توظيف العرفان في رواية "بلاد صاد"The use of Mysticism in the Novel "Bilad Sad"
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 vol 18-2021

توظيف العرفان في رواية "بلاد صاد"

The use of Mysticism in the Novel "Bilad Sad"
ص ص 245-255
تاريخ الإرسال: 2020-01-27 تاريخ القبول: 2021-04-13

سليمة عشو
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تهدف هذه الورقة البحثية إلى التّعرف على كيفيات توظيف العرفان في رواية "بلاد صاد " للروائي المغربي "عبد الإله بن عرفة" من خلال عرض رحلة العرفان وما تستوجبه من مراحل ليقطعها العارف حتى يصل إلى "بلاد صاد"، ومن ثم ينقلكل ما يراه ويشاهده أثناء حلّه وترحاله. ولقيامه بنقل هذه التّجربة وسردها للآخرين لغة وكتابةيعمد الروائي إلى إمداد العارف السّالك بالوسائل والآليات الممكنة للوصول إلى "بلاد صاد"، وذلك بتوظيف اللّغة العرفانية والعجائبية. ويظهر البحث آليّات التوظيف العرفاني، بحيث يعتمد على التأويل كآلية للفهم للتوصّل إلى نتائج من بينها أن توظيف العرفان عمل يسعى إلى خلق أدب جديد ذي مرجعية قرآنيّة، وقد نتج عنها الكتابة بالنّور، التي تجعل المثقف يعي المرحلة التي يمرّ بها ويعمل على تجاوزها.

الكلمات المفاتيح: بلاد صاد، العرفان، التجربة، العجائبية، الكتابة

Cet article vise à identifier et à rendre compte du mode d’investissement du mysticisme dans le roman : "Bilad Sad" du romancier marocain "Abdul Ilah Bin Arafa". Le mystique décrira le parcours qu’il accomplira pour atteindre "Bilad Sad" et rend compte de tout ce qu’il observe et voit pendant son voyage.

Afin de transmettre cette expérience aux lecteurs, le romancier use d’un langage et déploie une écriture qui fournit un savoir et un savoir-faire au moyen d’une langue forte et évocatrice. Il créera, ce faisant, un nouveau genre littéraire mystique qui rendrait les cultivés parmi les lecteurs, conscients des scèneq qu’ils vivent et qu’ils dépassent allègrement.

Mots-clés :Bilad Sad,Mysticisme, Expérience, fantaisie, écriture

This papier aims at identifying how to employ the two identifiers in the novel "Bilad Sad" of the Moroccan novelist "Abdul Ilah Bin Arafa" by showing the journey of gratitude and the stages that this trip will take to reach "Bilad Sad", and then conveys everything he sees during his journey. In order to convey this experience and list it to others in a language and a writing, the novelist provides the know-how with the means in the first place, the government of the United States, which is the only country in the world, which makes the cultured aware of and overstep the stage they are going through

Keywords:Bilad Sad,Mysticism, Experience,fantasy, writing

Quelques mots à propos de :  سليمة عشو

جامعة محمد الشريف مساعدية سوق أهراس،3acho2011@gmail.com

1.          مقدمة

ظهر الأدب العرفاني حديثا مقدّما نفسه للقارئبأنه كتابة جديدة؛ "كتابة بالنّور" ومؤسسا اتّجاها خاصّا في الكتابة يتّخذ من مداخل سور القرآن مرجعا، آخذا من الأحوال الرّوحية الّتييعانيها العارف والتي تقوم على السّفر والسّلوك  كما أن  العرفان في التّجربة الأدبيةيُوحي باستبطان تجربة روحيّة، ويشي بالوصول إلى  معرفة الذات ومعرفة الله والعالم و الوجود كله، فهو أسلوب مطلق يتّخذه العارف للإمحاء في الذّات الإلهية؛ حيث يخلع فيها كافّة الانتماءات ويتجرّد من المال والإمارة وغيرها. فالعرفان يسعى إلى الرّقي بالذات البشرية إلى  الذات الإنسانيّة بمعنى الإنسان الخالي من جميع الحزازات والانتماءات والتّوجهات من عرق ودين، فهو إنسان متجرّد من كل شيء دنيّ، ومتّصف بكل ما هو عليّ،  والذي  يُسمى عند أهل العرفان " الإنسان الكامل"، لكن العرفان بلغته الاستعارية اصطدم بجدار التّواصلبينه وبين القارئ، ولصعوبة لغته كان التأويل آلية للتفسير والكشف، وفنا للحوار والجدل والفهم والاستيعاب. وبذلك شكّل لنفسه فضاء واسعا للإبداع؛ذلك أن للعرفانييّن تعاملا خاصّا مع اللّغة لاشتغالهم على جسدها وأن لها ظاهرا وباطنا؛ فخلقوا بذلك لغة خاصّة بهم فأصبحت الكتابة بالنّسبة لهم تجربة خاصّة وعميقة وذات أسرار خفيّة،فكان اعتماد التّأويل أسلوبا لولوج مغاليق تلك النّصوص بلغتها الرّمزية الاستعاريّة المجازيّة التي تستخدم اللّفظ لغير ما وُضع له أصلا.

- ما العرفان؟ - وكيف حضرت تجربة العرفان في بلاد صاد؟

تهدف هذه الدراسة إلى بيان كيفيات توظيف العرفان في الرواية المعاصرة، والوصولإلى نتائج أدبيّة وفلسفيّة وفكريّة، وتجليّات قيميّة وجماليّة ومعرفيّة للخطاب العرفاني،وانفتاحها على آفاق مستقبليّة، لاسيما أن اتجاه الروائي "ابن عرفة" ينحو إلى استحضار أهل الشهادة والحضور، كما بيّن ذلك في بياناته عند صدور كل رواية وإعطائه المفاتيح اللازمة للولوج إلى هذه النّصوص، ودراسة العرفان تستدعي معرفة الأهداف التي تسعى إليها هذه التّجربة الفريدة والغريبة.

إن هذه الكتابة النورانيّة من حيث مصدرها (الفواتح النورانيّة القرآنيّة) وغاياتها تتوخَّى الأخذ بيد القارئ وإعطءه قبسا من النور لتُخرجه من ظلمة التِّيه الفكري والجهل التاريخي، والفَوضى في المفاهيم. إلى الحاضر والمستقبل من خلال الماضي وتحرير الإنسان من كل تبعيّة وانتماءات وأفكار هدّامة، وتحرّره من نفسه، كما أنها دعوة جديدة للقراءة.  

تعتمد هذه الدراسة على آلية التأويل، الذي يمنح القارئ قراءات متعدّدة ومختلفة، كما يزيح عنه كثيرا من اللّبس والغموض؛لأن العودة إلى القراءة الذاتية ومساءلة المعنى تمنح الحرية للقارئ وتؤدي به إلى الفهم والحضور، كماأن اختيار التأويل كان مناسبا من أجل معرفة مدى تجليّ مستوى الظلال والتجليّات العرفانيّة، وآليات توظيفها بشكل من الأشكال، ولأن الكاتب أيضا يلحّ على فعل القراءة والتأويل من خلال إصداره بيانات للقارئ في مستهل كل رواية.

أما بخصوص الدراسات السّابقة في مجال الرواية العرفانية، فتتمثّل في كتابين نقديين الأول للروائي عبد الإله بن عرفة بعنوان "جماليات السرد في الرواية العرفانية"، والثاني لمجموعة من الكتاب بعنوان الرواية العرفانية في تجربة عبد الإله بن عرفة، ومقالات بمجلة "ذوات" الإلكترونية لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث بالرباط"، في عددها العاشر، بعنوان الرواية العرفانية تأسيس لأدب جديد. كل هذه الأعمال عالجت موضوع الرواية العرفانية، وماهيّتها وجماليات السّرد فيها.

2.                      العرفان

العرفان ظاهرة إنسانيّة. ولقد عُرف منذ القديم في الثّقافة البشريّة وفي تاريخها الروحي حيث حقّق على الصّعيد المعرفي كثيرا من التّصورات حول العالم والإنسان والله، أما على الصّعيد الرّوحي فقد خلّف لنا تاريخا زاخرا من فيوضات المشاعر والأحاسيس الجياشة، وتجلّى ذلك في الموروث الإسلامي الكبير والزاخر شعرا ونثرا. ودراسة العرفان في هذا العصر والعودة إليه ضرورة أملتها الحاجة إليه. والهدف من دراسة العرفان هو معرفة الحقيقة؛ حقيقة وجود الإنسان.

والعرفان مصطلح وجب شرحه وبيان مفهومه لأنه يحضر في العمل الروائي من خلال الحكي والأحداث والوقائع، وسعي الرّوائي إلى التّنويه به واتخاذه وسيلة لرسم المعنى وأداة تحيل إلى اتخاذ التأويل آلية للقراءة، وأسلوبا للتّحرير والتّنوير؛ تنوير الفكر من الخرافة والجهل وإخراجه من الضّلال إلى الهداية، ومن الجهل إلى العلم.«بل إن العرفان قائم على فكرة الخاصّة التي تُوحي في بعض مداليلها بجانب القلّة مقابل كثرة عارمة لا تنضوي تحت هذا اللّواء أصلا»(علي شيرواني، 2003، ص13) فالتّمييز بين العامّة من جهة وبين الخواص وأهل الاختصاص من جهة ثانيّة، ليس تمييزا بين من لا يمتلك المعرفة وبين من يمتلكها ؛ فمعرفة العوام تختلف عن معرفة الخاصّة وأهل الاختصاص. فمعرفة العوام تنشأ عن الفطرة السليمة والإيمان التقليدي، أما الخواص فمعرفتهم تعتمد على النّظر العقلي أي التأويل وهم الفلاسفة والمتكلّمون، وهذا المستوى فيه من التعدّد والاختلاف؛ يعني الصّراع حول المذهب، بينما أهل الاختصاص هم أهل الكشف الصوفي وهم الصّوفيّة علماء الكشف والشّهود.  والعرفان لغة كما جاء في مادّة عرف: «العلم قال ابن سيده: وينفصلان بتحديد لا يليق بهذا المكان، عرفه يعرفه عرفة وعرفانا وعَرِفَّاناً ومعرفة واعترفه» (أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، دت، ص 110). وقد جاء في المصباح المنير«عَرَفْتُهُ عِرْفَةً بِالْكَسْرِ وَعِرْفَانًا عَلِمْتُهُ بِحَاسَّةٍ مِنْ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ» (أحمدبنمحمدبنعليالمقريالفيومي، د.ت، ص 404 405).

نستنتج من التّعريفين السّابقين أن العرفان هو العلم مع المعرفة. ففي التّعريف الأول يقوم على الطلب والملاحظة، وفي الثّاني تحصل المعرفة والعلمعن طريق التّجربة، وذلك لدور السّلوك النّاتج من الحواس؛ فالعرفان يعتمد على البحث والاجتهاد والمجاهدة بالأفعال؛ أي معرفة الله «أنه العلم بالحق سبحانه وتعالى وبأسمائه هو وصفاته ومظاهره، وهو أيضا العلم بالمبدأ والمعاد وحقائق العالم أي كل مراتب الوجود. لذا فإن صفحة الوجود بأكملها تدخل في تعريف العرفان وفي موضوع العرفان» (محمد شقير، 2004. ص 10).

1.والعرفان عند الصّوفية هو معرفة خاصّة ورؤيا مختلفة للوجود، فقد«ظهرت الكلمة (عرفان) عند المتصوّفة الإسلاميّين لتدلّ عندهم على نوع أسمى من المعرفة، يلقى في القلب على صورة (كشف) أو(إلهام)» (مجموعة من الأكاديميين، 2014. ص 11)، وهو بهذه الرؤية يقدّم نفسه على أنه معرفة؛«إن العرفان هو سبيل الصّوفي إلى المعرفة الخالصة، معرفة الأصل في أصله لا في صفاته، في تجلّيه لا في ستره. وهي معرفة تتم عن طريق الوجدان والأحاسيس الغامضة والتّجربة» (سعيد بنكراد، 2008. ص 173). وهو المعرفة؛ «معرفة طريق السّلوك والمجاهدة لتحرير النفس من علائقها وقيودها الجزئية لتتّصل بمبدئها ولتصل إلى الله تعالى من أجل الفناء في الذات الأحديّة» (محمد شقير، ص 10). «المعرفة إحاطة بعين الشيء كما هو.  وهي على ثلاث درجات والخلق فيها ثلاث فرق» (م عبد الله الأنصاري الهروي، 1988، ص 125). وعلى هذا المنوال ينقسم العرفان إلى قسمين عرفان نظري وعرفان عملي.

«والعارف -عندهم-من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله. ثم صدق الله في معاملته ثم أخلص له في قصوده ونيّاته. ثم انسلخ من أخلاقه الرّديئة وآفاته. ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبليّاته» (شمس الدين ابن القيم الجوزية، 2004. ص 458) إن على العارف أن يبلغ شهوداً حتى يحصل على المعرفة الشّهودية، وذلك بالمجاهدة والمكابدة والارتيّاض، وقد يحصل هذا بالمعرفة العقليّة بقسميهما بالبرهان العميق وهو العقل النظري، أو بالعزم والشوق والإخلاص بلحاظ العقل العملي، وفي هذا كله القلب يختلف عن العقل في إدراكه (شفيق جرادي، 2009. ص 20) والعارف أثناء سلوكه وسفره يحس بالغربة «إنه يشعر بأنه غريب étrangerعن هذا العالم: إنه ليس منه، إنه إنما أُلقي فيه إلقاء»(محمد عابد الجابري، ص 256)، ومادام  العارف يشعر بالغربة وعدم الانتماء إلى هذا العالم الموحش، فهو يتمنى أن يرتحل منه والسّبيل إلى ذلك  هو الموت للقاء معروفه المتمثل في المحبوب وهو الله -عز وجل-. وبالموت ينجو؛ «الخلاص والنّجاة يبدآن إذن من معرفة النّفس، معرفتها لا كجزء من العالم بل كوجود أسمى منه ومن طبيعة غير طبيعته، وهكذا فإذا عرف الإنسان نفسه، إذا هو استطاع جمعها من شتات المادة وخلصها من سجن بدنها عرف الأصل الذي منه انبثق، أصله السماوي الإلهي الخالد، فيزداد شوقا إليه كلما ازداد معرفة به. ويستمر في مواصلة الانشداد إليه إلى أن تأتي عليه لحظة يشعر فيها أنه قاب قوسين أو أدنى، ثم تأتي بعد ذلك لحظة يتّحد فيها العاشق والمعشوق لحظة "الفناء" أو اندماج العارف في أصله» (محمد عابد الجابري، ص 257-258.)

إن التّجربة العرفانيّة هي استعادة العارف لها قراءة داخليّة بلغة العقل، إذ يؤكد بأنها ليست من الخيال في شيء، ينقلها لغيره كتابة ويؤكدها ويبرهن على صحّتها بالحجة والمنطق ولكن -كيف للعارف نفسه، أن يثبت صحّتها باعتبار هذه التجربة فردانيّة؟

3-                      تجربة العرفان في رواية بلاد صاد

3-                       1. تجربة الكتابة

تقوم تجربة الكتابة العرفانيّة على مقوّمات أساسها الرحلة وتتأسّس بفعل الكتابة انطلاقًا من مفهوم الكتابة بالنّور.  والرّحلة التي تقوم بها هي السّفر؛ والسّفر العرفاني سفر يرتقي إلى مستوى هذاالكون لمعاينة التّجليات الإلهية عبر الخيال العرفاني؛ وهو سير الكشف والاستكشاف عن العوالم الخفيّة النورانيّة، ويكون سفرا داخليّا عبر الخياليتجلّى في فكر صاحبه، وهنا ينمحي الوجود المكاني والزماني، «أي الشعور من جانب الذّوات بوجودها لأن وجودها في تحققها بالفعل؛ ولذا كان هذا الدور دور الحضور أو الآن الحاضر؛ وهذا في الواقع هو معنى الحضور» (عبد الرحمان بدوي، 1983. ص 149) فالوجود هو الحضور، حضور العارف في حالة الكتابة، لأن رؤية العالم من هذا المنظور هي اختراق الحجب، ومعرفة كينونة الأشياء ثم ربط العلاقة بين هذه الأشياء والطبيعة، وقد تكون الرّحلة على شكل رؤيا أو منام، وذلك في رؤيته للكون والوجود والإنسان والأشياء؛ كأن يرى العارف نفسه يطير أو يحلّق في الهواء أو يمشي فوق الماء، فيرحل العارف في هذا المعراج الخيالي لا تحكمه قوانين الزّمان والمكان،لكن لا يرحل العارف إلا بعد القيام برياضات والمرور عبر امتحانات، وما يلاقي جراء ذلك من تعب؛ فرحلة الكشف هذه  التي  ينتهجها العارف؛ هي تجربة الموت والفناء؛ والفناء يكون لأجل البقاء، إن هذه التّجربة العرفانيّةوالحضور العرفاني في الرّواية هو الكتابة؛ هذه الكتابة هي تجربة البقاء؛ أي وصف العارف رحلته ونقلها إلى الآخرين. وتفرّق الكاتبة اللبنانيّة "سعاد الحكيم" في معجمها "المعجم الصوفي-الحكمة في حدود الكلمة-"  بين  التّجربة الصّوفية  كحالة يعيشها العارف والتّعبير عنها في حالة عودته من الأعماق «فالتّجربة الصّوفية ، حيث تقف (ذات) المتصوف في مواجهة موضوع حبّها أو معرفتها. هي تجربة جوانيّة تتحرّك في إطار ذاتيّة معيْشية بعيدا عن الحروف والكلمات... بعيدا عن (الآخرين) وهي تجربة قرب وعرفان مجالها الحيوي القرآن والسّنة... أمّا التعبير عن هذه التجربة فهو خروج من الذّاتيّة والجوانية إلى (الآخرين)، هي عودة الصّوفي من رحلته في الأعماق إلى الآفاق» (سعاد الحكيم، 1981. ص 14).  وعودة الصوفي تتمثّل في رجوعه من الحق إلى الخلق بالحق؛ أي عودة العارف من سيره الذي كان من الحق إلى الخلق بالحق، وهذا لا يعني انقطاعه عن ذات الحق وإنما لأنه يرى ذات الحق في جميع الأشياء.(ينظر: مرتضى المطهري، 2007. ص 126) لقد جاء على لسان الششتري بطل رواية "بلاد صاد": «هنّأني عبد الحق بهذا الفتح الجديد وقال لي: هلاّ أخبرتني عن رؤياك؟ فقلت: أي نعم. كنت في تلك الشّعاب أمشي بأهلي، وأتوكأ على العصا. فقال عبد الحق: إنّها عين الصاد، والعصا عين اليد. ومن العين كانت الرؤية، وبالصاد كان الكلام ﴿صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١﴾» (ص 01) (عبد الإله بن عرفة، ص 266)، لقد قام العرفان على منظومة لغويّة متفرّدة، ونمط جديد من القول، وتعدّد في الدلالة، وتأسيس لوجود كوني عرفاني، يقوم على الاختلاف في النّظام المعرفي، يتحرّر من سلطة اللّغة الأحادية، ويستعير لغة الرمز والإشارة، لقد خالف السّائد، «ليست التجربة الصوفيّة، في إطار اللّغة العربيّة مجرّد تجربة وإنّما هي أيضا، وربّما قبل ذلك، تجربة في الكتابة» (أدونيس، د-س، ص 22)، هذه الكتابة هي خطاب موجّه إلى فئة معيّنة من المتلقّين الذين افترضهم الرّوائي من خلال البيانات الأدبيّة التي يُصدرها في مستهلّ رواياته، هذا الخطاب هو «خطاب الفقدان: أن يفقد السّائر كل ما رآه وكتبه بآثاره. فهو الكائن بين بحر الوجود (أقيانوسية التّجربة) وشاطئ الجسد (ظواهرية الكتابة)، لا تزال أمواج الأول تمحو آثار سيره، وعبوره المسجّلة في جغرافيا الثّاني» (محمد شوقي الزين، 2015، ص 106-107)، فهو خطاب خاص بلغة خاصّة وخطاب الأعماق والآفاق، أي أنّه على القارئ أن يكتشف البِنْيات الخفيّة والتي تبدو في ظاهرها مجرد حكاية، ولكن بناءها الباطني يشي ببنية خفيّة وهي ما يقصدها المبدع من نصّه، «فالتّصوّف هو شوق الظاهر إلى الباطن، وهو حنين الفرع للأصل وعودة الصّورة إلى معناها»(أدونيس علي أحمد سعيد، 1982. ص 92)؛ فالكتابة العرفانيّة كتابة تستدعي الأنا والآخر وهي معرفة وكتابة حضور.

تحكي رواية "بلاد صاد" سيرة الأمير الفقيه الشّاعر أبي الحسن الشّشتري السّائح في الأرض، والمتنقّل من غرناطة بالأندلس، إلى بلاد المغرب فالجزائر تلمسان وبجاية، فتونس وطرابلس، ومنها إلى مصر ومكة والمدينة، ثم إلى الشّام. وفي الشّام يكون قد حصل على آخر سمسمة من سمسماته السّبع التي قطفها من كل مكان وصل إليه من هذه الأمكنة، وبهذا يكون رأى بلاد صاد، وحصل له من الوجد ما حصل.  ثم رجع من بلاد الشام إلى مصر حيث وافته المنيّة فيها. هذا السّفر يبدو ظاهرا، وقد يكون باطنا، من العالم إلى الله، فهو يشير إلى الصّعود الصّوفي نحو الله، وقد يشير إلى الهبوط نحو النّفس حيث يوجد الله(ينظر: المرجع نفسه. ص 93). والسّفر عند ابن عرفة أنواع ثلاثة وهي: الرحلة معراجا كما في رواية (جبل قاف)، أو بحرا كما في رواية (بحر نون) أو برا كما في رواية (بلاد صاد) وفي هذه الأخيرة جعل ابن عرفة القارئيسافر مع الششتريعبر عالم تخييليومعرفيمليءبالعجائب، وينتقل معه من مشهد إلى مشهد وكل مشهد مرسوم بدقة في هذا السّفر الروائي الحكائي.

3-                       2-بلاد صاد

"بلاد صاد" وهي عنوان الرواية، تمثّل المكان الذي سيصل إليه ّالشّشتريّ السّائح في أرض الله سيّاحة ماديّة أو معنويّة، وأيضا هي الإقليم الذي يصله ويكون بذلك قد أتم سياحته في جميع الأقاليم، وحصل على آخر سمسمة من سمسماته، فهي مدينة العلم، وأرض الإحاطة والعبوديّة، فبلاد صاد هي بلاد الصّورة الأحمديّة الجماليّة وبلاد النّور الأعظم في عالم الغيب والجبروت. ومن دخل هذه البلاد صار من أصحاب الأعراف الذين لهم وجه إلى كلّ جهة (عبد الإله بن عرفة، ص 309). هذه الصورة الأحمديّة الجماليّة هي نفسها الإنسان الكامل،كما أن هذا الكمال يكمن في الإنسان الكامل، أسّ العالم وصيد الحق، المتحقّق بأسماء الله الحسنى الذي يصل الصّورة الكليّة للوجود كما يراها من علم اليقين إلى عين اليقين إلى حقّ اليقين وعبر هذا السّفر والسّياحة في "بلاد صاد"؛يحصل له معرفة بالله تعالى، معرفة يقينيّة وذلك عن طريق الذوق والكشف، فخاصيّتها الجمال: جمال الطبيعة وجمال الكون، وهذا الجمال جزء لا يتجزأ من الإنسان الكامل، سكّانها أصحاب الأعراف، «إنّما سمّي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون النّاس»(عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الدمشقي، 1999، ص334(. الأعراف: هو المطّلع وهو مقام شهود الحق في كل شيء متجليّا بصفاته التي ذلك الشيء مظهرها، وهو مقام الأشراف على الأطراف (علي بن محمد السيّد الشّريف الجرجاني، د س، ص 29.). قال الله تعالى: ﴿وَبَيۡنَهُمَاحِجَابٞۚ وَعَلَى ٱلۡأَعۡرَافِ رِجَالٞ يَعۡرِفُونَ كُلَّۢا بِسِيمَىٰهُمۡۚوَنَادَوۡاْ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۚ لَمۡ يَدۡخُلُوهَا وَهُمۡ يَطۡمَعُونَ ٤٦﴾(الأعراف 46)".

وتأويل"بلاد صاد" السّفر، الخروج، الهجرة، والتي تعني الانتقال من مكان إلى آخر، بهدف أو بغير هدف، فقد يكون السّفر والخروج هروبا من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان، كحال الأنبياء والرّسل – عليهم السّلام-إبراهيم، لوط، موسى محمد...، وقد تكون الهجرة لطلب العلم والمعرفة أو العمل هذه معاني الهجرة في ظاهرها، كما أن الانتقال من بلد إلى آخر يؤوّل بالتّغيير، تغيير النّفس وتحسين الطبع أو تغيير الواقع فالسيّاحة في أرض الله الواسعة، مطلب قرآني أيضا للإيمان وللتغيير وأخذ العبرة. كما أن هذا السّفر ليس سهلا كما يُعتقد ذلك بل فيه من التّعب والجهد ما فيه «لمحت زوبعة كبيرة في الهواء فأسرعت بالحمار إلى صخور قريبة في أصل الجبل خوف أن تدركنا الزوبعة وتذهب بنا»(عبد الإله بن عرفة، ص 167).

بلاد صاد أرض الله الواسعة، كما تتبّعنامع "الششتري" في سيْره القائم على المعرفة وطلبها من أماكن شتّى، يرحل من الأرض والتي هي الطينة إلى بلاد صاد وهي بلاد النّور والمعرفة. قد تكون "كمدينة أفلاطون الفاضلة"، أو مكان طاهر مضيء فيه المعرفة والعدل والأمان والسّلام. كل هذا ليس مهمّا بقدر ذلك السّير الذي كان يشكّل مراحلَ ومنازلَ؛ من الدّرجات الدّنيا إلى العليا، من أسفل إلى أعلى، من أصغر إلى أكبر. فالوصول إلى بلاد صاد ليس سهلا«لكنك إذا أردت أن تجول في عالم السمسمة وتسافر في أرض صاد...ثم عليك بالصّبر في مواطن الإشكال فهذا الطريق صعب»(عبد الإله بن عرفة، ص 167).

 يبدأ الرحيل بركوب الحمار، وهي وسيلة نقل قديمة وكما جاء في الأخبار والآثار، لكونها ركوب الأنبياء والصالحين، فدخول الصخرة المؤديّة إلى الكهف، إلى أن وصل إلى داخل الكهف فوجد أربعين صندوقا «ثم رأيت حللا عجيبة في هذا الصّندوق كأنها حجب نورانيّة فنشبت آخذ منها وأخلع عليَّ. وكلّما لبِستُ حلة منها ظهر عليَّ من العلوم والأنوار بقدر ما لبستُ...  ولمّا لبستُ أوّل تلك الخلع أكسبتني العلم، فأدركت الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين»(عبد الإله بن عرفة، ص 171-172).

 فالمعرفة بوجود شيء علم، ومشاهدته عين، ومعرفة لما خُلق من أجله حق، «فإن عين اليقين: مشاهدة وحق اليقين: مباشرة»(شمس الدين ابن القيم الجوزية، 2004. ص 489).

3-                       3–الاشتغال على الحروف: صاد الصمت

لقد اعتنى "محيي الدّين بن عربي"(ت 638ه) بالحروف ورموزها عناية كبيرة. وذلك بجعلها أمة من الأمم ومعاملتها كخلق من خلق الله مكلّفة مثل بقيّة العوالم، لها أسرارها وخواصها. وقد خصّها بكتاب "الفتوحات المكيّة" بفصول الكتاب ومراتبها وطبائعها. «علم الحروف هو علم الأوليّاء وبه تظهر أعيان الكائنات. ألا ترى تنبيه الحق على ذلك بقوله: «كن!»؟ فظهر الكون عن الحروف»(محيي الدين بن عربي، 1985. ص 204)، وتشكّل الحروف في الخيالالعرفاني سرّ الوجود فيالعالم، كما تشكلّ فيالمتخيّل السّردي سرّ كلمكوّنات العالم الرّوائي وانفلاتها من الكلمة تحيل على المرجعيّات التاريخيّة والدّينية في إشارة إلى الرؤيا العرفانية القائمة على الارتقاء والانتقال من ظاهر الأشياء إلى باطنها بالحفر في الدّلالات الرّمزية للحروف والكشف عن معانيها الخفيّة فهي عالم المعقولات والمعاني، وتوظيف الحروف المتقطّعة الموجودة في فواتح السّور القرآنية، وهي أربعة عشر فاتحة نورانيّة منها الحروف الأحاديّة والثّنائيّة والثلاثية، والرباعية والخماسيّة على هذا الشّكل من الكتابة (ق، ن، ص، الم، طه، يس، حم، ألمر، كهيعص...) هذا ما يستدعي قراءتها من منظور تأويلي  خاصّة أن علماء التّفسير لم يتطرّقوا إلى تفسيرها ولا إلى أسباب الابتداء بها في كثير من سور القرآن مُرجعين ذلك إلى أن الله عزّ وجل استأثر بعلمه فردّوا علمها إلى الله ولم يفسّروها وآخرون فسّروها واختلفوا في معناها فمنهم من قال أنها أسماء السّور وهناك من قال أنها أسماء الله -عز وجل- بينما آخرون قالوا عنها أنها قسم أقسم به الله سبحانه.

و"ابن عربي" يتعامل مع اللّغة وحروفها كما يتعامل مع كل الموجودات، وينظر إليها –كما ينظر للوجود بأسره-من خلال ثنائية "الباطن والظاهر» فيرى أن لحروف اللغة جانبًا باطنًا هي الحروف الإلهية التي تتوازى مع مراتب الوجود من جهة وتتوازى مع الأسماء الإلهية من جهة أخرى، ويرى أيضًا أن لحروف اللغة جانبًا ظاهرا هي الحروف الإنسانية الصوتية التي يتلفّظها الإنسان في كلامه»(ناصرحامدأبوزيد،1992،ص 82) هناك إذن لكل حرف جانبان: الجانب الباطني، وهو أرواح الأسماء الإلهية، وجانب ظاهري: «الاسم باصطلاحهم ليس هو اللّفظ، بل هو ذات المسمى باعتبار صفة وجودية، كالعليم والقدير أو عدمية كالقدوس والسلام»(عبد الرزاق الكاشاني، 1992. ص 54).

كما يرى الناقد المصري "ناصر حامد أبو زيد: أنّه: «إذا كان ابن عربي (ت 638) قد قسّم مراتب الوجود الكليّة إلى ثمان وعشرين مرتبة تبدأ بالعقل الأول أو القلم وتنتهي إلى مرتبة (المرتبة) فإنه قد وازى كل مرتبة من هذه المراتب الثّمانية والعشرين وبين حرف من حروف اللّغة العربيّة فجعل مرتبة توازي حرف الألف (الحركة الطويلة) وجعل آخر المراتب توازي حرف الواو»(ناصر حامد أبو زيد، ص 82)، فابن عربي يعقد موازنة بين حروف اللّغة ومراتب الوجود ليس على سبيل الشرح والتّبسيط وإنّما على سبيل الإيمان والكشف، وهي ترتبط بمراتب الوجود الكلية، والتي ترتبط بالأسماء الإلهية التي أوجدتها القدرة الإلهية، هذه الحروف لها ظاهر وباطن، الظاهر هو الجسد، والباطن هو المعنى، كما يرى ابن عربي أن «الجانب الباطني للحروف أرواح هي أرواح الأسماء الإلهية، أما جانبها الظاهر فهو إما أن يكون الصوت في حالة (النطق) أو الخط في حالة (الكتابة)»(محمد بن جبار بن الحسن النفري، 1998.  ص 51.). فالحرف لا تكمن قيمته في التّجلي أثناء الكتابة فحسب، بل له باطن ومعنى وتأثير جمالي ونفسي.قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف لكلّ آية منها ظهر وبطن» أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره.  ظهر منها هو ما يظهر من معناها والباطن منها هو ما يبطن من معناها. فالظاهر للعامّة والباطن للخاصّة.

إن التّجربة العرفانيّة أكبر من أن يستوعبها لسان أو نطق، فهي تتجاوز، لحظة الكلام وتستلزم الصّمت، فيصبح الكلام على الكلام صعبا على القول المشهور للتّوحيدي. وقول النّفري «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة».

إن قارئ "بلاد صاد" يجد كلاما كثيرا منه كلام السّارد وهو يحكي ومنه الحوار الداخلي والخارجي مع شخصيات الرواية، وهذا كله يجري على ظاهر النّص. أمّا المتمعّن لاشتغال لغة النّص على مستوى الهمس والصّمت بتوظيف الحروف المناسبة لذلك، فإنه يجد الروائي "ابن عرفة" يعمل على تجسيد لغة الصّمت بالاشتغال الدّلالي على مستوى صفات الحرف. ورواية " بلاد صاد"؛ هذه البلاد الموسومة بـ "حرف الصّاد"؛ الذي يبدو جليّا واضحا على الغلاف الخارجي للرّواية، إذ نلاحظ هذا الحرف مرسوما على شكل سور محاط بحروف: (ا. ل. م) مكتوبة بحجم صغير ومتقاربة من بعضها البعض تقع على طرف حرف الصاد وتقع داخل المربع الصغير؛ بينما كتبت الحروف المجاورة لها بحجم أكبر ومستلقة عن مربع حروف المجموعة الأولى؛ وهذان الحرفان (ك.ه)، فالكاف أقرب من الهاء، ثم يرسم على الترتيب حرف (ي) ثم حرف (ع)، وحرف الصّاد يحيط بها من كل جانب ﴿ص والقُرآنِ ذِي الذّكْر﴾. جاء في كتاب «خصائص الحروف العربية ومعانيها" بخصوص حرف الصّاد "مهموس رخو، يشبه رسمه في السّريانيّة صورة الصّبي... فهو من أصوات الحروف كالرّصاص من المعادن رجاحة وزن، وكالرّخام الصّقيل من الصّخور الصّمّاء صلابة ونعومة ملمس وكالإعصار من الرّياح، صرير صوت يقدح نارا...»(حسن علي، دس، ص 149).

وبعد تقديمه الرّواية للقارئ نظّم "عبد الإله بن عرفة" قصيدة في حرف الصاد ويقصد به الإنسان الكامل الذي هو صيد الحق، وسمّاها صاد المثاني، لأن الصّاد لم يذكر في الفاتحة إلاّ في كلمة الصّراط (ينظر: عبد الإله بن عرفة: بلاد صاد. ص 20)، وفي المتن الرّوائي يعدّد الكاتب أسماء الله –عز وجل-وأسماء الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-المتضمّنة لحرف الصّاد، وهي أسماء قوية المعنى، لكن فيها نوع من الصمت، كما أنها تستلزم الصبر الذي يعني الصمت «... والصّاد مفتاح الأسماء الإلهية: الصّمد والصّبور والصّادق والصّانع. كما أنه مفتاح أسماء الرسول صلّى الله عليه وسلّم: الصّادق والصّابر والصّالح»(المصدر نفسه. ص 304).  ويكمن فضل حرف الصاد على الحروف التي يتوسّطها بإعطائها صفته المتمثلة في النبل «فلئن كانت الحروف العربية قد أثرت في معاني معظم المصادر التييتوسّطها حرف الصّاد، فإن هذا الحرف قد حماها جميعاً وحصّنها من كل ما هونابٍ وقبيح من المعاني، ليكون حرف الصّاد بذلك من أنبل الحروف العربية»(حسن علي، ص 154). ويعقّب الشّشتري بطل الرّواية على لسان ابن سبعين: «إن حرف الصّاد حرف الموت، وهو يحتل المرتبة الواحدة والعشرين في التّرتيب النفسي لمخارج الحروف. وهذه المرتبة مختصّة بالطين والتراب...فالصّوم والصّمت والصّدى كلها معانٍ في حكم الموت، وإن كان موتا معنويا...أمّا العبد الميّت عن نفسه فقد سمّاه النّبي صلّى الله عليه وسلم أبا تراب، لكمال تحقّقه بالعبودية»(عبد الإله بن عرفة، ص 309). يشتغل السّارد على تبيان خصائص حرف الصاد مستشهدا على ذلك بما جاء في الأخبار والآثار، ويقترب من المدلول ثم يصمت عنه تجوّزا، ولا يذكر إلا هذه الإشارات، ومن معاني حرف الصّاد: التّراب أو الطين، لأن الإنسان من التّراب ويحنّ دائما إليه كما يُنهي السارد حديثه عن حرف الصاد ليُعبّر عنه بالموت، والتراب وأن العبد الميّت كما جاء في الحديث يُسمّى بأبي تراب ليجعلنا نرجع لبداية الرواية لنعرف أن الششتري أثناء سيْره سأل تلاميذه عن اسم المنطقة التي وصلوا إليها فقالوا له "طينة" فقال قولته الشّهيرة: «حنّت الطّينة إلى الطينة»(). وهذا حتى نتمّم معه فكرة الصمت.ولحرف الصّاد في سيرة أبي الحسن الشّشتري مدلولات كثيرة كشفت عنها الرواية ويبقى التّأويل متعدّدا، فالصّمت والانقطاع عن الكلام ملائم للتّجربة العرفانيّة والمعرفيّة، «الصّمت المعروف بالسّكوت كثيرا ما وردت الإشارة إليه في القرآن بنفي الكلام ﴿فَكُلِيوَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا ٢٦»)سعاد الحكيم، ص 700). والمكان ملائم لمشاهدة الحق فهو جنة المعارف والأنوار ويعني الموت الذي هو « باصطلاحهم قمع هوى النفس، فإن حياتها به  ولا تميل إلى لذاتها وشهواتها، ومقتضيات الطبيعة البدنية إلا به وإذا مالت إلى الجهة السّفلية جذبت القلب الذي هو النفس الناطقة إلى مركزها فيموت عن الحياة الحقيقية العلمية التي له بالجهل فإذا ماتت النفس عن هواها بقمعه انصرف القلب بالطبع والمحبة الأصلية إلى عالمه عالم القدس والنور والحياة الذاتية التي لا تقبل الموت أصلا، وإلى هذا الموت أشار أفلاطون: "مت بالإرادة تحيا بالطبيعة: قال الإمام جعفر بن محمد الصادق: " الموت هو التّوبة ...»(عبد الرزاق الكاشان، ص 110). إن التّجربة الروحيّة تقوم على الصّمت أي التّعبير غير اللّغوي، وهنا يحضر الإيماء ولغة الإشارة والرّمز، فكرة الصّمتيقبلها شهود المعنى الإلهي الذي لا كلام معه.

فرواية "بلاد صاد" تنهض منذ البداية؛ من العنوان وصورة الغلاف على حرف الصّاد، بالاشتغال على ثنائية الحضور والغياب بحضور الدوال المتعدّدة، وغياب المدلولات، فيتوجّس القارئ خيفة من الشخوص الذين يظهرون ثم يختفون، فظهورهم وحوارهم على الورق وعلى ظاهر الحروف، ولكن في باطنها هم في عداد الموتى. عندما تنتهي الرواية تحسّ أنك في حلم أبطاله قدموا من عوالم متخيّلة: عوالم ما وراء اللغة واللاكلام والصّمت، وكأنها تراب في تراب.

وقد جاءت روايات "عبد الإله بن عرفة" تحمل عناوين فواتح السّور القرآنيّة المتمثّلة في الحروف المتقطّعة (جبل قاف، بحر نون،  بلاد صاد، ياسين قلب الخلافة، ابن الخطيب في روضة طه، طواسين الغزالي،الحواميم، الجنيد ألم المعرفة، خناثة ألر الرّحمة...) وهذا ما يثير عدّة أسئلة، فالرّوائي أرجع سرّ ذلك إلى أن تلك الحروف تحمل اسم قامة من القامات التي تحمل عبء هذا العالم وتعيد إليه الأمن والأمان، كما أن الحرف هو المادّة الأولية لعمليّة الكتابة والكتابة هي المعرفة والعرفان «وعلم الحروف هو العلم القويم والطريق المستقيم الذي خاضت بحاره العلماء القدماء وتوعّرت فيه الأئمّة العظماء»(أحمد بن علي البوني، دس، ص 6)

3.                      . 4- توظيف الأسطوري والعجائبي

إن العجيب والأسطورة خطابمقصود ذو معنى ودلالة، والأسطورة تحمل معنىً ومرجعا، هذه المرجعية هي تاريخ النّشأة، والخلق، والصّراع من أجل البقاء. لكن توظيفها في هذا المتن الرّوائي، نزع عنها مفهومها الأوّلي وأُلبست معنىً نورانيّا ومفهوما معرفيّا؛ ذلك أن صاحبها ينزع بها نزوعا عرفانيّا ويستعين بها كمخلّص من نزعات نفس السّالك وعقبات الطريق. في رحلة النّور هذه؛ حيث يجعل منها حارسا للأسماء الإلهية تارة، وتارة أخرى يجعل منها مفاتيح الدخول إلى عوالم النور ذاتها، لكن كيف طوّع هذه الأساطير وجعلها خادمة له؟ وبما أن الأدب هو الخطاب الذي يُطرح فيه سؤال المعنى والحقيقة فما علاقته بالعجائبي؟ أم أن الأسطورة تقول شيئا لا يمكن أن يُقال بطريقة أخرى.

إن الأسطورة نوع من السّرد أيضا. وهي تحتوي على طاقة إيحائيّة ودلاليّة، كما أنها تشكّل بالنسبة للرّوائي الملاذ الروحي والآمن ورمز الطّهر والعفاف، كما أنها بناء ثان للنّص يشدّ أنقاضه ويرمّم شقوقه، والأسطورة التي وظّفها ابن عرفة ليست من الأساطير التي تتحدّث عن الآلهة وتفسّر نشأة الكون وأصل الإنسان وليست استعمالا للفهم بل لفك رموزهاوجعلها أسطورة نورانيّة، وليست وحوشا أسطوريّة كما في الأساطير الإغريقيّة التي لها فهم ظلماني بينما في "بلاد صاد" لها فهم نوراني.

إن استعانة الروائي بالأسطوري لقابليّة النّص الرّوائي التّعالق مع نصوص أخرى، ومراهنته على نسق لغوي قوامه أيضا تعالق اللّغات وتداخلها، ويظهـر ذلك عند سرد الرّحلة من خلال الصور الأدبيّة والمواقف البديعة والطرائف الغريبة والحكايات المثيرة، ما يدعو للإثارة والتشويق؛ حيث يكشف فيها البطل عن عالم غرائبي ويحكي عمّا شاهده وسمعه وما مرّ به من صعوبات أثناء الرّحلة، ويعبر عن تجاربه الشّخصيّة التي واجهـته أثناء رحلته واصفا إياها وصفا دقيقا. هذا ما يجعل اللّغة تتدفّق بشكل عجيب ويجعل النّصوص عصيّة على القارئ، بما تحتويه من سير وأخبار وحكايات وتداخل الأنواع الأدبيّة.

لقد استطاع ابن عرفة أن يبعث الأساطير بعثا دينيّا لحماية المقدّس من المدنّس حتى يتمثّل الرؤية المستقبليّة ويمنح نصوصه أبعادا كونيّة، فقد أخضع الأسطورة للتّحوير ومنحها بناءً شكليّا وفنيّا وفكريّا بما يخدم فكرته الأدبيّة لتكون مادّته المساعدة لبناء المعنى بعد اللّغة. «ولم تكن تلك الكائنات التي زخرت بها أساطيره سوى نوع من العون المادّي الذي ساعد على إضفاء شكل من أشكال الوجود والذاتيّة»(نضال الصالح، 2001. ص13). يعرض السّارد قصّة علي بابا والأربعين حرامي من مخطوط ألف ليلة وليلة، وهو محاولة التوسّل بالعجائبي لمساعدة البطل في رحلته وإمداده بالآليات والوسائل لاختراق المألوف، حيث مرّ البطل بصعوبات كثيرة في سيره منذ خروجه من مدينة غرناطة «وبينما أنا على هذه الحال إذ تكشّف الغبار عن كوكبة من الفرسان المحجّبين، فزاد رعبي وأمعنت في الاختفاء. وبدا وكأن الفرسان يقصدون المحل الذي اختبأت فيه...ثم سمعت كبيرهم يأمرهم بإنزال أحمالهم وصناديقهم فامتثلوا لأمره. وبعد أن تأكد من خلو المكان من أي أحد تقدّم نحو صخرة في الجبل وقال: افتح يا سم سم»(عبد الإله بن عرفة، ص 168).

إن توظيف عبارة "افتح يا سمسم" من مخطوط "ألف ليلة وليلة" يشي ببنيات خفيّة، تعمل على إبراز ما يريد الصّوفي الوصول إليه من قدرات هائلة ليكشف الحجب دون الشّك في مصداقيّتها وحقيقة وجودها، فالأسطورة تعمل على خلق نوع من التّشويق المُفضي إلى معرفة المزيد وإدراك الأشياء المخبوءة كما يتطلّع إلى كشف الأنوار للوصول إليها، ووسيلته في ذلك اللّغة بأبجديّتها ورمزيّتها والمتمثلة في كلمة سم سم «...ثم شعرت كأن داعيا يأمرني بأن أنطق مرّة أخرى بالكلمة العجيبة: سِمْ سِمْ سِمْسِمَهْ فأخذت أصابعي تدير الأسطوانات في اتجاه الأحرف السّبعة التي نطقت بها حتى خرج لسان القفل من فتحته فعمّني النّور وغرقت في لجّته. وبعد أن أفقت من سكرتي بدأت معالم الصّندوق تتبدّى لي. فهو كالمدينة العامرة، رأيت فيها بيوتات كثيرة عددها ثمانيّة وثمانون»(المصدر نفسه. ص 170)؛ ما نلاحظه هنا سلطة اللّغة؛ فاللّغة هنا لغة مفتاح يُفتح بها كلّ مُغلق ويُكشف بها كل مجهول، فهي مفتاح كل سرّ غامض ومُتَخَفٍّ، كما أنّها سبيل الخيْر والعمران،  ثم يتنقّل بطل الرّواية في هذه العوالم التي اكتشفها بواسطة اللّغة، فيجد نفسه يلبس الحُلل وهي مثل حلل الملوك، كلّما لبس حلّة من هذه الحلل أكسبته ما أكسبته من المعارف والعلوم «وبعدما لبست هذه الحلل الثّلاث والثلاثين وأكسبتني من العلوم والأذواق ما ذكرت، بقي لي سبع حلل من أرفع الحلل وأثمنها ولا تُضاهيها باقي الحُلل لا شكلا ولا لونا...فهي أجمع من غيرها وأوعب من سابقاتها... أخذت أولى تلك الحلل وقبضتُ عليها كما قبض يعقوبُ على قميص يوسف فسرت فيّ الحياة الأبديّة ثم لبست حلّة ثانيّة فأكسبتني العلم الإحاطي، ثم لبست حلّة ثالثة فرأيت كل شيء مرادا لي، ثم لبست حلّة رابعة فرأيت الأكوان في طيّ قبضتي  ثم لبست الحلّة الخامسة فنطقت بالكلام الأزلي، وفي السّادسة سمعت من كل شيء  بكل شيء، وفي كل شيء، وبكل شيء. أمّا الحلّة السّابعة فلمّا لبستها أبصرت قبل كون الزمان، وبعد أن اشتملت على حلل هؤلاء الملوك واستوفيت كل ما عندهم واجتمعت على ما تفرّق فيهم فزت بكنوز هذا الكهف العجيب(المصدر نفسه. ص 173-174)، وتأويل الكهف هو كهف صدره؛ وهو رمز ديني وقد يدلّ على البعث من جديد، والصّناديق هي صناديق العلوم  ، أمّا الحلل فهي الأسماء. هذا التّأويل على حسب كلام "عبد الحق بن سبعين" شيخ أبي الحسن الششتري، كما سأله أيضا عن تأويل «لماذا كان اللّصوص في الكهف أربعين؟ فأجابني: اعلم أن اللّصوص في قصّة علي بابا هم الحجب المانعة من الوصول إلى الحقيقة، لكن كلمة السّر افتح يا سمسم، هي اسم الله المفرد الذي يفتح كل شيء، وعلي بابا رمز لذلك السّر الذي من سلسلة سيّدنا علي بن أبي طالب، لقول النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". فلكي تدخل مدينة العلم يجب أن تأخذ السّر من البوّاب، وهو سيّدنا علي باب مدينة العلم، وعلي بابا صورة أدبيّة لهذا المعنى»(المصدر نفسه. ص 177)، ثم أكمل له تأويل أربعين من كل شيء، من مرور الجنين في بطن أمّه من سبع مراحل كل مرحلة من أربعين يوما، وكذلك عدم إرسال الله الرّسل إلا بعد تمام الأربعين...

«والعجائبي لا يعني تضمين النّص حقائق غير معروفة بل وسائل غير معروفةفي وعي الحقائق والتعامل معها، إنه استغوار للواقع، ولكن بوسائل غير واقعيّة، تحرّر الإنسان من المألوف، وتنبّهه على المخاطر التي تحدق به ممّا ينتجه هذا الواقع حوله من مفارقات غاشمة تبدّد إنسانيّته.»(نضال الصالح، ص 21)، فهي تحرّر الإنسان من المألوف، وتحرّره من نفسه، «إن الأسطورة ليست اختراقا للمألوف فحسب، بل هي بناء أيضا، بمعنى أنها شكل أدبي له سماته المميّزة من الأنواع الأدبيّة الأخرى»(المرجع نفسه. ص 16).

إنّ التقاء التجربة العرفانيّة مع بنيات خارجيّة لا تمثل الرمز الصّوفي تعتبر قيمة فنيّة للإحساس بإكمال النّقص وإتمامه. النقص الموجود في الإنسان بفطرته. والروائي لم يحرك هذه الكائنات بالكلام بل جعلها رمزا معروفا وهو الشر؛ لكنه تماهى أمام التجربة وامّحى. كما تميّزت التّجربة العرفانيّة في رواية "بلاد صاد" بتمتّع العارف وتذوّقه من المعارف النّابعة من سيره ومعاناته، وتحصله على مقامات وأحوال ومعارف كشفيّة وشهوديّة، وهذا إيحاء بتملّك العارف السّالك الذي وصل مرحلة التحقّق لناصيّة الأشياء مثلما نجد النبي سليمان يُسخّر له الجن ويتحكّم في الشياطين؛ إذ يربطهم في قاع البحار ومنهم من يعملون له القدور والصّحاف، ويأتمرون بأمره، فالعفريت في قصة بلقيس قال له أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وهذا دليل على أنه سخّر تسخيرا لآداء مهامه للنّبي سليمان والتّفاني في خدمته، فرحلة النّور تُزيل كل عتمة، بل تجعل من العتمة مصباحا. ففي عالم العرفان لا وجود للشّر، ولا نزعات النفس ولا الآلام، فهو عالم مثالي مليء بالأنوار. 

3.                       5-  فكرة الإنسان الكامل

الإنسان الكامل مصطلح معروف عند المتصوّفة ويُعرّف عندهم بأنه «هو الجامع لجميع العوالم الإلهيّة والكونيّة الكليّة والجزئيّة، وهو كاتب جامع للكتب الإلهيّة والكونيّة، فمن حيث روحه وعقله كتاب عقلي مسمّى بأمّ الكتاب، ومن حيث قلبه كتاب اللّوح المحفوظ ومن حيث نفسه كتاب المحو والاثبات، فهو الصّحف المكرّمة المرفوعة المطهّرة، التّي لا يمسّها ولا يدرك أسرارها إلّا المطهّرون من الحجب الظلمانيّة. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير حقائقه بعينها نسبة الرّوح الإنساني إلى البدن وقواه، وأن النّفس الكلّيّة هي قلب العالم الكبير كما أنّ النّفس النّاطقة قلب الإنسان، ولذلك يُسمّى العالم بالإنسان الكبير»(علي بن محمد السيّد الشّريف الجرجاني،دس، ص 35)، لقد جمع هذا التّعريف كل الأحوال التي يشملها الإنسان الكامل من حيث كونه جامعا لما هو إلهي وكوني؛ فجاء هذا الإنسان مقترنا بالعالم، فالإنسان صورة مصغّرة لهذا العالم، والعالم صورة مكبّرة للإنسان، فالعالم يكمن في الإنسان ومنه يكون. «ولكن الكمال الذي يوصف به الإنسان هنا لا يعني ما يتبادر للذهن من مدلولات أخلاقية، و إنما في مدلولات أنطولوجية وجودية وغنوصية معرفية ونظرية " الإنسان الكامل " في الحقيقة نظرية في الكلمة (Logos ) (ناجم مولاي،2012، ص140).

يناقش الكاتب والناقد "عبد الرحمان بدوي" فكرة الإنسان الكامل في كتابه: "الإنسان الكامل في الإسلام"، عن بحث أعاد كتابته وترجمته للمستشرق" لوي ماسّينيون" بعنوان: "الإنسان الكامل في الإسلام وأصالته النّشوريّة".  يشرح هذه الفكرة وكيف ظهرت في جميع الدّيانات، وعند كافّة النّحل والمذاهب. فالإنسان الكامل فكرة قديمة قدم الإنسان منذ آدم «فهي عند بني إسرائيل فكرة "عبد يهْوا" فكرة "العادل" المبتلي بالآلام»(عبد الرحمان بدوي،  1976، ص 107)، ويعتقد المسيحيّون في عيسى الكائن الأول «وفي الإنجيل نصّان لا تزال لهما قيمة رؤياويّة (ملحميّة) منقطعة النظير لأنهما غير متحقّقين وهما طوبيّات موعظة الجبل ودعاء التّمجيد، (إنجيل لوقا الاصحاح الأول 46-55)، وما يبشّران به من مجيء الإنسان الكامل»(المرجع نفسه. ص111)وقد عرف بالمخلّص، أمّا في الإسلام شاهد القدم، صوت الروح الذي سيحطّم فعله الرّجعي كل الرموز الوثنيّة، -فيملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا -هذا النّشيد الموحي الذي يدوّي من استشعار الجمال الأزلي المستعاد»(المرجع نفسه. ص108).

كما يناقش "نصر أبو زيد" هذه الفكرة انطلاقا من أن الإنسان الكامل هو ظل آدم؛ فكلما تجرّد من نوازع نفسه وتسلّح بالمعرفة تغلّب على حيوانيّته استحقّ هذه المرتبة (الإنسان الكامل). فالقضية قضية معرفيّة لا وجوديّة،«الفارق بين الإنسان الكامل والإنسان الحيوان ليس فارقا وجوديّا، ولكنه فارق معرفي. والكمال الإنساني أمر متاح ومفتوح لكافّة البشر، فحيوانيّتنا قابلة للسموّ والارتفاع والوصول إلى مرحلة الكمال»(ناصر أبو زيد، 1983. ص 199)،وقد اختلفت تسميات الإنسان الكامل عند المسلمين خاصّة عند المتصوّفة أمثال الحلّاج وابن عربي وعبد الكريم الجيلي...

تعود فكرة الإنسان الكامل عند الروائي "ابن عرفة" إلى ما يراه "ابن العربي" بأنه عبارة عن ثنائيّة وهي: (العالم، الإنسان)، هذه الثّنائية التي تشكّل الوجود الحقيقي لمعنى العالم، وهو الذي يجمع حقائق وصفات إلهيّة وحقائق كونيّة؛ فهو هذا العالم وهذا الوجود، «فلا يزال العالم محفوظا مادام فيه الإنسان الكامل»(ابن العربي محمد بن علي، دت، ص 50). الإنسان يجمع في ذاته كل ما في العالم وبذلك يكون (الإنسان) عالما صغيرا و(العالم) إنساناً كبيرا.  والنّفس النّاطقة هي الإنسان الخليفة الذي يتولّى أمر المسلمين فهو العالم والأصلح والعادل. لقد جاء في رواية "بلاد صاد" على لسان البطل امتلاكه خاصيّة العلم والمعرفة التي تميّزه عن سائر المخلوقات بما فيهم الملائكة، وتجعل منه خليفة لهذا العالم. بعد الحوار الذي جرى بين "أبي الحسن الششتري" و"ابن سبعين" حول أسرار جمال الطبيعة وأن الإنسان جزء من هذه الطبيعة، (الله مع الطّبيعة) أي أنه جزء من هذا الجمال، والجمال سر من أسرار المعرفة، إلى أن يقول أبو الحسن الششتري: إنّها بكل اختصار قوانين جمال الكون ونحن جزء من هذا الكون، إلا أننا أدركنا سرّ استخلافنا على الكون بمزيّة المعرفة. وهذا هو السرّ الأعظم في كون الإنسان عالما صغيرا، والعالم إنسانا كبيرا، فالإنسان الكامل هو النفس النّاطقة للعالم (ينظر: عبد الإله بن عرفة: بلاد صاد. ص307).

يتحدّث "عبد الإله بن عرفة" بلسان أبي الحسن الشّشتري عن "الإنسان الكامل"، الذي هو سرّ هذا الكون والعالم، والعارف والمعروف، لكن بمزيّة المعرفة، التي هي في الأصل جمال الطبيعة، هذا الجمال هو التّماهي والتّوحّد المطلق معها، هو الوجود المطلق.

إن تأويل الإنسان الكامل هو ظاهر وباطن؛ فالظاهر هو الوجود، والباطن هو المعرفة.  فالعالم الإنساني هو المقصود من هذا الوجود، أي الوجود خُلق من أجل هذا الإنسان. وهذه المعرفة الجمال سرّ من أسرارها.

4.                       خاتمة

رواية "بلاد صاد" رواية عرفانيّة قامت باستحضار قامة من قامات العرفان الإسلامي أبي الحسن الششتري، وسرد سيرته، ونقل أخباره في حلّه وترحاله، فهو أظهر للقارئ أسرار معرفته وسبل سيره وطريقة سلوكه، وجعله يؤثر في قارئه ليقتدي به في السّير والسّلوك أيّما تأثر في جميع مقاماته وأحواله، وجعلته يتتبّعه في جميع أحواله منذ الولادة إلى الوفاة، حتى لكأنه أراد أن يكون هو هو.  فالرّواية تسعى إلى:

-التّأسيس لرواية جديدة "الرواية العرفانيّة". ولأدب قائم على السّفر، السّفر الرّوحي التأملّي.

-توظيف الحروف المقطّعة التي تبتدئ بها بعض السّور القرآنية، وهو عمل سعى إلى خلق أدب جديد ذي مرجعية قرآنيّة.

-إعادة قراءة التّاريخ الإسلامي الرّوحي، بتوظيف التّراث الصّوفي الروحي وسير وتراجم الشّخصيات التاريخيّة الإسلاميّة قراءة معاصرة وفق رؤية تأويلية، والاقتداء بهم في السّيروالسّلوك، أي قيام الرّواية على الشّخصيّات في ماضيها؛.وهذه الشخصيات هي الحلاج والحسن الشاذلي، وأبو مدين، وابن سبعين...

-توظيف  الحكايات التراثيّة ككتاب "ألف ليلة وليلة" من خلال  قصّة "علي بابا والأربعون حرامي" التي عدّت من القصص الشعبي، وذلك بإعادة بعث هذه القصّة  من جديد، بثوب جديد ورؤيا مخالفة لما كانت عليه في السّابق خاصّة عبارة "افتح يا سم سم" من هذه القصّة الشّعبية العجائبية، واتخاذ هذه العبارة مفتاحا لغويا للدخول إلى كهف الكنوز والمعارف المحاط بالعقبات؛ فكانت هذه العبارة  كناية عن مفتاح الأسرار، واللّصوص الأربعون كناية عن الحجب المانعة من الوصول إلى بلاد الذّات العليّة، وسند عرفانيّ للولوج إلى آفاق معرفيّة وتأويلات عرفانيّة وجماليّة.

- الإنسان الكامل هو من له حق خلافة العالم لأنه استمد قوانينه وفق الشّريعة الإسلاميّة مقتديا برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم،-ولأنه يمثل الإنسان الذي هو صيد الحق.

ما فعله الششتري عبارة عن رسالة لكل مثقف، يعي المرحلة التي يمرّ بها ويعمل على تجاوزها، فالمعرفة ضرورية لوعي الإنسان وفهمه، وذلك بأن يعيد قراءة ماضيه وحاضره، وهذه الوقفة لابد منها في عصر السّرعة والتّقدم الهائل، وضياع الإنسان في متاهة القيم والأفكار

قائمة المصادر

  1. علي شيرواني: الأسس النظرية للتّجربة الدينية-قراءة نقدية مقارنة لآراء ابن عربي ورودلف أت، و-، تر: حيدر حب الله، ط1، الغدير، 2003. بيروت.
  2. أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري: لسان العرب، مجلد 10، ط1، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، (د ت).
  3.  أحمدبنمحمدبنعليالمقريالفيومي: المصباحالمنيرفيغريبالشرحالكبيرللرافعي، تح: عبد العظيم الشناوي، ط2، دار المعارف، القاهرة، (د.ت). ص 404 405.
  4. محمد شقير: فلسفة العرفان، ط1، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2004.
  5.  مجموعة من الأكاديميين: جدلية العلاقة بين التصوف والعرفان في الإسلام، إشراف وتحرير: عامر عبد زيد الوائلي، ط1، تموزة، دمشق، 2014. .
  6. سعيد بنكراد: السرد الروائي وتجربة المعنى، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2008.
  7. عبد الله الأنصاري الهروي: كتاب منازل السائرين، دار الكتب العلمية، بيروت. 1988.
  8. شمس الدين ابن القيم الجوزية: مدارج السالكين (بين إياك نعبد وإياك نستعين) تح: محمد حامد الفقي، محمود النادي، ج 2، دار ابن الهيثم، القاهرة، 2004.
  9. شفيق جرادي: العرفان ألم استنارة ويقظة موت، ط1، دار المعارف الحكمية،2009.
  10. محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية النظم المعرفية في الثقافة العربية نقد العقل العربي (2)، ط 9.
  11. عبد الرحمان بدوي: الزمان والوجود، ط3، دار الثقافة، بيروت، 1983.
  12.  سعاد الحكيم: المعجم الصوفي-الحكمة في حدود الكلمة-ط1، دندرة، لبنان، 1981.
  13. مرتضى المطهري: مدخل إلى العلوم الإسلامية، تر: حسن علي الهاشمي، ط1، دار الكتاب الإسلامي، 2007.
  14.  أدونيس: الصوفية والسوريالية، ط3، دار الساقي، لبنان، (د-س)،
  15. محمد شوقي الزين: تأويلات وتفكيكات فصول في الفكر الغربي المعاصر، منشورات الاختلاف، ط 1، تونس،2015.
  16. أدونيس علي أحمد سعيد: الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والابدال عند العرب، ط3، دار العودة، بيروت، 1982.
  17. عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الدمشقي: تفسير القرآن العظيم، مجلد 1، ط1، دار صادر للطباعة والنشر، 1999، بيروت، لبنان.
  18. علي بن محمد السيّد الشّريف الجرجاني، معجم التعريفات، تح: محمّد صدّيق المنشاوي، (د، ط)، دار الفضيلة، مصر.  (د، س). ص 29.
  19. عبد الإله بن عرفة: بلاد صاد.
  20. شمس الدين ابن القيم الجوزية، مدارج السالكين (بين إياك نعبد وإياك نستعين) تح: محمد حامد الفقي، محمود النادي، ج 2، دار ابن الهيثم، القاهرة، 2004.
  21. محيي الدين بن عربي: الفتوحات المكية-السّفر الثالث-، تح. تق: عثمان يحي، ت.م: إبراهيم مدكور، الهبئة المصرية العامة للكتاب، 1985.
  22. ناصرحامدأبوزيد،إشكالياتالقراءةوآلياتالتأويل،المركزالثقافيالعربي،ط2، بيروت،1992.
  23. عبد الرزاق الكاشاني: معجم اصطلاحات الصوفية، تح: عبد العال شاهين، ط1، دار المنار، القاهرة، 1992.
  24. ناصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة وآليات التّأويل.
  25. محمد بن جبار بن الحسن النفري: كتاب المواقف والمخاطبات، تح: آرثر يوحنا أربرى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1998.
  26. حسن علي، خصائص الحروف العربية ومعانيها، (د.ط)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، (د.س).
  27. حسن علي: خصائص الحروف العربية ومعانيها.
  28. أحمد بن علي البوني، الكشف في علم الحرف، (د، ط)، مؤسسة النور للمطبوعات، (د، س).
  29. نضال الصالح: النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، (د.ط)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001.
  30. علي بن محمد السيّد الشّريف الجرجاني: معجم التعريفات، تح: محمّد صدّيق المنشاوي، (د، ط)، دار الفضيلة، مصر (د، س).
  31.  ناجم مولاي: مفهوم الإنسان الكامل في الفكر الصوفي، مجلة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية، ع 7، جامعة عمار ثليجي، الأغواط، 2012. 
  32. عبد الرحمان بدوي: الإنسان الكامل في الإسلام (دراسات ونصوص غير منشورة)، وكالة المطبوعات، ط2، الكويت، 1976، ص 107.
  33. ناصر أبو زيد، فلسفة التأويل – دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي-، ط1، دار التنوير، بيروت، لبنان.  1983.
  34. ابن العربي محمد بن علي، فصوص الحكم، تح، أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، (د.ت).

@pour_citer_ce_document

سليمة عشو, «توظيف العرفان في رواية "بلاد صاد"»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 245-255,
Date Publication Sur Papier : 2021-06-30,
Date Pulication Electronique : 2021-06-30,
mis a jour le : 04/07/2021,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=8403.