القيم الجمالية للهندسة الصّوتية الخارجية في القصيدة المعاصرة- وجوه السّندباد لخليل حاوي نموذجا-Aesthetic values of external sound geometry in modern poem, the case of: Wojouh El-Sindibad written by Khalil Hawi
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N:03 vol 17-2020

القيم الجمالية للهندسة الصّوتية الخارجية في القصيدة المعاصرة- وجوه السّندباد لخليل حاوي نموذجا-

Aesthetic values of external sound geometry in modern poem, the case of: Wojouh El-Sindibad written by Khalil Hawi
ص ص 295-304
أسمهان مصرع، جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2, masraism@yahoo.fr

أسمهان مصرع
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تكمن القيم الجمالية للهندسة الصّوتية الخارجية في القصيدة المعاصرة عامّة ووجوه السّندباد خاصّة، في الشّكل الهندسي للكتابة الشعرية الحديثة الّذي يحمل في طيّاته بذور التّغيير، وكذا في الوقوف على العتبة الأولى لفهم النّص وهي العنوان، الّذي يعدّ مفتاحا من مفاتيح الولوج لعالم القصيدة. ناهيك عن امتهان الشّاعر وظيفة المهندس من خلال حُسن جمعه بين الصّوت الحاضر الكامن في الدّاخل والصّوت الغائب الوافد من الخارج من خلال تقنية التّناص.وكذا جودة استغلال النغمات الموسيقية، التي تتوفر لبحر الرّمل، محققا بفضل التفاوت والائتلاف والاختلاف بين النغمات وأطوال الأسطر الشعرية، درجة عالية من التنوع الموسيقي المترجم لجمالية الإيقـاع الصوتـي الخارجـي، مـع ورود بعـض الزحافـات والعلل من أجل كسر أفق التوقّع لدى الملتقي، وجعله دائم الترقب والانتظار لمعرفة الوتيرة الموسيقية لكلّ سطر شعري.

 الكلمات المفاتيح

القيم الجمالية، الهندسة الصّوتية، الإيقاع، الصّوت، القصيدة المعاصرة

Les valeurs esthétiques, qui caractérisent la géométrie du son dans le  poème moderne en général, et le cas de Sindibad en particulier, se voient dans la forme géométrique adoptée dans l’écriture d’un poème qui contient en germe des changements. Ces valeurs se voient aussi dans le fait de se concentrer sur le titre qui est indispensable pour comprendre le contenu du poème. Il est à noter que le poète lui- même joue un rôle essentiel en tant qu’un ingénieur pouvant combiner le son présent à l’intérieur et le son absent qu’on entend de l’extérieur. Cette combinaison se fait grâce à l’intertextualité ainsi que le bon exploit des tonalités musicales dont dispose Bahr Raml et qui présente une variété musicale reflétant la beauté du rythme acoustique extérieur. En outre, il existe   certains changements au niveau des vers comme Ezihafat et Elillal, ce qui rend le récepteur plus attentif en suivant le rythme de chaque vers.

Mots- clé: valeurs esthétiques, géométrie du son, rythme, son, poème moderne

The esthetic value of the external phonological structure, regarding the modern poem, in general, and Wojouh El-Sindibad, in particular, lays largely in the geometric form of the new way of poem writing and the title which is the first step towards the poem’s content, without forgetting the poet’s role as an engineer in combining the present inherent sound in the poem and the absent sound that comes from outside through using the technique of "Intertextuality". Moreover, the poet uses the musicality that Bahr El-Raml contains, fulfilling, through the disparity, alignment and difference between the tones and the lengths of the lines, a high degree of musical diversity that reflects the beauty of the external acoustic rhythm, in addition to the presence of some changes that occur in verses like Ezihafat and Elillal which make the listener less predictable and more excited about discovering the following rhythm of each verse.

Key-words:The esthetic value- phonological structure- rhythm- sound- the modern poem

Quelques mots à propos de :  أسمهان مصرع

 جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2, masraism@yahoo.fr

مقدمة

إنّ تشبيه التّركيب الشّعري بالنّسيج تشبيه معروف، وقديم قدم الشّعر، فالعرب كانت تُلمّح إلى أنّ بيت الشِّعر وبيت الشَّعر سيّان، فكلاهما نسيج، وما الاختلاف بينهما إلاّ في مادّة الحياكة؛ فإذا كان صانع الأوّل منهما يتّخذ الصّوف مادّة له لنسج الخيمة، فإنّ صانع الثّاني يتّخذ من الأصوات اللّغوية مادّة له لنسج القصيدة.

وإذا كان العربي قديما يتّخذ من الخيمة مأوى له، فإنّ العربي المعاصر يتّخذ بدل الخيمة بناءً، يسهر المهندس على هندسة طوابقه. كذلك الشّاعر المعاصر الّذي تمثّل الكلام الشّعري بوصفه بُنى، وهذه البنى تُضاف إلى بعضها البعض لتُشكّل في مجموعها بناءً له سطح وثيق الصّلة بالمستوى الصّوتي، وله عمق يغوص فيه المستوى الدّلالي. وبالجمع بين السّطح والعمق تكتمل صورة هذا الصّرح الشّعري، الّذي تتحدّد خصائص بنيته اللّغوية عامّة، والصّوتية خاصّة عبر الشّكل، وتتّحدّد خصائص بنيته الدّلالية عبر المضمون.

إن جمالية النّص الشعري تكمن في هندسة بنائه الصوتي؛ أي في "أجراسه الصوتية المتلاحقة، ففلسفة النص الأسلوبية إنما تستمد جماليتها من الصوت" (مرتاض، النص الأدبي من أين؟ وإلى أين؟، 1983، صفحة 121).

ولكن قبل الوقوف على القيم الجمالية للهندسة الصّوتية في القصيدة المعاصرة لابدّ أن ندرك أنّ للشعر نخوة تجعل القصيدة غيورة كأشدّ النّساء غيرة وحصانة، فهي لا تسلّم قيادها إلاّ لمن صدق في حبّه لها، وأخلص في ذلك، وأتاها من أهم الأبواب، باب اللّغة والإيقاع، أو الصورة (الغذامي، 1987، صفحة 119). عندئذ سيجد القصيدة تتفتّح أمامه، باسطة يديها إليه، فتموت بين يديه وهو يدرسها، حتّى إذا ما اعتقد أنّه سيثويها في رمسها إلى الأبد، وسيسجي إليها آخر نظرة، وجدها شامخة هازئة منه، فهي لم تمت، بل هي تسخر من كل شروحه لها، ونقده إيّاها، وتبعث في نفسه شعورا بأنّه لابدّ أن يبحث عن مفتاح جديد ليفتحـها، وكلّما وجد المفتـاح استعصت عليــه أكثـر، وكانت أكثـر انغـلاقا. وقصيدة وجوه السندباد (حاوي، 1979، الصفحات 191-221)واحدة من هذا النّوع، تستفرغ ما في جراب النّقاد من تفسيرات، ولا يستفرغون ما بين ثناياها من معان، لأنّـها طيّعــة أبـدا لقراءات متعـدّدة.

ويمكن استكناه جمالية الهندسة الصّوتية الخارجية في القصيدة المعاصرة من خلال نموذج الدّراسة اعتمادا على الوصف والتّحليل، من زوايا متعدّدة أهمّها ما يأتي:

أوّلا/جمالية الشكل الهندسي للكتابة الشعرية المعاصرة

إنّ الهندسة الخارجية للقصيدة المعاصرة قد حطّمت نموذج القراءة، المرتبط بنمط إيقاعي إنشادي محدّد، لتفرض نموذجا جديدا فيه ما يميّزه من الغرابة والغموض والتّغيّر، وكأنّ القارئ في رحلة سندبادية يعلم بدايتَها ويجهل تفاصيلَها.وهذا ما يظهر جليّا في قصيدة وجوه السّندباد بوصفها نموذجا للقصيدة المعاصرة، والّتي تقوم على نظام السّطر بدل نظام البيت، وعلى الحرّية بدل التّقيّد، كما تقوم على تركيب إيقاعي دلالي لا نهائي، على نقيض القصيدة العمودية الّتي تبدأ "من نقطة معلومة، لتنتهي إلى نقطة أخرى محدّدة، يتحرّك بينهما القارئ بيسر عادي وفي اطمئنان يعلم فيه بدايتَه ونهايتَه، وملامحَ المكان الّذي يرتاده بخلاف القارئ الحديث الّذي يبدأ من نقطة معلومة لينتهي إلى نقطة مجهولة، بحيث أنّ السّطر الشّعري، قد ينتهي في جملة واحدة، وقد ينتهي في جمل عديدة." (رماني، 1987، صفحة 324)وهذا ما جعل الأسطر الشعرية متراوحة بين الطول والقصر، ويتضح ذلك من خلال الشكل الهندسي للكتابة الشعرية الحديثة، الّذي نمثّل له بالمقطع الرّابع من وجوه السّندباد(رماني، 1987، صفحة 327):


4-  بعد الحمّى:                               

وَجْهُ مَنْ يَصْحُو مِنَ الْحُمَّى:(س95)

فَرَاغٌ، شَاشَةٌ تَرْتَجُّ،(س96)

عَيْنٌ مُطْفَأَه،(س97)

وَصَرِيرُ الْمِدْفَأَه،(س98)

4- ـــــــــــــــــــ :

ـــــــــــــــــــــــــــ:(س95)

ـــــــــــــــــــــ،(س96)

ــــــــــــــــ،(س97)

ـــــــــــــــــــــ،(س98)

 

إنّ توالي الأسطر الشعرية في غير انتظام، وتوزعها بشكل مميز على الصفحة البيضاء بمسافات تتراوح بين الطّول والقصر، يعدّ من أشكال الهندسة الكتابية التي تطبع القصيدة المعاصرة بطابع من الإيحاء والغموض في الدّلالة. ومن هنا يمكن القول إنّ أولى مفاتيح جمالية الهندسة الصّوتية يكمن في القيم الإيحائية للشّكل الكتابي؛ هذا الأخير الذي يعد نقطة البداية لتلقي النص الشعري، لذا فعلى القارئ أن يشمل القصيدة المعاصرة بنظرة تأملية كلية:

أفقيا و/عموديا في الآن نفسه، لأن اللّفظة الواحدة قد تحتاج إلى صفحة كاملة، تجعل منها مملكة هي ملكتها، ولكن هذه الملكة تحتاج إلى ملك يوفّر لها أسباب الحياة والبقاء، ومعطيات الدّلالة والإيحاء، ويكون لها متمما، وهذا الأخير هو الفضاء الناصع البياض، الذي يحيل ذهن المتلقي إلى دلالات وقراءات متعددة، تكون سببا في ثراء النص.

ثانيا/ القيمة الجمالية لهندسة العنوان:

   بعد أن يستكشف القارئ القيم الإيحائية للشّكل الكتابي، يقف عند أولى عتبات النّص، وهو العنوان الّذي يعدّ مفتاحا من مفاتيح الولوج لعالم القصيدة المعاصرة؛ فهو "العتبة الأولى لفهم النّص، أو هو البهو الّذي منه ندلف إلى دهاليز نتحاور فيها مع النّص وعوالمه الممكنة، يمدّنا بزاد ثمين لتفكيكه ودراسته، ويُقدّم لنا معونة كبرى لضبط انسجامه وفهم ما غَمُضَ منه" (مفتاح، 1987، صفحة 72).

ووجوه السندباد كان عنوانا للتحدّي من خلال التّعدد، وكذا تكرار الأصوات المكوّنة للجذر (و ج ه) من خلال تواتر الألفاظ الدّالة على الوجه في نص القصيدة ست وثلاثين (36) مرّة؛ منها ما جاء بصيغة المفرد (وجهي، وجهك، وجه) ومنها ما جاء بصيغة المثنى (وجهان)، ومنها ما جاء بصيغة الجمع (وجوه). ومما لا شك فيه أن تعدد هذه المفردات يشكل "مفتاح الرّؤية عند خليل حاوي، لأنها تؤسس عناصر دلالية قادرة على منح القارئ الخلايا المضمونية للقصيدة العربية" (بلعلى، 1994، صفحة 78)، التي تتلخص في البعث العربي الجديد والمقاومة لبذور الفناء والزوال.

ومن هنا يمكن القول إن تكرار كلمة وجوه وبصيغ مختلفة - إذ ما جمع في العنوان فُصِّل في المتن إفرادا وتثنية- قد تجاوز الوظيفة الإيقاعية إلى الوظيفة الدّلالية المترجمة للرّغبة في الانعتاق الجماعي المجسّد في المتكلم (وجهي) والمخاطب (وجهك)، والغائب (وجهه) الذين جمعهم القدر على مركبة واحدة مبحرة في مغالق النّفس مرّة وفي غياهب الغربة أخرى، بقيادة شخصية مغامرة هي السّندباد. وقد تجلّت الأسطورة صريحة في عنوان القصيدة، ففيه استعار خليل حاوي أسطورة السّندباد من قصص ألف ليلة وليلة، واستغرقت حكاية رحلاته ثمان وثلاثين (38) ليلة من اللّيالي الألف؛ إذ تبدأ من اللّيلة (561) إلى اللّيلة (599)، تدور أحداثها في بغداد زمن الخليفة هارون الرّشيد.

وقد عبر خليل حاوي في وجوه السندباد عمّا يختلج نفسه على لسان هذه الشخصية التراثية الأسطورية التي تعد "رمز الاكتشاف والبحث في عوالم الامتلاء والخصوبة... [و]المعادل الموضوعي لإشرافات رؤيوية، رؤيا البعث المنتظر لواقع هش متآكل" (فيدوح، 1994، صفحة 113).كما أنّه تجاوز التعبير عن أسطورة السندباد ليعبّر بها عن شخصية الإنسان المعاصر الضائعة؛ فالسندباد رمز للتفرّد في المعاناة الشخصية، وهو رمز للضياع وعدم الاستقرار، وفي الوقت نفسه يتقمص الشاعر شخصية السندباد؛ فإذا كان هاجس هذا الأخير هو تغيير الرّحلة عبر الزمان والمكان، فإن هاجس خليل حاوي  أزمة ذّات وجودية لها رغبة في الانعتاق من كل ما هو سلبي ثابت، وبعبارة أخرى الشاعر سندباد مبحر في خضم نفسه وبحر الحياة والضمير، ذو شخصية متميزة قوية شجاعة قادرة على التغيير ولو أصابها الإعياء (الحاوي، 1984، الصفحات 174-175)(محمد، 1986، صفحة 124).

هكذا إذن " تعددت ملامح السندباد ووجوهه في الشعر المعاصر بتعدد أبعاد تجربة الشّاعر، وتنوّع ملامحها النفسية والاجتماعية والفنية، وإن كان من الممكن ردّ وجوه السندباد وملامحه - على كثرتها وتنوعها- إلى وجهه الأساسي الأصيل، وجه المغامر الجوّاب بحيث يمكن لكل وجوه السندباد الأخرى أن تعدّ ملامح تفصيلية لهذا الوجه الأساسي." (شعري زايد، 1997، صفحة 158)الّذي يظهر ملمحا لوجوه عدّة.

ثالثا-/جمالية تداخل الصّوت الحاضر مع الصّوت الغائب

امتهن خليل حاوي وظيفة المهندس من خلال حُسن جمعه بين الصّوت الحاضر الكامن في الدّاخل والصّوت الغائب الوافد من الخارج في نصّه الشّعري، هذا الأخير الّذي لا يُعدُّ "ذاتا مستقلّة أو مادّة موحّدة ولكنّه سلسة من العلاقات مع نصوص أخرى، ونظامُه اللّغوي مع قواعده ومعجمه، جميعُها تسحب إليها كمّا من الآثار والمقتطفات من التّاريخ...حيث يتأسّس النّص في رحم الماضي، وينبثق في الحاضر ويُؤهِّل نفسَه للتّداخل مع نصوص آتية في المستقبل." (الغذامي ع.، د ت، الصفحات 13-14)وتداخل الأزمنة هذا كفيل بقيام جدلية الحضور والغياب في القصيدة المعاصرة، هذه الثّنائية الّتي استقطبت اهتمام النّقاد المعاصرين، وشغلت حيّزا كبيرا، وأسالت حبرا كثيرا في مجال الدّراسات النّقدية المعاصرة بمصطلحات شتّى، تنضوي تحت لواء التّناص. ومن أمثلته سطرين شعريين تكرّرا ثلاث مرّات، ليكون هذا التّكرار ترجمة واضحة لكثرة الأمراض والعلل التي ابتلي بها الواقع العربي خاصة في وقت تضاعف فيه عدد من جار عليهم الزمن الظالم، فكادت أنفاسهم تنقطع وهم في عتمة الرحم، فتعالت أصواتهم مختنقة من خلال:

 خَفِّفُوا الْوَطْءَ (س188)

 عَلَى أَعْصَابِنَا يَا عَابِرِينْ (س189)

خَفِّفُوا الْوَطْءَ (س196)

عَلَى أَعْصَابِنَا يَا عَابِرِينْ(س197)

خَفِّفُوا الْوَطْءَ(س202)

عَلَى أَعْصَابِنَا يَا عَابِرِينْ(س203)

ومع ذلك فصوت الشاعر خليل حاوي الحاضر فيه قوة ووضوح سمعي، على خلاف صوت الشاعر أبي العلاء المعري الغائب والقائل:    

خَفِّفِ الْوَطْءَ فَما أَظُنُّ أَديمَ     * 

 الأَرْضِ إِلا مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ. (المعري، د ت، صفحة 7)

هذا الصوت الذي امتد من غياهب الماضي ليصل إلينا من خلال وجوه السندباد هامسا خافتا ضعيفا، يعبر عنه النسيج الصوتي المتمثل في تداخل الصوت الحاضر مع الصوت الغائب من خلال تقنية التّناص الشّعري.

وخليل حاوي في وجوه السّندباد وظّف أيضا التّناص الأسطوري؛ فقد اتّخذ من أسطورة السّندباد – بوصف الأسطورة مادّة تراثية صيغت في عصور الإنسانية الأولى- وسيلة للتّعبير عن خلجات النّفس وخواطر الفكر؛ فالسندباد هو من أهمّ الشّخصيات التّراثية حضورا في الشعر العربي عامّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ "خلف كلِّ لغة شعرية ترقد طبقةٌ من الإشارات والرّموز الأسطورية، ويترسّب قدر من لغة الإنسان الأولى، بما فيها من تجسيد للأهواء والمشاعر، ومن بثّ الحياة في الأشياء، ومن إحساس بوحدة الكون والإنسان" (قزع، 2012). وهنا تبرز فحولة الشّاعر المبدع في هندسة ما ترسّب في وعيه بفعل الممارسة والتّكرار، ثمّ تنصهر هذه التّرسّبات مكوّنة الصّورة الذّهنية للتّراكيب المنتظمة باعتبار انطباقها على تركيب خاص وهذا ما يصبّ في الخلفية المعرفية لعملية إنتاج النّص الأدبي (مباركي، 2003، صفحة 100)عامّة والشّعري منه خاصّة.

   ولأنّ النّفس توّاقة لاكتشاف كنه المغاليق، كانت الرّغبةُ عارمةً لدقّ باب الأسطورة في وجوه السّندباد لأنّها  -أي الأسطورة- تعدّ من "أكثر الغوامض إثارة، يلجأ إليها الشّعراء لتحقيق أحلامهم، والتّعبير عن تطلّعاتهم الفنّية والفكرية، وإثراء تجاربهم الشّعرية" (مباركي، 2003، صفحة 207)، لأنّ "اللّغة في استعمالها اليومي المعتاد تفقِد بالضّرورة تأثيرَها وتشحُب نضارتُها، ومن هنا قد يكون استعمال الرّمز الأسطوري، والأسطورة الرّمز بمثابة مناجاة للأداء اللّغوي، يستبصر فيه صاحبُه بواسطة التّشكيلات الرّمزية إمكانات خلق لغةِ تتعدّى وتتجاوز اللّغةَ نفسَها" (عيد، 1985، صفحة 295).

ووجوه السّندباد تُحفة لغويّة توفّر للمتلقّي مادة قرائية هائلة، كما أنّها تجسّد تلاحم الشّعر والأسطورة في هدف واحد وهو "اكتشافُ العالَم وتعميقُ معرفةِ الإنسانِ لنفسِه وبالحياةِ من حولِه" (أنس، 1992، صفحة 42).

رابعا/ جمالية الإيقاع الصّوتي الخارجي

   يكوّن الوزن الشعري ( التفعيلات)  مع القافية الإيقاع الخارجي ، كما يكوّن حسن التّقسيم والتّجانس والتّضاد، والترّكيب والاختيار الصوتي للألفاظ الإيقاع الداخلي (عبد السميع متولي، 2013، صفحة 131).ومن مفاتيح الهندسة الصّوتية في القصيدة المعاصرة الإيقاع الصّوتي الخارجي، الّذي يعدّ وسيلة حتمية يستحيل الاستعاضة عنها نهائيا في مجال الصّياغة الشّعرية؛ ذلك أنّ تأثير الوزن على المتذوّق لهو أشبه بتأثير الخمرة خلال حديث شيق، أو أشبه من أن يكون كالخميرة، التي لا قيمة لها بذاتها، لكنها تضفي على الشراب الذي تمازجه روحا وتوهجا (فضل، 1984، صفحة 279). فيصبح للشعر لونان موسيقيان أولهما الوزن العروضي وثانيهما الإيقاع" (محمد ع.، 2005، صفحة 31).

   والإيقاع الصّوتي الخارجي في وجوه السّندباد بعيد عن الرّتابة لبعد أسطرها الشّعرية عن التّساوي والتّوازي ناهيك عن نأي خليل حاوي عن الصّورة العروضية التّامة للبحر الشّعري؛ فقد صاغ قصيدته المعاصرة على وزن بحر الرّمل، إلاّ أنّه نثر بذور التّغيير دون أن يتحرّر نهائيا من " علم الهندسة الموسيقية الذي ترافقه الإيقاعات المنتظمة في آخر الموجات النغمية " (التبريزي، د ت، صفحة 17). فالشّاعر خليل حاوي في قصيدته لم يخرجعن كل قوانين الإيقاع التي قنّنها الخليل، فإذا تجاوز "البحر العروضي ذا الشكل الهندسي الثابت والمصحوب-عادة- بروي واحد يتكرر في نهاية كل بيت " (الغذامي ع.، 1987، صفحة 106) فإنه لم يخلط بين تفعيلات البحور المختلفة، بل اتخذ من وحدة بحر الرّمل (فاعلاتن) تفعيلة نواة بنى بها وزن أسطره الشعرية،  ولهذا كانت أيضا بعيدة كل البعد عن هشاشة البناء الصوتي وركاكة الجرس الموسيقي؛ ذلك أنها طيّعة  للتقطيع الكامل على أساس عروض الخليل، وتجري تمام الجريان على قوانينه لأنّ " أيّة قصيدة حرة لا تقبل التقطيع الكامل على أساس العروض القديم      – الذي لا عروض سواه لشعرنا العربي – لهي قصيدة ركيكة الموسيقى، مختلة الوزن، ولسوف ترفضها الفطرة العربية السليمة حتى ولو لم تعرف العروض. ونحن لا نقول هذا لأننا نعادي التجديد، وإنما تفعيلات الشعر... شيء ثابت... ثبوت الأرقام في الرياضيات، فمهما تجددت العصور والأفكار، فإن الأرقام… تبقى ثابتة لا تتغير" (أبو ديب، 1981، صفحة 170).

وتكمن جمالية البحر الشّعري لوجوه السّندباد في تكرار وحدة بحر الرّمل، وهي تفعيلة (فاعلاتن) بنسب متفاوتة على نسق معيّن، ممّا أضفى جرسا موسيقيا تأنس له الأذن وترتاح له النّفس، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ "البحر الشعري هو امتلاء البحر العروضي بالحيوية الدفّاقة من المعاني، التي تحتل فراغ التفعيلات أو تحيي جفافها بمعان على نغماتها" (بابكر السيد، 1985، صفحة 201). ذلك أنّ البحر في صورته المجرّدة لا يحمل أيّة دلالة، إنّما يكتسب دلالته بعد توظيفه في القصيدة، كإطار نغمي لها يمنحها " نغمتها الخاصة التي تتفق وحالة الشاعر النفسية." (عزالدين، 1962، صفحة 79)وخليل حاوي وجد في موسيقى الرّمل أفصح لسان للتعبير عن مختلجات نفسه، ومفتاحه:

رَمَلُ الأبْحُرِ تَرْوِيهِ الثُّقَاتْ  *

                 فَاعِلاتُنْ فَاعِلاتُن فَاعِلات (صالح مناع، 1989، صفحة 243).

وبحر الرّمل"بنغمته الخفيفة المنسابة الرشيقة، له رنّة عاطفية حزينة من غير كآبة، ولذلك فهو- بحسب أهل العروض-  يصلح للأغراض الترنيمية الرقيقة، وللتأمّل الحزين، ولا يتلاءم مع الصلابة والجلد والحماسة(حماسة، 1999، صفحة 73).

تجدر الإشارة إلى إنّ الأصل في وزن الرّمل عند الخليل بن أحمد الفراهيدي تكرار (فاعلاتن) ست مرات، فيكون السطر وافيا-ويسميه بعضهم "تاما" أيضا، على أنهناك فرق بين التام والوافي، فالأول يستوفي تفاعيله من دون زحاف أو علة، والثاني يستوفيها جميعها مثله لكنه يكون مصابا بزحاف أو علة.-  إذا استوفى تفعيلاته كاملة، ومجزوءا إذا حذف ثلث تفعيلاته، ومشطورا إذا حذف نصفها، ومنهوكا إذا حذف ثلثها، [وقد] يشطر المنهوك ليقوم على تفعيلة واحدة فيسمى الموحد" (حقي، 1988).

وما تجدر الإشارة إليه هو تعدّد صور بحر الرّمل في وجوه السّندباد؛ فقد ورد مجزوءا، إذ اجتزأ الشاعر من تفعيلات البحر الستة بأربعة فقط، وبقي من السطر ما يشكل معنى تاما، نحو قول الشاعر:

يَمْسَحُ الْغَبْرَةَ عَنْ أَمْتِعَةِ مِلْءَ الْحَقِيبَه (س41)     

 فاعلاتن فعلاتن فعلاتن فاعلاتن.

كما ورد مشطورا إذ حذف ثلاث تفعيلات؛ أي نصف العدد الأصلي نحو قوله:

آمِنٌ فِي مَطْرَحٍ لا يَعْتَرِيه (س4)  

 فاعلاتن فاعلاتن فاعلات.

وورد منهوكا-سمي منكوها أي متبعا؛ لأن الشاعر حمل على تفعيلتين إذا كان المعنى فيهما تاما – ما كان يجب أن تحمله ست تفعيلاتفأتعبه ذلك.إذ حذف أربع تفعيلات، وأبقى على تفعيلتين – قد تشكلان سطرا شعريا ذا معنى كاملا وألفاظا تامة، أو متصلا بما يليه من الأسطر دلاليا- ويسمى ذلك: التدوير: ويطلق على اتصال أسطر القصيدة بعضها ببعض، بحيث يصعب التوقف نغميا ودلاليا في أية مرحلة، إلا إذا انتهى التدوير-.كقوله:

مَالَهُ أَمِسٌ وَذِكْرَى (س53)        

 فاعلاتن فاعلاتن.

كما ورد موحّدا، ومن ذلك قوله:

غِبْتَ عَنِّي (س17)         

 فاعلاتن

 ومن ثمة يكون خليل حاوي قد استغل كل الهندسيات الصّوتية والنغمات الموسيقية، التي تتوفر لهذا البحر في قصيدة واحدة، محققا بفضل هذا التفاوت والائتلاف والاختلاف بين النغمات وأطوال الأسطر الشعرية، درجة عالية من التنويع الموسيقي، الذي يهدف إليه الشاعر المعاصر- بالدّرجة الأولى – لإشباع النفس المتعطشة للقضاء على رتابة الإيقاع الصارخ، الذي يضفيه الوزن العروضي التام على موسيقى القصيدة. ولا أدلّ على ذلك إلا ما أدخله الشعراء المعاصرون من " التعديلات على الوزن، ما يكسر من حدّة وقعه في الأذن بما يتيح للشاعر أن ينقل صورة موسيقية أقرب ما تكون إلى أحاسيسه منها إلى النظام العروضي المفروض" (عزالدين، 1962، صفحة 80).

إذا كانت القصيدة التّقليدية وثيقة الصّلة بالغرض، فإنّ القصيدة المعاصرة عامّة ووجوه السّندباد خاصّة لا تتربط بالغرض"بقدر ما تكون تابعة للحالة الانفعالية للشاعر، ودرجـــة توتره النفســي أثناء العملية الإبداعية" (بوحوش، 1993، صفحة 25). ويظهر ذلك من خلال الوحدة الإيقاعية (فاعلاتن) الّتي اتخذها خليل حاوي لبنة لهندسة صرح قصيدته العروضي لما فيه من نغم سريع الحركة، ولعل ذلك متأت من أنه يبدأ بسبب خفيف ثانيه حرف مدّ (فا)، يليه وتد مجموع ثالثه حرف مدّ أيضا (علا)، لينتهي بسبب خفيف تمثله حركة وسكون، وهذا "ما يتناسب مع الانفعالات المتأججة أكثر مما يتناسب مع  الـتأملات الفلسفية، أو المواقف التحليلية" (شراد، 1985، صفحة 175)؛ أي أنه يتناسب والانفعال الناتج عن اللاشعور الذي يعدّ أساس العملية الإبداعية، أكثر مما يتناسب وحالات الشعور. كما أنّ تفعيلة الرمل (فاعلاتن) استطاعت من خلال ما تنطوي عليه من امتداد أن تعبر بصدق عن الآهات والأنّات، من خلال مقاطعها العروضية التي توافق غربة الشاعر النفسية.

والسطر الشعري سواء طال أم قصر مازال خاضعا للتنسيق الجزئي للحركات والسّكنات المتمثلة في التفعيلة، إلا أن عدد التفعيلات في كل سطر غير محدد وغير خاضع لنظام ثابت. فخليل حاوي في وجوه السندباد - كما سبق ذكره- يطيل النغمة حينا، لينسج سطره من أربع تفعيلات، ويقصّر فيها حينا آخر، ليقيمه على تفعيلة واحدة وفي بعض الأحيان على تفعيلة موزعة بالتدوير بين سطر وبداية سطر آخر، نحو:

ضَحِكَتْ (س64)          

فعلا

ثَوْبِي الدِّمَشْقِيُّ الحَرِيرْ (س65)       

تن فاعلاتن فاعلات

فالسطر الشعري الأول (ضحكت) يعد بنية دلالية مكتفية - إلى حد كبير- بذاتها معبّرة عن قيام الأنثى بفعل الضحك، إلا أنه لا يشكل بنية موسيقية تامّة، لقيامه على نصف تفعيلة نصفها الآخر في السطر التالي له. ومن هنا يمكن القول إن عدد التفعيلات يختلف في أسطر خليل حاوي الشعرية " تبعا لنوع الدّفقات والتّموجات الموسيقية التي تموج بها نفسه" (عزالدين، 1962، صفحة 62)؛ففي مواقف الحركات السريعة قصُرت الدّفقة النفَسية حتى أصبحت نصف تفعيلة، وفي مواقف الذبذبة البطيئة أو المتموجة امتدت الدّفقة النفَسية حتى مسافة أربع تفعيلات في السطر الشعري الواحد.

هذا عن الوحدة الإيقاعية على مستوى السطر الشعري الواحد، أما على مستوى الجملة الشعرية التي تجاوزت البيت الشعري القديم كوحدة دلالية في ذاته فأصبحت ممتدة بامتداد النَّفَس لدى الشاعر.

ولأن السطر الشعري في وجوه السندباد يتراوح بين نصف تفعيلة وأربع تفعيلات ولا يزيد عنها، فإن الجملة الشعرية تحدد انطلاقا من هذا المعطى؛ فالقصيرة منها تبدأ من خمس تفعيلات لتصل إلى عشر- كأبعد تقدير- وما زاد عن ذلك فيعدّ جملة شعرية طويلة. وعلى سبيل التمثيل للجملة الشعرية القصيرة نورد قول خليل حاوي:

طَالما عَضَّ عن الجوع (س38)         

 فاعلاتن فعلاتن فا

عَلَى الشَّهْوَةِ حَرَّى (س39)           

 علاتن فعلاتن

وَانْطَوَى يَعْلِكُ ذِكْرَى (س40)           

 فاعلاتن فعلاتن

وَيَمْسَحُ الْغَبْرَةُ عَنْ أَمْتِعَةِ مِلْءَ الْحَقِيبَه (س41)      

فاعلاتن فعلاتن فعلاتن فاعلاتن

أما عن الجملة الشعرية الطويلة، فنمثل لها بقوله:

لَمْ تَرَ الْغُرْبَةَ فِي وَجْهِي (س1)         

فاعلاتن فعلاتن فا

وَلِي رَسْمٌ بِعَيْنَيْهَا (س2)                  

علاتن فاعلاتن فا

طَرِيٌّ مَا تَغَيَّرْ (س3)                        

علاتن فاعلاتن

آمِنٌ فِي مَطْرَحٍ لَايَعْتَرِيهْ (س4)         

 فاعلاتن فاعلاتن فاعلات

مَا اعْتَرَى وَجْهِي (س5)               

فاعلاتن فــ

الَّذِي جَارَتْ عَلَيه (س6)              

ــاعلاتن فاعلاتن

دَمْغَةُ الْعُمْرِ السَّفِيه (س7)                

فاعلاتن فاعلات

كَيْفَ - رَبِّي - لَا تَرَى (س8)       

فاعلاتن فاعلا

مَا زَوَّرَ الْعُمْرُ وَحَفَّرْ، (س9)        

تن فاعلاتن فعلاتن.

إن نموذج الجملة الشعرية القصيرة، منسوج من عشر تفعيلات من بحر الرمل وقد تم صب السطر الأول في الثاني عن طريق التدوير.  والجدير بالذكر أن القارئ يتسنى له أن يسترسل في قراءة النسيج الصوتي المتمثل في الأسطر المكونة للجملة الشعرية القصيرة في نفَس واحد؛ أي دون انقطاع. كذلك نموذج الجملة الشعرية الطويلة فهو منسوج من ثماني عشرة تفعيلة، وما يلاحظ أنه تم صبّ السّطر الأول في الثاني، والثاني في الثالث، والخامس في السادس، والثامن في التاسع، وكل ذلك عن طريق عملية التدوير العروضي الّذي يعدّ أساسا هندسة صوتية تزيد القصيدة تماسكا.

وقد تم تحديد هذه الجملة الشعرية الطويلة بمراعاة الحالة البيولوجية للقارئ، إذ يمكن الاستمرار في نفَس واحد لقراءة هذه المقطوعة المكونة مع تسعة أسطر شعرية، دون أن تتخللها وقفات إلى أن يصل إلى الفاصلة في السطر التاسع فيتوقف، لأن الفاصلة تعد من علامات الترقيم الدالة – أحيانا- على إشارة (قف) معلنة نهاية الجملة الشعرية طويلة كانت أم قصيرة.

تجدر الإشارة إلى أن الشّاعر قد التزم في قصيدة وجوه السندباد بكلّ قوانين عروض الخليل، بما في ذلك الزحافات والعلل التي طرأت على الوحدة الإيقاعية لبحر الرمل فقد وردت بالنسب الآتية:

                      صحيحة: بتواتر: 322مرة

فاعلاتن                أي بنسبة:61.10%

                       مزحفة أو عليلة

-وردت في القصيدة تفعيلة "فاعلاتن" مخبونة ومقصورة في الوقت نفسه مرتين، لتصبح: فعلات. -

                        بتواتر:205مرّات                                     أي بنسبة:38.90%.

وتجدر الإشارة إلى أن الخبن هو الزحاف الوحيد الموجود في القصيدة وهو حذف الثاني الساكن من فاعلاتن لتصبح فعلاتن، وقد ورد 112مرة أي بنسبة 21.06% موزعة على سائر المقاطع الشعرية في مقابل 78.94% غير مخبونة "وكلاهما جميل، جيد تستريح له الآذان وتستمتع بموسيقاه" (إبراهيم، 1997، صفحة 86).ولقد أجاد الشاعر تلقائيا في الابتعاد عن باقي الزحافات، لا لشيء إلا لأنه آثر الابتعاد عمّا من شأنه أن يؤثر سلبا على إيقاع قصيدته الصوتي، واكتفى بالخبن لكونه الزحاف الوحيد المستحسن في كل حالات وروده بإجماع أغلب الدارسين على أنّه "يدخل في جميع أجزاء بحر الرمل، وهو حسن" (محمود، 1985).

أما عن العلل الواردة في القصيدة فقد تمثلت في 57تفعيلة مقصورة 61.29%؛ أي حذف ثاني السبب الأخير منها وسكّن أوله فأصبحت فاعلاتن: فاعلاتْ (فاعلانْ)، و35تفعيلة محذوفة 37.63%، أي أصابها حذف السبب الخفيف من آخرها، فأصبحت فاعلاتن: فاعلا (فأعلن) وتفعيلة واحدة أصابها البتر 01.07% فأصبحت فاعلاتن: فاعلْ (فعلنْ) وهو اجتماع الحذف والقطع، وهذا الأخير هو حذف آخر الوتد المجموع مع تسكين ثانيه. وبهذا وفق الشّاعر في خرق أفق التوقع لدى المتلقي، وجلب انتباهه، فقد جعله دائم الترقب والانتظار، وزاد من شعلة فضوله لمعرفة وتيرة الموسيقى التي سيكون عليها السطر التالي في إيقاعه.

إنّ الوتد المجموع بين السببين الخفيفين يصارع الموت الذي حال دون اجتماع الحبيبين شاعرنا وطفلة أمسه، إلا أنه ومن حين إلى آخر ينفض من عليه غبار الاستسلام، رافضا الخضوع للواقع المتعفن، فيستهل السطر الشعري بالحركة الأولى للسبب الخفيف، إلاّ أنه يصطدم بالسكون التالي، فيعمد إلى حذفه من التفعيلة فتصبح مخبونة وكأنه يرفض ذاك السكون الموهوم الذي وصل إليه، فيحبذ المواصلة في الحركة، والسير قدما نحو واقع أفضل. وبعد توالي ثلاث حركات يأتي السكون، وهو سكون يرجع فيه الشاعر إلى نفسه المنهكة وواقعه المرير، وكأنه -أي السكون- لحظة من الخلود إلى الذات، لشحنها بالقوة من أجل مواصلة المعركة القائمة بهدف البعث والبقاء.

ويواصل الشاعر مسيرته قدما نحو الأمام، من خلال فاعلاتن، إلا أنّ دخول القصر عليها يجعله يصطدم بدمغة العمر السفيه، التي جارت على وجهه، مخلفة وراءها آثار الجريمة من أخاديد وتجاعيد. إذ يغفل الشاعر على أن لتوالي فاعلات المقصورة مفعول توالي السنين، فيستكين من خلال توالي الساكنين، فينام عميقا لينهض بعد ذلك فازغا سائلا: 

كَيْفَ مَرَّ الْعُمْرُ مِنْ بَعْدِي (س10)

 وَمَا مَرَّ (س11)

فيعمد مجددا إلى إسقاط السكون ليغوص في دوامة الحركة، التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. أما عن تكرار (فاعلاتن) المخبونة والتي أصبحت (فاعلا)، فيجسد مواقف الاستغراب والدهشة بعد الاصطدام بالقدر الجائز وحدوث ما لم يكن في الحسبان. ورغم الأهوال والصّعاب نثر الشاعر بذرة وآمن أنها ستخضرّ غدا في أعضاء طفل عمره منه ومن حبيبته، فحتّى وإن وقف عمرهما مهزوما أمام الزمان، يكونان قد حققا انتصارا عظيما على عبثية الزمن من خلال نسل قوي لا يبيد، ولا تقوى عليه عناصر الاضمحلال.

والجدير بالذكر أن الزحافات والعلل التي يخرج إليها الشاعر، دون أن يقصد إلى ذلك ودون أن يشعر، مرجعها إلى الحركة النفسية الإيقاعية، التي تلح عليه، فتجعله ينقص من التفعيلة أو يضيف لها. ونفسية خليل حاوي في وجوه السندباد تواقة إلى الإنقاص من كدر الواقع المرير، عن طريق زحاف الخبن الذي يقوم أساسا على حذف الثاني الساكن، وكذا القصر والحذف والبتر لكونها علل نقصان.

يرتكز الشاعر المعاصر في تشكيل بنية القصيدة المعاصرة على الكثير من المرتكزات الإيقاعية للموسيقى الخارجية، ومنها القافية؛ هذه الأخيرة الّتي تعدّ في نظر رائدة شعر التّفعيلة نازك الملائكة "عنصراً ضرورياً في إيقاع الشعر العربـي، وركناً مهمّا في موسيقية الشعر الحر نظراً لما تحدثه من رنين وما تثيره في النّفس من أنغـام وأصداء"(نازك، صفحة 192).وقد تنوّعت القافية في قصيدة وجوه السّندباد، ويظهر ذلك فيما يأتي:

1- القافية البسيطة (الموحدة):وهي القافية القريبة في صورتها من القافية في الشعر العمودي، ولكنها في شعر التفعيلة تتكرر فينهاية كل سطر. ومثالها في القصيدة نموذج الدّراسة:

يتلقّاها، وينسى ما عبرْ (س84)

عمره عمر الغجرْ(س85)

وله وجه الغجرْ(س86)

2- القافية المتتابعة (المتوالية): وهي القافية الّتي يتوالى فيها الروي على سطرين أو ثلاثة أسطر، ثمّ ينتقل الشاعر إلى روي آخر ليفعل معه ما فعل مع الروي الأول أو ما يقارب ذلك، ومن أمثلتها قول خليل حاوي: 

أتقن الدّوخة من خصر لخصر، (س67)

عاد من عرس الغجرْ (س68)

دمغة في وجههِ، (س69)

في دمه شلال نار(س70)

وعلى قمصانه ألف أثرْ. (س71)

موجة واحدة في دمهِ، (س72)

في زوغة الشّمس، (س73)

وحمّى المعدن المصهورْ، (س74)

في البركان، في وهج الثّمارْ (س75)

3- القافية المتناوبة: وتقوم على التوزيع الهندسي للقوافي الّذي تتناوب فيه القوافي وتتقاطع في أكثر أجزاء القصيدة بطرق شتّى أشهـــــــرها (أ ب أ ب). نحو قول خليل حاوي في المقطع الخامس المعنون جنّة الضّجر:

ووجوه من حجرْ، (س105)

ثمّ يرتاح إلى الصّمت العريقْ (س106)

حيث لا عمر (س107)

يبوخ اللّون فيه والبريق، (س108)

4- القافية المتواطئة: وهي التسمية الّتي أطلقها محمد بنيس على تلك القافية الّتي تنادي على توأمها في البيت الموالي أو الأبيات الموالية، وذلك بناء على فكرة الإيطاء التي كانت عيبا في الشعرية العربية القديمة(بنيس، 2014، صفحة 150). ومن أمثلة القافية المتواطئة الأسطر الشعرية التي استفتح بها خليل حاوي مقطعه الأوّل وجهان:

لم تر الغربة في وجهي (س01)

ولي رسم بعينيها (س02)

طريّ ما تغيّر (س03)

آمن في مطرح لا يعتريه (س04)

ما اعترى وجهي (س05)

الّذي جارت عليه(س06)

دمغة العمر السّفيه (س07)

كيف –ربي- لا ترى (س08)

ما زوّر العمر وحفّر، (س09)

كيف مرّ العمر من بعدي، (س10)

وما مرّ، (س11)

فظلّت طفلة الأمس وأصغر (س12)

تغزل الرّسم على وجهي (س13)

5- القافية المرسلة: كانت وثيقة الصّلة بالشعر المرسل(مينو، 2014، صفحة 124)؛ وهي القافية الخالية من حرف الروي، وتجسّدت في وجوه السندباد، في الأبيات الأولى من المقطع السّادس الأقنعه، القرينه، جسر واترلو، إذ يقول خليل حاوي فيها:

لو دعاه عابر للبيت، (س114)

للدّفء، لكأس مترعه، (س115)

سوف يحكي ما حكى المذياع، (س116)

يحكي: "سرعة الصّروخ، (س117)

تسعير الرّيال، (س118)

خاتمة

توفر وجوه السندبـاد بوصفها قصيــدة معاصـرة للدّارس مادة قرائيـة هائلـة، بدءا بالهندسيات الصّوتية الخارجية الّتي تلخّص قيمها الجمالية فيما يأتي:

- أولى مفاتيح جمالية الهندسة الصّوتية يكمن في القيم الإيحائية للشّكل الكتابي، هذا الأخير الذي يعد نقطة البداية لتلقي النص الشعري.

- تكرار كلمة وجه وبصيغ مختلفة في القصيدة له صلة وثيقة بما ذكر مجملا في العنوان (وجوه السندباد)، وتضام هذين اللّفظين أضفى قيمة جمالية جعلت القارئ يتجاوز الوظيفة الإيقاعية إلى الوظيفة الدلالية، لأنّ ذكر السّندباد بوصفه شخصية تراثية جعل القصيدة حُبلى بالأسطورة.

- امتهن خليل حاوي وظيفة المهندس في حُسن جمعه بين الصّوت الحاضر الكامن في الدّاخل والصّوت الغائب الوافد من الخارج في نصّه الشّعري.

- جمالية الإيقـاع الصوتـي الخارجـي في قصيــدة وجـوه السندبــاد تكمن في أنّ هـذه الأخيـرة بنـاء موسيقـي متماسـك مـع ورود بعـض الزحافـات والعلل من أجل كسر أفق التوقّع لدى الملتقي، وكذا لتغيير الصورة الإيقاعية التقليدية المكدّسة في قوالب جامدة، وجعلها دائما وأبدا طيّعة للدّفقة الموسيقية. فقد خرق شاعرنا؛ خليل حاوي في أفق توقّع المتلقي وجلب انتباهه، فجعله دائم الترقب والانتظار وزاد من شعلة فضوله لمعرفة الوتيرة الموسيقية التي سيكون عليها كلّ سطر في إيقاعه الصّوتي.

- صاغ خليل حاوي قصيدته وجوه السندباد على وزن الرّمل وهو بحر محكم البناء لدخول أوتاده بين أسبابه وتراص بعضها مع بعض، فكان أنسب وزن يوافق ذات الشاعر التي تحاول - عبثا- نسج وجه سرمدي من بقايا وجوه عديـــدة – متناثرة على جسد القصيدة – تلاحمت أجزاؤها وقسماتها، وضُمّ بعضها إلى بعض، أملا في أن تعيد نبض الحياة إلى ذاك الحلم.

 وتكمن قيمة الرّمل الجمالية في كونه أقدر البحور الصافية على احتواء المعاني، وتفجير مكبوتات الشاعر من خلال وتد وسببي وحدته الإيقاعية، لملاءمتها لطول نفس الشاعر، وكذا للأثر البالغ الذي يتركه هذا الوزن في نفس المتلقّي المتذوّق، والّذي هو - كما ذُكر سابقا - أشبه بتأثير الخمرة خلال حديث شيّق، أو أشبه من أن يكون كالخميرة، التي لا قيمة لها بذاتها، لكنّها تضفي على الشّراب الذي تمازجـه روحا وتوهّـجا. 

واستطاعت تفعيلة بحر الرمل "فاعلاتن" المكررة في القصيدة - من خلال ما تنطوي عليه من امتداد - أن تعبّر بصدق عن الآهات والأنات، من خلال مقاطعها العروضية التي توافق غربة الشاعر النفسية. فالوتد المجموع بين السببين الخفيفين يضارع الموت الذي حال دون اجتماع الحبيبين؛ شاعرنا وطفلة أمسه.

- وآخر مفاتيح الهندسة الصّوتية الخارجية في قصيدة وجوه السّندباد، هو القافية كبنية موسيقية كلّية، وحرف الرّوي كبنية موسيقية جزئية، وكلاهما مكوّن إيقاعي أبدع خليل حاوي في التّنويع فيه، بطريقة تضفي جرسا موسيقيا تأنس له الأذن، وترتاح له النّفس

المصادر والمراجع

إبراهيم الحاوي. (1984). حركة النقد الحديث والمعاصر في الشعر العربي. بيروت ط1: مؤسسة الرسالة.

إبراهيم رماني. (1987). الغموض في الشعر العربي الحديث. الجزائر: جامعة الجزائر.

أبو العلاء المعري. (د ت). ديوان سقط الزند. بيروت: دار صادر.

إسماعيل عزالدين. (1962). التفسير النفسي للأدب. بيروت: دار العودة ودار الثقافة.

الخطيب التبريزي. (د ت). كتاب الكافي في العروض والقوافي تحقيق الحساني حسن. القاهرة: مكتبة الخانجي.

الملائكة نازك. (بلا تاريخ). قضايا الشعر المعاصر. بيروت لبنان: دار العلم للملايين.

آمنة بلعلى. (1994). أثر الرمز في بناء القصيدة العربية دراسة تطبيقية. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.

أنيس إبراهيم. (1997). موسيقى الشعر. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية ط7.

جمال مباركي. (2003). التناص وجمالياته في الشعر الجزائري المعاصر. الجزائر: رابط إبداع الثقافية.

جهاد فضل. (1984). قضايا الشعر الحديث. بيروت: دار الشروق ط1.

خليل حاوي. (1979). ديوان السندباد. بيروت: دار العودة ط1.

داود أنس. (1992). الأسطورة في الشعر العربي الحديث. مصر: دار المعارف.

رابح بوحوش. (1993). البنية اللغوية لبردة البوصيري. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.

رجاء عيد. (1985). لغة الشعر قراءة في الشعر العربي الحديث. مصر: منشأة المعارف.

عبد الحميد محمد. (2005). في إيقاع شعرنا العربي الحديث وبيئته. الأردن: دار الوفا للطباعة والنشر ط1.

عبد الرؤوف بابكر السيد. (1985). المدارس العروضية في الشعر العربي. طرابلس: المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلام ط1.

عبد القادر فيدوح. (1994). الرؤيا والتأويل. دار الوصال ط1: الجزائر.

عبد اللطيف حماسة. (1999). البناء العروضي للقصيدة العربية. القاهرة: دار الشروق ط1.

عبد الله الغذامي. (1987). تشريح النص. بيروت: دار الطليعة.

عبد الله الغذامي. (د ت). الخطيئة والتكفير. السعودية: النادي الثقافي الأدبي.

عبد الملك مرتاض. (1983). النص الأدبي من أين وإلى أين؟ الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.

عبد الملك مرتاض. (1983). النص الأدبي من أين؟ وإلى أين؟ الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.

عبود شلتاغ شراد. (1985). حركة الشعر الحر في الجزائر. الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب.

علي شعري زايد. (1997). استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي امعاصر. القاهرة: دار الفكر العربي.

كمال أبو ديب. (1981). في البنية الإيقاعية للشعر العربي نحو بديل جذري لعروض الخليل ومقدمة في علم الإيقاع امقارن. لبنان: دار الملايين ط2.

محمد بنيس. (2014). الشعر العربي الحديث بناياته وإبدالاتها، الشعر المعاصر ج1.المغرب: دار توقبال ط1.

محمد محي الدين مينو. (2014). معجم مصطلحات العروض. الشارقة: دار الثقافة والإعلام.

محمد مفتاح. (1987). دينامية النص. المغرب: المركز الثقافي العربي.

محمود محمد. (1986). الحداثة في الشعر العربي بيانها ومظاهرها. لبنان: دار الكتاب اللبناني ط1.

مصطفى محمود. (1985). شرح أهدى السبل إلى علمي الخليل العروض والقافية. بيروت لبنان: دار الكتب العلمية ط2.

ممدوح حقي. (1988). العروض الواضح لطلبة وأساتذة الجامعات والمعاهد العليا. د م: مركز الكتب العربية ط21.

نعمان عبد السميع متولي. (2013). إيقاع الشعر العربي في الشعر البيتي، الشعر الحر، قصيدة النثر. دار العلم والإيمان ط1.

هدى قزع. (25جانفي, 2012). الحوار المتمدن. تم الاسترداد من الحوار المتمدن: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=292819

هشام صالح مناع. (1989). الشافي في العروض والقوافي. بيروت: دار الفكر العربي ودار وسام ط2.

@pour_citer_ce_document

أسمهان مصرع, «القيم الجمالية للهندسة الصّوتية الخارجية في القصيدة المعاصرة- وجوه السّندباد لخليل حاوي نموذجا-»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 295-304,
Date Publication Sur Papier : 2020-10-26,
Date Pulication Electronique : 2020-10-26,
mis a jour le : 26/10/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7714.