفكير الأنطولوجي عند فلاسفة اليونان Paradigm of the ontological thout among the Greec philosophers
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 VOL 17-2020

نموذج التفكير الأنطولوجي عند فلاسفة اليونان

Paradigm of the ontological thout among the Greec philosophers
ص ص 289-301
تاريخ الإرسال: 2019-09-05 تاريخ القبول: 12-04-2020

عبد الفتاح سعيدي
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

لقد ظهرت الابستمولوجيا على أساس أنها دراسة نقدية موجهة لنظريات ومناهج العلوم، ولكن توسيع مواضيع الدراسة جعل الاهتمامات الابستيمولوجية تطال دراسة النصوص والنظريات والمناهج الفلسفية. لقد بات الاشتغال الفلسفي على النصوص يستهدف بالأساس ما يقف وراء التفكير، يستهدف الوقوف على المقولات الثابتة التي تحكم مجتمعاً فلسفياً بأسره، وتظل بمثابة البنية التي فيها تدور مختلف المناقشات الفلسفية. في هذا الإطار يندرج موضوع «نموذج التفكير الأنطولوجي عند فلاسفة اليونان»، ففيما يتمثل هذا النموذج الإرشادي للتفكير اليوناني؟ وما عناصره؟ وما الصيغ التي اتخذها طيلة الفترة الممتدة من طاليس لأرسطو؟

 الكلمات المفاتيح

الابستمولوجيا، الانطولوجيا، البراديغم، النظرية، اللا وعي

L'épistémologie est l'étude critique qui concerne les théories et les méthodes scientifiques, mais l'amplification du domaine des études a laissé les préoccupations épistémologiques s'intéresser à l'étude des textes, des theories et des méthodes philosophiques. Aujourd'hui, le rôle des travaux philosophiques a l'objectif de creuser l’au-delà de la pensée consciente tout en visant les concepts qui contrôlent et gouvernent une société philosophique toute entière. Cela maintient la structure autour de laquelle tournent toutes les discutions philosophiques. Dans cette optique, la présente contribution intitulée « paradigme de la pensée ontologique chez les philosophes grecs », tente de répondre à nombre d’interrogations: que représente ce modèle ou plutôt ce paradigme dans la pensée grecque ? Quels sont ses éléments? Enfin, quelles sont les formules qu'il porte au long de toute la période entre Thalès et Aristote?

Mots-clés : épistémologie, ontologie, paradigme, théorie, inconscient

Epistemology is the critical study of scientific theories and methods, but the amplification of the field of study has left epistemological concerns in the study of philosophical texts, theories, and methods. Today the role of philosophical works is to achieve what is behind conscious thought, that is to say all the concepts that control and govern an entire philosophical society, and they remain the structure around which turn all the philosophical discussions. In this subject entitled as "model of the ontological thought among the Greek philosophers", that represents this model or rather this paradigm in the Greek thought? What are its elements? Finally, what are the formulas he carries throughout the entire period between Thales and Aristotle?

Keywords : Epistemology, ontology, paradigm, theory, unconscious

Quelques mots à propos de :  عبد الفتاح سعيدي

جامعة الشهيد حمة لخضر الواديabdosaidi69@gmail.com

مقدمة

لقد عرفت نهاية القرن التاسع عشر أزمة حادة عرُفت بأزمة الأسس. طالت هذه الأزمة مختلف ميادين المعرفة، وعلى وجه الخصوص الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا والفلسفة، حتى بات من غير المناسب، ابتداء من هذه الفترة بالذات أن يفكر الفيلسوف بتأسيس نظرية، أو مذهب فلسفي مبني على أسس ثابتة ومطلقة، يكون بإمكانه أن يفسر من خلالها؛ الطبيعة، والأخلاق والجمال وكل ما يتعلق بالوجود. كما لم يعد من الممكن لعالم في الطبيعة أن يؤسس لنظرية علمية قائمة على أسس مطلقة وثابتة. والسبب في ذلك يعود بالأساس إلى عدم الثقة بالوعي. فإذا كان الفكر الديكارتي ينطلق من: أن الوعي هو شرط الوجود، أي أننا لا يمكن أن نتناول أي موضوع بالدراسة، أو البحث دون أن نكون واعين به، والوعي في حد ذاته حقيقة يقينية واضحة تمام الوضوح. وهو أساس التفكير والحقيقة، وهو نقطة الانطلاق في كل بحث، لكن ماذا يحدث لو اكتشفنا أن خلف حياتنا الواعية يقبع اللاوعي، الذي يراقب وعينا ويؤسس له البديهة ويوجهه وفق الرغبات، والأهواء، والغرائز المكبوتة؟ لقد استفاق الإنسان على نسبية الوعي وعرف متيقناً أن الحديث عن نقطة البداية وعن الأساس الصلب ونقطة الارتكاز الأرخميديسية هو ضرب من الأوهام. فإذا كانت اهتمامات الفيلسوف الكلاسيكي تتمثل في تحديد نقطة البداية، واختيار أسس مذهبه بعناية، فإن وظيفته الراهنة تتوقف عند حدود القراءة. التي تتمثل في توظيف مختلف مناهج ومحتويات العلوم الإنسانية من اجل استخلاص لاوعي النص، ممثلاً في بنيته ومقولاته المسكوت عنها، والتي تقف طول الوقت موجهة للخطاب ومتحكمة فيه، ومراقبةً له.فإذا نظرنا إلى نصوص الفلسفة اليونانية كونها تمثل نقطة بداية التفكير الفلسفي، وإلى تلك الاختلافات الجذرية في المواقف إزاء الإشكاليات المتعلقة بالوجود، والمعرفة، والقيم، فهل يمكن اختزال كل تلك الاختلافات، والتناقضات في نموذج إرشادي أو براديغم واحد، ظل يمارس سلطته الابستمولوجية على وعي فلاسفة اليونان على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم؟ وإن كان هناك نموذج موحد، فكيف يمكن الكشف عن طبيعته وخصائصه؟ وقبل الخوض في هذه المسائل، هناك سؤال يتبادر بالطبيعة إلى الأذهان وهو: ما المقصود بالنموذج الإرشادي أو البراديغم؟

ما هو النموذج الابستمولوجي (البراديغم)؟   

يقابل هذا المصطلح في اللغة الفرنسية (modèle épistémologique)وهو الفكرة نفسها التي ظل فلاسفة العلم يطلقون عليها التسميات المختلفة، فهي البراديغم عند كل من كوهن وإدغار موران، وهي الابستيمي عند ميشال فوكو، وهي برنامج البحث عند إمري لاكاتوس، وهي البنية عند جون بياجيه وهكذا.. يلعب البراديغم (Paradigme) في الوقت نفسه دورا خلفيا وسلطويا في كل نظرية، مذهبا كانت أو إيديولوجيا.

يتميز البراديغم أولاً بأنه لا واعي، ولكنه يغذي التفكير الواعي، ويشرف عليه، ووفق هذا المعنى، فهو فوق واع.  أول ما ظهر هذا المصطلح ظهر في كتابات الفيلسوف الأمريكي توماس كوهن (1922- 1996) وبالتحديد في مؤلف "بنية الثورات العلمية" يرى أن البراديغمات تقود البحث عن طريق صنع صورة مثالية مباشرة، ومن خلال القواعد المجردة أيضاً.   (1)

وخلاصة القول: إن البراديغم يؤسس العلاقات الأساسية التي تكوّن البديهيات، تٌحدِّد التصورات، تحكم الخطابات والنظريات. وأخيراً فهو ينظم فيها النظام، ويولد فيها ما يتولد، أو يعيد توليده من جديد.(2)والأهم من ذلك كله أن البراديغم يبقى هو: الأرضية التي تدور فوقها مناقشات كثير من الفلاسفة في مدة قد تتجاوز العديد من القرون على عديد القضايا ولكن يبقى القالب هو نفسه.فالنموذج الإرشادي أو الابستمولوجي هو ما يجب على الفيلسوف أن يحفر ليجده. عناصره تمثل المسكوت عنه في الخطابات والنصوص. توجد بنيته على مستوى اللاوعي، وهي التي تؤسس لكل ما يتعامل معه الوعي على أنه بديهي، واضح، ومتميز، لا يحتاج برهاناً، ولا دليلاً لإثبات وجوده. وهو ما يسعى الابستمولوجي للكشف عنه.يعرّف جون بياجيه الابستمولوجيا بقوله: «نعني بكلمة "أبستمولوجيا" كل تفكير ينصب على طرق وأشكال وقوالب المعرفة (modes)، وليس على محتويات هذه المعرفة في حد ذاتها، إنها دراسة تدخل في إطار النقد، إنها تتعلق بدراسة طرق وكيفيات التفكير(3)، ولا يتعلق الأمر هنا بالمعرفة العلمية فقط بل بالفلسفية الأخلاقية والدينية وغيرها.

ما هو نموذج التفكير الأنطولوجي عند فلاسفة اليونان؟

البحث عن الأساس/ ميزة الفلسفة

يتميّز التفكير الفلسفي منذ نشأته بميزة يجب على كل فيلسوف أن يأخذها بعين الاعتبار، تتمثل هذه الميزة في البحث عن الأساس، البحث عن نقطة الانطلاق (le point de départ)، عن نقطة ارتكاز ارخميدية يرتكز عليها عند تفسيره للوجود، أي تفسير هذا العالم الذي يحيط بالإنسان، من أجل أن يكون لهذا العالم معنى، يفهم الإنسان من خلاله كل هذه الاضطرابات والتغيرات التي تعتريه من جهة وهذه الأشياء المتكثرة من جهة أخرى.

وكلمة أساس في الأصل في لغة اليونان («ἀρχός= arkhos») لها معان عدة يجب أن نأخذها بعين الاعتبار عند تحليل الأساس في الفلسفة اليونانية منها: القديم، الأول،الحاكم، المراقب، الرئيس وغيرها.

لحظة طاليس/ بداية الفلسفة

يكاد يجمع مؤرخو الفلسفة على أن طاليس هو أول فيلسوف، أي أنه أول رجل فكّر بالمعايير التي نفهمها نحن اليوم عن الفلسفة. لقد بدأ في البحث عن أساس يستند عليه في عملية فهم الوجود من داخل الوجود ذاته، أي لابد أن يكون هناك كائن فاعل ينتمي إلى هذا الوجود، وهو أصل وعلة كل ما يحدث داخل الوجود. وهذا هو المعنى الذي يمكن فهمه من الأساس الأنطولوجي الذي كان البحث عنه نقطة بداية الفلسفة. لقد كان الفيلسوف الألماني نيتشه منشغلاً تماماً بالبحث في فكرة الأساس، وبالحفر عميقاً بحثاً عن الجذور، عن الجذور الأصلية التي تشكل نقطة البداية، وبالبحث تحديداً عن بداية البدايات، وإذا كان كل فيلسوف لا يبدأ بالتأمل في أي موضوع قبل أن يبدأ في التأمل في الفلسفة في حد ذاتها. فكيف بدأت الفلسفة؟ وما هي نقطة انطلاقها؟ وإذا كانت الفلسفة اليونانية هي نقطة البداية الرسمية للتفلسف – كما يجمع عن ذلك الفلاسفة الغربيون- فما هي بداية البداية؟ وكيف بدأت الفلسفة اليونانية؟ وفيما يتمثل هذا الأصل؟ كانت هذه الأسئلة وغيرها تدور باستمرار في خلد نيتشه، هذا الفيلسوف الألماني الذي يمكن أن نطلق عليه بحق فيلسوف الأسس التي تختفي وراء الأقنعة. يقول: «يبدو أن الفلسفة اليونانية تبدأ بفكرة غريبة: القضية القائلة بأن الماء هو أصل كل الأشياء. هل من الضروري حقاً أن نتوقف عند هذه الفكرة وأن نأخذها على محمل الجد!؟ .. بالتأكيد. وذلك لثلاثة أسباب: أولاً، لأن هذه الجملة تتناول بطريقة ما أصل الأشياء، ثم السبب الثاني، لأنها تتناوله دون صورة وبمعزل عن السرد الخيالي، وأخيراً، السبب الثالث، لأن هذه الجملة تتضمن، ولو بشكل جنيني، فكرة أن الكل هو واحد. وحسب السبب الأول، مازال طاليس ينتمي إلى طائفة المفكرين الدينيين والخرافيين، ولكنه يخرج عن هذه الطائفة للسبب الثاني، ويظهر لنا كمفكر في الطبيعة. أما السبب الثالث فإنه يجعل منه أول فيلسوف يوناني.» (4)

إذن فمن هذا النص النيتشوي الهام نرى أن بداية الفلسفة كانت مع طاليس بسبب أنه قد بحث في أصل الأشياء، وهذا أول مبرر لاعتبار طاليس أول فيلسوف، لأن البحث عن الأساس وتحديده، يشكل هذا العمل صميم البحث الفلسفي، وإن كانت الفلسفة تشترك مع الأسطورة في الانشغال بالبدايات المطلقة، في البدايات التي تتعالى عن كل تحديد في التاريخ، غير أن البداية في الأسطورة فيها إطلاق عنان للخيال، فيها حديث عن كائنات خارقة للوجود، تتمثل في بدايات وأصول تقع داخل دائرة اللامعقول، وهذا ما يجعلها غريبة تماماً عن الفلسفة، التي وإن شاركت الأسطورة في الانشغال بالبداية، لكن البداية في الفلسفة وما يترتب عنها من أفكار، فيها حرص أن يكون ذلك في دائرة المعقول، دائرة التبرير المنطقي والعقلاني، حيث تصبح علاقة الأصل بالوجود، علاقة مقدمة كبرى بما يترتب عليها من نتائج. إن أهم ما جعل نيتشه يقتنع بأن طاليس أول فيلسوف، هو ملامح فكرة أن الكل هو الواحد. وإذا كان التفكير الفلسفي هو تفكير بالمقولات، فإن اختزال الفيلسوف للكثرة في مقولة الواحد، لهو تعبير عن فكرة الأساس أو الأصل بمقولة الواحد، الذي تتلاشى عند حدوده كل المعاني التي يمكن أن تأخذها الكثرة. لقد كان اختيار طاليس الماء أصلاً للكون، لأنه هو العنصر الذي تلتقي عنده بقية العناصر، فإذا كانت عناصر الكون هي ماء وهواء وتراب ونار، فإن الماء هو الذي يمكن أن يتحول إلى تراب كما نرى في طمي الأنهار، ويمكن أن يتحول إلى نار كما نرى في برق العواصف الذي يحرق الغابات، ويتحول إلى هواء كما نرى في الأبخرة التي بفضلها تتكون السحب القاتمة. ومنه فالماء هو العنصر الذي تشتق منه كل العناصر، وبِلُغة الفلسفة فهو الواحد الذي تتولد عنه كل كثرة. إن الأمر المُلاحظ في الفلسفة اليونانية أن طاليس هو الفيلسوف الوحيد الذي انفرد بالقول بأن الماء هو الأصل، هو أساس وجود كل الكائنات، لكن الأمر الأكثر أهمية أن الفلسفة اليونانية من بدايتها إلى نهايتها ما هي إلا تكرار لما قاله طاليس، الفلسفة اليونانية من الألف إلى الياء ما هي إلا استنساخ لفكرة واحدة، هي نفسها التي أراد من خلالها طاليس أن يكشف عن الأساس الذي يتولد عن كل الوجود. لقد ظل انشغال طاليس الفلسفي يمثل لاوعي فلاسفة اليونان، حيث يختفي وراء الستار ليوجه اهتمامات الفلسفة اليونانية الفكرية، ويجعلها تدور برمتها في فكرة واحدة، هذه الفكرة تتمثل في البحث عن الأساس الأنطولوجي للوجود.

تنوع الأساس الأنطولوجي

بدأ البحث في فلسفة اليونان بالبحث عن الأساس الأنطولوجي، لأن التفكير في الوجود كان بؤرة اهتماماتهم، ومحور تفكيرهم، لذلك نرى أن تناولهم لمختلف المواضيع الفلسفية متعدد، وإجاباتهم تختلف، تتناقض فيما بينها، ولكن تبقى الإشكالية المطروحة هي نفسها. والمُلاحَظ أن الفلسفة اليونانية قد عرفت نقاشات عديدة وتنوعا وتعددا في وجهات النظر في اختيار الأساس، يمكن اختصارها في ثلاث وفق المعيار الذي اتخذه أرسطو – ملخص الفلسفة اليونانية – في أنواع الوجود، حيث يميّز هذا الأخير بين ثلاثة أنواع للوجود؛ وجود «يتحرك ويسكن من ذاته» وهو: «الموجود القابل للحركة والذي لا يفارق المادة»، وهو ما يطلق عليه الوجود الطبيعي، ووجود: «لا يتحرك إلا أنه لا يوجد مفارقاً للمادة» وهو الوجود الرياضي، ووجود «أزلي، لا يتحرك ولا يوجد في مادة». وهو الوجود الإلهي أو الميتافيزيقي.(5)مما لا شك فيه أن هذا التقسيم قد نضح في تفكير أرسطو بعد استقرائه لمختلف محاولات الفلاسفة في البحث عن الأساس الوجودي الذي يفسر به ما يحدث في الوجود من كثرة وتغير.ووفق هذه الفكرة الأرسطية يقسم يوسف كرم الدور الأول من الفلسفة اليونانية، أي المرحلة من طاليس إلى أرسطو، إلى وقتين اثنين: ففي الوقت الأول –يقول- نرى ثلاثة اتجاهات متزامنة تمثل الوجهات الثلاث التي يمكن تبينها في الوجود، ويؤلف مجموعها الفلسفة الموضوعية: وهي الوجهة الطبيعية، والوجهة الرياضية، والوجهة الميتافيزيقية. ذلك أن الفكر يتجه أولاً نحو الخارج ويطلب حقيقة الأشياء؛ فإما أن يستوقفه التغيّر[..] فيدرك أن الأجسام المختلفة مصنوعة من مادة أولى هي محل التغيرات، فيبحث عن هذه المادة التي تتكون منها الأجسام، ثم تعود هي هي تحت التغيرات المتنوعة المتعاقبة، وإما يعنى بتركيبها، وشكلها، وترتيبها، ويعلم أن النظام في العدد، وإما أن يستعصى عليه تفسير التغير فينكره ويقول بالوجود الثابت، فالوجهة الأولى أخذ بها طاليس وأنكسيمندريس وأنكسيمانس، وهيراقليطس [..] والوجهة الثانية أخذ بها فيثاغورس، والوجهة الثالثة هي المدرسة الأيلية. في الوقت الثاني اجتاز العقل اليوناني أزمة عصيبة، هي أزمة السفسطائية، كان مركزها أثينا في أيام بركليس. شكك السفسطائيون في العقل وفي مبادئ الأخلاق، وحاربهم سقراط. [..] (6)ما يهمنا في هذا النص فكرتان أساسيتان؛ فكرة تتعلق: بتنوع الأساس الأنطولوجي الذي حاولت من خلاله الفلسفة اليونانية أن تفسر كل ما يحدث في الوجود، وهي تتضمن في الوقت نفسه أن هذا الأساس يجب أن يكون واحداً، وليس أكثر من ذلك، وفكرة تثبت مرور الفلسفة اليونانية بأزمة خانقة، وأن هذه الأزمة قد حدثت تحديداً في زمن السفسطائيين. نبدأ أولاً بفكرة تنوع الأساس الأنطولوجي عند اليونان، هذا الأساس الذي أخذ ثلاثة أشكال أو لها:

1- الأساس الطبيعي

    لقد كانت البداية مع طاليس، وكان معه الماء هو أساس الوجود. والماء من الموجودات الطبيعية، أي التي تتحرك وتسكن من تلقائها. وبقي الحوار قائماً بين أقطاب المدرسة الأيونية حول أي العناصر الطبيعية جدير بأن يكون هو الأساس الذي يفسر ما يحدث في الوجود.  وإذا استثنينا فكرة الأبيرون عند انكسمندريس يكون الأساس الطبيعي هو: الأساس الحسي لكل الأمور الحسية. وهنا يأخذ الأساس معنى العنصر البسيط، الذي منه تتشكل الأشياء. إن النقاشات الساخنة بين أنصار الأساس الطبيعي قد انتهت إلى وقوع هذه المدرسة في أزمة حادة، تمثلت هذه الأزمة تحديداً في فلسفة هيراقليطس القائلة بالتغير، حيث صرحت بأن أساس التغير هو التغير ذاته(7)، ولا وجود البتة لمفهوم الثبات. ويمكن التعبير عن منطوق هذه الأزمة، في أن الفلاسفة الطبيعيين قد انطلقوا ابتداء للبحث عن أساس التغير، لكنهم ما لبثوا إلى أن انتهوا إلى أن التغير هو أساس الوجود. أي أن التغير هو أساس ذاته. لكن مقولة الانفصال التي يأخذ بها براديغم التفكير اليوناني تفرض أن يكون الأساس منفصلاً عما يُراد تفسيره.

2- الأساس الرياضي

لقد نظر الفيثاغورسيون إلى أن العالم: «نغم وعدد». والسؤال الذي يجدر بنا طرحه هنا هو: إذا كان العدد شيء مجرد، أو ما يمكن تسميته وجود الأذهان –على حد تعبير فلاسفة المسلمين- فكيف تسنى للفيثاغورسيين النظر إليه على أنه كائن انطولوجي، له حقيقة مستقلة عن الذات، أو بتعبير آخر له خصائص تؤهله ككائن يتمتع بالوجود؟

يعرف أرسطو العدد على أنه: موجود يوجد في المادة ولكنه لا يتحرك، (حسب نص سابق). فهو كائن له وجود مستقل عن الإنسان. كل تأملات المدرسة الفيثاغورسية، تتعلق بالأعداد (جدول فيثاغورس)، وبالهندسة (مبرهنة فيثاغورس)، وهي تأملات

 في الأعداد المقدسة وفي التناسبات، تسلّم باختزال كل المعطيات المعقدة إلى معطيات بسيطة، فيها انتقال من المعقد إلى العنصري، أو بتعبير آخر من المتصل إلى المنفصل. كل عدد هو معطى عنصري، السلاسل العددية هي تجاور لعناصر منفردة؛ لا شيء مشترك بين العدد والتي يليه. الأشكال كذلك هي نتيجة ترابط معطيات بسيطة؛ من النقاط يمكن أن نرسم خطاً، ومن ترابط الخطوط نحدد المساحات ومن ترابط المساحات تتولد الأحجام وهكذا. وفي كل أمر بالانطلاق من المعطيات المنفصلة يمكن أن ننشئ مواضيع متصلة. (8)في هذا النص هناك اعتماد على مقولة الانفصال، يتحدد الوجود الأنطولوجي للشيء، لأن كل منفصل هو قائم بذاته، وله خواص مستقلة، تخصه هو فقط، دون غيره من الأشياء. يقول إخوان الصفا في رسائلهم، وهم من أتباع الفيثاغورسية: « اعلم أن ما من عدد إلا وله خاصية أو عدة خواص، ومعنى الخاصية أنها الصفة المخصوصة للموصوف الذي لا يشاركه فيها غيره، فخاصية الواحد أنه أصل العدد ومنشأه » (9)ولعل من أهم مبررات نظر الفيثاغورسيين إلى العدد على أنه كائن يتمتع بالوجود الأنطولوجي، هو ربطه بالهندسة أو علم المكان، ذلك لأن إخضاع الفيثاغورسيين العدد إلى الهندسة ناتج عن رمزهم للأعداد الحسابية بالنقط.. وكانوا يرتبون تلك النقط في أشكال هندسية كالمستقيم، والمثلث، والمربع، والمخمس، ومتوازي الأضلاع، فيحصلون بذلك على الأعداد المستقيمة والمثلثة والمربعة وهكذا، أي أنهم يحصلون على أشكال هندسية، وابتداء من هذه الأشكال يتوصلون إلى الأعداد، إذ وضعوا القواعد لكل شكل منها للحصول على ترتيب النقطة الأخيرة فيه الدالة على عدد أضلاع الشكل مهما كان امتداده وكبره. وإنه لمن السهل إدراك القاعدة العامة التي تعرف بها قيمة العدد  في أي شكل هندسي، فهي على سبيل المثال في العدد المثلث: ، وفي العدد المربع:  وهكذا. (10)

بقيت ملاحظة في غاية الأهمية تتمثل في أن الموقف الفيثاغورسي يتميز بنضج فكري يتجاوز مستوى طرح الأيونيين. ذلك أن السؤال الذي يطرح ابتداء على الأيونيين هو كالتالي: كيف تحددت الموجودات المحسوسة التي نشاهدها كهذه الشجرة وهذا الحصان من هذه المادة الأولى اللا محدودة؟ لا نجد عند الأيونيين جواباً شافياً، ولا يكفي القول بالانضمام و/الانفصال، أو التكاثف و/التخلخل، في بيان العلة في تحديد الأشياء. وهنا نرى الجواب واضحاً عند فيثاغورس، وذلك أن الشكل الهندسي "محدود" كالمثلث، أو المربع، أو المستطيل، أو أي شكل آخر من هذه الأشكال، وحدوده هي هذه الخطوط الخارجية. وهذا الشكل ثابتا ينطبق على جميع الأفراد.

وقد تطور هذا الشكل عند أفلاطون فأصبح المثال، وعند أرسطو فأصبح الصورة. وهذا هو فضل فيثاغورس في تاريخ الفلسفة إذ استطاع أن ينتزع الصورة المحدودة من المادة اللا محدودة، مما عجز عنه الطبيعيون الأُول، أو قل إن المدرسة الأيونية ركزت اهتمامها في المادة فقط، على حين أن فيثاغورس انصرف إلى الصورة وحدها. (11)أو إن شئت فقل بأن أساس التفسير الأنطولوجي كان عند الأيونيين هو المادة ذاتها؛ بحركتها، وكثرتها وتغيراتها، وأنظر كم يثير هذا الموقف من غرابة تنتاب التفكير أثناء عملية التفسير. انتقل تفكير الفيثاغوريين لما هو ثابت وساكن بالرغم من مرافقته للمادة المتحركة، المتكثرة. وفي هذا الانتقال تبدأ معالم الميتافيزيقا في التحدد، لأن الشكل (العدد) يمثل مظهر الوحدة داخل الكثرة، إذ يمكن لكثير من الأشياء، التي يمكن أن تكون لها أشكال مثلثة، أو مربعة، أو دائرية، أن تغير هذه الأجسام من أشكالها وحركاتها ولكن يبقى في الذهن مثلث واحد، له خصائص ثابتة خالدة. والكلام نفسه يُقال على الدائرة أو المربع، أو النقطة، أو المستطيل. وفي هذا الطرح بداية تفضيل رؤية المعقول على رؤية المحسوس، إنها بداية الطريق الذي يضعنا فوق السكة، إنها بداية التفكير الميتافيزيقي.  

3- الأساس الميتافيزيقي

من خلال مناقشتنا لكل من الأساسين الطبيعي والرياضي للوجود، نلمس أن هناك بعض المؤشرات في الفكر اليوناني على القول بالميتافيزيقا سواء في الموقف الطبيعي للمدرسة الأيونية كالقول: إن الكثرة أساسها الوحدة عند القول مثلاً بأن الماء هو أساس الوجود، أو في الموقف الرياضي للفيثاغورسيين، الذي تم تحليله في الفقرة السابقة. لكن البداية الحقيقية للميتافيزيقا كانت مع المدرسة الأيلية وبالضبط مع بارمنيدس. كيف كان مولد الميتافيزيقا مع نموذج التفكير الأنطولوجي اليوناني؟

    هناك مبدآن أساسيان قام عليهما نموذج التفكير الانطلوجي اليوناني هما: 1مبدأ الانفصال و2مبدأ التناظر. وسوف نرى كيف كان لهما دور بالغ في تعزيز الأساس الأنطولوجي في تفكير الإغريق. يمكن الانطلاق ابتداء مع أزمة الفيثاغورسيين ومقولة الانفصال، وكيف حدثت هذه الأزمة نتيجة اكتشاف عدم وجود الأساس الأنطولوجي الرياضي للوجود. وكيف كانت هذه الأزمة بداية جدية لانغماس الفكر اليوناني في التفكير الميتافيزيقي.

الشكل «1»عنوان الشكل والمصدر

حسب تفكير الفيثاغورسيين، ووفق مقولة الانفصال يمكن أن يكون لأي قطعتين مستقيمتين غير متساويتين: [AB] و[CD] أساساً مشتركاً، يمكن اعتباره كأساس للقياس، يتمثل هذا الأساس في القطعة المستقيمة [JH]، بحيث أن قسمة: [AB]/ [JH]= عدد طبيعي. وكذلك قسمة: [CD]/ [JH]= عدد طبيعي آخر. يمكن أن نقول في هذه الحالة أن القطعة[JH] أساس لتقايس القطعتين المستقيمتين، أو ما يطلق عليه بالفرنسية (La commensurabilité)أي (mesure - commun) أو القياس المشترك. وهذا الأساس لا يكون الإنسان حراً في اختياره، بل يتحدد بذاته في عملية القياس، وهذا يعني أن هذا الأساس ذو الطابع الأنطولوجي، ليس مجرد أمر معرفي يبتكره الإنسان، بل هو شيء موجود ينبغي استكشافه.  إن أزمة الفيثاغورسيين تتمثل في اكتشاف عدم وجود هذا الأساس. لقد كان لهذه الأزمة اليد الأطول في نضج التفكير الميتافيزيقي، حيث لم يبق من بد سوى التفكير في الوجود الذي لا يتحرك ويكون مفارقاً للمادة. وكانت البداية مع بارمنيدس. ويكاد يجمع الفلاسفة أن بارمنيدس هو مؤسس الميتافيزيقا بمعناها الحالي.

ذهب بارمنيدس في قصيدته الشهيرة(12)أن الإنسان يقف في مفترق طريقين: طريق الظن، ويقصد به طريق الحواس، وطريق الحق، ويقصد به طريق الحقيقة واليقين. من خلال هذا النص وغيره، نفهم كيف أن اليونان لم تكن نظرتهم ابستيمولوجية للأمور، بمعنى أن ما تقدمه الحواس والعقل للإنسان هي معارف، أفكار، وأن ما فيها من نقائص أو كماليات فهي لا تعود إلى طبيعة هذه الأدوات المعرفية، بل يتعلق الأمر بطبيعة العالم الذي تنفتح عليه هذه الأدوات. الحواس والعقل – في تصور بارمنيدس- ما هما إلا طريقين يوصلاننا إلى عالمين مستقلين عنّا، عالم كائناته متحركة، متكثرة، متغيّرة.. وبالتالي فهو عالم مظنون. وعالم له كائن واحد ووحيد هو الوجود، وهو كائن ساكن، ثابت، أزلي.      


نظر اليونان إلى الأفكار على أنها كائنات، لها وجود موضوعي مستقل عن الإنسان. وبالتالي فالعقل ليس هو الذي يبدع الأفكار أو يتمثلها ولكنه يراها فقط. والفيلسوف وظيفته رؤية الأفكار مثلما ترى العين الأشياء المحسوسة، وهذا ما نلمسه في تعريف أفلاطون للفلسفة، وكذلك في تعريف أرسطو الذي يحدد دور العقل ليس في إنتاج الأفكار بل في فصل الصورة عن الهيولى.

   إنّ (الفكرة = الكائن) هي التي جعلت اليونان يتصورون أن فكرتنا عن الشيء هي الشيء نفسه، ووفق مبدأ التناظر فإن استقلال المشهد (الصورة الحسية) عن العين، حيث إنها قادمة من كائن، فكذلك الفكرة (الصورة العقلية) مستقلة عن العقل. فإذا كانت العين تجعلنا نرى ونعيش العالم الحسي الفيزيائي، فكذلك استعمال العقل يجعلنا نرى ونعيش عالماً مناظراً للعالم الفيزيائي وهو عالم الميتافيزيقا. إذن فمع طريق العقل نشأت الميتافيزيقا، ووفق مبدأ الانفصال نشأت كعالم انطولوجي مستقل عنا، ووفق مبدأ التناظر نشأت كعالم مناظر للعالم الفيزيائي، كأساس أنطولوجي يقف وراء عالمنا المحسوس. يقول برغسون: «يبدأ تاريخ الميتافيزيقا في اليوم الذي أشار فيه زينون الإيلي للتناقضات المتعلقة بالحركة وبالتغيّر، وذلك كما يتمثلهما الذكاء أو العقل البشري» (13)

وإذا كان من نتائج الطرح الميتافيزيقي القول بمستويين منفصلين للحقيقة، مستوى مزيف، ظاهر للحواس، ومستوى أصيل، باطن، ظاهر للعقل فقط. لكن مفارقات زينون الإيلي من أجل دعم الطرح الميتافيزيقي قد أوقعت الفلسفة في أزمة أدت إلى إنكار العلم الطبيعي والقول بالزمان والمكان، علاوة على إنكار الكثرة من جهة (14)وإنكار الحركة من جهة أخرى. (15)

إذن فكل من الأسس الثلاثة انتهى بأزمة، الأمر الذي جعل الإلحاح في البحث عن الأساس الأنطولوجي يتحرك وفق تيارين متنافرين تماماً؛ تيار توفيقي يحاول تجاوز أعراض الأزمة في كل من الأسس الثلاثة، وهو التيار الذي تمثله النزعة الذرية. وتيار متشكك يهدم الحقيقة من أصولها، وهو التيار الذي تمثله النزعة السفسطائية. فكيف يمكن توضيح تعامل كل من هاذين التيارين المختلفين مع مظاهر وأعراض الأزمة؟        

النزعة الذرية/ التوفيقبين عناصر الأسس الثلاثة:

ظهرت المدرسة الذرية مع مؤسسيها الأوائل لقيوبوس وديمقريطس في لحظة حرجة مر بها التفكير اليوناني تمثلت في أزمة البحث عن الأساس الأنطولوجي القادر بكل فعالية تفسير كل مظاهر الوجود. 

تظهر الصلة مع المدرسة الإيلية من هذا النص الهام لثاوفراسطس تلميذ أرسطو عند حديثه عن لوقيبوس، يقول: «لوقيبوس من ايليا أو ملطيا، كان قد اتصل بفلسفة بارمنيدس ومع ذلك فإنه لم يتبع في تفسيره للأشياء الطريق عينه الذي اتبعه بارمنيدس واكسينوفان، بل ذهب إلى العكس حسبما يبدو. ذلك أن بارمنيدس واكسينوفان قالا بأن الكل واحد، لا متحرك، غير مخلوق ومتناه [..] أما هو فقد قال بعناصر لا عدد لها، دائمة الحركة، سماها ذرّات.»  (16)إذن فهدف الذرّيين إثبات الحركة والكثرة اللذان أنكرهما الإيليون، وفي هذا الطرح تجاوز للأزمة التي أوقع الإيليون الفلسفة فيها، وفي الوقت نفسه تجاوز للأزمة التي وقع فيها أنصار الأساس الطبيعي، والتي تنظر إلى الوجود على أنه كثرة وتغير، ولا شيء وراء ذلك، حيث ينظر الذريون إلى أن الذرة، ككائن خالد وثابت، هي ما يقف خلف كل تغير وكثرة. وفي طرح الخلود والثبات الكامنين خلف التغير والكثرة، ما يتوافق مع طرح الإيلين.يرى أرسطو أن الإيليين قالوا بالوجود الثابت وأنكروا التغير، لأن ذلك يستدعي القول بالخلاء، ولما كان الخلاء عدماً ولا شيء، فإن الحركة والتغير لا يمكن أن يكونا، فلما رأى الذريون ذلك قالوا بما قال به الإيليون من أن الوجود أزلي ابدي ثابت لا يقبل التغير وقالوا أيضا إن الخلاء لا شيء. لكنهم قالوا من ناحية أخرى، بعكس ما قال به الإيليون وهو: أن الوجود يحتوي أيضاً إلى جانبه العدم والخلاء، وذلك لأنهم لم ينكروا التغيرات ولم يعدوها من خدع الحواس، كما قال الإيليون، بل قالوا إن التغير شيء حقيقي، ولما كان شيئاً حقيقياً فيجب أن نبحث عن تفسيره، ولما كان تفسيره لا يتيسر إلا عن طريق الخلاء، فقد وجب القول بالخلاء. (17)ومنه فإن خصائص الذرة هي نفسها خصائص الوجود الذي أشار إليه بارمنيدس، حيث يتميز بالوحدة والبساطة والامتلاء. احتفظ لوقيبوس ببعض صفات الواحد البارمنيدي، من حيث إنه أزلي لا يتغير، وإن الوجود ملاء. فالذرة هي الواحد البارمنيدي، ولكن يوجد منها عدد لا نهائي، ولا يمكن أن تنقسم الذرة كما ذهب إلى ذلك زينون في إبطال الكثرة. ولكن لوقيبوس ينتقد الإيليين انتقاداً مراً في إنكارهم شهادة الحواس، ويقول: إن المجنون وحده هو الذي يزعم أن النار والثلج شيء واحد. (18)    

ذهب لوقيبوس إلى أن العالم يتكون من مبدأين هما: الملاء والخلاء، وهما يوازيان الوجود واللا وجود عند بارمنيدس، غير أن بارمنيدس أنكر وجود اللا وجود الذي ترتب عنه إنكار الحركة والكثرة. أما لوقيبوس فقد سلم بوجود هذا اللا موجود (الخلاء) حتى يفسر وجود الكثرة والحركة. (19)            

 يبقى الآن السؤال: كيف يمكن التوفيق كذلك مع مبادئ الفيثاغورسيين؟ الذرية والفيثاغورسية؛ العدد هو: مبدأ الوجود عند الفيثاغورسيين، وعند الذريين مبدأ الوجود هو: الذرة؛ العدد لا يقبل الانقسام وكذلك الذرة، الأعداد لا متناهية وكذلك الذرّات. النظام والترتيب الموجود هو: نسبة بين الأعداد عند الفيثاغورسيين، وهو نسبة بين الأعداد عند الذريين.ويصف أرسطو مذهب الذريين في كتاب السماء، فيقول: «وهناك أيضاً رأي آخر – وهو رأي لوقيبوس وديمقريطس من أبديرا- لا يمكن التسليم بنتائجه. فعندهما أن الأجسام الأولى (الذرّات) ذات عدد لا نهاية له، وجرم لا ينقسم، فلا يكون الواحد كثيراً، ولا الكثير واحداً. وتتولد سائر الأشياء من تجمعها وحركتها. ولكن هذا الرأي يشبه أن يجعل الأشياء الموجودة في الخارج أعداداً أو مركبة من أعداد». (20)     

كان الفيثاغورسيون يقولون بأن الأشياء أعداد، أو أشكال، وأن هذه الأشكال تشغل سطحاً، فالأشكال الرياضية كالعدد المثلث أو المربع تقطع بحدودها هذا السطح، فجاء لوقيبوس واعتمد على هذا التفسير، وجعل الذرات أشكالاً، ولكنها مادية طبيعية لا رياضية، وجعل السطح الذي تشغله هو: "الخلاء". وهكذا يمكن أن نفهم كيف ذهب أرسطو إلى القول بأن الذرات أعداد. (21)           هذا كل ما يتعلق بالمدرسة الذرية وتوجهها التوفيقي، أما عن التيار التشكيكي فكيف يمكن أن نرى ملامحه وخطاطاته مع أقطاب النزعة السفسطائية؟

السفسطائية/ معنىأزمة الفلسفة اليونانية

أن انتشار السفسطة في أثينا هو: تعبير صارخ عن الأزمة الحادة التي تمر بها الفلسفة في هذه المرحلة بالذات. وإذا كان فلاسفة أي فترة من فترات التاريخ يركزون في نقاشاتهم وبنائهم للأنساق والمذاهب على أساس محدد يتمثل في: الإشكالية الرئيسية التي تدور فيها كل نقاشاتهم، فإذا دخلت الفلسفة في أزمة فهذا يعني أن هناك شك في جدوى الأساس، وبالتالي جدوى الإشكالية الكبرى التي تجمع وتوحد نقاشاتهم.

والأزمة حالة مفاجئة يمكن أن تصيب النموذج الإرشادي، لأن الذي يجعل النموذج في حالة قوة وثبات قدرته على توجيه واحتواء الإشكاليات التي تظهر في الواقع بشكل مفاجئ. هذا يعني أن النموذج هو: القالب الذي يحدد الشكل، والبنية التي تُصاغ فيها كل إشكالية فكرية طارئة، فإذا حدث عجز لأفراد المجتمع العلمي أو الفلسفي لتلك الفترة في صياغة المستجدات وقف الأساس، القالب الفكري المُعد للتفسير يقع هذا الأخير في حالة أزمة. تقول يمنى طريف الخولي بأن ظهور الشذوذ تتلوه محاولة لاستكشاف مجاله، والمواءمة بينه وبين النموذج الإرشادي، ومحاولة تعديل أدوات النموذج. ولكن إذا بدا إسراف في هذا التعديل فهَاهٌنا أزمة. والأزمة تعني؛ أنه قد آن الأوان للخروج من سياق العلم العادي وتعديل النموذج، ومن خلال فكرة الأزمة كمرحلة انتقال من نموذج إرشادي، إلى نموذج لاحق لا تبدو المعرفة هنا بشكل تراكمي بل بشكل ثوري. (22) وإذا كان لكل أزمة أعراض فإن أزمة الفلسفة في كل عصر يمكن أن تتجلى في عرضين اثنين يتمثلان في استفحال النزعة الشكّية من جهة، والبحث عن المنهج الذي يُخرِج من الأزمة من جهة أخرى، المرحلة الأولى تمثل السفسطائية كمظهر لها، والمرحلة الثانية هي مرحلة سقراط.

النزعة الشكّية:أهم ما ميّز مرحلة السفسطائيين هو سيطرة الشك المطلق،ذلك الشك الذي عبّر عنه جورجياس(23)بقضاياه الثلاث:(1)- لا يوجد شيء. (2) - وإذا كان هناك شيء فالإنسان قاصر على إدراكه. (3) - وإذا فرضنا أن إنساناً أدركه، فلن يستطيع أن يبلِّغه لغيره من الناس. (24)

وعبرّ عنه بروتاغوراس بمسلمتين أساسيتين هما: (1) - المبدأ الأول ينحصر في اعتبار الحواس هي مصدر المعرفة لا العقل. (2) - المبدأ الذي يعتبر الإنسان مقياس كل شيء. (25)

من خلال النظر في قضايا جورجياس ومقارنتها بمسلمتي بروتاغوراس يمكن الحصول على النتائج التالية:

(1) - ما دام الإنسان هو مقياس (أساس) كل شيء، إذن لا يوجد شيء، لأن وجود الشيء مقترن بأساس وبأصل انطولوجي، مستقل عن الإنسان. الشيء الذي أساس وأصل وجوده هو الإنسان لا وجود له. وبالتالي فهناك رفض قاطع لأن يكون الإنسان هو: مقياس للوجود، لأن قبوله يؤدي إلى التسليم بالأساس المعرفي.

(2) - وحتى وإن فرضنا وجوده، فالإنسان قاصر على معرفته، لأن الحواس هي مصدر معرفته، والحواس لا تقدم لنا إلا الكثرة والتغير. ومعرفة الشيء تتوقف على أساسه الواحد وراء الكثرة، الثابت وراء التغيّر.

(3) - وحتى وإن عرفه الإنسان فلن يستطيع أن يبلغه، لما تحتويه اللغة من ثغرات تجعل تحديد الأساس أمراً مستحيلاً.

إذن فإشكالية الوجود ترتبط بإشكالية المعرفة، وإشكالية المعرفة ترتبط بإشكالية اللغة.

سقراط/ تعديل بنية الأساس الأنطولوجي

يبدو لكثير من الباحثين أن لحظة سقراط تشكل قطيعة معرفية مع ما سبقها من الفلسفة اليونانية، على أساس أنه قد حوّل اهتمام الفلاسفة من البحث في الطبيعة، إلى البحث في الإنسان. على أساس أنه قد نقل محور الاهتمام من البحث فيما هو خارج الإنسان إلى/ ما هو داخل الإنسان، والأبحاث التي قام بها سقراط في المستوى نفسه للأبحاث التي قام بها ديكارت في بداية القرن السابع عشر. السؤال: كيف يمكن تقييم اللحظة السقراطية بالنظر إلى لحظة طاليس؟ هل اللحظة السقراطية تشكل بحق لحظة انفصال وقطيعة معرفية ومنهجية مع ما سبقها؟ بصيغة أخرى: هل هناك انقلاب على الأساس؟

يقول ولتر ستيس: «فإذا كانت المشكلة المطروحة في المرحلة الأولى من الفلسفة هي أصل العالم، وتفسير الوجود، فإن المرحلة الثانية للفلسفة تبدأ بالسفسطائيين بطرح مشكلة وضع الإنسان في الكون. لقد كانت آراء الفلاسفة الأول في كليتها كونية. أما آراء السفسطائيين فهي إنسانية تماماً.» (26)ويقول يوسف كرم: «قيل عن سقراط إنه يشطر الفلسفة اليونانية شطرين: ما قبله وما بعده، ودعي ديكارت أباً للفلسفة الحديثة وعُدّ الحد الفاصل بين القديم والجديد في تطور الفكر الأوروبي. كذلك نقول عن كانط إنه يشطر الفلسفة الحديثة نفسها شطرين» (27)من خلال هذين النصين يتضح أن الفلسفة اليونانية من طاليس إلى أرسطو قد حكمها نموذجان اثنان، الأول كسمولوجي، أي مركزه التفكير في الكون، والثاني مركزه التفكير في الذات الإنسانية. وأن أزمة الفلسفة التي حدثت في فترة السفسطائيين قد أدت إلى نهاية براديغم، وبداية براديغم جديد، كان تأسيسه مع سقراط، وشُيّد عليه مذهبا كبيران يمثلان الأفلاطونية ثم الأرسطوطاليسية. لكن التدقيق في الأمر يكشف أنه براديغم واحد من طاليس إلى أرسطو. المطلوب الآن: كيف يمكن إثبات هذه الحقيقة؟ أي كيف يمكن النظر إلى أن ما فكر فيه كل من سقراط، وأفلاطون، وأرسطو ما هو إلا امتداد للبراديغم الذي كان سائداً قبل سقراط، وهو النموذج الأنطولوجي؟

منهج سقراط/ فهم المشكل وبداية حل الأزمة

يقول سقراط: «كل ما أعرفه، أني لا أعرف شيئاً». هذه عبارة يعترف فيها سقراط صراحة بجهله. والجاهل الواعي بجهله ويريد أن يخرج من هذه الوضعية، يجب أن يطرح الأسئلة على من يدعي علماً بالخطابة والجدل (السفسطائي). وهذا يعني أنه يجري حواراً، وإذا كان الحوار يتمثل في تبادل المعارف مع الآخر، فإنه يمثل من جهة أخرى تجاوزاً لكون الإنسان (الفرد) مقياساً للحقيقة، فإذا سلمنا بالطبيعة النقدية للحوار السقراطي المتمثل في التهكم، فإن هذا يعني تجاوز المعيار الذاتي كأساس للأشياء، لابد أن يكون المعيار (الأساس) مستقلاً عن المتحاورين، وكلما امتد الحوار حدث اقتراب من الأساس المُوحّد. عندما يسأل سقراط محاوره عن الجمال، يتلقى إجابات نابعة من الحواس، وكل حسب مقياسه، من الذي يرى أن الجمال يتمثل في زهرة، أو وجه امرأة، أو القمر. ولكن سقراط يتجاوز هذا المستوى الذي ينبع من مقياس ذاتي، لأن معرفته حسية. يتحول السؤال عن الجمال في حد ذاته، عن القواسم المشتركة التي تدخل في كل ما يمكن أن نحكم عليه بالجمال. والخلاصة أن الحوار السقراطي يبدأ من المعيار الذاتي لكل شخص، وينتهي إلى المعيار الموضوعي (الأنطولوجي) الذي يتجاوز كل شخص، يبدأ من مستوى المعارف الحسية وينتهي إلى مستوى المعرفة العقلية الخالصة، وأخيراً يبدأ من المعارف الجزئية المتكثرة وينتهي إلى معرفة كلية واحدة. وهكذا ينتهي الحوار إلى اختزال الكثرة في مقولة الوحدة، وهذه هي الفكرة الأساس التي تمثل نقطة الانطلاق في الفلسفة اليونانية. والنتيجة أن أهمية منهج سقراط الحواري يتمثل في دحض مقولة جورجياس التي تسلم بعدم إمكانية التعبير عما نعرفه. لقد كانت أهمية سقراط في تاريخ فلسفة اليونان في ربطه بين المفهوم (الشق المعرفي) والتعريف (الشق اللغوي). يقول ولتر ستيس معبراً عن هذا: «وطالماأن سقراط يضع المعرفة كلها في المفاهيم، إنما يجعل العقل أداة المعرفة، بخلاف السفسطائيين الذين وضعوا المعرفة كلها في الإدراك الحسي. ولما كان العقل هو العنصر الكلي في الإنسان فإنه يترتب على التوحيد بين المعرفة والمفاهيم أن سقراط يستعيد الإيمان بالحقيقة الموضوعية الصادقة بالنسبة للجميع، والملزمة للجميع، والمدمرة للتعاليم السفسطائية القائلة: إن الحقيقة هي ما يختاره كل فرد على أنه حقيقي».(28)ثم يستطرد بعد ذلك قائلاً: «والتعريف هو نفسه المفهوم؛ حيث يتكون بالطريقة نفسها، وذلك بإدراج الصفات العامة لفئة الأشياء واستبعاد الصفات التي يختلف فيها أعضاء الفئة. والتعريف في الحقيقة هو مجرد التعبير عن المفهوم بالكلمات. ونحن بعملية تثبيت التعريفات نحصل على معايير موضوعية للحقيقة.(29)

 من إشكالية اللغة إلى إشكالية المعرفة

يؤدي الوصول إلى الحد الكلي إلى ضبط التصور، وبالتالي إلى المعرفة. يتمثل التهكم في تذليل صعوبات الإشكالية اللغوية. كما يتمثل التوليد في اختزال المشكلة اللغوية في مشكلة معرفية. إن التلاعب بالألفاظ وإثبات الشيء ونقيضه هو ضرب من الكذب، وبالتالي فحلُّ الإشكال والوصول إلى المعرفة هو نوع من الفضيلة، والجهل هو نوع من الرذيلة.

يبدو للقارئ لفلسفة سقراط أن هناك نسيانا للقضية الأساسية المتمثلة في البحث عن المعيار، البحث عن الأساس الأنطولوجي للوجود، خصوصاً عندما نكتشف أن انشغال سقراط الرئيسي تعلق بالمسائل الأخلاقية لا الطبيعية. السؤال: كيف يمكن تفسير هذا الإهمال أو هذه اللامبالاة بالمسائل الوجودية الطبيعية؟

إذا سلمنا بأن البراديغم أو الابستيمي الذي يوجه انشغالات الفلاسفة اليونان القدامى يمكن تلخيصه في العبارة التالية: «البحث عن الأساس الأنطولوجي للوجود» فيجب أن ننتبه إلى نقطة في غاية الأهمية، تتمثل في أن هذا البراديغم يظل يمارس تأثيره اللاواعي على الانشغال السقراطي، وعلى انشغال غيره من الفلاسفة. لكن هذا لا يعني أن البراديغم لا يتفاعل مع مختلف اللحظات الراهنة التي يمر بها الواقع الثقافي والاجتماعي للمجتمع، لأن الوعي بقدر ما يتأثر بتوجيهات اللاوعي يتأثر كذلك باللحظة الراهنة التي يعيشها الفيلسوف؛ فإذا كانت إشكالية البحث عن الأسس الأنطولوجية تراود سقراط، وتشكل محور تفكيره غير أن واقع أثينا في ذلك الزمان منشغل بالأساس بالديمقراطية، وبحرية التعبير، وبمختلف المسائل الإنسانية التي تخص حياة المواطن داخل المدينة، الأمر الذي جعل البحث في الطبيعة وفي أسس الوجود من المسائل التي لا تحظى بالاهتمام كلام مبتور، فوقعت الفلسفة في تلك الفترة في أزمة حادة، نتيجة عدم قدرة الفكر (الوعي) اليوناني على التوفيق بين براديغم التفكير وما استجد من أحداث على مستوى الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي. وتعدّ فلسفة سقراط، ليس على مستوى المنهج فقط، بل على مستوى الموضوع، محاولة جريئة ونظرة فلسفية ثاقبة تجعل من براديغم التفكير اليوناني يرتدي قناعاً جديداً يجعله ملائماً لطبيعة اللحظة السقراطية. لقد صرف سقراط الاهتمام بالمسائل الطبيعية وكرّس جهده وانشغاله الأساسي بالمسائل الأخلاقية. إذا كان الاهتمام بالمسائل الطبيعية يجعل الفيلسوف يوجه أنظاره إلى كثرة الظواهر الطبيعية وتغيرها من أجل الوقوف على أساس يفسر هذه الكثرة ويردها إلى وحدة تجمع بين كل العناصر المتكثرة، وهو ما سبقت الإشارة إليه، فإن الاهتمام بالمسائل الأخلاقية يجعل الفيلسوف يوجه أنظاره إلى كثرة السلوكيات البشرية، وتغيرها من شخص لآخر، خصوصاً إذا كان كل واحد يعدّ نفسه مقياساً للحقيقة بمفرده، وذلك من أجل الوقوف على الأساس الواحد، الثابت، المشترك بين الجميع، والذي يمكن أن يحكم سلوكهم وتصرفاتهم ، ويختزل هذه الكثرة في مبدأ الوحدة، في مبدأ مفارق للجميع، وبتعبير دقيق في أساس انطولوجي للأخلاق. ومن هنا نفهم كيف أن سقراط لم يخرج عن حدود البراديغم الذي رسم طاليس حدوده ذات يوم، لكن ما يراه بعض مؤرخي الفلسفة على أنه انشطار في الفكر اليوناني وقطيعة ابستيمولوجية، لا أراه أنا شخصياً سوى استبدال عناصر معينة داخل بنية فكرية ثابتة. وبناء على هذا فيمكن قراءة فلسفة سقراط على المستوى المنهجي كردة فعل على قضايا جورجياس الثلاث. هذه القضايا تعبير ووصف للأزمة التي وقعت فيها فلسفة اليونان، ومنهج سقراط ما هو إلا ردة فعل نقدية منهجية تخرج هذه الفلسفة من أزمتها من جهة، وتعيد الأمور إلى نصابها من جهة أخرى. فإذا كان جورجياس يقرر إشكالية تقرير الوجود ويربطها بإشكالية معرفته، وإشكالية معرفته بإشكالية التعبير عنه. فإن سقراط قد انتبه إلى أن حل إشكالية الوجود يبدأ بإشكالية اللغة، لأن حل هذه الأخيرة يحل إشكالية المعرفة، وحل هذه الأخيرة يحل إشكالية الوجود، لكن سقراط استبدل إشكالية الوجود بإشكالية الأخلاق، لأن الواقع الراهن قد استبدل اهتماماته بالطبيعة إلى اهتماماته بالإنسان.إن أزمة الفلسفة اليونانية في لحظة سقراط تتمثل في أزمة الفشل الذريع في إيجاد أساس انطولوجي يفسر الوجود، ولعل بلوغ جورجياس مرحلة اليأس من وجود الأساس أدى إلى رفض الوجود، والوقوع في الشك المطلق، ثم يختزل إشكالية الوجود في إشكالية المعرفة، ثم في الأخير يختزل إشكالية المعرفة في إشكالية اللغة. ولذلك أصبحت اللغة أداة يُثبت بها وجود الشيء وعدم وجوده. وأصبح الانشغال الأكبر بمسألة اللغة. ماذا كان السفسطائي يعلم الناس؟ كان يعلمهم البلاغة والخطابة والجدل. وكلها مواضيع تدور في اللغة، لكن كل هذا يعكس إدراك السفسطائيين لأهمية اللغة في الخروج من الأزمة التي وقعت فيها الفلسفة، ولكن التلاعب بالمعاني، وبالألفاظ جعلهم لا يخرجون من عنق الزجاجة. والذي يرجع له الفضل في إخراج الفلسفة من أزمتها هو سقراط. لقد أدرك هذا الأخير أن المنهج النقدي المنصب على اللغة وعلى أساليب القول هو الذي يفضح المتلاعبين بالألفاظ، ويؤدي لا محالة إلى تحديد المعنى تحديداً دقيقاً، يمكّن من ضبط التصورات. وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى حل إشكالية المعرفة.

أفلاطون/ من إشكالية المعرفة إلى إشكالية الوجود:

نرى في فلسفة أفلاطون تناظرا بين المعرفة و/ الوجود. وسنرى بعد هذا كيف يحاول أفلاطون في منهجه "الجدل الصاعد" أن ينتقل من إشكالية اللغة إلى إشكالية المعرفة، متأثراً في ذلك بأستاذه سقراط، ثم يحوّل إشكالية المعرفة إلى إشكالية الوجود، من خلال إعطاء المثل بعداً انطولوجياً، وجعْل العالم الذي توجد فيه المثل عالماً مستقلاً عن عقل الإنسان.

وبالمِثل فإذا كانت العين تبصر الأشياء الموجودة في العالم الخارجي فإن العقل كذلك يبصر الأفكار بصفتها كائنات توجد في عالم المثل، وبهذا كان تعريف الفلسفة، فإذا كانت الفلسفة هي رؤية بالعقل، فإن هذه الرؤية هي رؤية للأساس المُفارق، رؤية للأساس الذي يفسر ما تراه العين من أشياء محسوسة في عالم الواقع. وبعد أن يطمئن أفلاطون إلى المثل بصفتها كائنات لها وجود موضوعي، انطولوجي، يمكن النظر إليه كأساس موضوعي لكل ما في عالم الواقع، يقوم بعد ذلك من خلال الانتقال من إشكالية الوجود إلى/ إشكالية الأخلاق.

ويعتمد أفلاطون على مبدأ التناظر، حيث إن كل شيء في الوجود (في عالم الحس) له مجموعة كبيرة من الصفات، بعضها ثابت والبعض الآخر متغير؛ الصفات المتغيرة لا أهمية لها، بينما الصفات الثابتة هي التي تمثل ماهية الشيء؛ ففي عالم الحس، نجد ما لا حصر له من الأحصنة، مختلفة الألوان والصفات والأحجام. ولكن هناك صورة، شكل (eidos)، مشترك، يوجد في (كل) الأحصنة، ويبقى (ثابتاً) في الحصان رغم كل التغيرات التي تحصل له. هذا الكلي (الذي يختزل الكثرة في الوحدة)، وهذا الثابت (الذي يتحدى التغير) هو الذي يمثل الحقيقة.

وبناء على هذه الفكرة، ظهر ما يسمى بالأنواع والأجناس، فعن طريق استقراء الأفراد، نصل إلى مفهوم النوع (الصورة المشتركة بين الأفراد)، ومفهوم الجنس (الصورة المشتركة بين كل الأنواع). وجنس الأجناس (الصورة المشتركة بين كل الأجناس). وعن طريق هذا التراتب في الوجود، صنف أفلاطون المثل وحدد علاقاتها ببعضها وجعل أعلاها تماماً هو: الخير. فكلّما يكون المثال أكثر صدقاً يكون أكثر حقيقة؛ فحقيقة الجمال أكثر من كل الأشياء الجميلة. من خلال الشكل «2» نرى كيف يبدو التناظر بين المعرفة و/الوجود.

(30)


الشكل «2»عنوان الشكل والمصدر

أرسطو/ تلخيص فلسفة اليونان وِفق أساسها الوحيد:

    ينطلق أرسطو من العالم الحسي، الذي نراه بحواسنا التي تقدم لنا صوراً حسية متغيّرة ومتكثرة، التي يجب في الوقت نفسه أن نراها بعقولنا. يرى أرسطو بأن ماهية هذا العالم الحسي تتمثل في أنه عالم مركب، وليس عالماً بسيطاً، خلافاً لما ذهب إليه الطبيعيون الأوائل (طاليس، انكسيمان، هيراقليطس، انباذوقليس)، الذين اكتفوا بالبحث عن العلة المادية للأشياء. ووفقها نحن عاجزون عن تأويل ظاهرة التغيّر، أو الصيرورة في الكون، ما لم ندخل علة فاعلة إلى جانب العلة المادية (كالعقل الذي قال به انكساجوراس، أو الحب و/الكراهية اللذين قال بهما أنباذوقليس) وهكذا دفعوا بالفلسفة قدما،ً وارتفعوا بها عن صعيد المادية المحضة. إلا أنّهم غفلوا عن العلة الصورية (الماهية أو الجوهر) والعلة الغائية.

أشار أفلاطون إلى العلة الصورية في وضعه للمثل. أما العلة الغائية، فلم يفصح عنها القائلون بالمثل من جهة، أو القائلون بالعلل الفاعلة من جهة أخرى. وهذا يعني أن أرسطو هو صاحب الفضل في التنبيه لأهمية هذه العلة. (31)

خاتمة/ ضبط الأساس الأنطولوجي: لانضع لها عنوان وإنما نتحدث عنه داخلها.  يحذف العنوان من الخاتمة.             

إذا نظرنا إلى الفلسفة اليونانية على أنها مجموعة من الخطابات، هذه الخطابات تمثلت في مجموعة من النصوص كُتبت في مراحل متلاحقة في تاريخ هذه الفلسفة، وكتبت بصيغ مختلفة، وكان التعبير عن الأساس الأنطولوجي بأشكال مختلفة يخال معها الباحث البسيط أن: الفلسفة اليونانية قد عرفت انشغالات مختلفة واهتمامات جعلتها تشكل انقطاعات أو تحولات ابستيمولوجية جذرية في تاريخ هذه الفلسفة، لكن الواقع أن الفلسفة اليونانية – في تصوري الشخصي- قد عرفت نضجاً وتعميقاً كبير لإشكالية الأساس الأنطولوجي التي طرحها طاليس، وبقي الهيكل الصلب لهذه الفلسفة ثابتاً، لم يعرف البتة الانفصام. وتمثل هذا الهيكل في نموذج الأساس الأنطولوجي الذي كرس توجيهه للتفكير الفلسفي اليوناني، بالاعتماد على آليتين دقيقتين تمثلتا في: مقولتي الانفصال و/التناظر. يقولفندلبند في هذا المضمار: إن علم اليونان خصص حياته الأولى وما لها من قوة شباب لدرس قضايا الطبيعة، وأغفل البحث في أعمال الفكر، واكتفى بالبحث في العالم الخارجي. فكان أهم ما اهتمت به تلك الفلسفة مسائل الطبيعة والفلك والجغرافيا، وعلى الخصوص الظواهر الأساسية العظمى، ثم تدرجوا بعد ذلك في البحث، فلم يقصروا نظرهم على الأعمال الطبيعية المادية، بل حاولوا معرفة الأساس الذي يطرأ عليه التغير، والبحث في التغير ومعرفة أساسه هو المحور الذي تدور فيه النظريات الفلسفية، ويشمل أعظم القضايا الأساسية التي يبحث عنها علم ما بعد الطبيعة.

وهذا التغير – أعني أن الأشياء يتحول بعضها إلى بعض- هو الذي بعث على التأمل والنظر، وحمل فلاسفة اليونان على الجد في تقرير قواعد لهذا العالم القٌلَّب الحٌوَّل الذي قد تتغير فيه الأشياء فجأة إلى أضدادها. (32) ويرى اشبنجلرمن جهة أخرىأن: الروح اليونانية كانت مرتبطة باللحظة الحاضرة، وليس بالماضي، أو المستقبل، ومن هنا تسود عندها فكرة؛ السكون، والنتيجة هي النفور من فكرة اللا تناهي، وإيثار فكرة المتناهي. من جهة أخرى تمتاز الروح اليونانية بخاصة الانسجام،(33)ومن المؤكد أن يكون الأساس متجذراً في الحاضر، وتبقى خصوصياته مرافقة للوعي مهما تقدم الزمن

الهوامش

1. توماس س. كون: بُنية الثورات العلمية، ت: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2007، ص 117

2.Edgar Morin : Les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur, Seuil, UNESCO, Paris, 1999, p9. 

3. Cité par : Jean Milet, Ontologie de la différence ; une exploration du champ épistémologique, Editions Beauchesne, 2006, p 23 (bas page)  

4. فريدريك نيتشه: الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي، ت: سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1983، ص 46.

5. ماجد فخري: أرسطو، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، بدون طبعة، 1958، ص21    

6.يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف والطباعة والنشر، 1936، ص ص 910 

7.                      Héraclite : Fragment : 36, In : Textes Des Grands Philosophes ; Antiquité, Roger Verneaux, Beauchesne éditeur, Paris, 1962, pp 6- 8   

8.Jean Milet : Ontologie de la différence ; Op. cit., p 35           

9. رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، دار المحرر الأدبي، 1928، ص 70 

10.                     محمد ثابت الفندي: فلسفة الرياضة، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1969، ص35.

11.                      أحمد فؤاد الأهواني: فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1954، ص 84.

12.                     أحمد فؤاد الأهواني: فجر الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص ص 129130

13.                                           Henri Bergson : La pensée et le mouvant, Presse Universitaire de France, 3ème éd., 1990, p 8               

14.                                           Edouard Zeller : La philosophie des grecques, t2, trad. De L'allemand par Emile Boutroux, Hachette, Paris, 1882, pp 73-77.           

15.                                           Edouard Zeller : La philosophie des grecques, Op. cit.,  pp 77-79 .       

16.                     أنظر: عزة قرني: الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، جامعة الكويت، 1993، ص 75  

17.                      عبد الرحمان بدوي: موسوعة الفلسفة، ج1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1984، ص 507    

18.                     أحمد فؤاد الأهواني: فجر الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص 213

19.                      أحمد فؤاد الأهواني: فجر الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص 214 

20.                     أحمد فؤاد الأهواني: أفلاطون، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1991، ص 212 

21.                     أحمد فؤاد الأهواني: أفلاطون، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1991، ص 213 

22.                    يمنى طريف الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين، عالم المعرفة، الكويت، العدد: 264، ديسمبر2000، ص 402

23.                     جورجياس (480 ق.م- 375 ق.م)، ولد في ليونتيوم، وتتلمذ على يد انبادوقليدس، واشتغل بالطبيعيات. اهتم باللغة والبيان، فكان أفصح زمانه وأبلغهم. جاء إلى أثينا يطلب العون لمدينته على أهل سراقوصة، فأعجب الناس بأثينا ببلاغته.

24.                     فردريك كوبلستون: تاريخ الفلسفة، ج1، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2002، ص 149

25.                     ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1991، ص ص 54- 55

26.                     ولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1984، ص 97

27.                     يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1986، ص 208

28.                     ولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص 126.

29.                     ولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص 126.

30.                     أحمد فؤاد الأهواني: أفلاطون، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1991، ص 82 

31.                      ماجد فخري: أرسطو، مرجع سابق، ص ص 17- 18

32.                     نقلاً عن: أ. س. رابوبرت: مبادئ الفلسفة، ت: أحمد أمين، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2012، ص 62.

33.                     عزة قرني: الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، مرجع سابق، ص 13 

 

@pour_citer_ce_document

عبد الفتاح سعيدي, «نموذج التفكير الأنطولوجي عند فلاسفة اليونان »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 289-301,
Date Publication Sur Papier : 2020-04-23,
Date Pulication Electronique : 2020-04-23,
mis a jour le : 23/04/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=6920.