التفكير في الدولة في العالم العربي: مقاربة نقديةThinking the state in the Arab world: a critical approach
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 20-2023

التفكير في الدولة في العالم العربي: مقاربة نقدية

Thinking the state in the Arab world: a critical approach
ص ص 27-44
تاريخ الاستلام 2022-07-26 تاريخ القبول 07-11-2022

دريس نوري
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

موضوع هذه الدراسة هو الدولة في الفكر العربي. إذ تحاول أن تدرس الانعكاسات النظرية والمنهجية والتاريخية لاستخدام العلوم الاجتماعية أدوات منهجية ونظرية غير متوافقة مع درجة البناء الدولتي ومستوى تشكل الحقل السياسي في المنطقة العربية. ومن خلال دراسة نقدية لثلاثة نماذج عن التفكير في الدولة: عبد الله العروي، عبد الإله بلقزيز، برهان غليون، استنتجنا أن اشتقاق مفهوم الدولة من وضعها المتأخر جدا في الحداثة (من دولة القانون) أدى إلى تجاهل جوهرها: السلطة، وهذا ما أدى بالتحليل إلى إعادة إنتاج نفس الصورة التي تروجها الدولة عن نفسها، أو الانطلاق من نفس الصورة لمحاولة فهم مشكلاتها، وكلا النتيجتين لا تفتحان أفقا للتفكير في مستقبلها.  لهذا السبب، تقترح هذه الدراسة العودة إلى الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا التاريخية لوضع إشكالية الدولة في العالم العربي ضمن الإشكالية العامة للسلطة، وهذا من أجل فهم تاريخي لوضعها الراهن، يتجاوز الوصف الشكلاني، والانفعالات الظرفية ويسمح بفتح أفق لاشتقاق بنية مُؤسساتية وقانونية إنطلاقا من تعريفا بأنها سلطة. نقترح ثلاثة عناصر لدراسة الدولة العربية: السلطة، المجتمع المدني، صيرورة العلمنة، ونعتقد أن هذه العناصر هي التي تسمح بفهم جوهر الدولة والنظر إليها كظاهرة تاريخية ديناميكية لا تزال قيد التشكل. من هذا المنظور، فإن تسلط العربية ليس معطا نهائيا، وتناقضاتها يمكن أن تتجاوزها بنفس الأدوات تقريبا التي تجاوزت بها المجتمعات الغربية تناقضات مرحلة الدولة التسلطية.

L’objet de cette étude est L’Etat dans la pensée arabe contemporaine. Elle va tenter d’analyser les conséquences théoriques, méthodologiques et historiques de l’usage des sciences sociales des cadres théoriques et outils méthodologiques incompatibles avec le degré d’élaboration de l’Etat et le niveau d’autonomie du champ politique dans le monde arabe. À travers une étude critiques de trois modèles de pensée : Abdellah Laroui, Abd Alilah belkeziz, Borhan Ghelyoun, nous avons conclu que toute démarche théorique qui définisse le concept de l’Etat à partir de la forme qu’il prenne dans la modernité, à savoir l’Etat de droit en occident, peut conduire l’analyse à ne pas saisir son essence : le pouvoir. Ce qui forcément les conduire à reproduire le même discours et la même image que les régimes politiques promènent de lui-même, ou de partir de la même conception pour analyser et comprendre ses problèmes. Les deux démarchent n’ouvrent aucune perspective pour comprendre les enjeux des sociétés et des états arabes. Pour cette raison, nous proposons ici de retourner à l’anthropologie et à la sociologie historique pour replacer la problématique de l’Etat dans le monde arabe dans le problématique général du pouvoir. Cette démarche a comme objectif une compréhension historique de ses enjeux et de dépasser les démarches descriptives afin d’ouvrir des perspectives politico - juridiques qui permettent de dériver une architecture institutionnelle et constitutionnelle à partir d’une définition de l’Etat comme étant un pouvoir. Nous proposons trois concepts pour le définir et l’analyser : pouvoir, société civile, processus de sécularisation.  Nous croyons que cette démarche nous permet de concevoir l’Etat arabe comme un phénomène politique toujours en cours de construction, qui peut dépasser ses impasses et ses contradictions actuelles

This study searches for the state concept in Arab thought. It seeks to examine the implications of using social science as a tool that is unsuitable for the level of state-building and political sphere formation in the Arab world. deriving the concept of the state from its late status in modernity (from the rule of law) leads to a neglect of its essence: power, which leads the analysis to reproduce the same image that the state ascribes to itself. The question of the role of the state in the Arab world has long been a source of tension between the peoples of the region and that of their rulers. For this reason, it is important to return to historical anthropology and sociology in order to place the question of power within the broader question of who has the most influence over society. The dominance of Arabism is not the ultimate giver, and can almost be addressed through the tools used by Western societies to overcome the contradictions of Arab states. We believe that it is these factors that allow us to understand the nature of the state as a dynamic historical phenomenon that is still taking shape

Quelques mots à propos de :  دريس نوري

د. دريس نوري Dr. Dris Nouri  جامعة  محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائرdrisnouri@hotmail.fr

مقدمة

تعتبر العشر سنوات الماضية التي ثارت فيه الشعوب العربية ضد أنماط السلطة القائمة، فرصة لإعادة التفكير في الدّولة من كافة الجوانب؛ فالثورة في حدّ ذاتها، وبغض النظر عن مآلاتها ونتائجها، هي تعبير اجتماعي عن رفض نمط السلطة وأشكال ممارستها على أو في المجتمع، وتعبير عن تبلور تمثلات جديدة عن الدولة لا تتوافق وشكلها القائم. كما أن المطالبة بالمشاركة السياسية في السلطة، وإعطاء فعالية ومكانة أكبر للمؤسسات السياسية على حساب الأشخاص، ومحاربة الفساد والمحسوبية والزبونية... كلها عناصر مهمة لم يكن يُبنى عليها مفهوم الدولة في المنطقة العربية. اشتق الخطاب الأكاديمي العربي مفهوم الدّولة من الصورة التي كانت تروجها الدّولة حول نفسها: «هي إقليم جغرافي يتمتع بالسيّادة الداخلية والخارجية، يحتكر الوظائف السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أجل خلق ظروف الازدهار والرقي لأفرادها والحفاظ على أمنهم››. وحتى المؤلفات النقدية للدولة العربية، تنطلق من نفس التصور للدولة ولوظائفها، وأقصى ما يمكن أن تنتهي إليه هو وصف مظاهر الفشل في تحقيق الوعود بالتنمية، أو إدانة أشخاص لم ينجحوا في أداء وظيفتهم، وهو بذلك (الخطاب النقدي)، لا يُكرّس فقط الصورة القائمة، بل يدفع بالتفكير في المشكلات التي تواجه المجتمعات العربية نحو سَيكلجة الظاهرة السياسية عند تفسيره للفشل، أو إدانة البُنَى الثقافية واتهامها بالعجز عن استيعاب الحداثة، وفي هذه النقطة الثانية يتطابق مع الخطاب الإثنومركزي الغربي، مع خطاب السلطة التي تُحمَل الشعوب المسؤولية.

 تنطلق هذه الدّراسة من مسلمة مفادها أن الدولة والبنية القانونية التي تنظمها وتنتظم فيها، تم اشتقاق مفهومها في الفكر الأكاديمي العربي من مراحل متأخرة جدّا من البناء الدولتي في الغرب حيث السلطة فيها مُمَأسسة والحقل السياسي مستقل وتُسيره مؤسسات قانونية تمثيلية ذات شرعية انتخابية، أي حيث موضوعها يتوافق مع العلوم السياسية كعلوم مُصمّمة لدراسة الدولة الحديثة الناجزة. في حين أن هذه الأخيرة لم تتطور في هذا الاتجاه، إلا لكونها مُشتقة من مفهوم السلطة، أي تم بناءها تدريجيا عبر التاريخ كشكل من أشكال انتظام السلطة.

 هنالك فرق كبير بين أن يُشتقّ مفهوم الدولة من فكرة «أنها تجسيد للمصلحة العامة والعقل الجمعي» وبين أن يُشتق من مفهوم السّلطة والهيمنة. إن تعريف الدولة منذ لحظة نشأتها في المنطقة العربية على أنها «تنظيم سياسي لخدمة المصلحة العامة›› يستلزم الطاعة والولاء والخضوع لها لكي تستطيع إنجاز مهمتها التاريخية، أما التعريف الذي يُشتق من فكرة أنها شكل من أشكال السلطة، فإنه يستلزم ضرورة تقييدها وتقنينها، وإخضاعها للرقابة الشعبية والتداول عليها كي لا تنحرف نحو التسلط. إن السياق الذي تمخضت عنه الدولة العربية جعلها فعلا تبدوا تجسيدا للمصلحة الوطنية، وهي فعلا كذلك، فالدولة الوطنية بحكم تعريفها هي نقيض الدولة الكولونيالية، ومن وجهة النظر هذه فلم يكن ممكنا النظر إليها منذ الوهلة الأولى أنها سلطة، أو على الأقل التفريق بين مؤسساتها وبين السلطة التي تسيرها. إن الربيع العربي هو وعي شعبي تاريخي بضرورة الفصل بين الدولة والسلطة، وأنهما لا يجب أن يتطابقان، وإلا تحول الخضوع للدولة إلى خضوع للسلطة، وهذا الفصل لا يمكن تحقيقه على المستوى القانوني والمؤسساتي إلا بإعادة تعريف الدولة على أنها شكل من أشكال السلطة، إذا لم يتم مراقبتها، وإخضاعها فقد تنحرف نحو الباتريمونيالية، أي نحو خوصصة الدولة.

تهدف هذه الدراسة إلى إعادة مَوْضعة إشكالية الدولة ضمن الإشكالية العامة للسلطة وللسياسي. لقد بين الربيع العربي، والأحداث التي جرت قبله في بلدان أخرى، أنه ثمة طلب متزايد على دولة القانون، حتى ولو تم التعبير عن ذلك بمفردات متناقضة لا تتوفق أحيانا مع الشكل الحديث للدّولة. العلوم الاجتماعية هي علوم تاريخية، ويجب أن تنخرط في الديناميكيات التاريخية التي تعرفها المجتمعات التي تشتغل فيها، ولذلك، فإنها مدعوة لمرافقة هذه التحولات في تمثلات الجماعات الاجتماعية للدولة والحقل السياسي، ببناء إشكاليات تساعد النقاش العام على تجاوز ما يبدوا أنه انسداد تاريخي في عملية التحول الديمقراطي، أو ما يروج له أنه استثناء عربي، أو ما يتم الترويج له على أن كل شكل من أشكال الاحتجاج ضد السلطة هو إحتجاج ضد الدولة، ورفض لها وتهديد لوحدتها وتجانسها. وتطرح الدراسة التساؤلات التالية:

-كيف يتجلى مفهوم الدولة في الفكر العربي؟ وماهي الانعكاسات النظرية والمنهجية له على فهم الدولة، مشكلاتها وتصور أفقها؟

-كيف يمكن بناء إشكالية للدولة تسمح بتجاوز الانسداد المعرفي والتاريخي القائم حاليا؟ ويستجيب لتطلعات الشعوب العربية نحو دولة القانون؟

 سوف نبدأ أولا بمراجعة نقدية للعلوم السياسية في المنطقة العربية، ثم بعدها نستعرض نقديا نماذج عن التفكير في الدولة تساعدنا على استخلاص خصائصه الكبر وبناء مجموعة من العناصر التحليلية التي تسمح بإعادة موضوعة إشكالية الدّولة ضمن الإطار العام لإشكالية السلطة، وضمن السياق التاريخي للمجتمعات العربية.

العلوم السياسية وإشكالية الدولة في العالم

      العربي

أول ملاحظة يمكن تسجيلها بخصوص مفهوم الدولة في الفكر العربي، هو اخضاعه لنفس المنطق الذي أخضعت له بقية المفاهيم الأخرى سواء من حيث المنهج، أو المقاربات النّظرية.

وقعت أدبيات الدولة في فخ الطقوسية المنهجية، حيث الباحث أو المؤلف كما يقول عزمي بشارة في وصفه لطريقة تعامل الباحث العربي مع مفهوم المجتمع المدني، ونعتقد أنه ينطبق كذلك على كل المفاهيم الأخرى: «لا يكلف نفسه عناء خوض النقاش حول نظرية وتاريخ المفهوم، بل يكتفي بسرد بعض التعريفات الغربية بالسرعة الممكنة واختيار ملا يلائمه منها بصيغة «المجتمع المدني هو... ثم يبدأ بمحاولة المزاوجة بين هذه الصيغة وبين الظواهر الاجتماعية التي يختارها»(بشارة، 2012). تعكس هذه الطقوسية استخفافا منهجيا ونظريا كبيرين في التعامل مع موضوع الدولة، إلى درجة «أصبح فيها على حدّ وصف برتراند بادي (Bertrand Badie) وبيار بيرنبوم (Pierre Birnbaum) يتسم بالكثير من العمومية ويستخدم بنفس الشكل الموحد لوصف جميع الأنظمة السياسية لدرجة تم فيها افراغه من كل الدلالات ويفقد كل دلالاته الاستكشافية.»( B. Badie, P. Birnbhaum1982) ولا يكفي لتفحص العمق التاريخي لتجربة تشكل وبناء الدّولة العربية، ولا للتمييز بين دولة قانون (ناجزة تاريخيا)، وأخرى حديثة النشأة (في طور البناء)، أو بين جوهر الدولة (كصيرورة تاريخية، وبناء سياسي قانوني تحل فيه إشكالية السلطة في المجتمع)، وبين السلطة السياسية، النظام السياسي والجهاز البيروقراطي. والأخطر من كل هذا، هو غياب الحس بالمنظور التاريخي لتطور الدولة العربية، وسجن المجتمعات العربية داخل أنماط ثقافية وسياسية يرى أصحابها أنها لا تاريخية وغير قابلة للتطور ولا يمكن تجاوزها.

نفترض أن هذه الممارسة الأكاديمية- الفكرية تعود إلى هيمنة العلوم السياسية، بأدواتها النظرية والمنهجية، على دراسة الظاهرة السياسية بشكل عام، وموضوع الدّولة بشكل خاص، بدل المقاربات العابرة للتخصصات (علم الاجتماع السياسي، الاقتصاد السياسي، الأنثروبولوجيا) ويظهر ذلك جليا سواء من خلال المضامين التي شُحن بها مفهوم الدّولة (والمفاهيم المرتبطة بها: المواطنة، السلطة، المجتمع المدني، العلمنة ...) في الكثير من المؤلفات التي تناولته، أو من خلال التصورات السياسية/الفكرية (للتنمية السياسية والاقتصادية) والانتقال الديمقراطي التي اشتقت منها (أي من هذه المضامين).

يستند هذا الافتراض إلى حجتين:

طبيعة وتاريخ العلوم السياسية

تُعتبر العلوم السياسية الفرع المعرفي الأكثر حداثة من بين الفروع التي تهتم بدراسة الظواهر السياسية، إذا لم تأخذ استقلاليتها في الجامعات الغربية إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر.

إن ظهور العلوم السياسية، كفرع معرفي قائم بذاته له موضوعه وأدواته النظرية والمنهجية، يتوافق تاريخيا مع درجة متقدمة من بناء ونضج الدولة (دولة القانون)، حيث الحقل السياسي مستقل ومتمايز وعلى درجة عالية من المأسسة. إن هذه المأسسة هي التي فرضت مقاربات منهجية ونظرية جديدة لموضوع الدولة بصفة عامة، والنّظام السياسي والسلطة بصفة خاصة، تجعل من (فضاء الدولة) مجال الملاحظة والدراسة الوحيد للظاهرة السياسية بشكل عام، قبل هذه المرحلة، كانت الظاهرة الدولتية (والظاهرة السياسية عموما)، وضوعا لتخصصات معرفية متعددة: الفلسفة، الاقتصاد السياسي، والسوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا ... لأن «السياسي›› كان مبعثرا في كل الأبنية الاجتماعية، والصراع على السلطة وممارستها لم يكن مُمأسسا بعد. إنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية هي علوم تاريخية، تطورت نتيجة طلب اجتماعي عليها، وحاجة أبستمولوجية إليها. لم تظهر هذه العلوم دفعة واحدة في الجامعات الغربية، بل هي نتيجة التطور في حدّ ذاته، حيث كلما تمفصلت وحدات اجتماعية جديدة، وإلا وظهر فرع معرفي يختص بدراستها.

ولكن العلوم الاجتماعية والإنسانية في العالم العربي، تم استيرادها دفعة واحدة، بأدواتها المنهجية والنظرية، في سياق تاريخي معروف جدا، حيث شهدت الجامعات العربية بعد الاستقلال، «فتحا عشوائيا» لتخصصات كثيرة لا تمتلك حتى موضوع دراسة، أو على الأقل لا تتوافق أدواتها المنهجية والنظرية مع السياق التاريخي العربي؛ ليس لأسباب ثقافية، بل لأسباب تاريخية مُتعلّقة بدرجة مأسسة السياسي ودرجة العلمنة والتمايز الاجتماعي. العلوم السياسية أحد هذه الفروع التي عرفت انتشارا طُحلبيا في كل الجامعات العربية تقريبا رغم أن موضوعها لم يكن ناجزا آنذاك، وربما لغاية الآن.

 يرتبط المبرّر الثاني بطبيعة الدولة كظاهرة

            تاريخية

الدولة الحديثة ظاهرة تاريخية غربية، تشكلت عبر صيرورة تاريخية من مأسسة واستقلالية السياسي، حيث نشأ مركز سلطة وعمل على امتصاص «السياسي» من الأبنية الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، الدينية، وتحييدها بشكل تدريجي.

إن التقاليد الأكاديمية التي تنظر اليوم إلى الدولة في الغرب على أنها فضاء اللّعبة السياسية الوحيد والأساسي لها ما يبررها تاريخيا وابستمولوجيا، باعتبار الدولة هنالك، قد عرفت نضج (نسبي) لهذه الصيرورة التي أدت إلى تمركز النسق السياسي système politique داخل الدّولة وتطابق معها من دون أن يهيمن عليها أو يحتويها، أي أن الدولة هي من أدمج كل النسق السياسي داخل مؤسساتها، وحولت الدولة من شكل للسلطة، إلى «كيان سياسي تحل فيه إشكالية السلطة بطريقة سلمية داخل المجتمع»، وتحولت بذلك إلى أداة اندماج الجماعة السياسية.

ولكن، هل ثمة ما يبرر هذا الاستتباع النظري والمنهجي في العالم العربي؟ وهل تفحص جيدا «مفكري الدولة›› مدى ملائمة مفاهيم ومقاربات العلوم السياسية للدولة مع مستوى مأسسة السياسي ودرجة البناء الدولتي في العالم العربي؟

إذا كان بالإمكان تفهّم الظروف التي نشأت فيها الجامعات، وفتح التخصصات المعرفية فيها (قرارات سياسية)، فإنه من غير الممكن اليوم الاستمرار في غضّ الطرف عن إهمال – وأحيانا إقصاء- تخصصات بعينها يُفترض أن تكون هي الإطار القاعدي الذي يسمح بمفهمة ومشكلة الواقع السياسي، الاقتصادي والاجتماعي. إن درجة مأسسة السياسي في المجتمعات العربية اليوم، لا يتوافق ودرجة البرقرطة والتنظيم الإداري للدّولة، بما أن هذه الأخيرة تشكلت كحدث عرضي بعد طرد الاستعمار، ولم تكن تطورا لديناميكية تاريخية داخلية لمأسسة السياسي ومَرْكزة السلطة في المجتمع. إن الدولة في المنطقة العربية اليوم، هي وعاء ادار ي شبه فارغ سياسيا وقانونيا، حتى في تلك الأنظمة التي يسود فيها نظاما تعدديا شكليا (الجزائر، مصر، المغرب، الكويت ...). جزء كبير من اللعبة السياسية (التنافس على السلطة، ممارستها وتوزيعها) يجري خارج المؤسسات القائمة (خارج قانون الانتخابات، البرلمان، الدستور، الهيرارشية الإدارية، الرئاسة ...) التي يُفترض أنه تم اقتناءها/بناءها لأجل ذلك. ولهذا السبب، فإنه يستحيل على العلوم السياسية أن تصل إلى كل الفضاءات والأبنية الاجتماعية المقحمة في الصراع والتنافس على السّلطة، بما أنها تأسست حول موضوع مجاله المؤسسات السياسية الحديثة، وليس البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي لا تزال مُسيّسة ومُقحمة بشدة في التنافس على السلطة.

نماذج عربية عن التفكير في الدولة

ثمة أدبيات ضخمة عن الدولة في العالم العربي، يستحيل الإحاطة بها. سنختار هنا ثلاثة مؤلفين، أثّروا بأشكال مختلفة على الدراسات الأكاديمية والتفكير في الدولة، وتتسم أعمالهم بجدية منهجية ونظرية، ونعتقد أن الاستعراض النقدي لفكرهم يسمح لنا بتوضيح جيّد لفكرة الدراسة وحججها الأساسية.

 عبد الله العروي

يعتبر كتاب عبد الله العروي (مفهوم الدولة) مرجعيا في الحقل الأكاديمي العربي لفهم موضوع الدّولة، ورغم مرور أكثر من أربعون سنة على صدوره (1981)، إلا أنّ طبعات جديدة لا تزال تصدر منه، دون مراجعة ولا تنقيح من كاتبه.

السؤال الأساسي الذي نطرحه بشأن الكتاب هو: أين يضع كتاب العروي النّقاش في الدّولة في العالم العربي؟ وماهي الأفق النّقدية والمعرفية التي يفتحها؟

يظهر الكتاب بيداغوجي وصفي إلى أبعد حدّ، حاول فيه مُؤَلفه أن يرصد موضوع الدّولة في تخصّصات مَعرِفية مُختلفة: الفلاسفة، رجال القانون المؤرخون، وعُلماء الاجتماع، وهذا ما قاده إلى حصر أسئلة الدّولة الأساسية في ثلاثة محاور هي:

-سؤال الأصل والهدف

-سؤال التطور

-سؤال الوظائف والوسائل( العروي، 2011)

أما عن عالم الاجتماع، فيحدد له العروي دورا واحدا يتمثل في دراسة وظائف الدولة كما هي من دون أي يفصل فيما يريد أن يقوله بوظائف الدولة عدا الإشارة إلى الوظائف الوقائعية. كتب ما يلي «ويبقى عالم الاجتماع وفيا لمنهجه، لا يجب أن يهتم فقط بسؤال الفيلسوف، بل عليه أن ينطلق من الوظائف الموجودة بالفعل في المجتمع الذي يعيش فيه وأن يكشف عن الواقع لا بالاستنتاج النظري، وبدون أن يقبل مُسبقا الهدف الذي تدّعيه الدولة القائمة، أو يقرره الفيلسوف» (العروي، 2011).

ولكن، ما يجده القارئ في الصفحات الموالية للكتاب، يذهب عكس ما يؤكد عليه العروي في هذه الفقرة. إذ أنّ تأكيده على ضرورة استنتاج وظائف الدولة من الواقع لا من التنظير، لا نجد له أثرا في الكتاب، فالمؤلف لم يذكر في كتابه عن الدولة ولا دولة عربية واحدة، بل لم يذكر أي نظام سياسي عربي، وقد نتفهم هذا لكون الكتاب نظريا بيداغوجيا، ولكن قد يكون هذا متعارضا مع المنهج الذي يقترحه المؤلف ويؤكد عليه. الكتاب لا يناقش واقعا تاريخيا مُعينا، بل يناقش ما كتب حول الدولة في الغرب، وتحديدا ما كتبته الفلسفة الغربية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.

 على صعيد المقاربة النظرية، نجد العروي متأثرا بالفيلسوف لا بعلماء الاجتماع والمؤرخين وهو عكس ما يدعوا هو إلى ذلك. لم يخف اعجابه بهيغل وجعَله المرجعية النظرية والفلسفية الوحيدة لفهم ودراسة الدولة (في الحقيقة لسنا متأكدين هنا لماذا العروي معجب بهيغل، هل لغرض التنظير والدراسة والفهم، أم لغرض الممارسة السياسية؟ أم أنه هنالك خلط بين الإثنين) ويقول: «للإجابة على فكرة الدولة، أو ماهي أسطورة الدولة يجب أن نتوجه إلى هيغل لأسباب منها أنه يُلخّص أقوال أفلاطون ومكيافيلي، ويفند أوغسطين وروسو وكانط. عنده تتوحد كل الجداول القديمة ومنه تتفرع المذاهب العصرية. هو نقطة الوصل بين الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة العصرية. كيف الاستغناء عنه ونحن نحاول تحليل مفهوم الدولة؟» (العروي، 2011).

لا ندري عما إذا كان هيغل هو مثال العروي الأعلى بين الفلاسفة فقط، أم هو مرجعيته الأعلى في كلّ ما كتب عن الدولة. والظاهر أن التخمين الثاني هو الأصح بالنظر إلى أن كتابه لم يعتمد على علماء الاجتماع التاريخي وعلماء الاقتصاد السياسي الذين فكروا في الدولة. لا بارينغتون مور، ولا نوربرت إلياس ظهر في فهرس المراجع والمصادر التي اعتمدها الكتاب.

يطرح الاعجاب بهيغل وبالفلسفة بشكل عام، إشكاليتين، احداهما نظرية والأخرى تاريخية بالنسبة للفكر السياسي العربي.

على الصعيد النّظري والمنهجي

يعكس الانبهار بالفلسفة، وجعلها إطارا وحيدا لدراسة الدولة، بغض النّظر عن الفيلسوف الذي ننبهر به، نظرة مجزّئة للفكر السياسي ولموضوع الدولة في حدّ ذاته. مثلما أشرنا إليه سابقا، لا يولي الفكر العربي أهمية كبيرة لعلم الاجتماع التاريخي، وللتاريخ والاقتصاد السياسي بشكل عام عند التفكير في الدّولة والسلطة. الدولة (الحديثة على الأقل) بالنسبة له، هي تجسيد لفكرة (نظرية) فلسفية تحققت في التاريخ لاحقا، وفي الحقيقة هذا الاعتقاد منتشر بقوة في الفكر العربي بشكل عام، حيث يتم نسب الحداثة كلها إلى فكر الأنوار، وهذا الاعتقاد يرسخ تلك النظرة الإثنومركزية الغربية التي تدعي أن الحداثة هي نتاج للثقافة اليهودو- مسيحية، وبالتالي تفوقها على الثقافة الإسلامية والثقافة الهندوسية والكونفوشيوسية التي لم تستطع ان تُنتج ثقافة تنويرية على غرار ما حدث في أوروبا. يُقرأ التاريخ الأوروبي من وجهة النظر هذه كخط مُستقيم، بدايته الثقافة اليهودو - مسيحية، ثم فكر الأنوار المنبثق منها، وصولا إلى الدّولة الحديثة والحداثة بشكل عام. يفسر هذا الأنموذج أيضا تأخر الحداثة في مجتمعات أخرى، خصوصا المجتمعات العربية- الإسلامية، بكون «الثقافة الإسلامية›› لا تتوافق مع الحداثة، لكونها لم تستطع أن تعطي الميلاد لثقافة تنويرية عِلمانية تؤسس لفلسفة سياسية حداثية. تحت تأثير هذه النزعة الإثنومركزية اللاتاريخانية، راح الكثير من المفكرين العرب يدرسون تاريخ الدولة على أنه تاريخ الفكر السياسي نفسه، وتحديدا تاريخ فكر الأنوار الذي يمتد في نظرهم إلى الفلسفة اليونانية لأرسطو طاليس. وعند اقتراحهم لوصفات للخروج مما يسموه ‹› أزمة الدولة العربية ‹› يركزون على ضرورة التحديث الثقافي، الإصلاح الديني، نشر الوعي ... كمقدمة ضرورية لأية عملية إصلاح. في الواقع، تتوافق هذه النظرة إلى حدّ التطابق مع الأنثروبولوجية الكولونيالية التي كانت تفسر تفوق العرق الأوربي على باقي الأعراق الأخرى بعوامل أنثروبولوجية، ومن ثمة ثقافية، دينية، وكان هذا بالطبع مقدمة لتبرير استعمار هذه المجتمعات لنقل الحضارة إليها.

على الصّعيد التاريخي

كتب العروي كتابه حول الدولة في بداية ثمانينات القرن الماضي، حيث الدّولة الوطنية يمكن القول أنها ثبتت أركانها في معظم الأقطار العربية، ولم يعد هنالك خوف مبرر حول انهيارها أو عودة هذه المجتمعات إلى حالة ما قبل الدّولة مثلما تدعي ذلك الأيديولوجية القومية التي تستمد منها الأنظمة العربية شرعيتها السياسية (Addi, 1991). إن الاعجاب بهيغل، واعتباره المرجعية الفلسفية الأعلى والأوحد لكلّ تفكير وتنظير في الدولة لا يتوافق مع مرحلة ومتطلبات البناء الدولتي في المنطقة العربية. في سنوات الثمانينات، كانت هنالك حاجة إلى تقييد سلطة الدولة، لفسح المجال لصعود المجتمع المدني والفضاء العمومي، أي المزيد من المجتمع والحريات على حساب سلطة الدولة التي تغولت وأضحت تهدد المجتمع وتمنعه من الازدهار والانبثاق. في سنوات الثمانينات، تجلى بوضح فشل ما سماه غليون بالدولة التحديثية، والأيديولوجية الإرادوية. كان الفكر العربي يحتاج إلى كانط، وهابرماس (الذي كتب أطروحته عن الفضاء العمومي في بداية الستينات  Jürgen Habermas, 1997)، أي إلى أدبيات المجتمع المدني، وهو ما كان حاصلا في أماكن أخرى من العالم كانت تعيش وضعا مشابها مثل بولندا وأوروبا الشرقية. كان على العروي أن يدرك أن مرحلة هيغل قد تجاوزتها المجتمعات العربية (بنجاح على الأقل إلى غاية تلك الفترة)، وأنه حان الوقت لمرحلة كانط. إذا كان يجب على المفكر العربي، وعلى الزعيم العربي أن يكون هيغليا خلال فترة الاستعمار، فإنه يجب عليه أن يكون كانطيا بعد تحقق الاستقلال وبسط السيادة على الإقليم الجغرافي. إن دولة هيغل ليست دولة تسلطية، ولكنها في الآن نفسه ليست الدولة التي تقوم على الحقوق الفردية، إنها دولة تتوافق وظروف تاريخية خاصة بالفترة التي نشأت فيها، حيث ألمانيا كانت تعيش مقسمة ومتأخرة عن باقي أوروبا (أو على الأقل فرنسا وبريطانيا) في مسار بناء الدولة الأمة، ومع ذلك، فقد وضعها العروي مقابل الدّولة الجرمانية الوثنية، واعتبر أية مُعارضة لها هو إحياء للملكية المطلقة، وتثبيت للدّولة المطلقة اللا-دينية، واللا -أخلاقية. (العروي، 2011) دون أن يتساءل عن عواقب التمسك بدولة هيغل في ظلّ هيمنة الدولة على كافة الفضاء الاجتماعي، بما في ذلك الفضاءات التي يفترض أنها فضاءات للمجتمع المدني.

عبد الإله بلقزيز

كتب عبد الإله بلقزيز وجهة نظره حول الدّولة في كتابه «الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر» (بلقزيز، 2008،) قبل سنتين من بداية الربيع العربي، ولكن في خضم التفكك الذي بدأت تعرفه بعض الدول العربية على إثر الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان. يلاحظ القارئ من خلال المواضيع التي تناولتها فصول الكتاب، والمفاهيم المستخدمة في عناوينه، خوف المؤلف من (الفتنة)، والتي سرعان ما يفهم أنها مرادفة في ذهنه لسقوط الدولة، فشلها، وتراجع سلطتها. إن الدّاع لتأليف الكتاب حسب بلقزيز هو حالة الانقسام والعنف التي تعرفها بعض المجتمعات العربية، واستراحة التشخيص إلى تحميل الدولة أو المجتمع وزر كل ما يحدث، وهذا في نظره، هو السبب الذي يجعله يقدم مراجعة نظرية في الدولة رغم أن الكتاب – دائما حسب رأيه - ليس كتابا نظريا في الدّولة.

من المهم جدا أن يطرح مفكر عربي الانسداد السياسي والاجتماعي من زاوية الدولة، ولهذا فإلى أي مدى تستجيب المناقشة التي يقدمها بلقزيز في كتابه لهذه الإشكالية؟ أو بالأحرى كيف تستجيب لها؟

يستهل عبد الإله بلقزيز كتابه بالتذكير ببديهيات حول ضرورة وجود الدّولة كسبيل وحيد لازدهار المجتمع الإنساني ولقيام التاريخ، ويذهب إلى القول أنها مثل الدين، العائلة والقبيلة، تسبق وجود الفرد ( بلقزيز، 2008) ، كما لو أن الأسئلة التي تواجه المجتمعات العربية لحظة تأليف الكتاب هي: هل هنالك حاجة إلى الدولة أم لا؟ أو كما لو أن الدولة العربية في تلك الحقبة كانت تواجه حركات تمرد رافضة للدولة ولسيادتها. في الحقيقة، بعد سنتين من صدور الكتاب، اندلعت ثورات الربيع العربي من تونس، مصر، سوريا، ليبيا، وكانت مطالبها «دولة القانون ومحاربة الفساد، وحماية حريات الأفراد والجماعات. وبالطبع هذه المطالب لا ترفض الدولة، بل تريد تحريريها من قبضة الأنظمة السياسية، باخضاع سُلطتها للرقابة المؤسساتية.

يتصور بلقزيز الدولة كجهاز تم صناعته بشكل «ارادي لكي يتم تحسين شروط حياة الناس ... وبها يستقيم شأنهم، وقد شبهها بالدين، فالدّين يُهذّب الأخلاق والدولة تهذب سلوك الأفراد››( بلقزيز، 2008). أي أنه هنا ينظر إلى الدولة كمعطى طبيعي عضوي وليس بناء تاريخيا مُتميزا. كما أنه لا ينظر إليها كشكل من أشكال انتظام السلطة التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة، بل ينظر إليها على أنها تمثل المصلحة العامة. ربما الدولة الحديثة في الغرب هي فعلا تمثل المصلحة العامة، ولكنها لم تكن كذلك منذ البداية، فهذا أصلا مجرد تطور، وكان يجب التساؤل كيف حدث ذلك؟ أما عن وظيفة التهذيب التي شبهها بوظيفة الدين، فهنا كذلك لا يشير بلقزيز متى تمارس الدولة التهذيب، ومتى تمارس الترهيب؟ وماذا نسمي ما تفعله الأنظمة العربية؟

يقول بلقزيز أن النقاش في الدولة يمتاز بالفقر المعرفي والوقاحة أحيانا، ولكنه حينما يحاول تقديم أمثلة عن ذلك يقدمها على مفاهيم أخرى كالفرد والمجتمع المدني، وليس على مفهوم الدولة (بلقزيز، 2008).

ما قدمه من مناقشة حول الفرد والمجتمع المدني إنما ليؤكد فقط أنها لا تتعارض مع الدولة، بل يجب أن ينظر إليها على أنها أكسسورات لها (تماما مثلما يقول الخطاب السياسي العربي حول المجتمع المدني الذي اختزله في الحركة الجمعوية وينظر إليه على أنه العمل التطوعي الخيري)، وقد افترض بلقزيز أن النقاش العربي حول هذه المفاهيم وضعها مُقابل الدولة ولكن من دون أن يقدم مثالا واحدا على ذلك، وفي الحقيقة الأدبيات المهيمنة في الحقل العربي تُلحق المجتمع المدني بالدولة مباشرة والنقاش حول الفرد غير موجود أصلا ولم يناقش بالشكل الكافي في جانبه الاقتصادي.

يُشدّد بلقزيز كثيرا على التذكير بأن الفرد والمجتمع المدني لا يحققان نفسيهما إلا داخل الدولة (بلقزيز، 2008) ، وكأنه يرد على أحد يقول عكس هذا. سيكتشف القارئ أن بلقزيز كان يناقش الفكر الماركسي والليبرالي بشكل نظري مجرّد وليس واقعا عربيا ملموسا.

ما قدمه بلقزيز من مناقشة حول الدولة هو استعراض لبعض المفاهيم عند فلاسفة أوروبيين، وخاصة هيغل. وبدل أن يركز على الشروط التاريخية التي أنتجت الفردانية والمجتمع المدني والدولة الحديثة بشكل عام (حتى بالتعريف الذي يقدمه هو لهما)، راح يصف ما هو الفرد وما هو المجتمع المدني في أدبيات السياسية عند هيغل وعند المفكرين الأوروبيين، كما لو أن الوصف كاف لإنتاج الظاهرتين.

يتجلى أن ما كان يشغل بلقزيز هو الخوف من الفوضوية ومن حالة اللادولة، ولهذا اتجه في مناقشته لكل المفاهيم نحو التركيز على أهمية الدولة ومحوريتها، وعلى أنه لا توجد أدبيات تلغي الدولة عدا الماركسية والليبرالية، بل راح يركز على اظهار أنه لا يتعارض الفرد والمجتمع المدني مع الدولة كما لو أن هذه هي الإشكالية التي تواجهها المجتمعات العربية اليوم. إن هذه الإشكالية تجاوزتها المجتمعات العربية، وهي اليوم تواجه مسألة دولة القانون وسبل تقييد السلطة كمرحلة ثانية من البناء الدولتي، ومع ذلك لا يكاد يستخدم بلقزيز مفهوم دولة القانون، وتقييد السلطة إلا نادرا. يظهر بلقزيز متأخرا كثيرا عن المجتمعات العربية، بل إن طرحه والقضايا التي ركز عليها تتماهى في بعض الأحيان مع خطاب الأنظمة التسلطية التي تتهم المعارضين بتهديد كيان الدولة ورفضها، وخدمة أجندات أجنبية.

التحدّي الذي يعتقد أنه يواجه الدولة العربية هو ضرورة القطيعة مع الدولة السلطانية، وفي الحقيقة، هذا التحدي ليس هو الذي طرحته المجتمعات العربية بعد ثورات الربيع العربي. الدول العربية قطعت أشواطا كبيرة جعلتها تختلف عن الدولة السلطانية، ومع ذلك، فإن الإشكالية التي تطرح اليوم هي ما هي أدوات تقييد السلطة السياسية في المجتمعات العربية اليوم؟ هذا هو السؤال الذي يرفض بلقزيز الخوض فيه. بعد فشل تجربة الإسلام السياسي، الذي يقترح الشريعة كوسيلة تقييد السلطة، وتسيير الحقل السياسي، فشلت قبلها الأيديولوجية القومية الشعبوية في تحديث المجتمعات العربية وأن تحول دون تفكك نسيج بعضها (العراق، اليمن، ليبيا).

القضية الأساسية التي تواجهها الدولة العربية في نظر بلقزيز هي أنها لا تزال تشكل امتداد للعصبوية، وفي نظره الدولة لم تتشكل بعد ولم تنضج. إنه لا يطرح مسألة دولة القانون بقدر ما يطرح، ولو ضمنيا، ضرورة هيمنة الدّولة على كافة المجال الاجتماعي وتحييد جميع السلطات الاجتماعية الموجودة فيها، وفي الحقيقة هذه العملية قد تمت إلى حدّ كبير، ومن يُهدّد سُلطة الدولة ويرفضها هم رجال الدولة أنفسهم حين يزوّرون الانتخابات ولا يعترفون بسلطة القانون، ولا يحترمون استقلالية القضاء والقضاة...

القضية التي يطرحها بلقزيز تجاوزتها المجتمعات العربية، منذ نشأة الدولة الوطنية. والمشكلة أنه لا يُقدّم أي مثال واقعي عن مجتمع أو دولة، بل يتحدث بشكل مطلق.

يرفض بلقزيز الجهاز المفاهيمي الذي يقترحه كل من يسميهم دعاة الخصوصية ودعاة التميز، ولكنه لا يذكر هذه المفاهيم، ولا يذكر أحد من هؤلاء الخصوصيين أو الكونيين. إنه يخلق خصوما وهميين لكي يعطي مبررا لما يقوله بشكل عام ومطلق.

يحدد بلقزيز أربع مشكلات أو تحديات تواجه الدولة في العالم العربي( بلقزيز، 2008):

-عسر قيام مجال سياسي حديث.

-فقدان الشرعية الديمقراطية الشعبية.

-إرادة الحدّ من وظائف الدولة.

-تأثير العولمة على كيان الدولة.

اكتفي بلقزيز بوصف هذه المعضلات من دون أن يقدم مقاربات لنقدها، أو تحليلها أو تبيان اسبابها التاريخية وشروط تجاوزها.

يمكن أن نخلص إلى أن بلقزيز يقترح مدخل الدولة لدراسة المشكلات العربية ليس لتبيان المشكلات التي تعاني منها هذه الدولة من حيث البنية والوظيفة، بل لكي يؤكد أنه لا يمكن حل مشاكل هذه المجتمعات إلا داخل الدولة. في الحقيقة هذه فكرة بديهية ولم يدّع أحد عكس ذلك. وللدفاع عن فكرته، راح يناقش المفاهيم السياسية كالفرد والمجتمع المدني ليؤكد على أنها مفاهيم لا تتعارض مع الدولة، بل تتكامل معها، ووجد في هيغل ما يريح فكره وحجته.

 برهان غليون

يمكن اعتبار برهان غليون من بين مفكري الدولة العربية الأكثر تأثيرا على النقاش الأكاديمي في هذا الموضوع. لا يتسع المقام هنا للإحاطة بفكره حول الدولة، ولكن سنكتفي هنا بالتركيز على ما كتبه في كتاب «المحنة العربية: الدّولة ضدّ الأمة[1]»، والذي صدر في تسعينات القرن الماضي، وأعاد المركز العربي للأبحاث نشره سنة 2015 مع مقدمة يضع فيها الكاتب إشكالية الكتاب ضمن السّياق الجديد الذي تعيش فيه المجتمعات العربية، وهو سياق تحول الدّولة إلى وحش ضد المجتمع على حدّ تعبيره.

ينتمي غليون إلى تيار المفكرين العرب الذين يرون أن «زاوية الدولة تمثل مدخلا مهما وأساسيا لفهم مشكلات المجتمعات العربية» (غليون، 2015) ، وهذا ما جعل كتابه يتسم بالكثير من الحدّة والانفعالية في محاكمة النخب السياسية العربية.

تضع هذه المقاربة غليون أمام تحدّ كبير حيال مفهوم الدولة الذي ينطلق منه، وحيال العناصر التي يشتق منها مفهومه للدّولة، حتى وإن كان مضمرا في كتابه. إن تشخيص المشكلات ومن ثمة تحديد حلولها، يرتبط مباشرة بمفهوم الدولة الذي ينطلق منه، ومن هذه النقطة تحديدا تنطلق مناقشتنا لغليون.

بشكل عام، يمكن أن نضع الملاحظات التالية:

لم يخص غليون مفهوم السلطة والسلطة السياسية بالمناقشة في كتابه، وهذا ما جعل تصوره للدولة معياريا هيغليا إلى حدّ كبير، يتغاضى عن كونها شكلا من أشكال انتظام السلطة، وينظر إليها على أنها جهازا يفترض أن يكون في خدمة الصّالح العام. لذلك يستخدم مفهوم الدولة التحديثية، وهي في نظره تلك الدولة التي وضعت لنفسها مهمة تحديث مجتمعات ما بعد الاستعمار للّحاق بالحداثة. 

يرى أن تناقضات هذه الدّولة نابعة من المهمة التي وضعتها لنفسها. اخفقت في إنجاز مُهمتها، وفي المقابل انتجت قاعدة بيروقراطية واسعة اصبحت تساهم تلقائيا في استمرار النظام التسلطي أي في مدّ التسلط بقاعدته الاجتماعية. تحولت الدولة التحديثية إلى عائق أمام التغيير وأمام التحديث بسبب تصنّمها.

يميز برهان غليون بين الدّولة الحديثة الناجزة (دولة القانون) والدولة التحديثية «غير الناجزة أو الفجّة التي تحركها إرادة اللحاق بالحداثة والسعي إلى استيعاب وسائلها لتأكيد نفسها ووجودها وسيادتها ضدّ قوى خارجية وداخلية لا تسيطر عليها، ويوجّهها اعتقادها أن قدرتها على انجاز مشروعها مُرتبط طردا بتحرّرها من الضغط الداخلي وابتعادها عن آليات العمل الديمقراطي واحتكارها السلطة والقرار» (غليون، 2015). ويفسر هذا في نظره تحول الدولة العربية من مُخلِّص إلى وحش، أو ما سماه هو ب «تغييب المجتمعات العربية عن الحداثة». ويقول كذلك أن هذه الدولة التحديثية هي «مصدر الاستلاب الأكبر للمجتمعات التابعة ومصدر معاناتها وتخلفها عن الديمقراطية». (غليون، 2015)

إن طرح الفكرة بهذا الشكل، يحيل إلى تصور للدولة على أنه يجب و/أو يمكن أن تكون ناجزة (دولة قانون) منذ البداية، وأن مرحلة الدولة التسلطية يمكن تجازوها وعدم المرور عليها، وإن لم تكن كذلك – وهي ليست كذلك في نظر غليون بالنسبة للحالة العربية – فستتحول إلى وحش ومصدرٍ للاستيلاب وللفشل. لا يطرح غليون فكرة دولة القانون على أنها سيرورة تاريخية من تقييد السلطة من طرف المجتمع، بل يربط فكرة دولة القانون بإرادة مُسبقة لنخب الدولة في أن تكون دولة قانون وفي مدى وعيها بضرورة أن تكون كذلك. يصبح شكل الدولة إذا خارجيا عن سيرورة تطور المجتمع، وهذا لا يمكن اثباته منطقيا، حتى وإن أمكن التعبير عنه بصيغة أخرى من مثل أن الدولة في العالم العربي تشكلت ضد عدوان خارجي وليس كتطور للتناقضات الداخلية للمجتمع.

يرى غليون «أن التطلع إلى الكرامة عند الإنسان العربي الحديث هو أقوى من أية مطالب بالهوية»( غليون، 2015) من دون تجاهل قوة جذب هذه الأخيرة خصوصا في أوقات الازمات الاجتماعية والسياسية.

إن الكرامة والحرية هي تطلعات كونية، ولكن وجودها غير كاف لتحقق دولة القانون، ولذلك وجب التساؤل عما إذا كانت دولة القانون مُشتقة من تطلع الناس إلى الكرامة؟ وهل أناس ما قبل الحداثة لم يكن يتطلعوا إلى الكرامة؟

إذا سلّمنا بكونية الكرامة والحرية وعدم ارتباطهما بالحداثة فحسب لكيلا نقع في تناقض أنثروبولوجي يحصر صفة (الكرامة والحرية) على الشعوب الحديثة، فإنه يجب أن نتساءل عن الأدوات التي يلجأ إليها الإنسان لحماية كرامته في سياق ما قبل الدولة، أو سياق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ الجواب بسيط: يلجأ إلى البنى العضوية، الهوية، القبيلة، الدين ... من هذا المنظور، لقد شرح عزمي بشارة جيدا كيف أن استمرار القبيلة في المنطقة العربية ليس مرادفا لتخلف ثقافي إلا إذا تم قياس التقدم بالمعيار الأوروبي، كما أن اللجوء إلى البنى العضوية ليس معيارا للتخلف بحدّ ذاته، بل هو الحالة الطبيعية في السياقات التاريخية التي تكون فيها الدولة غير مكتملة البناء بعد ، وهذا التجلي لم يكن بالإمكان ملاحظته إلا لكون الدولة الحديثة في الغرب قد قطعت هذه المسافة وبينت لبقية شعوب العالم أنه يوجد بديل للفرد في حالة ما انهارت البنى العضوية التي ينتمي إليها ويحتمي بها، ولكن هذا البديل، يحتاج إلى شروط موضوعية لإنتاجه. في أوروبا، انتهى تقسيم العمل الناتج عن تطور الرأسمالية إلى إعادة تشكيل الرابط الاجتماعي حول السوق[2]، وإعادة هيكلة كل العلاقات الاجتماعية داخل السوق على حد تعبير كارل بولاني. إلى غاية الآن، الجهاز البيروقراطي هو المهيكل الأساسي للعلاقات الاجتماعية في البلدان العربية، وخاصة الريعية منها، والجهاز الإداري هو أحد أدوات ممارسة السلطة، ومراقبة المجتمع واستزلام النخب (دريس، 2016) ، وهذا الوضع يشبه إلى حد ما بنية العلاقات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات الاقطاعية.

يُحمّل برهان غليون دولة النخبة الطليعة المسؤولية، متهما إياها بالفشل في التحديث والفشل «في اختيار الصيغة الملائمة لتوطين الحداثة». وكما أشرنا إلى ذلك أعلاه، فإن تفسيرا كهذا يستند إلى نظرة هيغلية متناقضة إلى الدولة والسياسي. حاول غليون أن يهرب من الثّقافوية التي تحمل ثقافة الجماهير مسؤولية الفشل، فسقط في فخ آخر هو الإرادوية volontarisme، حيث يفسّر الفشل في الانتقال الديمقراطي بغياب الإرادة لدى النّخب رغم وجودها لدى الشعوب. قد لا يختلف التماهي مع السلطة عن التماهي مع الشعوب والخطاب الشعبوي، ووظيفة العلوم الإنسانية هي تفسير التاريخ وليس اتخاذ موقف فحسب، رغم أن اتخاذ الموقف يصبح أحيانا ضرورة تاريخية يمكن غض الطرف عنه في مثل الحالة العربية.

إن لحظة الاستقلال ونشأة الدولة هي لحظة ميلاد سلطة ذات شرعية وسيادة على المستوى الدولي (شرعية منطق الدولة) وإذا لم يمتلك المجتمع أدوات تقييدها فإنها ستبقى سلطة شمولية مُفترسة. إن أدوات تأسيس الدولة، تختلف عن أدوات تحديثها (جعلها دولة حديثة: أي دولة قانون)، وتحديث المجتمع هو انتقال إلى دولة حديثة. ينطلق تحليل غليون للمحنة العربية من تصور للدولة على أنها كيان عاقل خيب ظن المجتمع الذي وضع فيها الثقة، فتحولت إلى كيان معاد للأمة، كما لو أن المجتمعات الإنسانية حتى في أوروبا الغربية عرفت دولة القانون الديمقراطية مباشرة بعد لحظة ميلاد الدولة ولم تمر على هذه المراحل، وفي الحقيقة يعبر غليون بدوره عن خيبته في هذه الدولة، وهذا موقف سياسي وعاطفي أكثر منه تحليل سوسيولوجي. يريد غليون أن يحقق بهيغل ما حققته المجتمعات الغربية بكانط وهابرماس، وهذه المعضلة ملازمة لمعظم الفكر العربي في الدولة.

يكتب غليون في الصفحة 14 ما يلي: «حاولت أن أبين في هذا الكتاب أن سبب المحنة العربية ليس المجتمع بثقافته القديمة ومرجعياته الفكرية، بل الدولة نفسها»، ويضيف قائلا «الخروج عن الدولة من طرف التيارات الإسلامية وغير الإسلامية لم يكن خروجا عن دولة تمثل إرادة الأمة، بل ثورة ضدّ دولة انقلبت ضد الأمة. (غليون، 2015)». ثم تساءل متعجبا عن سبب إلتقاء أنظمة استبدادية متباعدة جغرافيا وثقافيا في رؤية واحدة هي التسلط (غليون، 2015)؟

هنا أيضا يظهر برهان غليون وكأنه يتجاهل أنثروبولوجيا السلطة السياسية ونزعتها التسلطية مباشرة بعد انتظامها على شكل دولة معترف بها خارجيا، أي قبل أن يمتلك المجتمع أدوات تقييدها. سؤال غليون حول سبب تشابه أنظمة في التسلط رغم تباعدها الجغرافي واختلافها الثقافي هو سؤال يجهل جوهر الدولة ومنبعها: السّلطة. أول ما تنتظم سلطة ما على شكل دولة تكون مطلقة واستبدادية، إذا امتلك المجتمع أدوات تقييدها، فإن درجة تسلطها تخف، وإذا لم يمتلك فإنها ستبق كذلك. تساؤل غليون هو نتيجة منطقية لتصوره الهيغلي للدولة ككيان أخلاقي عاقل، تشوه في المنطقة العربية وأصبح ضدّ الأمة بسبب الإرادة السيئة للنخب السياسية الحاكمة، ولهذا تمرّدت عليها الحركات الإسلامية وغير الإسلامية. لم يسبق أن عرف التاريخ الحديث، أي منذ العهد الوستفالي، دولة ولدت ديمقراطية، ولذلك لا يمكن أن نطلب من الدول العربية الناشئة على إثر حركات تحرر وطنية أن تكون ديمقراطية منذ ولادتها وإلا اتهمنا نخبها أو ثقافة شعوبها أو دينها أو عرقها بأنها غير ديمقراطية بالفطرة. ليس لأن الدول العربية نشأت في سياق تاريخي نضجت فيه الدول الديمقراطية في الغرب فإنه يجوز لنا أن نطالبها بأن تكون ديمقراطية منذ البداية. تفكير كهذا، يعتقد أن الدولة منبثقة من عقد اجتماعي يهدف إلى خدمة المصلحة العامة وليس عن عملية تمركز وهيمنة واحتكار للسلطة، وغالبا ما ينتهي تصور كهذا إلى إدانة النخب الحاكمة أو الشعوب المحكومة. السّلطة منطقها واحد، وأنثروبولوجيتها واحدة، بغض النظر عن السياق الذي تولد وتنشأ فيه. إنها تولد مطلقة، مُستبدة حتى ولو ولدت في فرنسا أو إنجلترا القرن الواحد والعشرين، ولا تأبه أبدا لما يدور حولها، أو يقال عنها... بل إنها تنزع بشكل فطري وغريزي نحو الإلتفاف على كل ما يعيقها ويقيدها. ولذلك، فإن أول ما ستفكر فيه السلطة لحظة ميلاد الدولة العربية الحديثة، هو كيف تلتفّ على المؤسسات التي اقتنتها باقتناء الدولة؟ وكيف تُفرغها من مضمونها السياسي والقانوني دون إلغائها كليا؟ سؤال الديمقراطية إذا، هو كيف حدثت في تجارب أخرى سابقة لها؟ أما اتخاذ غيابها كموضوع لبحث فهذا غير ممكن على الأقل في العلوم الاجتماعية لأن هذه الأخيرة مصممة لدراسة (فهم وتفسير مواضيع موجودة وواقعية)، أما تفسير غياب ظاهرة ما فهذا موضوع سلبي بالنسبة لهذه العلوم، والاشتغال عليه يخرجها من دائرة النقاش الابستمولوجي. ويدخلها في دائرة إدانة أشخاص معينين لأنهم لم يكونوا ديمقراطيين منذ الوهلة الأولى.

على مستوى المنهج، يؤكد غليون على أن المقاربة التاريخية هي الأكثر ملائمة لفهم الدولة، وأسباب المحنة العربية، وأنه يجب البحث في التاريخ البعيد. ومع ذلك استخدم مفهوم الدولة التحديثية لوصف مظاهر الفشل السياسي وتحديد المسؤول عنه، بدل أن يستخدمه لفهم لماذا تم اختيار هدا النموذج في مناطق معينة في العالم؟ وما هي الأيديولوجية التي تقف وراءه، ولماذا فشل تحديدا بعيدا عن كل أشكال سيكلجة السياسي؟ وماهي التناقضات التي بني عليها وجعلته يفشل؟ إن المقاربة التاريخية، وتحديدا مقاربة السوسيولوجيا التاريخية التي يقترحها غليون ويدعوا إلى تبنيها، تتعارض تماما مع سَيكلجة السياسي، وهي مقاربة لا تقود إلى البحث عن تحديد المتهمين بالفشل، بل تسعى إلى فهم لماذا تتخذ الظواهر السياسية هذا الشكل أو ذلك في سياقا تاريخي ما؟ أي لماذا ظهرت الدولة التحديثية في العالم العربي؟ ماهي تناقضاتها التي تقوم عليها؟ وماهي الأفق التاريخية التي تقود إليها؟

إن الغرض من هذه المراجعة النقدية لهذه الأعمال ليس بالطبع التقليل من أهميتها، بل استخراج خصائص التفكير في الدولة في العالم العربي، لنستطيع بناء العناصر الأساسية التي تسمح بتجاوز الفراغات والتناقضات المنهجية، النظرية والفكرية التي يعاني منها.

عناصر تحليلية لفهم الدولة في المنطقة العربية

من خلال النقد السابق لبعض الأعمال العربية، يمكن أن نضع المسلمات التالية كمنطلقات لهذا العنصر:

 الدّولة هي أحد الأشكال التي تتمظهر بها السلطة في سياق تاريخي ما، والدولة الحديثة (الدولة- الأمة: دولة القانون) هي الشكل الذي أخذته السلطة في أوروبا الغربية منذ القرن السادس عشر (Addi, 1991)، ولكن بعد المرور على مراحل متعددة أهمها: الدولة التسلطية، ثم الدولة التمثيلية.

إن بقيّة الأشكال والأبنية الاجتماعية الأخرى التي كان يتمظهر فيها وبها السياسي والسلطة، قد جرى تحييدها تدريجيا، فتمت علمنة الدّين، وتمت مصادرة السياسي من الاقتصادي والاجتماعي ومن البنى العضوية كالقبيلة والعشيرة. هذه العملية جرت في فترة زمنية طويلة نسبيا، يمكن أن نضعها كلها تحت مسمى صيرورة العلمنة والتمايز الاجتماعي، التي تمت فيها انتزاع السلطة من الدّين، العشيرة، القبيلة ... ولكن حين جرى وضع هذه السّلطة في مؤسسات معلمنة(محايدة)، فإنها احتاجت إلى شرعية جديدة تٌعوّض الشرعية الدينية، وشرعية البنى الوشائجية التي كانت تحوز عليها قبل نقلها ومصادرتها. أي أنه بمجرد أن تجاوزت سلطة الدولة إطار البنى العضوية، وصادرت القداسة من الدين، حتى انهارت شرعيتها التقليدية، لتخلفها شرعية جديدة، لا دينية، لا قبلية، لا عشائرية ... إنها شرعية التمثيل السياسي التي تحولت إلى أساس استمرار الدولة الأمة.

إن نموذج الدولة الأمة، الذي ظهر أيضا في أوروبا بعد معاهدة أوستفاليا (1648)، هو النموذج المهيمن اليوم على كافة أرجاء المعمورة، بحيث أن كل جماعة سياسية لا تنتظم وفق هذا النموذج، فإنها ستكون معرضة للاحتلال من طرف جماعة سياسية أخرى أقوى منها اقتصاديا وعسكريا، وهذا ما يضع النموذج الغربي (الناجز حاليا والأكثر جهوزية) مرجعية معيارية، بشكل مباشر أو غير مباشر، لكل تفكير في الدولة. وهذا في نظرنا ما يدفع بنظرية الدّولة لأن تتمحور حول التساؤلات التالية: ما الذي جعل هذا النموذج يظهر أول مرة في أوروبا الغربية وليس في أي مكان آخر؟ ولماذا نموذج الدولة- الأمة هو النموذج الوحيد والمهيمن الذي ينتظم من خلاله العالم الحديث؟ ما هي عواقب فرض هدا النموذج على مجتمعات خارج أوروبا الغربية لا تمتلك نفس الخصائص والظروف التاريخية التي جعلت منها دولة أمة ودولة قانون؟ أي لماذا الدولة في العالم العربي ليس لها نفس المحتوى السياسي والقانوني مع الدولة في أوروبا الغربية رغم أنها انتظمت سياسيا على شكل دولة -أمة؟

الديمقراطية هي نمط توزيع السلطة داخل الدولة -الأمة، وهي تسوية تاريخية بين رأس المال والعمل. إنها علاقة سياسية داخل المجتمع الرأسمالي، ولا علاقة لها بالعرق أو الثقافة أو الديانة السائدة في أوروبا. المجتمع الاقتصادي (البورجوازية+ الحركات العمالية) هو المجتمع المدني الذي جرت به عملية تقييد السلطة السياسية بعد اكتمال تمركزها وسيادتها واحتكارها للعنف ولكل الوظائف السياسية. المبدأ الأساسي لقيام المجتمع الاقتصادي هو وجود اقتصاد رأسمالي صناعي.

انطلاقا من هذه المسلمات، تفترض هذه الدراسة أن التفكير في الدولة في العالم العربي يمكن بناءه حول ثلاثة عناصر أساسية:

ديناميكية السلطة.

ديناميكية العلمنة واستقلالية الحقل السياسي.

ديناميكية المجتمع المدني.

ديناميكية السلطة

يتوافق مفهوم السلطة مع المخطط النظري التاريخي الذي رسمه نوربرت إلياس حول تشكل الدولة الحديثة في أوروبا الغربية، حيث يبين أن الدولة لم تكن ناتجة عن هندسة مُسبقة ولا خيارا واعيا مثلما تدعيه نظريات العقد الاجتماعي. بل انبثقت من ديناميكية السلطة ذاتها حين تلاقت مجموعة من الظروف الطبيعية السوسيولوجية في مكان وزمان واحد.

ظهر الشكل الحديث للدولة، الذي انتظمت وفقه السلطة السياسية في أوروبا الغربية لأسباب تاريخية، اجتماعية واقتصادية وجغرافية خاصة بأوروبا الغربية، وهو ما جعل نوربرت إلياس يستخدم عبارة (سوسيو نشأة الدولة sociogenèse de lEtat N. Elias,1975) ، أي العوامل السوسيولوجية التي أدت إلى نشأة الدولة.

في العمل الكبير الذي ألفه في ثلاثينات القرن الماضي، باستخدام منهج السوسيولوجيا التاريخية، يقول إلياس أن الدولة ظهرت من آليتين رئيسيتين: آلية الاحتكار، وآلية الاقصاء.

تقوم الأولى على نشوء مركز سياسي يستطيع احتكار السّلطة واحتكار استخدام العنف، وتقوم الثانية على إقصاء بقية الإمارات الصغيرة من مجال السلطة واخضاعها. وهاته الآليتان تنتجان ما سماه هو الديناميكية التنافسية.

 كانت ملكية الأرض مصدر القوة والثروة الوحيد قبل نشوء الصناعة (مصدر الريوع العقارية)، وكانت القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة للدفاع عن هذه الملكية وتوسيعها أيضا. مع تزايد عدد السكان، مقابل تقلص حجم الأراضي غير المملوكة، أو غير المستغلة، اشتعل التنافس بين الأمراء المحليين على الأراضي، انتهى إلى قضاء الإمارات القوية على بقية الإمارات الصغيرة، وبالتالي تشكل مراكز سياسية تتوسع تدريجيا، استطاعت أن تحتكر في قطاعها السّلطة. وهذا ما سماه نوربرت إلياس بأليات الاحتكار والاقصاء: «ميكانزيم الهيمنة سيؤدي إلى نشوء ميكانزيم الإقصاء والإلغاء، بحيث بتعاظم الانتصارات يتم القضاء على الإمارات الصغيرة واحدة تلو الأخرى إلى أن يبقى هنالك إمارتين أو ثلاث (N. Elias, 1975). ويضيف أيضا «سيرورة توحيد الإمارات اشتغلت بشكل أدى إلى هيمنة إمارة إقطاعية على البقية، وفرضت هيمنتها على الأملاك التي ضمتها إليها». (N. Elias, 1975).

بعد تشكل الإمارات الكبيرة، تبدأ الآلية أخرى في الاشتغال (الاحتكار)، وتشمل احتكار جمع الضرائب سنّ القوانين، وفرض احترامها، وهكذا إلى أن ارتسمت الخطوط العريضة للحدود السياسية بين المماليك والإمارات، وما فتأت تتغير وتتحول حسب ميزان القوى. وحين بدأ المجتمع يستبدل تدريجيا المقايضة بالتبادل النقدي، بدأت ترتسم الخطوط العريضة لسيرورة نشأة الدولة (N.Elias, 1975).

إن منطق السلطة كان يدفع دائما نحو الهيمنة والسيطرة والاحتكار، وانتهت سلطات أميرية صغيرة لتصبح مملكة وإمارة ذات وزن سياسي كبير. هكذا هي السلطة السياسية، إذا لم تجد ما يكبح جماحها، فإنها تفترس كل ما يقف في طريقها، وطريقها نحو الهيمنة هو الذي أدى إلى انتظامها على شكل دولة (تسلطية).

ومع ذلك، لم تكن مرحلة الدولة التسلطية في أوروبا وقتا مهدورا واستنزافا للطاقات، رغم الحروب الدائمة التي اشتعلت بسببها. خلال مراحل تشكلها وسيادتها، تحققت عدة إنجازات ساهمت في تجاوز منطق السلطة المطلق ذاته. إن سعيها للهيمنة كان سببا في فرضها للتجانس العرقي الذي أدى إلى ميلاد الدولة – الأمة بشكلها الحالي، كما أدى أيضا إلى مُصادرة القداسة من الدين، ومصادرة السياسي من البنى الوشائجية. كانت الدولة التسلطية تلتهم كل شيء في سبيل بقاءها وإرساء هيمنتها، وكانت تلتهم السلطة تلو الأخرى لتضعها بين أيديها. لكن حينما تتجاوز السلطة الأطر الاجتماعية والثقافية التي تستمد منها شرعيتها، فإنها تحتاج إلى شرعية جديدة وإلا ستواجه تمردات ونزعات انفصالية. داخل الجماعة الاجتماعية الأولية، يمكن أن تكون الشرعيات التقليدية (الدينية، القبلية) مفيدة وفعالة، ولكن بمجرد أن تتجاوز حدود السلطة هذه الجماعة، فإن هذه الشرعية، المؤسسة أصلا على شيء من رابطة الدم وشيء من الشرعية الدينية، تبدأ جماعات أخرى تطالب إما بتغيير شرعية السلطة، أو برفض الخضوع لها. تحمل ديناميكية السلطة في داخلها بذور تجاوزها، فكلما توسعت جغرافيا للحصول على مزيد من الأراضي ومزيد من الموارد الطبيعية، بقدر ما ضعُفت الشرعية التي ترتكز عليها، وهي بذلك تقع بين خيارين: فإما تغير شرعيتها، وإما تتراجع وتخضع للحركات الانفصالية المقاومة لها. الأنوار هي هذه الحركة الفكرية التي كانت تبحث عن شرعية سياسية جديدة لسلطة فاضت عن حدودها التقليدية، وعن رابط اجتماعي جديد يحلّ مكان الروابط الوشائجية التي أصبحت من الماضي في مجتمع – دولة يصبح أكثر فأكثر صناعيا وحضريا. إن الديناميكية الداخلية للدولة التسلطية هي التي أفرزت عناصر تجاوزها، ولكن هذا لم يكن ممكنا إلا لكون الأسس المادية التي تعيد إنتاج نفسها عليها آخذة في الانهيار لتحل محلّها أسس جديدة بدأت تكتسح أوروبا الغربية من إنجلترا وفرنسا في فترة مبكرة جدّا على حد قول بارنغتون مور: الرأسمالية التجارية والصناعية.

ولكن السؤال الذي يواجه مفكر الدّولة في المنطقة العربية هو لماذا التنافس والصراع القبلي في المنطقة العربية لم ينته إلى نشوء مراكز سياسية تحتكر السلطة وتقصي بقية المنافسين، بل ينتهي دائما إلى حلقة مفرغة تقوم فيه دويلة على أنقاض دويلة أخرى؟ ثم لماذا يبدو أنه بالرغم من تشكل الدولة العربية إلا أن أفق تجاوز مرحلة التسلط يبدو بعيدا أو ربما مستحيلا بالنسبة للمتشائمين؟

لا نجد الإجابة عن هذا السؤال عند نوربرت إلياس بشكل مباشر، لأن هذا لم يكن موضوعه، لكن تفسيره لخصوصية الحالة الغربية يذكرنا بالنظرية الخلدونية في تفسير نشوء وسقوط الدويلات في المنطقة العربية.

إن تزايد عدد السكان وتقلص الأراضي الصالحة للزراعة أدى إلى تحول هذه الأخيرة إلى سلعة نادرة، وموضوع تملك، يدرّ على صاحبه ريوعا عقارية كبيرة تزيد من سلطته ونفوذه، ولهذا كان رهان الحروب الأميرية هو الاستيلاء على الأراضي الصالحة للزراعة وضمها إلى أملاك العائلة الأميرية (الدير الأميرية بتعبير نوربرت إلياس)، وهكذا إلى أن بقي هنالك عدد قليل من الإمارات تحولت لاحقا إلى مماليك ثم دول- أمم.

ولكن في الحالة العربية، حيث الأراضي متوفرة بكثرة مقارنة بعدد السكان، لم يكن للأرض في تلك الفترة قيمة اقتصادية، خاصة وأن معظمها كان غير صالح للزراعة، باستثناء المناطق الساحلية وضفاف الأنهار. كان رهان الحروب في المنطقة العربية الاستيلاء على المياه والطرق التجارية. لم يكن للأرض القاحلة أية قيمة اقتصادية في ظل شُح المياه. وخضعت هذه الصراعات إلى منطق العصبية كمحرك للقبيلة والجماعة الاجتماعية. لم تكن المملكة الناشئة تضم إليها أملاك المملكة المنهزمة، ولم تكن أصلا تسعى إلى التوسع. فالتوسع أصلا يحتاج إلى قوة عسكرية لم تكن متاحة لقبيلة واحدة في تلك الفترة. غالبا ما كانت الدويلة الناشئة تقضي على مدينة الدويلة المنهزمة، لتأسس مقرا لها في منطقة أخرى. بقدر ما أخّر هذا المعطى الجغرافي المناخي ظهور الملكية الفردية الخاصة والنشاط الصناعي، بقدر ما أخّر أيضا نشوء مراكز سياسية واسعة تستطيع فرض سيطرتها وتحتكر السّلطة. كما أنه حتى بعد أن ترسي المملكة جذورها، تجد نفسها تفتقر إلى الموارد الكافية للتوسع. لم تكن الأرض تدرّ ريوعا كبيرة، ولا تدر فائضا في الإنتاج يسمح بتعظيم قوة القبيلة وبتراكم الثروة. كانت الدويلة تستمد قوتها من الروح العصبية، وبمجرد أن تضعف، تنهار هذه الدويلة، لتأخذ مكانها قبيلة محاذية لها كانت تحضر نفسها لتحطيمها. إن عدم تحول الأرض إلى سلعة نادرة، حال دون أن تنتظم حولها العلاقات الاجتماعية الفردية، ولم تكن رهانا للتملك الاقتصادي الفردي، كما أنها لم تكن موضوعا للتنافس والصراع السياسي بشكل يسمح بظهور مركز سياسي يستطيع أن يتحول إلى دولة. أدى هذا الوضع إلى استمرار البنى القبلية، حيث تتوحد الجماعة الاجتماعية للدفاع عن القبيلة، وتتملك جماعيا بعض الأراضي الرعوية. إن استمرار النظام القبلي إلى غاية وصول الاستعمار في المنطقة العربية، يعود أساسا إلى هذا الواقع الجغرافي والمناخي وليس إلى أسباب ثقافية أو عرقية. يقول عزمي بشارة في الفصل الذي خصصه للقبيلة والدولة في كتابه المسألة العربية: «لم يعرف العرب في الجزيرة العربية الدولة، ليس بسبب الطبع والطبيعة الإنسانية، بل بسبب الطبيعة الجغرافية والمناخية والنظام الاجتماعي والسياسي الذي قام عليها ألا هو العشيرة أو القبيلة »( بشارة، 2014). نفس التفسير تقريبا نجده عند لهواري عندي حينما يقوم بمقارنة بين هوبز وابن خلدون (Addi, 1991).

كان على المنطقة العربية أن تنظر دخول الاستعمار الأوروبي لتدرك شعوبها أنه يجب عليها أن تنتظم على شكل دولة -أُمّة لكي تنخرط في النظام العالمي الذي تأخرت عنه كثيرا. وهكذا تم تركيب الجهاز البيروقراطي للدولة الحديثة (الموروث عن الاستعمار بشكل مباشر أو الذي تم اقتناءه بشكل غير مباشر) على بنية تقليدية (قبلية وعشائرية). الدولة الحديثة إذا، لم تكن تجسيدا لمفهوم فلسفي سابق لها، بل كانت تطورا طبيعيا لديناميكية داخلية أفضت إلى استقلالية السياسي وتمركزه تدريجيا في مؤسسات وقوانين. أما في الحالة العربية، فهي مستوردة على حدّ تعبير برتراند بادي في كتابه الشهير الذي يحمل نفس العنوان(برتراند بادي، تر: لطيف، 2017)، أو لنقل تم اقتنائها للانخراط والاندماج في المجتمع الدولي، وتحديث المجتمعات العربية واللحاق بالحداثة، ولكن سرعان ما ابتلعها منطق السلطة وحولها إلى جهاز بيروقراطي لممارسة السلطة والاخضاع مُستندا إلى العنف العاري وإلى شرعيات ما قبل الدولة( شرعية دينية، شرعية ثورية، شرعية قومية...).تم إلباس الدولة الحديثة على بُنى تقليدية ولهذا سرعان ما تم اخضاع الدولة لمنطق السلطة، واستعملت في ذلك جميع الموارد المتاحة التي لم تستطع بعد مصادرتها واحتكارها.

ولكن لماذا لم تتجاوز الدولة العربية مرحلة التسلط على الأقل إلى غاية الآن؟

التفسير الذي نقدمه هنا يكمن في حدود الريع العقاري في أوروبا، الذي كان يمثل الأساس المادي للدولة التسلطية. إن انهيار النظام الاقطاعي، سمح ببروز النظام الرأسمالي التجاري الصناعي وتشكل السوق. حلّت السوق محل الروابط الوشائجية في الحقل الاجتماعي، وحلّت محل السلطة في الحقل الاقتصادي. لقد أدت إلى نشأة خصم المجتمع السياسي: المجتمع المدني، أو الحيز العام البورجوازي.

المجتمع المدني وغريمه: الدولة الريعية

إذا كانت حركة الأنوار قد حطمت الأسس الفكرية والأخلاقية للتسلط، ونزعت عنها الشرعية، فإن الرأسمالية التجارية في فترة أولى، ثم الصناعية في فترة ثانية قد نزعت عن السلطة السياسية قدرتها على احتكار الثروة، وجعلتها المكان الأخير الذي يُفكَّر فيه من يريد جمع الثروة بسبب اخضاعها تدريجيا للمساءلة والمحاسبة. التاجر الرأسمالي هو سلف المجتمع المدني على حد تعبير لهواري عدي (Addi, 2013)، والمجتمع البورجوازي هو المجتمع المدني الذي استطاع خلق سوق مستقلة عن السلطة، يتم فيها إنتاج فائض القيمة باستغلال قوة العمل. أدى الواقع الذي خلقته البورجوازية في النهاية إلى تحرير المجتمع من هيمنة السّلطة السياسية الاقطاعية.

لكن لماذا لم تنحرف الدولة البورجوازية نحو التّسلط بما أن التسلط هو الحالة الفطرية في البشر؟ هنا التساؤل الأهم في نظرنا، والذي لم يتم مناقشته بشكل كاف في الحالة العربية. إن السّلطة في حالة ما قبل الدولة، أو في حالة الدولة التسلطية تختلف تماما عن السلطة في الدولة الحديثة. تكمن جاذبية السّلطة في الحالة الأولى في كونها مُتحرّرة من كل القيود بما في ذلك القيود الأخلاقية، ولذلك تتحول إلى وسيلة وحيدة – أو ربما وسيلة أساسية – لجمع الثروة خاصة في سياق اقتصادي يعتمد على تملك الريع (الأراضي والعقارات) أو نهب المال العام في حالة الريوع النفطية والمنجمية والمساعدات الأجنبية. لكن، المستجد في الدولة البورجوازية، هو أن السلطة لم تعد مكان جمع الثروة، وليس من الضروري تملكها لكي يتحول الفرد إلى غني. فمع صعود السوق الرأسمالية بدأ سحر السلطة يخفت. لقد تم نزع القداسة عنها بتحييد الدّين سياسيا وتحييد الدولة دينيا، ولم يعد الملوك يحكمون باسم الله، بل تم تدريجيا وضع قيود على هذه السلطة لكيلا تتدخل في اشتغال السوق.

أما بخصوص علاقة البورجوازية بالطبقة العمالية، فهي مرتبطة بها هيكليا. في سياق تطور رأس المال، وصل إلى مرحلة أصبحت فيها اليد العاملة نادرة، في حين يرتبط تراكم راس المال باليد العاملة، وهذا ما جعل التسوية الديمقراطية تنتج بين الطرفين، مقابل استمرار البورجوازية في شراء قوة العمل في المصنع. أي أنه تمت زحزحة علاقات الاستغلال من الحقل السياسي (الاقطاعية) نحو المصنع مقابل المساواة السياسية أمام القانون وتعميم حق الانتخاب والتمثيل تدريجيا. اكتسحت الحركات النقابية والعمالية الحقل السياسي لتصيغ القوانين التي تحد من الطابع الاستغلالي للبورجوازية، في حين أن هذه الأخيرة بقيت مهتمة بالسوق وحماية قوانينه. دولة الرفاه الاجتماعي هي نتاج هذه التسوية بين القوتين الأساسيتين في المجتمعات الصناعية.

إن نمط التراكم الرأسمالي، حينما يكون محصورا داخل الحدود الوطنية، ينتهي إلى إنتاج القوى المضادة له التي تمنعه من الانحراف نحو التسلط. أعطت ندرة اليد العاملة للحركات العمالية ما يسميه هارتموت إيلزنهانس القدرة التفاوضية (Elsenhans, 2018). ليس فقط داخل الحقل الاقتصادي، ولكن أيضا داخل الحقل السياسي والاجتماعي. التسوية الديمقراطية هي تسوية تمت على أرضية المسألة الاجتماعية، وهي تسوية لصراعات وخلافات ذات صبغة اقتصادية اجتماعية محايدة، عكس الصراعات والخلافات الأيديلوجية والدينية واللغوية والعرقية التي لا يمكن اخضاعها لحل ديمقراطي. استطاع الرأسمال، والسوق الذي أصبح يهيكل العلاقات الاجتماعية كلها (بولاني، 2009)، استطاعا أن ينتجا تسوية ديمقراطية سمحت لهما بتجاوز تناقضاتهما دون المساس بمسار العمل وتناقضات الدولة التسلطية دون تهديد وحدتها.

في الدولة العربية، لا يزال الحقل الاقتصادي (المجتمع المدني) تابعا أو خاضعا للسلطة السياسية بسبب ضعف الإنتاج الصناعي، وهيمنة الريع على الموارد الاقتصادية. الدولة هي المشغل الرئيسي لليد العاملة، والقطاع الخاص حتى حين تم السماح له بالنشاط، اقتصر على القطاعات الخدماتية والتجارية التي تحتاج إلى علاقات قوية بأجهزة الدولة. انتهت كل السياسات الاقتصاديات لدولة ما بعد الاستقلال، إلى النتيجة نفسها تقريبا: سقوط الاقتصاد المخطط بين أيدي بورجوازية الدولة (جيلاي اليابس، 2006)، أو بورجوازية الأحباب والأصدقاء (إيريك جوب، 2007)، أو إلى ظهور طبقة الدولة (هارتموت إيلزنهانس). إن شروط انبثاق المجتمع المدني لا تزال غير مُجتمعة، ولهذا، حتى في البلدان العربية التي عرفت تعددية سياسية، لا يزال الحقل السياسي مُهيكلا حول نفس الخلافات والصراعات الأيديولوجية والدينية التي لا تجد حلا لها في الديمقراطية الانتخابية، وهذا ما يجعل السلطة غاية في حد ذاتها.

من وجهة النظر هذه، القوة الاجتماعية التي تستطيع نزع الطابع الافتراسي عن السّلطة السياسية لا تزال ضعيفة، وهذا ما أسقط النقاش الديمقراطي في أرضية غير الأرضية التي نشأ ليشتغل فيها. تسمح لنا هذه المقاربة بموضعة النقاش الديمقراطي في السياق الاقتصادي والاجتماعي، بدل السياق الثقافي والديني والعرقي الذي يرى أن المجتمعات العربية مستبدة بطبعها. كما أن هذا الزاوية من التحليل، لا تفسر غياب الديمقراطية إلا بالشكل الأصلي الذي ظهرت فيه، بل تفسر لماذا الدولة العربية لا تزال في مرحلة الدولة التسلطية رغم وجود العدة النظرية الديمقراطية جاهزة تنتظر التطبيق حسب منظري الوصفات الجاهزة.

صيرورة العلمنة والتمايز الاجتماعي

غالبا ما يتم تفسير استمرار بعض الأشكال التقليدية لانتظام السياسي والاجتماعي في المنطقة العربية، مثل القبلية والطائفية، وحضور الدين في السياسة، كتجليات عن عدم توافق الثقافة العربية مع الحداثة، أو كأنها معوقات جوهرية لا تاريخية لبناء الدولة في هذه المنطقة. تنطلق مثل هذه التفسيرات من تصور لا تاريخي للدولة، ينظر إليها أنها «ومنذ لحظة ظهورها، كانت تنظيما سياسيا واجتماعيا في خدمة المصلحة العامة» يفرض الوعي به تلقائيا لحظة ميلاده، أو على الأقل لحظة المعرفة به والتعرف عليه، وبالتالي الابتعاد جانبا، للسماح له بالتطور. هذا التصور للدولة، وللتفسير المنبثق منه لاستمرار حضور أشكال تقليدية للاجتماعي والسياسي، مُنبثق من معارف أكاديمية تشكلت حول الدولة الحديثة، وتحديدا حول الشكل المتأخر جدّا الذي بلغته هذه الدولة. دون التذكير بتاريخها.

إذا كانت الدولة الغربية قد تطورت في سياقات مريحة، دون ضغط خارجي من خلال المراحل الثلاث التي تحدث عنها نوربرت إلياس: الهيمنة، الاحتكار، الإقصاء، أي كعملية تتم داخل الجماعة الوطنية، فإن المجتمعات العربية، لم يترك لها الاستعمار الوقت ولا الفرصة لكي تتطور أشكالها الداخلية إلى شكل أصلي محلي للتنظيم السياسي، وأجبرها على الانتظام وفقا لنموذج الدولة الأمة إذا ما أرادت الانخراط في المنظومة الدولية ويعترف لكل جماعة اجتماعية بالسيادة على إقليم جغرافي خاص بها. أوقف الاستعمار الصراعات الداخلية مؤقتا، ووحد الجماعة الاجتماعية رغم خلافاتها وتناقضاتها الداخلية، لتبني( تقتني) بقوة السلاح، أو بشكل من الأشكال السلمية للنضال من أجل التحرر، جِهاز دولة لكي تَحتمي بشرعيَته دوليا. لقد تم اقتناء الدولة وتم تركيبها على البنى الاجتماعية والسياسية التقليدية التي كانت قائمة، وهذا ما سوف يجعل المسار في المنطقة العربية معاكسا للذي أخذته الدولة في الغرب، أوفي أماكن أخرى من العالم. كان على الدولة العربية بعد الاستقلال، أن تعود إلى الوراء لتستكمل إنجاز مهمتها، وهو القضاء على كافة الأشكال الأخرى من السياسي التي تنافسها وتهددها. أمام تداخل العوامل الخارجية، والصراع على المنطقة، ستنجح العملية في بعض الأماكن، حيث يوجد تجانس نسبي بين الدولة والأمة، وسوف يعرف صعوبات، حيث الدولة الوطنية تضمّ عدة أمم (قبائل، طوائف، أعراق، اثنيات ...)، وربما ستعرف انتكاسات في بعض الحالات التي تقوم فيه قوى خارجية بدعم بُنى تقليدية داخلية للمطالبة بالانفصال بما أن الأنظمة لم تتجاوز بعد مرحلة الدولة الشمولية التي تقوم على استخدام العنف لبناء المركز السياسي.

إذا كانت هذه البنى التقليدية لا تزال تظهر مقاومة شرسة للسلطة المركزية، فهذا يعود بالدرجة الأولى إلى تآكل الشرعية القومية الوطنية التي تشكلت عليها هذه السلطة المركزية. الأيديولوجية القومية، تصلح فقط لتجنيد الجماعة الاجتماعية ضدّ عدو خارجي، ولكن بمجرد أن يزول هذا الخطر تصبح غير فعالة في شرعنة احتكار ممارسة جماعة ما للسلطة على الجماعات الأخرى. بتعبير آخر نقول إن الأنظمة القومية التي أسست الدولة، ستفقد مع مرور الوقت شرعيتها القومية الوطنية، وستتحول إلى أنظمة تسلطية بسبب عدم امتلاك الجماعات الوطنية لأدوات تقييدها، ولهذا يتم اللجوء إلى ما هو موجود من أشكال للسياسي والاجتماعي، سواء للنفوذ إلى مركز السلطة، او للاحتماء به. من وجهة النّظر هذه، يعتبر استمرار القبلية والطائفية والاسلاموية في المنطقة العربية تعبير عن عدم اكتمال صيرورة بناء الدّولة، والعنف المتولد عنه أحيانا، سببه هو إصرار الدولة على استكمال هيمنتها على كافة الحقل الاجتماعي ومصادرة السياسي منها باستخدام القوة. جرت هذه العملية في الحداثة دون أعين وسائل الإعلام العالمية، وجرت بالعنف والقوة والقمع، ولكن، تأخر العملية في المنطقة العربية إلى يومنا هذا، جعلها تتجلى وكأنها عملية غير مقبولة أخلاقيا وقانونيا. صحيح أنها ليست مقبولة قانونيا وأخلاقيا، ولهذا غالبا ما تطرح الديمقراطية كوسيلة لحل هذه المشكلة في المنطقة العربية بدل القمع والعنف، في حين أن الديمقراطية مُصممة أصلا لحل تناقضات ذات طبيعة محايدة (اقتصادية اجتماعية في المجتمع المدني). تراوح الديمقراطية مكانها، لكونها يراد منها أن تحل صراعات ذات طبيعة دينية، طائفية، قبلية، إثنية، لغوية، في حين أن هذا النوع من الصراعات لا يمكن حلّه بالانتخاب، لأن ما من أحد مستعد لأن يفاوض على دينه، أو طائفته أو قبيلته. ولأن التسوية الديمقراطية لا تطرح لأجل هذا الغرض، فإن الجماعات الاجتماعية نفسها تستخدم هذه العناصر التقليدية (الدين، الطائفة، القبيلة) للفوز في الانتخابات (التي بدأ يتم اعتمادها تدريجيا حتى في المملكة العربية السعودية) خوفا من الزوال في حال فوز الآخر. تقسم الانتخابات الحقل السياسي إلى هم ونحن، والهوية هي أساس التمييز بين الإثنين، والأغلبية والأقلية مرتبطة بالحجم الديمغرافي لكل طائفة أو قبيلة، وهي غير قابلة للتغير حسب الظروف إلا باستخدام التطهير العرقي. ولهذا السبب، كثيرا ما نشهد أعمال عنف عقب إعلان نتائج الانتخابات، أو أن هذه النتائج تتجلى كتكريس للعروشية والقبلية والطائفية والاثنية. تبقى الدولة العربية متأرجحة بين منطقين يشدانها في اتجاهين متعاكسين: فمن جهة، لا تريد التفريط في الوحدة الوطنية لأنها تستمد شرعيتها السياسية وتبرر ممارساتها التسلطية بكونها تجسيدا للوحدة الوطنية، ومن جهة أخرى، منطق السلطة، واستقلاليتها عن المجتمع بسبب امتلاكها للموارد الريعية، يجعلها معيقا لتشكل المجتمع المدني، من خلال الممارسات الريعية في الحقل الاقتصادي، والممارسات الزبونية في الحقل السياسي، حيث يجري استقطاب النخب القبلية والطائفية لإبطال مفعول الانتخابات في إنتاج بديل في السلطة.

خاتمة

يمكن أن نضع الاستنتاجات التالية:

-الدّولة الحديثة هي ظاهرة تاريخية معقدة ومركبة، خضعت في تطورها لمجموعة من العوامل السوسيولوجية، والاقتصادية والثقافية والسياسية، ولهذا فإن دراستها لا يمكن أن يحتكرها فرع معرفي واحد، مهما كان درجة نضج بنيته النظرية والمنهجية.

-إن هذا التعقيد يزداد حدّة حين يتعلق الأمر بالتفكير في الدولة العربية. حيث الشكل المورفولوجي يتوافق مع الأشكال الموجودة في مناطق أخرى من العالم، ولكن مضمونها السياسي والقانوني لا يزال متأخرا كثيرا مقارنة بالشكل وبما حدث ويحدث حولها. كما أن المسار التاريخي الذي تمخّضت عنه يختلف جذريا عن مسارها في أوروبا الغربية على الأقل. ومع ذلك، وباستثناء الدّراسات التاريخية الوصفية، فإن ظاهرة الدولة في العالم العربي تمت مُقاربتها ومحاكمتها بنفس الأدوات تقريبا التي تقارب بها دول عريقة تاريخيا وديمقراطيا.

لأسباب سياسية وتاريخية، هيمنت العلوم السياسية على التفكير في الدولة في العالم العربي، في وقت لم تكن هذه الدّولة قد بلغت بعد مرحلة يتوافق مضمونها القانوني وبناءها المؤسساتي، واستقلالية حقلها السياسي، مع موضوع هذه الفرع المعرفي الذي ظهر في فترة متأخرة جدّا من الحداثة. العلوم الاجتماعية لا تزال ضعيفة، وبعض الفروع المعرفية، مثل الأنثروبولوجيا، الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع السياسي ...تعاني من إهمال واقصاء أحيانا متعمد، وأحيانا تواجه معوقات سياسية وثقافية ودينية.

-والنتيجة هي أنه فُكِر في الدولة كجهاز بيروقراطي عقلاني في خدمة المصلحة العامة، دون أي اعتبار للانعكاسات السياسية والعملية لذلك، ولا لتاريخ الدولة العربية ولا لتاريخ الدولة الحديثة نفسها، ولا لتاريخ العلوم الاجتماعية التي تدرس الدولة.

-نزع الربيع العربي السّحر عن الدولة بشكلها القائم، وسحب الشرعية منها بسبب ممارساتها المتناقضة مع التعريف الذي تقدمه لنفسها، وفشلها في المهمة التاريخية التي وضعتها على عاتقها، وبها بررت تسلطها. ولهذا تظهر اليوم في حالة انسداد، مهددة بالتفكك والانتكاسة في بعض الأماكن، وبالفشل الاقتصادي والاجتماعي في أماكن أخرى. هذه فرصة تاريخية للعلوم الاجتماعية لكي تنخرط في هذه الديناميكية التاريخية، وهذا لن يتأتى إلا بإعادة التفكير في الدولة انطلاقا من جوهرها: السلطة.

-يسمح وضع إشكالية الدولة ضمن الإطار العام لإشكالية السلطة والسياسي، بالنظر إلى الدولة العربية كظاهرة تاريخية سياسية لا تزال قيد التشكل، وأن الفشل الاقتصادي واستمرار البنى العضوية، هي أيضا مظاهر لعدم اكتمال هذا التشكل، وليست خصائص جوهرية كامنة في الثقافة العربية، ولا قدرا محتوما غير قابل للتجاوز. إذا كانت الدولة العربية قد فشلت اقتصاديا، فلأنها تشكلت تاريخيا كرد فعل على النظام الأمبريالي العالمي، وفي محاولة منها لاستدراك التأخر، فإنها أدارت ظهرها للسوق، وحاولت استبدال قوانينه الموضوعية بالتسيير البيروقراطي للاقتصاد أملا أن يجنبها ذلك استغلال الطبقات العاملة التي كان الاستعمار قد أنهكها ... والنتيجة كانت فشل على المستوى الاقتصادي، وفشل آخر على المستوى السياسي والاجتماعي، إذ أن محاربة السوق يعني منع تشكل أساس قيام المجتمع المدني، الذي فيه وجدت الدولة التسلطية حلا لتناقضاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسمح لها بالتطور نحو دولة القانون حيث تندمج الأمة في الدولة. في ظل عدم تشكل المجتمع المدني، المرتبط تاريخيا بالسوق، ستظل القبيلة، والطائفة والعروشية بدائل موضوعية للأفراد، وسيستمر استخدامها في الصراع على السلطة وكافة الموارد المادية والرمزية في المجتمع، بل سوف تستخدم أدوات الدولة الحديثة لتكريسها مادامت لا تزال تحوز على جزء من السياسي.

-يشكل مدخل السلطة بديلا نظريا ومنهجيا لفهم الظاهرة السياسية بشكل عام، والدولة بشكل خاص، وإعادة النقاش إلى إطاره التاريخي الأصلي: الدولة كشكل من أشكال انتظام السلطة في الحداثة. إن كل البنية القانونية، المؤسساتية، والأخلاقية للحداثة قد تم اشتقاقها من هذا التعريف للدولة، ومن وجهة النظر هذه يمكن للعلوم الاجتماعية العربية أن تعيش عصر أنوراها الآن، بدل أن تكون خطابا تبريريا للسلطة، أو خطابا انفعاليا يتماهى مع الشعوب التي تبحث غالبا عن المذنب لشنقه بدل أن يساهم في تطوير ثقافتها السياسية باستغلال ما تراكم من معارف وخبرات في الحداثة.



[1]  صدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1993 عن مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت، لبنان). وصدرت الطبعة الرابعة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سنة 2015، وهي الطبعة التي اعتمدنا عليها في هذه الدراسة.

 

[2]  أنظر إلى:

Jean Mickeal Guédon, le lien social chez Adem Smith: le marché. In. https://studylibfr.com/doc/442630/le-lien-social-chez-adam-smith---le-march%C3%A9--la

 

المراجع

برتراند بادي، الدولة المستوردة، ترجمة، لطيف فرج، ط1(مدارات للأبحاث والنشر، مصر، 2017).

عبد الإله بلقزيز: الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر،2008).

العروي عبد الله، مفهوم الدولة، ط 9، (المركز الثقافي العربي، المغرب، 2011).

عزمي بشارة، المجتمع المدني، دراسة نقدية، ط6 (المركز العربي للأبحاث، قطر،2012)

عزمي بشارة، في المسألة العربية، مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، ص3، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2014).

كارل بولاني، التحول الكبير، ترجمة محمد فاضل طباخ، ط 1(المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009).

نوري دريس، المجتمع المدني في الجزائر المعاصرة: اقتصاد سياسي لتجربة انتقال ديمقراطي غير مكتملة، مجلة سياسات عربية، عدد 19، مارس 2016،( المركز العربي للأبحاث، قطر 2016).

Addi Lahouari, Etat et pouvoir: approche méthodologique et sociologique( OPU, Alger, 1991.

B. Badie, P. Birnbhaum, sociologie de lEtat (Grasset, France, 1982

Eric Gobe, Secteur privé et pouvoir politique en Egypte: entre réformes économiques et logique rentière et autoritarisme néo patrimonial. In: Gérard D. Khoury, Nadine Mouchy: Etat et société de lorient arabe en quête davenir 1995- 2005, dynamiques et enjeux. , Geuthner  2007, Paris, pp 253- 265.

Hartmut Elsenhans, Global South : transition vers le capitalisme contre la rente, Chances et obstacles. In. Naqd, n°36,(mars, avril 2018.

Jean Mickeal Guédon, le lien social chez Adem Smith: le marché. In. https://studylibfr.com/doc/442630/le-lien-social-chez-adam-smith---le-march%C3%A9--la

Jürgen Habermas: lEspace public. Trad Marc B. de Launay. 4e éd. Payot.  1997.France.

Lahouari Addi, Deux Anthropologues aux Maghreb : Ernest Gellner et Clifford Geertz (Edition des archives contemporaines, Paris, 2013.

Liabes Djillali, entrepreneurs, privatisation et libéralisation: mouvement démocratique en Algérie. In: Djillali Liabes: la quête de la rigueur, collectif sur la direction de Mohamed Benguerna( Hommage à Liabes); Casbah Edition, Alger 2006. Pp 135-184.

Norbert Elias, la dynamique de loccident, traduit par Pierre Kamnitzer( Calmen -Lévy, France, 1975).

@pour_citer_ce_document

دريس نوري, «التفكير في الدولة في العالم العربي: مقاربة نقدية»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 27-44,
Date Publication Sur Papier : 2023-06-11,
Date Pulication Electronique : 2023-06-11,
mis a jour le : 11/06/2023,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=9272.