المقاييس الحجاجيّة في تفسير " روح المعاني " لشهاب الدّين الألوسي.Pilgrimage Standards in Interpreting the 'Spirit of Meaning' for Alusi Religion
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N:02 vol 17-2020

المقاييس الحجاجيّة في تفسير " روح المعاني " لشهاب الدّين الألوسي.

Pilgrimage Standards in Interpreting the 'Spirit of Meaning' for Alusi Religion
ص ص 280-289
تاريخ الإرسال: 2017-05-30 تاريخ القبول: 2020-06-22

نوال نمّــيـر
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

       الحجاج فعاليّة خطابية خرجت من رحم البلاغة القديمة، فـتــلــقّـفـتها الأسلوبيّة والتّداوليّة واستثمرت آلياتها وطّبقتها على عديد النّصوص فآتت أكلها وثمارها كلّ حين.

       وتهدف هذه الدّراسة إلى اتّخاذ المقــايــيس الحجاجيّة مــناويل يــتوصّل بها إلى دراسة الخـطاب التّفسيريّ، محدّدا في كتاب " روح المعاني " للألوسيّ، مركّزة على أطره، ومنطلقاته ووظائفه، التي سعى من ورائها الألوسيّ جاهدا إلى إقناع المتلقّين، وجعل العقول تسلّم لما يطرح عليها من أفكار وقضايا تحصيلا للطّاعة والإذعان، مرمى كلّ محاجّ.

الكلمات المفاتيح

الحجاج، الإقناع، المتلقّي، المقاييس الحجاجيّة، الخطاب التّفسيريّ

L’argumentation est une performance discursive née au temps de la rhétorique antique, puis ressuscitée par la stylistique et la pragmatique. Fructueuse comme stratégie, son efficacité est confirmée dans de nombreux textes et en tout temps. La présente étude a pour but de prendre les paramètres argumentatifs comme des archétypes qui mènent à l’étude du discours explicatif, précisément dans l’œuvre L’âme des sens de son auteur Al-Aloussi . En se basant sur ses contextes, ses points de départ et ses fonctions, l’auteur s’efforce de convaincre les récepteurs de son œuvre et vise à amener les esprits à adhérer aux idées et aux thèses proposées afin d’acquérir obéissance de ces lecteurs et leur soumission, visée de chaque argumentateur.

MOTS-Clés:L’argumentation, Convaincre, Le récepteur, Les paramètres argumentatifs, Le discours explicatif

Argumentation is a discursive efficiency which is derived from ancient rhetorics and retained by stylistics and pragmatics while investing its mechanisms and applying then on many texts. So, it is fruitful at all times, or rather it gives its fruits all the times. This study aims to take the argumentative parameters as archetypes examples to the study of the explanatory discourse speech precisely in the work «The Soul of Meaning» by «Al Aloussi». The latter is based on its contexts, starting point and functions as well through which he strives to initiate the ideas and theses which are proposed to acquire for obedience and submission aimed by each debater.

Key words:Argumentation, convincing, receiver, Argumentative parameters, explanatory discourse

Quelques mots à propos de :  نوال نمّــيـر

جامعة محمّد لمين دبّاغين سطيف 2nawal.nemir@gmail.com

مقدمة

إنّ النّاظر للحضارة العربيّة الإسلاميّة نظرة متفحّصة يدرك مدى ارتباطها بالنّصّ القرآني إذ يعدّ قطب الرّحى الذي تدور حوله كلّ المذاهب الفكريّة والعقديّة بمختلف مِلَلِها ونِحَلِهَا، لذلك لا غرابة أن توسم هذه الحضارة بالمركزيّة، أو بحضارة النّصّ. هذا الأخير فرض نفسه في بيئة شفهيّة أجلّت الكلام ومجّدت فعله. ذلك أنّه عكس قيمة الفهم في هذه الثقافة، حيث نال عناية جميع المنظومات المعرفيّة، الأصوليّة والكلاميّة والتّفسيريّة فشكّل بذلك شبكة مفهوميّة مغايرة.

ولا أدلّ على ذلك من اختلاف التّفاسير التي حاولت قراءته وفهمه فتعدّدت به اتّجاهات وتنوّعت مشارب، فمن التفسير بالأثر، إلى التّفسير بالرّأي والنّظر، إلى التّفسير بالإشارة والبصر.

وما اختلاف هذه الأنساق العقديّة، إلّا دليل التّفاعل الحاصل في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، ثمّ هو مؤشّر اختلاف المفسّرين في رؤية العالم. الأمر الذي ولّد جدل الأفكار وصراع التّأويلات، واختلاف زوايا النّظر بحثا عن الحقيقة الكاملة والمطلق المتناهي. فكلّ يحاجج عن مبادئه وطروحاته، وكلّ وجد لما يؤمن به امتدادا وتغذية بحكم الطّبيعة اللّغوية المنفتحة على الفهم والتّأويل، فانفتاح دلالة النّصّ القرآني يؤدّي إلى تعدّدها تعدّدا لا نهائيا.

وهذا التعدّد ما هو إلّا قسمة مشتركة بين المرسل والمتلقّي حتّى لا يقع أيّ منهما في فخّ القبض على الحقيقة، ووهم التّسييج والإحاطة بمعنى أحاديّ ونهائيّ،لا محيد عنه، ولا بديل سواه.

ومنه كان التّأليف في علم التّفسير متواصلا، في كلّ عصر ومصر، بل غدا ضرورة ملحّة تمثّل حلقة وصل بين النّصّ المقدّس وقارئه، الذي ابتعد عن معهود كلام العرب وطرائق كلامهم زمنا ليس باليسير.

لذلك غدا هذا العلم بإقرار الدّارسين والباحثين في مضمار الفكر الإسلامي، نصّا موازيا للخطاب القرآني يطلبه هذا الأخير طلبا حثيثا، أمْلَتْهُ الحاجة ابتغاء الفهم الذي يتولّد عنه العمل بالتّنزيل.

وترتكز هذه الدّراسة على تفسير:" روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسّبع المثاني" لصاحبه: "شهاب الدّين السيّد محمود الألوسي (ت1270ه) جاعلة من النّظر في الحجاج مكوّنا من مكوّنات الخطاب التّفسيري منتهى وغاية.

 والذي يعنـــــــــينا في دراسة جانب الحــــجاج في هذا المقام هو: ضبـــــط أطره وتـــقنـــياته ووظــــائـــــــــفه.

فما الحجاج؟ وما درجة حضوره في تفسير روح المعاني؟ ثمّ ماهي الآليات الحجاجيّة التي وظّفها الألوسيّ بغية إقناع متلقي خطابه؟

أوّلا: مصطلح الحجاج

الحجاج لغة: مأخوذ من حَجَجَ: الحَجُّ: القَصْـــــدُ، ورَجُلٌ مَحْجُوجٌ أي مقصود. والحجّة: البرهان

وقيل الحجّة: ما دُوفِع به الخصم، وقال الأزهريّ: الحجّة: الوجه الذي يكون به الظّفر عند الخصومة، وهو رَجُلٌ مِحْجَاجٌ أي جَدِلٌ، والتّحاجّ: التّخاصم، وجمع الحجّة: حُجَج."(1          (

وقال" ابن فارس" في "مقاييس اللّغة": "حَجَّ: الحاء والجيم أصول أربعة، فالأوّل: القَصْدُ، وكلّ قصد حجٌّ، وممكن أن تكون الحجّة مشتقّة من هذا، لأنّها تُقصَدُ، أو بها يُقْصَدُ الحقّ المطلوب، يقال: حاجَجْتُ فلانا فَحَجَجْتُهُ أي غَلَبْتُهُ بالحُجَّة. وذلك الظّفر يكون عند الخصومة."(2)

وحدّ الحجّة: الدّليل والبرهان والجمع حُجَج، كما ورد في المصباح المنير(3).

هذا عن الحجاج في مصادره اللّغويّة.

أمّا في الاصطلاح: فقد حظيت نظريّة الحجاج بأهميّة بالغة إذ جذبت إليها مجالات مختلفة كالفلسفة والأدب واللّسانيات والسيمائيات، وحتى القانون وعلوم الاتّصال وكلّ يمتح منها بما يتماشى مع خصوصيته فيتجدد بها ويجدّدها.

وواقع الأمر أنّ الحجاج ضارب في أعماق الحضارات القديمة سيما اليونانية منها، فنجد تعاطيها يعود إلى أفلاطون وأرسطو والسّفسطائييّن وقد امتزج الحجاج في عصرهم مع الخطابة والجدل. «فكلم Argument  مشتقّة من الفعل اللّاتيني Arguereوتعني جعل الشيء واضحا ولامعا وظاهرا"(4).

ولأنّ الفكر الغربي عموما قائم على المراودة والمراجعة يطالعنا "برلمان" و"تيتيكاه" بكتابهما "مصنّف في الحجاج- الخطابة الجديدة - يرميان من خلاله إلى" إخراج الحجاج من ...دائرة الخطابة والجدل"(5). ذلك أنّ الخطابة ألحقت به " تهمة المغالطة والمناورة والتّلاعب بعواطف الجمهور وبعقله أيضا (6).

كما عمل الباحثان على تخليص الحجاج من صرامة الاستدلال الذي يجعل المخاطب به في وضع ضرورة وخضوع واستلاب (7) فالحجاج عندهما معقولية وحريّة. لذلك يذهبان إلى تعريفه بقولهما: «موضوع الحجاج هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدّي بالأذهان إلى التّسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أن تزيد في درجة ذلك التّسليم"(8).

ويعضّدان هذا المفهوم في موضع آخر بقولهما: "أنجع الحجاج ما وفّق في جعل حدّة الإذعان تقوى درجتها لدى السّامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب (إنجازه أو الإمساك عنه) أو هو ما وفّق على الأقلّ في جعل السّامعين مهيّئين لذلك العمل في اللّحظة المناسبة (9).

وهذان القولان اتّخذهما هذا المقال ركيزتين أساسيتين، يعود إليهما كلّما اقتضت الحاجة.

ويرادف علماؤنا العرب القدامى بين مصطلحي " الحجاج والجدل" وهو ما أشار إليه "عبد الله صولة" في كتابه:" الحجاج والقرآن من خلال أهمّ خصائصه الأسلوبيّة "فهذا ابن منظور - كما مرّ معنا– يؤكّد هذا بقوله: هو رجل محجاج أي جَدِلٌ" وذهب أبو " الوليد الباجي" المذهب ذاته في وصفه لكتابه "المنهاج في ترتيب الحجاج" - وإن كان مؤلَّفه في علم أصول الفقه - بأنّه كتاب في الجدل (10).

ولم تَخْلُ كتب علوم القرآن من الوقوع في هذا التّرادف بين المصطلحين حتّى عند المتأخّرين منهم، إذ يطالعنا كلّ من "الزّركشي" في كتابه "البرهان في علوم القرآن" والسّيوطي" في مؤلّفه " الإتقان في علوم القرآن" باستخدامهما ألفاظ المحاجة والحجاج والاحتجاج، في الفصل الذي عقداه لجدل القرآن على أنّها ألفاظ مرادفة للفظ الجدل وتسدّ مسدّه (11).

وعلى رأس العرب المحدثين يعرّف "طه عبد الرّحمان" الحجاج بأنّه: " الملفوظ أو المنطوق موجّه إلى الغير، لإفحامه دعوى مخصوصة يحقّ له الاعتراض عليها (12).

ثانيا/ الأطر الحجاجيّة

1/ مقولة الجمهور

هذا التّوجّه يقتضي منهاجيّا أن نعتبر الألوسي محاجّا يتوجّه بخطابه إلى جمهور يتلقّاه  فينفعل  به انفعال طاعة واستجابة أو انفعال ردّ وإنكار. وحضور الجمهور لا ريب له أهميّة عظمى سواء أكان هذا الجمهور واقعا مُدْركا (مباشرا) أو افتراضا ممكنا (غير مباشر) خاصّا أم كونيّا. لذلك ينزع "بيرلمان" و"تيتيكاه" إلى أن "لا حجاج بدون وجود جمهور، يرمي الخطاب إلى جعله يقنع ويسلّم ويصادق على ما يعرض عليه(13)، وحتى نصل الكلام بعضه  ببعض  نلحظ أنّ جمهور الألوسي الذي توجّه إليه بالخطاب جمهوران: جمهور عامّ يشمل من أسلم وآمن، وآخر خاصّ يصيب كلّ من أنكر وعاند وجحد بيان القرآن.

إنّ هذين الصّنفين من الخطاب ينتج عنهما كون خطاب الألوسي الحجاجي خطابا مركّبا تجتمع فيه قيمتا الدّعم والمساندة في الأوّل، والنّفي والدّحض والتّفنيد في الثّاني، وهاتان القيمتان يثوي وراءهما صامت عقديّ، وخاف مذهبيّ مداره الانتصار لمن يسند رأي الألوسي ذي الخلفيّة الإشاريّة المعتقدة في أنّ القرآن: " فرقان كشّاف عن فرق الكتب الإلـــهيّة الغياهب، وأبرز-  الله- من سجف ألوهيته نورا أشرق على مرايا الكائنات بحسب مزايا الاستعـــدادات، فاتضحت من معالم العوالم المراتب" (14) وفـــي أنّ:

"محمّدا أوّل دُرّة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم...مهبط الوحي الشّفاهي الذي ارتفع رأس الرّوح الأمين بالهبوط إلى موطئ أقدامه معدن السّرّ الإلاهيّ...فهو النّبيّ الذي أبرزه مولاه...ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا...وأنزل عليه قرآنا عربيّا غير ذي عوج ليكون للعالمين نذيرا:

   وشقّ له من اسمه ليجلّه فــذو العرش محمود وهذا محـــــمّد"(15).

وهذه الخلفيّة العقدية القائمة على أساس قداسة النّصّ فهو قرآن عربيّ غير ذي عوج من جهة ومكانة حامله معـــــــــدن السرّ الإلــهي نعني مــحـــمّدا - صلى اللّه عليه وسلّم - من جهة ثانية تجعـل الخطاب موجّها إلى الجمهور المتلقي توجيها يصيب في مرحلة أولى مرمى الإقتناع Convictionإن تلقّاه المعتقدون المؤمنون، ويدرك في مرحلة ثانية الإقناع Persuasionإن تلقاه الجاحدون الرّادون، ممّا يجعل عمل الخطاب عملا مزدوجا (16)

كما تحظى الواقعة الأولى (عظمة اللّه) بإجماع لا مزيد عليه خاصّة في محيط البيئة الإسلامية وبذلك يغدو استحضار الوقائع التي تتّسم بالاشتهار والإجماع مصادرة على مطلوب الجمهور الذي يعيّر نجاعة الخطاب بمدى التّوافق الحاصل بين القول المبثوث وأفق انتظار المتقبّل"(17).

 لذلك فالمفسّر في هذا المقام يخاطب جمهورا يشاركه قضيّة الإجلال والتّعظيم لذات اللّه أيّا كان هذا المتلقّي ومهما كان مذهبه، فهي قضية أجمع عليها كلّ من آمن باللّه، ولبس لبوس الإسلام ويقود هذا الإجماع بالضّرورة إلى توقير حامل الرّسالة ومتلقّي الوحي الأوّل، الذي شقّ له الإلـــــــه العظيم من اسمه فذو العرش محمود وهذا محمّد.

وحاصل هذا وضع دوائر مشتركة بين المحاج (الألوسي) والمحجوج (جمهور المتلقين) وأكبر دائرة وأهمّها دائرة التّوحيد وبوّابة الإسلام "لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه".

هذه الدّائرة تفتح باب التّواصل لتلقّي ما هو آت وتحقيق الإذعان وتحصيل الطّاعة وهو هدف المفسّر الذي عمل وسعى إليه، خاصّة إذا عــلــم المحجوج أنّ صاحب الطّرح قد "خُصّ بمزايا تقف دونها الأماني حسرى، وامتاز بخواصّ علميّة وعمليّة لا يستطيع لسان الدّهر لها حصرا" (18).

لذا كان لزاما على الألوسي أن يتقمّص في كثير من الأحيان ذات المتلقي ليقف على ما يختلج فيها من اعتراضات وشبه وحُجج مبطلة،و هذا لا يكون إلّا إذا سبر ذات المتلقي من جميع جوانبها فيقف على مشاربها ومذاهبها وأهدافها.

2/ الشّاهد الشّعري

نشير بداءة أنّنا في هذا العنصر نضرب صفحا عن الخلاف الواقع في مسألة جواز الاحتجاج بالشّعر وعدمه لأنّ هذا الحيّز لا يسعه  بسطها، ونحسم فيها الخلاف بقول "عبد القاهر الجرجاني": وذاك أنّا إذا كنّا نعلم أنّ الجهة التي منها قامت الحجّة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أن كان على حدّ من الفصاحة تقصر عنه  قوى البشر، ومنتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفِكَر، وكان محالا أن يعرف كونه كذلك إلاّ من عرف الشّعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب، والذي لا يُشكّ أنّه  كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيها قصب الرّهان...فكان الصّاد عن ذلك صادّا عن أن تعرف حجّة الله  تعالى، وكان مثله مثل من يتصدّى للنّاس فيمنعهم أن يحفظوا كتاب الله  تعالى، ويقوموا به ويتلوه ويقرئوه"(19)

والقارئ لروح المعاني يجد أنّ استعمال الألوسي للشّعر لما فيه من طاقات تخييليّة في سبيل الاستهواء، ودعم الحجّة، لما " للشّاهد الشّعري من سلطة مرجعيّة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، ذلك أنّ الكاتب أو القائل يُنْبِئ عن فضله بوفرة وتنوّع استشهاداته، ويعاتب إذا لم يتمثّل بكلام غيره"(20)

ومن ثمّ فــالشّعر يستدعى باعتباره حجّة في ردع وإفحام الخصوم، حتّى تدمغ الحجّة الحجّة، فإذا الأولى راجحة والثّانية زاهقة باطلة.

وبما أنّ الحجاج فعاليّة خطابيّة، وممارسة فكريّة يعتمدها المتكلّم للتّأثير على المتلقي بغــية إقناعه أو تغيير معتقده أو سلوكه (21) فقد تسلّح الألوسي بكلّ ما يمكّنه من إقناع المتلقي ومن ذلك – تمثيلا لا حصرا – ما يعرف بــــ:

  2/ أ الشّواهد الشّعريّة الأدبيّة

وهي الأبيات من الشّعر التي يتمثّل بها المفسّر في تفسيره على معنى من المعاني التي تعرّض لها في تفسيره، فهي للتّمثل لا للاستشهاد... وإنّما أوردها المفسّر لإيضاح المعنى الذي يرمي إليه ويقصده (22).

ورغم أنّ هذا النّوع من الشّواهد يكثر في تفاسير المتأخّرين والألوسي واحد منهم، إلاّ أنّ جُلّ المفسّرين اعتمدوا الشّاهد الشّعري مُرتكزا لفهم كتاب الله والقبض على المعنى والدّلالة يقول" الطّاهر بن عاشور": " إنّ القرآن كلام عربيّ، فكانت قواعده العربيّة طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربيّ بالسّليقة، ونعني بقواعد العربيّة مجموع علوم اللّسان العربي...ومن وراء ذلك استعمال العرب المُتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم، وتراكيب بلغائهم"(23).

فهذا القول ولا ريب يجلو مدى ارتباط تفسير القرآن بديوان العرب ومعهود كلامهم، ومنه أضحت المدوّنة الشّعرية العربية أداة للاحتجاج لكلام الله تعالى، وهي طريقة سار عليها القدماء، وتبعهم على آثارها المتأخّرون، وكلّ يخطب وُدّ فهْم كلام ربّ العالمين.

وبذلك اكتسب الشّاهد الشّعري قيمة مضافة داخل الثّقافة العربيّة الإسلاميّة فوق تلك التي كانت له حتّى أضحى "المفسّر لا غنى له في بعض المواضع من الاستشهاد على المراد في الآية ببيت من الشّعر، أو بشيء من كلام العرب لتكميل ما عنده من الذّوق، عند خفاء المعنى، ولإقناع السّامع

 والمتعلّم الّلذين لم يكمل لهما الذّوق في المشكلات"(24).

و من الشّواهد الأدبيّة أن ورد في موضع تفسير قوله تعالى: " الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون"(25) ورد قوله:" عَدَلَ سبحانه عن (الله مستهزئ بهم) المطابق لقولهم، إلى قوله:(الله يستهزئ بهم) لإفادة التّجدّد الاِستمراري وهو أبلغ من الاِستمرار الثّبوتي الذي تفيده الاِسميّة لأنّ البلاء إذا اِستمرّ قد يهون، وتألفه النّفس كما قيل:

         خُلِقْتُ ألـوفاً ولو رجعت إلى الصّبا     لفارقتُ شـَـــــــيبــــــي موجع القلب باكيا(26)

فهذا البيت – وهو للمتنبّي – يورده الألوسي ليقوّي به فكرته في أنّ البلاء إذا استمرّ وتواصل استمرأته النّفس، وتعوّدت عليه، فيصبح أمرا هيّنا. وحتّى يرسّخ المفسّر هذا الزّعم ينقل المتلقي من أجواء الآية وظِلالها إلى ظِلال الشّعر الذي يطرح بدوره فكرة الأُلفة والاعتياد، على لسان الشّاعر الذي بلغ من العمر مبلغَ الشّيب، ولطول مكوثه معه وقعت بينهما ألفة حميمة، لو قُطعت بالرّجوع إلى الصّبا، مرحلة العنفوان والّلهو والمسرّات، لكان الفراق موجعا مؤلما.

لذلك غالبا ما يكون" الهدف من الشّعر الحجاجي استثارة الشّعور والوجدان، أو استثارة العقول والخيال، فالأولى غاية نفسيّة، والثّانية غاية تعليميّة"(27)، والألوسي محاجّا ضرب كلتا الغايتين بحجر واحد، فوظّف الشّاهد الشّعري كحجّة مثبتة على الادّعاء.

وهكذا حينما يعزّز الشّاهد قول أو اعتقاد المفسّر" ينتفي عن هذا القول عراؤه ويظهر مسنودا إلى خلفيات معرفيّة ووجدانيّة، هذه الخلفيات كفيلة بأن تنـــقل القول من مجرّد رأي خاص إلى اعـــتقاد مـشترك

ومعلوم أنّ الجمعي أكثر مصداقيّة وأقرب للإقناع"(28).

من على شرفة ما تقدّم نلحظ أنّ الألوسي استعمل الشّاهد الشّعري أداة حجاجيّة تعضد موقفه وتؤازر توجّهه، من جهة، وتحقّق له طاعة وإذعان المتلقي/المحجوج من جهة ثانية. لذلك حقّ للجاحظ قديما أن يقرّر بأنّ مدار العلم على الشّاهد والمثل.

ثالثا/التّقنيات الحجاجيّة

1/حجّة الحدّ والتّعريف

تعدّ الحدود والتّعريفات أشكالا حجاجيّة وأنماطا برهانيّة، يتسلّح بها المحاج ليصيب مرمى الاقتناع فيوظّفها " للمصادرة على قواعد الابتداء البرهاني التي يتقوم بها محيط الاعتقاد ويضع من خلالها مآل الاقتناع"(29).

وقد تعدّد تواجد هذه الحجّة عند الألوسي في خطبة كتابه. حيث يقول في إحدى الفوائد التي أوردها في مقدّمة تفسيره: " فالتّفسير تفعيل من الفسر وهو لغة البيان والكشف والقول بأنّه مقلوب السّفر ممّا لا يسفر له وجه، ويطلق التّفسير على التّعريّة للانطلاق يقال: فسرت الفرس إذا عريته لينطلق ولعلّه يرجع لمعنى الكشف كما لا يخفى، بل كلّ تصاريف حروفه لا تخلو عن ذلك كما هو ظاهر لمن أمعن النّظر"(30)". والتّأويل من الأول وهو الرّجوع (31).

وهذا النّوع من الحجج يؤسّس عند المتلقّي أرضيّة تضمن عملية التّواصل لتلقي ما هو آت، كما أنّها " تبني في وجدان المحجوج ضربا من التّمكّن الذي يختزل عقائد المؤوّل، ويترجم أفكاره، ما تعلّق منها بالنّصّ، وما تلبّس منها بالوجود"(32).

 وبذا يغدو هذا النّوع من الحجج من أهمّ الآليات التي يستغلّها المفسّر وهو يوجّه متلّقيه وجهة الإقناع.

2/ حجج العرض والبسط

هذا النّوع من الحجج مداره الوصول بمتلقّي الخطاب التّفسيري إلى صحّة الآراء والتّأويلات، وسلامة التّخريجات، ومنه نرى الألوسي-تمثيلا لا حصرا-يستند إلى القصص التّاريخي ليسوغ لنا قضيّة مفادها أنّ في القرآن العظيم علم الظّاهر والباطن يقول: " وأمّا البواطن فيفضيها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده"(33).

ثمّ هو يستدعي قصّة وردت في تاريخ ابن خلّكان فحواها أنّ "السّلطان صلاح الدّين لمّا فتح مدينة "حلب" أنشد القاضي "محي الدّين "قصيدة بائيّة، وكان من جملتها:

وفتحك القلعة الشّهباء في صفر        مبشّر بفتوح القدس في رجب.

فكان كما قال، فسئل القاضي، من أين لك هذا؟ فقال أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: "الٓمٓ ١  غُلِبَتِ ٱلرُّومُ ٢  فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ ٣فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٤ "(34) فلم أزل أتطلّب التّفسير المذكور حتّى وجدته على هذه الصّورة".

وفي السّياق ذاته يورد الألوسي خبر استنباط "ابن الكمال" فتح مصر على يد السّلطان سليم من قوله تعالى" ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون"(35).

فلا يغيب عن الذّهن بعد هذا أنّ الألوسي محاجّا يلجأ إلى التّاريخ ليدعّم مزاعمه ويقوّي طُروحاته. والمتأمّل في النّصّ الأوّل لا يخفى عليه تحكّم الثّاوي العقدي الذي يتحرّك من خلاله الألوسي فهو قد اختار تفسير "ابن برجان" ليكون هاديا ودليلا إلى تثبيت ما ذهب إليه من أنّ القرآن يشمل علم الظّاهر والباطن، فالفهم يرفد بعضه بعضا ذلك أنّ ابن برجان له تفسير بعنوان " تنبيه الأفهام إلى تدبّر الكتاب الحكيم وتعرّف الآيات والنّبإ العظيم" وهو من تفاسير أهل التصوّف أصحاب الإشارة والبصر، والألوسي بدوره من أصحاب التفسير الإشاري فنزوعه وميله إل تفسير من المضمار ذاته يعكس عقيدة الرّجل وإيديولوجية التي يريد جذب المتلقي إليها.

 ويعضد هذه الفكرة ردّه على الذين ينكرون الباطن، وإنكاره عليهم، متسائلا، متعجّبا، مدلّلا على صحّة مذهبه بآيات من القرآن العظيم يقول:"ويا ليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى: "ثُمَّ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ ١٥٤"(36).

وقوله: "وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ ٣٨"(37). ويا لله تعالى العجب كيف يقول باحتمال ديوان المتنبّي وأبياته المعاني الكثيرة، ولا يقول باشتمال قرآن النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم-وآياته، هو كلام ربّ العالمين المنزّل على خاتم المرسلين على ما شاء تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني... بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزّمان إلّا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت"(38) فهذا هو مذهبه الذي يدعو إليه من خلال عرضه لقضيّة الظّاهر والباطن وإقامته الحجّة العقليّة والدّليل القرآني.

وليس اختلاف كتب التّفسير وتنوّعها، اتّجاهات ومذاهب، إلّا جريا وراء الحقيقة التي يدّعي كلّ امتلاكها، يراود المحاجّ بوساطتها المحجوج عن عقله وقلبه بغية إقناعه بها وصولا به إلى الثّقة واليقين، وهو" تنازع على سيادة المطلق المنشود ... الذي تُساس بتوهمات امتلاكه إرادات المعتقدين"(39). ومن ذلك قضيّة خلق القرآن التي يورد بشأنها قوله: "أوردها بأسلوب عجيب وتحقيق غريب لا أظنّك شنّفت سمعك بمثل لآليه، ولا نوّرت بصرك بشبه بدر لياليه"(40).

 وبذلك يسيّج المتلقّي بأسلوبه العجيب وتحقيقه وتدقيقه الغريب، مشيرا بذلك إلى سعة اطّلاعه وتبحّره في العلوم وامتلاكه ناصية اللّغة والأسلوب تركيبا وعرضا، فلا يجد المحجوج نفسه إلّا وهو يذعن ويسلّم له في كلّ ما يعرضه ويذهب إليه من بنات أفكاره.

والقضيّة هذه ليس من السّهل الخوض فيها، ذلك أنّ من سبقه من أرباب العلم والتّفسير على اختلاف نزعاتهم فصّلوا فيها الكلام وأتوا فيها بعلم الرّواية والدّراية وهذا لم يمنعه من محاجتهم وإثبات فساد آرائهم يقول:"... أقوام تشابهت قلوبهم واتّحدت أغراضهم، وإن اختلفت أساليبهم، وها أنا بحوله تعالى رادّ لاعتراضاتهم بعد نقلها، غير هيّاب ولا وجل، وإن اتّسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد، وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد"(41)

وبعد عرض طويل، وتفصيل دقيق، وقول حقيق، يصل الألوسي بمتلقّي خطابه إلى ماء معين لا غور فيه " نعم البحث دقيق لا يرشد إليه إلّا توفيق كم أسهر أناسا، وأكثر وسواسا، وأثار فتنة، وأورث محنة، وسجن أقواما، وأَمَّ إِمامًا:

مَرامٌ شطّ مرمى العقل فيه          ودون مداه بيدٌ لا تبيد

ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلبّ اللّباب، وخلاصة ما ذكره الأصحاب، وقد اندفع به كثير ممّا أشكل على الأقوام، وخفي على إفهام ذوي الإفهام"(42)

وبهذا الطّرح تنجلي الحقيقة، ويندفع الإشكال بفضل هذا الفارس الهمام الذي أتى بما لم تستطعه الأوائل من ذوي الأفهام في قضيّة خلق القرآن، سيما وأنّها مسألة ضاع هدف العقل في تحصيلها، فكان دونها بيد لا تبيد.

الأمر الذي يصيب مرمًى في استراتيجيا الطّاعة والِاطمئنان القاضية "بتمكين الحقائق المعروضة والآراء المبسوطة على كيانات الجمهور، يؤمن بها ويعمل بتعاليمها"(43).

ولمّا كان الأمر على الجهة التي قدّمنا كان التّنازع حول امتلاك الحقيقة محرّكا للخطاب الحجاجي الذي اتّخذه المفسّرون مطيّة لإثبات عقائدهم وإقناع متقبّليهم.

رابعًا /الوظائف الحجاجيّة

1/الهــدم والــدّحض

 تقوم وظيفة الهدم بتقويض وانتقاد آراء ومعتقدات رسّختها مؤسّسات الاعتقاد السّابقة التي أفرزتها الثّقافة العربيّة الإسلامية، والتي حاولت كلّ منها إنطاق النّصّ القرآني بما يخدم مبادئها وتوجّهاتها فنجد الألوسي مفسّرا يردّ على أصحاب الدّراية والنّظر قائلاً: " وأمّا من صرف عمره بوساوس أرسطو طاليس واختار شوك القنافد على ريش الطّواويس، فهو بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وإدراك ما تضمّنه من العجب العجاب (44).

ولا يخفى ههنا أنّه يخرج المعتزلة ومن نحا نحوهم عن فهم كتاب الله العظيم لاشتغالهم بما جاءت به الفلسفة اليونانيّة وتطبيق قوانينها على القرآن الكريم.

كما نراه  ينكر على مجرى الرّواية والأثر في القضيّة ذاتها بقوله: " والعجب كلّ العجب ممّا يزعم أنّ علم التّفسير مضطرّ إلى النّقل في فهم معاني التّراكيب، ولم ينظر إلى اختلاف التّفاسير وتنوّعها ولم يعلم أنّ ما ورد عنه – صلّى الله عليه وسلّم- في ذلك كالكبريت الأحمر"(45)، فما يأخذه على هذا المجرى هو قوله  بوجوب النّقل في تفسير معاني كتاب الله، ويحاججهم بأنّ ما ورد عنه- صلى الله عليه وسلّم- نزْر قليل بل هو كالكبريت الأحمر، ولو كان كلّ معنى في القرآن له ما يفسّره من الحديث لما اختلفت التّفاسير وتنوّعت، ولاكتفت الأمّة بالنّقل، ولكفى الله المؤمنين القتال.

و يذهب الألوسي محاججا أصحاب هذا التيّار، نازعا عنهم ثوب القداسة بالكليّة، مشهّرا بشيوخهم وكبرائهم، حيث  يقول  في معرض حديثه عن قضيّة خلق القرآن: " تشنيع ابن تيمية وابن القيّم...على من خالفهم الرّأي في قضيّة خلق القرآن صرير باب أو طنين ذباب، وهم وإن كانوا فضلاء محقّقين وأجلّاء مدقّقين لكنّهم كثيرا ما انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمّة، وأكابر الأئمّة، وبالغوا في التّعنيف والتّشنيع وتجاوزوا في التّسخيف والتّفظيع. ولولا الخروج عن الصّدد لوفّيتهم الكيل صاعا بصاع، ولـتقدّمت إليهم بما قدّموا باعا بباع، ولعلّمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء، ولعرّفتهم كيف ينتهي المراء بلا مراء"(46).

على ضوء ما تقدّم تبرز وظيفة الهدم والدّحض للآراء المناوئة وكلّ ذلك بغرض إقناع المتلقّي بالإعراض عن مثل هذه الطّروحات وتقبّل الطّرح الآلوسيّ، حتّى يكون كلّ ما يذهب إليه مفسّرا أو مؤوّلا قولا منتهيا، وبرهانا قاطعا.

والشيء الجدير بالإشارة أنّ الألوسي لا يبعد متلّقيه عن الخطاب ويقصيه، بل لطالما أشركه معه في مواطن عديدة وعبر صيغ مختلفة، فبعد طرح الألوسي لكلام المعتزلة في قضيّة خلق القرآن يقول مولجا متلقّيه داخل الخطاب: " ولا أظنّك تحوجني إلى التّفصيل بعدما وعاه فكرك الجميل، بل ولا تكلّفني ردّ هذه الأقوال الشّنيعة التي هي لديك إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيعة"(47).

وفي موضع آخر نجد قوله: " وممّا ذكرناه عَلِمْتَ أنّ القلب يميل إلى هذا السّابع- أي أنّ المقصود بالأحرف السّبعة اللّغات- فافهم ذاك والله يتولّى هُداك"(48). وغير خاف أنّ هذا من باب الاستدراج بغية تحقيق إذعان المتلقي/ المحجوج.

 

 

2/ التّرشيح

ترتبط بالهدم والدّحض وظيفة أخرى هي وظيفة التّرشيح التي يتمّ فيها طرح البديل الذي من أجله تمّ الدّحض والإقصاء، وهي وظيفة " تذهب بالمقاصد الحجاجيّة، وتمضي بالإضمارات الإقناعيّة إلى أعلى المراتب التي ينجرّ عنها انخراط الجمهور في سياق ما بناه التّرشيح المقالي، والإسناد المقامي"(49).

وهذا ما يظهره قول الألوسي: "وأما كلام السّادة الصّوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السّلوك"(50) وكذا قوله: " فالإنصاف كلّ الإنصاف التّسليم للسّادة الصّوفيّة الذين هم مركز للدّائرة المحمّديّة ما هم عليه، واتّهام ذهنك السّقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق عليه"(51).

لا نجافي الصّواب بعد هذا إن قلنا أنّ الألوسي بما هو محاجّ أدخل مناوئيه دائرة الاتّهام، وبيّن مثالبهم، في حين خلّص السّادة الصّوفية أو أصحاب مجرى الإشارة والبصر، فرفع مقامهم وأعلى من شأنهم، فهو بذلك ينفي خطابات ويعلي مقامات، وهو المسكوت عنه في خطابه التّــفـسيري، كيف لا وهو المحاجّ الذي " ألهمه ربّه بما لم يظفر به في كتاب من دقائق التّفسير، وأعلق على ما أغلق ممّا لم يتعلّق به ظفر كلّ ذي ذهن خطير"(52).

فالتّرشيح إذن جعل من مجرى الإشارة والبصر طبقة مصطفاة، تفهم عن الله مُراده، ومعانيه وهو ما يجب على المحجوج التّسليم له والأخذ به.

خاتمـــــــــــــــة

جماع القول ممّا سبق أنّ الخطاب التّفسيريّ في روح المعاني، خطاب حجاجي بامتياز، سواء أتعلّق الأمر بما أظهره الخطاب أم بما أضمره.

ذلك أنّ الألوسيّ بما هو محاجّ، حصّل من وراء العمليّة الحجاجيّة غايته الكامنة في جعل العقول تذعن لما يطرح عليها وتسلّم به،و ذلك عبر وسائط وآليات المحاججة المستخدمة والتي تنوّعت حسب ما يقتضيه المقام.

الأمر الذي جعله يسجّل مرمى في استراتيجيا التّصديق وتحصيل الطّاعة، من خلال الأطر والمنطلقات والتّقنيات المتّبعة، وبذلك تمرّ العمليّة الحجاجيّة عبر مراحل ليجد المتلقّي نفسه واقعا في أحابيل لا فكاك منها إلّا بالتّسليم والاستجابة.

وأخيرا، إنّ عملنا في هذا المقال لا يعدو كونه مجرّد مقاربات لا تدّعي الوصول إلى نتائج يقينيّة ثابتة بل إنّ شأنها شأن الدّراسات اللّغوية والأدبية خاصة، والإنسانيّة عامة، إذ هي نسبيّة ومُقاربة

الهوامش

1.ابن منظور: لسان العرب، تحقيق عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية بيروت لبنان،2009، ط2، م2، ص من257إلى 260.

2. أحمد ابن فارس: مقاييس اللّغة، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان،2011، ط3، ص 277- 278.

3.المقرئ الفيّومي: المصباح المنير، دار الفكر، بيروت، لبنان،2010، ص70.

4.حافظ إسماعيلي علوي: الحجاج مفهومه ومجالاته، عالم الكتب الحديث، إربد الأردن،2010، ج1، ص02.

5.عبد الله صولة: الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته ضمن أهم نظريات الحجاج في التّقاليد الغربيّة من أرسطو إلى اليوم، فريق البحث في البلاغة، إشراف حمّادي صمّود جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانيّة، منّوبة، تونس، ص298.

6.المرجع نفسه، ص 298.

7.المرجع نفسه، ص 298.

8.المرجع نفسه، ص 299.

9.المرجع نفسه، ص 299.

10.                      حافظ إسماعيلي علوي: الحجاج مفهومه ومجالاته، ص 04.

11.                       المرجع نفسه، ص 04.

12.                      طه عبد الرّحمان: اللّسان والميزان أو التّكوثر العقلي، المركز الثّقافي، الدّار البيضاء، ط1، ص266.

13.                       عبد الله صولة: الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته، ص 306.

14.                       شهاب الدّين الألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسّبع المثاني تحقيق محمّد السّيّد وسيّد إبراهيم عمران، دار الحديث القاهرة.2005، م1، ص21.

15.                       المرجع نفسه، ص21.

16.                      فرق ما بين الإقناع والاقتناع، فالمرء في حالة الاقتناع يكون قد أقنع نفسه بواسطة أفكاره الخاصّة، أمّا في حالة الإقناع فإنّ الغير هم الذين يقنعونه دائما (ينظر عبد الله صولة، الحجاج أطره ومنطلقاته وتقنياته).

17.                       علي الشّبعان: الحجاج والحقيقة وآفاق التّأويل، دار الكتاب الجديد، بيروت لبنان، 2010، ط 01، ص375.

18.                      الألوسي: روح المعاني، م2، ص6.

19.                       عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، تحقيق محمود شاكر، مكتبة الخانجي القاهرة،2004، ط5، ص 8– 9.

20.                      عبد الفتّاح كيليطو: الأدب والغرابة- دراسات بنيوية في الأدب العربي- دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت، لبنان،1997، ط3، ص 76.

21.                      عبّاس حشّاني: خطاب الحجاج والتّداوليّة، دراسة في نتاج ابن باديس الأدبي عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن،2014، ط1، ص01.

22.                      عبد الرّحمان بن معاضة الشّهري: الشّاهد الشّعري في تفسير القرآن الكريم، أهميته وأثره ومناهج المفسّرين في الإستشهاد به، مكتبة المنهاج للنّشر والتّوزيع، الرّياض، السّعوديّة،2010، ص 86.

23.                      الطّاهر بن عاشور: التّحرير والتّنوير، الدّار التّونسيّة للنّشر تونس،1984، ج1ص18.

24.                      المرجع نفسه، ص18.

25.                      سورة البقرة: آ : 15.

26.                      الألوسي: روح المعاني، م1، ص 234.

27.                      عبّاس حشّاني: خطاب الحجاج والتّداوليّة، ص239.

28.                      عبد اللّطيف عادل: بلاغة الإقناع في المناظرة، منشورات ضفاف، بيروت لبنان،2013، ط1، ص241.

29.                      على الشّبعان: الحجاج والحقيقة وآفاق التّأويل، ص415.

30.                      الألوسي: روح المعاني، م1، ص 24.

31.                       المرجع نفسه، ص24.

32.                      على الشّبعان: الحجاج والحقيقة وآفاق التّأويل، ص415.

33.                      الألوسي: روح المعاني، م1، ص29.

34.                      سورة الرّوم: الآيات من 1إلى 04.

35.                      سورة الأنبياء: آ: 105.

36.                      سورة الأنعام: آ: 154.

37.                      سورة الأنعام: آ : 38.

38.                      الألوسي: روح المعاني، م1، ص29.

39.                      على الشّبعان: الحجاج والحقيقة وآفاق التّأويل، ص 494.

40.                      الألوسي: روح المعاني، م1، ص 33.

41.                       المرجع نفسه، ص 41.

42.                      المرجع نفسه، ص 44.

43.                      على الشّبعان: الحجاج والحقيقة وآفاق التّأويل، ص 295.

44.                      الألوسي: روح المعاني، م1، ص28.

45.                      المرجع نفسه، ص28.

46.                      المرجع نفسه، ص44.

47.                      المرجع نفسه، ص46.

48.                      المرجع نفسه، ص48.

49.                      على الشّبعان: الحجاج والحقيقة وآفاق التّأويل، ص366.

50.                      الألوسي: روح المعاني، م1، ص 28.

51.                       المرجع نفسه، ص 30.

المرجع نفسه، ص 22.

@pour_citer_ce_document

نوال نمّــيـر, «المقاييس الحجاجيّة في تفسير " روح المعاني " لشهاب الدّين الألوسي.»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 280-289,
Date Publication Sur Papier : 2020-08-18,
Date Pulication Electronique : 2020-08-18,
mis a jour le : 18/08/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7253.