التخييل الذّاتي في العملية السردية بين المفهوم والتّأسيس Self-sufficiency in the narrative process between concept and foundation
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N:02 vol 17-2020

التخييل الذّاتي في العملية السردية بين المفهوم والتّأسيس

Self-sufficiency in the narrative process between concept and foundation
ص ص 431-441
تاريخ الإرسال: 2018-03-24 تاريخ القبول: 2020-06-02

أوريدة عبود
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

       يسعى هذا البحث إلى إبراز مفهوم التخييل الذاتي في العملية السردية كونه لايزال يثير جدلا كبيرا بين الباحثين، بسبب وقوفه في المنزلة بين المنزلتين من جنسين أدبيين هما الرواية والسيرة الذاتية، ذلك أنه استمد أدواته وآلياته منهما جميعا في الوقت نفسه، دون أن ينحاز بشكل كليّ إلى أحدهما على حساب الآخر. وتشير النتائج إلى أن التخييل الذاتي استمد من جنس الرواية مشروعية التخييل بكل ما يتيحه هذا الأخير من حرية مطلقة في بناء الأحداث والشخصيات والفضاء المكاني، واستمد من جنس السيرة مشروعية الذات والمرجع، إذ تتأسس الذات محوريّا لتصير القطب والمناط والمبتدأ والمنتهي، تبصر العالم وتستعيد الأحداث السابقة، تحللها وتعلق عليها وتعيد تأويل تفاصيلها وفق متطورها الراهن من خبرات الحياة والتجارب الثقافية.

الكلمات المفاتيح

التخييل، الرواية، الذات، السرد، الواقع، المرجع، الراهن، الهوية

Cette recherche vise à mettre en évidence le concept d'autofiction de soi dans le processus narratif, car il soulève toujours une grande controverse parmi les chercheurs en raison de sa position entre les deux genres littéraires et biographiques, car il tire ses outils et mécanismes de chacun d'eux en même temps, sans s'aligner pleinement sur l'un d'eux Aux dépens de l'autre. Les résultats indiquent que l' autofiction de soi dérive du genre du roman La légalité de l'autofiction avec tout ce que celui-ci fournit de la liberté absolue dans la construction d'événements, de personnalités et d'espace spatial, et dérive du genre de la biographie La légitimité de soi et la référence, comme soi est établi de manière pivotante pour devenir le pôle, les zones, le début et la fin, le monde voit et récupère les événements Le premier analyse, commente et réinterprète ses détails en fonction de son évolution actuelle des expériences de vie et des expériences culturelles.                                                  

Mots-clés: l’autofiction, narration, roman, soi, récit, réalité, référence, courant, identité

This research seeks to highlight the concept of self-imagination in the narrative process, as it still raises a great controversy among researchers because of its standing in the position between the two genres of literary and biographical, because it derives its tools and mechanisms from all of them at the same time, without fully aligning with one of them at the expense of the other. The results indicate that the self-imagination derives from the gender of the novel The legality of the imagination with all that the latter provides of absolute freedom in building events, personalities and spatial space, and derives from the gender of the biography The legitimacy of the self and the reference, as the self is pivotally established to become the pole, areas, beginner and end, the world sees and recovers events The former analyzes, comments on and re-interpretes its details according to its current development of life experiences and cultural experiences

Keywords:fiction, novel, self, narration, reality, reference, current, identity

Quelques mots à propos de :  أوريدة عبود

جامعة مولود معمري تيزي وزوabboudourida@yahoo.fr

مقدمة

تقوم العملية السردية في التخييل الذاتي على مبدأ رئيسي هو إحلال الذات محلا إشكاليا يتذبذب بين الواقع والخيال، الوجود والفناء، الحضور والغياب، التجلي والغموض في الآن نفسه، مما يجعل العملية السردية برمتها محض بحث أبدي عن الأنا المفقود، عن الذات التي أصبحت فجأة موازيا للعالم والمعنى الذي أصبح مماثلا للحياة في أعمق صورها غموضا وتخفيا واستعصاءً عن الفهم والتأويل.

تصبح الكتابة السردية وفق هذا المبدأ ممارسة خالصة، والنّص نصّا شخصيا حرا ليس ملزما بشيء واقع خارج ذات كاتبة، ينطلق من تجربة واقعية معيشة أو يفترض أنها كذلك قبل الاسترسال في بحث استقصائي للتفاصيل والذكريات والأحاسيس الساردة، بغية إزالة الخدوش عن صفحة اللاّشعور، ذلك ما يفسّر إلى حدّ كبير في اعتقادنا ما في التخييل الذاتي  من قلة إبراز واقعية الأحداث المسرودة أو تخييلها، إلا بالقدر الذي يعطي للذاكرة واللاشعور ما يكفي من الواقعية للغوص تحت الكتابة الحسية، والتملص من سلطان العقل وصرامته في ممارسة شخصيته للتحليل النفسي وأبعاده الاستبطانية العميقة. فقد أكدت مادلان ولات بأنّه: " ليس من المدهش أن يكون التخييل الذاتي الوثيق بالتحليل النفسي هو جنس الغموض بامتياز، جنس يجمع بين وقائع حياة واسترسالات التخييل"(1).

1-1                    إشكالية البحث

يروم هذا البحث الإجابة عن الإشكالية الآتية:

- ما مفهوم التخييل الذاتي وما أنواعه؟

- ماهي المعايير الكتابية واللغوية للتخييل الذاتي؟

-هل تضم دلالة التخييل الذاتي كل الإنتاجات الإبداعية الأدبية؟

-كيف يمكن للذات أن تنجز تخييلها الذاتي المتعلق بمسارها الحياتي والوجودي؟

-  كيف يستثمر التخييل الذاتي التجربة الذاتية والتاريخ والعوالم المتخيلة؟

1-2-أهداف البحث

يحاول هذا البحث التعريف بدلالة مصطلح التخييل الذاتي والوقوف عند بعض الجهود النقدية المختلفة التي أحاطت هذا المصطلح بالدراسة والبحث المستفيض. ولعل هدف هذا البحث يتجلى في إدراك أهمية التخييل الذاتي في إعادة الذات تأويل تفاصيلها وفق متطورها الراهن من خبرات الحياة.

1-3منهج البحث واجراءاته

يستعين بحثنا ببعض اجراءات النقد النفسي في معالجتنا لبعض القضايا المتشعبة المرتبطة بالذات التي أصبحت فجأة موازيا للعالم والمعنى الذي أصبح مماثلا للحياة في أعمق صورها غموضا وتخفيا واستعصاءً عن الفهم والتأويل.كما يستعين ببعض طروحات النقد الثقافي خاصة أن التخييل الذاتي استمد من جنس الرواية مشروعية التخييل بكل ما يتيحه هذا الأخير من حرية مطلقة في بناء الأحداث والشخصيات والفضاء المكاني.

1-4الدراسات السابقة

اتجهت العملية السردية للتخييل الذاتي للتعبير عن هموم الانسان ومعاناته ومطامحه، لكن الدراسات النقدية العربية في هذا المجال مازالت لم تحقق أي تراكم ماعدا بعض الدراسات المترجمة والمقالات القليلة التي نظّرت لهذا المصطلح في حين وجدنا النقد الغربي سباقا للخوض في تفاصيل هذا المفهوم. اعتمدنا على جملة من المراجع العربية منها والغربية منها:

- إيزر فولفغانغ Wolfgang Iserالتخييلي والخيالي من منظور الأنطربولوجية الأدبية، تر. حميد الحميداني

-لوران جيني، الخيال الذاتي، تر. محمد عدنان.

-المديني أحمد، راهن الرواية العربية

-Jacques LECARME et Eliane LECARME, L’autofiction.

 -   VINCENT COLONA’ l’autofiction

2-مصطلح التخييل في المعاجم العربية

   ورد في لسان العرب: خال الشيء خيلا وخيلة وخيلاً وخيلانًا ومخايلة ومخيلة وخيلولة: ظنَّه_ والخيال والخيالة: هي ما تشبه لك في اليقظة والحلم من صورة، وجمعه أخيلة.  والخيال أيضا: كساء أسود ينصب على خشبه أو عود، يخيل به للبهائم، والطير فتظنه إنسانا وهي أيضا كلمة تطلق على نوع من النبات، كما هي كذلك اسم أرض لبني تغلب. وخيل عليه تخييلاً: وجه إليه التهمة.2

 كما ورد عند ابن فارس أنه:3

-الخيال: هو الشخص، وأصله ما يتخيله الإنسان في منامه لأنه يتشبه ويتلون.

-خيلت للناقة: إذا وضعت لولدها خيالا يفزع منه الذئب.

-وتخيلت السماء: إذا تهيأت للمطر، ولابد أن يكون عند ذلك تغير لون.

- والمخيلة: السحابة.

-وخيلت على الرجل تخيلا: إذا التهمت إليه.

-وتخيلت عليه تخيلاً: إذا تفرست فيه.

-الخيال لكل شيء تراه كالظل، وكذلك خيال الإنسان في المرآة

-والخيال: ما نصب في الأرض ليعلم أنها حمى فلا تقرب4

الخيال: الشخص والطيف وصورة تمثال الشيء في المرآة وما تشبه لك في اليقظة المنام من صور، وهو
أيضا الظن والتوهم.ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن معنى مفردة " خيال" هو الشخص، والطيف وما تشبه للمرء من صور في يقظته ومنامه، كما تعني التوهم والظن. والملاحظ أن هذه الدلالات تشير إلى ما يطلق عليه في النقد المعاصر " الصورة الذهنية " التي تتطرق إلى المادة التي يعتمد عليها الخيال، لا على الخيال كقدرة ذهنية

وفي التهذيب خِلْته زيداً خيلاناً، بالكسر، ومنه المثل: مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ أي يظن. وخَيّل عليه تَخْييْلاً، وتَخَيُّلاً: وجه التُّهْمة إليه كما في المحكم. وخيَّل فيه الخير: تفرّسهوتَخيّل الشيء له إذا تشبّه.  وقال الراغب: التخيُّل: تصُّور خَيَال الشيء في النفس....

وقال الراغب: أصل الخيال القوّة المجرّدة كالصورة المتصوّرة في المنام وفي المرآة وفي القلب، ثم استُعمل في صورة كل أمر مُتصوَّر، وفي كل دقيق يجري مجرى الخيال.  وأخال الشيء اشتبه، يقال: هذا أمر لا يُخيل. قال: والصدقأبلج لا يُخيل سبيلهوالصدق يعرفه ذوو الألبابوخُيّل إليه أنه كذا.. من التخييل والوهم، ومنه قوله تعالى: «يُخيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى» والتخييل: تصوير خيال الشيء في النفس... وشيء مُخِيل: مُشْكِل.  وكذلك باقي المعاني التي يمكن أن نلخصها بـ: الظنوتوجيه التهمة والتفرّس والتشبه وتصور خيال الشيء في النفس والاشتباه والتوهم، والإشكال5.

3--مصطلح التخييل في الدراسات العربية القديمة:

جاء في كتاب التعريفات للجرجاني''الخيال: وهي قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليها.  فهو خزانة للحس المشترك، ومحله مؤخر البطن الأول من الدماغ''6ولم تخرج بقية كتب اللغة والتعريفات عن هذه المعاني وهذا الاصطلاح.

استفاد الجرجاني في توجهه النقدي في هذا المجال من نظرية التخييل عند الفارابي التي تجعل الصورة الذهنية التي يحدثها الشعر في متلقيه أشبه بالصورة المرئية الحسية؛ إذ يقول: ''والتخييلات تهز الممدوحين وتحركهم وتفعل فعلا شبيها بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش أو بالنحت والنقر''. 7.ويتفق كذلك مع الفارابي في كون التخييل وَهمًا وكذبًا؛ لأن المعاني عنده تنقسم إلى قسم عقلي وآخر تخييلي؛ العقلي هو المعنى الصريح الذي يشهد له العقل بالصحة. ويتفق العقلاء على الأخذ به والحكم بموجبه في كل جيل وأمة. أما القسم التخييلي فهو ''الذي لا يمكن أن يقال إنه صدق؛ وإن ما أثبته ثابت؛ وما نفاه منفي؛ وهو مفتن المذاهب؛ كثير المسالك.'' 8. إنه يسير في نفس الاتجاه الذي سار فيه الفارابي وذلك في النظرة المنطقية الصارمة إلى التخييل التي تجعله كذبا؛ إلى درجة أنه يعتبر الشاعر أثناء نظم الشعر يخدع نفسه ويريها ما لاترى؛ لأن التخييل خداع للعقل وضرب من التزويق" وكان دقيقا في الرفع من مستويات التشبيه لكي يؤدي عملية التخييل بشكله الحقيقي إلى درجة تصديقه والاشهاد بحقيقته؛ أو على الأقل قربه من الحقيقة.

 وفي فترة لاحقة جاء حازم القرطاني في كتابه ( منهاج البلغاء وسراج الأدباء) وهو الذي أسس لمرحلة جديدة في تاريخ نظرية الشعر عند العرب؛ وقد عرف الشعر بأنه ( كلام مخيل موزون؛ مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك؛ والتئامه من مقدمات مخيلة صادقة أو كاذبة؛ لا يشترط فيها غير التخييل) نلاحظ بأنه يسير هو كذلك في نفس الاتجاه الذي سار فيه الفارابي غير أنه يضيف إلى الصورة الناشئة في الذهن من السمع قرينتها من الخط وذلك بقوله: "فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ لمن يتهيأ له سمعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيئات الألفاظ التي تقوم بها في الأذهان صور المعاني فيكون لها أيضا وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليها" 9وقد وقف حازم القرطاجني على مجمل الآراء النقدية السابقة حول تأثير الشعر في السامع أو المتلقي؛ سواء أكانت تلك الآتية من الإطار العربي الخالص؛ أو تلك المبنية على التــــصورات الأرسطية كما بينها الفارابي وابن سينا؛ لكن الآراء الأرسطية استأثرت باهتمام حــازم القرطاجني فركز عليها محاولا أن يؤسس استنادًا إليها نظريته النقدية المبنية على قواعد فلــــــــسفية نظرية متماسكة مكنته من تقديم تصورات حول مفهوم الشعر؛ ووظيفته؛ والقوانين التي تحكم كيفيات تشكيله وتأثيره .

4-أنواع التخييل الذاتي

ميّز "جاك لوكارم" Jacques LECARMEبين نوعين من التخييل الذاتي، أو بين صنفين مميزين داخله أولهما هو ما يصلح أن يطلق عليه التّخييل الذاتي الحقيقي، حيث الأحداث والوقائع قد حدثت ووقعت صدقا وفعلا، وفي هذا الحال لا ينصرف التخييل إلى محتوى الذكريات المسرودة، وإنما إلى طرائق السرد وأساليب التلفظ وثانيهما: هو ما يمكن تسميته بالتخييل الذاتي العام، حيث يتم مزج الحياة الحقيقية بالمتخيل، فلا المسرود حقيقي كما ينبغي أن تكون الحقيقة في السيرة الذاتية، ولا هو خيالي صرفي كما ينبغي أن تكون الوقائع في الرواية.

لم يحظ التخييل الذاتي بالتلقي اللازم، ولم تستنتج قواعده بعد، ولم يصبح عبر سيرورة التاريخ تقليدا أدبيا معترفا به، ولم يظفر بمنزلة خاصة داخل المشهد الأدبي. هو إذن شكل من التلقي ومن الذاكرة، ومن التاريخ، ومن التخييل. ظل مدة طويلة مجردا من الاسم، ومع ذلك يتجلى من خلال مجموعة من النّصوص لا يمكن إنكار وجودها.

يتسم التخييل الذاتي عموما بالسمات الآتية، حرية الكتابة، عدم الرضوخ لأمر الوعي، والتداعي الحر، والتلقائية وإطلاق العنان للاشعور الداخلي، وهذا ما يجعل التخييل الذاتي سيرة ذاتية في متناول النّاس جميعهم على اختلاف مستوياتهم التعليمية. وحتى ان اختلفت أراء الباحثين في تحديد هوية التخييل الذاتي، فهي تتفق على مسألة جوهرية مؤداها عدم التّعامل معه كجنس أدبي يتضمن قواعد صارمة تحدد مقروئيته.

5--صعوبة ضبط مصطلح التخييل الذاتي:

لقد مرّ مصطلح التخييل خلال مراحل تطوره بسيرورة طويلة زمنيا، وصيرورة متنوعة شكليا قبل أن يستقر نسبيا على الحالة التّي هو عليها، وقد نشأ التخييل بعد نضج مصطلحين كبيرين هما: التخييل والمحاكاة، ولد الأول وتطور في المباحث السيكولوجية الأرسطية والتطورات التي عرفتها على يد الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد. وبالنظر بإيجاز في تعريف هذه المشتقات نلقي اليد على المفتاح النفسي والشعري للتخييل ضمن الشبكة التي تداخل فيما بينها رغم استقلال مفاهيمها، لأنها تنطلق من جذور وتعود إليه وهو الخيال.

 

الخيال

المخيل

المخيلة

خ ي ل                             المتخيلة

المتخيل

التخيّل

التخييل

 

وقد وضح فولفغانغ إيزر Wolfagang Iserالفرق بين التخييلي والخيالي في كتابة التخييلي والخيالي من منظور الانطروبولجية الأدبية، كما يأتي: "ويعني التخييلي هنا فعلا قصديا وهو فعل تكون له جميع خصائص حدث  وبالتالي يخلص التخييل من عبء الإعلان عن التصريحات الأنطولوجية المعتادة بما هو التخييل... لقد قدمت مصطلح الخيالي باعتباره مفهوما محايدا نسبيا، وهو مفهوم تتخلله الترابطات التقليدية، فالمصطلحات مثل الخيال والفانطاستيك ستكون غير ملائمة لأنها تحمل ترابطات عديدة ومعروفة وهي معرفة في غالب الأحيان بأنها كفاءات إنسانية تشبه كفاءات أخرى وتختلف عنها".(10)

فرق إيزر بين التخييلي والخيالي بأن أضفى القصدية المفتعلة على مصطلح التخييل باعتباره فعلا إنسانيا وهي السمة التي يفتقد مصطلح الخيال. ولكي نفهم الفرق جيدا نضع أسفله هذه الخطاطة المأخوذة من كتاب تطور مصطلح التخييلي في نظرية النقد عند السجلماسي.

الخيال السليم +  (التخييل)    ¬    الصناعة الشعرية الجيدة (المطلوبة)

التخييل مرتبط بالشعرية وهو غير الخيالي الذي يعني الوهم في حالات عديدة ومادام السجلماسي قد أثبت: "شعرية التشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز باعتبار اشتراكهما الجوهري في التخييل، فإن الخيال كان موجودا بها ممزوجا بلغتها وتعريفها ودلالتها ومواجهتها لشبكة أدواتها وطبيعتها الوظيفية، ولكن التخييل بمفهوم الفلاسفة وبصناعة السجلماسي اللغوية المتفردة جعلها أدوات لتشخيص ذلك الخيال وجعل التخييل موضوع الصناعة الشعرية"(11)

وعلى هذا فإن التخييل أكثر شمولية منالخيال، ويدل في الآن نفسه على السمة الشعرية للأعمال الأدبية، ومصطلح التخييل الذاتي قادر على الدلالة على كل الأعمال التي يتداخل فيها الواقعي بالتخييلي والحقيقة بالكذب.

عندما شرع فانصو كلونا Vincent Colonnaفي كتابة أطروحة استهلها بعبارة قائلا فيها:

" قررت الكذب، ولكن مع مزيد من الصدق ليس كالآخرين سأكتب عن أشياء لم أشهدها أبدا في حياتي، وعن مغامرات لم يكن لها وجود أبدا والتي لا أحد قال عنها وأعترف أن كلّ شيء لا وجود له"(12)

بعدذلك كتب مقدمة صغيرة، عبارة عن فقرة قصيرة لبرغسون: " دعونا جانبا من الخيال، وهو باختصار نظرة محددة جدا لقوة العقل، وخلق الشخصيات التّي تقول لأنفسنا عنها أنها التاريخ"(13)

لقد بدأ كلونا أطروحته بهاتين العبارتين ليبين طبيعة المشروع المقبل عليه، وهو المشروع الذي سيخصصه لدراسة التخييل الذاتي، وبها نرى علاقة تداخلية بين الحقيقة والكذب، بين التخييلي والمرجعي، بين المتخيل والتاريخ. فالتخييل الذاتي على حد قول أحمد المديني مكوّن من: " كلمتين تحيلان على دلالتين متميزتين، الأولى إلى التّخييل الذي هو عصب الرواية لا تكون إلاّ به، بحيث يرفعها عن الواقع العادي أو المتحقق عينا على المحتمل أو الممكن، من بوصلة تخيل الروائي وقدرته على التحول، والثانية الذاتي المتصل بالذات في حميميتها القصوى، وهنا يحدث انفصال عن التخييل الذي وإن صدر عن ذات أو ذوات وأدخلها في صميم العملية التمثيلية والفعل الروائي، إلا أنه يخضعها للموضوعية، ويجعلها تحت سيطرة السارد، وهو القائل والمصفاة وليس المؤلف بأي حال وإن تخص صيغة الاعتراف أو البوح أو ما شاكل"(14)

يضم مصطلح التخييل الذاتي كلمتين متناقضتين إحداهما تحيل على عالم من صنع الذهن والأخرى تدل على تجربة إنسان حقيقية، ولعل هذا المزج المنظوري تحت لواء مصطلح واحد هو ما صعب حصر دلالة هذا الأخير.

6-دلالة مصطلح التخييل الذاتي

يتقاطع مصطلح التخييل بعدّة مصطلحات من النّاحية الاشتقاقيّة والدّلاليّة منها الخيال والتّخيّل والمخيال، وكلّها تدّل على إعادة صياغة الواقع بحيث يراه النّاس في ضوء جديد والمتخيل في الحقيقة يحيل على الواقع ويستند إليه، في حين أن الواقع يحيل على ذاته، يرى أرسطو: "أن الخيال حركة يسببها الاحساس بحيث لا يتأتى للخيال أن يوجد بدونه، وهما أي الاحساس والخيال مختلفان، ومتى لم يوجد والاحساس لم يتأت"(15)

استبعد الفلاسفة المسلمون لفظة الخيال على أنها تنافي الحقيقة وأثاروا بالمقابل مصطلح التخييل، الذي يراد المحاكاة في معناها الواسع.

  فعبد القاهر الجرجاني جعل من التخييل عنصرا تأسيسيا لبناء الشعر من حيث وظيفته في التأثير على المتلقي، ورد في كتابه أسرار البلاغة أن: "التخييلي هو الذي لا يمكن أن يقال إنه صدق"(16)

تقابل كلمة Fictionباللغة العربية كلمة خيال وتخييل، فقد وجدنا من ترجم Autofictionبالتخييل الذاتي كالناقدة المغربية زهرة صدقي، والبعض ترجمها بالخيال الذاتي كالناقد حبيب عبد الرب سروري عدنان محمد.

التخييل الذاتي تعبير أدبي مركب من كلمتين متعارضتين دلاليا، فالذات كيان إنساني ذو وجود مستقبل وحضور مادي ضمن هذا العالم المصطلح عليه بالوجود، والتخييل فعل متأرجح بين الوجود والعدم قد يتحقق وجوديا أو يظل بين طيات العدم.

قدم سيرج دوبروفسكي-Serge Dobrovsky  1977تعريفا بسيطا للتخييل الذاتي معتبرا إياه سيرة البسطاء من الناس الذين لا يستظلون بمجد يؤهلهم لكتابة سيرة ذاتية بالإضافة إلى: "اعتباره مؤلفا أدبيا مع المحافظة على هويته من خلاله يخترع الكاتب وجودا آخر يتقمّص شخصية أخرى مع المحافظة على هويته الواقعية"(17)،وقد أتاح التخييل الذاتي للبسطاء ومفتقدي المواهب تدوين حياتهم.

يرى دوبروفسكي نفسه محكوما بخلق جنس جديد، أي التخييل الذاتي الذي هو  محدد بادئ ذي بدء بحرية الكتابة، ويرفض الأسلوب الأدبي لأن كُتّاب السيرة الذاتية إذ يكتبون بأسلوب جميل فإنهم يكذبون وهم يريدون قول الحقيقة، والذات في السيرة الذاتية تسعى إلى وضع كلامها وقصتها تحت سيطرة وعيها، في حين أنّ التخييل الذاتي هو سيرة ذاتية للوعي، حيث تتنازل –الأنا- عن كلّ إرادة في التّحكم، وبسبب هذا الغياب في التحكم يولد الفن وينتج أن التخييل الذاتي الدوبروفسكي مقدّم على أنّه جنس وضيع، فكون الإنسان يكتب خياله الذّاتي لا يحتاج إلى حياة هامة، ولا إلى موهبة أدبية، فقليل من العفوبة يكفيه، وإذ يتخلى التخييل الذاتي عن  إبراز قيمة تاريخية مثالية للحياة، فإنه ينتزع السيرة الذاتية من أسطورة العظماء، ويعلن ديمقراطيتها، وسيكون التخييل الذاتي بمعنى ما السيرة الذاتية للناس جميعا.(18)

 لقد رفض دوبروفسكي الأسلوب المتكلف لأنه غير قادر على التعبير عن الواقع بشكل مباشر، وقد أطلق على هذا النوع من الكتابة (أي الكتابة التي تخلصت من الصنعة والتكلف) الكتابة التداعوية L’écriture associative. وقد استعمل هذا النوع من الكتابة خاصة عندما كان يحكي أحلامه وذكرياته التي اعتبرها جزءا من التخييل الذاتي، فهو يؤمن كثيرا بالتحليل النفسي ذلك أن كاتب التخييل الذاتي ينطلق أثناء كتابته من اللاوعي. فكلما تتداعى الأخيلة والأحلام في حالة هذيان لمريض نفسي أثناء جلسات التحليل النفسي، تتداعى ذكريات دفينة للمبدع أثناء الكتابة الجريئة للتخييل الذاتي.

7--التخييل الذاتي وعلاقته بالسيرة الذاتية في الكتابة الروائية

إن الصّعوبة في ضبط مصطلح التخييل الذاتي تتأتى من كونه يضمّ دلالتين لمصطلحين متميزين، يتميز كل مصطلح منهما بخصائص مناقضة للآخر، ولعلّ أبسط تعريف دلالة مصطلح التّخييل الذاتي هو الذي نصوغه على هذا الشكل.

دلالة السيرة الذاتية + دلالة الرواية = دلالة التخييل الذاتي

هذا المزج بين حقل يعتمد على تاريخ الذات وسجلها المرجعي وبين حقل تخييلي شاسع يستثمر التجربة الذاتية والتاريخ بالإضافة إلى الكثير من العوالم المتخيلة هو ما أدى إلى شساعة دلالة التخييل الذاتي، والتي من شأنها أن تضم كلّ الإنتاجات الابداعية الأدبية.

يطرح مصطلح «التخييل الذاتي» عدّة إشكالات تتعلق بطبيعة الحكاية وجوهر الرّواية وعلاقة الأنا الواقعية بالتخييل، ولكن الإشكال العويص الذي يندرج ضمن مفهومات «التخييل الذاتي» يتمثل في إضفاء صبغة الرّواية على ما هو سيرذاتي، أو محاولة إدراج السيرة ضمن العمل الرّوائي الذي يتوافق فيه اسم المؤلف مع اسم الشخصية الرّوائية، وهو ما يفجّر أزمة «التخييل الذاتي» كمصطلح، إذ البنية الحقلية تتألف من التخييلي ويتعلق بالفنّي/ الجمالي، والذاتي المرتبط بالمرجعي الواقعي، وعملية الجمع بينهما لا تؤدي بالفهم سوى إلى التوفيق بين الكتابة من المتخيل ومزجها بما هو ذاتي، والرواية تمثل الفضاء الأمثل لذلك، ومنه تتداخل السيرة الذاتية وتسللها بوعي أو بدونه في أحداث العمل المتخيّل، بالسيرة الذاتية الصرفة كبنية لتشكيل معمار روائي خالص، وهو ما جاء تأسيسا بنيويا لـ«التخييل الذاتي»، إذ يعتبر دوبروفسكي أنّ من خصائص التخييل الذاتي أن يكون اسم المؤلف مطابقا لاسم الشخصية، وهو ما يجعل سؤال التخييل في الرّواية قائما باعتبارها حكاية من نسج الخيال، يستمد الرّوائيّ أحداثها من الواقع الموازي لواقعه، وإن تسرّب إليها شيء من سيرته فإنّ ذلك لا يكون إلا من باب التبادلية السلسة التي تحقّقها الرّواية للكاتب باعتباره فاعلا لغويا يجتاز مناطق الخيال انطلاقا من الواقع، فتتشكل اللغة كعجينة حاملة لبصمات الواقع بمعطيات الخيال، وهو ما يمنحها البعد الفنّي الذي يميّزها عن لغة اليومي، وبالتالي لا تعني المطابقة بين اسمي المؤلف والشخصية في التخييل الذاتي سوى تحقّق مرجعية الواقع.

   ينطبق التخييل الذاتي على الكثير من الكتابات الروائية المعاصرة، فقد سعى الروائيون إلى التخفي والتستر عبره، إن لم نقل التقنع لأغراض تختلف من كاتب إلى آخر وهذا ما أدى إلى التشكيك بإمكانية الحقيقة أو الصدق في السيرة الذاتية، فبدل أن يكتب الروائيون سير ذاتية كتبوا تخيلات ذاتية يشيرون ضمنيا إلى تجاربهم الشخصية، فالتخييل الذاتي: " هذا الجنس المحرف عن السيطرة الذاتية المهجن يستخدم أدواتها ويموهها في آن لغاية في نفس مؤلفها"(19)

تتضمن كلسيرة ذاتية تقريبا قسما من التخييل الذاتي، وهذا ما يؤكد عليه Autofictionالذي يكون غالبا لا واعيا أو مستترا، وهذا ما يؤكد عليه جرار جنيت بقوله: "لا ارى جيدا كيف يمكن تذوق السيرة دون تذوق التخييل الذاتي"(20) ثم إنه بمجرد صياغة الأحداث باللغة يعتبر تخييلا لها، أي تجريدا لها من واقعيتها ومرجعتيها، كما أن كلّ تخييل رواية، يتضمنن العديد من عناصر الواقع ذاته، وهي العناصر التي تدخل في صميم التجربة الشخصية للكاتب التي تتجسد في محيطه الذاتي أو الموضوعي.

8--تطور مصطلح التخييل الذاتي// التخييل الذاتي المرجعي

ظهرت جهود ومحاولات نقدية مختلفة تهدف إلى إحاطة مصطلح التخييل الذاتي بالدراسة والبحث المستفيض، مما أدى إلى اختلاف دلالته من ناقد غلى آخر، من بين هؤلاء النقاد فانصو كولونا Vincent Colonnaالذي قدم التخييل الذاتي-ليس اعتمادا على المعايير الكتابية اللغوية كما فعل دوبروفسكي- إنما قدمه على أنه تخييل للتجربة المعيشية.  وكاتب التخييل الذاتي يسكن في وسط الرواية مثل السيرة الذاتية، لكنه يعيد خلق حياته بطريقة غير حقيقية أو تلفيقية، تبدو حقيقية للقارئ21.

  ذهب كولونا إلى أن التخييل الذاتي لا يقصد به الاعتراف بل هو خلاف السيرة الذاتية مما يؤدي إلى إقصاء كل نصّ ذي مرجعية أوتوبيوغرافية، بمعنى أن البناء السردي ذو مظهر سير ذاتي ولكن يزيف بمغالطات مرجعية تخص أحداث الحياة المروية مما يؤثر حتما على واقع الشخصية أو الراوي أو المؤلف.(22)

أ-تخييل قصة الشخصية (الراوي)

تبتعد الشخصيةفي هذا النوع عن المؤلف بواسطة مظاهر معينة لقصة حياتها فكل تخييل للقصة يؤدي بالفعل إلى تخييل الشخصية مثل ذلك الكوميدية الإلهية la comédie divine، حيث يروي دانتي Dantéفي بداية الكوميدية الإلهية أنه لما تاه في غابة مظلمة انتهى به الأمر بأن التقى بشيخ (Virgil) الذي صار فيما بعد دليلا في جولة الجحيم والجنة... ثمة تطابق في شخص دانتي بين المؤلف والراوي والشخصية في الحالة الأولى لكن الأحداث  المروية ذات اللون الخرافي أو الأسطوري، لا يمكن أن تستقبل على أنها حقيقة حرفيا، فهناك تخييل للقصة.(23)

ب-تخييل هوية الراوي

 إن هوية الراوي متمايزة عن هوية ثنائية المؤلف-الشخصية، هذا التخييل حسب جيرار جنيت لا يركز على الأحداث المروية أو على الشخصية بل على هوية الراوي.

من ذلك السيرة الذاتية لآليس توكلاس، في عام 1933نشرت الروائية الأمريكية جرترود شتاين Gertrude Steinكتابا بعنوان (السيرة الذاتية لآليس توكلاس). يقدّم لنا العنوان النّص على أنه سير ذاتي لكن اسم المؤلفة شتاين-المختلف عن اسم الرواية والشخصية يقدم تكذيبا واضحا للوضع السيرذاتي للنّص، فآليس توكلاس وجدت في الواقع، إذ كانت كاتمة أسرار جرترود شتاين ورفيقتها، ومع ذلك فإنّ كتاب جرترود يتركز في الواقع عليها هي، وعلى ذكريات حياتها في باريس وسط الفنانين الشعراء قبل الحرب العالمية الثانية، وكانت آليس تشاركها هذه الحياة إذن يمكن القول أن جرترود قد كتبت سيرتها الذاتية تحت غطاء كتابة سيرة صديقتها. فالتّخييل الذاتي لم يتلاعب بالأحداث المروية التي هي صحيحة كلها، فقد خيلت جرترود وجهة نظرها وليس قصتها.(24)

 

 

 ج-تخييل هوية الشخصية

    هوية الشخصية في هذه الحالة متمايزة خياليا عن هوية ثنائية: المؤلف الراوي، ومثال ذلك 1878نشر جول فاليس Jules valléesكتابا بعنوان جاك فانترا Jacques Vingtrasيروي الكتاب ذكريات حقيقيّة لجول فاليس بصورة، مع تغيير أسماء الأماكن والشخصيات قصد تلطيف الصفة الفضائحية لقصة طفولتهم، حيث عنف العلاقات العائلية والاجتماعية، فلجأ فاليس إلى إعطاء لمسة غير واقعية لهذه العلاقات.(25)

تمس هذه الأنواع الثلاثة من التخييل المرجع الذي تحيل إليه الرواية فقد يستطيع الكاتب إيهام القارئ من خلال تخييل القصة والأحداث أو من خلال تخييل هوية الراوي إذ يلجأ الكاتب إلى تضليل القارئ ونفي أن يكون هو الشخصية في حدّ ذاتها.

ومن النقاد الذين أحاطوا بمصطلح التخييل الذاتي بالدراسة ماري داريوسيك Marie Darrieussecqقدّمت هذه الأخيرة التخييل الذاتي على أنه جنس غير جاد26وهي تقصد بذلك الإشارة إلى الطابع الخاص للفعل الكلامي المتضمن في الخيال الذاتي فعل كلامي تناقض به السيرة الذاتية، فهي ترى أن الفعل الخيالي الخاص بالسيرة الذاتية هو بالتزامن فعل تحقيق وطلب تصديق وتأييد موجه إلى القارئ (أنا لا أقوله فحسب بل يجب تصديقه). وفي حالة التّخييل الذاتي يكون الفعل مضاعفا أيضا ولكنه متناقض، لأنه يرى نفسه مقنعا، وفي الوقت نفسه يرى نفسه جادا... هذا ما يجعل عناصر المسرود كلها تتراوح بين قيمة فعلية وقيمة خيالية من دون أن يتمكن القارئ من القطع بينهما. بتعبير آخر فإن التخييل الذاتي خيال يحيل إلى الواقع L’illusion du réelle(27)

وتذهب داريوسيك إلى أنه يوجد سببان تدفع الكاتب إلى اختيار التخييل الذاتي للكتابة عن ذاته:

·  إخفاء الطابع السيري لمؤلف الكاتب حفاظا على شخصيته من مساسها والإطاحة بها من جهة، ولأجل ضمان رواج لكتابه في السوق الأدبية من جهة أخرى فالقراء يقبلون على قراءة الروايات أكثر من السير.

·  معرفة الكتّاب بحقيقة ذاكرة الانسان، الذي ينسى الكثير من حوادث حياته، ولأن القارئ يتوق إلى قراءة الحقيقة دائما، فإن المؤلف يستعين بالتّخييل اعترافا بعدم قدرته على قول الحقيقة الخالصة.

8-  التخييل الذاتي عند النقاد العرب

أوّل من أشاع مفهوم التخييل الذاتي في ساحة النقد العربي، هو الناقد العربي'' محمد برادة'' في كتابه: ''مثل صيف لن يتكرر" 1996، من جهة أخرى كرّس محمد الداهي الفصل الأخير من كتابه ''الحقيقة الملتبسة'' 2007للتخييل الذاتي، وقد بدراسة وتحليل مؤلف يستجيب في نظره لمعايير التخييل الذاتي وهو: ''دليل العنفوان لعبد القادر الشاوي'' الذي أثبت من قبله هذا المفهوم على صدر مؤلفاته الإبداعية، مؤكدا أنه الأقدر على لمّ شتات وخيوط تجاربه التي يتضارب فيها الحقيقي والوهمي).

في رواية دليل العنفوان لعبد القادر الشاوي وفي القسم الأول منه يسترجع السارد حياة الطفولة والشباب في تطوان والرباط، لكنه في القسم الثاني منه راجع ما سبق أن تلفظ به واعتبره مجرد تداعيات سائبة، لا علاقة لها بتاتا بالواقع المعيش، وهذا ما جعل القارئ حائرا فما كان حقيقيا صار وهما وخيالا.

ويحكي محمد برادة في ''مثل صيف لن يتكرر''، تجاربه الشخصية باسم مستعار (حماد) مخلاٍ بالمطابقة المحتملة بين المؤلف والسّارد من جهة، وبينها وبين الشخصية الرئيسية من جهة ثانية، هذا ما يمكن إن نطلق عليه تخييل ذاتي.(28)

      أسهم محمد الداهي في توسيع مفهوم التخييل الذاتي في عدة ملتقيات وحفز الباحثين والدارسين على تلقي المفهوم، ووضع حدودا فاصلة بينه وبين السيرة الذاتية الواقعية. فالتخييل الذاتي مثله مثل كلّ تجديد يجيب على الحاجة في التعبير بطريقة مغايرة، وهنا تكمن أصالته الأكيدة ويعيد ربط العلاقة بين اللايقين وبين الذات، كما أنه له جدارة إثارة السؤال الحقيقي والمزيف.

خاتمة

تلامس العملية السردية جوهرالقضيةالإنسانيةبتركيزهاعلىالذات، وإبرازانشغالاتها،وخصوصياتها،عبرالميلإلىالنوعالروائيالسيَريالذييضعأمامالقارئمادةتخييليةذاتيةتصدرعنفردينتدبهالكاتبلترميمذاكرتهالمتصدعة،واستجماعشظاياهاالمتناثرةعبرالزمن.ويتميزهذاالنوعمنالكتابةبكونهالأقربإلىالشخصيةالفردية،بإفساحهلهامتسعاللبوح والاعتراف،وآفاقاللتحدثعنالتجربةالذاتية.وبناءعلىذلكتوصلبحثناإلىجملةمنالنتائجندرجهاكالآتي:

- نشأت الرّواية كحاجة تلبّي رغبة الخيال المهيمن على وجود ذات لا يمكنها أن تستسلم للواقع، كنمط وحيد يستهوي فقط الذين ارتأوا هامشا واحدا لا يتعدّى بيولوجية الكينونة، وهنا تبرز أهمية التخييل الذاتي ليقف في المنزلة بين المنزلتين من جنسين أدبيين هما الرواية والسيرة الذاتية.

- استمد التخييل الذاتي من جنس الرواية مشروعية التخييل بكل ما يتيحه هذا الأخير من حرية مطلقة في بناء الأحداث والشخصيات والفضاء المكاني، واستمد من جنس السيرة مشروعية الذات والمرجع، إذ تتأسس الذات محوريّا لتصير القطب والمناط والمبتدأ والمنتهي تبصر العالم وتستعيد الأحداث السابقة، تحللها وتعلق عليها وتعيد تأويل تفاصيلها، وفق متطورها الراهن من خبرات الحياة والتجارب الثقافية

-يشكّلالوجودالفرديللشخصيةفيمواجهةالعالمالخارجيأحداهتماماتالنصوصالسيرية وهينصوصتوظفأحداثاووقائعومحكياتمنأجلطرحقضاياتخصطبيعةالوجودالفرديفيتفاعلمعالآخروالمحيطالسوسيولوجي،وهيالسياقاتالتيتحتمعلىالفرداتخاذالقرارات،وبناءالرؤيةتجاهالعالم،والتصرفإزاءالآخرين

- يطرح مصطلح التخييل الذاتي عدّة إشكالات تتعلق بطبيعة الرّواية وعلاقة الأنا الواقعية بالتخييل، ولكن الإشكال العويص الذي يندرج ضمن مفهومات التخييل الذاتي يتمثل في إضفاء صبغة الرّواية على ما هو سيرذاتي، أو محاولة إدراج السيرة ضمن العمل الرّوائي الذي يتوافق فيه اسم المؤلف مع اسم الشخصية الرّوائية، وهو ما يفجّر أزمة التخييل الذاتي كمصطلح.

-  يتسم التخييل الذاتي بحرية الكتابة، وعدم الرضوخ لأمر الوعي، والتداعي الحر، والتلقائية وإطلاق العنان للاشعور الداخلي، وهذا ما يجعل التخييل الذاتي سيرة ذاتية في متناول النّاس جميعهم على اختلاف مستوياتهم التعليمية.

- لم يحقق مفهوم التخييل الذاتي في الدراسات العربية أي تراكم، لكن ما يلاحظ أن السرد المعاصر اتجه في للتخييل الذاتي للتعبير عن هموم الانسان ومعاناته ومطامحه. فالتخييل الذاتي منح للمبدع فسحة أن يتحدث وأن يكتب باطمئنان، يرتمي في أحضان عالم خيالي يمنحه ما حرم منه في الواقع، ليصنع حقيقة أخرى في عالم افتراضي من صنع خياله

الهوامش

  1. Jacques LECARME et Eliane LECARME, Tabone(1997) ; L’autofiction, Masson/Paris, p282
  2. أ بو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الافريقي المصري: لسان العرب، ط ،3دار صادر، بيروت، لبنان
     مادة: خيل، مجلد 11،ص 226-227
  3.  أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام هارون ط ،1دار الجيل، بيروت،لبنان 1991م، م ،2مادة: خيل، ص.236 ،23.
  4. ابن منظور، ص227
  5. المصدر نفسه. ص 227 
  6. عبد القاهر الجرجاني (2007) أسرار البلاغة، ط1 مؤسسة الرسالة، ناشرون، ص 204
  7. المصدر نفسه، ص 205.
  8. المصدر نفسه، ص 205.
  9. حازم القرطاجني، (1966) منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق، ممحد الحبيب ابن الخوخة، دار الكتب الشرقية، تونس، ص 287
  10. فولفغانغ إيزرWolfgang Iser التخييلي والخيالي من منظور الأنطربولوجية الأدبية، تر. حميد الحميداني والجيلالي الكدية، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، ص 29.
  11. عبد اللطيف محفوظ، (2006) آليات انتاج النص الروائي، ط1، منشورات القلم العربي، ص 308.
  12. VINCENT COLOMNA(1989), l’autofiction (essai sur la fonctionnalisation de soi en littérature, Doctorat de l’EHSS, sous la direction de Gérard genette, école des études en sciences sociales,Paris P.02.
  13. المرجع نفسه، ص 04.
  14. أحمد المديني، راهن الرواية العربية، رؤى ومفاهيم، ط1، دار الأزمنة، المغرب، ص 78.
  15. عاطف جودة نصر، (1990) الخيال مفهوماته ووظائفه، ط1، الشركة العالمي للنشر، لونجمان لبنان، ص 05.
  16.  عبد القاهر الجرجاني أسرار البلاغة، ص 193.
  17. Serge Dobrovsky,)(1977fils paris, éd. Galilée,Paris P.11.
  18. ينظر: لوران جيني، (2012) الخيال الذاتي، تر. محمد عدنان، اتحاد الكتاب العرب، دمشقص 06.
  19. أحمد المديني، (1990) رماد الحياة، كتابة روائية في مرآة التخييل الذاتي، مقال في جريدة القدس العربي، سبتمبر، العدد 6303، ص 10
  20. ينظر: لوران جيني، الخيال الذاتي، ص 07.
  21. انتقد كولونا مفهوم دوبروفسكي للتخييل الذاتي بأنه مفهوم قاصر وليس إلا صورة مشوهة عن مفهوم الرواية السيرية.
  22. المرجع نفسه، ص 07
  23. المرجع نفسه، الصفحة نفسها.      
  24. - المرجع نفسه والصفحة نفسها.
  25. Voir Marie Darrieussecq( 1996)l’autofiction, un genre pas sérieux, revue poétique, septembre, n° 107,ParisP : 369-370.
  26.  نشرت ماري داريو سيك مقالا 1996 بعنوان l’autofiction un genre pas sérieuxفي مجلة la revue poétique
  27. - ينظر الموقع الالكتروني لمحمد الداهي www.mohamed-dahi.net:مقال بعنوان: التخييل الذّاتي في العالم العربي في 28/ 11/ 2010.
  28. محمد نور الدين أفاية (1988) الهوية والاختلاف في المرأة، الكتابة والهامش، إفريقيا الشرق، الدار البيضاءص 41-42.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ترتيب المراجع

 

  1. أفاية محمد نور الدين، الهوية والاختلاف في المرأة، الكتابة والهامش، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء 1988.
  2. إيزر فولفغانغWolfgang Iser التخييلي والخيالي من منظور الأنطربولوجية الأدبية، تر. حميد الحميداني والجيلالي الكدية، ط1، مطبعة النجاح الجديدة.
  3.  الجرجاني عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ط1 مؤسسة الرسالة، ناشرون،2007.
  4. الداهي محمد،التخييل الذاتي في العالم العربي...مقال في موقع الكترونيwww.mohamed-dahi.netفي 28-10-2010.
  5. الجرجانيعبد القاهر، أسرار البلاغة، ط1 مؤسسة الرسالة، ناشرون.2007
  6. جيني لوران، الخيال الذاتي، تر. محمد عدنان، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2012.
  7. ابن منظور، (1375ه1956م) لسان العرب، دار صادر، بيروت، مادة خيل، مجلد11
  8. أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام هارون ط ،1دار الجيل، بيروت، لبنان 1991م
  9. المديني أحمد، راهن الرواية العربية، رؤى ومفاهيم، ط1، دار الأزمنة، المغرب
  10.  المديني أحمد، أحمد، رماد الحياة، كتابة روائية في مرآة التخييل الذاتي، مقال في جريدة القدس العربي، سبتمبر، العدد 6303،1990.
  11. محفوظ عبد اللطيف، آليات انتاج النص الروائي، ط1، منشورات القلم العربي،2006.
  12. نصر عاطف جودة، الخيال مفهوماته ووظائفه، ط1، الشركة العالمي للنشر، لونجمان، لبنان.  1990
  13.  Jacques LECARME et Eliane LECARME, Tabone(1997) ; L’autofiction, Masson/Paris,
  14. Marie Darrieussecql’autofiction, un genre pas sérieux, revue poétique, septembre, n° 107,Paris .1996
  15. Serge Doubrovskyfils paris, éd. Galilée,Paris.
  16. VINCENT COLOMNAl’autofiction (essai sur la fonctionnalisation de soi en littérature, Doctorat de l’EHSS, sous la direction de Gérard genette, école des études en sciences sociales.1989

 

@pour_citer_ce_document

أوريدة عبود, «التخييل الذّاتي في العملية السردية بين المفهوم والتّأسيس »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 431-441,
Date Publication Sur Papier : 2020-08-19,
Date Pulication Electronique : 2020-08-19,
mis a jour le : 19/08/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7405.