تحولات المفاهيم في السوسيولوجيا المعاصرة: زيجمونت باومان وتجديد المفاهيمChangements conceptuels dans la sociologie contemporaine Zygmunt Bauman et le renouvellement des conceptsConcepts transformations in contemporary sociology Zygmunt Bauman and the renwal of Concepts
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 20-2023

تحولات المفاهيم في السوسيولوجيا المعاصرة: زيجمونت باومان وتجديد المفاهيم
Changements conceptuels dans la sociologie contemporaine Zygmunt Bauman et le renouvellement des concepts
Concepts transformations in contemporary sociology Zygmunt Bauman and the renwal of Concepts
ص ص 09-26
تاريخ الاستلام 2022-06-28 تاريخ القبول 24-01-2023

اليزيد بوعروري
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

يتناول هذا المقال، المفاهيم الجديدة التي نحتها زيجمونت باومان بقوة قريحته، والتي استعارها من غيره من الباحثين في حقل السوسيولوجيا. مفاهيم من شأنها أن تستوعب شتات الوقائع الاجتماعية التي غدت تتسم بالتشظي والتعقيد والتسارع والسيولة. وهذه المفاهيم لا تضرب صفحا عن معانيها القاموسية والتاريخية وظروف نشأتها، إضافة إلى ظروف ولادتها الجديدة، وتلويناتها وأبعادها التي صبغها بها باومان. هذه المفاهيم هي محاولة جادة لتبديد الضبابية التي أحاطت بالسوسيولوجيا، لأن الفهم الجديد يحاول رصد الأفراد وأوضاعهم وشروط وجودهم ودواعي ومبررات تصرفاتهم ووجهات نظرهم ورؤاهم في العالم، باعتبارها تدخلا واعيا في تشكيل المجتمع. وقد نسلم بأن نمو وتطور السوسيولوجيا يعود إلى المعرفة التراكمية التي أنتجتها جهود الباحثين عبر القرون، ولكن الجهد الكبير والحاسم فيها، يعود إلى تكوّن جزر من الاتفاقات المفاهيمية، التي تشكل الأرخبيل الشاسع من الفهم الذي يواكب تطور الظواهر الاجتماعية.

Cet article traite des nouveaux concepts que Zygmunt Bauman a façonnés par la puissance de son écriture, et qu’il a empruntés à d’autres chercheurs dans le domaine de la sociologie. Des concepts qui s’adapteront aux diverses réalités sociales qui se sont caractérisées par la fragmentation, la complexité, l’accélération et la fluidité. Ces concepts ne négligent pas leurs significations lexicales et historiques et les circonstances de leur émergence, en plus des circonstances de leur nouvelle naissance, et leur coloration et leurs dimensions dont Bauman les a imprégnés. Ces concepts sont une tentative sérieuse de dissiper l’ambiguïté qui entourait la sociologie, car la nouvelle compréhension tente de suivre les individus, leurs situations, les conditions de leur existence, les raisons et les justifications de leurs actions, leurs opinions et leurs visions du monde, comme une intervention consciente dans la formation de la société. On peut admettre que la croissance et le développement de la sociologie sont dus aux connaissances cumulatives produites par les efforts des chercheurs au cours des siècles, mais l’effort important et décisif en elle est dû à la formation d’îlots d’accords conceptuels, qui constituent le vaste archipel de compréhension qui accompagne le développement des phénomènes sociaux.

This article deals with the new concepts that Zygmunt Bauman sculpted by the power of his writing, and which he borrowed from other researchers in the field of sociology. Concepts that will accommodate the various social realities that have become characterized by fragmentation, complexity, acceleration and fluidity. These concepts do not overlook their lexical and historical meanings and the circumstances of their emergence, in addition to the circumstances of their new birth, and their coloring and dimensions that Bauman imbued them with. These concepts are a serious attempt to dispel the ambiguity that surrounded sociology, because the new understanding attempts to monitor individuals, their situations, the conditions of their existence, the reasons and justifications for their actions, their views and their visions in the world, as a conscious intervention in the formation of society. We may acknowledge that the growth and development of sociology is due to the cumulative knowledge produced by the efforts of researchers over the centuries, but the great and decisive effort in it is due to the formation of islands of conceptual agreements, which constitute the vast archipelago of understanding that accompanies the development of social phenomena

Quelques mots à propos de :  اليزيد بوعروري


Dr. Lyazid Bouarouri     
جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر
lyazidbouarouri@yahoo.com
 

مقدمة

إن العصر الذي نحياه الآن، عصر تحولات مثيرة، ومن رحمه ينبثق مجتمع جديد، لا يعرف عنه السوسيولوجيون سوى بعض العناصر التي تُظهر نطاقاته المتعارضة. تراهم يتساءلون عن أنفسهم ووجودهم، وحول معنى ذلك الوجود، وحول علمهم ومكانتهم في بناء المجتمع، حول خصوصياتهم ودورهم ومشاركتهم في المجتمع. وهم يقومون بذلك بواسطة مناهج وأدوات علمهم، وبذلك فإن تساؤلاتهم وتحليلاتهم تؤثر بعمق في تطور السوسيولوجيا.

إن المجتمع الذي يحللونه يفلت من بين أيديهم، ويجب أن يُفلت، لأنه غير مكتمل، لذلك ينبغي تحليله بتلك الصفة، أي على أنه غير مكتمل؛ فالسوسيولوجيا التي تريد فهم مجتمع غير مكتمل، هي أيضا مثل موضوعها، غير مكتملة.

ولفهم ما هو مثير وغير مكتمل وسائل، يتطلب خيالا سوسيولوجيا جديدا، ويتطلب مفاهيم جديدة، أكثر مرونة من المفاهيم الكلاسيكية، فالمعرفة الاجتماعية التي تمت بلورتها وتشييدها، رهينة بمدى قدرة العلماء على اكتشاف أنماط جديدة للتعبير عن تجليات الواقع وترجمة عناصره إلى لغته المكتوبة. لقد كان المفهوم هو نقطة إبداعه المحورية، فمن خلاله بدأت المعرفة بالتشكّل، وبه تصل إلى إنتاج أكثر تجسيداتها تجريدا وتكثيفا.

إن المفاهيم تؤدي دور منظومة الإسناد الرئيسية، والمحرك المحوري في كل عملية إنتاج للمعارف، عبر نظام اللغة، فثقافة السوسيولوجي وركام معارفه المختلفة وطبيعة رؤيته للواقع، هي التي تحدّد معنى المفاهيم أثناء استعمالها، والمفاهيم مثل الكائنات الحية لها عمر معرفي تتبلور من خلاله وتبرز وتتقوّى وتتكامل. والمفاهيم أيضا، تتخذ شكل النظام أو المجال المعرفي الذي تنتج فيه وتتلون، وتعيش بداخله حياة منسجمة ومتماسكة، قد لا تتوفر لها في حقل معرفي آخر.

والمفاهيم كذلك، تختلف من حيث أهميتها وإجرائيتها، ومن ثم من حيث قدرتها على إثارة أو إحداث الاكتشاف العلمي أو التعجيل به، أو حتى المساهمة الضمنية في ولادته. المفهوم عموما يساعدنا على التفكير، خاصة إذا كان حياً، فالمفهوم الحي يستوعب الواقع ويسايره، عكس المفهوم الميّت الذي يعيق الفكر ويحجب الرؤية، ولا يسمح بالتفسير القريب من روح الظواهر الاجتماعية.

ومن السوسيولوجيين المعاصرين، الذين حاولوا إحداث حركية في المفاهيم، زيجمونت باومان، الذي انتبه إلى أن المفاهيم القديمة أعاقت الرؤية وبالتالي الفهم والتفسير للظواهر، ولكن هل المفاهيم الجديدة التي وضعها باومان هي من إبداعه أم هي مجرد استعارة وإعادة توظيف جديد لها؟ وهل عبّرت هذه المفاهيم بصدق عن روح الظواهر الاجتماعية التي تصدّى لدراستها؟  

مدى استيعاب المفاهيم السوسيولوجية للواقع

     المعاصر

لعل أقرب وصف للقرن الحادي والعشرين هو «الجموح» كما يصفه عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني غيدنز، أو كما قال جيمس مارتان: «القرن الحادي والعشرين عصر استثنائي، إنه قرن النهايات القصوى، فيه يمكن أن ننشئ حضارة أكثر عظمة أو نطلق عصورا وسطى جديدة.» (مارتن، 2011)

في هذا العصر، كل يوم تتبدل نظرتنا إلى ذواتنا وبيئتنا وتاريخنا، ويبدو العالم القديم في أعيننا مجرد أنقاض ولا عالم آخر متكامل يستطيع أن يحلّ محلّه. إن الحياة ماضية ليس على خط مستقيم، وإنما اتخذت تعرجات والتفافات، وبسرعة يتعذر للكثير منا اللحاق بها، ناهيك عن توقع ما ستصير إليه، أما التخطيط لمساراتها سواء على المدى القريب أو البعيد، فهي مسألة غاية في الخطورة. (باومان، 2016 أ)

ويقدّم زيجمونت باومان توصيفا قاسيا للحياة المعاصرة يقول: «فقدان الاستقرار، والضعف والهوان هي أبرز سمات الحياة المعاصرة وأشدّها عذابا.» (باومان، 2016 ب) هذا هو العنوان البارز للحياة المعاصرة، رغم أن المجتمعات على اختلافها تتفاوت في إطلاق التسميات في الجزئيات: «فالمنظرون الفرنسيون يتحدثون عن فقدان الاستقرار، والألمان عن عدم الأمان ومجتمع المخاطر، والإيطاليون عن اللايقين، والإنجليز عن عدم الأمن.» (باومان، 2016 ب) لكن جميع هؤلاء مدركون للمأزق الإنساني في كل بقاع الكرة الأرضية.

وفي المقابل، حدث تطور في علم الاجتماع المعاصر، فعلماء الاجتماع جدّدوا في التقنيات والطرائق، واستلهموا التقدم الحاصل في حقول معرفية أخرى، لأنهم مدركون بأن العلم المنكفئ على مكاسبه آيل لا محالة إلى التقهقر، أو قل إلى الاندثار. (بوغام، 2012)

ويتعلق البعض من علماء الاجتماع، بأمل إنشاء تصور جديد للحياة الاجتماعية، يتمكن من الإفلات من الشعور المقلق بفقدان كل معنى، ذلك هو إنشاء براديغما جديدة، من خلالها، ننشئ تصورا للحياة الجماعية والشخصية. وبها نتجاوز العصر الذي كان يتم فيه تفسير كل شيء والتعبير عنه بمفاهيم عتيقة تجاوزها الزمن. (تورين، 2011)

وفي ذات السياق، أدرك باومان أن تفسير ما يحدث من ظواهر مستجدة في المجتمعات المعاصرة، بشبكة مفاهيم قديمة، هو ما زاد الأمر تعقيدا، فإذا أردنا قراءة جديدة وواضحة للأحداث، علينا إبداع مفاهيم جديدة تواكب الراهن، يقول في هذا المعنى: «في مثل هذا الوضع تزداد المشكلة تعقيدا عندما ندرك أن شبكة المفاهيم الموروثة لدينا، لم تعد صالحة للتعبير عن أنفسنا وعن الآخرين وعن الحقائق. إننا نحتاج إلى إطار جديد يمكنه استيعاب تجربتنا وتنظيمها بطريقة تسمح لنا بإدراك المنطق الذي يحكم تلك التجربة، ونقرأ ما فيها من رسالة ظلت، حتى الآن مخفية، وغير مقروءة، أو عرضة لسوء القراءة.» (باومان، 2016 أ)

ويعتقد باومان كذلك، إن الخطأ جسيم، عندما نحاول الإحاطة بالشؤون الكوكبية، ومحاولة فهمها بمفاهيم ورثناها من القرون الماضية، وذهب إلى أن مثل هذه المفاهيم؛ المركز والأطراف، السلم الهرمي، الأولوية والثانوية... تعيق الفهم، وتحجب الرؤية، لذلك ينبغي استبعادها من قاموس علم الاجتماع، لما نتصدى لفهم ما يحدث في مجتمعاتنا المعاصرة. (باومان، 2016 أ)

خلاصة القول من موقف باومان، هو أن دراسة المجتمعات المعاصرة، والتغيرات الهائلة التي تمرّ بها، يقتضي رصد جهاز مفاهيمي جديد، يمكنه أن يستوعب التغيرات الحاصلة، لذلك فهو يبدع ويستعير من غيره من المشتغلين بحقل السوسيولوجيا المعاصرة، المفاهيم القريبة من روح الظواهر، يقول في هذه المسألة: «أقترح عددًا من المفاهيم التي آمل أن تساعد في استيعاب الظواهر والعمليات الجديدة أو الناشئة التي تتجاهل الشبكات المفاهيمية القديمة.»  (Bauman, 24) وقارئ باومان يلمس التجديد على مستوى المفاهيم، فماهي هذه المفاهيم، وكيف تم توظيفها؟

 

الجمال

يعرض هيغل (1770-1831) لتعريف جوته (1749-1832) للجمال Beauty، بعد أن وصفه بأوضح التعاريف وأجلاها، ويقول في حدّه: «الجمال هو الكمال الذي يمكن أن يدركه موضوع منظور أو مسموع أو متخيل.» ويقصد بالكمال ما يتطابق وهدف محدّد، توخته الطبيعة أو الفنّ، عند خلق الموضوع الذي يفترض أن يكون كاملا. (هيغل، 1988)

إن الجمال قيمة حقيقية كلية، تأسست في طبيعتنا، وأن للإحساس بالجمال دورا لا غنى عنه في صيانة عالم البشر. في الجمال مواساة وقداسة وقلقا؛ يكون الجمال مبهجا وجذابا وملهما ومنعشا. إنه قادر على أن يؤثر فينا بصور لا حصر لها. إن الجمال يفرض علينا أن نلحظه، ويتحدث معنا مباشرة كالصديق الحميم. وإذا كان هناك أناسا لا يلقون للجمال بالا، فذلك راجع لخلل في الإدراك الحسي لديهم. والجمال يراه الناس في جميع الأشياء، سواء كانت محسوسة، أو أفكار مجردة، إذ يراه في الطبيعة وإبداعاتها، أو في الأعمال الفنية، وفي صفات الأشخاص وأفعالهم، وتتسع القائمة لتشمل كل ما في الوجود. (سكروتون، 2014)

يعتقد زيجمونت باومان، أن معنى الجمال يمرّ بتغيّر مصيري، فرغم الاختلاف البارز بين الفلاسفة حول مفهوم الجمال، إلاّ أنهم متفقون حول سموّه على النزوات الشخصية المتغيرة، فذهب بعضهم إلى أنه؛ سعادة أبدية، ولكن اليوم في ثقافة ما بعد الحداثة، والتي يدعوها باومان بالحداثة السائلة، زالت الثقة في المصداقية الشاملة في المفاهيم، ومن ضمنها الأحكام الجمالية، لقد أطاحت «ثقافة نادي القمار» بحلول الحداثة السائلة، بالمفهوم المطلق للجمال. (باومان، 2016 أ)

أصبح الجمال يكمن في أرقام المبيعات العالية، وسجلات شباك التذاكر، وتقديرات التلفاز العالية جدا. إذا كان المطلق والثبات والبساطة والوضوح عناصر، تكمن بطريقة ما في مختلف التجارب الجمالية، فإنها اليوم تعدّ قلقا طائشا. فالقيم الآن، في مجتمع الحداثة السائلة، هي قيم مادامت مناسبة للاستهلاك الآني السريع، والقيم هي سمة التجارب العابرة، وكذلك هو الجمال. (باومان، 2016 أ)

إن المتاحف اليوم، أشبه بالمقابر، هي مواقع تُحفظ فيها المواد التي لم تعد حيّة وقوية. ترقد الجثث في المقابر، وتُزوّد بشواهد، تُذكّر الناس باليتم والفجيعة، في حين تُعلّق بعض الأعمال الفنية في أماكن مخصصة بالمتحف، حيث يُحنّط جمالها، ويُحفظ لعاشقي الآثار والتاريخ. تتماثل المقابر والمتاحف في انزوائها عن صخب الحياة اليومية، في مساحات مغلقة، وساعات الزيارة المقيّدة. (باومان، 2016 أ)

إلى هذا الحدّ، وصل الأمر بالجمال، الذي كان بالأمس قيمة ملهمة للنخبة وللعامة على حدّ سواء، لكنه اليوم أسلم نفسه لزوبعة التيار الاستهلاكي.

الفوردية

الفوردية (Fordism) مبدأ عمل، أو تنظيم للإنتاج ظهر عام 1908 على يد هنري فورد (1863-1947) مؤسس شركة فورد الأمريكية لصناعة السيارات، وقد نقل أكثر مبادئه عن نظرية الإدارة العلمية. يسود مؤسسة فورد هيكل إداري هرمي، والسلطة وفق الهرم الإداري تُخوّل للأفراد بحكم وظائفهم أو خبراتهم. وهذه الوظائف تُنظم هرميا، مع الإذعان للتعليمات الصادرة عن الجهات العليا، التي يُعبر عنها من منظور لوائح ثابتة عالمية. (كليج، 2002)

وللسيطرة على العمل وتحديده وضبط وتيرته، تدفع المؤسسة، أجورا عالية للعمال، مع الحفاظ على جني أرباح عالية، علما أن عملية التوظيف تتم بانتقائية من خلال فرض معايير أكثر صرامة على هؤلاء العمال. (Ritzer, 2007)

ولكن النموذج الفوردي بدأ في التوقف إثر أزمة السبعينيات، التي أصبحت أزمة النموذج نفسه؛ فنفس الظروف التي ساندت أصلا تمدّد النموذج، تحولت إلى قيود تحدّ من تطوره؛ فالبطء في نمو الإنتاجية والمنافسة العالمية الحادة والضغوط الدائمة حول الأجور، كلها اجتمعت لتحدّ من الأرباح وتراكم رأس المال. بقي النموذج الفوردي، ولكن في شكل راكد، اتسم بأزمة تضخم مصحوب بركود اقتصادي طويل، كما كان يحوي اتجاهات تعمل على حلّه. (كليج، 2002)

كان هذا مفهوم الفوردية التي تتداوله الكتب والموسوعات، ولكن عند باومان، هي بناء معرفي شُيّدت على أساسه رؤية إلى العالم، ونمط حياة بأسرها: «فالمصنع الفوردي كان بلا شكّ أعظم إنجاز إلى الآن حققته الهندسة الاجتماعية المستهدفة للنظام، وذلك بالفصل الدقيق بين التصميم والتنفيذ، والمبادرة واتباع الأمر، والحرية والطاعة، والابتكار والقرار الحاسم، وبالربط المحكم للأضداد بعضها ببعض داخل كل ثنائية من هذه الثنائيات المتعارضة، والانتقال السلس للأمر من العنصر الأول من كل ثنائية إلى العنصر الثاني. فلا عجب أن المصنع الفوردي وضع الإطار المرجعي المجازي... لكل من يحاول أن يفهم كيف يعمل الواقع الإنساني على مستوياته كافة؛ العولمي والمجتمعي والفردي.» (باومان، 2016 ب)       يتضح أن الفوردية ليست مجرد مؤسسة إنتاجية، ولكنها أداة سيطرة عقلانية وبيروقراطية، يقف وراءها إرث الحداثة العلمية والتقنية والفلسفية، وهي مرجعية لمن أراد أن يدرك سيرورة الحياة الغربية بكل مستوياتها وأبعادها.

إن الفوردية تمثل الوعي الذاتي للمجتمع الحديث، كانت تجسّد الثقل والضخامة والثبات، وأظهرت وحدة بين رأس المال والإدارة والعمل لأمد طويل، مشدودين إلى الأرض بالمصانع الضخمة والآلات واليد العاملة الكثيرة والأسوار العالية المسيّجة. إنها مهووسة بإحكام الأسوار والحدود التي لا يمكن اختراقها، وعبقريتها تكمن في إبقاء العمال داخل الجدران، مع تبديد فكرة الإخلال بالواجب أو تغيير الولاء، حتى وإن اضطر الأمر إلى دفع أجور عالية: «إذا بدأ المرء حياته المهنية في فورد ... فإن ذلك يعني ضمنا وجود شبه يقين بأن الحياة المهنية ستمضي في طريقها إلى النهاية في المكان نفسه.» (باومان، 2016 ب)

وتعتبر الفوردية بمثابة نموذج عالمي شامل للمقاصد والممارسات التي تمثل الحداثة الصلبة، ونظام عقلاني حدّد معيار النزعة العالمية الشاملة لعصره، ونموذجا مثاليا اجتهد رجال الأعمال من أجل تحقيقه؛ ذلك النموذج المثالي يتجسّد في تقوية الرابطة بين رأس المال والعمل، وتزيدهما لُحمة، جدران المصنع الضخمة، وتجمع بينهما في سجن مشترك. (باومان، 2016 ب)

لكن اليوم، الأمور تغيّرت كثيرا، سواء بالنسبة لارتباط رأس المال بالعمل والإدارة، أو بخصوص بقاء العامل في مؤسسة واحدة مدى الحياة. ويبدو أن وتيرة التغيّر ستتواصل في الارتفاع مستقبلا، فالمرونة وقصر الأمد هما شعارا الحداثة السائلة. وهذان الشعاران إذا ما طبقناهما على سوق العمل، فإنهما سيسفران عن نهاية الوظيفة ذات العقود طويلة الأمد. (باومان، 2016 ب)

من خلال ما سبق، نخلص إلى أن مفهوم الفوردية، تجاوز مجرد كونه فلسفة في العمل والإنتاج، إلى كونه رؤية شاملة للحياة والعالم، ارتبطت تلك الرؤية بالتطور العلمي والتقني، ونمو الرأسمالية المتزايد.

معابد الاستهلاك

الاستهلاك في اللغة اللاتينية يعني الاستعمال أو الإزالة، وفي انجليزية القرن الرابع عشر، كان للفعل يستهلك (consume) دلالات سلبية منها: يُدمّر، يُهلك ... ومع بروز الاقتصاد السياسي البورجوازي في القرن الثامن عشر، اكتسبت لفظة «المستهلك» معنى حياديا، إذ تطلق اللفظة لوصف علاقات التسوق، وتقال في مقابل لفظة «المنتج». وفي بواكير القرن العشرين، غدى الاستهلاك إشباعا للحاجات الإنسانية، فصارت دلالته إيجابية. (بينيت، غروسبيرغ، موريس، 2010)

إن الاستهلاك من وجهة النظر العادية ليس مشكلة بحدّ ذاته، ولكنه حلّ يضمن الرفاهية بالقضاء على الألم وخلق منفعة. إن الاستهلاك هو «الطيّب» الذي يقضي على «الشرير»؛ الجوع، البرد، الفقر، فالملابس توفر للمرء الدفء ومن الناحية الجمالية تُشعر الإنسان بالسعادة؛ ويشبع الغذاء الجوع ويُرضي حاسة التذوق القادرة على التمييز بين المذاقات. (روزنبلات، 2011)

ولكن المشكلة تبدأ عندما يتم التحكم في المستهلك، ففي النصف الثاني من القرن العشرين، تآكلت القيود التقليدية على الإنفاق بغرض التفاخر والرفاهية، فضلا عن القيود الدينية والأخلاقية على الاستهلاك، وأصبحت جهود المنتجين والمعلنين والمسوقين لإنشاء بيئة إنفاق مغرية أكثر انتشارا وتطورا من أي وقت مضى. هذه الجهود أثمرت في تكوين ما يسمى بمجتمع المستهلكين، بل أصبح يُطلق على الاستهلاك في دوائر علم الاجتماع «الدين الجديد»؛ فيه يكون الإنفاق والإنفاق بلا حدود شيئا إيجابيا وعلاجيا وذا فائدة. هذه التطورات لها صلة بالاقتصاد العالمي الجديد، فالنفوذ المتزايد للشركات متعددة الجنسيات، التي توزع المنتجات الاستهلاكية عبر العالم، وظهور وسائل إعلام شعبية، ونظم واتصالات الكترونية... كلها تشير إلى أن النزعة الاستهلاكية الجديدة انتشرت في العالم المتقدم والعالم الثالث على حدّ سواء. (روزنبلات، 2011)

وإذا كان الاستهلاك أصبح الدين الجديد، لما حلّ محل الدين الإلهي القديم، ولما كان للدين معابد تقام فيها الشعائر والطقوس، فإن للديانة الجديدة معابد بُنيت لذات الغرض؛ هي المحال التجارية والأسواق والمولات.

استعار باومان مفهوم معابد الاستهلاك، من عالم الاجتماع الأمريكي «جورج ريتزر» (1940- ) ليشير به إلى سباق الاستهلاك الذي لا ينتهي بهدف تحقيق الوعد المضلل المتلاشي بحياة خالية من المتاعب.

إن الاستهلاك يؤجج حماسا قريبا من الشعائر التعبدية من خلال أساليبه ومسلكياته الدقيقة، فهو القدّاس الذي يشارك فيه حتى من يريد تقويضه. هذه العقيدة الاستهلاكية غذّت إيمانا لا ينفذ للعالم المتقدم والنامي على السواء، إذ تغوص في الفراغ القيمي، لا تنمو فقط على حطام المجال السياسي، بل أصبحت ترنو لإعادة بناء شامل للمجتمعات البشرية، إلى حدّ أن تسمو إلى مستوى المبدأ المطلق للفعل الإنساني. (بروكنر، 2006)

إن مجتمع المستهلكين يتميّز بإعادة صياغة العلاقات بين البشر، على نمط العلاقات بين المستهلكين وموضوعات استهلاكهم. وقد تحقق هذا الإنجاز الرائع من خلال الضمّ والاستعمار من قبل «معابد الاستهلاك» (الأسواق) للمساحة الممتدة بين الأفراد، تماما مثلما اكتسح الدين ورسم تلك المساحة في القرون الماضية، تلك المساحة التي يتم فيها مضفر الخيوط التي تربط البشر ببعضهم، ثم يتم بناء الأسوار التي تفصل بينهم. (Bauman, 2007)

يقارن باومان بين السباق الرياضي للعدائيين، وسباق التسوق للاستهلاك، فالأول ينتهي مهما طال زمنه، في حين أن الثاني لا يعرف النهاية، يقول في ذلك: «فإذا كان التسوق يعني تمرير النظر بسرعة على تشكيلة الإمكانات، وفحص البضائع المعروضة، ولمسها ومقارنة أسعارها بما لدى المرء من نقود، أو ما تبقى من نقود ... فهذا يعني أننا نتسوق في الشارع، وفي البيت، وفي العمل، وفي أوقات الفراغ، وفي يقظتنا، وفي منامنا. فمهما كان الشيء الذي نفعله، ومهما كان الاسم الذي نلصقه بنشاطنا، فإنه نوع من التسوق. فالشيفرة التي وضعت فيها سياسة حياتنا تصدر عن براغماتية التسوق.» (باومان، 2016 ب)

من خلال هذا النص، يمكن القول إن باومان يشير إلى مفارقة حياتنا المعاصرة، وهي أنه عوض أن يوزع الفرد وقته على نشاطات عدّة، بحكم ثراء الحياة المعاصرة وتنوعها، نجده يحصر مجمل حياته في نشاط الاستهلاك الذي يتجسّد في فعل التسوق، فالحياة كلها تسوق ولا شيء آخر يكسر هذا الروتين. 

ويذهب باومان أبعد من ذلك، ففي مجتمع المستهلكين، لا يمكن لأحد أن يصبح ذاتا دون أن يتحول أولا إلى سلعة، ولا يمكن لأي شخص أن يحافظ على سلامته دون إحياء وتجديد القدرات المتوقعة والمطلوبة من سلعة قابلة للبيع على الدوام. تركّز ذاتية «الذات» ومعظم ما تمكّن الذاتية الفرد من تحقيقه، على جهد لا ينتهي ليصبح نفسه، ويبقى سلعة قابلة للبيع. إن السمة الأبرز لمجتمع المستهلكين، مهما كانت متخفية بعناية، هي تحويل المستهلكين إلى سلع، أو بالأحرى انحلالها في بحر من السلع. (Bauman, 2007)

ويعتقد باومان أن أساس النزعة الاستهلاكية في المجتمعات المعاصرة هو الرغبة، هذه الكينونة التي لا تشير بالأساس إلى شيء خارجها، وتفوق الحاجات في سرعة التقلب والتحول والزوال والروغان «إنها قوة دافعة تلد نفسها بنفسها، وتستمدّ حركتها من داخلها، بحيث لا تحتاج إلى تسويغ أو علة تبرّر وجودها.» إنها موضوع نفسها الدائم، ولذا فإنها تظل بلا ارتواء. (باومان، 2016 ب)

ولكن توصيف الرغبة كما جاء بقلم باومان، يجعلنا نتساءل: هل هي بهذا الجموح بالفطرة أم أن إثارتها إلى تلك الدرجة يخضع لعوامل بشرية خالصة؟

يرى باومان أن المستهلكين الذين تقودهم الرغبة الجموحة يتم إنتاجهم، وأن ذلك يستغرق وقتا وجهدا وأموالا ضخمة، ليتم إثارة الرغبة وإشعالها إلى الدرجة المطلوبة وتوجيهها إلى المسار المرغوب. هناك إنتاج «الإنتاج»، وإنتاج المستهلك، وإنتاج هذا الأخير يقضم تكاليف باهضة من تكاليف الإنتاج الإجمالية، وهذا الجزء تميل المنافسة إلى زيادته باستمرار. (باومان، 2016 ب)

إن الرغبة تدفع الفقراء إلى الاقتراض حتى الموت، فيكون هذا الدافع واسعا وممتعا ومؤلما ومدمرا في الوقت نفسه. أن تمتلك أو لا تمتلك، هذا هو جوهر الرغبة الاستهلاكية الذي أنتجته الرأسمالية الغربية. أن تمرّ بلحظة يوصلك فيها الحصول على «أشياء» إلى نوبة من البكاء، لأن هذا الشيء ومهمة الحصول عليه تذكرك بالأشياء التي ليست لديك، أو تلك التي لم تحصل عليها بعد. إن التشويق الذي تعيشه في الحاضر يجرّك إلى ما كنت ترغب فيه في الماضي، ثم يدفعك بعد ذلك إلى الدعاء أن يتحقق ذلك في المستقبل. (روزنبلات، 2011)

نستنتج مما سبق، أن مفهوم الاستهلاك عند باومان، يتجاوز مجرد إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، ليعبر عن منظومة رأسمالية، تتوسع في إنتاج «الإنتاج»، وإنتاج المستهلكين أنفسهم، والاستعاضة بمقولة الإنسان كائن عاقل بمقولة الإنسان كائن مستهلك، أو بالأحرى مقولة الإنسان كائن متدين يعبد كائنا متعاليا، بمقولة عابد الأشياء المادية لأنها محور حياته، ومعابده الجديدة هي الأسواق والمحلات.

الرأسمال الطيار

رأسمال (Capital) هو الأموال التي تُمكّن أصحابها، عن طريق استثمارها أو توظيفها بأشكال مختلفة، من الحصول على فوائد أو عائدات. سميت هذه الأموال بالرأسمال لأنها تمثل المبلغ الأصلي الذي يختلف عن المبالغ الناتجة عنه والتي هي دوما أصغر منه. وقد يكون الرأسمال نقدا معدنيا أو ورقيا أو خطيا، وقد يكون وسائل مادية للإنتاج كالأراضي والبنايات والآلات ووسائل النقل. (علية، 1985)

وهو غير ما يسمى في دوائر السوسيولوجيا «رأس المال البشري» الذي يتكون من قوة عمل الفرد؛ المهارات، التدريب والقدرات. وفي الممارسة يمكن للأفراد والحكومات امتلاك رأس المال، ففي حالة كهذه، يمكن الحديث عن «رأس المال الخاص»، و«رأس المال العام». وهناك أشكال وسيطة للملكية الجماعية التي يتم امتلاكها من طرف أشخاص معنويين، وهي كيانات مثل المؤسسات الخيرية سعيا لأهداف محددة. (بيكيتي، د ت)

ينطلق باومان، لبسط مفهوم الرأسمال الطيار، بمجيء ما يسميه بالرأسمالية الخفيفة العائمة، فيها يتم فكّ الارتباط بين رأس المال والعمل، ويشبّه ذلك، بانتقال عصر العلاقات بين الرجل والمرأة، من عصر الزواج إلى مرحلة المعاشرة، نظرا للطبيعة المؤقتة لهذه الأخيرة، أي إمكانية إنهاء العلاقة في أية لحظة، ما أن تنطفئ الرغبة. فنمو رأس المال، وإعادة إنتاجه والأرباح والعوائد ورضا المساهمين، كلها صارت مستقلة عن أي ارتباط محلي بالعمل. إن «رأس المال صار يتجاوز حدود الدولة القطرية، صار ينعم بالخفة والتحرر إلى حدّ غير مسبوق.» (باومان، 2016 ب)

فسهولة انتقال رأس المال من قارة إلى أخرى جعل باومان يصفه بالطيّار، يقول في ذلك: «إنه رأس مال طيّار يقلل من أهمية كل أشكال الارتباط، ولاسيما الارتباط المستقر، ويعدّه من الحماقة. فالارتباط يعوق الحركة، وينتقص من القدرة التنافسية المرغوبة، ويلغي قبليا الخيارات التي بها تؤدي إلى زيادة الإنتاجية.» (باومان، 2016 ب)

إن مستوى التجارة في الوقت الحاضر أعلى بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى، كما أنها باتت تشتمل على عدد أكبر من البضائع والخدمات، بيد أن الفرق الكبير يكمن في مستوى التمويل وانتقال رؤوس الأموال. إن الاقتصاد العالمي حاليا، إذ يتجه نحو التعامل بالأموال الالكترونية، في هيئة أرقام على شاشة الحاسوب، ليس له مثيل حتى في أدب الخيال العلمي. وفي ظل هذا الاقتصاد «المجنون» على حدّ تعبير «كريس هارمن»، يتمكن مديرو الأموال والمصارف والشركات، وكذا ملايين الأشخاص من إرسال مبالغ خيالية من أقصى العالم إلى أقصاه، بمجرد الضغط على زرّ الكومبيوتر، وهم يفعلون ذلك، بوسعهم أن يقوّضوا أركان اقتصاد دول بكاملها، كما حدث لاقتصاد آسيا في سنوات مضت. (جيدنز، 2003)

وفي سياق سهولة تقويض اقتصادات بكاملها بلمسة زر، يقول باومان: «المستوى الذي حققه [يقصد رأس المال] في سهولة الحركة والانتقال من مكان لآخر يكفي في أغلب الأحيان لابتزاز القوى السياسية المقيدة بحدود الدولة القطرية وامتثالها لما يريد. فالتهديد بقطع الروابط المحلية والانتقال إلى مكان آخر، إنما هو أمر لابد لأية حكومة مسؤولة... أن تتعامل معه بكل جدية، فتحاول أن تجعل سياساتها تابعة للغاية الكبرى التي تتمثل في درء التهديد الذي يمثله تناقص رؤوس الأموال المستثمرة.» (باومان، 2016 ج)

ذلك التهديد معناه انتهاك السيادة الوطنية للدول، فعولمة رأس المال يؤدي إلى ضياع السيادة الوطنية-كما قال الرئيس السابق للبنك الدولي وعالم الاقتصاد الحائز على نوبل جوزيف ستيغليتيز-حيث استولت الشركات الدولية التي تفرض الاتفاقيات الدولية على السلطة. ومن الناحية العملية، يتابع ستيغليتيز، تتلقى الدول تعليمات فحواها، إذا لم تتبع شروطا معينة، فإن أسواق رؤوس الأموال سيتم إيقاف حركيتها، بل وستسحب المبالغ التي تم نقلها، فتضطر الدول أساسا إلى التخلي عن جزء من سيادتها الوطنية، لتدع أسواق رؤوس الأموال المتقلبة، تعمل على تهذيبها بأن تملي على الدول، ما يجب أن تفعله وما لا يجوز. (ستيل وهيندز، 2013)

والخلاصة هي أن باومان، بخصوص مفهوم الرأسمال الطيّار، يؤكّد على فعالية سلاح التحرّر من الالتزامات التي تحول دون حرية الحركة والمناورة، بهدف السيطرة، لأن العصر الذي نحيا فيه، هو عصر الخفة والسيولة.

التأجيل والإرجاء 

     أجّل الشيء أخّره. والتأجيل هو التأخير والإرجاء، إلى موعد لاحق أو غير معين. (نعمه، 2008)

يرى باومان أن الفعل يؤجّل (procrastinate) يعني وضع أمر حاضر، بين أمور تنتمي إلى المستقبل، علما أن الغد أو المستقبل ليس هو المكان الطبيعي لذلك الأمر، فمكانه الطبيعي هو الحاضر. (باومان، 2016 ب) أي كان ينبغي القيام بذلك الفعل في الحاضر، ولسبب أو لعدة أسباب، تمّ إرجاؤه إلى المستقبل.

والتأجيل، ليس هو التسويف، بداعي الكسل والتراخي وفتور العزيمة، لكنه موقف نشط، لأنه محاولة لضبط تعاقب الأحداث، فتأجيل أمر من الأمور لا يعني أبدا ضياع أو تفويت فرصة في أوانها، وإنما قد يكون العائد في المستقبل أوفر وأقوى.

يعتقد باومان، متأثرا في ذلك بماكس فيبر، أن أساس المجتمع الحديث هي قاعدة إرجاء الإشباع؛ إرجاء إشباع حاجة أو رغبة، إرجاء لحظة تمثل تجربة ممتعة ولذيذة، إرجاء التلذذ والاستمتاع. هذا المبدأ كان وراء الابتكارات الحديثة المذهلة كتراكم رأس المال، وانتشار أخلاقيات العمل. (باومان، 2016 ب)

والعمل بقاعدة «إرجاء الإشباع» يقتضي القيام بالحرث والبذر، قبل التفكير في الحصاد واستهلاك الغلال، والاستثمار قبل حصد المكاسب، والادخار قبل الإنفاق، وحرمان الذات من الانغماس في الملذات. ومبدأ الإرجاء لا يقلّل من أهمية إشباع الرغبات كدافع إلى الاجتهاد «بل إنه جعل من إشباع الرغبات، الغاية الأسمى للحياة. لقد دفع إرجاء الإشباع المنتج الذي يقبع داخل المستهلك إلى الكدّ والتعب، من خلال الإبقاء على المستهلك الذي يقبع داخل المنتج يقظا كل اليقظة، ونشيطا كل النشاط.» (باومان، 2016 ب)

وفي ظل المجتمع الاستهلاكي الراهن، يتواجد مبدأ الإرجاء وحيدا مقهورا، بعدما فقد درعه الأخلاقي الواقي. فلم يعد إرجاء الإشباع فضيلة أخلاقية، بل صار يعبّر عن خلل في النظام الاجتماعي، إذ لم يعد محلّ ترغيب، بل صار إقرارا لواقع أليم. فإذا كانت أخلاقيات العمل رغّبت في الإرجاء، فإن جماليات الاستهلاك تحثّ على إلغائه، إذ لابد للمكافأة أن تكون فورية، فإشباع الحاجة يكون سريعا خشية انطفاء الرغبة، لأن الرغبة معبودة عالم جماليات الاستهلاك. وفي هذا العالم تتقلص المسافة بين الرغبة والإشباع في لحظة النشوة؛ لحظات فورية، ملهية، مسلية، يطلبها المستهلك على الدوام وفي مناسبات متزايدة على الدوام، فلا وزن للأشياء والأفعال سوى الإشباع الذاتي اللحظي الدائم دون تحكيم للعقل. (باومان، 2016 ب)

نستنتج مما سبق، أن مبدأ إرجاء الإشباع ساد مجتمع الحداثة، وهو مبدأ أخلاقي يركّز على العمل، الانضباط والاجتهاد، ضبط النفس وكبح لجامها. كل هذه الفضائل، تُمكن الفرد أو مجموع الأفراد من إحداث تنمية في مجتمع تسوده مثل تلك الفضائل. وفي المقابل لا مكان لذلك المبدأ في المجتمع الاستهلاكي، الذي استسلم للّذة والمتعية، إنه مجتمع لا يصبر على اللذة، تظل فيه الرغبة مشتعلة، تطلب الإشباع المتزايد الذي لا ينتهي إلاّ بانتهاء الرغبة نفسها. 

غسيل الدماغ

غسيل الدماغ (brainwashing) استخدام مجازي يشير إلى تعريض الفرد لضغوط نفسية وعصبية وجسمية ودعائية، بهدف تغيير معتقداته وأفكاره، وتحويله عن موقفه أو إفشائه لما يخفيه من أسرار، أو كسبه لاتجاه معين، أو تحميسه لعقيدة معينة. ويشير المعنى إلى تنظيف المخّ مما انطبع فيه من أفكار واتجاهات فاسدة، وغرس أخرى سليمة. وتُستخدم فيه صور متعددة من التعذيب كالحرمان من الطعام والنوم، والضغوط المعنوية كالدعاية وإطلاق الشائعات. (طه، 1993)

ظهر مفهوم غسيل الدماغ في أتون الحرب الكورية 1950، عندما غزت كوريا الشمالية، مدعومة بالنظام الصيني الشيوعي، كوريا الجنوبية. وسرعان ما لاحظت الولايات المتحدة الأمريكية، المشاركة في هذه الحرب، أن جنودها الذين يقعون في الأسر قد تحولوا إلى الشيوعية ونبذوا موطنهم الذي عاشوا فيه. وبعد تقصّي الظاهرة، أعلن عميل المخابرات المركزية الأمريكية إدوارد هنتر (Edward Hunter) أن هؤلاء الجنود تعرضوا إلى غسيل الدماغ. (كيلر، 2017)

واللفظ المركب «غسيل الدماغ» مشتق من اللغة الصينية «هسي ناو (Hsi Nao)، وهو طقس من طقوس متقنة من التلقين المنهجي، والتحويل والاتهام الذاتي المستخدم لتغيير الشيوعيين إلى أتباع مستسلمين للحزب. (ميرلو، 2018) ودلالة اللفظ في اللغة الصينية هي «إصلاح التفكير» وهو المصطلح الرسمي الذي يطلقه الشيوعيون الصينيون على عملياتهم، وهو غير «غسيل القلب» أو «تنظيف العقل» باستخدام التأمل، وهذا أقدم بكثير من الشيوعية. (كيلر، 2017)

يتضح أن مفهوم غسيل الدماغ ليس عرضيا وبسيطا، وإنما هو مفهوم مُرعب، إذ يعني فقدان السيطرة والإرادة الحرة وحتى الهوية. وقد وصفت العملية بأبشع النعوت نظرا لخطورتها؛ فهي اغتصاب للعقل، لأنه يُفرض على الضحية من قبل عدوّ يهدف إلى تدمير إيمانها بمعتقداتها السابقة، ومسح لوح الذاكرة مسحا كاملا، حتى يمكن تبنّي معتقدات جديدة، إنه أحد أكبر مواريث القرن العشرين شرا. (كيلر، 2017)

إنه أسلوب فظيع، يعتمد على وسائل لتفكيك ذهن الضحية بدهاء، فيه تشويه لإحساسها بالقيم، وتشويه للعقل، إنه جريمة قديمة ضدّ العقل والروح البشريين، يقول «فرانك شوابل»-العقيد في سلاح البحرية الأمريكية، والذي خضع لعملية غسيل دماغ-: «كانت الكلمات لي، ولكن الأفكار كانت لهم، وهذا أصعب ما حدث معي، ويجب أن أشرح هنا: كيف يمكن للرجل أن يجلس، ويكتب شيئا ما، يعرف بأنه خاطئ، ومع ذلك يستمرّ، بل ويشعر بأن ما يكتبه سيجعله يبدو حقيقيا.» (ميرلو، 2018)

إن جوهر استراتيجية تشويه العقل، هو سلب كل الممكنات، والقضاء على كل التوقعات، وكل اعتقاد في المستقبل. إنه تدمير للعناصر ذاتها التي تُبقي العقل على قيد الحياة، كيف لا ونهايته قبول الإدلاء باعترافات لا أساس لها، ثم تصديقها، بمعنى تلفيق شهادة زائفة ضدّ النفس أو الآخر ثم تصديقها، وأبعد من ذلك، يكون مستعدا للمحاكمة في جوّ من الندم على فعله. (ميرلو، 2018)

ينتقل زيجمونت باومان بمفهوم غسيل الدماغ، من الحقلين السياسي والعسكري، إلى ميدان السوسيولوجيا، إذ يرى بأن المجتمعات المعاصرة بأسرها تتعرض لغسيل دماغ، من خلال الدعاية والإعلانات التجارية، وإن كان ما يشاهده الناس مجرد ترويج للمنتجات وتقديم خدمة معلومات، ولكن بطريقة «القوة الناعمة»، فإذا كان المنفذون للغسيل في الماضي من المحققين المتمرسين، فاليوم يتكون من خبراء الدعاية والتجميل والتسويق. (باومان ودونسكيس، 2018)

إن أحد التغيرات الواضحة في بيئة المجتمعات المعاصرة، والذي له القدرة على التأثير في عدد كبير من الناس، هو نمو وسائل الإعلام الجماهيرية كالتلفزيون وشبكة المعلومات، إذ تعتقد سوزان غرينفيلد (Susan Greenfeild) في كتابها «أناس الغد» أن التطوير الأكثر لوسائل الإعلام العامة، إلى عالم من واقع افتراضي معقد، يمكن أن يكوّن مستهلكين طفوليين بصورة متزايدة، مدفوعين بالمثيرات، وغير اجتماعيين، كل حاجة من حاجاتهم متوقعة، ويوفرها لهم فنيو معلومات يراقبونهم دون هوادة، فمادام العالم تغيّر، فالذوات التي تعيش فيه لابدّ أن تتغيّر. (كيلر، 2017)

ولكن ألا يمكن تجنب محاولات التأثير هذه علينا؟

الجواب هو، حتى لو أردنا ذلك، فإننا لا نستطيع، لأننا لا نملك الموارد الذهنية للوقوف في وجه وابل الإعلانات والرسائل والمعلومات التي نتلقاها، فكيف لفرد أمريكي مثلا أن يصمد أمام مائتان وخمس وأربعين (245) رسالة تجارية كل يوم تأتيه عبر هاتفه؟ هذا فقط في الإعلانات التجارية، أضف إليها الأخبار، وشبكة المعلومات، والكتب والمجلات، الأصدقاء والعائلة، والرسائل الواضحة والمبطنة التي وضعت في ساعات من البرامج التلفزيونية. سندرك حجم المعلومات التي تُقصف بها أدمغتنا، معلومات موجهة إلينا بهدف غسل عقولنا. (كيلر، 2017)

ويعدّد باومان مجموعة من العوامل التي تقف وراء قوة عملية غسيل الدماغ التي نتعرّض لها، يقول في ذلك: «القدرة على الاختفاء والاختباء والمراوغة والسرية والتملص والالتباس، ومن ثم انعدام الرؤية الواضحة وانعدام المقاومة، واستحالة الانتصار، قد حققت قفزة فارقة جديدة للغاية في تاريخ تكنولوجيا غسل الدماغ.» (باومان ودونسكيس، 2018)

هذه العوامل، سواء تم الكشف عنها أم لا تزال سرية، يمكن تفسيرها في إطار الحقائق الأعمق للواقع الاجتماعي. والحقيقة أن العملية أكثر التباسا وأبعد تأثيرا، نظرا لأنها تجري دون توجيه مركزي، إنها متأصلة في تدابير اجتماعية اقتصادية أساسية، وغير مطروحة للنقاش، تُحدّد في البداية، ثم تتعزّز بمرور الزمن، وتنطوي تلك الترتيبات التي أُسست، وأُضفي عليها طابع الشرعية خلال فترة طويلة، على دينامياتها الخاصة، كما تنتج أيضا حتمياتها الخاصة. (شيللر، 1999)

ولكي يؤدي غسل الدماغ دوره بفعالية أكبر، لابد من إخفاء شواهد وجوده، أي جعل الناس يشعرون بأن الأمور هي، ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية. إنه يقتضي واقعا زائفا، هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا. وعليه لابد من جعل الناس يؤمنون بحياد مؤسساته الاجتماعية؛ لابد أن يؤمنوا بأن الحكومة والإعلام والتعليم والعلم، بعيدة كلها عن معترك المصالح الاجتماعية المتصارعة. (شيللر، 1999)

إذن لا يمكن تجنب تأثير الوسائل التكنولوجية علينا لأننا: «واقعون بإحكام في شبكة عنكبوتية من المراقبة الالكترونية، ويجري إغواؤنا بأن نلعب دور العناكب التي تنسج خيوط تلك الشبكة أو خدمها الطيعين المتحمسين في الغالب الأعم، بعلم منا أو من دون علم، شئنا أم أبينا، وفي كل الحالات، من دون استئذاننا.» (باومان ودونسكيس، 2018)

وينظر باومان إلى التطور التكنولوجي المعاصر، أو قل، غسيل الدماغ المعاصر، على أنه نقمة في ثوب نعمة، فشبكة الأنترنت توفر لنا معلومات تفوق مليون مرة ما يستطيع أن يخزّنه العقل البشري، وتسمح لنا بانتقاء النتائج القابلة للتنفيذ؛ فالنعمة تكمن في الفيض الضخم من المعلومات، والنقمة هي أن من يسمح لهم بالإبحار في هذا الفيض المعلوماتي، هم السلطات المتحكمة فينا، والنتائج القابلة للتنفيذ هي تلك التي يستطيع رصدها البحارة، وبها يتمكنون من تحديدنا واستهدافنا لأغراضهم؛ إرغامنا أو إغواؤنا بإنفاق أموالنا، أو استمالتنا للانخراط في قضايا خارج عن خياراتنا. (باومان ودونسكيس، 2018)

ومن مظاهر غسل الدماغ التي نتعرض له كذلك-فيما يرى باومان-ظاهرة التفتيش المتكرّر في المطارات، يقول في ذات المعنى ومن وحي تجربته: «وفي بضع مئات من الأمتار التي تفصل البوابة التي نزلت عندها، عن البوابة التي ستقلع منها الطائرة الأخرى، تعرضت للتفتيش خمس مرات، في خمس نقاط تفتيش منفصلة، تُفاخر كل منها بأحدث التكنولوجيا وتمارس الامتهان والإذلال في الوقت نفسه، وكان ذلك يتضمن عددا كبيرا من اللقطات الفوتوغرافية، والتفتيش الذاتي، وخلع بعض الملابس، وخلع الحذاء، وحزام البنطلون ...»  (باومان ودونسكيس، 2018)

والأدهى من ذلك، أن ذلك الإذلال صار مقبولا لدى الناس، وكأنه أمر لا مفرّ منه ولا سبيل إلى مقاومته. وهذا القبول الجمعي هو بمثابة مصادقة على تكنولوجيا المراقبة المتزايدة، التي تتخذ شعار المحافظة على الأمن، ولكن يبدو أن الشعار، موجود لذرّ الرماد في العيون فقط، وأن الأغراض الحقيقية تتجاوز ذلك الشعار.

إن التكنولوجيا المعاصرة، تؤثر بالفعل على الإنسان، ليصبح أكثر سلبية، وتُكيّف نفسه لإيصاله إلى حالة الخضوع المقولبة والجاهزة، وهو ما يحدث خلال أجهزة الثقافة والإعلام، فقوة تأثيرها تتضاعف من حيث إن الأفراد يظلون غير واعين بأنه قد تم تضليلهم. وفضلا عن ذلك، فإن عملية السيطرة تصبح أكثر فاعلية من خلال الشكل الخاص، الذي يجري نقل الأحداث من خلاله، ذلك أن تقنية النقل يمكن أن تضيف بذاتها بُعدا جديدا إلى عملية التلاعب بالعقول، وشكل الإعلام المعاصر في بعض القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية، هو تجسيد فعلي للتحكم في الوعي من خلال تقنية التجزيء. (شيللر، 1999)

وهذا ما يبسطه باومان، من خلال بثّ قناة (CNN) في قوله: «وأيا كانت الأخبار، فإنها كانت تُقطع كل عشر دقائق تقريبا عبر الترويج الذاتي للشركة التي تطمئن المشاهدين بأن قناة (CNN) تربط العالم. وبين هذا القطع المتكرّر، تعرض صورة لكارثة هنا، وجريمة قتل هناك ومحاكمة هنالك، ورقص جماعي في بيئة غريبة... فكانت [القناة] لا تربط شيئا، فضلا عن ربطها للعالم، بل كانت تُقسّم صورة الكوكب وتُفتتها إلى عشرات الآلاف من الشذرات المنفصلة المبعثرة التي تُعرض بصورة خاطفة، يعجز المرء عن استيعابها، فضلا عن هضمها.» (باومان ودونسكيس، 2018)

من أبجديات المنهجية العلمية، العرض المتسم بالترابط الداخلي، وعندما يتم عرض البرامج بصيغة مبعثرة لا رابط بينها، فإن النتيجة المنطقية، هو العجز عن الفهم والجهل، وفتور الشعور، واللامبالاة بالنسبة للمشاهدين. والنتيجة أن أكبر وأهم شركة للبث في العالم وأكثرها مشاهدة: «قد دربت مشاهديها على المشاهدة بلا فهم، والاستماع بلا تدبّر، واستهلاك المعلومات بلا بحث عن معناها ولا التوقع بالعثور عن معناها ولا أسبابها ولا عواقبها.» (باومان ودونسكيس، 2018)

وإذا كان غسيل الدماغ بالمفهوم القديم-فيما يرى باومان-يمسح الأفكار الموجودة، ويطرح فيه معاني جديدة، فإن المفهوم الجديد له، يبيد كل شيء فيه، سواء كان مفيدا أو ضارا، ولكنه لا يضيف شيئا إليه، بل يتركه قاحلا وفقيرا. وإذا كان الأول عملية تحدث مرة واحدة، فالثاني عملية مستمرة لا تعرف النهاية. (باومان ودونسكيس، 2018)

خلاصة القول في هذا المقام، هو أن باومان استثمر في خصوبة مفهوم غسيل الدماغ بمفهومه القديم، خاصة في خطورته، فنقله من معناه السياسي والعسكري، إلى معنى اجتماعي، وفي هذا النقل لم يفقد المفهوم الكثير من دلالاته الموحية، خاصة تلك المتعلقة بالخطورة، والمتجسّدة باغتصاب العقل. 

علاقات الجيب العلوي       

من بين جميع التغيرات المطردة في العالم، لا شيء يكتسي أهمية كبرى، مثل التغيّر الذي يحدث في حياتنا الشخصية؛ أي في العلاقات الجنسية، والعلاقات الاجتماعية، والزواج والعائلة. ثمة ثورة عولمية مطردة في طريقة التفكير في ذواتنا، وشكل الروابط التي تصلنا بالآخرين. إنها ثورة تتقدم بشكل متفاوت في ثقافات ومناطق متباينة، وتواجهها مقاومات لا حصر لها. فالتحولات في عالمنا الشخصي والعاطفي تتجاوز حدود أي بلد، ونجد اتجاهات متوازية تقريبا في كل مكان، واختلافها يكون في الدرجة، وطبقا للسياق الثقافي الذي تحدث فيه. (جيدنز، 2003)

يرى باومان أن عدم اليقين هو الموطن الطبيعي لحياة الإنسان، على الرغم من أن الأمل في الهروب من عدم اليقين هو محرّك مساعي الحياة البشرية. (Bauman, 2008) ففي اللغة الألمانية مثلا، كلمة «إثنين Zwei «وكلمة «الشكّ Zweifel» لهما نفس الجذر. وذلك يوحي بأن العلاقة بينهما تتجاوز مجرد الجناس اللفظي، فوجود اثنين يعني انعدام اليقين، وعندما يتم الاعتراف بالآخر باعتباره الشخص الثاني المتكامل، وليس مجرد امتداد ولا صدى ولا أداة، ولا مرتبة ثانية لأوليتي، عندئذ يتم الاعتراف باللايقين والقبول به، وعندئذ يشير الوجود الثاني إلى القبول بمستقبل غير محدّد. (باومان، 2016 د)

ففي الغرب تغيّر الناس كثيرا، ونبذ معظمهم، وإن لم نقل غالبيتهم حياة العائلة، وأصبحوا يعيشون علاقات مختلفة ومتعددة، يخافون من البقاء مع شريك واحد لفترة طويلة، يخافون من الالتزام. العائلة بالنسبة لمعظمهم شيء قبيح، لأنهم يعتقدون-بتأثير المحللين النفسانيين-أنها سبب كل أنواع الأمراض العقلية، وكل أنواع العصاب والذهان، إنها تخلق أناسا مرضى. (أوشو، 2013)

لم يعد الأفراد في الغرب يمتلكون الشجاعة الكافية للمضي في مغامرة تسمى حُبا، لذلك هم مهتمون أكثر بالجنس، لأن الجنس أقل خطورة، إنه أمر لحظي، أما الحب فارتباط والتزام وغير لحظي، وحينما يتجذّر يمكن أن يُصبح أبديا، ويحتاج إلى الحميمية والألفة والمودة. ولم تعد المسألة الجوهرية هي «اعشق حتى تفقد عقلك»، بل «استمتع دون أي قيود»، فأصبحت مصطلحات الحب مهمشة مقارنة بالتعبيرات البلاغية الشهوية، وأُعيد النظر في الخصوصية العاطفية والوفاء باعتبارها قيما بورجوازية، وأصبحت موضتها بالية، وصار مزعجا أن يبوح الإنسان بحبه، وأن يوفق بين الحب والديمومة. (ليبوفتسكي، 2012)

والمجتمع الغربي صار ينفر من مبدأ تأجيل الإشباع، فغدت مجتمعات ما بعد حداثية تتلهف إلى الهوية والاختلاف والتحفظ والاسترخاء، والتحقيق الفوري للذات. إن الثقة والإيمان بالمستقبل يذوبان، وما عاد أحد يؤمن بغد الثورة، والتقدم المُشرق، فالناس حاليا يريدون أن يعيشوا فورا وهنا والآن. (ليبوفتسكي، 2018)

إن الدخول في علاقة أمر محفوف بالمخاطر دائما، حيث تميل أشواك وفخاخ العمل الجماعي إلى الكشف عن نفسها تدريجيا، وبالكاد يمكن تكوين جردها بالكامل مسبقا. الدخول في علاقات مصحوبة بالتزام الحفاظ عليها في السرّاء والضرّاء، يشبه التوقيع على شيك على بياض. إنه ينذر باحتمالية مواجهة بعض المضايقات والمآسي لا تزال مجهولة، ولا يمكن تصورها مع عدم وجود شرط مهرب يمكن التذرع به. لذلك تقلل العلاقات الجديدة والمُحسّنة والالتزام الخفيف من مدتها المتوقعة إلى مدّة الرضا التي تجلبها؛ فالالتزام صالح حتى يتلاشى الرضا أو يقل عن مستوى مقبول، وليس لحظة أطول. (Bauman, 2008)

وفي هذه الملابسات التي عرضنا لها، ولد مفهوم «علاقات الجيب العلوي»، وهي كذلك، لأن المرء يحتفظ بها بحيث يمكنه إخراجها بسهولة متى أراد. هي علاقات عذبة وعابرة، وعذوبتها تكمن تحديدا في ذلك الوعي المريح بأنك لست مضطرا إلى بذل الجهد وفعل كل ما في وسعك للإبقاء على عذوبتها وقتا أطول، بل إنك لست مضطرا إلى فعل أي شيء للاستمتاع بها. فعلاقات الجيب العلوي هي التجسيد الحقيقي للاستهلاك اللحظي، والتخلص الفوري من النفايات.  (باومان، 2016 د)

إن العلاقات التي يريدها الناس في عصر الحداثة السائلة حسب باومان: «ينبغي أن تقع على الأكتاف مثل عباءة خفيفة حتى يمكن التخلص منها بسهولة في أي لحظة.» وعلى المرء أن يحذر تحولها خلسة، إلى غلاف فولاذي يحيط به. إنها علاقة تشير إلى لقاء عابر لا يستهدف إلاّ اللذة والمتعة. إنها سعادة حالمة بلا روابط، سعادة لا تخشى الآثار الجانبية، وتتناسى تبعاتها، سعادة تخاطب المستهلك قائلة: «إن لم يحقق لك المنتج الرضى الكامل، يمكنك ردّه واستعادة نقودك كاملة.» إنها أكمل تجسيد للحرية من منظور الحكمة والممارسة السائدة للمجتمع الاستهلاكي. (باومان، 2016 د)

وبخصوص أماكن ربط العلاقات، فقد كانت تتم فيما سبق، في مقرّ العمل، أو الدراسة أو الحفلات، أما في عصر الأنترنت، فالأمر أصبح أيسر، فهناك مواقع متخصصة للّقاء وهي كثيرة ومتنوعة، وتضمن لقاءات جنسية لحظية، دون تأجيل، وتتم اللقاءات في بعض المواقع على أساس أنشطة تمارس في وقت الفراغ، أو ميل لطعام معين، أو على أساس توجّه سياسي مشترك، أو أصل جغرافي، أو خاصية ثقافية أو مهنية أو فئة عمرية. (Neyrand, 2020)

ولو بحثنا عن السرّ في كل هذا السباق المحموم في العلاقات، لوجدنا أن غالبية الناس يبحثون عن الحب. ولقد قال سقراط قديما: إن الإنسان الذي يختبر ألغاز الحب سيصبح على تواصل مع الحقيقة نفسها. ولكن الحب الذي يقربنا من الحقيقة، هو بلا شكّ، الحب النابع من الوعي، وليس من الممارسة الجنسية التي تنصبّ على الجسد وحده. إن الحب ينشأ من أعماق كيان الإنسان، بينما الشهوة تنشأ من الجسد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قامت مجموعة من الباحثات، بإعداد رزمة من قواعد الحب، من خلال أعمال كوكبة من علماء الاجتماع المحدثين والمعاصرين، ومن أهم هذه القواعد: التلقائية (البعد عن التصنع)، أن تكون حياة الحب طويلة نسبيا مما يلغي كونه لحظيا، التواصل بين المحبين، الحب عمل ونشاط، استبعاد النفع، التبادلية، الثقة كأساس متين بين الطرفين، الإخلاص التام للمحبوب. (Belleau & Piazzesi & Seery, 2020)

وبالنظر إلى هذه القواعد، فالعلاقات في المجتمعات الغربية المعاصرة، بعيدة تماما عن الحب؛ فثمة تعارض ينشأ منذ البداية، فالعلاقة شيء منته، ناجز، مغلق، لكن الحب ليس علاقة، إنه تواصل، شيء متدفق كالنهر، شهر العسل يبدأ فيه ولا ينتهي. والتواصل يعني البداية من جديد دائما، هو محاولات مستمرة لرؤية الجوانب الجديدة في شخصية المحبوب، للدخول في أعماق دوائر الشعور الداخلية والفجوات العميقة، محاولة حلّ الألغاز، تلك هي متعة الحب، إنه اكتشاف لا ينتهي. (أوشو، 2013)

وفي المحصلة، من السباق نحو ما يسمى بالحب، والسعادة المنتظرة من ورائه، فقد تبخر كل شيء، ينقل باومان-عن فولكمار زيجوش-قولا بليغا يصور الوضع يقول فيه: «ترتدي أشكال العلاقات الحميمة السائدة هذه الأيام قناع السعادة الزائفة الذي كان الحب بين الأزواج والحب الحرّ فيما بعد يرتديانه... فعندما أمعنا النظر، ونزعنا القناع، ظهرت لنا رغبات مُحبطة، وأعصاب مُحطمة، وحب خائب، وجراح، ومخاوف، ووحدة، ونفاق، وأنانية، وقهر.» (باومان، 2016 د)

تعتبر هذه المخلفات، نتيجة لمقدمات الحرية والفردانية، التي قدّستها المجتمعات الغربية، والحقيقة أن هذه المجتمعات وصلت إلى حدّ النرجسية كما وصفها [الصحفي والكاتب والمؤرخ الأمريكي] «كريستوفر لاش» (1932-1994) وهي مرحلة جديدة من الفردانية. إن النرجسية مصحوبة بعلاقة جديدة مع الآخر، كما تستلزم علاقة جديدة مع الجسد ومع الوقت والعاطفة. إن الأفراد يتطلعون إلى استقلال عاطفي، بالنظر إلى مخاطر عدم الاستقرار التي تعرفها العلاقات الشخصية، ويبقى الحصول على علاقات دون تعلّق عميق بين الأفراد، وعدم الإحساس بالضعف، وتنمية الاستقلالية العاطفية الخاصة والعيش وحيدا هي التي تميّز الفرد النرجسي. (ليبوفتسكي، 2018)

إن الخوف من خيبات الأمل، والخوف من النزوات غير المُتحكم فيها، تعكس على المستوى الذاتي، ما يسميه «كريستوفر لاش» «الفرار من الإحساس» وهي عملية تُقرأ جليا من خلال الحماية الحميمية، كما في الفصل الذي تروم جميع الإيديولوجيات التقدمية تحقيقه بين الجنس والمشاعر، عندما نرى تشجيع الجنس البارد والعلاقات الحرة، وإدانة الغيرة والتملك، فإن الأمر يتعلق في الحقيقة بجعل الجنس مُكيفا وبإفراغه من أي توتر عاطفي، والوصول بالتالي إلى حالة من اللامبالاة والتحرر. وليس ذلك من أجل حماية الذات من اندفاعاتها الخاصة التي يمكن أن تهدّد دائما التوازن الداخلي. هناك اتجاه نحو إقامة حواجز ضدّ العواطف، وإبقاء التوترات العاطفية بعيدة، إننا نشهد نهاية الثقافة العاطفية، ونهاية النهاية السعيدة، وظهور ثقافة باردة، حيث يعيش الجميع في قبو من اللامبالاة، في مأمن من الأهواء الخاصة وأهواء الآخرين. (ليبوفتسكي، 2018)

إن بطل «علاقات الجيب العلوي»، مثله كمثل «أولريش» بطل رواية «روبرت موزيل» (رجل بلا صفات)، إذ لم يكن لهذا البطل صفات خاصة محددة ودائمة، بل كان يُشكل الصفة التي يرغب فيها بمهارته وفطنته، من دون أن يضمن دوام تلك الصفات، في عالم شديد التقلب. إن بطل علاقات الجيب العلوي، هو إنسان بلا روابط، إنسان المجتمع الحديث السائل، وهو اليوم ومن يخلفونه بلا روابط قوية يستعصي قطعها، بل عليهم أن يشكلوا بأنفسهم ما يشاؤون من روابط، مستعينين ببراعتهم، فما داموا بلا روابط، فلابد أن يخلقوا بعض العلاقات، لكن من دون أن يضمنوا دوامها، لسدّ الفجوة التي تتركها الروابط المفقودة أو البالية. وعليه، فلابد أن تكون العلاقات الجديدة فضفاضة بحيث يمكن كسرها مرة أخرى بمرونة ودون تردّد عندما تتغير الظروف، ودائما ما تتغير الظروف في عصر الحداثة السائلة. (باومان، 2016 د)

نخلص إلى أن مفهوم علاقات الجيب العلوي، لا يعبر فقط عن العلاقات اللحظية العاطفية والجنسية بين اثنين، وإنما يمتدّ إلى طبيعة العلاقات وظروف نشأتها وأسبابها ونتائجها وتلويناتها، إنه تعبير عن عمق التطورات والارتباطات بالمجتمع الاستهلاكي المعاصر الذي خضع فيه كل شيء إلى اقتصاد سلعي، فالرجال والنساء صاروا مجرد سلعة متداولة لا رابط بينهما، إنهم كائنات مثالية لاقتصاد السوق.

البانوبتيكون

البانوبتيكون (Panopticon) تصميم معماري لسجن اقترحه الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنتام (1748-1832) في عام 1791. وتعني الكلمة حرفيا «السجن المرئي». (Parrillo, 2008)

وتصميم هذا السجن، الذي لم ير النور في الواقع، يسمح للحارس بـ «رؤية كل شيء»، وهي احدى دلالات اللفظ، شكله يشبه العجلة، بحيث أن الزنازين مهندسة حول محيط الدائرة، مع وجود برج حراسة في المركز، يمكن للمشرف في البرج، رؤية النزلاء في كل زنزانة دون أن يروه. وهذا يشعرهم بأنهم مُراقبون طوال الوقت. (Manokha, 2018)

يتضمن بانوبتيكون بنتام ثلاثة افتراضات رئيسية هي: أولا الوجود المطلق للمفتش الذي يضمنه اختفاؤه التام، ثانيا الرؤية الشاملة للنزلاء؛ والثالث افتراض المراقبة المستمرة للنزلاء. وبهذا يتضمن سجن بنتام جانبين من القوة؛ من ناحية «السيطرة» أي القدرة على تنظيم فئات مختلفة من النزلاء مكانيا، ومراقبتهم ومعاقبتهم وتأديب من ينتهك القواعد التي يجب اتباعها، ومن ناحية أخرى، فإن السلطة التي تُمارس على الذات، أي السجناء الذين يعرفون أنهم خاضعون للمراقبة المستمرة، ينتهي بهم الأمر إلى ممارسة ضبط النفس والانضباط الذاتي. (Manokha, 2018)

وفيما بعد، اقترح بنتام، اعتماد نموذج «السجن المرئي» على جميع أنواع المؤسسات، يقول في ذلك: «... سيكون قابلا للتطبيق، على ما أعتقد، دون استثناء، على جميع المؤسسات، والتي من المفترض أن يبقى فيها عدد من الأشخاص تحت الفحص، بغض النظر عن مدى الاختلاف أو حتى عكس الغرض؛ سواء كان ذلك معاقبة الفاسد، أو حراسة المجنون، أو إصلاح الشرّ، أ حبس المشتبه به، أو توظيف العاطل، أو الحفاظ على العاجز، أو علاج المرضى، أو إرشاد الراغبين في أي فرع من الصناعة... بكلمة واحدة، سواء كان تطبيقا لأغراض السجون... أو دور الإصلاح، أو المصانع، أو المستشفيات، أو المدارس.» (Manokha, 2018)

ولتجسيد فكرته واقعيا، اتصل بنتام بالجمعية الوطنية الفرنسية، أملا أن تقيم هذا المشروع تحت رعايتها، وعرض خدماته المجانية كمشرف، لكن باعتباره من الأجانب، الذين منحتهم الجمعية لقب مواطن عام 1792، لم تأخذ بمشروعه. وقام بمحاولات مماثلة لحثّ الحكومة البريطانية على تنفيذ مشروع السجن النموذجي، ووعدته خيرا في بداية الأمر، غير أن المحاولات باءت بالفشل في النهاية. ومع ذلك خصص البرلمان عام 1813، للفيلسوف مبلغا كبيرا من المال تعويضا له عن نفقاته على مشروعه «السجن المرئي». (كوبلستون، 2009)

ولكن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984)، أعاد تنشيط الاهتمام بالسجن المرئي عام 1975 بكتابه «المراقبة والمعاقبة»، واستخدم رمز البانوبتيكون كوسيلة لتوضيح نزعة المجتمعات التأديبية لإخضاع مواطنيها. ففي الكتاب المذكور يولي اهتماما كذلك للسلطة، كالانضباط والهيمنة، فجسم الإنسان يدخل في آلية السلطة [السجن] التي تستكشفها وتكسرها وتعيد ترتيبها. كما يحدّد التشريح السياسي، كيف يمكن للمرء أن يسيطر على أجساد الآخرين، ويخضعها كما يشاء بالسرعة والكفاءة المرغوبتان.

جسد الإنسان هو الموضع الوحيد الذي تتقاطع فيه وحوله، علومه وممارساته كلها. فمن مرحلة الجسد باعتباره قوة إنتاج، أو قوة عمل مادي، إلى ذلك الجسد المُسيّس الذي ينبغي ضبطه اقتصاديا واجتماعيا، يبرز على هامشه الجسد المعذب، والمريض، والمجنون، والمسجون... وإن تغيّر علوم ومعارف وأساليب التعامل مع هذه الأنواع الأخرى من الأجساد، يكشف ما يقابله تمفصلية مؤسسة الجسد المنضبط، وتاريخية مراحلها الحاملة لدلالات الضبط وأساليبه وممارساته. (فوكو، 1990)

ويذهب فوكو إلى دخول المجتمع بكامله في شبكية الانضباط المعقلن لكل مؤسساته ونشاطاته، أي انتشار الانضباط في كافة الفعاليات. ذلك الانضباط يعني السيطرة والرقابة على الفعالية، اعتبارا من الجسد الفردي إلى الجسد الاجتماعي. وهذه المؤسسة الانضباطية هي نموذج المشروع الثقافي الغربي، له آلياته وجاهزياته الخاصة، التي سبقت جاهزيات العلم والصناعة، والتي سايرتها فيما بعد. والتساوق الموجود بين تكنولوجيا الممارسة الانضباطية والاختراعات التقنية الحديثة، قد تعاظم، بسبب زيادة الحاجة إلى قولبة الإنسان حسب ضرورات الإنتاج الحديث وتسويقه واستهلاكه. (فوكو، 1990)

ومادامت المراقبة حاضرة في الحياة الاجتماعية، وازداد مداها بشكل خاص مع مجيء الحداثة والدولة البيروقراطية المركزية، وكما يرى أنتوني جيدنز، أن المراقبة من مكونات الحداثة وهي من الأقطاب المؤسسية الأربعة، إلى جانب المؤسسة الرأسمالية، والإنتاج الصناعي، والسيطرة المركزية على وسائل العنف. وفي الواقع، يمكن القول إن المراقبة تتقاطع مع جميع جوانب الحداثة هذه، إذ كانت ضرورية لعمل المؤسسات الرأسمالية، ولتحريك الصناعات واستخدام وسائل العنف. ومع تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة حدث الحضور الحاسم في طبيعة ومدى ممارسة المراقبة. (Manokha, 2018)

انطلاقا من ظروف ولادة مفهوم البانوبتيكون، وتجذّر المراقبة في جسم المجتمع الحديث، تمت استعارة المفهوم وتطبيقه على المجتمعات المعاصرة، فغدى كل فرد فيها، كنزيل في «السجن المرئي» عين المفتش عليه، وصار مكشوفا في حياته الخاصة.

ويداول زيجمونت باومان هذا المفهوم، خاصة في كتابه «المراقبة السائلة» الذي وضعه بالتعاون مع ديفيد ليون، ففي نظر هذا الأخير، تبدو فكرة البانوبتيكون عبقرية، فهو مفهوم يحمل في أحشائه آليات المراقبة، ويموضعها داخل قصة الحداثة، وهو مفهوم مفتاح يساعد في فهم تطورات المجتمعات الحديثة والمعاصرة السائرة في خطّ الانضباط الذاتي. أما باومان، فإنه يستخدم مفهوم البانوبتيكون، لا لتفسير كل آليات المراقبة، وإنما يداوله لكشف تجاوز الحداثات المعاصرة لسماتها القديمة، أي يجعله فصلا واحدا من القصة القديمة، التي تليها القصة الجديدة، والتي يدعوها بالحداثة السائلة، حيث يؤول الثبات إلى سيولة، وتتبعثر أشكال الانضباط في فضاءات جديدة. يقول في ذات المعنى: «وأنا أرى أن البانوبتيكون مازال حيا وبصحة جيّدة، بل إنه مسلّح بعضلات بشرية (معززة إلكترونيا)، وهي عضلات قوية تماما إلى درجة لم يكن يتخيلها جيريمي بنتام ولا حتى ميشيل فوكو، وما كان بوسعهما أن يتخيلاه، ولكنها لم تعد النموذج العام ولا الاستراتيجية السائدة التي كان يعتقدها بنتام وفوكو في زمانهما.» (باومان وليون، 2017 ب)

ومن الصور الجديدة للبانوبتيكون، فيما يرى باومان، مخيم اللاجئين، والمعنى الوحيد للأمر بالبقاء في مكان يسمى المخيم، هو أن جميع الأماكن الأخرى التي يمكن تخيّلها، إنما هي أماكن ممنوعة، والمعنى البارز للوجود بداخل المخيم، هو أن المرء دخيل وغريب وأجنبي، فاللاجئ في المخيم يعني الطرد من العالم الذي تتشاركه بقية الإنسانية، أما خارج المخيم فهو المكان المحظور (ban-opticon). ويضاف إلى مخيم اللاجئين، مخيمات المشردين، والجيتوات الحضرية، كلها أماكن للنفي، أو كما يسميها ميشيل أجير «دهاليز المنفى». تجمع بينهم صفة واحدة، ألا وهي، أنهم جميعا كائنات عديمة القيمة، إنهم مخلفات المجتمع، إنهم النفايات. والغاية الوحيدة للمكان المحظور، هو التأكّد من فصل النفايات عن المنتجات الجيدة. (باومان وليون، 2017 ب)

وقمة صعود تكنولوجيا البانوبتيكون (المراقبة) اليوم، الطائرات بدون طيار، فهي تقوم بعمليات تجسّس وقصف عن بُعد، ولا تزال في تطور مستمر في قوة الرصد وجمع المعلومات والقصف الدقيق. لهذا، لن يكون هناك واق يحمينا من التجسس، ولن ينجو منها أحد، ولا يمكن استثناء أي هدف من المراقبة. إن الجيل الجديد منها، سيتم برمجتها على الطيران بنفسها، وستطير في مسارات من اختيارها، في أوقات من اختيارها (إن كان لها اختيار)، والسماء التي تطير فيها هي السقف الذي يغطي المعلومات التي ستوفرها ما أن تعمل بالأعداد المطلوبة. هذه سمة تكنولوجيا التجسس والمراقبة الجديدة، فهي مسلحة بالقدرة على الفعل المستقل عن بعد، وهذا أكثر ما يزعج مصمميها، ويبعث على قلقهم من «تسونامي البيانات» الذي يذهل بالفعل العاملين بمراكز قيادة القوات الجوية، ويهدّد يتجاوز قدرتهم على التحكم. (باومان وليون، 2017 ب)

ثمة وسيلة أخرى تجسّد البانوبتيكون في مجتمعاتنا المعاصرة، وهي شبكة الأنترنت، من زاوية أنها تجميع للمعارف حول البروفيل الشخصي لكل مُستعمل، فكل أفعال التفحّص، تُحفظ من طرف الموزعات ومحركات البحث. وهكذا صارت حياتنا مفتوحة ومعروفة؛ أي المواقع نفضّل، وأي الأطعمة نشتهي، وأي ألبسة تستهوينا... وصرنا نتلقى سيلا من الإعلانات التي لا تتوقف حول كل التفاصيل المتعلقة بحياتنا، في المواقع التي سبق وإن تفحصناها، ولو بطريقة عرضية. إن شبكة الأنترنت بمثابة «الوشم الذكي» المُدرج في جسم المرضى والسجناء، فحيثما ذهبوا سيتم العثور عليهم. (Laval, 2012)

لقد وقع العالم بأسره، اليوم، في قبضة نظام المراقبة. وقد غدا هذا النظام شاملا؛ حيث لم يعد ثمة جدار يحيط به من الخارج، إذ لم يعد هناك خارج. إن محرك البحث جوجل، وشبكات التواصل الاجتماعي التي تقدم نفسها بوصفها مساحات مفتوحة للحرية، يوفرون أشكالا من هذا النظام. في عالمنا اليوم لا تعدّ المراقبة هجوما على الحرية، فبدلا من ذلك، يستسلم الناس طواعية لنظرة المراقبة. يتعاونون، عن قصد، داخل هذا النظام الرقمي للمراقبة عبر تعرية أنفسهم وعرضها. إن السجين في هذا النظام الرقمي هو الجاني والضحية في الوقت ذاته. ها هنا نجد تلك الشوائب التي لازالت تذكرنا بديالكتيك الحرية، ليتضح في النهاية أن الحرية هي شكل من أشكال السيطرة. (هان، 2019)

والمسألة الجوهرية، فيما يرى باومان، هو موت الخصوصية في عالم الأنترنت، فمستعملوها يقودون خصوصياتهم إلى المذبح بإرادتهم، ويبقون رهائن للقدر، فكل ما هو خاص يمكن أن يجري فعله فيما هو عام، ويكون متاحا للاستهلاك العام، ويبقى متاحا على الدوام، لأن الشبكة لا يمكن إرغامها على نسيان أمر ما تم تسجيله على ذاكرتها. إن تآكل الخصوصية هو نتاج الخدمات المنتشرة لمواقع التواصل الاجتماعي، وكاميرات الهواتف، ومواقع استضافة الصور والفيديوهات المجانية. (باومان وليون، 2017 ب)

والمعروف أن الناس يخافون من التعرض للمراقبة، لكن مع شبكة الأنترنت، أُعيد تصنيف التعرض للمراقبة من إنذار بالخطر والتهديد، إلى بشارة بالإغراء والإغواء، ذلك أن الوعد بظهور مكثّف والإغراء بظهور واضح أمام الجميع يتوافقان تماما مع الرغبة الشديدة في الحصول على دليل بالاعتراف الاجتماعي، وعلى دليل بوجود له معنى، وهذه فرصة لتسجيل الوجود الكامل، في سجلات متاحة للجمهور. وهذا يبدو أفضل علاج وقائي من إيذاء الإقصاء، وطريقة ناجعة لإبعاد خطر الطرد. إنها فرصة مُغوية لا يشعر بالقدرة الكافية على مقاومتها سوى فئة معدودة من مريدي الوجود الاجتماعي المعروف بعدم ثباته واستقراره. (باومان وليون، 2017 ب)

إن الخصوصية تعني السرية، وعدم إفشاء الأسرار أمر مهم لتشكيل التفاعل الاجتماعي. إن السرّ مثل كل المقومات المتعلقة بالممتلكات الشخصية، أما في ظل ما تعيشه المجتمعات المعاصرة، فيما يرى باومان، فليست إمكانية إفشاء الخصوصية هو ما يخيف أفرادها، ولكنه إغلاق المخارج التي يمكن من خلالها إفشاء الخصوصية، فتتحول مناطق الخصوصية إلى مواقع للحبس، حتى يُحكم على صاحب الفضاء الخاص، ويُكتب عليه أن يعاني عواقب أفعاله من دون مساعدة من أحد، ويُجبر على حياة تتسم بغياب المنصتين الشغوفين بانتزاع الأسرار وإخراجها من وراء الأسوار الحصينة للخصوصية، من أجل إفشائها للجميع، وجعلها ملكية مشتركة. ويبدو أننا لا نستمتع بأسرارنا إلاّ إذا كانت تُضخّم الأنا وتجذب انتباه كم هائل من المعجبين، أما من يهتمون بعدم الظهور فلابد من رفضهم واستبعادهم، أو الاشتباه بارتكابهم للجرائم، فالعري الجسدي والاجتماعي والنفسي هو سمة العصر. (باومان وليون، 2017 ب)

نخلص إلى أن مفهوم البانوبتيكون، مع بنتام وفوكو، يعني الاحتجاز في مكان مغلق ومرئي، ينتهي إلى الإخضاع والسيطرة لفرض الانضباط الذاتي على المحتجزين في السجن، ولكن جرى تعميم المفهوم فيما بعد على كل القطاعات المتماثلة كالمدارس والمستشفيات. وعند باومان كان المفهوم حاضرا بكل ألقه، تمّت مداولته على ظواهر جديدة، جاءت بها الحداثة السائلة كالهجرة وشبكة الأنترنت، الأنترنت التي قلبت كل المفاهيم القديمة عن المراقبة. مع باومان حافظ مفهوم البانوبتيكون على بعض عناصره القديمة، ومنحه مرونة وحيوية لمّا أجراه على ظواهر جديدة. ولا يمكن إغفال استفادة باومان من البحوث السوسيولوجية التي أجراها علماء آخرون في ميدان المراقبة.

خاتمة

نخلص في خاتمة هذا البحث، الذي حاولت فيه الاقتراب من بعض مفاهيم السوسيولوجيا المعاصرة، التي نحتها زيجمونت باومان، إلى أن السوسيولوجيا بذاتها مجموعة قواعد معرفية متنوعة ومتعددة، وذلك يعود في الأساس لتنوع وتعدّد المنطلقات التي يستند إليها كل باحث بحد ذاته. لذلك فالمفاهيم والأفكار المتوصل إليها، قد لا تحصل على الإجماع، مما يجعل من هذا العلم، حقلا خلافيا. ورغم ذلك، فتنوع مذاهب هذا العلم يضفي عليه نوعا من الجاذبية المعرفية، والتي تكمن في إثارة مناقشات جديدة، تثمر مفاهيم جديدة، حتى وإن تعدّدت، يمكن إرجاعها إلى توجهات نظرية يمكن الإحاطة بها، ويمكن إيجاد التناغم فيما بينها، لأن مساهمة السوسيولوجيين ليست مستمدة من رؤى منعزلة ومنغلقة على نفسها، فهي تتقاطع في الكثير من الجوانب مع بعضها البعض.

يعتبر باومان صاحب السيادة في السوسيولوجيا المعاصرة، لأنه على اتصال بروح العصر، ويتمتع بموهبة نظرية ومعرفة واقعية، يبدو من خلال مفاهيمه، مفكرا بارعا وموهوبا، يتمتع بقدرة على التعميم، وتحليلاته مقنعة، لأنه استطاع وصف وتحليل الظواهر الاجتماعية بالسرعة التي تحدث وتتطور في عالم الحداثة السائلة، جهده فيه حركية دائمة، عمله قيد التقدم دائما، عمل من أجزاء متشابكة وهذه الأجزاء في ديمومة.

ما فعله، كان استعادة النظريات والأفكار والمفاهيم، وإعادة التفكير فيها، لا لإعادة طرحها كما هي، وإنما لتوليد أفكار ومفاهيم جديدة، وبهذا، فهو يتكيّف ويتوسع، ولا يتصرّف كمُحسّن، ولكن بقدر ما هو شاعر، مُنح ترخيصا لتحويل ما أصبح مألوفا إلى تحفة رائعة. خلق طريقة تفكير اجتماعية خاصة به إلى حدّ بعيد. إن الأفكار والمفاهيم المألوفة تعلن عن نفسها جديدة بين يديه.

مساهمة باومان تبدو جديدة، بالنظر إلى أنه يسعى للتوفيق بين العمل العلمي الصارم، والطريقة التي يكون بها الواقع الموجود بالفعل، بلمسة مشبعة بدفء الحياة الإنسانية. عمله يمتلك قوة الحياة، وقراءته تعني أنه مهتم بالطرق التي يعيش بها الناس اليوم، ومهتم بالمخاوف الإنسانية اليومية. بالنسبة له، الوجود من أجل الآخرين هو الطريقة الأصيلة الوحيدة التي يمكن للسوسيولوجيا أن تعمل بها.

تأثر باومان في صناعة مفاهيمه، بعدد كبير من المفكرين والأدباء والسوسيولوجيين، لا يعتمد فقط على المنظرين الاجتماعيين لتطوير نوع خاص به من السوسيولوجيا، ونظرا لكونه قارئا غزيرا للأدب، فإنه يستمد الكثير من إلهامه من مجموعة واسعة من الروائيين والشعراء والفلاسفة.

مساهمة باومان في تجديد المفاهيم تكمن في أصالتها وثرائها؛ فالأصالة تبدو من خلال تمكينه من الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية التي حللها بدقة ورزانة، دون أن يغرق فيها، مع الحيطة من التيه والضلال في تعرجات والتفافات تلك الظواهر، أما الثراء فيبدو من خلال إبداعه لبعض المفاهيم واستعارته لأخرى سواء من مجالات معرفية أخرى، أو من باحثين أخرين من نفس التخصص والاهتمامات البحثية المتقاربة.

مفاهيم باومان واضحة، وبالتالي فهي مفهومة لدى القارئ، وهذا يوحي برغبته في فهم الظواهر وتبليغ ذلك الفهم إلى القارئ، وهذا ما عبر عنه بيير بورديو عندما أشار إلى اختلاف السوسيولوجيا عن العلوم الأخرى في مسألة مهمة هي كونها مطالبة بأن تكون واضحة، في حين لا يُطلب ذلك من حقول علمية ومعرفية أخرى كالفيزياء والسيميولوجيا والفلسفة، فنبذ الغموض دليل على الرغبة في فهم مسائل يشعر المرء بأنها تستحق أن تُفهم، أو يكون متيقنا من فهمها.

      ويبقى الجهد الأساسي في البحث السوسيولوجي، مرتبطا بعملية تشكيل مفاهيم قادرة على صياغة الإبداع في أشكال وصيغ متطورة وقابلة لأن تُستوعب، وهذا ما قصده باومان عندما آمن بأن السوسيولوجيا ستزدهر عندما يتمكن الباحثون فيها من الاستفادة من مفاهيمها.

المراجع

أوشو (2013). الحب والحرية والفردانية، ترجمة متيم الصايغ، ط2، دار الحوار، سوريا.

باومان، زيجمونت (2016 أ). الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ترجمة سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، ط1، منشورات كلمة، أبو ظبي.

باومان، زيجمونت (2016 ب). الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزت، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.

باومان، زيجمونت (2016 ج). الحياة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف غزت، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.

باومان، زيجمونت (2016 د). الحبّ السائل-عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزت، ط1، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت.

باومان، زيجمونت (2017 أ). الخوف السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزت، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.

باومان، زيجمونت وليون، ديفيد (2017 ب). المراقبة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزت، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.

باومان، زيجمونت ودونسكيس، ليونيداس (2018). الشرّ السائل-العيش مع اللابديل، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رؤوف عزت، ط1، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت.

Bauman, Zygmunt (2007).  Consuming Life, Polity Press, UK-USA.

Bauman, Zygmunt (2008). The Art of Life, Polity Press, UK-USA.

بروكنر، باسكال (2006). بؤس الرفاهية-ديانة السوق وأعدائها، ترجمة عبد الله السيد ولد أباه، ط1، العبيكان، الرياض.

بوغام، سيرج (2012). ممارسة علم الاجتماع، ترجمة منير السعيداني، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.

بيكيتي، توماس (د ت). رأس المال في القرن الحادي والعشرين، ترجمة وائل جمال وسلمى حسين، د ط، دار التنوير.

بينيت، طوني وغروسبيرغ، لورانس وموريس، ميغان (2010). مفاتيح اصطلاحية جديدة-معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ترجمة سعيد الغانمي، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.

تورين، آلان (2011). براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.

جيدنز، أنتوني (2003). عالم جامح-كيف تعيد العولمة تشكيل حياتنا، ترجمة عباس كاظم، وحسن ناظم، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت.

روزنبلات، روجر (2011). ثقافة الاستهلاك، ترجمة ليلى عبد الرزاق، ط1، المركز القومي للترجمة، القاهرة.

ستيل، بن وهيندز، مانويل (2013). المال والأسواق والسيادة، ترجمة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ط1، أبو ظبي.

سكروتون، روجر (2014). الجمال، ترجمة وتقديم بدر الدين مصطفى، ط1، المركز القومي للترجمة، القاهرة.

شيللر، هربر. أ (1999). المتلاعبون بالعقول، ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة، العدد 243، مارس.

طه، فرج عبد القادر (1993). موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، ط1، دار سعاد الصباح، الكويت.

علية، محمد بشير (1985). القاموس الاقتصادي، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

فوكو، ميشيل (1990). المراقبة والمعاقبة، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، د ط، مركز الإنماء القومي، بيروت.

كليج، ستيوارت. ر (2002). المنظمات الحديثة-دراسات في منظمات عالم ما بعد الحداثة، ترجمة حمزة سر الختم حمزة، د ط، مركز البحوث، الرياض.

كوبلستون، فردريك (2009). تاريخ الفلسفة، المجلد الثامن، ترجمة محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، ط1، المشروع القومي للترجمة، القاهرة.

كيلر، كاثلين (2017). غسيل الدماغ، ترجمة سامر عبد المحسن الأيوبي، عبد القادر مصطفى عيسى، ط1، العبيكان، الرياض.

ليبوفتسكي، جيل (2012). المرأة الثالثة-ديمومة الأنثوي وثورته، ترجمة دينا مندور، ط1، المركز القومي للترجمة، القاهرة.

ليبوفتسكي، جيل (2018). عصر الفراغ-الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة، ترجمة حافظ إدوخراز، ط1، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت.

مارتن، جيمس (2011). معنى القرن الحادي والعشرين، ترجمة أحمد رمو، د ط، الهيئة السورية العامة للكتاب، دمشق.

ميرلو، جوست إبراهام ماورتيز (2018). اغتصاب العقل-سيكولوجيا التحكم في الفكر، وتشويع العقل، وغسل الدماغ، ترجمة أدهم وهيب مطر، ط1، تموز ديموزي للطباعة، دمشق.

نعمه، أنطوان (2008). المنجد في اللغة العربية المعاصرة، ط2، دار المشرق، بيروت.

هان، بيونغ تشول (2019). مجتمع الشفافية، ترجمة بدر الدين مصطفى، ط1، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، الرباط-بيروت.

هلال، وليام وتايلر، كينث ب (2009). اقتصاد القرن الحادي والعشرين، ترجمة حسن عبد الله بدر، ط 1، المنظم العربية للترجمة، بيروت.

هيغل (1988). المدخل إلى علم الجمال-فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، ط3، دار الطليعة، بيروت.

Belleau, Hélène & Piazzesi, Chiara & Seery, Annabelle (2020). Lamour conjugal sous langle sociologique : des pratiques à la théorie, I. N. R. S, Montréal, Juin, p. 23-46.

Laval, Christian (2012). Surveiller et prévenir-la nouvelle société panoptique, La découverteRevue du mauss, 2, N 40, p. 47-72.

Manokha, Ivan (2018). Surveillance, Panopticism, and Self-Discipline in the Digital Age. Surveillance & Society 16(2), p. 219-237.

Neyrand, Gérard (2020). Les paradoxes du couple contemporain, Revue santé mentale, 247, Avril, p. 31-35.

Parrillo, Vincent N (2008). Encyclopedia of social problems 1&2, SAGE publication, Los Angeles-London.

Ritzer, George (2007). The Blackwell Encyclopedia of Sociology, Blackwell Publishing, UK-USA

@pour_citer_ce_document

اليزيد بوعروري, «تحولات المفاهيم في السوسيولوجيا المعاصرة: زيجمونت باومان وتجديد المفاهيم»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 09-26,
Date Publication Sur Papier : 2023-06-11,
Date Pulication Electronique : 2023-06-11,
mis a jour le : 11/06/2023,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=9260.