آليات التأويل في الخطاب النقدي العربي القديم ابن جني والعكبري أنموذجاInterpretation mechanisms in the old Arabic critical discours Ibn Jinni and Al-Ukbarï as model
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 18-2021

آليات التأويل في الخطاب النقدي العربي القديم ابن جني والعكبري أنموذجا

Interpretation mechanisms in the old Arabic critical discours Ibn Jinni and Al-Ukbarï as model
ص ص 09-21
تاريخ الإرسال: 2020-04-27 تاريخ القبول: 2020-12-29

عبد الملك بومنجل / الزهرة لونيس
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

التأويلية العربية القديمة هي إستراتيجية قرائية بارزة في التراث العربي، تشتغل عَلَى مسارين أساسيين فِي بناء المعنى؛ أولهما: الاشتغال عَلَى البنى النسقية، وهي مجموعة مواد النّص وأبنيته الداخلية مِنْ كلمات وتراكيب نحوية وصرفية وبلاغية...الخ. وثانيهما: الاشتغال عَلَى البنى الخارجية السياقية مِنْ مقامات الخطاب والمناسبات والموازيات النصية، كالنصوص القرآنية والشعرية والأمثال...الخ.  وفِي مقاربتنا للآليات التأويلية فِي الخطابين التأويليين لابن جني والعُكبري رصدنا أنَّ هذه الآليات النسقية والسياقية مفاتيح أساسية لبناء المعنى المُؤَوَل، وأنَّ الآليات النسقية تنفتح عَلَى الآليات السياقية، وهذه الأخيرة بدورها تساهم فِي اتساع المعنى وتأطير الفهم والتأويل. كما بيّنت هذه المقاربة بين الخطابين التأويليين وظيفة هذه الآليات فِي فهم المعنى، ووضحت أنَّ عملها يكمن فِي تساندها لِأجل قراءة سليمة.

الكلمات المفاتيح

التأويلية، القراءة التأويلية، البنى النسقية، السياق، الموازيات النصية

L’interprétation arabe classique est une stratégie de lecture très prisée dans le patrimoine arabe. Elle s’oriente vers deux voies principales dans la construction du sens. La première est axée sur les structures thématiques, à savoir la collecte de structures matérielles intérieures des mots et des structures grammaticales et rhétoriques.... La seconde se focalise sur les constructions du contexte, les tons et les occasions des discours, ainsi que sur les événements et les textes parallèles, tels que les textes coraniques, la poésie, les proverbes...Dans notre approche des mécanismes d’interprétation des deux discours d’interprétation ; celui d’Ibn Jinniet celui d’Al-Ukbarï, nous avons remarqué que ces mécanismes sont les principales clés de la construction du sens, du fait que les structures morphologiques s’ouvrent aux mécanismes contextuels, contribuant à leur tour à l’étendue du sens tout autant qu’à l’encadrement de la compréhension et de l’interprétation (des textes ou des discours). Cette approche entre les deux discours d’interprétation nous a permis de montrer la fonction de ces mécanismes dans la compréhension du sens et le rôle qu’ils jouent dans une lecture appropriée.      

Mots-clés :Interprétation, lecture interprétative, structure, contexte, parallèles textuels

The ancient Arabic interpretation is a prominent reading strategy in the Arab heritage, which is based on two main paths in the construction of meaning, the first of which is the work on the theme structures, namely the collection of material and interior structures of words and grammatical structures, purely rhetorical... Etc. Secondly, working on the external contextual structures of speech, events and parallel textual, such as Qur'anic texts, poetry, proverbs... EtcIn our approach to the interpretive mechanisms in the two interpretations of Ibn Jinniand Al-Ukbarï, we have observed that these mechanisms are the main keys to building the meaning, as well as that the mechanisms of the format open to the contextual mechanisms, the latter in turn contributing to the breadth of meaning and the framing of understanding and interpretation. This approach between the two interpretive discourses demonstrated the function of these mechanisms in understanding the meaning, and made it clear that their work lies in supporting them for a proper reading.

Keywords:  Interpretation, interpretive reading, structure, context, textual parallels

Quelques mots à propos de :  عبد الملك بومنجل

 جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، abumindjel@yahoo.fr

Quelques mots à propos de :  الزهرة لونيس

مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، louniszohra46@gmail.com

مقدمة

إِنَّ لكل قراءة هدفا ترمي إِلَى تحقيقه، ورهانا تسعى إِلَى كسبه، أَوْ مشروعا تحاول بناءه. وَلَمَّا كان محور هذا البحث هو الفهم والإفهام والتأوّل بكل مَا يزخر به هذا المحور المعرفي مِنْ بالغ الأهمية، وكان موضوعه هو التأويل منهجا فِي قراءة الخطاب، وكان أنموذج التأويل فِيه هو الخطاب النقدي العربي القديم، فَقَدْ ارتأينا اختيار خطابين تأويليين معروفين فِي الخطاب النقدي العربي القديم؛ وهما: الفسر لابن جني(ت392ه)Ibn Jinni، والتبيان فِي شرح الديوان لأبي البقاء العُكْبري(ت616ه)Abu-Al-Baqa-Al-Ukbarï، وهذا للفاصل الزمني بينهما؛ فحيث إِنَّ ابن جني عاصر المتنبيAl-Mutanabbi، و لَا شك أَنَّهما قد نهلا مِنْ ذات المنبع الثقافي؛ فكانت لابن جني حظوة القرب مِنَ المتنبي ولغته، بَيْنَمِا العُكْبري لحقه بعد أمَة تنوعت فِيهَا طرق التأويل وتفرعت بتفرع العلوم، ناهيك عَنْ بعد الخطاب ولغته عَنْهُ، وكثرة الشروح والشراح للمتنبي السابقة لعصر العُكْبري أَوْ المزامنة له. ونظرا لخصوصية كل خطاب، وشخصية كل مؤوّل فِي استقصاء الدلالة وفهم المراد، سنحاول رصد تجليات اشتغال التأويل والمآزق القرائية التي واجهتهما فِي مقاربتهما لقصيدة المتنبي (المتنبي، 2014م، ص24) التي مطلعها: 

عَذلُ العَـــــــــــــــواذِلِ حَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوْلَ قَلبِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي التَّائـــِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

وهَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوى الأحِبَّةِ منْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ فـــــــــــــــــــــــــــــــــي سَوْدائِهِ

 

وتكملتها التي استزاده فِيها سيف الدولة، فأنشده:

القَـلْــــــــــــــــــــــــــــــبُ أعْــــــــــــــلـــــــــــــمُ يَــــــــــا عـــــــــــــــــــــــــــــذُولُ بِـــــــــــــــــــــــدَائِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

وَأحَــــــــــــــــــــــقُّ مِنْـــــــــــــــــــــــــــــكَ بِــــــــجَـــــــــــفْــــــــــــــــنِــــــــــــــــــــــــــــــهِ وبِــــــــــمــــــــــــائِــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

وهذا عَلَى مستويين بارزين هما: مستوى البنيات النصية النسقية؛ ونقصد بها: (اللغة، الصرف، النحو، البلاغة والعروض... الخ)، ومستوى البنيات النصية الغائبة أوْ مَا يسمى بِالبنيات السياقية؛ ونقصد بِهَا: (النصوص القرآنية والحديث النبوّي والشعر، والأمثال والأقوال وغيرها). وفِي مقاربتنا سنعمد إلى الوقوف عَلَى الآليات التأويلية المستند عَلَيْهَا فِي قراءة هذه القصيدة، وأثرها فِي تأويل المعنى وبنائه، وكذا تتبع إجراءات الفهم التي يلجأ إِلَيْهَا المؤوّلان فِي تأوُّل معاني نص المتنبي، وكيف يسهم انفتاح البنى السياقية في اتساع المعنى؛ وهي فِي كل الأحوال لَا تخرج عَنْ مرجعياتهما الفكرية ومكتسباتهما العلمية، ومهاراتهما الفردية. فهذه الآليات هي وليدة نسق ثقافي معين تتطور والعصر، إِلَّا أنَّ مبادئها ثابتة تعبر عَنْ موروث ثقافي أصيل. يشكل فِيْهِ المؤوّل جزءا رئيسا فِي بناء المعنى المُؤوَّل، فهي ضوابط مقيدة للفعل القرائي، وتمثل شرطا أساسا للتأول لابد مِنَ العمل وفقه، وَإِلَّا انحرفت القراءة عَمَّا حدده النسق الثقافي التأويلي.

ومَا يدعو إِلَى بحث هذا الموضوع هو التباعد الزمني بين المؤولين ابن جني والعُكبري، وقراءتهما لنفس نص المتنبي فِي إطار نسق ثقافي تأويلي موروث، يسير وفق خطة قرائية خطية تستدعي التساؤل عَنْ خصوصية كل فعل تأويلي، وعَنْ نوعية الآليات المستعان بها. ولِإثبات صحة هذه الغاية سنقوم بمقاربة وصفية تحليلية لرصد التماثلات والاختلافات فِي النموذجين القرائيين القديمين، وَمَا قدمته كل آلية فِي تأول المعنى، والدور الأساسي للفروق الفردية فِي اتساع المعنى، واستحضار الموازي النصي.

وكان لِلناقد نصر حامد أبو زيد Nasr Hamid Abû Zaydمؤلفان فِي هذا الموضوع؛ وهما: "إشكاليات القراءة وآليات التأويل"، و"النص، السلطة ، الحقيقة" ، وتتابعت بعده المؤلفات والقراءات التي تركز عَلَى الفعل التأويلي فِي التراث العربي، وَمِنْهَا كتاب طاهر محمود محمد يعقوب T.M.M.Jacob"أسباب الخطأ فِي التفسير"، ومحمد البازي M.Al – Bazi  فِي كتابه "التأويلية العربية"، وَقَدْ كان لِهذه الجهود أثر عظيم فِي تحديد الآليات التأويلية عند القدماء؛ لَكِنَّا نرجو ، مَعَ ذلك، فِي بحثنا هذا أَنْ نبين قيمة الآليات التأويلية فِي فهم نص المتنبي، وننبّه عَلَى الفارق الذي يقدمه المؤوّل فِي فهم  وبناء المعنى المؤوَّل؛ عبر دراستنا لقامتين نقديتين اعتمدتا عَلَى الآليات ذاتها ، إِلَّا أَنَّ التمايز بينهما  فيصل قراءتهما.

أولا: الآليات التأويلية المتعلقة بالبنيات النسقية

إِنَّ القراءة التأويلية البانية للمعنى ومقاصد النص، هي فعل شمولي واشتغال توليفي بين مواد النص المختلفة، والأدوات والمرجعيات المستخلصة مِنِ العلوم والمهارات التحصيلية المتنوعة، وكذا المهارات الفردية والتي لها مقام بالغ الأهمية، إِذْ عبر هذه الجهود والتوليفة التي تتعاضد فِيهَا البنى والآليات يتم تحصيل الدلالة واستقصاؤها وفهم المراد مِنَ القول، وإفهامه للآخرين. فأفعال القراءة التأويلية البانية للمعنى، والتي نفترض وجودها فِي خطابي ابن جني والعُكُبري، اشتغال تتلاحم فِيهِ البنى النصية سواء النسقية أو السياقية، بيّد أَنَّ هذين الخطابين التأويليين ليسا كفيلين بِأَنْ نحكم بشكل نهائي عَلَى الأدوات والإجراءات القرائية للمؤولين، بَلْ سيكون جهدنا مجرد وقفات عَلَى نموذج يحتمل حمله لمعظم الآليات المتعامل بِهَا فِي قراءة النص وتحليله. وعَلَيْهِ مَا هي الآليات التأويلية المرتبطة بِالبنية النسقية فِي قراءة قصيدة    "عذل العواذل حول قلبي التائه" وتكملتها "القلب أعلم يا عذول بدائه"؟

1-الجانب اللغوي 

يمثل مدخلا أساسيا فِي عملية تشكيل الدلالة والفهم، فالرجوع إِلَى المادة اللغوية يساهم فِي تأسيس المعنى، وشرح المفردات يعّد عتبة للفهم منطلقها النص. وَفِي هذا يقول ابن تيمية(ت:728ه) Ibn Taymiyya: "وَلَا بد فِي تفسير القرآن والحديث مِنْ أَنْ يعرف مَا يدل عَلَى مراد الله ورسوله-ص- مِنَ الألفاظ، وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي خوطبنا بِهَا مِمَّا يُعين عَلَى أَنْ نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ عَلَى المعاني فَإِنَّ عامة ضلال أهل البدع كان بِهذا السبب."(ابن تيمية، د-ت، ص74)، فعدم معرفة الألفاظ ودلالتها سبيل إِلَى الفساد والانحراف عَنْ الفهم الصحيح، لِذلك يمثل مفتاحا تأويليا ضروريا وجب امتلاكه، لِأَنَّ ظاهر التفسير أوْ التأويل حسب الزركشي(ت794ه) Zarkachi"يجري مجرى تعلم اللغة التي لا بد مِنْهَا لِلفهم، ولَا بُدَّ فِيهَا مِن استماع كثير، لأنَّ القرآن نزل بلغة العرب، فَمَا كان الرجوع فِيهِ إِلَى لغتهم فَلَا بُدَّ مِنْ معرفتها أَوْ معرفة أكثرها، إِذْ الغرض مِمَّا ذكرنا التنبيه عَلَى طريق الفهم ليفتح بابه." (الزركشي، 1988م، ص17)؛ فَإِذَا كان المؤوّلون أوْ المفسرون للقرآن الكريم قَدْ رأوا أَنَّه لزام عَلَيْهِم العودة إِلَى المادة اللغوية، ومعرفتها فِي استعمالات العرب وجذورها اللغوية باب يفتح مصراعيه للولوج إِلَى المعنى، ومفتاح لِانطلاق عملية الفهم. فَإِنَّ المؤوّلين والشراح مِمَّنْ تناولوا النصوص غَيْرَ القرآنية قَدْ فقهوا هذا المفتاح، وصار تجليا عاما ظاهرا فِي خطاباتهم التأويلية. فَمَا هي مظاهره إِذَنْ فِي خطابي ابن جني وأبي البقاء العُكُبري؟  

        قالا فِي وقوفهما عَلَى كلمة "العذل" الواردة فِي مطلع القصيدة:

أبو الفتح عثمان ابن جني: "العَذْلُ: أحرُ العتاب وأمضُّه، ومِنْهُ قيل: أيامٌ معتذلات: إذَا اشتد حرُّها، يقال: عذلته عذْلا وعَذَلا، وجمع عاذلِ عُذَّلُ وعُذَالٌ، وجمع عاذلةِ عواذلُ وَمِنْ كلامهم: سبق السيف العذَلَ.  

وقال الأخر:

أيـــــــــــــــــــــــــــــــــــا تَمْلَــــــــــــــــــــــــــــــــكَ يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تَمْلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

وذاتَ الطَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوقِ والحِجـْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِ

ذَرينــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي واتَّقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي عَذْلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــإنَّ العَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذْلَ كالقتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِ

 

وقال زهير:

غــــــــــــــــــــــــــــــدوتُ عليـــــــــــــــــــــــــــــــــه غــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدوةً فرأيتــُــــــــــــــــــــه

قُعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوداً لديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــه بالصَّــــــــــــــــــــــــــــــــــريـم عواذِلُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ"

 

(ابن جني، 2004م، ص24، 25).

أبو البقاء العُكْبري: "الغريب: العاذل: واحد العذال والعذّل: والجمع عاذلة: عواذل."(العُكبري، د-ت، ص2)

وهنا يعمل المؤوّلان عَلَى إيراد المعاني الممكنة للكلمات التي يعتبرونها غريبة عَنْ الاستعمال اللغوي، ويتخذ هذا الإجراء شكلا بسيطا، حيث تجرد الألفاظ مِنْ سياقها النصي الموضوعة فِيهِ، ويتم تعريفها مِنْ خلال مرادف لَهَا أوْ نقيض أوْ مقابل، وَقَدْ يكون بِإيراد شواهد عَلَى ذلك المعنى، وهذا مَا نلمسه فِي شرح العواذل عِنْدَ ابن جني عَلَى خلاف العُكْبري؛ الَّذي اكتفى بِتحديد أصلها الصرفي: وكان الغريب عِنْدَهُ هو معرفة تركيبتها مِنْ مفرد أوْ جمع لَا معناها، وفِي هذا المدخل اللغوي يظهر جيدا تفاوت المؤوّلين، فِيمَا يفترض امتلاكه مِنْ سعة لغوية وذاكرة وحافظة قوية، فالجانب اللغوي يعتبر نقطة العبور، ولِذَا وجب عَلَى المُؤوّل امتلاك اللغة بِفروعها. فهي عتبة قرائية ضرورية للفهم والإفهام، فمعرفة اللفظ ومعناه يفيد فِي فهم بناء النص ومقصوده.  ويقول فخر الدين الرازي(ت606ه) Fakhr ad-Dîn ar-Râzîعَنْ دور الكلام وفهمه: "اعلم أَنَّ المقصود بِالكلام إفادة المعاني، وهذه الإفادة عَلَى وجهين، إفادة لفظية وإفادة معنوية. فأَمَّا الإفادة اللفظية فيستحيل تطرق الكمال والنقصان إِلِيْهَا، فَإِنْ كان السامع للفظ إِمَّا أَنْ يكون عالما بِكونه موضوعا لِمسماه أوْ لَا يكون؛ فَإِنْ كان عالما بِهِ، عرف مفهومه بِتمامهِ، وَإِنْ لَمْ يكن عالما بِهِ لَمْ يعرف مِنْهُ شيئا أصلا... أمَّا الإفادة المعنوية فلِأجل أَنَّ حاصلها عائد إِلَى انتقال الذهن مِنْ مفهوم اللفظ إلَى مَا يلازمه مِنْ اللوازم..." (الرازي، 1989م، ص62).فهذه هي غاية تحديد الدلالة اللغوية ومعرفة أصلها اللغوي المتواضع عَلَيْهِ، وَإِنْ لاحظ عَلَيْهَا المؤوِّلُ أنَّهَا استعملت استعمالا مجازيا فَإِنَّهُ سيعمل عقله وقريحته حَتَّى يقف عَلَى المعنى المجازي المقصود. والملاحظ للخطابين التأويليين لِهذه القصيدة "عذلُ العواذلِ حول قلبِي التائِهِ"، يجد المؤولين ابن جني والعُكْبري قَدْ اهتما كثيرا بِجانب اللغة حَتَّى لَا يكاد بيت يخلو مِنَ الشرح اللغوي والشواهد الساندة لِهذه المفردات واستعمالاتها فِي اللغة. وهذا مثال ثان يؤكد دور اللغة فِي فهم المعنى، حيث قالا فِي موضع آخر يؤَوِلان لفظ يستأسر:

يستأ سِــــــــــــــرُ البَطَـــــــــــــــــــــــــلَ الكمِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيَّ بِنَظَــــــــــــــــــــــــــــــــرِهِّ

ويحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــولُ بين فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــؤادِهِ و عَزَائِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

ابن جني: " يستأسرُ أي: يأسر، والبطلُ قيل: هو الرجل الذي تبطل عنده دماء الأقران لشجاعته، والكميُّ: الشجاع الذي قَدْ استترت مواضع خلَلَه إمَّا بسلاحه أوْ بِشجاعته لِثقافته وحذقه، وكمى شهادته يكميها: إذَا سترها، وسمي كميّا لِا ستتار خلله كَمَا قيل، بُهُمَةٌ لِاستبهام أمره عَلَى قرنه، فَلَا يدري مِنْ أين يأتيه. ومعنى البيت قريب مِنْ قوله عليه السلام: «حبك الشيءَ يُعمِي ويُصِمُّ»." (ابن جني، 2004م، ص54،55).

أبو البقاء العُكبري: "الغريب: يستأسر: يجعله فِي الأسر، وهو الوثاق. والبطل: الشجاع. والكمّي: المستتر بسلاحه. والبطل: هو الذي تبطل عنده دماء الأعداء الأبطال لشجاعته. وقيل الكميّ: الَّذي يستر مواضع خلله بسلاحه، أوْ بجودة ثقافته وحذقه. والعزاء: الصبر والتجلد.

المعنى: يقول: الهوى يستأسر البطل، مِنْ أوّل نظرة ينظرها إلَى الحبيب، فيملكه هواه، فَلَا يبقى لَهُ خلاص ولَا صبر ولَا تجلد، ولَا يسمع ولَا يبصر، وهو مِنْ قوله عليه الصلاة والسلام: «حبك الشيءَ يُعمِي ويُصِمُّ». ومعناه مِنْ قول جرير:

يَصْرَعْـــــــــــــــــــــــــــــنَ ذا اللُّـــــــــــــــــــــــبّ حتـــــــــــــــــــــــــى لا حــــــــــــــــراك بهِ

وهُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنَّ أضعـــــــــــــــــــــــــــــــــفُ خَلْـــــــــــــــــــــــــــــــقِ اللهِ إنْسانــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا"

 

(العُكبري، د-ت، ص7).

والمتأمل لِمَا قدماه مِنْ معان ممكنة لِغريب اللغة، يجد أنَّهَا جاءتْ مسندة بِشواهد متنوعة سواء حديث نبوي أو شعر، وهنا تتمايز القدرات فِي استرجاع وحفظ الشواهد مِنَ القرآن الكريم والأحاديث النبوية أوْ حَتَّى مِنْ كلام العرب، وهذا دليل آخر عَلَى ضرورة حضور المكون اللغوي؛ فهو فعل قرائي ثابت وأساسي للتأويل. إِذْ يشكل آلية أساسية لتفتيق الدلالة، وسبيلا أول لِلفهم. كَمَا يلاحظ عَلَى الجانب اللغوي أيضا أنَّهُ فعل تأويلي ينفتح عَلَى جملة مِنَ الآليات المساندة؛ والتي تشتغل عَلَى تعزيز البنية النصية الداخلية، وانفتاحها عَلَى السياق الخارجي، وَمَا يطرحه مِنْ احتمالات، وهذا مَا تلمسه فِي قراءتي ابن جني والعُكبري؛ إِذْ لَمْ يقتصرا عَلَى إيراد المعنى للمفردات الغريبة عَنْ الاستعمال عندهما فقط، بَلْ تجدهما قَدْ دعّما هذه المعاني المحتملة بِشواهد مِنَ الحديث النبوي، وَكَذَا بِبيت شعري لِقائله  جرير، وهو شاعر يُعْتَدُ  بِشعره ويؤخذ كَشواهد فِي الدراسات البلاغية والنحوية وغيرهما. وَمِنْهُ قَدْ سمح للمفتاح الأول للقراءة التأويلية البانية للمعنى بِالانفتاح عَلَى البنيات السياقية النصّية المساندة للمعنى المحتمل. فمعرفة المعنى اللغوي لِمفردات النّص هو السبيل الأول للفهم والإفهام لِكون المعنى كَمَا قال عَنْهُ أحمد الهاشمي Aḥmad Hāshimiهو: "تعبير باللفظ عما يتصوره الذهن، أو هو الصورة الذهنية مِنْ حيث تقصد مِنَ اللفظ." (الهاشمي، د-ت، ص48)

2- الجانب الصرفي والاشتقاقي

إِنَّ الصرف والاشتقاق آليتان قرائيتان منطلقهما هو الكلمة داخل تركيب لغوي مَا، فتهدفان إلَى إزالة الغربة عَنْ المفردات، وتيسران الفهم والبحث عَنْ الدلالة المقصودة، كَمَا تجعلان اختيار المعنى المناسب فِي ظل التعدد واتساع الاحتمالات أسرع وأسهل، وفِي هذا يقول الزركشي: "فائدة التصريف حصول المعاني المختلفة المتشعبة عَنْ معنى واحد، فالعلم بِهِ أهم مِنْ معرفة النحو فِي تعرف اللغة، لِأَنَّ التصريف نظر فِي ذات الكلمة، والنحو نظر فِي عوارضها." (الزركشي، 1988م، ص373). فَإِذَا كانت معرفة تصريفات الكلمات أنفع فَإِنَّ الاشتقاق يساهم فِي الوقوف عَلَى وجوه الأبنية والصيغ ومعرفة أصولها، فمعرفة المشتقات للجذر اللغوي للمفردة يساعد عَلَى إرجاع المعنى إلَى مَا هو أقرب وأليق، وخصوصا إِذَا كانت الكلمة مشتركة بين أصلين اشتقاقيين لَهَا، مِمَّا يوقع المؤوّلُ فِي حيرة لَا يخرج ِمنْهَا إِلَّا بِالترجيح والسند والحجة المُمّلةِ لِلكفة. لِأَنَّ الاشتقاق كَمَا يصوره الزمخشري(ت538)   Al-Zamakhshariهو: "أنْ يَنْتظم الصيغتين فصاعدا معنى واحد." (الزمخشري، 1995م، ص16) فمعرفة جميع الصيغ والمشتقات ضرورة لازمة، ومنجاة مِنَ الزلل، ومِنَ السقوط فِي هفوات سببها الجهل بِأصل الكلمة. وَقَدْ فقه المؤوّلون قيمة معرفة المادة الاشتقاقية لِلكلمات الغريبة عَنْهُم، فكانت عيونهم منصبة حولها، وتسير بِأسلوب خطي عَلَى طول خطاباتهم التأويلية لِلنصوص، وهذا فِي حال استدعت الضرورة وغاب المعنى. والملاحظ لِخطابي ابن جني والعُكْبري يراهما قَدْ سارا عَلَى نهج مَنْ سبقوهما. وَفِي مَا يلي نموذجان لِلتمثيل لَا الحصر. فَقَدْ وقفا عند كلمة "المَلامُ"فِي هذا البيت:  

يَـــــــــــشْــــــــــكُــــو الــــــــمَـــــــــــلامُ إلــــــــــــــــى الـــــــــلَّـــــــــــوَائٍــــــــــــــــــمِ حَـــــــــــــــرَّهُ

ويَــــــــــصُــــــــــدُّ حــــــــــــيــــــــــــــنَ يـــــــــــلُــــــــــــــمْــــــــــنَ عــــــــــــــنْ بُـــــرَحـــائِـــــــــــهِ

 

أبو الفتح ابن الجني: "الملامُ: اللّومُ؛ يقال: لمتُه ألومُه لوما وملاما ولائمة، وأنا لائمٌ، وهو ملومٌ، وألامَ، وهو يُليمُ إلاَمةً، فهو مُليمٌ، إذَا أتى مَا يستحقُ عَلَيْهِ اللّوم لمتَهُ أوْ لَمْ تلمْهُ، وَقَدْ يقال أيضا: ألمتُه أليمُه إلامةً فهو مُلامُ فِي معنى مَلومٍ. قال معقل بن خويلد الهذليُّ:

حَمٍـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدْتُ اللهَ إذا أمســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــى ربيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعٌ

بـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدارٍ الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذُّلِّ ملحيًّــــــــــــــــــــــــــــــــــــا مُلامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

 

قال الله تعالى: ﴿فَٱلۡتَقَمَهُٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٞ ١٤٢﴾أَيْ قَدْ أتى مَا يلام عَلَيْهِ، واللّوائم: جمع لائمة، كَمَا أَنَّ العواذل جمع عاذلة، وأمَّا عاذلٌ ولائمٌ فجمعها عُذَّالٌ وعُذَّلٌ ولُوَّامٌ ولُوَّمٌ ولِيَّمٌ أيضا."(ابن جني، 2004م، ص29،28)

أبو البقاء العُكْبري: " الغريب: الملام: اللوم واللوائم: جمع لائمة..."(العُكبري، د-ت، ص2)

وَمِنْهُ، تبيّن المداخل الاشتقاقية والصرفية التي قدماها للفظ "الملام" أهمية الرجوع إِلَى الأصول الاشتقاقية لِلكلمة، وخصوصا إذَا كان لَهَا أكثر مِنْ احتمال وأصل اشتقاقي، وهذا مَا يبيّنه ابن جني؛ حيث رد أصل الملام إلَى الفعل المجرد الماضي لُمْتُ والمزيد ألمته وكيف اشتقت مِنْهُمَا لفظ الملام، وَقَدْ أتى بدليلين أحدهما مِنَ الشعر والآخر مِنَ القرآن الكريم، وهذا بحدّ ذاته يفتح المجال لِلتوسع والعودة إلَى الدلالات اللغوية، وتبيين احتمالاتها الاشتقاقية بِمَا يناسب المساق الكلامي. كَمَا يؤكد هذا الفعل القرائي تساند الآليات التأويلية وَكَذَا ضرورتها لِتحديد المعنى المناسب لِلمساق النصي. وَفِي المثال التالي دليل آخر عَلَى ذلك؛ إِذْ وقف ابن جني عَلَى لفظة "مهجة" مِنَ القصيدة المدروسة "عذل العواذل حول قلبي التائه"؛ فقال: "المهجة: خالص النفس، ويقال: المهجة: دم القلب، وَمِنْهُ قيل: لبنٌ أمهجانٌ وأمُهُجٌ وماهجٌ؛ لِلخالص. قال هَمَيانُ بنُ قحافة: وعَرَّضوا المجلس محضا ماهجا أيْ: لبنا خالصا. ووجدت بخط أبي علي الفارسي عَنْ الفراء: لبنٌ أُمُهُوجٌ، وحكى عَنْ أبي زيد لبنٌ أمهُجٌ، وأفْعُلٌ فِي الصفات قليل جدّا." (ابن جني، 2004م، ص32)وهنا نجد ابن جني قَدْ قدم الأوزان الصرفية وَالمشتقات الممكنة لِلفظة المهجة، حَتَّى إِنَّهُ عاد إِلَى أصولها وكيف استعملتها العرب كَنحو اسم الصفة أُمْهُجٌ عَلَى وزن أُفْعُلٌ وعده مِنَ الأوزان القليل ورودها. والفاحص لِهذه المداخل الصرفية والاشتقاقية سيوقن جيدا تلاحمها مَعَ الآليات التأويلية القائمة عَلَى السياق النصي.

وأمَّا النموذج الثاني، فَقَدْتناولا مشتقات وأوزان لفظة "السهاد" مِنَ البيت التالي:

وَهَــــــــــــــــــــــــــــبِ المَلامَــــــــــــــــــــــــــةَ فـــــــــــــــــــــــــــي اللّـــــــــــــــــذَاذَة  كالكَرَى

مَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرودَةَ بِسُهَـــــــــــــــــــــــــــــــــــادِهِ وبُكائِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

أبو الفتح ابن جني: "والسهادُ: السّهرُ، يقال: سَهِد يَسْهَدُ سُهَادًا. قال الأعشى:

أرِقْـــــــــــــــــــــــــــــــــتُ وما هذا السُّهـــــــــــــــــــــــــادُ المُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــؤَرّقُ

ومــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــي من سُقْـــــــــــــــــــــــــمٍ ومــــــــــــــــــــا بـــــــــــــــــيَ مَعْشَــــــــــــــــــــــــــــــــقُ؟"

 

(ابن جني، 2004م، ص49).

أبو البقاء العُكْبري: "الغريب السهاد: الأرق، وسهد(بالكسر) يسَّهْد سُهدًا، والُّسُّهُد بضم السين والهاء قليل النوم. قال الشاعر أبو كبير الهذلي:

فأتَـــــــــــــــــــــــــــــــــــتَ بـــــــــــــــــه حُــــــــــــــــــــوشَ الجِنـَــــــــــــــــــــانِ مُبطنـــًــــــــــــــــــــــــــا

سُهـُـــــــــــــــــــــــــدًا إذا مـــــــــــــــــــــــــــــا نـــــــــــــــــــــــام ليـــــــــــــــــــــــــــل الهَوْجــَــــــــــــــــــــــــــــــلِ"

 

(العُكبري، د-ت، ص5).

فِي هذه اللفظة(السهاد) أعطى المؤوّلان مشتقاتها وتصريفاتها، وفقا لِمَا يملكانه مِنْ زاد معرفي وَمَا يحفظانه مِنْ شواهد، وَإِنْ كان العكبري قَدْ أشار فِي مقدمة كتابه (التبيان في شرح الديوان) اخذه عَنْ أبي الفتح ابن جني، وكان لَهُ سندا قويا فِي تأوّله وقراءته لِشعر المتبني، فقال: "جمعت كتابي هذا مِنْ أقاويل شراحه الأعلام معتمدا عَلَى قول إمام القوم المقدّم فِيهِ، الموضح لِمعاينه المقدم فِي علم البيان، أبي الفتح عثمان..." (العُكبري، ب-د-ت، ص جـ)

فَلِهذا يمكننا التأوّل أنَّ العكبري قَدْ زاد مَا سها عَنْهُ المؤوّلون قبله، وَمَنْ شرحوا أشعار المتنبي. وهذا مردّه إلَى القدرة علَى استرجاع الشواهد وحب التميّز الَّذي يعتريه، وهنا لسنا نحاول الحكم علَى أيّ مِنَ المؤوّلين وصحة مَا قدماه، بِقدر مَا تهمنا معرفة الآليات المعتمدة فِي تأوّل نص المتنبي. وَبِالعودة إلَى موضوعنا فَإنَّنَا نخلص إلَى أنَّ قيمة معرفة مشتقات الكلمات وتصريفها يشكل مفتاحا ضروريا يلازم المفتاح الأول وهو الجانب اللغوي، وكل هذه الآليات تتساند فِيمَا بينها لِلوصول إلَى المعنى بغية الفهم والإفهام.

3-الجانب النحوي

يعّد النحو آلية هامة فِي القراءة التأويلية أوْ غيرها مِنَ القراءات، وهذه الأهمية قَدْ اكتسبها مِنْ قراءته لِعوارض أخر الكلمات فِي مختلف تراكيبها، وعلاقاتها الدلالية الحاصلة بين الكلم والجمل ضمن سياق معرفي معيّن، لِأن المعنى كَمَا جاء فِي (الإتقان في علوم القرآن): " يتغير ويختلف بِاختلاف الإعراب فَلَا بُدَّ مِنْ اعتباره." (السيوطي، 1991م، ص397) ولِلظفر بِالمعنى مِنَ الجانب النحوي، فَإنَّهُ  يلزم المؤوّل مراس واضطلاع واسع بِعلم النحو وقواعده وأصوله، فهو المفتاح لِمَا أغلق مِنَ المعاني، وَفِي هذا قال عبد القاهر الجرجاني(ت:471ه)al- Ǧurǧānī: "إذَا كان قَدْ عُلِم أنَّ الألفاظ مُغْلقة عَلَى معانيها حَتَّى يكون الإعراب هو الَّذي يفتحها، وَأنَّ الأغراض كامنة فِيهَا حَتَّى يكون هو المستخرج لَهَا، وَأنَّهُ المعيار الَّذي لَا يتبيّن نقصان كلام ورُجحانه حَتَّى يعرض عَلَيْهِ، والمقياس الَّذي لَا يعرف صحيح مِنْ سقيم حَتَّى يرجع إلَيْهِ، لَا ينكر ذلك إِلَّا  مَنْ ينكر حسّه، وَإِلَّا مَنْ غالط فِي الحقائق نفسه." (الجرجاني، 1992م، ص28)وَعَلَيْهِ فَإِنَّ النحو عنصر تأويلي يفرض حضوره فِي القراءات العربية القديمة، كَمَا اَنَّهُ آلية بارزة فِي توجيه المعنى وترجيحه. لِذَا أَوْلاَها المؤوّلون عناية كبري، واختلفوا فِي التوسع فيها. والناظر فِي خطابي ابن جني والعُكْبري يجدهما قَدْ اعتمدا النحو آلية للتأويل وفهم المعنى، بَيْدَ أَنَّ القارئ يمكنه ملاحظة الفروق بين ابن جني والعُكْبري فِي درجة اهتمامهما بِالإعراب والتوسع فِيهِ، حيث نجد ابن جني لَا يُفِيضُ كثيرا فِي مسألة الإعراب إلَّا بِقدر مَا يفيده فِي فهم المعنى، وَلَا يعطي لِآلية النحو أكثر مِمَّا يعطي لِباقي الآليات، وهذه السمّة يتسم بِهَا الأوائل مِنَ المؤوّلين عَلَى خلاف مَنْ جاؤوا بعدهم، وخصوصا بعد القرن الرابع الهجري؛ فَقَدْ برزت ظاهرة التوسع فِي احد  أفعال القراءة أوْ آلية تأويلية عَلَى حساب أخرى. وهذا يكون بحسب اهتمام المؤَوِّل وشغفه بِعلم مِنَ العلوم، وهذا مَا نلمسه فِي خطاب العُكْبري؛ إِذْ نجده يعتني بِالجانب النحوي كثيرا مِمَّا جعله يسهب فِي التعليل والشرح، ويضع لَهُ عنوانا ويُكُوِنُ منهجية متبعة في شرحه لِلديوان، وهذا نظرا لِاهتمامه وشغفه بِالنحو، وَقَدْ أشار إلَى ذلك فِي مقدمة كتابه (التبيان في شرح الديوان) فقال: "وجعلت غرائب إعرابه أوّلا، وغرائب لغاته ثانيا، وليس غريب اللغة بغريب المعنى."(العكبري، ب-د-ت، ص د) أيْ: النحو يعد أولوياته الأولى تأوُّل المعنى فِي نصوص المتنبي، مقارنة بِتأويل ابن جني؛ الَّذي لَمْ يُقَصِرْ فِي جانب النحو، وِإِنَّمَا كان معتدلا فِي توظيفه لَهُ، فأعرب مَا يخدم المعنى لَا شغفه، وهو النحوي صاحب كتاب (الخصائص).

وفِي مقاربتنا هذه لَا يهمنا أنْ نعرض مَا قدماه أوْ نحكم عَلَى صحته، بِقدر اهتمامنا بِكيفية استعمال النحو كَقناة لِبناء المعنى وتوجيهه، وَمِنْ أمثلة ذلك قول المتنبي:

فَـــــــــــــــــــــــــــوَمَنْ أحِـــــــــــــــــــــــبُ لأعْصِينَّـــــــــــــــــــــــــــــــكَ فٍـــــــــــــــــــــي الهَوَى

قَسَمــــــــــــــــــــــــــــــــــاً بــــــــــــــــــــــــــه، وبٍحُسْنِــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ، وَبهائِـــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ.

 

قال ابن جني عن "فَوَمَن": "الفاء للعطف والواو للقسم، والمعصيُّ: المعذول، والمُقْسَمُ به: المحبوب." (ابن جني، 2004م، ص41)

قال العُكْبري:" الإعراب: فَوَمَنْ أحِبُّ: الفاء عاطفة عَلَى مَا تقدم، والواو لِلقسم. وَمَنْ: فِي موضع خفض. المعنى: يقول: قسما بِهذا المحبوب     لَا أطعت فِيهِ عاذلا، وكيف وَقَدْ أقسم بحسنه ونور وجهه." (العُكبري، د-ت، ص4)

وهنا قَدْ توقف المؤوّلان عند العبارة "فَوَمَنْ" وأعرباها لِتسهيل الفهم عَلَى المتلقي ومعرفة المقصود بمَنْ، وعَلَى مَنْ يعود القسم، ففعلهما هذا قَدْ أزال الإبهام عَنْ مراد الشاعر فِي بيته، وحددا عَلَى مَنْ يعود القَسم، وهو علَى المحبوب سيف الدولة. فمعرفة التخريجات النحوية، والفاعلية علَى مَنْ تعود تزيل الغموض عَنْ المعنى. وليس هذا فقط بَلْ يستند المؤوّلان ابن جني والعُكْبري علَى شواهد مِنَ القرآن أيضا، مماثلة لِلحالة الإعرابية التي يعالجانها. لِينتهيا إلَى مراد الشاعر ومعنى البيت، وهذا الفعل يفتح القنوات التأويلية علَى بعضها. وَمِنْ أمثلة ذلك قولهما فِي البيت التالي:

لــــــــــــــــــــــــــــوْ قُلْــــــــــــــــــــــــتَ للدَّنِـــــــــــــــــــــفِ  الحزيــــــــــــــــــــن: فَدَيْتُــــــــــــــــــهُ

ممَّــــــــــــــــــــــــــــا بـــــــــــــــــــــــــه لأَغْــــــــــرَتَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ بِفِدائِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

ابن جني: "ووجهُ إغارته إيّاه الشُحُّ على محبوبه والخوف أنْ يحلَّ أحد محلَّه مِنْهُ فهو علَى مَا هو فِيهِ، لَا يسمح لِأحد أنْ يفديه مِمَّا هو بِهِ مِنَ الضُرٍّ والجَهْدِ، وقوله: بفدائه، أيْ: بِفدائك إيّاه، فأضاف المصدر إلَى المفعول، كقوله تعالى﴿قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖوَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩ ٢٤ ﴾   ومعناه: بِسؤالك لِنعجتك، وقوله تعالى﴿لَّا يَسۡ‍َٔمُ ٱلۡإِنسَٰنُ مِن دُعَآءِ ٱلۡخَيۡرِوَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَ‍ُٔوسٞ قَنُوطٞ ٤٩﴾، أيْ: مِنْ دعائه الخير، وهذا كثير." (ابن جني، 2004م، ص55،54)

أبو البقاء العُكبري: "الإعراب: بِفدائه أيْ بفدائك إياه، أضاف المصدر إلَى المفعول، كقوله تعالى: ﴿بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ﴾ ص [24] أيْ: بِسؤاله نعجتك، ويجوز إضافة المصدر إلَى المفعول، لِملابسته إياه." (العُكبري، د-ت، ص6).

وكذلك يستند المؤوّلان علَى شواهد مِنَ الشعر بِمَا يوافق المعطيات التي تبدو غريبة فِي الاستعمال، كَحال إضافة المسمى إلَى الاسم، وَقَدْ وردت هذه الحالة عند المتنبي فِي قوله:  

الـــــشــَّـــــــــمــــــــــــــسُ مـــن حُــــــــــــسَّــــــــــــــــاده والــــــنَّــــــــــــــصْــــــــرُ مِـــنْ

قُـــــــَرنَــــــــــــــــــائـــــــــــــــهِ والسَّــــــــــــــــــــــيــــــــــــفُ مِــــــنْ أســـــــــــمــــــــــــــــائــــــــــــــــــــــــــهِ

 

فقال ابن جني فِيهِ مؤوّلا لِلعبارة "والسيف مِنْ أسمائه" التي رأى فِيهَا أنَّ المتنبي لَا يقصد السيف جوهرا ومعدنا بَلْ قصد بِهِ سيف الدولة، وهو اسمه لَا مسمى لَهٌ، فصرح المتنبي علَى حد قول ابن جني فِي هذا البيت عَنْ "مراده، وقوله: والسيف مِنْ أسمائه، يعني هذه اللفظة التي هي ألف سين ياء فاء، وليس يريد المسمّى بهذه اللفظة، أعني جوهر الحديد لِأَنَّ ذلك ليس بِاسم، وَإِنَّمَا هو المسمّى، ومحال أنْ يكون جوهر الحديد نفسه مِنْ أسماء أحدٍ... وحكي عَنْ أحمد بن صالح، يقال: قبَّلتُ حيَّ زيد، أيْ قبّلتُ زيدا، وأنشد:

...            ...            ...             ...            ...               ...

وحــــــــــــيَّ بــــــــــــــــَـكْــــــــــــــــرٍ طَــــــــــــــعــــنَّــــــــــا طـــــعـــــــــــــــــــــنــَــــةً بــــــــــــــــــــــجــــــراً.

 

قال أحمد: يريد: وبكراً طعنّا، قال أبو علي: فَإِنَّمَا يقصد بِحيّ: جسمه الحيَّ، ويقصد بِبكر: الاسم، فحيُّ هَهُنَا هو الجسم المسمّى بكرا... ومثله قول الآخر:

يــــــــــــــــــــــــا قُـــــــــــــــرَّ إنّ أبــــــــــــــــــــــــــــاك حــــــــــــيَّ خــــــــــــــويـــــــــــــــــــــــــــــلــــــــــــــدٍ

قـــــــــــــــــــــد كـــــــــنــــــــــت خَــــــــــائِـــــــــفَــــــــــــــــــــــهُ عــــــــلـــــــى الإِحــــــــــــــــمـــــــــــــــاقِ .

 

كَأَنَّهٌ قال: إنَّ أباك خويلدا مِنْ أمره وَمِنْ سببه، فجعل خويلدا بدلا مِنْ أباك، كَمَا تقول إِنَّ أباك زيدا قائمٌ."(ابن جني، 2004م، ص37،36،35) 

وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الإعراب والتخريجات النحوية تفتح باب الاحتمالات الدلالية المتاحة، وهذا مِنْ خلال تعدد الحالات الإعرابية، والاختلاف فِي العملية الإسنادية بين المسند والمسند إلَيْهِ، كنحو اختلاف المؤوّلين علَى إسناد الضمير الغائب المفرد فِي لفظة "بِمائه" فِي قول المتنبي:

القَـــــــــــــــــــلْـــــــــــــبُ أَعــــــــــلَـــــــــــــمُ يـــــــــا عَـــــــــــــــــــذُولُ بِـــــــــــــــــــــــــــدَائِــــــــــــــــــهِ

وأحَــــــــــــــــقُّ مِـــــــــــــنْـــــــــــــكَ بِــــــــــــــــجَــــــــفْــــــــــــــنِـــــــــــــــــهِ وبِـــــــــــــــــمـــــــــائِـــــــــــــــــهِ

 

ابن جني: "هو يصرف الدمع إلَى حيث يريد، لِأَنَّهُ مالكه، يعني القلب مالك الدمع، والهاء فِي مائه تعود علَى الجفن، ويجوز أنْ تعود علَى القلب، وفِيهِ بعد." (ابن جني، 2004م، ص41)

أبو البقاء العكبري: "الإعراب: الضمير فِي«مائه»يعود علَى الجفن، وقيل يعود علَى القلب، وَفيهِ بعد، وأضاف الجفن إلَى ضمير القلب، لِأَنَّهُ المالك والأمير علَى الأعضاء كلها. المعنى: يقول لِلعذول: القلب أعلم مِنْكَ بِمَا فِيهِ مِنْ برْح الهوى، فهو يطلب شفاءه وهو أحق بِالبكاء، وأنت تنهاه عَنْهُ، والقلب يأمر الجفن بِالبكاء، طالبا بِذلك شفاء مَا فِيهِ، فهو أولى بِذلك مِنْكَ، والبكاء فِيهِ شفاء القلب واستراحة، وَفِيهِ نظر إلَى قول امرئ القيس: «وإنَّ شـــــــــفَــــــائِــــــــي عَـــــــــبْرَةٌ مُــــــــــهْـــــــرَاقــــــــةٌ»." (العُكبري، د-ت، ص3).

وبناء علَى مَا سبق، نستنتج أنَّ الدلالة النحوية تقوم بِدور مهم فِي الفعل التأويلي العربي القديم، وهي تمثل قناة تنفتح علَى القنوات التأويلية السياقية، مِنْ خلال انفتاحها عَلَى الموازيات النصية الشعرية مثلا، فتستند عَلَيْهَا لِترجيح الدلالات الممكنة الموافقة لِلسياق النصي والوجوه الإعرابية المحتملة، وفِي قراءتي ابن جني والعكبري يتضح جليا دور الدلالة النحوية فِي فهم معاني أبيات المتنبي، وَكَذَا يبرز ميولهما وشغفهما بِعلم النحو وتخريجاته.

4-الجانب البلاغي                                                                                                                                                                                                               

تمثل البلاغة مستوى بنائيا نصيا أساسيا فِي أيّ قراءة، والوقوف عندها ضرورة لازمة، والمعرفة بِها واجبة علَى كل مؤوّل، وَعَنْ هذا قال بدر الدين الزركشي: "واعلم أنَّ معرفة هذه الصناعة بِأوضاعها هي عمدة التفسير.. وهي قاعدة الفصاحة وواسطة عقد الفصاحة." (الزركشي، 1988م، ص388)، وَلَا يعني هذا أنَّ كل مطلع علَى علم البلاغة هو مدركها، بَلْ يشترط البراعة فِيهَا والممارسة والغوص فِي غمارها، ومزاولتها زمنا والرجوع إِلَيْهَا، لِأَنَّ "أكثر مَا يستحسن ويستقبح فِي علم البلاغة، له اعتبارات شتى بِحسب المواضع... وَلَا يقف الإنسان عَلَى تلك المواضع، إِلَّا بِطول المزاولة. وَلَا يشرف الإنسان علَى جمل مِنْ تلك المواضع يمكنه أنْ يستنبط بِهَا أحكام مَا سواها إلَّا بِكثرة الفحص والتنقيب عمَّا يجب اعتماده فِي جميع أحوال الصناعة مِنْ إيثار مَا يجب أنْ يؤثر، وترجيح مَا يجب أنْ يرجّح، بِالنظر إلَى الشيء نفسه أوْ النظر إلَى مَا يقترن بِهِ أوْ إلَى مَا هو خارج عَنْ ذلك..." (القرطاجني، 2014م، ص88)، أيْ: مَنْ لَا يملك القدرة علَى معرفة البلاغة وممارستها، وَلَمْ يقف عَلَى علميها علم المعاني وعلم البيان، يكون ظالما لِنفسه، جاحدا لِقيمتها فِي الكلام، وَعَنْ هذا يقول السكاكي (ت:626ه)Al-Sakkaki: "إنَّ الواقف علَى تمام مراد الحكيم وتقدس مِنْ كلامه، مفتقر إلَى هذين العلمين كل الافتقار، فالويل كل الويل لِمَنْ تعاطى التفسير وهو فِيهمَا راجل" (القرطاجني، 2014م، ص88). وَعَلَيْهِ فَإِنَّ البلاغة تشكل آلية عظمى فِي تأوُّل المعنى وفهمه، وهذا لِمَا تملكه مِنْ قدرة علَى حمل المعاني وإخفائها وتجليتها فِي آن واحد، فهي تشكل النص ومفهومه. إلَى جانب البنيات النصية الأخرى. كَمَا أنَّهَا ثابت نصي قوي يساهم فِي انفتاح النص علَى الفعل التأويلي، وَلِذَا قدر ركز المؤوّلون القدماء عَلَيْهَا كثيرا فِي خطاباتهم التأويلية، وَهَا هو ابن جني والعكبري قَدْ سارا علَى خطى القدماء، وكانت البنيات البلاغية حاضرة فِي تأوُّلهما لِقصيدة المتنبي هذه. وَإِنْ لَمْ يكن تناولهما لِهذه البنية متقاربا؛ فنجدها تخفت نوعا مَا فِي تأويل العكبري مقارنة بِا بن جني الَّذي يؤوّل حَتَّى البنيات البلاغية فِي الشواهد المستدل بِهَا، وَمِنْ بين البنيات الحاضرة؛ الاستعارة والكناية والتشبيه والمقابلة والطباق. وفِي مقاربتنا سنحاول الاقتصار علَى مثالين مِنْ أجل التوضيح فقط.

المثال الأول:

فَأَتَيْتَ مِـــــــــــــــــــــــــــــــنْ فَـــــــــــــــــــــــــــوْقِ الزَّمَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ وَتَــحْتـِــهِ

مُتَصَلْــــــــــصِــــــــــــــــــــــــلاً وَاَمَامِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ وَوَرَائِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

قال ابن جني: "وقوله: مِنْ فوق الزمان وتحته وأمامه وورائه، استعارة لَا حقيقة ويريد إسراعه وجِدّه فِي نصرته، وهذا فاش فِي أشعار العرب. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عَنْ أحمد بن يحي قال: يقال، رأيتك وراء وراءَ ووراءُ وراءُ ووراءٍ وراءٍ ووراءٍ وراءً. أيْ: أحطت بالزّمان الَّذي هو أمُّ النّوائب وَلَمْ تعبأ بِالنَّوائب." (ابن جني، 2004م، ص56)

قال العكبري: "والأمام: قُدّام، وهو ضد الوراء، وطابق بين الفوق والتّحت، والقدّام والخلف. المعنى: يقول: منعتني مِنْ نوائب الزمان          بِإحاطتك عَلَيْهِ مِنْ جوانبه كَالشيء الَّذي يحاط عَلَيْهِ مِنْ جميع أركانه فصَاَر ممنوعا. والمعنى أنَّك منعتني مِنَ الزمان، وحميتني مِنْهُ وَفِيهِ نظر إلَى قول الحَكَمِيّ:

تَغَطَيْتُ مِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنْ دَهْــــــــــــــــــــــــرِي بِظِلِّ جَنَاحِــــــــــــــــــــهِ

فَعَيْنــــــــــــــــــــــــــــــــــــي تَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَى دَهْـــــــــــــــــرِي وَلَيْسَ يَرَانِـــــــــــــــــــــــــــــي"

 

(العُكبري،ب-د-ت، ص7).

نلاحظ أنَّ القراءتين قَدْ اختلفتا فِي نوعية الاهتمام بِالبناء البلاغي فِي هذا البيت، فالأولى قَدْ اهتمت بِعلم البيان ورأت فِي العبارة "مِنْ فوق الزمان وتحته وأمامه وورائه "استعارة وَقَدْ دَعَمها ابن جني بِشاهد مِنْ كلام العرب؛ وهو عَنْ احمد بن يحي. أمَّا القراءة الثانية فَقَدْ اعتنت بِعلم البديع وركزت علَى ظاهرة الطباق والتضاد بين تحت وفوق، وأمام ووراء، مَعَ تدعيم مَا ذهب إلَيْهِ بيت شعري قريب فِي نسجه مِنْ بيت المتنبي. لِيخلص المؤوّلان إلَى معنى واحد؛ وهو تحصين المحبوب مِنْ نوائب الزمان وحمايته مِنْها. فكل مِنْهُمَا تناول المفتاح البنائي البلاغي التأويلي وفق منظوره، ودعمه بِمَا يملكه مِنْ ذخيرة. فالتنوع فِي البناء البلاغي يسمح بِتعدد أنماط القراءات كَمَا يبرز قدرة المؤوّل علَى الفهم.

المثال الثاني:

  مَـــــــــــــــــــــــــــنْ لِلْسُّـــــــيُوفِ بِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــأَنْ تَكُــــــــــــــــونَ سَميّــــــهُ

فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي أصْـــــــــلِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ وفـِرِنْــدِهِ وَوَفائِـــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

قال ابن جني: "مَنْ للسيوف بِأنْ تكون سيف الدولة، لأنَّهُ سميُّها؟ وقريب مِنْهُ قوله:

تَــــــــظُـــــــــنّ ســـــــــيــــــــــوفُ الهـِـــــــــنْـــــــــد أصْـــــلَـــــــكَ أصــــــــلَـــــــــــها

وأنَّــــــــــــــــــــــــك مــــــــــــــــنــــــــــــــها ســــــــــاءَ مــــــــــــــا تَــــــــــــــــتــــــــــــــوَهَّـــــــــــــــــــمُ

 

وعنى بالفرند: مكارمه ومحاسنه ومساعيه، واستعار الفِرند لمَا كان يقع عَلَيْهِ سيف الدولة."(ابن جني، 2004م، ص57،56)

قال العكبري: "المعنى: يقول: مَنْ يكفل للسيوف بأنْ تكون مثل سيف الدولة سميّها واستعار اسم الفرند لمَا كان علَيْهِ اسم السيف. ثُمَّ ذكر الفضل بينه وبين السيوف المضروبة مِنَ الحديد، واستعار الفرند لِمكارمه ومحاسنه، لأنَّهُ أفضل مِنَ السيوف، وهو يفعل مَا لَا تفعله السيوف، والسيف لَوْلَا الضارب لمَا كان إِلَّا حديدا. وَإنَّكَ شَرَفَ وقمر للناس، فكيف لَا تتمنى السيوف أنْ يكون لَهَا مثلا سميًّا؟ وهــــــو كَقولــــــــه:

*تظن السيوف الهند أصلَكَ أصلَها*." (العُكبري، د-ت، ص8)

وهنا قَدْ حاول المؤوّلان فهم الظاهرة البلاغية الموجودة فِي هذا البيت، وَقَدْ حدداها فِي نوع البيان وهو الاستعارة، فقدما لَهَا تخريجات دلالية تؤوّل مَنْ المستعار ووجه الاستعارة مَعَ التدعيم بِدليل مِنَ الشواهد الشعرية للسابقين مِنَ الشعراء ومَنْ نظموا فِي نفس الموضوع وتشابهت الدلالات مَعَهُم. لِيصلا إلَى المعنى المقصود والغرض مِنْ هذه البنية البلاغية.

والملاحظ لِهذين الخطابينالتأويليين يرى أنَّ المؤوّلين لَمْ يقفا فِي شرح البنيّات البلاغية علَى قصيدة المتنبي المدروسة، وإنَّمَا حَتَّى الشواهد التي يوردانها، وهذا مَا لاحظناه بِكثرة عنْدَ ابن جني مقارنة بِالعكبري، وهذا دليل علَى ولعهما بِفهم البنيات البلاغية وإفهامها حَتَّى فِي شواهدهما التييستعينان بِهَا لِلاستدلال والحجاج. ومِنْ أمثلة ذلك مَا عرضه ابن جني فِي تأويله لِبيت المتنبي فِي قوله:

يشْكُــــــــــــــــــو المَــــــــــــــــــــــــلامُ إلــــــــــــــــــــــــــى اللَّـــــــــــــــــــــوَائِمِ حَـــــــــــــــــــرَّهُ

وَيَــــــــــــصُـــــــــــــــــــــــــــــــــدُّ حِيـــــــــــــــــــــــنَ يَلُمْـــــــــــــــــــــــــــنَ عَـــــــــــــــــــــــــــــنْ بُرَحائِهِ

 

قال ابن جني بعد مَا تعرض لِلمفاتيح الأولى مِنْ شرح لغوي واشتقاق مؤوّلا مَا استشهد بِهِ مِنْ أشعار تشابه البينية البلاغية الواردة فِي نصه:

"قال: تأبط شرا: إذا هــــــــــــــزّه فــــــــــــــــــــــــــــــي عَظْمِ قِرنٍ تَهَللَتْ

نَواجِــــــــــــــــــــــــذُ أفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواهِ المنَايَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا الضَّواحِــــــــــــــــــــــــــــــــكِ

 

فجعل لَهَا نواجذ وأفواها. وقال آخر:

"نَعــــــــــــــــــاءِ ابنَ ليلَــــــــــــــــى للسَّماحَـــــــــــــــــــــــةِ والنَّـــــــــــــــــــــــــدَى

وأيـْـــــــــــــــــــــــــــــــدِي شَمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالٍ بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارداتِ الأنامـــــــــــــــــــــــــــــــلِ

 

فجعل لَهَا أيديا وأنامل، استـعارة وتصرّف فِي القول... وقال الآخر:

قَرَعْــــــــــــــــــــــــــتُ ظنابيــــــــــــــــــــــبَ الهـــــــــــــــوى يــــــــــــــومَ عالــــــــــــــــــــجٍ       

ويـــــــــــــــــــــــومَ النَّقَـــــــــــا حتَّـــــــــــــــــــــــــــى قسَـــــــــــــــــــــــــــــــــرتُ الــــــــــــــــــــــــــــــورى قَسْــــــــــــــــرا

 

فجعل لِلهوى ظنابيبَ، وهذه كلها استعارات وهي أكثر مِنْ أنْ أحصيها لَك." (ابن جني، 2004م، ص31،30)

           وتأسيسا عَلَى مَا سبق، فإنَّ البنيات البلاغية تمثل مفتاحا تأويليا مهما فِي تشكيل المعنى وبنائه، كَمِا أنَّهَا فعل قرائي يتكاتف مَعَ الأفعال التأويلية السياقية ويتساند مَعَهَا، مشكلة بِذلك مجالا لِتعدد القراءات وتنوع أنماطها.

ثانيا: الآليات التأويلية المتعلقة بِالسياق النصي.

إنَّ أيَّ قراءة محكومة بِنسق قرائي معين وتختلف مِنْ قارئ إلى آخر. والمعلوم الثابت أنَّ القراءة التأويلية لَا تنطلق مِنْ فراغ، "وإنَّما مِنْ مؤشرات نصية، وهي مؤشرات تركيبية تلحظ فِي علاقة الملفوظبمساقه التركيبي...وإمَّا مؤشرات استبدالية، حيث يتم المواجهة بين الملفوظ والذاكرة الجمعية التي تحدد مجموع المعايير والقيم الملائمة لِمجتمع معين."(البازي، 2010م، ص65)أيْ: أنَّ الفعل التأويلي لَا يتوقف عند البنيات النسقية فقط، بَلْ يتعداها إلَى البنيات السياقية، وهذا لِكونها تدخل فِي تشكيل وبناء المعنى، فالبنى السياقية لَهَا دور فعال فِي عملية التأوُّل والفهم والإفهام، فهي مؤشرات تستخدم لِتقريب المعنى المؤوَّل، وإثباته أوْ لِلدفاع عَنْ فهم مِنَ الأفهام، كَحجة لِلقطع والترجيح. أيْ أنَّ هذه البنى كَالدعامات، يستند عَلَيْهَا المؤوّل لِمساندة تخريجاته وتأويلاته والمراد مِنَ النص. كَمَا يمكن أنْ يستعملها لِإقناع المتلقي بِمعرفته واطلاعه الواسع، وهي آليات تساندية لَا يمكن الاستغناء عَنْهَا. فِبهَا يكتمل المعنى ويتشكل. والقارئ لِتأويلات القدماء يجدها قَدْ أولت عناية كبرى لِهذه المعطيات السياقية. كَمَاأنَّهَا قَدْ اختلفت وتفاوتت فِي نسبة توظيفها، وهذا مردّه إلَى أمرين؛ الأول: الخضوع إلَى مَا تقتضيه الحاجة أيْ المقام هو الَّذي يتحكم فِي استحضارها. الثاني: قدرة المؤوّل علَى استحضار الشواهد وحفظها، وفِي هذا درجات. وَعَلَيْهِ مَا هي الآليات التأويلية السياقية البارزة فِي خطابي ابن جني والعكبري؟

1-مرجعيات ومقامات الخطاب

يمثل هذا المفتاح التأويلي وسيطا مهما يُضمنه المؤوِّل فِي بداية خطابه يتكئ عَلَيْهِ فِي توجيه المتلقي نحو مقاصد المؤلف أوْ الشاعر، واستقطابه إلَى فهم معيّن. إذْ أنَّ معرفة هذه المقامات والمناسبات تحُدُّ مِنَ الوقوع فِي إشكاليات دلالية وتأويلية لَا حصر لَهَا؛ لِكون النص أوْ الخطاب بِصفة عامة هو وليد تلك الشروط، أوْ يحاكيها المؤوّل كَمَا يفعل مَعَ النصوص المتقدمة فِي أزمنة متباعدة عَنْ أزمنة إنتاجها. فمعرفة تلك المعطيات: مناسبة إنتاج النص ومقام إنتاجه وصاحب النص تساعد علَى تمثل أفضل للنص، إِذْ تقرب المتلقي مِنْ زمن إنتاجه ومعانيه المقصودة، وَبِهذا تؤطر الفهم والتأويل، وتقدم لِلمؤوّل عونا وزادا معرفيا يسهل عليه اقتحام دلالات النص والتعمق فِيهَا. وَقَدْ أيقن القدماء دور هذه المقامات والمناسبات فِي فهم النصوص، فَدَرَّجُوا علَى استعمالها فِي قراءاتهم. وَفِي خطابي ابن جني والعكبري قَدْ تمثلت فِي تعريفها بِالمتنبي وذكر مناسبة إلقاء القصيدة وَإنْ لَمْ يكن واضحا القصد مِنْهَا، فقال:

ابن جني: "قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي مِنْ أهل الكوفة، ومولده فِيهَا بِكندة سنة ثلاث وثلاثمئة، وتوفي سنة أربع وخمسين، وَقَدْ أمر سيف الدولة بِإجازة أبيات علَى قافية الهمزة." (ابن جني، 2004م، ص24،23)

 العكبري: "قال أبو الطيب، وَقَدْ أمره سيف الدولة بِإجازة أبيات لِأبي ذرّ سهل بن محمد الكاتب وهي مِنَ الكامل، والقافية مِنَ المتدارك." (العُكبري، د-ت، ص1) فمعرفة صاحب النص ومقام قرضه لِلنّص يدرج المتلقي فِي سياق دلالي معين خصوصا هنا أنَّ المتنبي هو القائل؛ وهو أشهر مِنْ نار على علم. فذكر هذه المقامات بِمثابة بطائق تعريفية علَى حد قول محمد البازي كَمَا "أنَّها السياج الدلالي لِلقصيدة، وكان الشارح يقول مِنْ خلال إيراده لَهَا: فِي حدود هذه المعطيات يجب أنْ يفهم النص." (البازي، 2010م، ص208) وهذا لَا يحدث إِلَّا إِذَا كانت توقعاته وافتراضاته تسير فِي الاتجاه الصحيح، وَمِنْهُ إِنَّ مَا تقدمه المقامات الخطابية والمناسبات هو مفتاح تساندي لِلأفعال التأويلية، وهي آلية مهمة فِي انطلاق عملية التأويل.

2- الموازيات النصية

ويقصد بِها كل المواد الخارجية المتعلقة بِتشكيل النص ودلالته، والتي تعمل علَى مساندة المعنى وتأوُّله، فهي عبارة عَنْ مفاتيح تعزز المفاتيح البنائية، وتفتح آفاقا دلالية جديدة، وتسهم فِي انفتاح المعنى واتساعه. فهذه الموازيات تعمل علَى استيفاء الجوانب الناقصة فِي العملية التأويلية. وتقوم بِسدّ تلك الفجوات القرائية نُشدانا لِترجيح وإثبات المعنى المقصود.  وهذا عبر نظائر وأشباه تماثله، والمتأمل فِي القراءات التأويلية العربية القديمة يجدها قَدْ أسست خطاباتها التأويلية عَلَى منطق التساند لِهذه الآلية السياقية ودورها فِي فهم المعنى     وتأوله، وإثبات صحته وهذا لِإدراكهم قيمة الآليات السياقية ودورها فِي تشكيل المعنى. وَفِي قراءتنا لِخطابي ابن جني والعكبري دليل عَلَى مَا قلناه، ولِإثبات صحته نستعرض بعض الأمثلة مِمَّا أورداه.

المثال الأول: الاستدلال علَى إمكانية المعنى فِي قول المتنبي:

يَشْكُـــــــــــــــــو المَــــــــــــــــــــلامُ إلـــــــــــــــــــــــى اللَّوائِـــــــــــــــــــــــم حـــــــــــــــــــــــــرَّهُ     

ويَصُـــــــــــــــــــــدُّ حِيـــــــــــــــــــــــــــــنَ يَلُمْـــــــــــــــــــــــــــــنَ عَـــــــــــــــــــــــــــــــــنْ بُرحائِــــــــــــــــــــــــــــــــــه

 

قال ابن جني عَنْ لفظة البرحاء: "والبرحاءُ: الشّدة والمشقة... قال الأعشى:

أقـــــــــــــــــــــــولُ لــــــــــــــــــــــــــــهُ حِيــــــــــــــــــــــــنَ جَـــــــــــــــــــــــــــــــــدَّ الرَّحــــــــــــــــيــــــــ     

لُ: أبرحــــــــــــــــــــــــــــــــتَ ريّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً وأبرحْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتَ جــــــــــــــــــــــــــــــــارا

 

أيْ: أعظمتَ، واتخذت عظيما. والبارحُ ضدُّ السّانِحِ هو مِنْ هذا، لِأنَّهُ يُتَشاءمُ بِهِ."(ابن جني، 2004م، ص29)

قال العكبري: "الغريب: والبرحاء: شدة الحرارة التي فِي القلب مِنَ الحب، وأصله الشدة، يقول لقيت مِنْهُ برحا بارحا: أيْ شدة وأذى؛ قال الشاعر:

أجِـــــــــــــــــــــــــدَّك هـــــــــــــــــــــــــذا عمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَك اللهَ كــــلَّمــــــــــــــــــــــــــــــا   

دعـــــــــــــــــــــــاك الهَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــوَى بَــــــــــــــــــــــــــــرْحٌ لعينيــــــــــــــــــــــــك بــــــــــــــــــــــــــارحُ"

 

(العُكبري، د-ت، ص2)

المثال الثاني: الاستدلال على الجانب الاشتقاقي.

قال المتنبي:

وَهَـــــــــــــــــــــــــبِ المَلامــَـــــــــــــــــــــــــةَ فِــــــــــــــــي اللَّــــــــــــــذَاذَةِ كالكَـــــــــــــــرَى     

مَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرُودَة بِسُهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادِهِ وَبُكائِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

قال ابن جني: " والسُّهادُ: السَّهَرُ، يقال: سَهِدَ يَسْهَدُ سُهَادًا وسَهَدًا. قال الأعشى:

"أَرِقْــــــــــــــــــــــــــــــــــــتُ ومَــــــــــــــــــــا هــــــــــــــــــــذَا السُّـــــــــــــهادُ المُــــــــــــــــــــــــؤَرِقُ     

ومـــــــــــــــــــــــــا بـــــــــــي مـِــــنْ سُــــــــــــــقْـــــمٍ ومـــــــــــا بــــــــــــيَ مَــــــــعْشَــــــــــــــــــــــــقُ؟"

 

(ابن جني، 2004م، ص49)

قال العكبري: "الغريب: السهاد: الأرق، وسهِد (بالكسر)يَسهْد سُهْدًا، والسُّهُدُ (بضم السين والهاء): قليل النوم. قال الشاعر أبو كبير الهذلي:

فأتَـــــــــــــــــــــــــــــــــــتْ بـــــــــــــــــهِ حُــــــــــــــــــــوشَ الجِنـَــــــــــــــــــــانِ مُبطنـــًــــــــــــــــــــــــــا

سُهـُـــــــــــــــــــــــــدًا إذا مـــــــــــــــــــــــــــــا نَــــــــــــــــــــــــــــــام ليـــــــــــــــــــــــــــلُ الهَوْجــَــــــــــــــــــــــــــــــلِ

 

المعنى: قال أبو الفتح: اجعل ملامتك إياه فِي التذاذكها كَالنوم فِي لذته، فاطردها عَنْهُ وَبِمَا عنده مِنَ السهاد والبكاء، أيْ: لَا تجمع عَلَيْهِ اللوم والسهاد والبكاء، أيْ فَكَمَا أنَّ السهاد والبكاء قَدْ أزالا الإكراه، فلتُزِل ملامتك إياه. ورّد عَلَيْهِ الواحدي وقال: هذا كلام مَنْ لَمْ يفهم المعنى، فظّن زوال الكرى مِنَ العاشق، وليس كَمَا ظنّ ولكنَّه يقول لِلعاذل: هب أنَّك تستلذ الملامة كَاستلذاذك النوم...فكذلك دع الملام، فَإنَّهُ ليس بألّذ مِنَ النوم، فَإِنْ جاز أنْ لَا تنام جاز أنْ لَا تعذل. وذكر ابن القطاع مَا ذكر أبو الفتح." (العُكبري، د-ت، ص6،5)

المثال الثالث: الاستدلال علَى قضية نحوية.

وهنا نجد ابن جني والعكبري قَدْ أعربا، واستدلا بِمَا يخدم تأويلهما واستغرابهما. وَلَا يعني بِالضرورة أنْ يقفا علَى نفس المسألة أوْ البيت. وَلِلإشارة هدفنا ليس رصد الاختلافات بينهما، وَقَدْ نوهنا إلَى ذلك مِنْ قبل، بِقدر التركيز علَى الآليات المستخدمة فِي تأوّل المعنى. وَمِنْ أمثلة ذلك؛ قول ابن جني عَنْ بيت المتنبي:

مـــــــــــــــــــــــــــــــــا الخِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلُّ إلاَّ مَــــــــــــــــــــــــــــــــــــنْ أَوَدُّ بقلبـــــــــــهِ

وَأَرَى بِطَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرْفِ لا يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرى بِسَوائِـــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

فقال معللا استعماله لِكلمة "سواء" وسبقها بِحرف الجرّ: "ويقال مررت بِرجل سِواك وسُواك وسوائِك: أيْ غيرك ... قال أبو دُوادٍ:

وكُــــــــــــــــــــــلُّ مَــــــــــــــــــنْ ظَـــــــــــــــــــــــــــــــنَّ أنَّ المــَــــــــــــــــــــــــوتَ مُخْطِئُــــــــــــهُ

مُعَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلَّلٌ بِسَــــــــــــــــــــــــــــــــــــواءِ الحَـــــــــــــــــــــــــقّ مَكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذوبُ

 

أيْ بِغير الحق، فادخل الباء علَى سواءٍ، وهي لَا تستعمل فِي حالة السعة والاختيار إلَّا ظرفا، فاضطُرَّ، فجعلها اسما، ويَدُلُّكَ علَى كونها ظرفا

قولهم: مررت بِالَّذي سواك، فكونها صلة تدلُّ علَى ظرفيَّتها، وشيء آخر، وهو قول لبيد:

فابـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذلْ ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوامَ القِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدرِ إنَّ

سواءَهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا دُهْمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاًوجُونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً.

 

فنصب "دُهُمًا" و "جونًا" لِأنَّهما اسمُ إِنَّ وقدَّر الخبر، وهو سواءُ، كَمَا يقول: إِنَّ فِي الدار زيدًا، وَلَوْ لَمْ تكن ظرفا مَا جاز أنْ يفصل بِهَا بين: إنَّ واسمها. قال أحمد بن يحي: ومعناه: إنَّ لَكَ فِي غير قِدْرِك إبلا أيضا، فأطعم الناس مِنْ هذه."(ابن جني، 2004م، ص45،44)وهنا، استدل ابن جني بِأكثر مِنْ مُوازٍ نصي مِنَ الشعر، لِيثبت تأوّله لِاستعمال سواء كَاسم متحججا بِأقوال مَنْ أجازوها فِي أشعارهم.

كَمَا نجد العكبري يستدل فِي تأوّله لِلدلالة النحوية علَى علم القراءات،بقولالمتنبي:

أُأحِبُّـــــــــــــــــــــــــــــــهُ و أُحِــــــــــــــــــــــــبُّ فِيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ مَلامَـــــــــــــــــــــــــــــةً؟

إنَّ المَلامَــــــــــــــــــــــــــةَ فِيـــــــــــــــــــــــــــــــــهِ مِـــــــــــــــــــــــــــــــــــنْ أعْدائِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ

 

فقال محددا أنواع الجملة فِي "أأحِبُّهُ": " الإعراب: هذا استفهام إنكار، وجمع بين همزتين وهي لغة فصيحة، وَقَدْ قرأ أهل الكوفة وابن ذكْوان بِتحقيق الهمزتين فِي كلّ القرآن إِذَا كانت مِنْ كلمة، ووافقهم هشام إذَا كانتا مِنْ كلمتين، كقوله: ﴿جاء أمرنا﴾." (العُكبري، د-ت، ص4).

إنَّ الفاحص لهذه الأمثلة يجد أنَّ الموازي مِنَ النصوص الشعرية يحضر بِقوة. إضافة إلَى أقوال السابقين. فِي حين أنَّ الشواهد القرآنية كان حضورها قليلا. وكل هذه الموازيات هي شواهد لِتأكيد التخريجات الدلالية والمعاني الممكنة المعروفة، بغية إظهار مَا خفي عَنْ فهم المتلقي، والتخلص مِنَ المآزق الدلالية فِي لحظات الحرج، وَمَا يرتبط بِهَا مِنْ تخريجات تأويلية. وهذا الإتيان بِالشواهد دليل قوي علَى انفتاح العملية التأويلية علَى بنى سياقية خارجية وتساند الآليات فِيمَا بينها، وهو مطلب ضروري فِي عملية الفهم والإفهام. وصفوة الكلام، أنَّ المؤوّلين ابن جني والعكبري قَدْ أدركا أنَّ الوقوف علَى المواد غير النصية ومؤشراتها عتبة دلالية ضرورية لِبناء المعنى. ولا يمكن التعالي عليها، أوْ تجريد النص مِنْهَا. فهي مدخل أساسي مكمل لِلمدخل البنائي للنص، وهي آلية مساندة تفتح آفاقا قرائية موسعة، وتزكي التجربة التأويلية؛ فَمَا تقدمه الثقافة بِالعلوم والموسوعية فِي الشعر والنصوص الموازية والأخبار والعادات والأمثال وحَتَّى ميول المؤوّل نحو علم مِنَ العلوم؛ كعلم النحو، أو علم العروض الَّذي هو" ميزان الشعر، بِهِ يعرف صحيحه مِنْ مكسوره." (التبريزي، 1994م، ص17) سند دلالي يسّد باب المزالق والتحريف والتأويل الفاسد.

خاتمة

إِنَّ التأويلية العربية القديمة هي نتاج الثقافة العربية، وهي تسعى إلَى تحصيل قراءة منسجمة مَعَ النص عبر فهم مقاصده ومقاصد منتجه، والنسق الثقافي الّذي تولد مِنْهُ، وفق إستراتيجية تأويلية تتوالف فِيهَا البنى النسقية والسياقية مَعًا، والقارئ لِخطابي ابن جني والعكبري يدرك أنَّ الشبكة التأويلية فِي قراءتيهما قائمة علَى تساند الآليات النسقية والسياقية مَعًا، وَأنَّها لَمْ تخرج عَنْ الإطار العام للتأويلية العربية القديمة، وعَنْ مرجعياتهما الثقافية. وَفِي قراءتنا خلصنا إلَى النتائج الآتية:

1-أنَّ اللغة مفتاح تأويلي أساسي فِي القراءة التأويلية، وهذا المفتاح يقوم بِعزل الكلمات الغريبة وتعريفها والوقوف علَى دلالاتها التواضعية، ثُمَّ اختيار الأنسب مِنْهَا بِمَا يوافق السياق النصي. وَإِلَى جانب هذا المدخل يبرز المفتاح الاشتقاقي ويقومبدور لَا غنى عَنْهُ فِي تتبع موازين الكلمة وتصريفاتها، فيختار المؤوّل مَا يفيده فِي فهم الموضوع، وهما مفتاحان ينفتحان علَى النصوص الموازية بغيّة تأكيد المعنى واتساع دائرة التأويل.

2- أنَّ قراءتي ابن جني والعكبري قَدْ أولتا أهمية كبرى لِلمدخل النحوي، وهو مدخل قرائي يفتح المجال لِلاحتمالات الدلالية تبعا لِتعدد الحالات الإعرابية، وكذلك الحال بِالنسبة لِلمدخل البلاغي، فهو مفتاح تأويلي ضروري وشرط أساسي فِي قيام العملية التأويلية عند القدماء.        وهما فعلان قرائيان يرتكزان علَى الآثار والشواهد لِتأكيد دلالات هذه التخريجات وصحتها. وهذا يكشف عَنْ سعة مجال التأويلية وتعدد آلياتها ومشاربها.

3- تشغل البنيات السياقية والموازيات الخارجية دورا مهما فِي تأويل خطابي ابن جني والعكبري، وهي بِمثابة دعامات لَا غنى عَنْهَا فِي قيام العملية التأويلية. فأشكال إحضار النصوص الغائبة والنظائر والأشباه هو ملمح قوي، لِاستدراج وتوجيه المتلقي ضمن سياق دلالي معيّن، وفهم وتأويل مؤطرين، مبنيين علَى مكتسبات معرفية ومهارات فردية، تؤكد دور المؤوّل فِي فهم وبناء المعنى المؤوَّل واتساع المعنى .

وختاما، بيّنت مقاربة الخطابين لِابن جني والعكبري عَنْ مدى وعيهما بِدور الآليات التأويلية فِي استنطاق النص والبحث عَنْ مقصديته، وَكَذَا عَنْ دورها البارز فِي الفهم والإفهام، وَأنَّ العملية التأويلية تنطلق مِنَ الداخل لِتكتمل فِي الخارج، وفق خطة قرائية بانية لِلمعنى يقومان فِيهَا بِدور أساسي لَا يمكن عزله عَنْ الأفعال الأخرى. كَمَا أنَّ هذه الإستراتيجية التأويلية المعتمدة تسمح للقارئ أنْ ينفتح علَى علوم كثيرة ويكتشف آليات تمكنه مِنَ الفهم، مِمَّا يجعل هذه القراءات أفقا خصبا لِلبحث والقراءة والتعلّم، ومدعاة إلَى دراستها والتعمق فِيهَا. كَمَا يمكن أنْ تكون فرضا هذه الإجراءات والآليات حلاً لقراءة نماذج نصية متباينة الأجناس التي عجزت المناهج المعاصرة عَنْ احتوائها

قائمة المصادر والمراجع

1)البازي محمد، 2010م، التأويلية العربية، الدار العربية للعلوم/منشورات الاختلاف، بيروت / الجزائر.

2) التبريزي الخطيب، 1994م، الكافي في العروض والقوافي، مكتبة الخالجي، القاهرة.

3)  ابن تيمية تقي الدين، د-ت، مجموع الفتاوى، دار الكتاب العلمية، بيروت.

4)  الجرجاني عبد القاهر، 1992م، دلائل الإعجاز، دار المدني/شركة القدس، جدّة.

5)  ابن جني أبو الفتح، 2004م، الفسر (الشرح الكبير على ديوان المتنبي)، دار الينابيع، دمشق.

6)  الرازي فخر الدين،1989م، الإيجاز في بداية الإعجاز، المكتب الثقافي الأزهر، القاهرة.

7) الزركشي بد ر الدين، 1988م، البرهان في علوم القرآن، دار الفكر، بيروت.

8) الزمخشري جار الله،1995م، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتب العلمية، بيروت.

9) السكاكي أبو يعقوب، 1983م، مفتاح العلوم، دار الكتب العلمية، بيروت.

10) السيُوطي جلال الدين،1991م، الإتقان في علوم القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت.

11) العُكبري أبو البقاء، د-ت، التبيان في شرح الديوان، دار المعرفة، بيروت.

12) القرطاجني أبو الحسن حازم، 2014م، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، دار الغرب الإسلامي، بيروت.

13)  المتنبي أبو الطيب، 2014م، ديوان المتنبي، المكتبة العصرية، بيروت.

14) الهاشمي أحمد، د-ت، جواهر البلاغة، دار إحياء التراث العربي، بيروت

@pour_citer_ce_document

عبد الملك بومنجل / الزهرة لونيس, «آليات التأويل في الخطاب النقدي العربي القديم ابن جني والعكبري أنموذجا»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 09-21,
Date Publication Sur Papier : 2021-03-07,
Date Pulication Electronique : 2021-03-07,
mis a jour le : 30/06/2021,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7826.