مقدمة

بات من الضروري عند خوض غمار الكتابة التاريخية للمغرب الوسيط، استحضار الحركة الصوفية، وذلك استجابة لما تتطلبه المقاربة الشمولية" التي يتماهى فيها الحدث بالبنية أو بتعبير آخر تتشابك فيها الوقائع التاريخية بالمعرفة التاريخية²فمن المُسَلّم به أنّ الظاهرة الصوفية شكّلت إحدى أهم الميزات البارزة في البنية الحضارية لتاريخ المغرب الإسلامي، خاصة وأنّ الممثلين الشرعيين لهذه الظاهرة – المتصوفة والأولياء-أصبحوا عنصرا فاعلا على جميع الأصعدة في مجتمع المغرب الإسلامي، بما في ذلك مساهمتهم ذات الخصوصية والتميز  في الملمح الثقافي، كما الديني والروحي وحتي الأمني.

إنّ تغلغل الأولياء في جلّ البنيات المكونة لمجتمع المغرب الإسلامي استوقفنا لنفكر بجدية، في البحث عن موقف الولي بما يحمله من ثقل رمزي وروحي في مجتمعه من المظاهر الإجرامية، ونبحث في قضية الفرضية التي أردنا الانطلاق منها والتي نستعرضها في إشكالية مفادها: إلى أي مدى يمكن اعتبار ظاهرة الجريمة عنصرا من عناصر صناعة المجال الحيوي لتدخل الولي؟ وإلى أي مدى تمكن الولي من الحدّ من ظاهرة الجريمة، والتخفيف من تداعياتها؟ وما هي أهمّ الميكانيزمات التي اعتمدها الولي في ذلك؟ وما هي الخصوصية التي تفردت بها التجربة الصوفية في محاربة الإجرام؟  

فالموضوع إذا يبحث في ثنائية الحدّ من تجليات الجريمة والتخفيف من تداعياتها، انطلاقا من قراءة في تجربة الأولياء في ذلك، من خلال كتاب التشوّف لأبن الزيات التادلي"³حيث نتخذه كمرجعية أساسية في بحثنا، لاعتبارات منها أنّه يضمّ تراجم وافية قاربت 300ترجمة لرجال التصوّف المغاربة، موزعين عبر مراحل حساسة من تاريخ المغرب الإسلامي خاصة المرابطي والموحدي، وهذا الكم من التراجم له من الوزن ما يجعلنا نتخذه كعينة لدراسة تجربة الأولياء في التصدي والتخفيف من حدّة الأزمات التي كانت تهدّد مجتمعهم. خاصة وأنّ نصوص التشوّف التي تعرضت للمحطات المهمة من الحياة الاجتماعية للولي، والأمر الآخر كون كتاب التشوّف للتادلي شكّل نقطة ارتكاز للنخبة الكاتبة في ميدان المناقب التي جاءت بعده وظلّ من مقروءاتها المفضلة، وملاذ المظلومين الرازحين تحت القهر الاجتماعي يستأنسون بحلوله الغيبية (الطاهر بونابي، أطروحة دكتوراه العلوم، رسالة غير منشورة، ص 681).

إلا أنّ ذلك لا يعني الاقتصار عليه بل إنّ مقاربة حضور الولي والاعتقاد فيه ينطوي ضمن تاريخ الأمد الطويل لذلك سنرصد تدخلات الولي في مراحل تتجاوز فترات الأولياء الذين ترجم لهم المؤلف تصل إلى نهاية العصر الوسيط.

وأما ما يكسب هذه المقاربة التاريخية أهميتها، هو كونها تُسفر عن صورة الولي المسكوت عنها، وتُجلي وجهه الآخر وتبتعد بنا عن الصورة الذهنية النمطية المألوفة، ولا شكّ أنّ ذلك يتكفل به وقوفنا على ما اضطلع به الولي من مهام أمنية وردعية وإصلاحية للمجرم وتكافلية للضحية عزّ نظيرها من ناحية الأساليب والوسائل، إذ أنّ هذه المهام أصبحت من صميم ما يختص به الأولياء، مما جعل منهم أصحاب مشروع بديل ذي خصوصية له فلسفته في محاربة ظاهرة الجريمة.

كما أنّ هذه الدراسة، تجعلنا في تماس مع عقلية المجتمع المغربي في العصر الوسيط نهدف من خلالها تحديد أبعاد الأفق الذهني لساكنة المغرب الإسلامي واعتقاداتهم وجانبا من متخيلهم، فالتاريخ بلا مخيال يبقى تاريخا مبتورا كما يرى جاك لوغوف Jacques Le Goff، فالناس -بما في ذلك ساكنة المغرب الإسلامي-لا تعيش بالطعام والشراب فقط بل عاشت أيضا بالاعتقاد في كرامات وعجائب سمعوا عنها أو توهموا رؤيتها (محمد حبيدة، 2019، ص 106)، وهو ما نريد أن نسفر عن جانب منه.

اعتمادنا على المنهج التاريخي بتوظيف مختلف آلياته، بتتبع واستقراء الروايات، مرورا بالتحليل والتعليل، كما يستدعي الموضوع في بعض جوانبه آلية الوصف، كما رافقتنا آلية الاستنتاج طوال البحث.

 في نهاية هذا التقديم يجب التنبيه لمسألة غاية في الأهمية، وهي أننا نتعامل مع نص منقبي تقوم بنيته في الغالب على روايات تعتمد السرد الحكائي لكرامات الأولياء التي "يذكرها الصوفي مقتنعا، ويقدمها على أنها حصلت وتحصل فعلا" (علي زيغور، 1984، ص 22)  ومع أنّ بعض الباحثين يرى بأننا غير معنيين بالتفسير الغيبي للكرامة، أو بوصفها بالمعقول واللامعقول لأنّ ذلك حسبهم ليس من وظائف المؤرخ (ينظر على سبيل المثال: الطاهر بونابي، ص 675؛ محمد فتحة،1999،ص 196)، إلا أننا نرى أنها أمور من صميم وظائفه؛ فالمؤرخ مسؤول على  ربط الكرامة بسياقاتها التي انطلقت فيها، وقراءة خطاباتها المتنوعة التي لا شكّ أنها نسيج واقع معيش، ومعبر عن ذهنية اجتماعية سادت، وعن جانب روحي للمجتمع، وواقع مأمول وكلّ هذه العناصر كفيلة  بتحديد الأبعاد الحياتية للمجتمع في جميع تجلياتها  حسية كانت أو معنوية.   

أولا: مشروع الولي في مكافحة الجريمة

"عرض للأساليب والآليات"

لا شكّ أنّ ملامسة نتائج تدخل الأولياء في الحدّ من ظاهرة الجريمة والتخفيف من ضرر تداعياتها، يقتضي منا قبل كل شيء الانطلاق من الاستراتيجية التي اعتمدها الولي في تعامله مع مصدر الجريمة؛ أي مع المجرم في حد ذاته، ولا شكّ أنّ تعامل الولي مع المجرم وتجاوب هذا الأخير يخضع لشخصية الولي والمجرم على السواء، وفي سبيل إنجاح مشروعه سخر له  الولي "ترسانة من الميكانيزمات"  عمل على تفعيلها، حسب طبيعة المجرم وتراتبيته الاجتماعية، كلّ ذلك في سبيل محاصرة ظاهرة أرّقت المجتمع، في ظلّ واقع مشحون بالظرفيات  السياسية والأمنية المضطربة ساهمت في تهيئة المناخ الحيوي لتفاقمها، وجعلت من تدخل الولي ضرورة حتمية لمحاولة إصلاح الواقع.

1- الولي وإصلاح المجرم

" من الإجرام إلى الولاية"

 في تتبعنا لسير ومناقب الأولياء من خلال كتاب التشوّف، لفت انتباهنا ظاهرة تحول المجرم من اللصوصية أو الحرابة أو الدعارة، إلى الولاية، وفي كثير من الأحيان يكون ذلك على يد ولي، إما بالدعاء أو لكرامة ينبهر بها المجرم، أو مكاشفة (ينظر الجدول رقم 01)

اعتمدنا في وضعنا للجدول رقم 01(المُدرج آخر المقال) على استقراء التراجم التي وضعها صاحب التشوّف لأعلام التصوّف وأوليائه لنبرز دورهم الإصلاحي لمجرمي مجتمعهم ، وارتأينا وضع المجرمين الذين تابوا والتحقوا بتيار التصوف بل وأصبحوا من الأفراد والأولياء والصالحين، وتمّ غضّ الطرف عن توبة الجماعات أو الأشخاص الذين لم يشر صاحب التشوّف إلى مرحلة حياتهم ما بعد التوبة، وتوقف عند حدود ما أحدثوه من توبة بفضل تدخل الأولياء بإحدى آلياتهم ،كاللصوص الذين أعلنوا توبتهم على يد الولي أبي حفص عمر بن يعقوب (ت 595ه) بعد رؤيتهم لكرامة مشيه على الماء (أبو يعقوب يوسف بن يحي التادلي (ابن الزيات)، 1997، ص309.) والأمر نفسه ينسحب على اللصوص الذين اعترضوا طريق أبي مدين شعيب فوعظهم فتابوا على يده (المصدر نفسه، ص 321).

مهما يكن، فإنّ أوّل منفذ تسلل من خلاله الولي لإصلاح مجرمي مجتمعه هو الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، حيث يرى أحد الباحثين بأنّ تدخلات الولي تلقى قبولا اجتماعيا على اعتبار أنه يستمد أحقية هذا التدخل لا من سلطة دنيوية بل إنّ تدخله يعبر عن إرادة سماوية إلهية، متسائلا في الوقت نفسه عن إمكانية ولادة خطة حسبة جديدة من منظور صوفي (محمد سعيد، 2018، ص 317)

وفي تقديري إنّ أبلغ ما يمكن عده مؤشرا لترحيب المجتمع بتدخل الولي للحدّ من الجريمة والتخفيف من تداعيتها، سلوكان صدرا عن فئتين من المجتمع، السلوك الأول جسدته الفئة المتضررة من الجريمة (ضحايا الجريمة)، التي وجدت في الأولياء سلطة رمزية رفعت لها شكاوى ضد المجرمين، والسلوك الثاني هو استجابة المجرم بالتوبة والعدول عن الجريمة في حال تدخل الولي، والقرائن المؤكدة لهذا التجاوب السلوكي الجدلي كثيرة نكتفي في هذا الصدد بالتدخل الذي قام به الولي أبو محمد عبد السلام التونسي (ت 589ه/ 1193م) بعد شكوى رفعها إليه أهل تلمسان من رجل من أهل الدعارة كان قد أكثر في أذيتهم "فلقيه عبد السلام فأخذ بأثوابه وضرب به الحائط ... فتاب الرجل إلى الله تعالى وأقبل على العبادة إلى أن لحق بالأولياء" (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 111، 112.).

 كما أنّ اندماج الأولياء مع مجتمعهم، ومعايشة ظروفه جعلهم يطلعون من نقطة قريبة على مواطن الخلل وبذلك محاولة إصلاحها، فالأولياء كما يقول الباديسي" يكونون بين الناس ... يرحم الله بهم العباد، يشتغلون بما يشتغل به الناس من سائر الحرف والمكاسب" (عبد الحق بن إسماعيل الباديسي، 1993، ص 20.) فقد مارس بعض المتصوفة التجارة ومن المعروف أنّ هذا النشاط مرتبط بالسفر الذي من شأنه أن يجعل الولي وفرق الحرابة واللصوص وجها لوجه، هذا الاحتكاك لم يكن ليفوته الولي دون أن يغتنمه في وعظه للصوص كما مرّ معنا ، أو الدعاء لأهل الحرابة بالتوبة، فقد ذكر صاحب التشوف أنّ الولي أبو زكرياء يحي الدرعي، كان في قافلة فمروا بلصوص كانوا يريدون قطع طريقهم، فسقط حمل الشيخ عن دابته فقام رجل من اللصوص يدعى يحي ابن أبي بكر الدرعي، ورفع الحمل على الدابة، فدعا له أبو زكرياء بالتوبة، فأقلع اللص من حينئذ، وصار من الأولياء الذين تخصهم الساكنة بالزيارة (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 408).

كما كان للكرامات التي تظهر على الأولياء أثر كبير في نفوس المجرمين، بل وكانت سببا في توبتهم والتحاقهم بالصالحين والأولياء، ويشهد على ذلك توبة أحد اللصوص السودانيين بعد معاينته لكرامات الشيخ أبي عبد الحق عبد الصمد بن إسحاق الهسكوري (ت 591ه) فقد" لزم بيته ولم يخرج منه وأقبل على عبادة الله تعالى إلى أن لحق بالصالحين" (المصدر نفسه، ص 361.).

ولعل أهم شيء راهن عليه الأولياء في إصلاحهم لانحراف مجتمعهم، والعمل على إعادة إدماج مجرميه اجتماعيا، هو تقديم أنفسهم كقدوة حسنة، بتمثل القيم الأخلاقية في سلوكهم، هذه الفلسفة الصوفية في الإصلاح عبّر عنها أبو مدين شعيب بقوله: "الشيخ من هذبك بأخلاقه وأدبك بأطرافه وأنار باطنك بإشراقه" (عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي، 1994، ص 669)،  فلم يكتف الأولياء بالوعظ والدعاء وظهور الكرامة على أيديهم فحسب، بل ترجموا القيم الأخلاقية إلى واقع سلوكي عملي فكان له تأثير على سلوك المجرمين ويكفي أن نقدم الولي أبو وكيل ميمون الأسود الذي خصه صاحب التشوّف بترجمة كاملة كمثال على ذلك بحيث ذكر أنه في ابتداء أمره كان سارقا، وقد احتاج إلى أضحية فمرّ إلى قطيع أحد الصلحاء، فاكتشف أمره من قبل راعي الغنم، وزجره وأمره بالتوبة، إلا أنّ صاحب الغنم والذي بدوره كان رجلا صالحا، أراد أن يعظ اللص بطريقته فأمر بأن يُحمل له نفس الكبش الذي أراد سرقته" فلما سيق إليه امتلأ أبو وكيل عجبا وازداد بصيرة. فلزم الطريق إلى أن لحق بالأفراد" (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 234).

     وتجدر الإشارة أنه لا غرابة أن يضطلع الأولياء بتأمين طرق القوافل من فرق قطاع الطرق خاصة وأنّ بعضهم كان قاطعا للطريق في مرحلة سابقة من حياته فبالإضافة إلى أبي وكيل، نجد الولي أبو يعقوب تصولي المحاسبي الذي كان لصا يقطع الطريق، وبعد توبته أصبح يرافق قوافل المسافرين لتأمين طريقهم (ابن الزيات التادلي، المصدر نفسه، ص 131)، فالولي لم يدخر جهدا في سبيل حماية مجتمعه باستفادته من خبراته الميدانية السابقة.

      استنادا لهذه القرائن يمكن القول: بأنّ الأولياء اضطلعوا بمهمة إصلاحية، استهدفت فئة خطيرة في المجتمع حيث تمكن الأولياء من خلال آلياتهم المختلفة التي أثبتت فاعليتها وسرعة أدائها، والتي تراوحت بين ما هو سلوكي ومعنوي قيمي وبين ما هو كرامي، وظفها الولي في نقل المجرم من وضعية اجتماعية وحالة نفسية إلى أخرى مغايرة تماما بشكل مفاجئ يتم ذلك باسم التوبة، وهو الأمر الذي تنبه له العديد من الباحثين⁴وبالرغم من إدراكنا لمبالغة النص المناقبي الذي يتداخل فيه "الواقعي بالمتخيل" (سعيد بنحمادة، 2017، ص 197)، إلا أنه يبقى مرآة عاكسة لهموم المجتمع ومشاكله، ومن جانب آخر يصور لنا الأفق الذهني لإنسان المرحلة الوسيطة، كما يشي  بغياب السلطة في بعض مراحل ضعفها الأمر الذي فسح المجال واسعا لتنامي سلطة الولي .

2- كرامة المكاشفة "ثنائية فضح المجرم وردعه"

   صوّرت لنا النخبة الكاتبة في ميدان المناقب – بما في ذلك ابن الزيات في تشوّفه -أنّ للأولياء قدرات ومواهب جعلتهم يتميزون عن غيرهم، الأمر الذي مكنهم من تولي أدوار اجتماعية وأمنية، لا يمكن أن تسند لغيرهم، خاصة فيما يتعلق بردع المجرمين، وكشفهم وكشف مخططاتهم، وذلك كله بنوع خاص من الكرامات يعرف "بالمكاشفات"⁵، التي عادة ما يستعرض من خلالها الأولياء قدراتهم ويمارسون سلطتهم، بما كانوا يقومون به من إخبار الناس بأمورهم الغيبية  وبما قد يعترض حياتهم من كوارث ووقائع (بونابي، الحركة الصوفية، ص 683)  ليكونوا في أهبة واستعداد نفسي ومادي لأي طارئ.

   وعليه تعمل كرامة المكاشفة على التخفيف من حدة الجريمة على المستويين المادي والنفسي، وكمثال على ذلك نستحضر ما كاشف به أبو يعزى يلنور(ت 572ه)  ما سيعرض لأبي مدين شعيب في طريقه حيث أخبره بأنه سيعترض طريق سفره ثلاثة لصوص وطمأنه بأنه سيتوب على يده رجلان ويقتل الثالث لعدم استجابته للموعظة (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص321)، وهو ما حصل فعلا وفق السرد الحكائي لهذه الكرامة.

والظاهر أنّ مكاشفات الأولياء قد عززت من ضبط المجتمع، خاصة وأنه سيطر على ذهنية مجتمع هذا العصر اعتقاد مفاده أنّ الولي "يتكلم على الخواطر ويكشف مخبآت السرائر" (ابن صعد التلمساني، 2009، ص 135.)، ولا شكّ أنّ هذا الاعتقاد سيكون أثره على سلوك ونفسية الساكنة شديدا، وكأنهم تحت حراسة ورقابة مشددة لا تتوانى في فضح المجرمين، فتصبح بذلك كرامة الكشف قيدا نفسيا وذهنيا يلوح به الولي في وجه المجرم كما هو حال أبي يعزي الذي كان يقول:" للواصلين إليه سرقت يا هذا وزنيت يا هذا وفعلت يا هذا كذا وكذا، فيذكر لكل واحد فعله" (ابن الزيات: المصدر السابق، 215) وهو ما يجعل المنحرفين بين الخوف والحرج من الأولياء، لذلك كان أسلوب الكشف محلّ نقد عند بعض المقربين حتى للولي ذاته (- ابن الزيات، المصدر نفسه، 215)، وإن كانت مكاشفة الولي للمجرم بجرائمه عادة ما تنتهي بإعلان توبته كما هو حال من كان يزني بزوجة أخيه عند غيابه فلما كاشفه أبي يعزى بفعله أعلن توبته (- ابن الزيات التادلي، المصدر نفسه، ص 214)، ولا شكّ أنّ  عامل الانبهار من قدرات الولي له دور كبير في هذا التحول. 

 كما ساهم هذا النوع من الكرامات في الكشف عن العديد من الجرائم، كشرب الخمر والمتاجرة به (ابن الزيات التادلي، المصدر نفسه، ص427)، والسرقة، وتكفلت أيضا بالتوصل إلى الأماكن التي يتخفى بها المجرمون (ابن الزيات التادلي، المصدر نفسه، ص393)، فقد صورت لنا كتب المناقب أنّ كرامات المكاشفة كانت بمثابة جهاز استخبارات – إن جاز التعبير-بالإضافة الى كونها آلية وظفها الأولياء لحلّ مشاكل ضحايا الجريمة وهو ما سنعالجه في عنصر لاحق.

  ومما يمكن استنتاجه في هذه الجزئية أنّ الأولياء وظفوا كرامات المكاشفة كسلاح ترك المجتمع ككل والمنحرفين منه بالخصوص في خوف من سطوة الولي⁶، وهذا النمط من الكرامات بالإضافة إلى كونه هاجم التميع والانحلال الأخلاقي بلا هوادة⁷، فإنه أسهم في عرقلة الجريمة، والتخفيف من أضرارها وكشف مواطن الإجرام، واضطلع بدور توبة المجرم واندماجه اجتماعيا، وتجدر الإشارة إلى أنّ فاعلية آلية المكاشفة تقوم أساسا على اعتقاد الساكنة بقدرات الأولياء الخارقة خاصة الاطلاع على مخبآت الأمور.  

3- الأولياء والتصدي العنيف للمجرم " 

فضلا عن الأساليب الحليمة التي اتبعها الأولياء في التصدي للمجرمين، ومحاولة إصلاحهم وإدماجهم اجتماعيا، والتي تراوحت بين الوعظ والدعاء لهم بالهداية والتوبة، وانبهار الساكنة بما يصدر عنهم من كرامات  كما أشرنا سابقا، فإنّ تتبع مضامين نصوص التشوّف سمح لنا بالوقوف  على أساليب مواجهة عنيفة، اضطلع بها صنف من الأولياء أطلقت عليه الباحثة سلامة العامري" الولي الجزار" (نللي سلامة العامري، 2001، ص383، ويبدو أن الباحثة استندت في إطلاقها لهذا الوصف لنموذج من الأولياء الذين وظفوا كرامات عنيفة إلى المنوبية التي قالت: "أنا والله جزارة، شفرتي في يميني وسيفي في يساري" ينظر: نللي: المرجع نفسه، ص 387)، حيث تضمنت تراجم التشوّف العديد من الأولياء الذين يندرجون ضمن هذا النموذج، ويمكن تمييزهم من خلال كرماتهم التي وظفوها في سبيل محاصرة الجريمة وردع المجرمين، والتي تراوحت بين كرامات الانتقام والسخط (المرجع نفسه، ص 384)، و توظيف العنف السياسي في الكرامة (الطاهر بونابي، الحركة الصوفية، ص 675).

  وقد تعددت طرق انتقام هذ الصنف من الأولياء" في كرامات القتل حيث تصور لنا كتب المناقب أنّ الحيوان يصبح سلاحا في يد الولي يستخدمه للدفاع عن نفسه أو غيره، بتسليطه على المجرم، ولا تعوزنا القرائن لإثبات هذا الطرح، ومن ذلك أنّ الولي أبو جبل يعلى (ت 503ه) عندما تعرض له سارقان لأخذ عباءته ناشدهما الله أن ينصرفا عنه فرفضا، فدعا عليهما فاختطف الأسد أحدهما وهرب الثاني (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 103)، كما وظّف بعض الأولياء نفس السلاح في القضاء على كل لص سولت له نفسه سرقة مزارع الفلاحين، فعندما شكا فلاحو سلا للولي أبي الحسن نجا(ت 595ه) اللصوص الذين استأصلوا ما في كرومهم من العنب فدعا عليهم "فبعث الله في كرومهم دويبة تعرف بالرتيلة؛ فكلّ من دخل فيها تلسعه فيموت من حينه" (المصدر نفسه، ص 358)، وهي إشارة إلى تفاعل عناصر الطبيعة مع مشروع الولي الردعي.

وفي نفس السياق، نجد الولي العنيف صوب سلاح الدعاء للفتك بالمجرمين، ووضع حداً لأضرارهم النفسية والمادية على الساكنة، كما هو حال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الهواري (ت581ه) فعندما رفع إليه أهل أغمات دعوة ضد رجل كان يتجسس على أملاكهم، فدعا عليه فلم يمكث المجرم إلا ثلاثة أيام وقتل مذبوحا، من خلال النموذجين نجد النص المناقبي صور لنا الولي في صورة محكمة ترفع لها الشكاوى ضد المجرمين، فيتدخل بإصدار حكم الموت بتوظيف آلية الدعاء على المجرم فلا يمكث طويلا حتى يموت.

كما وقفنا على أسلوب آخر يندرج ضمن كرامات الانتقام، ولكنه أقل عنفا أطلقت عليه إحدى الباحثات " كرامات السخط (عقوبة ودعاء غير مشفوع بقتل)" (نللي سلامة، المرجع السابق، ص 384) فقد حذرت كتب المناقب من التعرض للأولياء بحيث ورد في مناقب المنوبية قول منسوب للجنيد مفاده " إذا أراد الله هلاك إنسان عرضه لولي من أوليائه. لا تتعرض لأولياء الله تتعرض لسخط الله. قوم رضاء الله برضاهم ومقرون حبه بحبهم " (مناقب عائشة المنوبية، ص 20، 21 نقلا عن: نللي: المرجع السابق، ص 391) ومن عبارات التحذير التي وظفتها كتب المناقب " إذا ضاق الولي هلك من يؤذيه حالا" (المرجع نفسه، ص 388) لذلك صورت لنا كتب المناقب أنّ كل من يعارض الولي أو يخاصمه يتعرض لمصيبة حتى أصبح الولي أبو العلاء سالم بن عبد القادر الكندي يلقب " حزمة الشوك" لأنّ كل من تجرأ على أذيته  إلا وانصرف بنكاية في جسمه أو آفة في نفسه (طاهر الصدفي، 1998، ص 55)، ولا تعوزنا الإشارات في هذا الصدد عند صاحب التشوّف فقد أورد أنّ رجلا من أهل الدعارة، تعرض للولي الحاج أبي عمران موسى الصاريوي، وهدده بالقتل إن لم يعطه المال، فدعا عليه أبو عمران فأصيب بالجنون فبقي أياما يُصرع ويخنق نفسه" (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 288، 289).

إنّ هذا النوع من الكرامات لم يستخدمه  "الولي العنيف" نحو الفئة المنحرفة من عامة المجتمع فحسب بل وجهه أيضا ضدّ كلّ مسؤول ظالم من أعوان السلطة بل هناك من يرى أنّ جلّ استعمالات العنف الكرامي والانتقام مسلط بالدرجة الأولى على أعوان السلطة (نللي سلامة، المرجع السابق، ص384)، وقد تراوح ما يسمى بـــــ" العنف السياسي في الكرامة" (بونابي، الحركة الصوفية، ص 675) هو الآخر بين كرامة الانتقام القاتلة، وكرامة السخط، ولا تعوزنا إشارات تعضد هذا الحكم، فعن كرامات الانتقام بالقتل، يذكر التادلي أنّ أحد الأشياخ قصد الولي أبي ينور عبد الله، وأخبره أنّ عامل علي بن يوسف(500- 537ه)، هدده بالقتل والصلب، فقال أبو ينور: رده الله عنك، فلم يكد يصل هذا العامل إلى القرية  التي فيها الشيخ حتى أصابه وجع قضى عليه بالموت (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 131)، وسبق أن أكدنا أنّ كتب المناقب تحمل في خطابها لغة التخويف والترهيب لكل من سولت له نفسه التعرض للولي حتى وإن كان من أعوان السلطة ، ولم تكتف بذلك بل عززت بالتذكير بنماذج وكأنها تروج لسلطة أخرى لسلطة الولي وتذكر بالنهايات المأسوية لأصحاب السلطة الذين تعرضوا للأولياء بالظلم أو الاحتقار.

فقد صورت إحدى روايات التشوّف نهاية مفزعة لأحد المسؤولين، حيث سقط على قفاه من فوق فرسه ولم يمت إلا بعد أن تقطعت جميع أعضائه، وسبب ذلك كما تذكر الرواية سخط الولي أبو لقمان يرزجان بن يعقوب الأسود (ت 570ه) عليه كونه لطمه على خده واحتقره وعامله معاملة العبيد (المصدر نفسه، ص 232).

كما أمدتنا روايات التشوّف، بأسلوب آخر استعمله  الولي العنيف في ردع أعوان السلطة الظالمين ولكنه أقل عنفا، حيث يعمد الولي بواسطة الدعاء  الى تفعيل  "سلاح الألم والوجع" ضد المجرم أو المسؤول الظالم، حيث يستمر  مفعوله إلى أن يعلن عامل السلطة توبته أو تراجعه عن قرار لم يرض الولي، وقد جاء في هذا السياق أنّ أحد عمال منطقة أزمور عزم على ارتكاب جريمة قتل في حق  مجموعة من أهل بلده ظلما دون حقّ، فتوسط لهم الولي أبو شعيب أيوب الصنهاجي (ت561ه) وجاء شفيعا، إلا أنّ هذا العامل انتهره ولم يقبل شفاعته، فدعا عليه فأصابه وجع شديد، ولما علم العامل أنّ الذي توسط هو رجل من  المتصوفة والأولياء، قرر التراجع على قراره وعفا عن الجماعة التي عزم على قتلها فارتفع عنه الوجع مباشرة (المصدر نفسه، ص 188)، من هذه الرواية ندرك أنّ عنف الولي لم يكن شرّا محضا بل كان يضطلع بدور إصلاحي للمجرم والظالم، وبدور إنقاذي للضحية.

كما كان عمال السلطة الذين عُرفوا بالجور يتعرّضون للنكب مباشرة بعد أن يرفع العامة شكواهم إلى الولي، فعندما اشتكى سكان دكالة جور العامل، إلى الولي أبي إسحاق إبراهيم بن موسى (ت516ه) دعا عليه فنكب في ذلك اليوم (المصدر نفسه، ص 421)، ومن هنا نستحضر تساؤل الباحثة سلامة العامري (نللي سلامة، المرجع السابق، ص385) الذي مفاده "إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار العنف المنسوب إلى الأولياء والموجّه ضدّ السلطة السياسية شكلا من أشكال انتقام المجتمع بواسطة الأولياء" ولا شكّ أنّ الصورة التي قدمتها كتب المناقب تشي من جانب خفي إلى أنّ الولي زعيم ثورة اجتماعية ضدّ كلّ طغيان سياسي.

ثانيا-الوظيفة الأمنية للأولياء " تأمين الساكنة في جغرافية جرائم اللصوصية والحرابة"

صوّرت لنا نصوص التشوّف حالة استنفار أفراد المجتمع في فترات اشتداد الأزمة، وفترات غياب الأمن -والتي يمكن اعتبارها  الفترة الحيوية للنشاط الإجرامي- فكانوا  يقصدون الولي في فترة أصبح فيها هذا الأخير "هو المرجع والملاذ و الملجأ" (المرجع نفسه، ص 290)  وأكثر ما يتجسّد ذلك في أثناء عزمهم على السفر حيث يقصدون الأولياء لالتماس الدعاء منهم ونيل بركتهم كإجراء احترازي يجدون نفعه أثناء سفرهم، وهو ما تؤكّده إحدى روايات ابن الزيات التي حدّثه بها أحد أبناء الولي أبو القاسم بن أبي الفضل ( ت601هـ)، مفادها أنّ أحد تجار سجلماسة أخبر والده بأنه وجد بركة دعائه، فرغم خروج اللصوص عليهم سلمت بضاعته التي خبّأها في سدرة (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 380).

وهذه الرواية تظهر آلية " الدعاء" التي وظفها الأولياء لتأمين الساكنة أثناء سفرهم. كما أنّها تظهر جانباً ذهنياً لمجتمع المغرب الإسلامي وهو اعتقادهم في قدرات الولي فكان دعاؤه يمثّل ضماناً للسلامة.

والظاهر أنّ الأولياء كانوا يشعرون بمسؤوليتهم اتجاه أبناء مجتمعهم، لذلك لم يتأخّروا عن تخليصهم مما يعترض طريقهم في أسفارهم، من هنا يمكن اعتبار مسألة تأمين السبل من اللصوص وقطاع الطرق من الأمور التي رسخت فكرة الاعتقاد في الأولياء وتفشّي ظاهرة التبرك بهم لانبهار المجتمع بكرامتهم (بونابي، التصوف في الجزائر، 172).

في اعتقادي أنّه مما  زاد من نجاعة الوظيفة الأمنية للولي هو أنّ الاعتقاد في قدرات الولي المختلفة، لم يتوقف عند الفئة المنضبطة من  المجتمع فحسب بل تعدّاها حتى إلى المجرمين، وهذا ما سهّل على الولي مهمته الأمنية وأتاح له القيام بوظائف مرتبطة بسياقات معيشية لعلّ أبرزها تأمين حركة القوافل والطرق مستثمرا هيبته ورهبته (إبراهيم القادري بوتشيش، 2010، ص48) التي اكتسبها من خلال الرصيد المعنوي الذي منحته إياه  شرائح مجتمعية مختلفة، فأصبحوا بذلك "يمثّلون سلطة غير عادية ورقابة على امتداد التراب المغاربي؛ يتدخّلون بالبوادي لحماية المسافرين والتجار من عيث القبائل البدوية وأهل الحرابة" (محمد فتحة: المرجع السابق، ص 164)،ولعلّ ما يثبت هذا التخريج  هو الدور الذي قام به الولي أبو صالح الهسكوري (ت 593ه ) الذي حدثوا عنه "أنّه كان يجيز الرفاق من المخاوف. فإذا سمع اللصوص بأنه تقدّم رفقة فروا ولم يتعرّضوا لها. وكان يتقدّم الرفاق من بلد إلى بلد على قدميه محتسبا لا يبتغي على ذلك أجرا إلا من الله تعالى" (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 339) فالنص يظهر أنّ الوظيفة الأمنية للولي استندت إلى معطيين معطى الاعتقاد فيه من طرف الساكنة، ومعطى الهيبة والرهبة التي كان يثيرها في نفوس اللصوص وقطاع الطرق، وهذا ما تروج له كتب المناقب.

ويبدو أنّ الساكنة اهتدت الى انتحال بعض صفات  الأولياء، لما لهم من هيبة في نفوس قطاع الطرق فنجدهم يعمدون إلى لبس المرقع لتمويه قطاع الطرق واللصوص الذين اشتد خطرهم، فنجد أنّ هناك من لبس مرقعة لإظهار فقره أو ولايته في طريقه من تونس إلى القيروان (نللي سلامة العامري، المرجع السابق، ص 66)، للنجاة مما قد يعترض طريقه، بل نجد أنّ الأولياء أنفسهم يعتبرون المرقعات سلاح  لقطاع الطرق، لذلك نصحوا مريديهم بلبسها كما أنهم شمتوا في كلّ من تعرض له اللصوص بسبب  تخليهم عن لبسها، خاصة وأنّ لسان حالهم دائما: "إياكم وهذه المرقعات فإنكم تكرمون لأجلها" (محمد لطيف، 2019، ص 232، 233) وفي السياق ذاته لا نستبعد أنّ بني مرين عمدوا إلى لبس مرقعات الصوفية للتنكر في زي الأولياء في طريق عودتهم من القيروان إلى المغرب، وذلك عند انهزامهم أمام العرب سنة ( 794هـ/1393م) بقيادة السلطان أبي الحسن المريني  (731/1331-752هـ/1351م) (ابن قنفذ القسنطيني، 1986، ص 170؛ الزركشي:  1966م، ص 85؛ الطاهر بونابي، ص139) ، لإضلال قطاع الطرق خاصة وأنّ المتصوفة اشتهروا بلبس المرقعات⁸. والظاهر أنّ هذه الحيلة استندت إلى أمر أصبح متداولا بين الناس مفاده " إنّ الفقير (أي الولي) الجيد إذا كان في القافلة لم تنهب " فإنّ كان هذا النص يبين إحدى المقاييس التي تعبّر عن فاعلية الولي (نللي سلامة، المرجع السابق، ص 66)، فإنّه في الوقت نفسه، يخبر من جانب خفي تلك الرهبة والهيبة التي اكتسبها الأولياء في نفوس الساكنة وبما في ذلك اللصوص وقطاع الطرق ليفرض الولي نفسه بهذه الكريزما كسلطة أمنية بديلة، لا يمكن الاستغناء عنها في ظلّ وضع متأزم، ومجتمع خائف.

ومن المؤشرات الدالة على هذه الوظيفة الأمنية أنّ الجمع الغفير من المسافرين كان لا يجرؤ على السفر إلا برفقة ولي لتفادي مخاطر الطريق المختلفة ولو تطلّب ذلك انتظاره لمدة طويلة حيث صوّرت لنا هذا الأمر كتب المناقب في الكثير من المناسبات بما في ذلك التشوّف، ففي مناسبة أخرى تكفّل أبو صالح الهسكوري (ت593هـ) بمرافقة قافلة انتظرته ثلاثة أيام كاملة ويروي لنا ذلك بنفسه قائلا: " فمشيت إلى المعدن فوجدت الرفاق مجتمعة. فقاموا الي وقالوا لي: يا أبا صالح لنا ثلاثة ننتظرك. فقلت لهم: قد جئتكم مكرها غير طائع. فتقدّمهم حتى أوصلهم المأمن" (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 340)

فإن كان النص يفصح عن الهاجس الأمني الذي وصل إليه ساكنة المغرب الإسلامي زمن الموحدين ، فإنه في الوقت نفسه يفصح من جانب خفي بأنّ الولي أصبح محلّ ثقة للجموع المسافرة، وأصبح يمثّل سلطة أمنية بديلة في ظلّ غياب وتقلّص الأمن السلطوي، ويبدو أنّ مهمة تأمين الطرق من مجرمي الحرابة واللصوصية سيتكفل  بها الولي الصوفي  حتي نهاية العصر الوسيط، حيث يذكر الوزان أنّه في الجبال الشرقية من الجزائر " لا يستطيع أحد سواء كان من المنطقة أو غريبا أن يمرّ فيها بسلام، مالم يكن مصحوبا بأحد الأولياء'' (الحسن بن محمد الوزان، 1983، ص 46)، والغريب في الأمر أنّه إذا تعذّر حضور الولي مع القافلة كان يكفي اصطحاب شيء يخصه  فتأمن ببركته القافلة من اللصوص كما هو والد محمد الموهوب(ق10ه/ 16م)،الذي تعوّد على مرافقتهم القوافل التي تمرّ عبر منطقة زواوة فيؤمنهم من لصوصها  وإذا غاب هو استصحبوا أحد أغراضه سواء بغلته أو كتابا له أو شملته (منشور الهداية فيمن ادعى العلم والولاية، تح: أبو القاسم سعد الله، 1987، ص201). والظاهر أنّ هذا التبرّك كان معروفا من قبل وتصوّر لنا كتب المناقب أنّه أثبت نجاعته فهذا الخطيب حسن (والد ابن قنفذ) في رحلته إلى الحجاز قطعت عليه لصوص الأعراب ولم يسلم له إلا المفرش الذي فيه شاشية الشيخ يوسف بن يعقوب الملاري مع نفقة حدّد بها رحلته (ابن قنفد، المصدر السابق، ص46)

وخلال فترات متعدّدة  كان الولي الملاذ الآمن في ظلّ تزايد ضرر قطاع الطرق الذين تواترت مختلف المصادر على الإشارة إلى خطرهم وحضورهم في مجالات معينة من بلاد المغرب الإسلامي، وعلى فترات متعدّدة خاصة في المراحل  الأخيرة من أعمار الدول وكذا المراحل الانتقالية التي يصبح الأمن شبه منعدم وعلى سبيل المثال ما ذكره صاحب الروض عن الفترة المتأخّرة لحكم الموحدين عند تولي الخليفة يحيى المعتصم (624-633هـ/ 1127-1236م) الذي تصادف حكمه مع تراجع هيبة الخلافة الموحدية، "اضطربت عليه البلاد وغلت الأسعار وخيفت الطرق" (أبو زرع، 1972، ص 248) كما أنّ الوضع سيزداد خطورة وتفاقما في الفترات الانتقالية حيث يغيب حضور السلطة في البوادي مما يجعلها مناطق نفوذ قطاع الطرق واللصوص،  وكمثال على ذلك صوّر لنا ابن زرع المرحلة الانتقالية بين الموحدين والمرنيين بقوله " وفي هذه المدة ضعفت دولة الموحدين ...وصارت ملوكهم ليس لهم حكم في البوادي وإنما سلطانهم وأوامرهم في المدن ... وقبائل العرب والبربر يقطعون الطرقات، ويغيرون على القرى والمجاشر" (المصدر نفسه، ص 288).

انطلاقا من سقوط الخلافة الموحدية عرف المغرب تزايدا للنشاط الحرابي، وبروز ظاهرة قطع الطرق، وهو ما تؤكّده كتب الرحلة والنوازل الفقهية ، فنجد العبدري (ت700) مثلا يصف الحالة الأمنية للخط  الممتد من فاس الى الإسكندرية ويصوّر الحالة النفسية للمسافر أثناء رحلته التي انطلقت سنة( 688هـ/1289م)بقوله :"إنّ المسافر عندما يخرج من أقطار مدينة فاس لا يزال إلى الإسكندرية في خوض ظلماء وخبط عشواء لا يأمن على ماله ولا على نفسه، ولا يؤمل راحة في غده إذا لم يرها في يومه وأمسه يروح ويغدو لحما على وضم، يظلم ويُجفى ويهتضم تتعاطاه الأيدي الغاشمة" (أبو عبد الله محمد العبدري، الرحلة العبدري، تح: على إبراهيم كردي، 2005، ص 33) ويخص مفازة تلمسان  واصفا خطورتها بقوله :"ولما انتهينا الى المفازة التي في طريق تلمسان وجدنا طريقها منقطعا مخوفا، لا تسلكه الجموع الوافرة إلا على حال حذر واستعداد" (المصدر نفسه، ص 45)  ويبدو أنّ المفازة كانت دائمة الخطورة ففي وقت لاحق يؤكّد ابن قنفذ(ت 810ه) أنه في رحلته من المغرب إلى قسنطينة سنة ( 776هـ/1374م) انتظر قرابة شهر في تلمسان لأنه لم يجد من يرافقه في الطريق وصوّر لنا تصور خطورة الطريق في ذهن الساكنة  بقوله: "وكان من خطورة الطريق ما مقتضاه أنّ كلّ من يقع عليه قدومنا يتعجب في وصولنا سالمين ثم يتأسف علينا عند ارتحالنا حتى منهم من يسمعنا ضرب الأكف تحسرا علينا" (ابن قنفذ، المصدر السابق، ص 106) لذلك فقد وصفت مملكة بني عبد الواد بالبلاد المخوفة التي فيها قطع الطريق، فتنحصر الناس على الأسفار (ابن المدجن، 2008، ص96).

كما أنّ كتب النوازل هي الأخرى صوّرت لنا خطورة هذه المسالك في بلاد المغرب الإسلامي وأكّدت تواجد الظاهرة وما يجري فيها من حالة اللاأمن (البرزلي: أبي القاسم أحمد البلوي التونسي، 2001، ص 179، أبو العباس أحمد بن يحي الونشريسي، 1981، ص 403) بل أصبح قطع الطريق وشنّ الغارات وسفك الدماء وسلب أموال الناس ونهبها وسبي الحريم أبكارا وثيبا قهرا وغلبة في المغرب الأوسط وفي ظلّ ضعف الدولة الزيانية،  وظيفة العديد من الجماعات المنتمية إلى  القبائل العربية؛ هذه الجماعات التي بلغ عددها عشرة ألاف فارس وراجل وهو ما يفصح عنه سؤال توجه به من المغرب الأوسط الفقيه أبو العباس أحمد المعروف بالمريض سنة 796ه/1393م إلى الفقيه التونسي أبي عبد الله بن عرفة(ت803ه/ 1400) (الونشريسي، المعيار، ج6، ص153) ، وقد لا يطمئن الباحث لهذا العدد خاصة أنّ جرائم اللصوصية والحرابة في العادة يقوم بها أفراد قلّة، إلا أنّه يجب التنبيه أنّ هذه السلوكات الإجرامية في ظلّ الأوضاع المتأزمة تتحوّل إلى ظاهرة جماعية، لردّ غائلة الجوع عند انتفاء أسباب الرزق (حميد تيتاو، 2010، ص109).

        ونتيجة لهذا الوضع ستصبح هذه المجالات الخطرة والمسالك المخوفة مجالا حيويا يملأ فراغه الأمني الولي الذي ألزم نفسه حماية المسافرين والقوافل التجارية باتخاذه عمارة متمثلة في الزاوية والرباط والتي أطلق عليها الأستاذ بونابي " رباط الإغاثة" (بونابي الطاهر، الحركة الصوفية، ص 600)بمحاذاة المسالك والمناطق المخوفة، وقد استحسن الفقهاء هذا الصنيع وجعلوه مما يدخل في باب" إغاثة اللهفان ودفع الفساد عن أهل الأمان" وهو عندهم "جهاد عظيم وشرف دائم مقيم " (أبو زكريا يحي المازوني، ص 364؛ الونشريسي: المصدر السابق، ج2، ص 304).

الملاحظ أنّه في الفترة المتأخّرة من العصر الوسيط تغيرت وظيفة الرباط ومفهومه في بلاد المغرب الإسلامي فإن كان في مراحل متقدّمة يعدّ ضربا من ضروب الجهاد بملازمة الثغور لحراسة من بها من المسلمين من العدو (أبو الوليد محمد بن محمد بن رشد، 1988، ص 364) فإننا نجده يعرف تحوّلا وظيفيا فبدلا من ردّ العدو الخارجي صار يحمي الساكنة من عدوّها الداخلي المتمثل في مرتكبي جرائم اللصوصية والحرابة، وتقديم خدمات اجتماعية وهو ما نستشفه من نصّ النازلة التي رفعها ساكنة المغرب الأوسط إلى أبي الفضل العقباني(854ه/1450) (الونشريسي، المصدر السابق، ج2، ص 403، 404)

     ومن اللافت للانتباه أنّ ربط الإغاثة انتشرت في كامل بلاد المغرب الإسلامي في الأماكن التي يمكن أن نسميها " مناطق الخوف" أو " جغرافيا الخوف والجريمة" ولا نستبعد أن يكون الرباط الذي ذكره العبدري أثناء مروره بمدينة سوسة في طريق عودته من رحلة الحج سنة 690ه والذي وصفه بأنه "رباط متسع عجيب مليح جدّا ، ينزل به الحجاج والمسافرون" (أبو عبد الله العبدري، 2005، ص487) هو الآخر رباط للإغاثة، كما سجّل التجاني في رحلته أنهم نزلوا  بالقرب من طرابلس في  زاوية تعرف بزاوية أولاد سهيل؛ وهي رابطة حصينة  صاحبها سهيل (ت673ه/ 1274م) يعرف بأبي عيسى يذكر عنه صلاح واعتناء بالضيوف الذين ينزلون عنده وبعد وفاته " خلفه  في إقامة رسم الزاوية أبناؤه، وهم ناس صلحاء سكنوا تلك الزاوية رحمة للمجتازين بهم فإنهم يرفدونهم بما يحتاجون إليه من زاد ويرجعون اليهم ما استلبتهم العرب" (أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد التجاني، تقديم: حسن حسني عبد الوهاب، 1981، ص 213) ومن هذا النص تتجلى الوظيفة المزدوجة للزاوية فهي تقدم خدمات اجتماعية وأمنية للمسافرين .

الظاهر أنّ هذه الوظيفة الأمنية والاجتماعية للربط والولي ستستمر إلى مراحل متأخّرة من العصر الوسيط في تاريخ المغرب الإسلامي كما هو شأن الشيخ سيدي منصور بن عمر الديلمي الذي كانت له زاوية ويقصده الناس طلبا للأمان (بن مريم أبي عبد الله محمد بن احمد التلمساني، مرا: محمد بن أبي شنب، 1908، ص235)، والأمر نفسه ينطبق على الولي سيدي سينا الذي أعاد إعمار سهل البطحاء أحد نواحي تلمسان الذي ظلّ خاليا لمدة طويلة واتخذ به زاوية حيث يملك هذا الشيخ مائة خيمة، بعضها مخصص لإيواء الغرباء وكان الوزان ممن نزل عنده ضيفا (الوزان، المصدر السابق، ج2، ص 28، 29؛ مارمول كربخال، افريقيا، ترجمة: محمد حجي وآخرون، 1988-1989، ص326)

وقد تنبّه الأولياء لخطورة هذه المهمة لذلك أكدوا على ألا يُقدم عليها من يفقد القدرة على هذه المهمة، التي تحتاج أن يتوفر في المتصدر لها عدّة شروط منها: أن يمتلك شخصية كريزمية وهيبة، وأن يكون صاحب كرامات، وهو ما يفهم من كلام الشيخ سيدي محمد الهواري (ت 843ه) في قوله "ولا يتعرض لتأمين الناس إلا من كان محفوظا لا يقدر أن يتعدّى عليه وعلى حرمه وأدنى الأمور أن يكون الوجع عنده في طرف ثوبه يعني الظالمين والمعتدين على من يتعلق به وإلا كان غارا بالناس" (ابن مريم: المصدر السابق، ص .235).

 ما يمكن الخروج به من هذه النقطة أنّ الهاجس الأمني الذي سببته فرق المجرمين من اللصوص وقطاع الطرق قد جعل الطرق المعزولة، والمسالك المخوفة مجالا حيويا لنشاط الولي، كما عزّزت اعتقاد المجتمع في قدراته خاصة بعد نجاعة تدخّلاته بآلياته المختلفة، وفي الوقت نفسه تحكم الواقع الأمني المتأزم في جغرافية ووظيفة العمران الصوفي، حيث سجّلنا انتشار الربط والزوايا في المناطق المخوفة والمفازات المعزولة، وأصبح الرباط يضطلع بتقديم خدمات اجتماعية وأمنية، بدلا من الجهاد. 

ثالثا: تكفل الأولياء بضحايا الجريمة

" رصد لآليات التخفيف"  

من البديهي أن يكون للمجرمين ضحايا فهناك " دائما ضحية أو أكثر لكلّ جريمة" (أحمد سليمان الزغاليل،2003، ص 09) على اعتبار أنّ الضحية قد يكون شخصا أو مؤسسة أو مجتمعا (المرجع نفسه، ص 08)، ولكن الغريب في الأمر أننا لا نجد دراسات –في حدود علمنا-تتحدث عن ضحايا الجريمة من منظور تاريخي، إذ لطالما وصف ضحايا الإجرام بأنهم "أشخاص منسيون" (المرجع نفسه، ص 08) وعليه ارتأينا أن نقدم في هذه النقطة العلاقة التفاعلية بين الضحية والولي، برصد سبل التخفيف التي انتهجها الولي والميكانيزمات التي اعتمد عليها في ذلك.

    توصّلنا في دراسة سابقة أنّ المتصوفة في مجتمع المغرب الإسلامي لم يكونوا حالة انزوائية بل اندمجوا مع مجتمعهم (كمال بركات، تنسيق وتقديم: بلعربي خالد، 2018م، ص211)، والمتتبع لسير الأولياء في كتب المناقب- بما في ذلك كتاب التشوّف- يقف على هذه الحقيقة ويدرك أنهم ليسوا بمعزل عن معاناة أفراد مجتمعهم بل يسعون من خلال ما وهبهم الله من مزايا وقدرات  مواساة الناس ماديا ومعنويا (أحمد موساوي، مجلة: الأثر، العدد 06، 2007، ص41) لدرجة أن يصل بهم الأمر حدّ البكاء رحمة بهم (الدباغ، أبو زيد عبد الرحمان بن محمد الأنصاري الأسيدي، د.ت، ص 225)، فالانطباع الذي يخرج به دارس كتب المناقب وسير الأولياء مفاده أنّ الأولياء أصبحوا يمثّلون بالنسبة للعامة المضطهدين مؤسّسةً ذات سلطة ترفع لها الشكاوى وفي الوقت ذاته مؤسّسة تضامنية تتكفّل بضحايا الإجرام، ومردُّ هذه الصورة يرجع إلى كون الأولياء جعلوا من التكفّل بضحايا الجريمة من أهم انشغالاتهم وهو ما تؤكّده لنا نصوص التشوّف في ثنائية رفع الشكوى من قبل الضحايا واستجابة الأولياء لهم بأساليب مختلفة قد تكون بزجر المجرم وردعه مباشرة ،أو بالدعوة للضحايا  أو الدعاء على المجرمين والظلمة، وقد تكون بحثّ الناس على التكفّل بضحايا الجريمة، كما يوظّف الولي الكرامة في ردع المجرمين والتخفيف عن ضحاياهم.

ومن القرائن التي تعضد هذا التخريج، ما قام به عبد السلام التونسي(ت589ه/1193م) الذي رفع إليه أناس من تلمسان شكوى ضدّ أحد الرجال من أهل الدعارة، كان قد أذاهم" فلقيه عبد السلام فأخذ بأثوابه وضرب به الحائط وقال له: يا هذا آذيت المسلمين حتى أكثروا بك الشكوى " فتاب هذا المجرم وأصبح من الأولياء (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 111، 112)، وهنا تدخل الولي مباشرة لزجر المجرم.

 أما الدعاء الذي اعتبرته إحدى الباحثات سلاحاً للأولياء ومقوّماً من مقوّمات السيطرة الكاريزماتية، بل وأحد أهم ميكانيزم في ممارسة واستمرار تلك السيطرة (نللي سلامة، المرجع السابق، ص 293) فإنّنا نجد الولي يشهره إما للتخفيف من ضرر الجريمة بالدعاء للضحية، أو باتخاذه وسيلة للقضاء على المجرم، ومن القرائن التي تثبت تخفيف الولي من حدّة الجريمة بالدعاء للضحية، دعوة أبى على حسين بن عبد الله الأندلسي (ت 604ه) لرجل من أهل فاس كان قد سلبه اللصوص فرسه وأثوابه، وأخبره بمكان تواجد اللصوص وعندما وصل إليهم قالو له: " استرنا ونحن نردّ لك ما سلبناه. فأخرجوا الفرس والثياب" (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، 393، 394)، الأمر نفسه ينطبق على أبي سليمان داود (ت 607) وذلك أنه بات ليلة عند أحد أصحابه، فسرق لصاحبه تلك الليلة بعض متاعه، فاشتكى ذلك لأبي سليمان فأخذ أبو سليمان في التضرع والبكاء والدعاء وقال: وحقك يا ربّ لا برحت من مكاني هذا حتى ترد لصاحبنا ما سرق له". فما برح مكانه حتى رمي لهم ما كان قد سرقه من الدار (المصدر نفسه، ص 413)، إنّ هذا السرد للروايتين المنقبيتين بالإضافة لكونه يشي بآلية الدعاء التي وظفها الأولياء لتخفيف صدمة الجريمة على الضحية، فإنه في الوقت نفسه يؤكّد من جانب خفي تعاظم ذهنية الاعتقاد في الولي وقدراته.

 لم يتوقف تدخّل الأولياء عند هذا الحدّ بل أمدنا ابن الزيات بنصوص تصوّر الولي في صورة المنتقم من المجرم، ويتجلّى ذلك بتوظيف آلية الكرامة والدعاء عليه كلما رفعت له شكوى من طرف الساكنة ، وهذا النموذج من الأولياء  أطلقت عليه إحدى الباحثات "الولي الجزار" (نللي سلامة، المرجع السابق، ص 383) وأطلقت على كرماته التي يوظفها في الردع "كرامات الانتقام والقتل" (المرجع نفسه، ص384)-كما سبق وأن ذكرنا -ومن النماذج التي سجلناها في هذا الصدد أنّ أناسا من أغمات قصدوا الولي أبي عبد الله محمد ابن إسماعيل الهواري (ت581)  ورفعوا شكوى ضدّ رجل كان يتجسّس على أملاكهم، فدعا عليه، فكانت نهاية هذا المجرم بأن مات مذبوحا بعد ثلاثة أيام من رفع الشكوى (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص271).                                

      يبدو أنّ تضرر المزارعين والفلاحين كانوا في الكثير من الأحيان في ظلّ وضع أمني متأزّم يقعون ضحية للصوص الأمر الذي دفعهم للاستنجاد بالأولياء لإنقاذ حقولهم، بتوظيف كرامات الانتقام والقتل، فقد كان من بين كرامات أبي الحسن نجا (ت595) أنه لما رفع إليه  أهل سلا شكواهم ضدّ اللصوص الذين نهبوا ما في كرومهم من العنب فقال لهم: يكفيكم الله فبعث الله في كرومهم دويبة تعرف بالرتيلة، فكلّ من دخل فيها تلسعه فيموت من حينه" (المصدر نفسه، ص. 358)، ولا تخفى المبالغة الظاهرة على هذه الروايات التي لا نستبعد أن تكون من وضع المريدين، لإبراز مكانة الولي الذي يترددون حوله، أو عمل المريدين على إشاعتها من أجل تخويف المجرمين، كي لا يتعرضوا لهم ولأملاكهم، ومهما يكن فإنّ هذا الروايات تفصح عن الوضع المتأزم الذي وصل إليه مجتمع المغرب الإسلامي، تزامنا مع تنامي نشاط اللصوص والحرابة، واعتقاد العامة في قدرات أوليائهم . 

كما عوّل الأولياء في مشروعهم التضامني مع ضحايا الجريمة والأزمات الاجتماعية عموما، على إحياء قيم التكافل الاجتماعي بين الناس، إما عن طريق مبادراتهم الشخصية أو عن طريق حضّ الناس عليه، لدرجة أنّ ابن الزيات التادلي خرج بنتيجة من خلال تردّده على مجلس درس أبي العباس السبتي مفادها أنّ " مذهبه يدور على الصدقة" (ابن الزيات التادلي: التشوف، ص453) وهو الأمر الذي يؤكّده ابن الخطيب بقوله:" وكان أصل مذهبه الحضّ على الصدقة" (أحمد التادلي الصومعي، 1996،  ص 248)، كما أنّه اعتبر البخل علّة عظمى (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 473)، ولا سبيل للشكّ بأنّ زرع هذه القيم التضامنية ستعود بالنفع بدرجة أولى على ضحايا الجريمة، لذلك نجد الأولياء يوجّهون خطابا يحمل في طياته لغة الترهيب والوعيد لكلّ مماطل ومتقاعس عن مدّ يد العون لهم، ولعلّ ما يثبت ذلك هو ما حصل لرجل يدعي عبد الوهاب بن الغاني، عندما عرض عليه الولي أبو محمد صالح الأسود ( ت بعد 590ه) أن يتكفل بكسوة  والنفقة على رجل خرج عليه لصوص فجرحوه وسلبوا أثوابه، فاعتذر له ورفض أن يقدم المساعدة، فردّ الولي على موقفه بأن قال : " والله لا فلحت أبدا وليهدمن لك هذا البيت ما تنفق فيه خمسين دينارا" وفعلا بعد ساعة وقع ما توعّد به الولي وأنفق الرجل نفس المبلغ الذي أخبره به الولي (المصدر نفسه، ص348).

ومن الصور التي وقفنا عليها بخصوص تكفّل الولي بضحايا الجريمة توظيف ما يطلق عليه أحد الباحثين "الكرامة السيمائية " أو سيمياء السعادة حيث يقوم الولي بتحويل المعادن الخسيسة إلى أخرى نفيسة (عبد الستار الراوي، المرجع السابق، ص95، 96)، وهو ما قام به أبو عبد الله محمد ابن نافع الصنهاجي(ت616ه) عندما قصدته عجوز تطلب منه الدعاء على رجل تحايل عليها في السوق وأبدل دراهمها الطيبة بدراهم مغشوشة، فأخذ الولي الدراهم وجعل يقلبها من يد إلى أخرى ثم قال للعجوز:" ما أرى دراهمك إلا طيبة" فانصرفت العجوز وهي في غاية العجب (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 444)، ولا شكّ أنّ كرامات من هذا النوع تحمل بعدا رمزيّا، يسعى من خلاله الولي الوصول إلى مجتمع متسامٍ عن قيم الشرّ، فالتحوّل من معدن غير ذي قيمة إلى معدن نفيس يعني الانتقال إلى درجة عليا تعبّر عن الرغبة في التسامي والسعي إلى مجتمع بشري جديد خال من رجس الحياة القديمة في تصور الفكر الكرامي الصوفي (القادري بوتشيش، ص 107) كما لا نشكّ أنّ هذا النوع من الكرامات بقدر ما يقدم مساعدة فهو في نفس الوقت استعراض لقوى الولي ليفرض سيطرته ويعزز كاريزميته .

لم يتوقف حدّ الاعتقاد بكرامات الأولياء في حياتهم، بل اعتقد الناس في قدرات الأولياء حتى بعد مماتهم، هذا الاعتقاد الذي سيزداد رسوخا خاصة بعد إقرار الفقهاء له وهو ما نستشفه من قول ابن قنفذ (ت 810): " فإن قلتَ هل تنقطع الكرامة بموت صاحبها أم لا؟ قلنا: لا تنقطع بموته، بل تظهر" (ابن قنفذ، المصدر السابق، ص 6، 7).  لذلك نجد ضحايا الجريمة يقصدون قبور الأولياء قصد التبرّك بها والدعاء عندها، فقد جاء عند صاحب التشوّف أنّ رجلين سُرق لكلّ واحد منهما بعض ماله، فتوجها عند قبر الولي أبي حفص عمر الدغوغي(ت 546) فدعوا عنده فردّ إلى دار كل واحد منهما ما سرق له (ابن الزيات التادلي، المصدر السابق، ص 141)، سبق أن نبهنا أنّ في الروايات المناقبية يتداخل فيها المعقول باللامعقول، ويوردها كاتب المناقب كحقيقة ثابتة، فإن كانت لا تغيب علينا المبالغات الواردة في هذه الروايات، إلا أنها تؤكّد اهتمام الأولياء بضحايا المجرمين لأفراد مجتمعهم. 

     إجمالا يمكن القول بأنّ الأولياء اضطلعوا بأدوار ريادية في التكفّل بضحايا الجريمة في مجتمعهم، كما تبين لنا وثوق أفراد المجتمع في تدخّلات أوليائه ونجاعتها واعتقادهم الراسخ بقدراتهم حتى في الأموات منهم، يؤكّد ذلك توجّههم المستمرّ للأولياء أحياءً وأمواتاً كلما وقعوا ضحية جريمة معينة الأحياء وقد وظّف الأولياء العديد من الآليات تراوحت بين الكرامة، والدعاء للضحية والدعاء على المجرم، وكذا بالحضّ على قيم التضامن للتكفل بضحايا الجريمة.

خاتمة

صفوة القول إنّ الانطلاق في تجربة الكتابة من خلال نمط من المصادر بعينه، أوصل الباحث إلى استنتاج يحمل في طياته ثنائية الاستنتاج المنهجي؛ الذي يتعلق بالنص الموظف والاستنتاج المعرفي؛ الذي يتعلق بالموضوع المدروس من خلاله، لذلك فمن الطبيعي أنّ استنتاجنا لن يخرج عن هذه الثنائية.

فأما من الناحية المنهجية، يمكن التأكيد على أنّ كتاب التشوّف لابن الزيات التادلي ينتمي إلى صنف التراجم والمناقب، وهو نصّ ذو حمولة تاريخية في الجانب الاجتماعي وتاريخ الذهنيات والمتخيل؛ إذ أنه يمثل مرآة عاكسة للأفق الذهني لمجتمع المغرب الإسلامي في فترة من تاريخه الوسيط، لذلك لا يمكن لكاتب التاريخ الاجتماعي وتاريخ الذهنيات أن يستغني عليه في بيبليوغرافية بحثه.

كما أنّ نصّ التشوّف، نصّ مهمّ بالنسبة لدارس موضوع الجريمة خاصة في العصرين المرابطي والموحدي، إذ أنه يستعرض في طياته نماذج مختلفة من الجرائم المنتشرة في العهدين، خاصة فيما يتعلق بجرائم اللصوصية والحرابة.

     أما فيما يتعلّق بالجانب المعرفي، فقد أسفرت لنا هذه القراءة في نص التشوّف عن المشروع البديل وتجربة الأولياء في تحيق الأمن، من خلال مخطط محكم أبان على التفاعل الإيجابي للأولياء مع المجرمين، بدا ذلك من خلال تفعيلهم لآليات الوعظ والدعاء والكرامة كخطوة أولى لمحاولة إصلاح المجرم وإدماجه، ثم إذا اقتضى الأمر ممارسة الردع، بآليات كرامات الكشف، أو تسليط كرامات السخط، في حين كانت تأتي كرامة القتل التي جسدها الولي العنيف ردا على عنف المجرم.

كما تبين لنا أنّ الولي في منظور الساكنة، يمثل هيئة أمنية متكاملة، ذات بعدين روحي معنوي وآخر مادي، ففضلا عن مرافقته للقوافل وحمايتها من مجرمي اللصوصية والحربة، نجده عمل على إنشاء ربط الإغاثة في المسالك والمناطق التي أثرنا تسميتها "جغرافيا الخوف" كما كانت العامة والمسافرون يقصدونه استجلابا للبركة والتماسا للدعاء، إيمانا منهم في نجاعة ذلك، إذ أنّ الاعتقاد في الأولياء هو المحرك الأساس في هذه المسالة. ومما زاد نجاعة الدور الأمني للأولياء هو اعتقاد   اللصوص والمجرمين في فاعلية كرماتهم.

ويبدو أنّ حاجة الناس للأمن جعلتهم يؤمنون ويعتقدون في بركة الأولياء وفي نجاعة حضورهم، أو حضور شيء يخصّهم أثناء أسفارهم وتنقلاتهم.

   هذا ما دفعنا إلى الخروج بنتيجة أخرى مؤداها بأنّ الولي كان له دور كبير في الجانب الاقتصادي وذلك بحفظ أملاك الناس وتأمين الطرق التي من شأنها تسهيل الحركة التجارية. وكل التأثيرات الأخرى كحركة طلبة العلم وتأمين الحجيج.

كما لا يفوتنا التنبيه إلى الحضور التكافلي والتضامني للولي مع ضحايا الجريمة، موظفا آلياته الخاصة التي تراوحت بين الكرامة، والدعاء للضحية، أو الدعاء على المجرم بالهلاك ليزول خطره، أو العمل على إدماجه وتوبته، كما نبّه الأولياء على ضرورة التضامن بتفعيل قيم التكافل في المجتمع والحثّ عليها.

وآخر ما نختم به استنتاجاتنا هو محاولة نحت صورة الولي كما ارتسمت في ذهن ومتخيل الساكنة بخصوص دوره في التصدي للجريمة ومحاربتها، التي لم تخرج -في تقديرنا-عن كونه أصبح يمثل سلطة روحية وهيئة لها هيبة وثقة شعبية ونخبوية، وبمثابة مؤسسة تربوية لإدماج المجرمين، ومحكمة تصدر قوانين ردعية، ومؤسسة تضامنية تساند ضحايا الجريمة.