البعد الإنساني للتصوف وحقيقة التمثلات الأنثوية في ممارساته الإبداعية دراسة في جنسوية التصوفThe Human dimensions of Sufism and the Nature Feminine in Sufi ExperienceLes dimensions humaines du soufisme et la nature féminine dans l’expérience soufie
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


N°02 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 vol 21-2024

البعد الإنساني للتصوف وحقيقة التمثلات الأنثوية في ممارساته الإبداعية دراسة في جنسوية التصوف
Les dimensions humaines du soufisme et la nature féminine dans l’expérience soufie
The Human dimensions of Sufism and the Nature Feminine in Sufi Experience
172-186
تاريخ الاستلام 2024-08-04 تاريخ القبول 26-11-2024

مسعود مكيد
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie
هذه دراسة تقوم بمساءلةً تاريخيةَ عميقة عن سبب الغياب الأنثوي في المشهد الصوفي بغض النظر عن كونه ظاهرة تلتبس بُعدًا دينيا أو تتمثل في جنوح إنساني خالص. وهي تندرج بشكل جمالي في سياق الفرق بين التصوف كممارسة طقوسية وممارسة إبداعية تجعلنا في حيرة وتساؤل عن حقيقة التمثلات الأنثوية في كل هذه الممارسات، رغم أنها كأنثى صنو الرجل في كل شيء؟
وهي دراسة ذات منهج تاريخي استقرائي، تبحث في البعد الإنساني للتصوف أساسا ومن ثم تحاول تخصيص هذا البعد باتجاه جنسانية التصوف بما هو ذكوري أو أنثوي، لتتحدث عن تاريخ التصوف النسوي سلوكيا وإبداعيا والأسباب الذاتية التي جعلت المشهد الصوفي يتميز بهذا البعد التجنيسي المحير قليلا، والذي قد يدفع بالبحث الصوفي نحو اتجاهات جديدة فيه. معلومات حول المقال
 
الكلمات المفتاحية:,صوف,أنثى,جنسوية,سلوك,طقس
Cet article est une enquête sur les dimensions humaines du soufisme et la nature de la mystique féminine dans l’expérience soufie. Cette étude tente de réorienter l’attention sur la fonction originelle de l’expérience mystique qui sous-tend le soufisme, plutôt que de voir les femmes soufies comme une question liée au genre.  cet article s’appuie principalement sur des exemples de la période classique de l’histoire soufie féminine. La question du genre n’est que superficiellement pertinente, car elle concerne les différences sociales et culturelles par rapport aux notions de sexe, alors que, si nous posons des questions sur le mystique féminin, nous traitons de ce qui est plus fondamental comme condition d’être dans un état mystique.      
 
Mots clés: Sufism,female,mystic,gender,mysticism
This article is an inquiry into The Human dimensions of Sufism and the nature of the female mystic in Sufi experience. This study tries to reorient the focus back onto the originary function of mystical experience underpinning Sufism as opposed to seeing Sufi women as an issue pertaining to gender.  It considers this experience in the general sense with regard to the Sufi tradition, and also masculine mysticism, this article primarily draws on examples from the classical period of Female Sufi history. The topic of ‘woman’ in Sufism (and Islam, generally) typically depicts that which is paradoxical in nature because what is seen is easily confused with what remains essentially true about the mystical. The question of gender is only superficially relevant as it pertains to social and cultural differences in relation to notions about sex, whereas, if we ask about the female mystic, we are dealing with that which is more fundamental as a condition of being in a mystical state.
 
Keywords:,ufism,female,mystic,gender,mysticism

Quelques mots à propos de :  مسعود مكيد

Dr. Messaoud Mekid   جامعة البليدة 2، الجزائر  Mekid_messaoud@hotmail.com
مقدمة
تتمثل هذه الدراسة تحقيقا في تلمس «جنسوية تصوفية» قد يتعذر اقتناص كنهها في سماوات تصوف إنساني عجيب المسارات بعيد المنالات غريب المآلات، حكمته مفاهيم وتصورات ومنازع متجددة طالما استعصت عقلا متفردا أو جمعويا، امتزج فيها الكل بالجزء والواجد بالموجود والعلوي بالسفلي والروحي بالمادي والرمزي بالمعلوم، حتى كاد اللاحق أن يمحق السابق، فلا وحي نبي يتجلى ولا ثوب صوفي يبلى، ولا كلمة تتأتى ولا معنى يتهدى في نفوس الحائرين، حتى فنيت المقاصد وتوحشت دروب الطالبين، لتترهل الروح أخيرا في جسد إنساني فقد كل ثنائياته ونقائضه وتوحدت نقيضته حتى جفت ينابيع الحكمة من أقاصيه إلى أعاليه. 
إنه مقام الحديث عن عالم الروح الخالص، عالم التصوف في مراميه المترامية ومدوده الممتدة وسلالمه المتهاوية على رؤوس المتعالين إلى علو روحي غلبتهم فيه جسدية أرضية حتى انفصل هذا عن ذاك، بلا غيب ينجلي ولا موجود يتحقق إلا في رسم كلمات باقيات تزخر بها الذاكرة وتتجدد بها المذاكرة. 
صوفية لا كالصوف في كنهه، ولكنها شبيهة الحقيقة في كل أثواب المعاني، سهلة وصعبة، واضحة ومبهمة، معلومة ومجهولة، مركبة وبسيطة، بعيدة وقريبة، ممكنة ومستحيلة، وهي ذات المعاني التي احترق في أتونها مريدون غلبت عقولهم أجسادهم الفانية، ففني صوف أجساهم وبقيت صوفية المعاني والمقامات والأحوال تملأ سماء معرفتنا وتحير فكرنا، لا في تجريب ما جربوا وامتحنوا، ولكن في مجرد إدراك ما ورثوا وتركوا، وشتان بين ذائق عارف وبين محصل مستتبع. 
ربما تكون هذه المقدمة المستفيضة التي اقتضاها جنس لغة المبحوث فيه، قد اعتمدت سياقا صوفيا اقتضاه حال الموضوع، إلا أنها تتعدى جميع مسائل البحث الصوفي قديمه ومستجده، لتستشكل أطروحة جديدة قد تكون فريدة غريبة، ومحيرة أيضا بشأنها السلوكي والتاريخي في مضمار الصوفية الذكورية الطويل.
وإذا كان التصوف نزعة إنسانية خالصة كما أجمع عليه مؤرخو الظاهرة الصوفية، رغم أن كنهها الظاهراتي الفلسفي لم يتحدد إلى الآن، إلا أن الجدل المستجد اليوم ربما يتعمق إلى حدود تجنيس هذه الظاهرة الذي ربما أغفله المؤرخون أنفسهم لوقت طويل وحتى غير مفهوم، وكأنه المجهول المعلوم، فالتصوف في عموم دراساته (نصا وتاريخا) ورغم أنه مقامٌ قِوَامُهُ الإنسان بامتياز، إلا أنه لم يستشكل في كل طروحاته إلى الآن سببية كونه يمثل حالة ذكورية طاغية، بما يبعث على سؤال في أبسط صياغة: أين الأنثى من عالم التصوف؟
فالتصوف علاقة علوية سامية متجردة عن كل تحيزاتنا الذاتية ومنطقنا الوظيفي الإنساني بين مكونين يعود منشأهما وتَخَلُقُهُمَا إلى طبيعة إنسانية واحدة وإن تَسَمَيَا (الذكر والأنثى)، ولكنهما بلا شك ملتزمان باتجاه خالق واحد، وهنا جوهر الإشكال في هذا النزوع الظاهراتي لممارسة حياتية مثل التصوف، بما يجعلنا في حاجة إلى إعادة النظر والتأمل والبحث في حقيقة التصوف، لا من حيث نزعته الإنسانية فحسب، ولكن من كونه يحتمل كل هذه الحمولات الخارجة عن إنسانيته والمتمثلة في بعده الديني الخالص.
بين هذا المنشأ وذاك النزوع لم يسترع انتباهنا أبدا السؤال عن طبيعة الممارسين في هذا الحقل الواسع المتغلغل في أبعاده الإنسانية إلى ما لا نهاية، فالتصوف على طول مساره يكاد يكون حالة ذكورية خالصة، تستدعي أن نتساءل: ما السر في ذلك؟ ما التصوف والأنثى؟ ما الأنثى والتصوف؟ وإذا كان التصوف حالة روحية ونزعة تَبَتُلِيَةً بين خالق ومخلوق، فما الذي باعد بينه وبين المرأة حتى لكأنها مخلوق بغير خالق؟ لماذا هذا الغياب الأنثوي في هذا المشهد الصوفي الجمالي الراقي وهي عنصر الجمال والذوق كله؟ 
التصوف بين المنزع الديني والجنوح الإنساني
يكمن جوهر الظاهرة الصوفية في الجدل المستمر عن التكوين البنيوي لها ضمن الأطر التاريخية، لما قبل الظواهر الدينية وما بعدها، بما لم يحسم آنيتها بين كل مرحلة ومرحلة، ليتجدد دوما التساؤل حول حقيقة التصوف وانتقالاته الحضارية المتعددة في آفاق كون متداخل الأعراق والثقافات والأديان والذي تلعب فيه الجغرافيا دور الوسيط أو الحاضن الأساسي لكل تمثلاته الإنسانية، كونه يمثل حلقة حقيقية بين السماء والأرض، حتى لغير اعتبارات دينية أحيانا، وكأنه بذاك يؤكد جدلية الطلب الروحي لارتقاء الذات والارتفاع بالنفس البشرية عن الجذب الطاغي للمادة فيها. إن صراع الروح مع مادية الجسد هو ما يفسر الظاهرة الوجودية للإنسان ككل، إنه مؤشر سلامة عقلية ونفسية لوجوده الإنساني الخالص، وإلا فقد هذا الإنسان عنصر تميزه عن سائر المخلوقات الكونية ما بين ملائكية مجبولة على مهمتها السماوية الخالصة وما بين تشكيلات غرائزية أرضية مطبوعة في هذا المخلوق السامي المتوسط الوجود بين هذا وذاك، وهنا تكمن معادلة الوجود الإنساني الحقيقي بين تكريس مادي ينحدر به حينا إلى مادية طاحنة قد تحوله إلى حجرية متحجرة وما بين جنوح روحي يحدو به إلى روحانية محلقة متطلعة إلى أصلها الأعظم «ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦ»(السجدة: 9)، ﴿فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾»(الحجر: 29)، فالمادة فيه هي طين مُسوَّى خالص الصنع، أما الروح فهي جزء من الصانع نفسه، وكأن هذا التطلع البشري حنين الفرع إلى أصله، حنين الجزء إلى كله كما يقول ابن عربي، وهو ما قد يفسر مبدأ الوحدة والحلول في الخضم الفلسفي الإشراقي، والذي لا يمثل فيه التصوف التعبدي إلا وجهه الظاهري الشكلي.
فارتقاء الإنسان وتطلعه الروحي هو غلبة فطرية فيه وإن لم تظهر في عموم هذا الإنسان، لكننا نلمسها -وإن كان مستغرقا في ماديته- في مآثره العليا من تنسك وتعبد وتجرد كما هو حال الزهاد والعباد والمريدين والطالبين من شتى الأديان والملل. فالمتطلب الروحي هو أصلي في الإنسان، وما التعبد والتنسك إلا عوارض روحية بوسائط دينية جاءت لتكسر ماديته الطاغية، ومن ثم ليس بالضرورة أن نكرس لهذا البعد الروحي أرضية دينية خالصة، لأنها لم تأت إلا في سياق التذكير والتحفيز والتخفيف من حدة الجنوح الإنساني في شقه المادي الوضيع الذي طالما قاده إلى مستويات أخلاقية متدنية في صور متعددة من مظاهر الحياة. فهذا المنحى الروحي الأصيل في الإنسان هو الذي ابتكر مظاهر تعبدية وتَخَلُقِيَةٍ سامية لم تؤسسها الفكرة الدينية فحسب، ولكنها تأسست بشريا أيضا كما هي جليا في التجربة الروحية الإنسانية الخالصة التي تمثلها بوذا في أعلى صور الارتقاء الإنساني، والذي يمثل النموذج الأمثل في مواجهة التأصيل الديني للتصوف الإنساني لدى كل ملة أو عقيدة أو دين، بما حدا كل فريق بحثٍ داخل الخصوصية الدينية إلى تأصيل الظاهرة الصوفية داخل مرجعية محددة، «وهذا البحث البنيوي للتصوف خارج تاريخيته هو الذي انحرف به عن دراسته ضمن خصوصيته التكوينية البنيوية» (تزيني، 2011). 
وبالنظر إلى خصوصية التصوف الإسلامي العميقة والمنتجة لهذا الكم المعرفي الخالص في روحيته، فقد حاول الكثير من الدارسين لتاريخ الأبعاد الروحية للإنسان التأصيل لتجاربه التنسكية التصوفية ضمن سلسلة من التأثيرات لثقافة دينية على أخرى كما فعل جولدتسيهر عن دراسته للتصوف الإسلامي بطابع تهكمي في غالبه، والذي عزاه (بتعسفية واضحة) إلى مؤثرات أجنبية عنه، فاعتبر أن الحياة النسكية في الإسلام مستمدة من فكرة الرهبنة المسيحية «التي يتفق مثلها الأعلى مع مبادئ المسيحية اتفاقا يكاد يكون حرفيا» (جولدتسهير، 2009)، كما أكد على التأثير الشرقي الهندي في المكون الصوفي الإسلامي، ليس من منظور فلسفي فحسب، ولكن حتى على مستوى الممارسة، فهو يقول: «لدينا شواهد لا تقتصر على إثبات أن الأفكار الهندية دخلت في محيط الفكر الإسلامي من وجهة النظر البحت، بل تدل أيضا على أنها كانت موضع حسهم وتجاربهم عن طريق الرهبان الرحل من الهنود» (جولدتسهير، 2009)، ثم أردف يقول:»ويمكننا أن ندلل على أثر البوذية، بكثرة ما ورد في المؤلفات الصوفية الإسلامية من استشهادها بمثال الملك القوي الذي يذر ملكه الدنيوي بعيدا نابذا العالم وما فيه»(جولدتسهير، 2009). 
أما نيكولسون -متخصص التصوف- فهو أكثر الباحثين المستشرقين الذين أيدوا فكرة التأثير الأجنبي في التشكل الصوفي الإسلامي، حيث أرجعه إلى أصول مسيحية، خاصة في بعده السياحي التبليغي عند الزهاد المسلمين السائحين في الصحراء مشبها حكاياتهم بصورة الراهب المسيحي وهو يلقي مواعظه من صومعته أو عموده، والتي اعتبرها «أدلة قاطعة على أن مذاهب هؤلاء الزهاد كانت إلى حد كبير مستندة إلى تعاليم وتقاليد يهودية ومسيحية»(نيكولسون، 2015). كما نقل أن المتصوفة الإسلاميين نسجوا صورة الزاهد الكبير إبراهيم بن أدهم على منوال شخصية بوذا (نيكولسون، 2015). ورغم أن نيكولسون حاول ربط التصوف الإسلامي بأبعاده اليهودية المسيحية، إلا أنه رجع يناقض هذا الربط بتفنيد محاولات الآخرين الخاطئة في نظره «لتفسير نشأة هذه الحركة العظيمة تفسيرا علميا دقيقا بإرجاعها إلى أصل واحد كالفيدانتا الهندية أو الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، أو بوضع فروض أكثر ما يقال فيها إنها فروض تفسر جانبا من الحقيقة لا الحقيقة بأكملها. وذلك كقولهم بأن التصوف كان رد فعل للعقل الآري ضد دين سامي، فرض عليه فرضا»(نيكولسون، 2015). وقد يكون هذا التفسير خير رد على نيكولسون، لأنه تفسير أعاد جذور الرهبنة المسيحية أو التصوف الإسلامي إلى أصول مشرقية ضاربة في القدم حتى ما قبل ما يصطلح عليه بالأديان السماوية، وهو الذي طالما سعى إلى تكريس مرجعية مسيحية خالصة للتصوف الإسلامي. 
وبعيدا عن هذا التفسير التاريخي القريب أو المتباعد، فإنه يمكننا الإقرار بأن فكرة الروحانية المتمثلة بمظاهرها في التزهد والتقشف وقهر الذات هي فكرة نابعة من نزعة الإنسان نفسه إلى حالة من السمو والارتقاء والتخفف من شهواته وضغوط المادة فيه، وإن تطرف أحيانا في هذا السمو، كما هي أحوال التعبد القاسية المعروفة عند النساك البوذيين الذين يمارسون أساليب عنيفة في حق أجسادهم حتى تصل أنفسهم إلى الخلاص والكمال المطلق وهو ما يعرف بمرحلة النيرفانا (Nervana) التي تمثل الهدف النهائي للبوذيين، وقد اعتبرها بوذا حالة غير دنيوية، فالسبيل الوحيد لمعرفة حقيقتها هو الوصول إليها (لقمان لوا، 2015)، وكأنها بذلك تتقاطع مع مفاهيم الاتحاد والحلول في الصوفية الإسلامية.
وهنا يرى طيب تيزيني أن فكرة التأصيل للتصوف الإنساني ضمن أي سوابق دينية هو يخضع بالدرجة الأولى إلى عمليات المثاقفة التي تتم بأشكال متعددة تبدأ بالتجارة والثقافة وتنتهي بالغزو والحرب، والتي في الغالب تتم بكيفيات غير مباشرة وبطرق مركبة وملتوية وخفية، وهو الأمر الطبيعي الذي حصل مع «انطلاق الإسلام من محيط تاريخي لم يكن يمثل صفرا أو خواء لا تاريخيا، بل كان مضمخا ومفعما بالثقافات المحلية القريبة والخارجية البعيدة» (تيزيني، المرجع نفسه)، والتي ساهم الإسلام في إعادة اكتشافها، أو باعتبارها مكونات خارجية خضعت لعملية إعادة «بَنْيَنَة» انتهت إلى نتائج متقاربة مع الإسلام، وعليه يرى تيزيني أن «التصوف الإسلامي العربي تأثر بأنماط التصوف السابقة عليه في حضارات متعددة بطرق مباشرة وجها لوجه» (تيزيني، ص 16). 
في حين يرى آخرون «أن التصوف لا يدخل في باب العلم ولا الفلسفة في بعدها الروحي ولكنه طريقة شخصية في الزهد وآراء مجتمعة على غير نسق ترجع أحيانا إلى العلم وأحيانا إلى الخيال الشخصي» (تيزيني، 2011)، وبهذا يقرر تيزيني أن التصوف في إطاره العام يدخل ضمن الأنساق الدينية والإيديولوجية والقيمية وغيرها من الأنساق، «فكما أثر التماس مع فلسفة (يونان) والنزعة العقلية الإغريقية في تحريض اللاهوت المسيحي، أسهم التصوف المسيحي والغنوصي كذلك في تحريض التصوف الإسلامي» (تيزيني، 2011). 
ولكن هذه الآراء المتعلقة بإلحاقات حضارية شبه دائرية للتصوف قد لا تعكس حقيقة الظاهرة نفسها، لأن المسلك الروحي لأي جماعة هو يمثل بالدرجة الأولى شأنا إنسانيا واجتماعيا قبل أن يصبح مسلكا دينيا عقائديا مذهبيا، لأنه يأتي وفق متطلب روحي وجداني، خاصة في المجتمعات المتآكلة أخلاقيا والمنهارة في قيمها وأوضاعها الاجتماعية، وربما عزاه البعض إلى حالة من العُصاب النفسي، الذي يدخل ضمن آليات الدفاع الذاتي التي ينتهجها الفرد الزاهد للتخفيف من القلق النفسي والضغوط الخارجية والذي يراه علماء النفس إيجابيا لأنه يحفظ الفرد من الاضطرابات النفسية، وإن كانوا لا يرونه ميزة شخصية بل يعدونه مرضا نفسيا (لوا، 2015). وربما جاءت نتيجتهم تلك وفق تلك المسالك المتطرفة الشاذة التي يلجأ إليها العباد والمتنسكين في أي ملة كانت، بما يمارسونه في حق أنفسهم من تجويع وقهر لدرجة الإشراف على الموت، وهنا تختلف المفاهيم التعبدية الحقيقية من دين أو ثقافة إلى ثقافة أخرى، ولهذا تعامل الإسلام بشيء من التوسط فضبط كثيرا من معايير الزهد والتعبد عند المسلم وعلى الرغم من ذلك وجدنا أن التصوف الإسلامي وصل في بعض انحرافاته التعبدية إلى ما يخالف رؤية الإسلام الصحيحة.
وما بين المرتكز الديني للتصوف أو الجنوح الإنساني إلا أن بعده الظاهراتي تعمق بما لم يتشابه مع أي ظاهرة من الظواهر الإنسانية على مدار الوجود الإنساني، وكأنه بذلك يدلل على خصوصية خالصة لا يكاد يمثل فيها الإنسان إلا تطلعا مبهما مكرسا لوجود حقيقي آخر بلغ به حد السعي إلى الفناء والانتهاء إلى مصائر عجيبة ومقامات روحية تبذل فيها حتى هذه النفس العابدة المتبتلة إلى درجة تستعجل فيها محقها وسحقها وقتلها وموتها كنوع للخلاص والتخلص وهو المقام الصوفي العجيب الذي تمثلته النفس الإنسانية لدى عديد من المتصوفة على اختلاف مشاربهم والذي بلغ شأوه الديني الجارف مع نماذج إسلامية مثل الحلاج والسهروردي والهمذاني (عين القضاة)، بما لم تكتنزه أي ثقافة صوفية أخرى على طول امتداد هذه الظاهرة، فصرخة الحلاج «أنا الحق» لم تكن سوى استفزازا منه بتصرف «الأغيار في دمه» وتعجيل قطع شريان الحياة الذي يقف بينه وبين معشوقه ومعبوده وهو الذي طالما ناشد ذلك في أشعاره:
بيني وبينك إني ينازعني             
  فارفع بإنيك إني من البين
«أي أنه يوجد بيني وبينك يا إلهي «إني»، إنه أنا يعذبني، فأتوسل إليك أن تزيل «بإنيك» أي بأنت هو «إني»، إي إنه أنا، تزيله من «البين» الذي بيننا نحن الإثنين» (بدوي، 1969) إنها لحظة شهود بالغة الغرابة حررت أولئك المساجين من قيودهم وكأنها تشبه يقين الثوار، عاشقي الأوطان، فما بالكم بعاشقي الروح، وهي عين اللحظة التي ناشدها السهروردي وهو في طريق القتل:
لا تــظنـــوا بأنــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ميت        
  ليس هذا الميت والله أنا
أنا عصفور وهذا قــفــــــــــــــــصي      
    طرت عنه فتــــخلى رهنا
فاخلعوا الأنفس عن أجسادها      
   فـتـــــــــــرون الحق حقا بـينا
 (خوالدية أسماء، 2014)
ووسط هذه المقامات المشرقة والنهايات المحتومة أبى العقل المتحير أمامها إلا أن يسأل: ما التصوف؟ إنها لحظة حاسمة تلك التي أجاب فيها الحلاج سائله: إنه «أهون مرقاة ما تراني فيه»، أو عبر عنه في سياق آخر: «ما أنا فيه، والله ما فرقت بين نعمه وبلوه ساعة قط»، وهنا يعلق صديقه وخاذله الشبلي (ذي الوردة الحمراء كما ترويها الأسطورة) بعد أن سمع مقولة صاحبه:»الحلاج على حق، ليس التصوف إلا بذل النفس، وإلا، فلا تهمكم جهالات المتصوفة» (ماسينيون، 2004).
وإنه لمن قبيل السذاجة بعد كل هذه العروض الروحية الخارقة التي قدمها أولئك الشهداء أن نسأل ما التصوف؟ فهو مزيج معاني لا متناهية، هو لا متناهي الحدود لأنه يسعى لاختراق ذات وموجود غير ذات ووجود ممارسيه، إنها خبرة روحية يستحيل إدراك كنهها، لأن الكلمات تعجز عن سبر أغوارها، لأن الغاية عند الصوفية كما تراها آنا ماري شيمل «حقيقة لا يمكن وصفها، ويمتنع إدراكها أو التعبير عنها بالمدارك والأساليب العادية ... إن الأمر يتطلب تجربة روحانية، لا صلة لها بالمناهج الفكرية أو العقلية» (آنا ماري شيمل، 2004). وإذا كان الحلاج قد ضاقت به دنيا العابدين، فربما لأن عالم الناسوت كله لم يسعه وهو الناشد لعالم اللاهوت، إن جنوحه الإنساني كان أكبر من كل تلك الحمول الدينية والاجتماعية، لقد كان هو وفريقه من المصلوبين والمحروقين والمقتولين أكبر من أن تسعهم قيود وأحكام وشرائع وهو ما أخرجهم حتى من صورة التصوف الشكلي المحدود.
يقبع التصوف في صراعه البنيوي بين مفاهيمه المتداخلة مع نفوس بشرية على اختلاف مشاربها وبين ذات عليا متفردة مقصودة لذاتها، وشتان بين عابد ومعبود، ولكن النفس الآدامية أبت إلا أن تقتحم خالقها، وتتعدى كل فوارقها لتزعم بالاتحاد معه والحلول فيه وبه ومعه، وهو ما لم يقبله المتوسطون من العباد والمستخلصين من الأنبياء والرسل لأنه بذلك ينفي البعد الحقيقي للشخصية الإنسانية، كما أنه يلغي مبدأ الخالق والمخلوق (شيمل، المرجع نفسه، ص 9). إنه بذلك يجعلنا في ندية إنسانية إلهية لا تتفق مع جوهر الوجود ولا مع غاية الموجود. وهو ما يجعله في عمومه تصوفا لا معقولا ولا مدركا ولا محققا، وذلك ما حدا به إلى نهايات دراماتيكية في الحقل الإسلامي على وجه الخصوص، وإذا لم يكن قتلا ماديا فهو في أحسن الحالات قتل معنوي ضمن سلسلة من الأحكام المتخبطة والازدراءات التي تعج بها كتب المؤرخين الصارمين عن ظهير صوفي عريض.
أما التصوف المعقول (إن أمكننا القول) فهو يتساوق مع نمطين، أحدهما تصوف طبيعي يتماشى مع حدود التركيب البشري ومع التركيب الديني الروحي لما جاءت به أديان وشرائع تمتد بحبل من السماء، وهو ما تصطلح عليه آنا ماري شيمل «بصوفية استبطان الذات» لأنه يضع حدا للطبيعة الإنسانية أمام طبيعة خالقها، إنه تصوف عبد في مقام سيد، ولهفة مقيدة لمحب لمحبوب مهما جنحت به نفسه (شيمل، المرجع نفسه، ص 9). أما النمط الثاني فهو الصوفية العابرة لكل حدود التلاقي الإنساني وهي ما تمثلت في البعد الإشراقي الفلسفي الأفلاطوني الذي كاد يربط جل الفلسفات الوجودية بوتيرة من المفاهيم كادت هي الأخرى تتشابه في الحيثيات وحتى المسميات. 
جنسوية التصوف بين ذكورية المسار وأنثوية الغياب
إن بحار التصوف لا تحدها شطآن، ولطالما أعيت غمارها أشد الطالبين وهم يسبرون أغوار وأعماق معانيها ولكن أموج الكلمات والمسميات والأوصاف كسرت كل أشرعتهم، ولم ترسو لهم حقيقة على بر، وطوى الزمان جميع ما كان وكأنه ما كان، فلم يبق سوى رسم معنى لم يتجل قط لطالب رغم كل ما قيل وعرف من أحوال ومقامات، وكأن لسان الحال يقول: ما كان لكم أن تقدروا قدره أيها الطالبون، فما أنتم سوى عُبَّادٌ أعيتكم الحيلة وقصر بكم الطريق في تطلعكم إلى محال ومجال غير المجال. 
هو كهذا التصوف في أسمى علاقة بين مخلوق متكشف الوجود في ماديته وبين خالق ممتنع عن الإدراك العيني «لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ »(الأنعام: 103)، وهذه هي الحتمية التي جابهها عتاة المتعبدين، فطوتهم حتمية الفناء ولم نعلم حقيقة ما صاروا إليه رغم كل ما استشفوه وعبروا عنه في كلمات مبهمة ما زالت تتطاير في مهب المعاني إلى اليوم. وبالنظر إلى أحوال التصوف العجيبة وإبداعاته الخارقة ومآلاته المحيرة وهو الأمر المنطقي قليلا، إلا أنه ما يزال يتأرجح بين خصوصيتين قد لا يعقل توازنهما وحتى التقاؤهما، خصوصية ناسوتية بشرية مخلوقة وخصوصية لاهوتية صانعة وموجدة وخالقة، وهو السر الذي يَدِقُ عن الوصف والإدراك في كل أسفار الراحلين لطلبه. وسط هذا الإبهام الموغل في الإيهام والتمنع وسوء حال المتطلعين الذين بعدت بهم شقة السفر في طريق لا كالطرق، طريق عمودي ما بين السماء والأرض تطاولت فيه أنفس إلى مستحيل ما، يتجدد البحث في طبيعة أهل هذا الطريق، وحقيقة جنسهم، وهوية مداركهم البشرية، إنه بحث في الفاهمة الإنسانية ذاتها. 
لكننا سنتنحى عن ذلك الطريق الموعر للصوفية، لنستكشف جانبا نراه غير مطرق أو منتهج في مسار الدرس الصوفي الطويل جدا، لنبحث في حقيقة جنسوية المتصوفة أنفسهم، حقيقة قد تستدعي إرجاع النظر كله في المبدأ الصوفي، أو ربما تستفهم مسارا جديدا له طالما حيرنا غيابه، إنه المسار الذكوري المنفرد على طول هذا الطريق، طريق التعبد والتنسك والزهد والتبتل، طريق خالص الهوية بين خالق ومخلوق، فلماذا انفرد به جنس عن جنس؟ لماذا وسمته صفة الذكورية الرجالية وهو شأن يمثل أسمى معاني الوجود الإنساني، شأن ذوقي جمالي إشراقي ما كان يستحق أن تكون الأنثى فيه على الهامش أو في ضلاله المعتمة؟ فأين جوهر المسألة كلها؟
هنا نجد التصوف كله منوط بالمثول أمام إشكاليتين قبل أن يغرق في كل تمثلاته العجيبة: الأولى تستشكل طبيعة الخلق الإنساني أساسا ووحدته التي لا تقبل التجزء والفصل، والثانية تتمثل في حقيقة التكليف الإلهي لهذا المتخلق ذي الأصل المشترك.
يعتور النقاش الديني كثير من «الجدل السوفسطائي» حول مسألة الخلق الأولى «مسالة النفس الواحدة»، بما يجعل هوية التخلق الإنساني عند المفسرين إما متدرجة ترتيبا، «آدم أولا ثم حواء» دون اعتبار للعددية أو يجعلها تضمنية، بما يعني أن آدم هو المتكون الأصيل ومنه جاءت حواء، وكل ذلك يستند إلى إحالات قرآنية عديدة المواضع، كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ»( الأنعام الآية 99)، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء»(النساء الآية 1)، وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا»(الأعراف الآية 189)، وقوله تعالى: «خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ»(الزمر الآية 7)، ومع هذا التقرير الإلهي المتعدد حول قضية التخلق الأولى مال المفسرون شرقا وغربا ما بين مؤصل لآدم وحده واعتبار حواء جنسا تكميليا ووظيفيا لعملية التناسل الإنساني اللاحق كما ذهب إلى ذلك غالب الجمهور من المفسرين وحجتهم في ذلك آيات الأمر الإلهي بالسجود لآدم المتكررة بذات السياق في قوله تعالى: «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» (البقرة24/الأعراف11/الإسراء61/الكهف50/طه116) باعتباره مناط التكليف الأساسي ثم تلحق به حواء، ولكن هذا الفهم قد يدحضه التأكيد الإلهي اللاحق في أكثر من مقام قرآني على مبدأ الذكورة والأنوثة كأساس لكل وجود إنساني. وأما الفريق الآخر منهم فقد أصل لمسألة «النفس الواحدة» بعيدا عن عجينة الطين الأولى التي تشكل منها آدم وحواء على حد السواء.
لسنا هنا بصدد هذا التناول الفلسفي الكلامي التفسيري حول حقيقة الخلق الإنساني في المعتقدات والمقررات الأنثروبولوجية أو حتى البيولوجية، ولكننا نناقش مسألة الذكورة والأنوثة في منطلقاتها الدنيا، بغاية التأكيد على مبدأ المساواة الأساسي الذي قد يحتمل الاختلال في بعض مساراته الحياتية وصراعاته الوظيفية بين الذكر والأنثى باعتبارهما مخلوقين متجاذبين ومتنازعين باستمرار وهو شأنهما الطبيعي، لكن الذي لا جدال فيه هو تساويهما كمخلوقين أمام خالقهما ومُوجِدِهِمَا بغض النظر عن حقيقة الخلق الأولى، فهما كذكر وأنثى متساويين في مبدأ الخلق وفق السياق القرآني المتعدد «َٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ»(الحجرات: 13)، ﴿وَأَنَّهُۥ خَلَقَ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰ٤٥﴾(النجم: 45)، ﴿فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ٣٩﴾(القيامة: 39)»، وأيضا متساويين في مبدأ الجزاء والحساب «من عمل صالحا منكم من ذكر وأنثى»، وهذا هو ما يلخص حقيقة الوجود الإنساني بعيدا عن كل المهاترات الدينية التي أثقلت المسار الاجتماعي للأنثى توازيا مع مسار ذكوري مسيطر وطاغي، وهو ما يجعل الأنثى في حاجة إلى تحرير حقيقي من كل التزام يشكك في أصالة تخلقها الأنثوي قدما بقدم مع التخلق الذكوري، وأيضا كسعي أنثوي لمواجهة مصائرها الأخروية من عقاب وثواب تتساوى فيه مع الذكر تساويا مطلقا لن تجدي معه هذه التبعية النفسية الدنيوية للذكر طالما أن مبدأ التكليف الرباني واحد كما قررته الآية السالفة.
وهنا نجد أنفسنا أمام ازدواجية محيرة في عالم التصوف الذي نظر إلى الأنثى نظرة قد تخالف روح هذين المبدأين، فالمرأة عند المتصوفة لم تكن فقط بمعزل عن طرقه ومسالكه التعبدية التنسكية ولكنها كانت أيضا موضع تنفير وازدراء ومقت باعتبارها أم الفتن، بل إن المتصوفة أنفسهم كانوا ممن ساهموا في تسويد صفحة الأنثى في المخيال الرجولي، فالزهد عندهم تطليق الدنيا وما الدنيا إلا المرأة في نظرهم، حتى بلغ العداء ببعض المتصوفين مبلغا جعله لا يأكل طعاما صنعته امرأة (شيمل، 2017). وقد نقل عن جلال الدين الرومي أنه قال:»سقوطي أوله امرأة وآخره امرأة»(شيمل، 2017).
ويكاد يكون ابن عربي -الشيخ الأكبر للتصوف- استثناء عجيبا في نظرته الإشراقية للمرأة والذي سعى إلى إدراك الصفات الإلهية من خلال الجمال الأنثوي، «والنظر إلى المرأة على أنها وحي حقيقي لرحمة الله وقدرة الخلق»(شيمل، 2017). بل لقد جعلها مقدمة المعرفة الإنسانية قبل المعرفة الإلهية، وهنا يعلل ابن عربي في «فص الحكمة المحمدية» سبب تقديم الرسول النساء على الصلاة في قوله صلي الله عليه وسلم: «حبب إلى من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»، «وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها، ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه ... فإنما حبب إليه النساء، فحن إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه، فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق»(إبن عربي، فصوص الحكم، دت). 
وهذا التخريج العجيب لابن عربي قد يكون أعظم التخريجات الفكرية المتعلقة بقضية المرأة كلها في الفكر الإنساني قديمه وجديده، بل إنه جعل المرأة مدخلا وواسطة لشهود الحق عند الرجل، ففيها يكون هذا الشهود تاما مكتملا، إذ يقول في سياق أخر أكثر عمقا فلسفيا وجلالا لغويا:»فَبَطَنَ نَفْسُ الرحمن فيما كان به الإنسان إنسانا. ثم اشتق له شخصا على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته، فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه، فحببت إليه النساء، فإن الله أحبًّ من خَلَقَهُ على صورته وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلو نشأتهم الطبيعية، فمن هناك وقعت المناسبة. والصورة أعظم مناسبة وأجلها وأكملها: فإنها زوج أي شفعت وجود الحق، كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل فصيرته زوجا. فظهرت الثلاثة: حق ورجل وامرأة، فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه. فحبب إليه ربه النساء كما أحب الله من هو على صورته. فما وقع الحب إلا لمن تكوَّن عنه، وقد كان حبه لمن تكوًّن منه وهو الحق ... فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه –من حيث ظهور المرأة عنه- شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوًّن عنه، كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة، فشهوده في المرأة أتم وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة»(إبن عربي، دت). وهو بهذا يرفع المرأة إلى أعلى المقامات الروحية، إذا يجعل منها وسيطا ليس فقط لإدراك الحق، ولكن لشهوده، لأنها في رأيه تمثل أكمل وأجمل صورة لما تكونت عنه وهو الذات العلية ذاتها، التي خلق الله فيها الإنسان على صورته. 
وبهذا يكون ابن عربي قد أعطى للأنثى بعدا أكثر من كونها كامرأة أهلا للتصوف، بل لقد جعلها طريقا للتصوف عند المحبين وسرا من أسرار الجمال الإلهي، وهو ما يفسر توظيف الشاعر الكبير ابن الفارض العنصر الأنثوي في قصائده الصوفية، فاستحضر أسماء بطلاته ليلى وسلمى وغيرهن ممن كن يمثلن في قصائده رموزا للكمال والجمال الإلهي (شيمل، المرجع نفسه). ولكن هذا البعد الأنثوي العميق المنصف لم يأخذ مداه في الفكر الصوفي أو الفكر الإسلامي عموما لأنه عد من قبيل الشطح الصوفي الذي أصبح مدخلا ترمى به كل فكرة أو لمحة تكسر قوالبنا الفكرية، فكيف برؤية عميقة مثل هذه لابن عربي.   
وإنها لمفارقة محيرة أن ينتقض التصوف والمرأة على هذا النحو، حتى تكاد تصبح عدو المتصوف الأول، وإن بدا منطقيا هذا الإعراض الذكوري المنسجم مع حالة العزوف والزهد والاعتزال وهو ما مارسته أيضا الأنثى في استثناءاتها التصوفية التبتلية دون أن تضطر إلى سياج نفسي معادي أو شيء من المسخ والتشويه والازدراء كما فعل بها شقيقها الرجل.
وكأن هذا المظهر التعبدي المتحيز للرجل المتصوف قد جعل منه بطلا رغم أن مبدأ التكليف الإلهي واحد للجنسين وإن اختلف مناط كثير من الأحكام بينهما، وهي مظاهر تعبدية انحرفت بالعقل المسلم إلى ثنائية الأفضلية والفوقية، بل تعدت إلى مسألة التخلق نفسها، فكانت الأنثى هي التي «خلقت من الضلع الأعوج»، وهي «ناقصة العقل والدين»، حتى أصبحت في عموم الأدبيات الإسلامية المتراكمة مخلوقا من الدرجة الثانية، وهي كلها حمولات اجتماعية ونفسية ودينية ملتبسة تَرفَّعَ عنها القرآن بخطابه التأكيدي الواضح على أصالة التكليف والالتزام الذاتي لكل مخلوق وأي مخلوق بغض النظر عن جنسه ضمن ثنائيات قرآنية متعددة تبدأ مرارا بـقوله تعالى: «مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ »(النحل 97، غافر 40)، وفي آية أخرى «أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ » (آل عمران 195) وفي تأكيد آخر ﴿وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا١٢٤﴾(النساء 124) لتتأكد هذه الثنائية دائما هكذا وبشكل أصرح في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا ٣٥﴾»(الأحزاب: 35).
ورغم كل هذه البيانات الإلهية المتكررة الواضحة، إلا أن العقل المسلم الذكوري ناقضها فكرا ومراسا، حتى في جوانبها الاجتماعية بما أسس لمنظومة إقصائية للمرأة حقق فيها الرجل كل انتصاراته النفسية ضدها، مستغلا سياقات نصية دينية وأحكاما قرآنية لها مناطاتها العَرَضِيَةَ التي لا تقدح في أصالة وندية الأنثى، فكون المرأة ترث نصف ما يرث الرجل، أو للرجل حق القوامة، أو كونها معفاة من الجهاد، أو كونها معتورة العبادة بسبب عوارضها الجسدية، كل ذلك كشف عن سطحية ساذجة وقصر نظر ساهم في خلق هوة ومساحات وأحراش موحشة بين الجنسين، يقول مصطفى عبد الرازق: «وما في أحكام الشرع الإسلامي من وجوه التفرقة أحيانا بين المرأة والرجل يرجع إلى أمور مادية متصلة بالمادة كما في التفاوت في الإرث. والتفاوت في الشهادة لا يبعد عن هذا النوع (يقصد التصوف) فإن ضعف الذاكرة المعلل به نقص شهادتها ليس حيفا بكمالها الروحي ولا باستعدادها للسمو الروحي»(ماسينيون، 2004). وربما يكون كل ذلك أيضا يحكمه قانون التدافع الإلهي الذي أوصلنا إلى كل هذه المناكفات والمنازعات والذي قد يجعلنا أيضا في حاجة إلى مراجعات جديدة وعميقة لركني الحياة من خلال الطرح الإلهي وبعيدا عن كل الموروث الإنساني.
وهذا ما قد يفسر نفسه في الظاهرة الصوفية الرجولية المتذكرة التي غابت عنها الأنثى طواعية أو نتيجة دفع في المفاهيم، فهي ظاهريا تتمثل في شخصيتها كل جوانب الحياة، ميلاد وأنس وجمال وحب وعون، بل إنها قاموس الحياة نفسه، فكيف يمكن أن تنزوي بعيدا؟ كيف يمكن أن تستقيل من نفسها كما فعل الرجل؟ وهنا نحن أمام تساؤل عجيب: هل خلقنا سويا لكل ذلك التمثل التعبدي الجارف؟ هل خلافة الله في الأرض تستقيم بهجران الحياة نفسها وإلغاء إنسانية الإنسان إذ هو يسعى ليكون ملائكيا فوق الأرض، بينما هي قانون السماء، فالمعبود غني عنا وحتى عنهم. وكأني بالأنثى وهي متباعدة عن هذه الظاهرة أكثر إدراكا وفهما وذكاء لأنها ربما فهمت منطق الوجود كله، فهي تتصوف في أتون اللهب، هي تتصوف في عمق ما هي تحيا، هي تتصوف في ميلاد كل مولود جديد وفي كل لحظة أمومة.
التـصـوف الأنــــــثوي
بعيدا عن منطق الصراع الحياتي الذي جعل الفكر الذكوري المسيطر باستمرار يَصِمُ المرأة بكثير من الاعتوار في شخصيتها إما بالدفع وإما بالمنع وإما بالاعتزال كما هو الشأن الصوفي، إلا أن ذلك كله لم يستمر أثره مع الوقت بسبب روح التحدي التي تدفع الأنثى إلى كسر تلك القوالب التي جاءت بفعل تراكمات مركبة ما بين فوارق ظاهرية بين الجنسين ساهمت في تأسيس مفاهيم ومسلمات وأحكام طالما عانت منها الأنثى، وهو ما لم يؤيده التأصيل القرآني المؤسس لوحدة إنسانية خالصة وإن جاء سياقات بعض أحكامه وآياته بما يبدو -عرضا- تكريسا لفوقية وأفضلية جنسية داخل ذلك المتخلق الواحد، والأمر هاهنا كما يصف طيب تيزيني يتصل «بتحول الأنوثة والذكورة من حالة وجود ناقص إلى حالة وجود ممتلئ في قطبيه الاثنين، الرجل والمرأة» وهنا يدخلنا تيزيني في صلب إشكالية التصوف الأنثوي حينما يتحدث عن دور رابعة العدوية الحاسم في تفجير هذه الثنائية العرجاء على حد وصفه (تيزيني، المرجع نفسه). 
وإن النقاش في جدارة الأنثى (ليس فقط على المستوى الصوفي التعبدي) هو نقاش محتدم ومتشابك بين علماء المسلمين منذ القديم حيث توسع إلى مقام النبوة، بين من يرى استحالتها على المرأة وبين من قال بحصولها للنساء مثل ابن حزم الذي يرى بأنه لا مانع من ذلك شرعا وعقلا، ومن هذا المنطلق يميل مصطفي عبد الرازق أنه لا خلاف في جواز الولاية وما يتبعها من الكرامة والعرفان للنساء (مصطفي عبد الرازق، 1984). وهو ما يؤكد أحقية الأنثى في هذه المراتب السامية طالما أننا سلمنا بوجودها الإنساني الكامل وأنها صنو الرجل في كل ما يتعلق بخالقها، ونحن هنا لا نتكلم عن خطها الأفقي الجدلي التدافعي مع شقيقها الرجل، ولكننا نتكلم عن خطها العمودي مع خالقها، فالتصوف جوهره التعبد الخالص ومن ثم التخلص من كل ما يشوب هذا التعبد والتنسك المراد به ذات ووجه الله وحده، فكيف تسنى للعقل المسلم أن يتشكك في هذه العلاقة بمثل ذلك الانتقاص الذي طالما تعاني منه المرأة، حتى وصل بالجدل الذكوري إلى احتكار قانون العبادة والتقليل من مسارها التعبدي بما يناقض أساس التكليف الرباني كله. 
وقد دحض الدكتور مصطفى عبد الرازق الكثير من المفاهيم والأقوال التي سببت كل ذلك الفكر الدوني عن المرأة في التراث الإسلامي نقلا عن الإمام ابن حزم الذي رد على خصومه المحتجين بكثير من الآيات والأقوال المشاعة، من قبيل «وليس الذكر كالأنثى» وقوله تعالى «وللرجال عليهن درجة» وبين أن ذلك مقتصر على حقوق الزوجات على الأزواج وأن من حمل الآية على ظاهرها يلزمه أن يكون كل يهودي أو مجوسي أو فاسق أفضل من أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته وهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة. ثم أردف يقول:»وأما كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم، فليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين أو العقل»(مصطفي عبد الرازق، المرجع نفسه). 
وهي نظرة سابقة حتى على هذا العصر الذي تحررت فيه المرأة ظاهريا إلى الحد الذي تتصوره أنها بلغت مداه، بينما الحقيقة على غير ما نرى، فما تزال الأدبيات الاجتماعية تنظر إلى المرأة نظرة قصور واعتوار حتى في طبيعة أدوارها الإنسانية، فضلا عن قدرتها على هذا المسلك الروحي العميق العاتي وهو الأمر الذي لا يقتصر على جنس بعينه، لأن الكثير ينظر إليه من زاويته الشكلية المتعلقة بحياة التقشف والتقلل من شؤون الدنيا والعزوف عن مظاهر الحياة والذي حدا بالبعض إلى استحالته على الأنثى، وهو ما يدل على قصور نظر عجيب، لأن المرأة لها تاريخ طويل مع معاني التحمل والصبر بما يفوق الرجل وكونها ارتبطت بمباهج الحياة فذلك لأن لها قوة إشعاع كبيرة تجعلها تقبل على الحياة كيفما كانت. فالتصوف كما يقولون ليس مجرد خرقة، إنه حالة ثنائية مخصوصة بخالق ومخلوق كيفما عاشها واستغرق فيها، وهو الذي يجعل مفهوم التصوف أعمق من كل ما عرفناه، وإن حصرته بعض معاني الأولين من الزهاد في صور بعينها وشطحت بها كلمات المريدين والأفذاذ من صرعي العشق الإلهي.
الممارسات الإبداعية في التصوف النسوي
مريم البتول «مختارة الله»
لسنا في هذا المقام الرفيع بمندوحة عن تجاوز سيدة نساء العالمين مريم البتول، رغم أننا لسنا في معرض الحديث عن التصوف النسوي في غير الإطار الإسلامي، ولكن السيدة العذراء تمثل استثناء في هذا، لأن الإسلام نفسه لم يتجاوز هذه العابدة التي سبقت وجوده التاريخي، فهي وإن كانت سيدة التنسك المسيحي إلا أن الإسلام وضع هذه السيدة في أعلى المقامات ووصفها بأوصاف لم ترق إليها المسيحية نفسها رغم إعظامها وإجلالها في هذه الديانة إلى درجة حدت بطائفة منها إلى تأليهها، فأطلق عليها المسلمون مريم «البتول»، وهو وصف غاية في التعظيم لامرأة اختارها الله لينفخ فيها من روحه العظمى، بل إن الله زكاها في كتابه العظيم إذ سمى سورة من السور الطوال باسمها، كما ذكرها في آي كلامه أربعة وثلاثين مرة، واعتبرها أية من آياته بقوله تعالي: «وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ »(المؤمنون 50)، وفي هذا دلالة على تعظيم الله لها، بل إنها بلغت من المقامات والكرامات ما لم يحدث لبشر من العابدين الخُلَّصْ، ذكورهم وإناثهم، حتى أن ابن حزم اعتبر أن مريم بلغت رتبة النبوة (شيمل، 2017)، وقد أشار القرآن أن مريم كانت تحظى برعاية الله وعطفه ومدده وهي في محرابها دون عناء الطلب ومشقة الرزق، فقال تعالي: «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ » (آل عمران 37) وكأنها بهذا الجواب كادت تفوق بيقينها يقين سيدنا زكريا لولا أنه من الأنبياء الأزكياء. 
ولعل مريم بلغت من الذكر الخالد ما لم تحظ به أي امرأة عابدة أو قديسة متنسكة، فالجميع طواهم التاريخ أو النسيان إلا مريم البتول، فقد خلد القرآن ذكرها واسمها ما بقي القرآن نفسه، ولا شك أن الله تعالى اختارها وهيأ لها من الأسباب ما جعلها أهلا لموضع سره المقدس، فقد شهد المولى عز وجل لها بالقبول وحسن النبات والتربية «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا »(أل عمران 37)، والحقيقة أن الحوار الإلهي في هذه السورة يمثل شهادة ربانية عظيمة لهذه الأنثى وأي أنثى تبلغ مبلغها، وكأن الله تعالى يدفع كل منقصة أو مظلمة في حقها بهذا التكريم والرفعة بما يجعلنا في حاجة إلى رؤية جديدة للمرأة من وحي هذا الخطاب الرباني الذي وإن اختص بمريم إلا أنه ينأى بجلال لفظه عن كل مفاهيمنا وأحكامنا وحيف تراثنا في حق المرأة.
وإن صورة مريم في القرآن لهي أعجب الصور التي رسم القرآن حدود شخصيتها حتى قبل الميلاد العظيم لها ولابنها عيسى، فكلاهما كان ميلاده حدثا استثنائيا، فهي المنتظرة الموعودة المنذورة لله، وقد ذكر القرآن أن الجميع كان ينتظر ميلادها ليفوز بكفالتها ويرفعها بين يديه لينال شرف تربية هذه المولودة التي ما كان لأحد أن يسبق زكريا إلى مثل هذا الشرف، إنها صورة خالدة فعلا تلك التي أرخ لها القرآن بقوله: «وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ»(آل عمران: 44)، فأي تكريم رباني هذا الذي منيت به هذه المولودة، لتكون محل نزاع وخصام بين المحبين والمحيطين بها من قومها، وأي عصر هذا الذي يحفل بأنثى بمثل هذا الاحتفال، بل إنها أعدت واستخلصت لتكون خادمة الرب وسيدة بيته.
من هنا نجد أن مريم قد هيأها الله على جميع الأصعدة لتكون سيدة المقام العالي وتكون النموذج الأمثل للعابدين الخلص، ولم يكن هذا بالقدر المفروض عليها، ولكن هي النفس السوية الكاملة الحرة حينما تتحقق لها ظروف الإرادة الحقيقية فلن تسلك غير طريق خالقها وموجدها، ورغم هذا المناخ العظيم الذي حظيت به مريم إلا أنها فارقت دنيا الناس واعتزلتهم ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا١٦﴾(مريم: 16)، لتتهيأ إلى لحظة يعجز اللسان عن وصفها، لحظة الإلقاء والنفخ الإلهي، «وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ » (النساء: 171)، «وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا»(التحريم: 12)، بل إن الله تعالى زاد في التأكيد على تكريمه لمريم أن ذكر أنه نفخ فيها (هي) هي الإنسان «وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا »(الأنبياء: 91)، بما ينفي أنها لم تكن مجرد وعاء «للرب الإبن» كما يصفها بعض المسيحيين، فأي تقدير يمكن أن يصل إليه العبد بهذا المستوى، إنها حدود تفوق تصوف كل العابدين العارفين الذين وإن زعموا العرفان والشهود وبلغوا مبالغ الحلاج المزعومة إلا أننا لم نعرف حقيقة أحوالهم وما آلوا إليه، بخلاف هذه العابدة المتبتلة التي تجلت لها الروح الإلهية، بل وتخللتها لتكون الجزء المتجزء من الكل الأعظم، وهو عين ما قصده ابن عربي في لمحاته التفسيرية وأنواره العرفانية التي أشرنا لها في موضع سابق.
وحديثنا عن مريم هنا ليس من كونها سيدة العابدين ورائدة المتصوفين، ولكن لأنها تمثل استثناء في هذا الطريق السماوي الذي أعيا الطالبين ممن اختاروا طريقه وكابدوا جميع المشاق إليه، بين واصل ومنقطع، إلا مريم فقد اختارها الله بنفسه لهذا الطريق وهيأ لها من أسباب الوصول والرضى منشأ ومسلكا وخاتمة بما جعلها سيدة العالمين، فكان الله وكانت الأنثى التي لم تكن فعلا كالذكر، ولكنها زادت عليه، بغير ما تصورته امرأة عمران نفسها حين قالت «وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ »(آل عمران 36)، لتكون مريم هي جواب الله الحاسم عن كل فلسفة (وجود متصارع) وتكون الصورة المثلى لحقيقة الخلق كله. 
المتصوفات في الإسلام/نماذج ومآثر 
برغم كل ما يقال عن المرأة وأدوارها التاريخية، في أي شأن كان، إلا أن الإسلام بكثير من تعاليمه الرائدة المستنيرة وبرغم الظروف المحيطة به، ساهم في تحرير النظرة إلى المرأة وفتح لها كثيرا من آفاق الحياة ورفع عنها الغبن الذكوري، فتملكت زمام المبادرة واقتحمت حياتها بجدارة حتى ارتقت إلى مجالات سامية جعلت من النساء عمادا حقيقيا داخل تلك المجتمعات الصاعدة، فَكُّنَّ عالمات ومحدثات إلى جانب كونهن شاعرات لهن الكعب العالي، بل إن منهن من كن مساهمات حقيقيات في إثراء الحياة الروحية في الإسلام، ليس فقط على مستوى الأنشطة التعبدية الزهدية التي تميزت بها المرأة بشكل لافت، وإن كن مقلات في ذلك، ولكن أيضا بسبب الأدوار التي عرفن بها في زوايا الصوفية، حتى وصل الكثير منهن إلى تقلد مشيخة الطريقة، وهو ما يحسب للتصوف بكونه كان أكثر انفتاحا من المذاهب المتشددة والذي أعطى للمرأة فرصة المشاركة في الحياة الدينية والاجتماعية داخل هذه الطرائق، وإن كان ذلك لا يمثل البعد الحقيقي للتمثل النسوي داخل قلعة التصوف المنيعة، خاصة في ظل بعض الاعتبارات الدينية الصارمة التي جعلت من مسألة تصوف الأنثى مسألة مستبعدة أو حتى غير محبذة.    
ورغم قلة أحوال المتصوفات في التاريخ الإسلامي إلا أن المؤرخين للتصوف أحصوا عددا معتبرا للمتصوفات المسلمات وإن لم يتصدرن مشهده بقوة عابدة مثل رابعة العدوية «شهيدة العشق الإلهي»كما وصفها بدوي، إلا أنهن كدن في مظهرهن الصوفي يفقن مشاهير الرجال فيه، بل إن أقوالهن ومآثرهن فاقت في عبقريتها ما تطايرت به كتب التصوف عن الجنيد وابن أدهم والكرخي غيرهم.
فقد روى أبو عبد الرحمن السلمي في مصنفه النادر «ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات» عن معاذة بن عبد الله العدوية (ت 101هـ) بأنها لم ترفع بصرها إلى السماء أربعين سنة، وكانت لا تأكل بالنهار ولا تنام بالليل، فقيل لها: أضررت بنفسك، فقالت: لا، أخرت من وقت إلى وقت: أخرت النوم من الليل إلى النهار، والأكل من النهار إلى الليل. ونقل عنها أن كانت تحي الليل صلاة، فإذا غلبها النوم قامت فجالت في الدار وهي تقول: يا نفس النوم أمامك، لو قد مِتِّ لطالت رقدتك في القبر على حسرة أو سرور (السلمي، 1993). 
ونقل السلمي عن العابدة المشهورة فاطمة النيسابورية (ت 223 هـ) أنه لم يكن في زمانها من النساء مثلها، وذكر أنها بعثت مرة إلى ذي النون برفق (ما يستعان به من أكل أو ما شابه) فرده وقال: في قبول أرفاق النسوان مذلة ونقصان، فردت عليه فاطمة ردا عجيبا مفحما: «ليس في الدنيا صوفي أخس ممن يرى السبب»، فعلمته أن ينظر ويتأمل في المسبب، وتقصد بذلك الواهب العاطي جل جلاله، وقد قال عنها الصوفي الكبير أبو يزيد البسطامي: ما رأيت في عمري إلا رجلا وامرأة، فالمرأة كانت فاطمة النيسابورية، ما أخبرتها عن مقام من المقامات إلا وكان الخبر لها عيانا، وقال عنها ذا النون: «هي وليَّةُ من أولياء الله عز وجل، وهي أستاذي». وقالت فاطمة:»من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه، فهو المخلص»(السلمي، المرجع نفسه). ورغم أنها كانت سيدة متزوجة إلا أنها كانت أكثر الصوفيات استحقاقا بالإعجاب في الحقبة المؤثرة في بناء الإسلام(شيمل، المرجع نفسه). 
وذكر السلمي عابدة أخرى اسمها أم على زوجة البلخي وكانت موسرة الحال، فقال أنها أنفقت مالها كله على الفقراء، وقيل أن امرأة من بلخ جاءت إليها فسألتها ما حاجتك؟ فقالت لها جئت لأتقرب إلى الله بخدمتك، فقالت لها أم علي: لما لا تتقربين إليَّ بخدمة ربك؟ فأرادت بذلك أن تصرفها إلى الطريق الحقيقي، طريق الله، أي أنك إذا أردت أن تقدمي لي خدمة حقيقية فعليك التقرب من الله بدلا مني، فتأمل هذا الجواب المعجز من هذه العابدة العظيمة(السلمي، المرجع نفسه). 
ومن أعجب ما نقل السلمي عن امرأة عابدة تدعى «ذكَّارة» وصفها بأنها من العابدات الوالهات، تروى عنها حكاية طريفة استعملت فيها هذه العابدة لغة عجيبة عن أسباب النجاة والتقرب إلى الله، لغة أقرب ما تكون إلى لغة المطبخ، لكنها عظيمة المعنى عميقة الغاية، فقال: أخبرنا أبو حفص عمر بن مسرور الزاهد ببغداد، قال حدثنا عباس الإسكاف، قال: كانت عندنا امرأة مجنونة يقال لها ذكَّارة، فنظرت إلي يوم العيد وفي يدي قطعة فالوذج (نوع من الحلوى) فقالت ما معك؟ قلت فالوذج، فقالت: إني أستحي أن يراني الله تعالى حيث يكره، ألا أصف لك فالوذجا تذهب فتعمله إن قدرت عليه؟ قلت بلى، قالت:»خذ سكر العطاء ونساشتج الصفاء، وماء الحياء، وسمن المراقبة، وزعفران الجزاء، وصَّفِه بمناخل الخوف والرجاء، وانصب تحته ديكدان الحزن، وركِّب ظناجير الكمد، واعقده باسطام الاعتبار، وأوقد تحته نيران الزفير، وابسطه على الحذر حتى يضربه نسيم هواء التهجد، فإذا أكلت منه لقمة صرت من الأكياس، وتبرأ من الوسواس، وحبَّبَك إلى صدور الناس، وتبغض إليك ريط الأكياس، وتكفيك من شر الوسواس الخناس، وتدور عليك الحور العين في الفردوس بالكاس»(السلمي، 1993). ورغم غرابة ألفاظ هذه الرواية الطريفة الشيقة إلا أنها وصفة نسائية ليس لجوعى البطون ولكنها لخصت في ثوب جديد لغة الرقائق التي طالما حفلت بها كتب الواعظين من الحكم المثلى والمآثر العظمى.
 رابعة العدوية سيدة المشهد الصوفي
ليس بين التصوف والحرية سوى لحظة عبودية في نفس هائمة متطلعة إلى إشراق وسمو غير سموها إلى حرية مادية تستعيد بها كينونتها الضائعة، لا لتتحرر من عبودية دنيوية ولكن لتتحرر من دنيا العبيد نفسها، وتلك هي أحوال النفوس النبيلة التي مرت من طريق العبودية المادية إلى عبودية جديدة حقيقية وإن أحرزت حريتها المادية أيضا، لأنها كما يقول عبد الرحمن بدوي «وإن أرغمتها الحياة الخارجية بقهرها المادي على العبودية انطوت على نفسها كيما تحررها في الباطن، وهذا التحرير الباطن لا بد أن يتم في عالم آخر غير العالم المادي الواقعي الذي لا تجد فيه غير الاستعباد، ومن هنا تنصرف إلى تطلُّب الملكوت الأعلى»(بدوي، 1969). وتلك كانت أقدار رابعة العدوية المهاجرة بين عوالمها التي كان استرجاع حريتها من آسريها الكثر مجرد معبر إلى عالم لاهوتي لم يكن فيه عالم الناسوت القهري سوى قدرا جميلا قادها إلى طريق الحرية الحقيقية الذي كان طريقا إلى الحب والعشق في أقصى نهاياته.
وإن مثل رابعة مع الحرية كمثلها مع مريم البتول التي نذرتها أمها في بطنها محررة، «رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا»(آل عمران 35)، فتكونت مريم وخلقت محررة، فعرفت طريق ربها وبلغت الغاية بلا خلاص المستعبدين المعذبين، وكذلك أرداها ربها خالصة بلا عناء لتكون نسيج وحدها في علاقة عابد ومعبود لم تدفعه إليه أسباب القهر والظلم الدنيوي، لكن قدر رابعة كان كقدر كل العبيد، فهي كابدت وناضلت لتكون حرة ثم اختارت طريقها بكل حب وشغف حتى أدركت ما أدركت. وهذا شأن آخر من شؤون التصوف الذي لم يدرك مقاماته العليا إلا من كان حرا عن كل عالم الأرض وربما حتى من نفسه فلا يعد يعنيه شيء ولا يعوقه شيء عن أن يكون عبدا خالصا لله، وهو الذي ربما كانت تعنيه امرأة عمران حينما قررت أن تنذر ما في بطنها لله حرا متحررا عن كل عبودية لغيره، وهو المقام الذي خلقت له مريم وتميزت به عن سائر العابدين الذين ناضلوا وهامت نفوسهم في عوالم العبودية الظاهرية منها والباطنية، ولهذا رأينا كيف كان حال الانتقال العجيب عند المتحررين الأوائل من الرعيل الأول في الإسلام، مثل صهيب الرومي وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي الذين كانوا مثالا رائعا للصفاء والسمو، فبلال طالما حركه صوت الآذان وكأنه وجد فيه نوعا من الخطاب المباشر لله، فكان كما يقول عبد الرحمن بدوي:»ارتقاؤه للمئذنة مثار شعور بالعلاء في معراج السلوك إلى الحضرة»(بدوي، المرجع نفسه).   
لقد استطاعت رابعة أن تخترق كل حواجز مجتمعها المتعسف الذي ناضلت طويلا حتى استعادت فيه مجرد حريتها الشكلية لتتحرر فيما بعد من كل قوانين الأرض وتتصل بالسماء بعيدا عن كل المستغلين والطامعين لتصنع نموذجا فريدا وتؤسس لتصوف أكثر خصوصية وعمقا لأنها أبدعت مفاهيم جديدة للحب الإلهي، «فكانت هي أول من أدخلت هذا المعنى في التصوف الإسلامي، بالمعنى الحقيقي الكامل للحب، لا مجرد التعبير بالألفاظ عنه تعبيرا ظاهريا»(بدوي، المرجع نفسه)، فنحتت لوحة من الحب الخالص لا تزال ألوانها نافرة المعالم، مبهرة الحضور، محفورة الوقع، جامحة الخيال، وكأنها منحت ريشة من الملكوت الأعلى لتعبر بمثل هذا الجمال وهذه القوة في أبياتها الخالدة:
أحبــــــك حبيـن: حب الـهوى        
     وحبــــا لأنــك أهــل لــذاكا
فأمـــا الـذي هــو حب الـهوى        
     فشغلي بذكري عمن سواكا
وأمـــــا الذي أنت أهــــــل له        
     فكشفك للحجب حتى أراكـا
فلا الحمد في ذا، ولا ذاك لي         
    ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
إنها بذلك أسست مفهوما جديدا لمعنى الحب الصوفي ارتقت به إلى مقام أعلى من كل أوصاف المحبين من الزهاد والعابدين حينما أعجزها الوصف حتى جعلته مبهما كما هو شأن المحبوب تقدس ذاته، فحبها هي هو حب الهوى، أما حبه هو فهو حب لا كالحب، حب هو أهل له، وهو حب وفق تفسير صاحب «القوت»-»حب التعظيم والإجلال لوجهه العظيم ذي الجلال» إنه حب ليس باعثه نعمة أو وصل حسي، وهذا المعنى هو الذي أفاض فيه المحاسبي:»الحب لله في نفسه استنارة القلب بالفرح لقربه من حبيبه. فإذا استنار القلب بالفرح استلذ الخلوة بذكر حبيبه، فالحب هائج غالب، والخوف في قلبه لازم لا هائج، إلا أنه قد ماتت منه شهوة كل معصية، وهدي لأركان شدة الخوف، وحل الأنس بقلبه لله –فعلامة الأنس استثقال كل أحد سوى الله. فإذا ألف الخلوة بمناجاة حبيبه، استغرقت حلاوة المناجاة العقل كله حتى لا يقدر أن يعقل الدنيا وما فيها»، ويرى عبد الرحمن بدوي أن هذا وصف جيد دقيق لهذا (الحب لله في نفسه)، وهو ما تعنيه رابعة بالحب الثاني الذي هو (أي الله) أهل له (بدوي، المرجع نفسه).
وبهذا تكون رابعة قد رسمت خطوط التصوف العريضة للمشهد الصوفي اللاحق بكل أبعاده التنسكية وحتى الفلسفية الإشراقية، فكانت «والحال على هذا النحو، واحدة من أوليات وأوائل من أرهص بقليل من الوضوح بفكرة وحدة الوجود»(تيزيني، 2011). وكأنها لخصت بحضورها الملفت المتفرد كل الغياب الأنثوي في هذا المشهد، لتكون حالة بألف، أو لتمثل شهادة للإرادة الأنثوية وقوتها في التصوف لولا أن قانون الحياة جعل الأنثى تدرك أنها خلقت لتكون سيدة الواقعية، فأعرضت عن هذا المشهد الغامض لتحترق أكثر في مصارع الحياة ومصاعبها ومشاقها، فكانت أقرب للوجود الإنساني الواقعي المؤسس للغاية الإلهية للوجود، في حين طمح «الذكر المتصوف» إلى البحث والترقي إلى وجود فوق الإنساني، وجود يلتحم مع واجد، وهو ربما المستحيل الذي صنع أعظم الملاحم والخيالات والنهايات المركبة في عالم التصوف الذكوري. 
لقد أرادت رابعة بحبها الجارف أن تخترق حدودا ربما لم يجرؤ عليها التصوف الذكوري، فنفت حالة البينية بينها وبين محبوبها، فعندما سئلت عن «حقيقة المحبة» أجابت: «ليس للحب وحبيبه بين، وإنما هو نطق عن شوق، ووصف عن ذوق، فمن ذاق عرف، ومن وصف فما اتصف، وكيف تصف شيئا أنت في حضرته غائب، وبوجوده ذائب، وبشهوده ذائب، وبصحوك منه سكران، وبفراغك له ملآن، وبسرورك له ولهان» وهي معاني سامية ابتكرت رابعة ألفاظها في شكل غير مسبوق كما قرر بذلك عبد الرحمن بدوي في دراسته الوافية عن رابعة، أما الطيب التيزيني فيرى أن رابعة «قد وضعت رؤية للحب الإلهي تقوم على مفهوم (البين) وبالتحديد على نفي هذا البين وكان ذلك في حينه تجرؤا على الأيديولوجية الدينية المهيمنة ... لقد وصلت رابعة التي لم تتخرج من مدارس الفلسفة واللاهوت إلى ما يمكن اعتباره تأسيسا مدرسيا لمفهوم (اللابين-الوحدة)»(تيزيني، المرجع نفسه).
وإن المتأمل في سيرة رابعة ليكاد ييأس أن يجد شيئا مؤكدا عن حياتها وربما حتى وجودها الحقيقي، حتى غدت شخصيتها كما يقول بدوي تتراجع إلى كهف الأساطير، وجل ما لدينا من أخبار ومعلومات عنها هي أقرب إلى الأسطورة أو الخلط في أحسن الأحوال، فالمؤرخون أحصوا أكثر من ثلاث أو أربع مسميات لرابعة، فهي العدوية وهي القيسية وهي الأزدية، وأيا يكن الأمر، فإن واحدة منهن على الأقل تكون قد أسهمت وأسست في عالم التصوف لغة وخطا ومنهجا بما ضارعت به فحوله ورجاله وهو ما يحسب للأنثى عموما قياسا بما للذكر في هذا العالم الرحب الشفاف الراقي.    
خاتمة
هذه بعض المستخلصات العامة: 
-ظاهريا قد تكون النتائج متلمسة مبدئيا في المشهد التاريخي للتصوف، من حيث الانحسار الأنثوي فيه لدواع هي في أساسها منطقية تكوينا لكنها ربما غير معقولة وغير مفسرة سايكولوجيا أو حتى دينيا مع بعض الاستثناءات الأنثوية الحاضرة بقوة كما هو الحال مع نموذج مريم البتول في المشهد المسيحي ورابعة في المشهد الإسلامي، وبعض الحضور المقتصر للأنثى في الشطحات الشعرية لبعض شعراء العشق الإلهي، بما يناقض هذه النتائج الظاهرية. 
-أيضا كنتيجة متسائلة عن طبيعة التناقض أو الازدواجية المُتكَشفَةَ في الخطاب الصوفي -خاصة الإسلامي منه- وهو الربط الأنثوي لبعض مقامات الصوفية لنجد ذلك التداخل العجيب بين الأنثى وأسباب الإدراك الإلهي من خلالها عند بعض المتصوفة مثل ما هو الحال مع القطب الكبير ابن عربي، وكما هو الحال مع تمثلات النسوة عند ابن الفارض في شعره عن الجمال والحب الإلهي. 
-لقد عكست الأنثى الميل الطبيعي المتوازن للتصوف الإنساني كله، وربما يكون هذا الإقلال الأنثوي داخل هذه الظاهرة يعكس أيضا رؤية وإحساسا عند الأنثى أعمق ربما حتى من ظاهرة التصوف نفسها، فهي قد تكون أدركت بعقلها الباطن أن قانون الحياة الطبيعية والوجود الإنساني الفاعل هو أقوى وأهم من أي ممارسة تعبدية اعتزالية وحتى فلسفية جانحة طامحة لإدراك الملكوت، لأن جوهر الحياة يسكنها هي كأنثى أكثر من أي كائن، ولو أنها سلكت غير طريق الحياة المستمرة المكابدة لأصبح السؤال الأعمق حينئذ: ما الغاية من الوجود الإنساني؟ ما الغاية إذا كان هذا الإنسان -ذكرا أم أنثى- يسعى إلى تكريس نموذج ملائكي فوق أرض لم تخلق لهذا؟. 
أيا تكن نتائج هذا البحث من حضور فعال أو غياب مرصود، فإن الدلالة الأنثوية في التصوف تفرض نفسها على جميع المستويات، بداية من حيث مبدئية التصوف الأنثوي وسطحية التناول التاريخي للظاهرة التجنيسية فيه باستثناء مفارقة ابن عربي،  وصولا إلى حقيقة التمثلات والممارسات الأنثوية التصوفية، بمثالي مريم ورابعة.
أيضا كنتيجة أساسية يبقى السؤال الأكبر لماذا هذا الغياب الأنثوي في جوهر الظاهرة الصوفية وليس مجرد وجود عرضي في صور شعرية غلب عليها استعارة الشاطحين لجمال الشكل، أو وجود أنثوي عابر في أروقة المتصوفة وأحوالهم الطرقية لينتهي بها الحال لتكون مجرد خادم، أو حلقة وصل لشيخ أو طريقة في زاوية كآخر حلقة من حلقات التصوف في عصوره المتأخرة، ليكون التصوف في مظهره الإنساني وتحيزه الجنسي لغزا محيرا؟   
تيزيني، طيب. (2011). التصوف العربي الإسلامي، دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة.
جولدتسيهر، إجناس. (2009). العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد موسى-علي عبد القادر-عبد العزيز عبد الحق،  مصر: دار الكتاب العربي، ط 2.
أ. نيكولسون، رينولد. (2015). في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة أبو العلا العفيفي، بيروت، لبنان: منشورات الجمل.
لوا، لقمان. (2015). نزعة الزهد بين البوذية والتصوف الإسلامي، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، كليه دار العلوم. 
بدوي، عبد الرحمن. (1969). شخصيات قلقة في الإسلام، القاهرة: دار النهضة العربية.
خوالدية، أسماء. (2014). صرعي التصوف، بيروت، لبنان: منشورات الاختلاف، ط 1.
ماسينيون، لويس. (2004). آلام الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي، بيروت، لبنان:شركة قدمس للتوزيع والنشر.
شيمل، آنا ماري. (2006). الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، ترجمة محمد السيد ورضا قطب، ألمانيا: منشورات الجمل،.
بن عربي، محي الدين. (لا تاريخ للنشر). فصوص الحكم، بيروت، لبنان: دار الكتاب العربي.
ماسينيون ومصطفى عبد الرازق، التصوف، (1984). ترجمه عن الفرنسية:إبراهيم خورشيد-عبد الحميد يونس-حسن عثمان، لبنان: دار الكتاب اللبناني، ط 1.
شيمل، آنا ماري. (2017).  عيسى ومريم في التصوف الإسلامي، ترجمة لميس فايد، ط 1، دار الكتب خان.
السلمي، محمد بن الحسين أبو عبد الرحمن. (1993). ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات، تحقيق الطناجي، القاهرة: مكتبة الخانجي، ط 1.
بدوي عبد الرحمن، (1962). شهيدة العشق الإلهي: رابعة العدوية، مكتبة النهضة المصرية، ط 2.

@pour_citer_ce_document

مسعود مكيد, «البعد الإنساني للتصوف وحقيقة التمثلات الأنثوية في ممارساته الإبداعية دراسة في جنسوية التصوف»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : 172-186,
Date Publication Sur Papier : 2024-12-23,
Date Pulication Electronique : 2024-12-23,
mis a jour le : 23/12/2024,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=10285.