أسس النفاذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسانFoundations of Direct Execution of Human Rights Treaties
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 18-2021

أسس النفاذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان

Foundations of Direct Execution of Human Rights Treaties
ص ص 22-35
تاريخ الإرسال: 2018-09-29 تاريخ القبول: 2020-11-25

هيبة مهني
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

لتطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان من طرف القاضي الداخلي، وتمسك الأفراد بالحقوق المقررة فيها يجب أن تكون هذه الاتفاقيات مدمجة في القانون الداخلي للدول الأطراف فيها. إلا أن الإدماج وحده غير كاف   لترتب هذه الاتفاقيات آثارها على المستوى الداخلي، بل يتطلب ذلك أيضا أن تكون ذات تنفيذ مباشر. ويتوقف تحديد النفاذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان على نية أطراف المعاهدة وهو ما يعبر عنه بالأساس الذاتي،وعلى مدى دقة النصوص الاتفاقية وكفايتها بحد ذاتها، ويعبر عنه بالأساس الموضوعي.

وقد كشفت الدراسة أن العمل بالأساس الذاتي شكل عائقا أمام فعالية اتفاقيات حقوق الإنسان، في حين فتح الأساس الموضوعي آفاقا جديدة على صعيد التطبيق المباشر لها، كإمكانية تطبيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

الكلمات المفاتيح 

النفاذ المباشر، اتفاقيات حقوق الإنسان، الأساس الذاتي، الأساس الموضوعي

Pour une application des traités relatifs aux droits de l’homme par le juge interne et pour que les individus adhèrent à ces droits qui y sont établis, il faut que ses traités soient incorporés dans le droit interne des États parties. Mais l’incorporation seule n’est pas suffisante pour qu’ils aient leurs effets au niveau interne, ils exigent, également, d’être directement applicables. L’exécution directedes traités relatifs aux droits de l’homme dépend de l’intention des États parties de la convention exprimée par le fondement individuel, dépend aussi de la précision des dispositions et de son autosuffisance exprimés dans le fondement objectif.

L’étude a révélé que le travail avec le fondement subjectif était un obstacle devant l’efficacité des traités relatifs aux droits de l’homme, alors que le fondement objectif ouvrait de nouveaux horizons en terme d’application directe, comme la possibilité d’appliquer des droits économiques, sociaux et culturels

Mots-clés :L’exécution direct, traités des droits de l’homme, le fondement subjectif, le fondement objectif

For the implementation of human rights treaties by the internal judg and the individual’s adherence to the rights established therein, these treaties must be incorporated into the internal law of the state’s party to them. However, incorporation alone is not sufficient for these treaties to have their effects at the internal level, it requires that they must be implemented directly. The direct application of human rights treaties depends on the intention of parts of the treaty which is called the subjective foundation, on the preciseness of the treaty’s texts and on its satisfaction which is called the objective foundation.

The study has revealed that working with the subjective foundation constitutes an obstacle in front of the effectiveness of human rights treaties. On the other hand, the objective foundation has opened a new horizon on its direct application, like the possibility of applying economic, social and cultural rights.

Keywords:Direct application, human rights treaties, subjective foundation , objective foundation

Quelques mots à propos de :  هيبة مهني

جامعة محمد لمين دياغين-سطيف 2-hiba.mheni@yahoo.fr

مقدمة

يعد إدماج اتفاقيات حقوق الإنسان – كغيرها من الاتفاقيات الدولية - مسألة ضرورية لعدّهاجزءا من القانون الداخلي للدول الأطراف فيها. أما نفاذها داخليا وتطبيقها من القاضي في النزاعات المثارة أمامه وتمسك الأفراد بها، فمرتبط بتحديد طبيعتها بأن كانت ذات تنفيذ مباشر أو غير مباشر. بحيث تطبق في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية، فيتوقف نفاذها داخليا على اتخاذ الدولة للإجراءات التشريعية أو الإدارية الضرورية لذلك. بمفهوم المخالفة تستبعد الاتفاقيات ذات التنفيذ غير المباشر.

وتختلف كل فئة من هذه الاتفاقيات عن الأخرى من عدة زوايا، لعل أهمها الشروط أو الـأسس الواجب توفرها لتكون المعاهدة ذات تنفيذ مباشر.وتتعلق هذه المسألة بتحديد نية أطراف المعاهدة، وكذلك مدى دقة النصوص الاتفاقية وكفايتها بحد ذاتها لترتيب آثارها على المستوى الداخلي.

وتبدو الأهمية العملية للموضوع في معرفة متى يمكن للأفراد التمسك بالحقوق المقررة في الاتفاقية أمام القاضي الداخلي. حيث لا يمكن لهذا الأخير تطبيقها ما لم تكن الاتفاقية ذات تنفيذ مباشر. الأمر الذي يدفعنا لطرح إشكالية رئيسية تتمحور حول أسس النفاذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان.

وتتفرع عن هذه الإشكالية عديد من التساؤلات الفرعية تتمثل في:

-   ما المقصود بالأساس الذاتي للنفاذ المباشر؟

-   كيف شكل هذا الأساس عائقا أمام التنفيذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان؟

-   ما المقصود بالأساس الموضوعي للنفاذ المباشر؟

-   كيف فتح هذا الأساس آفاقا جديدة للتنفيذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان؟

وللإجابة على هذه الإشكالية تم اعتماد المنهج الوصفي، من خلال بيان كل أساس على حدى والمسائل التي يثيرها كل منهما، وإعطاءتصور مستقبلي للنفاذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان في ظل الأساس الموضوعي.

وتماشيا مع إشكالية الموضوع، قسمنا هذا الأخير إلى مبحثين أساسيين، عرضنا في الأول إلى الأساس الذاتي للنفاذ المباشر من خلال مطلبين، تطرقنا في الأول إلى فحص نية الدول الأطراف في الاتفاقية المتعلقة بحقوق الإنسان، وتناولنا في الثاني فحص نية الدولة الطرف في اتفاقية حقوق الإنسان. في حين خصصنا المبحث الثاني   للأساس الموضوعي من خلال مطلبين، عرضنا في الأول إلى مفهوم الأساس الموضوعي والآثار المترتبة عنه، وتطرقنا في المطلب الثاني للآفاق الجديدة للتنفيذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان في ضوء الأساس الموضوعي. وختمنا الموضوع بخاتمة تطرقنا فيها لمختلف نتائج البحث والاقتراحات الممكنة.

المبحث الأول: الأساس الذاتي للنفاذ المباشر

يقوم الأساس الذاتي على إرادة الدولة(Dupuy, 2006, p. 416)أي اتجاه نية الدول أطراف المعاهدة إلى تطبيق أحكامها مباشرة في النظام الداخلي(المسماري، 2008، صفحة 80)، وبذلك فهو قائم على إرادة الدول(N, 2006, pp. 137-138). ويمكن الكشف عن هذه النية من خلال تفسير المعاهدة أو الكيفية التي طبقت بها المعاهدة. (حجازة، 2005، الصفحات 64-78و81)ويعتمد على هذا الأساس في تحديد التطبيق المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان. إلا أن الدراسة أكدت أن العمل به في هذا الإطار يشكل عائقا أمام فعاليتها(الجدار، 2000، صفحة 41). لأن تطبيقه ليس أمرا بسيطا، متى كانت إرادة الدول غير صريحة. إذ يبقى تحديدها معلقا على التفسير الذي يعتمده القاضي لنصوص الاتفاقية. ومن جهة أخرى، نية من تؤخذ بعين الاعتبار؟ هل هي نية كل الدول الأطراف في الاتفاقية والتي يعبر عنها بصوت واحد؟ أو النيةالفردية للدولة بذاتها الطرف في المعاهدة؟ كيف تم اعتماد هذا الأساس؟ وهل تعبر الدول بصراحة عن هذه النية؟

المطلب الأول: فحص نية الدول الأطراف في الاتفاقية المتعلقة بحقوق الإنسان

ينظر عديد من القضاة الداخليين لتقرير ما إذا كان نص المعاهدة ذو تنفيذ مباشر إلى بحث نية صائغي المعاهدة. أي الدول التي تفاوضت في وضع نصها الأصلي، لأن الدول الأخرى المنضمة إليها اتبعت النية نفسها المعبر عنها من طرف سابقتها.(Lam, 2004, p. 358)وقد وضحت المحكمة الدائمة للعدل الدولي هذا الأساس وأكدته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. لكن المشكلة تكمن في غياب تعبير صريح عن هذه النية في اتفاقيات حقوق الإنسان، مما يحتم البحث عنها باستعمال وسائل أخرى، رغم اقتراحات عديد من الدول إدراج نص يوضحها. هذا ما سنحاول توضيحه من خلال بيان موقف المحاكم في فرع أول وفي الفرع الثاني نتطرق إلى مدى احتواء اتفاقيات حقوق الإنسان لنص صريح يعبر عن النفاذ المباشر لنصوصها.

الفرع الأول: موقف المحكمة الدائمة للعدل الدولي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بصدد نية الدول الأطراف في الاتفاقية

تبنت المحكمة الدائمة للعدل الدولي في قضية محاكم دانتزج الأساس الذاتي لتحديد ما إذا كانت المعاهدة قابلة للنفاذ المباشر، وقد أكدت المحكمة الأوروبية هذا الموقف، وفيما يلي توضيح ذلك.

أولا: موقف المحكمة الدائمة للعدل الدولي

أخذت المحكمة الدائمة للعدل الدولي بنية أطراف المعاهدة في رأيها الاستشاري رقم 15المتعلق باختصاص محاكم دانتزج، المؤرخ في 3مارس 1928بصدد إمكانية التطبيق المباشر لاتفاقية بين بولندا ومدينة دانتزج. فيما يتعلق بوضعية موظفي سكة الحديد لمدينة دانتزج. حيث استندت المحكمة إلى أن المعاهدة الدولية لا يمكن أن تخلق حقوقا والتزامات للأفراد. لكن يتعين النظر إلى نية الأطراف في تحديد بعض النصوص التي تمنح هذه الحقوق والالتزامات للأفراد، ومن ثمة إمكانية تطبيقها من المحاكم الداخلية. وتبدو هذه نية واضحة من خلال عبارات المعاهدة. حيث أكدت على أن المعنى العام وعبارات المعاهدة تظهرإمكانية التطبيق المباشر لنصوصها في حكم العلاقة بين الموظفين والإدارة. ونظرا لهذا المضمون، فإن غرض المعاهدة هو خلق نظام خاص يحكم العلاقات بين الإدارة البولندية وموظفي مدينة دانتزج. ويظهر هذا النظام الخاص من خلال نية الأطراف المتعاقدة الواضحة في نص المادة الرابعة منها.

واستنادا لما تقدم، نجد المحكمة قد قررت بداية أن المعاهدة كأصل لا تخلق هذه الحقوق والالتزامات للأفراد. لكنها عدلت رأيها، بإمكانية أن يخلق موضوع المعاهدة ذاته قواعد قانونية ترتب حقوقا والتزامات يمكن للمحاكم الوطنية أن تطبقها(Tribunaux de Dantzig).

ثانيا: موقف المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان

أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان موقف المحكمة الدائمة للعدل الدولي، إمكانية التطبيق المباشر للاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي بصدد حكمها في Van Gend en Loo، وحق الأفراد في التمسك بما تقرره من حقوق أمام المحاكم الوطنية للدول الأعضاء. حيث عالجت المحكمة مسألة جوهرية أثارتها محكمة دانيماركية، تتعلق بمدى إمكانية الأفراد التمسك بالحقوق المكرسة في نص المادة 12من الاتحاد الأوروبي أمام المحاكم الوطنية. حيث تدخلت إحدى دول الاتحاد، مقررة عدم اختصاص المحكمة في الفصل في المسألة لأن الأمر متعلق بتطبيق القانون الدانيماركي، وأن منح أثر لاتفاقية دولية هو مسألة داخلية يحكمها القانون الوطني للدولة. لكن المحكمة الأوروبية رفضت هذه الحجة، لأن المسألة تتعلق بتحديد نص المادة 12من اتفاقية الاتحاد الأوروبي كقانون مشترك وحق الأفراد في التمسك به. وفي تفسيره، ناقشت المحكمة مسألة التطبيق المباشر لمحتوى الحقوق الواردة فيه. وأشارت إلى أن ذلك متوقف على تحديد نية الأطراف المتعاقدة، والتي يمكن كشفها من خلال روح المعاهدة، محتواها، عباراتها، ومضمون المعاهدة ككل(Beurgenthal, 1935, pp. 325-327).

وقررت المحكمة أن الاتحادأسس لنظام جديد يعلو على سيادة الدول الأطراف فيه، ويمنح حقوقا للأفراد أضحت تشكل جزءًا من الإرث القانوني لدولهم. وأن نص المادة 12لا يحتاج إلى تشريع وطني مستقبلي لمنحه أثرا داخل النظام الداخلي للدولة. وتبعا لذلك، فهو ذو تطبيق مباشر ويخلق حقوقا يمكن للأفراد التمسك بها أمام المحاكم الوطنية لدولهم (Beurgenthal, 1935, pp. 325-327). بل وذهبت أبعد من ذلك، بتأكيدها أن نصوص اتفاقية الاتحاد الاقتصادي الأوروبي هي نفسها ذات تنفيذ مباشر في المحاكم الداخلية، وتمنح حقوقا للأفراد مباشرة دون حاجة إلى تدخل مستقبلي من طرف الدول(Beurgenthal, 1935, pp. 327,332-333).

الفرع الثاني: مدى احتواء اتفاقيات حقوق الإنسان على نص صريح حول النفاذ المباشر لنصوصهاتجدر الإشارة إلى غياب تعبير صريح عن النية الجماعية للدول الأطراف، في مجال التطبيق المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان. مما يعني صعوبة تحديدها وما هي الوسائل التي يتعين البحث بها عنها؟ وقد كانت هناك اقتراحات من طرف الدول، بإدراج بند ضمن الاتفاقية يوضح التطبيق المباشر لنصوصها لكنها رفضت. الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن أسباب ذلك؟

أولا: غياب نص صريح فياتفاقيات حقوق الإنسان حول النفاذ المباشر لنصوصها

لا تتضمن اتفاقيات حقوق الإنسان نصوصا واضحة تعبر عن نية الدول في موضوع التطبيق المباشر. عكس الدساتير الوطنية التي يتم التعبير فيها بصراحة عن هذا الموضوع، خاصة فيما يتعلق بالنصوص المتضمنة لحقوق الإنسان. والمقصود بالنية الواضحة التعبير الصريح عنها،لا ما يمكن استنباطه أو ما يوحي به النص من خلال مفرداته(Lam, 2004, pp. 359-360).

ويرى بعض الفقه أن الأثر المباشر للقواعد الدولية الاتفاقية سواء تعلقت بحقوق الإنسان أم لا هو الاستثناء لا الأصل، وهو رهن إرادة الدول الأطراف المتعاقدة(الموسى م.، 2007، صفحة 71). والغالب في اتفاقيات حقوق الإنسان خلوها من نصوص قاطعة حول المسألة، إلا في حالة الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، التي تضمنت إشارات صريحة عن التنفيذ المباشر في المادة الأولى منها. وفي المقابل لا تتضمن اتفاقيات دولية عديدة، من قبيل العهدين الدوليين لحقوق الإنسان واتفاقية حقوق الطفل، والميثاق الاجتماعي الأوروبي والميثاق العربي لحقوق الإنسان، أحكاما قاطعة إزاء الأثر المباشر لها. إذ مايوجد في هذه الاتفاقيات هو تعهد الدول باحترام الحقوق المدرجة فيها في مواجهة الدول الأخرى لصالح الخاضعين لولايتها.

1-دواعي صمت الدول الأطراف في اتفاقيات حقوق الإنسان حول مسألة النفاذ المباشر لنصوصها                                           

يعد صمت الدول حول إدراج نص في اتفاقيات حقوق الإنسان منطقيا لتعدد اتجاهاتها، خاصة متى كانت المعاهدة متعددة الأطراف بين دول ثنائية وأخرى أحادية لها حرية اختيار الوسائل التي تدمج بها المعاهدات في القانون الداخلي. وفي وقت مصادقة العديد من الدول على اتفاقيات حقوق الإنسان الأساسية، لم تقدم دول أخرى على إدماجها. ولم تكن مسألة التفاوض حول التنفيذ المباشر للاتفاقيات تعني إلا قلة من الدول، وتحل تقليديا داخل الدولة وفقا لإرادتها. وانصبت المفاوضات حول تحديد مضمون الحقوق المحمية.

وحتى إن قامت هذه الدول بإدراج نصوص في دساتيرها متعلقة بالتطبيق المباشر للنصوص الدستورية المرتبطة بحقوق الإنسان، كما فعلت ألمانيا في نص المادة 1/3من دستورها، فليس هناك ما يلزم الدول بإدراج نص مشابه في اتفاقيات حقوق الإنسان قصد ضمان التنفيذ المباشر لها أو استبعاده(Lam, 2004, p. 360)، لأنها -الاتفاقيات-تعد نتيجة لمحاولة التوفيق بين  إرادات و مواقف متعارضة حول موضوع معين، ولا يتم صياغتها بالعناية ذاتها المعتمدة في صياغة النصوص الداخلية (عجيل ط.، صفحة boudidi.blogspot.com).مما يدفعنا للبحث عن أي إشارات أخرى تحدد لنا نية الدول المتعاقدة.

2-سبل الكشف عن نية الدول حول النفاذ المباشر لنصوص اتفاقيات حقوق الإنسان

لتحديد هذه النية، يجب أولا البحث عنها في نص المعاهدة ذاته وما إذا تم ببساطة الإشارة إليها أو غيابها. ويمكن الكشف عنها من خلال تفسير المعاهدة أو الكيفية التي طبقت بها المعاهدة (حجازة، 2005، الصفحات 64-78و81). فإذا لم يحدد النص ذلك، يمكن الرجوع إلى عناصر أخرى لاسيما في ملاحق الاتفاقية أو التقارير المفسرة لها المرفقة بها أو في الأعمال التحضيرية لها. وهو أمر نادرا ما نجده، وإن وجد فسيكون غير واضح أيضا ويفتح المجال لعدة تفسيرات(Lam, 2004, p. 368).

ثانيا: اقتراحات بعض الدول بإدراج نص في اتفاقيات حقوق الإنسان حول مسألة النفاذ المباشر

اقترحت بعض الدول إدراج نص ضمن الاتفاقية يوضح التطبيق المباشر لنصوصها، كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. حيث قامت بعض المحاكم الأمريكية باعتبار نصوص جد عامة لميثاق الأمم المتحدة متعلقة بحقوق الإنسان ذات تنفيذ مباشر. ومن أجل ألا يشكل ذلك سابقة قضائية لصالح تطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان في قانونها الداخلي، قامت جمعية American Bar Associationباقتراح حول المفاوضات الأمريكية بصدد المعاهدات المستقبلية، بأن يتم إدراج نص في المعاهدة بموجبه يمكن اعتبارها ذات تنفيذ مباشر وتشكل جزءًا من القانون الداخلي، متى صدر بشأنها نص تشريعي فقط. واقترحت إدراج نص في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، بموجبه لا تتمتع كل نصوصه بتطبيق موحد في القانون الداخلي(Lam, 2004, pp. 360-361).

ووفقا لـ O. Schachter، كانت النية الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية دحض الطلبات المؤسسة على العهد في حالة ما إذا دخل حيز النفاذ(Lam, 2004, p. 361). لكن لم يتم إدراج البند لا في العهد ولا في أي اتفاقية لحقوق الإنسان تم اعتمادها لاحقا. ويفسر ذلك برفض غالبية الدول الأعضاء في اتفاقيات حقوق الإنسان إنكارها للتطبيق المباشر. وقد تخلت الولايات المتحدة عن هذه الفكرة، لكنها اعتمدت التحفظ بديلا عنها والذي يلغي كل تطبيق مباشر للمعاهدات (Lam, 2004, p. 361)

مثل هذا الموقف أبدته أيضا الممثلة الألمانية فيما يتعلق بالميثاق الاجتماعي الأوروبي، حيث اقترحت تضمين نصوص الميثاق بندا لا يسمح بمنح حقوق مباشرة للأفراد والمنظمات غير الحكومية والجماعات الخاصة لكنه رفض أيضا.

المطلب الثاني: فحصنية الدولة الطرف في اتفاقية حقوق الإنسان

يتعين على القاضي الرجوع لنية الدولة ذاتها، والمعبر عنها بصفة فردية، لتحديد ما إذا كان النص الاتفاقي ذو تنفيذ مباشر. وهي مسألة بسيطة، إذ يمكن التعرف عليها لتعلقها بنظامها القانوني الداخلي. فإذا عبرت عن هذه النية، فلا يخرج الأمر عن نوعين من التصريحات الفردية:

-   يتعلق الأول بوضعيات تتخذها الدولة على المستوى الداخلي دون أن توضح موقفها للدول الأخرى.

-   ويرتبط الثاني بتصريحات ترفقها الدولة بتصديقها على المعاهدة المعبرة عن نيتها بعدم التطبيق المباشر لها(Lam, 2004, p. 418).

الفرع الأول: تعبير الدولة الداخلي عن نيتها في استبعاد التطبيق المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان

يمكن أن تتخذ الدولة عدة وضعيات للتعبير عن إرادتها على المستوى الداخلي حول التطبيق المباشر لاتفاقية منعدمه. وتختص بذلك السلطة التأسيسية في الدول التي تعتمد أسس مدرسة الوحدة، والسلطة التشريعية في الدول المنتهجة لأسس مدرسة الثنائية. فإدماج المعاهدة من طرف الدول يدفع منطقيا إلى التفكير في أنها أرادت منحها كامل الأثر في القانون الداخلي، ويكون فرضية حول التطبيق المباشر لها، وفيما يلي بيان ذلك:

أولا: اتجاه نية الدول المعتمدة لأسس مدرسة الوحدة

إذا كان النص الدستوري في الدولة الأحادية واضحا حول مسألة التطبيق المباشر فإن الفرضية السابقة تتأكد، مما يبرز رغبة الدولة في منح الاتفاقيات المدمجة أثرا مباشرا في منظومتها القانونية. فقد عبرت الجزائر في نص المادة 150من التعديل الدستوري لسنة 2016، عن منحها المعاهدات الدولية المصادق عليها وفقا للشروط الدستورية مكانة أسمى من القانون. وهو ما لا يدع مجالا للشك في التعبير عن نية الوفاء بالالتزامات التي تقررها هذه الاتفاقيات وتطبيقها، وإلا لما منحتها هذه المرتبة في سلم تدرج القواعد القانونية. وقد أكد القضاء الجزائري ذلك في الأمر رقم 06-2000الصادر عن القسم الاستعجالي لمحكمة غرداية، بإخضاع الإكراه البدني في العقود المدنية والتجارية لنص المادة 407من قانون الإجراءات المدنية، وإسناده لنص المادة 11من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه الجزائر، والتي تنص على أنه لا يجوز سجن أي إنسان بمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي. وقد وضح هذا الأمر تطبيق المعاهدة الدولية استنادا لمبدأ السمو بدل القانون الداخلي (حساني، 2017، صفحة 157).

والموقف ذاته اتخذته المحكمة العليا، حيث استبعدت توقيع الإكراه البدني المنصوص عليه في المادة 597وما بعدها من قانون الإجراءات الجزائية لمخالفته لأحكام المادة 11من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية(العليا، 2002)

لكن لا توضح بعض الدول هذه المسألة بدقة، مما يدفع إلى الشك بأن الدولة لم ترد منحها هذا الأثر المباشر. فمثلا تعدّالولايات المتحدة في نص المادة السادسة من الدستور المعاهدات قانونا أعلى للبلاد تطبيقا لمبادئ مدرسة الوحدة. وتمنح أثرا للمعاهدات الدولية في القانون الداخلي. تظهر هذه الوحدة فقط في علاقة القانون الدولي بالقانون الداخلي(Beurgenthal, 1935, p. 342). لأن المحكمة العليا منحتها مرتبة مساوية للقوانين الفدرالية الصادرة عن السلطة التشريعية، وبذلك تكون قابلة للتنفيذ بذاتها متى كانت لا تحتاج إلى إجراء تشريعي(Beurgenthal, 1935, pp. 341-344). وهنا فقط تتأكد فرضية التطبيق المباشر لها.

ثانيا: اتجاه نية الدول المعتمدة لأسس مدرسة الثنائية

يمكن أن تتكون فرضية حول التطبيق المباشر في الدول الثنائية عند اعتمادها لقانون الإدماج. الفرق الوحيد هنا أن تحقيق هذه الغاية يتم حالة بحالة في قانون الإدماج، بينما يتم دفعة واحدة في الدول الأحادية. لكن يمكن استبعاد هذه الفرضية من خلال تصرف السلطة التنفيذية لأسباب عديدة سواء في الدول الأحادية أو الثنائية، إذ يمكن أن تتعرض السلطة التنفيذية لمسألة التطبيق المباشر للاتفاقية وقت التصديق عليها. حيث قدم المجلس الفدرالي السويسري إلى البرلمان رسالة حول طلب التصديق على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وذكر أن تحديد التطبيق المباشر لهذه الاتفاقية والتمسك بها من طرف الأفراد، دون ضرورة اعتماد إجراءات أخرى يعود للقاضي.

لكن ممارسة المحاكم السويسرية أكدت عدم ارتباطها بمثل هذه المواقف. وعبرت عن ذلك من خلال نفي العلاقة بين سلوك السلطات السياسية والإدارية، وممارسة المحاكم الداخلية في مجال الاتفاقيات الدولية حتى وإن كان له دور في تكوين رأي القاضي(Lam, 2004, p. 421).

يتضح مما تقدم، أنه في مسألة التطبيق المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان تصبح السلطة التنفيذية طرفا وقاضيا في الوقت نفسه. ومن المؤسف إمكانية رجوع القاضي لهذه التصريحات، دون أخذه في الاعتبار لاستبعادها التطبيق المباشر، مما يحد من فعالية اتفاقيات حقوق الإنسان(Lam, 2004, p. 423).      

الفرع الثاني: تعبير الدولة عن نيتها على المستوى الدولي لاستبعاد التطبيق المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان

تصدر الدولة على المستوى الدولي أحيانا تصريحات عدم النفاذ المباشر لاتفاقية حقوق الإنسان، لكن ما الطبيعة القانونية لهذه التصريحات وما مدى حجيتها على المحاكم الداخلية؟

لا تقدم الدول على مثل هذا السلوك وقت التصديق على المعاهدة، إلا إذا أرادت عدم تطبيقها(Lam, 2004).

فقد أرفقت الجزائر تصديقها على اتفاقية حقوق الطفل بجملة من الإعلانات التفسيرية تمثلت في:

-  تعلق الإعلان الأول بالفقرتين الأولى والثانية من المادة 14، حيث قيدت الجزائر حق الطفل في حرية الفكر والوجدان والدين بما تضمنته المادة الثانية من التعديل الدستوري 2016والقاضية بأن الإسلام دين الدولة، فضلا عن أن تربية الطفل تتم وفقا لدين أبيه، عملا بنص المادة 62من قانون الأسرة (رابح، 2016-2017، الصفحات 73-77).

-  أما الإعلان الثاني، فقد مس المواد 13-16-17من الاتفاقية والتي تنص على حرية التعبير وحماية الطفل من كل مساس بشرفه، وتمكينه من الحصول على كافة المعلومات من مختلف المصادر الوطنية والدولية.

حيث أكدت الجزائر في الإعلان التفسيري المتعلق بالمادة 16، أن هذه الحماية يضمنها قانون العقوبات الجزائري، من خلال عمله على حماية القصر، وكل ما يتعلق بتحريض الأحداث على الفسق والدعارة، وهو ما تسعى إليه اتفاقية حقوق الطفل (رابح، 2016-2017).

         أما فيما يتعلق بأحكام المادتين 13و17، فقد أكد الإعلان الجزائري على أن حق الطفل في حرية التعبير والإعلام لا يعد مطلقا، بل مقيدا بالقوانين المتعلقة باحترام الغير والمحافظة على الأمن الوطني والنظام العام. وهو ما كرسته الجزائر في قانون الإعلام قبل انضمامها إلى اتفاقية حقوق الطفل (رابح، 2016-2017)

وتجدر الإشارة أن الغاية من هذه الإعلانات، عدم تطبيق أحكام نصوص الاتفاقية التي شملتها بحذافيرها على المستوى الداخلي للدولة الجزائرية، بتعبير صريح وواضح لا يدع مجالا للشك، من خلال تحديد وإيضاح لبعض أحكام الاتفاقية لمخالفتها للمبادئ الأساسية للنظام القانوني الجزائري. ويغلب على هذه الإعلانات التفسيرية تأكيدها أن الالتزامات التي تقبلها الدول بمقتضى الاتفاقيات المعنية، يجب أن تكون مطابقة في مضمونها وأثرها القانوني للأحكام المرادفة لها في قوانينها الوطنية(الموسى م.، 2007، صفحة 53).

لكن لا نجد مثل هذا الموقف لدى الولايات المتحدة، حيث صرحت وقت تصديقها على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بأن المواد من 1إلى 27ذات تنفيذ غير مباشر(Vasquez, 1985, pp. 706-707). والخلفية لهذا التصرف سياسية، إذ عدتأن مثل هذه المسائل تتطلب تعديلا تشريعيا. ونظرا للتساوي في المرتبة بين القوانين الفدرالية والمعاهدة، فإن هذه الأخيرة يمكنها تعديل أو إلغاء تلك القوانين الموضوعة من ممثلي الشعب. ولا يمكن أن تعدل إلا بالطريقة نفسها التي وضعت بها. ويتطلب تطبيق تلك المواد من العهد العودة إلى المشرع، لإصدار قانون يلزم القاضي الأمريكي (Dhommeaux, 1995, p. 411).كما أصدرت تصريحات أخرى متعلقة باتفاقية منع كل أشكال التمييز العنصري، إلا أنها تعلقت بالاتفاقية ككل(Lam, 2004, p. 426).

أما في ألمانيا فقد كانت اتفاقية حقوق الطفل محل تصريح من السلطة التنفيذية باستبعاد أي تطبيق مباشر لنصوصها. وأرفق هذا التصريح بتصريح انسجام القانون الألماني مع هذه الاتفاقية، مما يكشف عن سوء نية ألمانيا. فإذا كان القانون الألماني منسجما مع الاتفاقية من يوم التصديق عليها، فما الداعي لاستبعاد التطبيق المباشر لها(Lam, 2004, pp. 426-427).

 

أولا: الطبيعة القانونية لتصريحات عدم النفاذ المباشر

لا تشكل هذه التصريحات تحفظات طبقا لاتفاقية فينا لقانون المعاهدات لسنة 1969لأنها لا تتوفر على شروطها. إذ لا تعدل هذه التصريحات أولا تلغي الأثر القانوني لبعض نصوص المعاهدة في تطبيقها من طرف الدولة. واستنادا إلى نص المادة السادسة من الدستور الأمريكي لسنة 1787، وتطبيقا لبند السمو الوارد فيها تكون الاتفاقيات ذات تطبيق مباشر. إلا أن وجود مثل هذه التصريحات يلغي رسميا كل تطبيق مباشر لها. وإن كان بعض الفقه في ألمانيا وأمريكا يعدهاتحفظات لكنها ليست كذلك، لأنها متعارضة مع هدف المعاهدة بل مستبعدتطبيقها كليا في بعض الحالات، وفي حالات أخرى تستبعد النصوص المتعلقة بجوهر المعاهدة.

من جهة أخرى، لا يمكن عدّهاتحفظات لأنها لا تعدل أو تلغي الأثر القانوني للنصوص الدولية. ولا تطرح التصريحات أية مشاكل إلا على المستوى الداخلي فيما يتعلق بعدم النفاذ المباشر للنصوص المدرجة عليها. وفي كل مرة يعبر فيها مجلس النواب عن عدم التطبيق المباشر لنصوص جوهرية في المعاهدة وقت التصديق عليها،يجعلها في شكل تصريحات لا تحفظات مما يعني وعيه بالفرق بينهما.

ثانيا: حجية تصريحات عدم النفاذ المباشر على المحاكم الداخلية

عدّجانب من الفقه، أن تصريحات عدم النفاذ المباشر ملزمة للقاضي حتى ولو لم تكيف على أنها تحفظات. لكن طالما يغيب عنها هذا الوصف فليس لها أي قوة قانونية في القانون الداخلي.

فإذا صدرت هذه التصرفات وتعلقت بتفسير المعاهدة، فتكيف على أنها رأي قدمته السلطة التنفيذية أو السلطات الإدارية الوطنية ولا تلزم القاضي. فإذا قرر هذا الأخير الأخذ بها، فإنه يعرض نفسه للرقابة الدولية لغياب الاستقلالية. فالتصريح الألماني بعدم النفاذ المباشر لاتفاقية حقوق الطفل الصادر عن السلطة التنفيذية، يتعارض مع قانون الإدماج الصادر في 17فيفري 1992عن المشرع الألماني. وبهذا تبرز إرادتان: إرادة المشرع في التطبيق المباشر للاتفاقية وإرادة السلطة التنفيذية في استبعاده، ويتعين هنا منح أولوية لرأي المشرع. الأمر الذي دفع البعض إلى عدّالحكومة الألمانية معترضة على القانون الأساسي الألماني في مادته 59/2، التي تمنح الاختصاص للمشرع في اعتماد قوانين الإدماج(Lam, 2004, pp. 434-435).

أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فلم تمنح للمحكمة العليا الفرصة في تحديد القيمة القانونية لتصريحات عدم النفاذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان(Lam, 2004, p. 436).

مما تقدم، توضح دراسة الأساس الذاتي حول نية الدول الأطراف في اتفاقيات حقوق الإنسان ضرورة إلغائه وعدم اعتماده في تحديد التطبيق المباشر لها من عدمه. فإذا كان يستند ببساطة على النية، وهي أمر سهل لكن آثارها السلبية والخطيرة كثيرة مقارنة بهذه الميزة الإيجابية (البساطة). لأنه يحد في حالات كثيرة من فعالية اتفاقيات حقوق الإنسان وعدم تحقيقها للغاية التي أبرمت من أجلها. إذ تظهر التجربة أنه أضحى يشكل وسيلة سياسية للاعتراض على النصوص الاتفاقية لحقوق الإنسان. لذلك يتعين استبعاده والبحث عن أساس آخر موضوعي يضمن فعالية أكثر لاتفاقيات حقوق الإنسان.

المبحث الثاني: الأساس الموضوعي للنفاذ المباشر

يتطلب تفعيل اتفاقيات حقوق الإنسان، البحث عن أساس آخر يسمح أكثر للقاضي الداخلي بتطبيق المعاهدة تطبيقا مباشرا وهو الأساس الموضوعي. ويتعين هنا فحص ما إذا كان النص المثار في النزاع كافيا دقيقا كاملا قادرا على تسوية النزاع حتى يكون ذا تنفيذ مباشر. بحيث يعمل بهذا الأساس على حد السواء في حالة النصوص الداخلية والمعاهدات الدولية المدمجة في القانون الداخلي بالنظر إلى مضمون النص ذاته(الجدار، 2000، صفحة 41).

ولا يعني هذا تطبيق المعاهدة في كل الظروف من خلال هذا الأساس. إذ قد تكون بعض نصوصها في حالات خاصة ذات تنفيذ غير مباشر. لكن مقارنة بالأساس الذاتي، يسعى الأساس الموضوعي إلى التقليل من حالات عدم تطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان. حيث دشن آفاقا جديدة على صعيد التطبيق المباشر لها لم تكن متصورة في ظل العمل بالأساس الذاتي، كإمكانية تطبيق الحقوق الاقتصادية،والاجتماعية والثقافية، وإمكانية العمل باتفاقيات حقوق الإنسان في العلاقات القانونية الخاصة،وليس في العلاقات القانونية العامة فقط (الموسى م.، 2010).

لذلك يتعين بداية شرح معنى هذا الأساس وما هي الآثار المترتبة عنه في مطلب أول، ثم نتطرق لكيفية فتحه لآفاق جديدة للتطبيق المباشر لحقوقالإنسان خاصة الاقتصادية،والاجتماعية،والثقافية في مطلب ثاني.

المطلب الأول: مفهوم الأساس الموضوعي والآثار المترتبة عنه

عملا بالأساس الموضوعي يتعين فحص المعاهدة نصا بنص لمعرفة ما إذا كان كل نص على حدةقابلا للتطبيق المباشر. إذ يجب أن تتمتع القواعد الاتفاقية بالدقة والتحديد بما يسمح بتطبيقها المباشر، (Dupuy, 2006, p. 416)،كأي قانون نافذ على إقليم الدولة المعنية دون حاجة هذه الأخيرة لاتخاذ أي إجراء إضافي لإتمام نفاذها الداخلي. ويترتب على تطبيق الأساس الموضوعي عديد من النتائج المهمة لصالح اتفاقيات حقوق الإنسان. وسنوضح بداية معنى الأساس الموضوعي وعناصره في فرع أول، ثم نتطرق في الفرع الثاني إلى الآثار المترتبة عنه.

الفرع الأول: مفهوم الأساس الموضوعي

تطبيقا للأساس الموضوعي، يقوم القاضي بعملية فحص دقيقة للنصوص الاتفاقية كل على حدة، للتأكد من مدى قابليتها للتطبيق المباشر من عدمه.  مستعينا في ذلك بمجموعة من العناصر الضرورية التي تساعده في إعمال هذا الأساس. وفيما يلي توضيح لمعناه ولعناصره.  

أولا: معنى الأساس الموضوعي

نعني بالأساس الموضوعي استعمال القاضي لسلطته في فحص ما إذا كان النص الاتفاقي لحقوق الإنسان كافيا بحد ذاته من الناحية الموضوعية (Sudre, 2006, p. 195)،دقيقا وكاملا حتى يطبق مباشرة(الجدار، 2000، صفحة 42)دون أن تكون هناك حاجة لاعتماد إجراءات تنفيذ أخرى،وقادرا على ترتيب كل آثاره القانونية، مثل أي قاعدة من قواعد القانون الداخلي. وهو يتعلق بمحتوى القاعدة القانونية الدولية، بحيث يجب أن تكون واضحة بذاتها في ترتيب الالتزامات والحقوق على عاتق الأفراد وأجهزة الدولة المختلفة، حتى يمكن للقاضي تطبيقها في النزاعات المثارة أمامه.

ومن أمثلة النصوص الاتفاقية المتعلقة بحقوق الإنسان القابلة للتطبيق المباشر استنادا إلى الأساس الموضوعي، بعض نصوص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، كنص المادة السابعة منه المتعلقة بتجريم التعذيب، والمادة الثامنة المتعلقة بتحريم الرق والعبودية، والمادة التاسعة المتعلقة بالحق في الحرية والأمان. إذ ترتب هذه النصوص وغيرها التزامات فورية لا برامجية.

وكذلك الأمر بالنسبة للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تسعى لحماية الحقوق المدنية والسياسية في الأساس، مما دفع بالقضاء إلى الاعتراف بالأثر المباشر لنصوصها(الموسى م.، 2007، صفحة 82)

أما فيما يتعلق بالنصوص البرامجية أو التوجيهية التي تحتويها اتفاقيات حقوق الإنسان فلا تعد ذات تنفيذ مباشر، لأن نفاذها معلق على اتخاذ إجراءات تشريعية أو إداريةمن طرف الدول، وبذلك تفتقد نصوصها للدقة والتحديد. ويتعلق الأمر بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكن ليس في كل نصوصه فمنها ما يقبل التطبيق المباشر كالحق في الإضراب والحريات النقابية.

ثانيا: عناصر الأساس الموضوعي

تطبيقا للأساس الموضوعي يأخذ القاضي بعين الاعتبار عوامل عديدة، بدءًا بمضمون النص والهيكلة القانونية الوطنية، من أجل مقارنة مختلف العناصر مع الظروف المحيطة بالقضية المعروضة أمامه (الموسى م.، 2010)،وفي ما يلي تفصيل ذلك:

1- مضمون النص

يشكل مضمون النص الاتفاقي عاملا محددا لمعرفة ما إذا كان دقيقا وكافيا لتطبيقه المباشر، بحيث يحدد القاضي دقة النص من عدمه. فإذا وجده قادرا على ترتيب آثاره عدّهذا تنفيذ مباشر، وإن لم تكن له تلك الصفة حكم بعدم نفاذه(N, 2006, p. 137).لكن لا يمكن القول إنالنص الواسع غير قابل لأن يكون ذات تنفيذ مباشر.

من جهة أخرى، يمكن أن يضع النص الاتفاقي شرطا يعلق نفاذه عليه بعبارات تدل على ذلك. وفي مثل هذه الحالة، لا يمكن أن يطبق من طرف القاضي. وهو ما أضافته محكمة عدل الجماعات الأوروبية بألا تكون القاعدة الجماعية مشروطة، أي ألا يتوقف نفاذها في النظام القانوني الداخلي على عمل قانوني آخر سواء كان مصدره القانون الجماعي،أو القانون الداخلي (حجازة، 2005، صفحة 76)

ولا يجب فهم عدم شرطية النص، أنه لا يمكن تطبيق إلا النصوص القاطعة التي لا تضع أي شرط كان، وهو ما أغلفت المحكمة الإشارة إليه. إنما قضت ألا يكون النص متوقفا على أي تدخل من جانب أي جهاز تابع للجماعات الأوروبية، أو تابعا لأي من دولها الأعضاء أو لكليهما. وأكدت على أن النص المشروط، هو الذي يترك للدول سلطة تنظيم الحق الممنوح للأفراد أو خصائصه الجوهرية، أو شروط ممارسته الأساسية. وليس من شأن الاحتفاظ باختصاص الدول فيما يتعلق بتطبيق قانون من زاوية إجرائية فقط أن يعطل الأثر المباشر للنص (حجازة، 2005، الصفحات 80-81)

كما أن بعض النصوص الاتفاقية تتوقف عند استنكار سلوك فرد انتهك حقوق الإنسان، دون النص على العقوبة الجزائية الملائمة. مما يدل على أن اختصاص الجزاء العقابي للفرد متوقف على سيادة الدولة. كالمادة الخامسة من اتفاقية منع الإبادة التي تنص على تعهد الدول الأطراف توافقا مع نصوصها الدستورية، باتخاذ الإجراءات التشريعية الضرورية، لضمان تطبيق نصوص هذه الاتفاقية. ولا يمكن تكييف النصوص السابقة على أنها ذات تنفيذ مباشر، لأنها تفرض على الدول اعتماد الجزاءات العقابية(Lam, 2004, p. 441).

2- الهيكلة القانونية الوطنية

تتوقف قابلية النص الاتفاقي للتطبيق المباشر على البناء القانوني الداخلي للدولة. إذ لم ينشأ هذا النص من العدم، وتطبيقه متوقف على نصوص أخرى، دون ضرورة انتظار تكملتها بإجراءات تنفيذية بحيث تتداخل النصوص القانونية. فإذا اعتمد أحدها على آخر معناه تطبيق الأول ضمن إطار قانوني يضع في حسابه تلك النصوص السابقة عليه. ويتعلق نفاذ النصوص الدولية الاتفاقية على البناء المادي والشكلي للقانون الداخلي.

فإذا احتوى النص الاتفاقي على تجريم فعل ينتهك حقوق الإنسان، فيجب أن يكون له صدى في القانون الجنائي الداخلي ضمن الجزاءات العقابية المنصوص عليها صراحة في القانون. ومن المنطقي إذن، ألا تتضمن اتفاقيات حقوق الإنسان كل النصوص المادية الضرورية من أجل تطبيقها. وأن ترتكز فعاليتها في جزء كبير منها على البناء القانوني الداخلي لكل دولة طرف(Lam, 2004, p. 442).

كما يتوقف التطبيق المباشر أيضا للنص الاتفاقي، على القانون الداخلي الشكلي الذي ينظم إجراءات المحاكم الداخلية واختصاصاتها. فمن أجل تطبيق نص مادي لحق إنسان، من الضروري وجود قضاء مختص بتطبيق هذا الحق من أجل منحه كل الأثر. فإذا احتج أحد ما بنص اتفاقي معارض لقواعد مسبقة في القانون الداخلي، فلا يمكن أن يكون هذا النص ذو تنفيذ مباشر.

لكن لا يعني عدم التمتع بهذا الحق مطلقا، وإنما يجب فهم أنه لا يوجد قضاء داخلي يمكنه احترام هذا الحق المعترف به في الاتفاقية. إذ يتعين من أجل نفاذه المباشر، انتظار خلق المشرع الوطني لجهاز مختص، أي اتخاذ إجراءات للتنفيذ.

ومن جهة أخرى يتعين النظر إلى المكانة المعيارية للنص الاتفاقي في القانون الداخلي والقيمة القانونية التي يمنحها المشرع الوطني له (المسماري، 2008، صفحة 81).فإذا كان يحتل مرتبة أسمى من التشريع الداخلي، أمكن تفادي خطر استبعاده. أما إن احتل مرتبة دنيا،فلا يمكن أن يكون ذا تنفيذ مباشر. ويتعين هنا إما إلغاء النص الداخلي المتعارض أو تعديله.

3-الظروف المحيطة بالقضية المعروضة على القاضي

يتوقف التطبيق المباشر لنص دولي على عناصر متغيرة كملابسات الموضوع، إذ لا يمكن للقاضي استبعادها أو تجريد المسألة منها. كحالة أطراف الدعوى، والنتيجة التي يرجوها كل طرف، وسعة اختصاص القاضي الداخلي مقارنة بطلباتهم. ويمكن لمثل هذه العناصر الحد من التطبيق المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان. إذ يحتمل أن يقبل نص ما التطبيق المباشر في حالات، وفي حالات أخرى لا يمكنه ترتيب هذا الأثر، لاختلاف الظروف المحيطة بكل مسألة على حدة. فإذا حكم القاضي بالنفاذ المباشر لنص اتفاقي، يتعين عليه بحث كل العناصر السابق تعدادها (النص ذاته، الهيكلة القانونية الوطنية، الظروف المتعلقة بكل مسألة)، لأنها مؤشرات مهمة من أجل بناء تصوره حول النص.

الفرع الثاني: الآثار المترتبة على اعتماد الأساس الموضوعي

يرتب اعتماد الأساس الموضوعي آثارا مهمة، يمكن أن تحبط من عزيمة القاضي في الأخذبه نظرا لتعقيدها مقارنة ببساطة الأساس الذاتي. ومن هذه الآثار نذكر:

1- دقة الأساس الموضوعي

تستبعد بعض الأحكام الاتفاقيات دون أن يتم فحص النص المتمسك به من طرف الفرد. لكن عملا بالأساس الموضوعي لا محل لمثل هذا الفرض، لأن ضرورة أن يكون النص دقيقا كافيا بحد ذاته، يمنع من تعميم هذه الصفة على المعاهدة كلها. الأمر الذي يدفع بالقاضي إلى فحص المعاهدة نصا بنص، ليس فقط محتوى النص المتمسك به، وإنما أيضا محتوى القانون الداخلي، وظروف النزاع، من أجل التوصل إلى التطبيق المباشر للنص المثار من عدمه(Lam, 2004, pp. 443-444).

فإذا كان الأساس الموضوعي، يضع حدا للصورة العامة للمعاهدة في مجملها، واعتبارها ذات تنفيذ مباشر، إلا أنه يفرض في المقابل احتمال ألا تكون المعاهدة كلها ذات تنفيذ مباشر. فإذا قلنا أن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ذات تنفيذ مباشر، فهذا استنادا إلى الأساس الذاتي. أما إذا طبقنا الأساس الموضوعي، فيعني النظر إلى كل نص على حدةوإلى ظروف النزاع، وكلها مؤشرات يمكن أن تدفع بالقاضي إلى عدم تطبيقها(Lam, 2004, p. 444). من هنا، لا يمكن القول إنها ليست ذات تنفيذ مباشر، وكذلك لا يمكن عدّهادائما ذات تنفيذ مباشر. إلا أن اعتماد الأساس الموضوعي يمنح الاتفاقية الأوروبية أساسا خاصا ملائما للتطبيق المباشر، ومن النادر الحكم بعكس ذلك.

2- إمكانية قيام مسؤولية القاضي الداخلي

يمكن أن يؤدي اعتماد الأساس الموضوعي، وتحديد مدى قابلية النص الاتفاقي للتطبيق المباشر إلى قيام مسؤولية كل قاضي داخلي، متى كان الحكم الصادر من قبله فريدا. ويمكن التخفيف من حدة هذه المسؤولية استنادا إلى العوامل المشار إليها مسبقا (النص ذاته، الهيكلة القانونية الداخلية، ظروف النزاع) في تقرير حكمه. أي أن هذا الأخير لم يأت وليد الصدفة، وإنما كان نتاج عديد من الفواعل لا يمكنه استبعادها. كما له صلاحية الرجوع لأحكام سابقة من تشابه الظروف، لاسيما قضاء دولته وقضاء المحاكم العليا، بل وحتى قضاء الدول الأخرى متى تقاربت الأوضاع(Lam, 2004, pp. 445-446).

وفي حالة اتفاقيات حقوق الإنسان، يتعين على القاضي اعتماد القواعد نفسها المتبعةعند تطبيقه للحقوق المكرسة في الدستور، حيث لا يعترض على التطبيق المباشر لها، لأنه يطبقها عفويا حتى ولو لاحظ افتقارها لأحد العناصر الضرورية(Lam, 2004, p. 446).

وتجدر الإشارة في الأخير، إلى حاجة تطبيق الأساس الموضوعي بحسن نية وبموضوعية. لأنه يمكن أن يتجه القضاة الداخليين آليا دون فحص لكل حالة على حدةإلى عدّالنص الاتفاقي غير كاف وغير دقيق ليكون ذا تنفيذ مباشر.

المطلب الثاني: آفاق جديدة للتطبيق المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان في ضوء الأساس الموضوعي

جرت أحكام القضاء على استبعاد التطبيق المباشر لبعض النصوص الاتفاقية بحجة عدم توفرها على شروطه. في حين أن العمل وفقا للأساس الموضوعي يؤدي إلى منحها هذا الأثر. ويطرح التساؤل عنمدى إمكانية استفادة اتفاقيات الحقوق الاقتصادية،والاجتماعية،والثقافية من التطبيق المباشر؟وما الداعي إلى الرفض الدائم لهذا التطبيق كلما تعلق الأمر بهذا النوع من المواثيق؟

لقد فتح الأساس الموضوعي آفاقا جديدة حول إمكانية تطبيق الحقوق الاقتصادية،والاجتماعية،والثقافية على المستوى الداخلي (الموسى م.، 2010).وتجدر الإشارة إلى أن عديد الأحكام القضائية، منحت أثرا مباشرا لحقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية، مع أنها تتعلق بنصوص دستورية وليس اتفاقية. لأن الحجج المرتبطة بالموارد المتاحة،والصفة البرامجية ليست محددة لتقرير التطبيق المباشر لنص، وفقا لما أكدته ممارسة بعض المحاكم الداخلية التي لم تجد أي صعوبة تذكر في التطبيق المباشر للحقوق الاقتصادية والاجتماعية،والثقافية(Lam, 2004, p. 484). وسنوضح الحجج الرافضة للتطبيقالمباشر لهذه الحقوق بداية في فرع أول، ثم نعرض لأمثلة تطبيقية مؤكدة للتطبيق المباشر لها على ضوء الأساس الموضوعي.

الفرع الأول: إنكار التطبيق المباشر للحقوق الاقتصادية والاجتماعية،والثقافية

جرى التقليد على رفض التطبيق المباشر للحقوق الاقتصادية،والاجتماعية،والثقافية من طرف القضاة الداخليين مستندين في ذلك على طبيعة هذه الحقوق بحد ذاتها وليس على أصلها الدولي ولا نية الدول الأطراف لعدة أسباب منها:

أولا: عدم انتماء الحقوق الاقتصادية،والاجتماعية والثقافية إلى فئة الحقوق

يدخل هذا النوع من الحقوق في مجال المبادئ المرغوب فيها، وهي جزء من حقوق الإنسان الغامضة، بل لا تنتمي أصلا إلى حقل الحقوق لأنها مجرد مبادئ وقيم.

ثانيا: الصفة البرامجية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

اتجه الفقه إلى عدّالحقوق الاقتصادية،والاجتماعية والثقافية ذات صفة برامجية مقارنة بالحقوق المدنية والسياسية، فحتى وإن تعلقت بحقوق للأفراد والتزامات على عاتق الدول، فلا يمكن تطبيقها، لأنها مجرد أهداف يراد الوصول إليها في عدة مجالات، فهي تتميز بالصفة التدرجية لا الفورية.

ثالثا: تفرض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التزامات ايجابية على عاتق الدول الأطراف

رفض بعض الفقه صفة التطبيق المباشر للاتفاقيات المتضمنة حقوقا اقتصادية،واجتماعية،وثقافية، استنادا للتفرقة بين الالتزامات الايجابية والسلبية للدول. فعلى عكس الالتزامات السلبية التي تطبق مباشرة، فإن التزام الدول الإيجابيةفي القيام بتصرف ما، لا يمكن أن يكون محل تنفيذ مباشر إلا بتدخل المشرع. وتدخل حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية،والثقافية ضمن الالتزامات الإيجابية، لذا فهي ليست محل تطبيق مباشر أمام القاضي الداخلي.

رابعا: تطبيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مقيد بموارد الدول الأطراف

وهو ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة الثانية من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية،والاجتماعية،والثقافية، من خلال التزام الدول الأطراف في العهد بتطبيق الحقوق المعترف بها في العهد الحالي وفقا لمواردها المتاحة وبوسائلها الخاصة.

الفرع الثاني: دعوة للتطبيق المباشر لاتفاقيات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

دافع فقه آخر عن فكرة التطبيق المباشر للحقوق الاقتصادية،والاجتماعية،والثقافية المعترف بها في الاتفاقيات. آخذا بعين الاعتبار تعدد أوجه هذه الحقوق لأن طبيعتها ليست واحدة، الأمر الذي يفرض على القاضي الداخلي ضرورة دراستها حالة بحالة. حيث صنفت هذه الحقوق من ناحية آثارها القانونية، بين تلك التي تؤسس لحق ذاتي بالإعانة الاجتماعية لفائدة الأفراد، وتلك التي تفرض على المشرع الوطني أو الدولة اتخاذ بعض الإجراءات لتنفيذ الحقوق، وتلك التي تفرض على القاضي رفض تطبيق نص يتعارض مع آخر مرتبط بحق اجتماعي معين. وقد عدّتلجنة الحقوق الاقتصادية،والاجتماعية،والثقافية في توصيتها رقم 12المتعلقة بحق التغذية الكافية، أنه حق مثله مثل باقي حقوق الإنسان، يفرض على الدول الأطراف ثلاث مستويات من الالتزامات: التزام احترام،وحماية هذا الحق،ومنحه أثرا(Lam, 2004, p. 485).

كما يمكن للقاضي اعتماد عديد من الوسائل للسماح بتطبيق مثل هذه الحقوق مباشرة كاللجوء إلى التفسير الديناميكي للحقوق، والنظر في مضمونها وارتباطها ببعضها البعض، فضلا عن إعادة تحديد التزامات الدولة من خلال اتخاذ إجراءات إيجابية متعلقة بجوهر الحق أو الإجراءات من أجل ضمان ممارسة فعالة للحق المضمون من طرف الاتفاقية (Sudre, 2003, pp. 759-764). وعملا بهذه الوسائل، يمكن أن تفهم بعض الحقوق الاجتماعية في ظل حقوق أخرى ذات تنفيذ مباشر. فقد أقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن حماية الصحة يندرج ضمن حقل الحياة الخاصة والعائلية، ولا يمكن للقاضي إلا تقبل حق المعاق في المساعدة الاجتماعية والمشاركة في المجتمع وفقا لنص المادة 15من الميثاق الاجتماعي الأوروبي، المتضمن لحق الحياة الخاصة المحمي بدوره بموجب المادة الثامنة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

وليست هذه الوسائل وحدها الممكنة، لكنها تمنح فكرة عن أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يمكن أن تكون لها آثار مختلفة في القانون الداخلي كغيرها من حقوق الإنسان مما يجعل إمكانية تطبيقها المباشر قائمة، ومن أمثلتها:

أولا: إمكانية التطبيق المباشر للحرية النقابية

تعد الحرية النقابية امتدادا لحرية التجمع، وكانت محل تطبيق مباشر في قضاء ثابت لعديد من الدول. ففي بلجيكا، طبق نص المادة الثامنة من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونص المادة الخامسة من الميثاق الاجتماعي الأوروبي، المتعلقان بالحرية النقابية، تطبيقا مباشرابطريقة ضمنية من طرف محكمة تحكيم في قرارها رقم 62/93الصادر بتاريخ 15جويلية 1993. واستثنت المحكمة الفدرالية السويسرية الحرية النقابية بالتطبيق المباشر، من بين نصوص العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ليستفيد أيضا هذا الحق في اسبانيا بحماية دستورية، حيث شكل جزءًا من الحقوق الأساسية والحريات العامة. وهو ذو تنفيذ مباشر من القاضي الإسباني(Lam, 2004, p. 487). ولقد امتازت الحرية النقابية بالتطبيق المباشر، لارتباطها بحق اجتماعي وعلاقته بالعمل، ولكونها أيضا حقا مدنيا وسياسيا فهي أحد مظاهر حرية التجمع.

ثانيا: إمكانية التطبيق المباشر للحق في السكن

لا يتصور أن يكون لحق السكن أثر مباشر. فهو ليس من الحقوق الذاتية وتحقيقه متوقف على موارد الدولة. ومع ذلك، فقد طبق مباشرة من طرف القضاة بتقنيات مختلفة. ففي فرنسا، قبل قضاة الموضوع فكرة التطبيق المباشر لحق السكن المنصوص عليه في المادة 11من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. بصدد قضية تعلقت بجماعة تفتقر للمأوى في مدينة باريس، أين طالبت هذه الأخيرة أمام قاضي الدرجة الأولى بطرد 23عائلة دون مأوى احتلت عقارات تعود للمدينة دون رضاها. حكم القاضي بمنح أجل شهرين لهذه العائلات للخروج من العقار. إلا أن محكمة استئناف باريس، قررت منح أجل إضافي يقدر بستة أشهر مستندة في ذلك إلى الحق في سكن ملائم طبقا للنص المادة 11من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فإن كانت غير مختصة بإيجاد حل، لكن يمكنهامنح أجل إضافي للمدعى عليهم، ودعت السلطات المحلية والجهوية والوطنية لإيجاد حل خلال هذا الوقت.

طعنت مدينة باريس بالنقض في هذا القرار، لكن محكمة النقض أكدت القرار السابق للأسباب نفسها المقدمة من محكمة الاستئناف(Lam, 2004, p. 497)

خاتمـة

شكل الأساس الذاتي القائم على نية الدول الأطراف في المعاهدة عائقا أمام التطبيق المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان، الأمر الذي دعا إلى ضرورة رفضه واعتماد أساس آخر موضوعي، يقوم على دقة النص ومدى كفايته لترتيب آثاره. إذ فتح هذا الاساس أفقا جديدة للتنفيذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان.

ومن خلال دراستنا لأسس النفاذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان توصلنا إلى النتائج التالية:

1-يقوم الأساس الذاتي على نية الدول الأطراف في اتفاقيات حقوق الإنسان، والتي لا يعبر عنها بصراحة، مما يصعب مهمة القاضي في الكشف عنها.

2-رفض الدول اقتراح تضمين اتفاقيات حقوق الإنسان نصوصا حول نفاذها المباشر.

3-يحد الأساس الذاتي من فعالية اتفاقيات حقوق الإنسان رغم بساطته، من أجل ذلك تم اللجوء إلى تطبيق الأساس الموضوعي.

4-يقوم الأساس الموضوعي على مدى دقة وكفاية النص الاتفاقي بذاته دون حاجة إلى اعتماد إجراءات أخرى.

5-عملا بالأساس الموضوعي، يأخذ القاضي في الحسبان عوامل عديدة كمضمون النص، والهيكلة

 القانونية الوطنية، والظروف المحيطة بالقضية لتقرير حكمه حول النفاذ المباشر للنص من عدمه.

6-تطبيقا للأساس الموضوعي، يتم فحص المعاهدة نصا بنص والتأكد من مدى قابليتها للنفاذ المباشر من عدمها.

7-يسعى الأساس الموضوعي إلى التقليل من حالات عدم تطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان، حيث دشن آفاقا جديدة على صعيد التطبيق المباشر لها لم تكن متصورة في ظل العمل بالأساس الذاتي، كإمكانية تطبيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 

        وتدعيما للنفاذ المباشر للنص الاتفاقي اقترح الفقيهان EricClaesوArneVandaeleعلى القضاة أربع موجهات تتمثل في:

1-تحديد النواة الصلبة للنص الاتفاقي وهي جوهر الحق الذي من دونه يفقد الحق معناه. وتشكل أول التزام يجب أن تعترف له السلطات العامة بالأثر المباشر.

2-التوفيق بين النص الاتفاقي وقواعد القانون الداخلي في النزاع المعروض أمامه.

إدخال النص الاتفاقي ضمن البناء الواقعي للنظام الداخلي المحيط به وإجراء المقارنة بين القواعد لاسيما إن كان احترام حق يؤدي إلى انتهاك آخر. مع القيام بالموازنة وتحديد الأولويات بين المصالح العامة والخاصة(Vandael, 2001, p. 470)

قائمة المراجع

أولا: باللغة العربية

الكتب

1.أبو حجازة، عرفات أشرف، (2005)، مبدأ قابلية القانون الجماعي للتطبيق الفوري والمباشر وأولويته على القانون الوطني للدول الأعضاء. دار النهضة العربية.

2.المسماري، بوزيد، (2008)، دور القضاء الوطني في تطبيق وتفسير المعاهدات الدولية. دار الفكر الجامعي.

3.الجدار، سعيد، (2000)، تطبيق القانون الدولي أمام المحاكم المصرية، دار المطبوعات الجامعية ، الإسكندرية.

4.علوان، محمد يوسف، الموسى، محمد خليل. (2007). القانون الدولي لحقوق الإنسان (المجلد الجزء الأول الحقوق المحمية)، دار الثقافة، عمان.

المقالات

1.حساني، خالد، (2017)،" نفاذ المعاهدات الدولية في النظام القانوني الجزائري" ، مجلة القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، 1(1).

2.                        الموسى، محمد خليل، (2010)،" الأثر المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان في النظم القانونية الوطنية"،دراسة ناقدة. مجلة الحقوق، 34(3).

الرسائل الجامعية

رابح، سعاد، (2016-2017)،"الجزائر والقانون الدولي لحقوق الإنسان"، أطروحة لنيل شهادة دكتوراه علوم تخصص قانون عام، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبوبكر بلقايد، تلمسان، الجزائر.

القرارات القضائية:

المحكمة العليا. (11 12, 2002). الغرفة المدنية، قضية ي.ب ضد ح.ب، ملف رقم 288587.

المواقع الإلكترونية

عجيل، طارق كاظم، (بلا تاريخ)، إدماج النصوص الدولية في القوانين الداخلية، دراسة مقارنة. تاريخ الاسترداد 14 05, 2015،

boudidi.blogspot.com/2012/02/blog-post-28

ثانيا: باللغة الأجنبية

الكتب

1.Dupuy, Pierr-Marie , (2006) , Droit international public. Dalloz.

2.                                               Lam , Claudia Sciotti , (2004), L'applicabilittédes traites internationaux relatif aux droit de l'homme en droit interne.Bruyant.

3.N, Ferdinandusse. Ward, (2006), Direct Application of International Law in National Courts. The Netherlands and the auuthor: T.M.C Asser Press.

4.Sudre , Frederic ,(2006)  , Droit international des droit de l'homme. France: Presses universitaires de France.

المقالات

1.Beurgenthal , Tomas , (1935) , "Self Executing and Non Self Executing Treaties in National and International Law" ,R.C.A.D.I ,(40).

2.                                               Claes , Eric et Vandael , Arne , (2001) " L'effet direct des traites internationaux.Une analyse en droit positif et endroit positif et enthéorie du droit axée sur les droits de l'homme." R.B.D.I.

3.Sudre , Frederic , (2003)," La protection des droits sociaux par la cour européenne des doits de l'homme:Un exercice de jurispridence fiction?  " , Rev.trim.dr.h .

4.Vasquez , Carlos Manuuel , (1985)," The Four Doctrines of Self-Executing Treaties", A.J.I.L, 89(4).

 

القرارات الدولية

Tribunaux de Dantzig, C. (s.d.). Avis consultatif du 3 mars 1928,Série B n15.

@pour_citer_ce_document

هيبة مهني, «أسس النفاذ المباشر لاتفاقيات حقوق الإنسان»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 22-35,
Date Publication Sur Papier : 2021-03-07,
Date Pulication Electronique : 2021-03-07,
mis a jour le : 07/03/2021,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7837.