الدلالات الاجتماعية و القيمية للـقفازة
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°08 Mai 2009

الدلالات الاجتماعية و القيمية للـقفازة


pp : 506 - 515

زين الدين خرشي
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

«S’il est normal d’être peuple en temps de guerre, il est impératif de devenir société en temps de paix». N. Boukrouh

مقدمة:

أول ما يتبادر في الذهن عند سماعنا لكلمة "القفازة" أو لإحدى المقولات –المروج لها في مجتمعنا- المتضمنة لها على شاكلة "اقفز تعيش"، هو الانتشار الواسع الذي يعرفه استعمال هذه المفردة اللغز. الشيء الذي يدفعنا للتساؤل عنما هي القفازة؟ ما هو مضمونها؟ ما هي دلالاتها الاجتماعية؟ لماذا هذا الربط "المنطقي" بين العيش و القفازة؟ من هو الشخص القافز؟ ... هي أسئلة تتطلب الإجابة عنها تجاوز مرحلة الوصف –التي لابد منها كخطوة أولى للفهم والإحاطة– إلى البحث في "القفازة" باعتبارها ظاهرة اجتماعية تستوعب مجموعة من القيم والسلوكات. وذلك من خلال وضعها في السياق المجتمعي العام الذي ظهرت ونمت فيه وربطها بمختلف أبعاده الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية.إن أهمية دراسة قيمة و سلوك "القفازة" في المجتمع الجزائري تكمن في طابعها الخاص، الذي يتأكد لنا من خلال مؤشرين رئيسين. الأول هو أنها من القوة و الحضور عند معظم شرائح المجتمع (على اختلاف الفئات العمرية)  لدرجة أنها صارت لوحدها مرادفا لمكانة اجتماعية مميزة، فالشخص القافز هو الشخص الذي يتحلّى بمجموعة من القيم والسلوكات المحددة (فهو: فحل، راجل، فاهم، عارف بخبايا الحياة و المجتمع، مرن في تعاملاته وعلاقاته، يخرج من المواقف الصعبة بسهولة تامة ...الخ)، التي تمكنه من تحقيق و بلوغ الهدف السامي وهو النجاح في الحياة. أما المؤشر الثاني فهو كونها تلعب دورا مركزيا في دينامية التغير القيمي في المجتمع الجزائري عن طريق "تشريعها" و"تبريرها" لوجود مجموعة أخرى من القيم، بأن توفر لها شروط الانتقال من نطاق المحرم (اجتماعيا و أخلاقيا) إلى نطاق المسموح به و المقبول.

تحديد مفهوم القفازة:

لغة: فبالرغم من أن مفردة "القفازة" هي كلمة دارجة يشيع استعمالها في اللهجة الجزائرية -وبذلك حاملة لمضامين ومعبرة عن دلالات اجتماعية وثقافية خاصة بهذا المجتمع- إلا أن أصلها اللغوي مستمد من العربية الفصحى، فـكلمة:"القفازة" مشتقة من الفعل "قفز"، والقفز هو الوثب، والفرس "القافزة" هي الفرس السريعة([i]). إذن فالقفز في اللغة العربية يحمل معنيي اثنين هما الانتقال والسرعة (الانتقال السريع من حالة إلى أخرى).

وللإشارة، فإنه في المشرق العربي يشيع استخدام كلمة "الشطارة" للدلالة على نفس الحالة السلوكية و القيمية التي تعنيها "القفازة" في المجتمع الجزائري، لكن مع التأكيد دائما على الخصوصية الثقافية و الاجتماعية لمضامين ودلالات كل من الكلمتين.

في اللغة الفرنسية ومع صعوبة إيجاد مرادف لكلمة "القفازة"، إلا أنه بإمكاننا إيراد كلمتين قريبتي المعنى منها. الأولى أوردها نورالدين بوكروح([ii]) في حديثه حول "القفازة" في المجتمع الجزائري و هي كلمة l’esbroufeو التي وظفها لتبيان جوانب التباهي، التبجح و الخديعة في سلوك الفرد القافز. و الفعل esbroufer([iii])في الفرنسية يعني: السعي لفرض النفس بتبني سلوك أو هيئة وقار لا يستحقها صاحبها([iv]). هذا الكلمة باللغة الفرنسية لا تشمل إلا بعدا واحدا من معنى "القفازة" ودلالاتها الاجتماعية أي بعد الخداع والتحايل. أما الكلمة الثانية la débrouillardiseمن الفعل se débrouiller([v])و الذي يعني الخروج من ورطة أو مشكلة ما، بالاعتماد على النفس و بتوظيف القدرات و المهارات الشخصية([vi]).

اصطلاحا([vii]): إن مسألة الإحاطة بمفهوم مركب كمفهوم "القفازة"، و تحديد مختلف أبعاده، لابد وأن تبدأ بمحاولة لحصر التصورات الذهنية والاجتماعية المكونة حول جزئية: من هو القافز؟ أو ما هي مقومات القفازة؟ على اعتبار أن لفظ القافز الذي نطلقه لوصف حالة ما، هو في المقام الأول تصور ذهني (représentation intellectuelle)كوناه حول واقع ما، أو دور اجتماعي ما، لذا فالقافز وفق هذا –وبالاستعانة ببعض مفردات اللهجة الجزائرية- هو: الفْحَل، الراجل، الفاهم، الذي يحل مشاكله بسرعة، يتجاوز العراقيل و الحواجز بذكاء، له شبكة علاقات كبيرة وفي كل مكان...الخ. بصفة أخرى "القافز" هو الشخص الذكي اجتماعيا وعقليا، الذي تجتمع فيه كل القدرات والمهارات الفكرية و الاجتماعية.

يتضح مما سبق أن "القفازة" مفهوم جامع لعدد من العناصر المشكلة له، و التي يمكن عرضها في بعدين.

- بعد قيمي: على درجة من التجريد، يشمل قيما معينة و التصورات الاجتماعية والثقافية لمعانيها ودلالاتها، مثل: الفحولية، الرجولة، شبكة العلاقات (المعريفة)، الحيلة ...الخ.

- بعد سلوكي: أكثر تجسيدا على أرض الواقع، يجمع بين السلوكات و الأفعال التي تتضمنها كل قيمة من القيم سالفة الذكر. 

من خلال هذا يتبين لنا وجود ملمح لما يمكن تسميته بـ: "النسق القيمي و السلوكي" للقفازة، و المقصود بالنسق هنا هو ذلك التلازم والترابط الموجود بين مختلف العناصر (القيمية و السلوكية) المشكلة "القفازة"، والتي تجعل منها "وحدة قيمية" مميزة. ويتأكد أكثر الطابع النسقي للقفازة حين نتمعن في اتجاه و هدف سلوكات "القافز" في المجتمع، فهي تسير في نفس الاتجاه المحقق لهدف "العيش" (النجاح) وفق المقولة المعروفة "اقفز تعيـش".

التغير الاجتماعي و القيمي في الجزائر و ظهور القفازة:

بالعودة لتاريخ الجزائر الحديث نتلمس كرونولوجيا أحداث، تسمح لنا بتقسيم منطقي للمراحل التي مر بها المجتمع الجزائري، وهي على التوالي: مرحلة حرب التحرير، مرحلة التحرير، مرحلة البناء الاجتماعي (التشييد)، مرحلة إصلاح ومراجعة البناء الاجتماعي، وأخيرا مرحلة الانفتاح والديمقراطية. و بالتتابع فإن مميزات كل مرحلة من هذه المراحل هي: التضامن والإجماع على مبدأ الكفاح في حرب التحرير، حرية السلوك والتوق إلى العدالة في مرحلة التحرير، التعبئة والانضباط طيلة مرحلة البناء الاجتماعي (هواري بومدين)، البحث عن أشكال وصيغ جديدة للتعبئة والتنظيم في مرحلة إصلاح و مراجعة البناء الاجتماعي (الشادلي بن جديد)، وأخيرا التوجه لاقتصاد السوق و  وفتح المجال للتعددية في مرحلة الانفتاح و الديمقراطية([viii]).

إن المراحل الثلاث الأولى (1954-1980) جاءت في إطار جامع لها حول هدفي تكريس الاستقلال السياسي ثم الاقتصادي. أما المراحل اللاحقة لها فتدخل في إطار توجه جديد، سياسيا اقتصاديا اجتماعيا وايديولوجيا بهدف الإصلاح والمراجعة، ما يؤشر بوضوح أن شيئا ما قد حدث في سيرورة المجتمع الجزائري  على كل الأصعدة وفي كل المستويات، ما يدفعنا إلى القول بوجود قطيعة.

كل هذه المراحل التي مرّ بها المجتمع الجزائري (من تاريخ اندلاع ثورة التحرير إلى اليوم)، ليست مرتبطة فقط بالمستوى السياسي وما عرفه من تغيرات وأحداث، فكل مرحلة من هذه المراحل تمثل وحدة منطقية جامعة لمعظم أفراد المجتمع في هيكلها و وظائفها. نقطة البداية أو النهاية في كل مرحلة من هذا المراحل ناتجة عن التقاء مجموعة من الأحداث السياسية الاقتصادية الثقافية والاجتماعية، والتي تقع في نفس الوقت. ما يؤدي إلى التأسيس لنموذج جديد من العلاقات والقيم و السلوكات الاجتماعية([ix]).

و تعد المرحلة الرابعة (1980-1988) الخاصة بالإصلاح و المراجعة لما سبق، تعد خير مثال على هذا التلاقي بين مختلف الأحداث. وما نتج عنه من تغيير على صعيد العلاقات الاجتماعية من ناحيتي القيم و السلوك، ضمن توجه عام لمحاولة وضع تصور جديد ينظم علاقة المستوى السياسي (مؤسسات الدولة وسياساتها) بالاقتصادي (القطاع الصناعي العمومي)  بالاجتماعي (الحاجات الاجتماعية المتزايدة).إن طبيعة التغير الذي مر بالمجتمع الجزائري، من العمق انه انتقل به و في غضون جيلين (جيل الثورة وجيل الاستقلال) من مستوى تنظيم اجتماعي صلب، أحادي التدرج (Mono Hiérarchisé)،محدد المكانات الاجتماعية، خاضع لقيم أخلاقية قهرية و مركزية (المؤسسة الدينية و القبلية)، بنمط إنتاج هادف لتحقيق الاكتفاء، و استهلاك تقشفي. إلى مستوى تنظيم اجتماعي: أقل صلابة، متعدد التدرج (HiérarchieMultiple)، غير محدد المكانات الاجتماعية، خاضع لقيم أخلاقية اقل قهرية و مركزية، و بنمط إنتاج محقق للفائض، و استهلاك أبعد ما يكون عن التقشف([x]).

مطلع الثمانينات، بدأت الانعكاسات الأولى للنمو الديموغرافي المرتفع لسكان الجزائر –طيلة عشريتين- بالظهور والتأثير المباشر على بنية المجتمع، ففي 1980 صار سن الشباب الجزائري المولود في 1962 ثمانية عشر سنة، وصاروا بذلك يمثلون أول موجة لجيل ما بعد الاستقلال الذي ولد وترعرع في كنف السلم والحرية. ومن النتائج المباشرة والمهمة لهذا الواقع الجديد هو أن مسار التغير في المجتمع الجزائري صار مدفوعا –أكثر من الستينات والسبعينات- بشريحة الشباب، من خلال قوتها العددية ونزعتها المطلبية الضاغطة على المستويات السياسية الاقتصادية والاجتماعية (مطلب توفير مناصب العمل وتوفير المسكن، وتحسين القدرة الشرائية). إضافة إلى تبنيها لسلوكات اجتماعية قائمة على مبادئ الفردانية والبحث عن الثروة والمواجهة الإيديولوجية (المطالبة بالتعددية السياسية مع ظهور بوادر التيار الإسلامي و ارتفاع صوت المطلب الأمازيغي). و من جهة أخرى فإن «امتزاج مختلف هذه الأبعاد قد ولّد نمطا اجتماعيا (سلوكي و قيمي) جديد على درجة عالية من الخصوصية و التعقيد».([xi]) في 1980 تم إحصاء 11 مليون شاب تحت سن 19 سنة([xii])، و هو نفس عدد سكان الجزائر سنة 1966!كذلك فإن التغير الذي حدث على أطر الاندماج الاجتماعي، من خلال تحولها من النمط القديم القائم على الأسرة الممتدة و وحدة الاقتصاد، إلى نمط جديد قائم على الأسرة النووية، العمل والاستهلاك. ما أوجد الفرد والمجتمع الجزائريين أمام شكل جديد للعلاقة بين: أسرة-عمل-استهلاك، مختلفة تماما عن شكل هذه العلاقة في 1962([xiii]).و إن فهم طبيعة هذه العلاقة بمستوياتها الثلاث (أسرة-عمل-استهلاك) يعد مدخلا لابد منه لفهم التغير الذي عرفه ويعرفه حتى اليوم المجتمع الجزائري، فالأسرة –وفق هذه العلاقة- تُعرِف المكانة الذاتية لأفرادها، والعمل يُعرِف العائد الاقتصادي لكل فرد، و الاستهلاك: يُثبِت ويُبلور المكانة الذاتية بصفة نهائية. وفق هذا ستكون درجة و طبيعة المكانة التي يحتلها الفرد في الأسرة والمجتمع بحسب درجة وطبيعة مساهمته في القدرة الاستهلاكية للأسرة([xiv]).

وفي هذا السياق صارت قيمة وسلوك الاستهلاك أداة و وسيلة في سبيل ضمان التمتع بمكانة اجتماعية مرموقة، على اعتبار أن درجة المكانة و طبيعتها مرتبط بالقدرة على الاستهلاك، وهذا ما يسميه مصطفى بوتفنوشت بـ: la consommation instrumental،فميزانية الأسرة، مساحة البيت و عدد غرفه، نوع السيارة ...الخ كلها تدخل في إطار هذا النوع من الاستهلاك. ليس الاستهلاك لأجل الاستهلاك فقط بل إن فعل الاستهلاك يتجاوز تلبية "الحاجة المادية" للسلعة أو المنتوج إلى تلبية "الحاجة المعنوية" له. و منه «وجد الفرد نفسه في مقابل إستراتيجية اجتماعية صعب تجاهلها، امتلاك كل شيء و القدرة على كل شيء هو شرط الارتقاء إلى مكانة اجتماعية مرموقة...الامتلاك و القدرة بصفة جزئية يساوي إمكانية ارتقاء محدودة»([xv]).

لقد خضعت مختلف شرائح المجتمع و فئاته العمرية لهذه الإستراتيجية الاجتماعية، وصارت تؤمن بفكرة تحقيق مكانة اجتماعية على أساس القدرة على الاستهلاك، فتوسيع قاعدة الاستهلاك وبلوغ درجة استهلاك الرفاهية (la consommation de prestige)صارت واحدة من غايات الفرد في المجتمع الجزائري. كل شرائح المجتمع و كل فئاته العمرية صارت واعية بوجود هيكلة وتنظيم جديدين للمجتمع و لقيمه.

كذلك فإن خصوصية التغير الذي عرفه المجتمع الجزائري يتضح في سرعة حدوثه و عمق آثاره، ما قاد العديد من علماء الاجتماع الجزائريين إلى وصف هذا التغير بـ: الكسر. «فيما يتعلق بعلاقة الجزائري بالأرض، فالمناسب هنا هو الحديث عن كسر (Cassure)وليس عن قطيعة (Rupture)... ففي المخيال الاجتماعي صار مفهوم التقدم و النمو مرتبط بالمدينة، بالأجر وبالوظيفة ... في 1966 كان حجم العمالة في القطاع الزراعي يمثل 58% من الحجم العام للقوى العاملة الجزائرية (قرابة الثلثين)، أما في 1977 فلقد صار حجم هذه العمالة يمثل 31% فقط (قرابة الثلث)، بالنظر إلى هذا التحول من زاوية الأجيال نسجل أنه لم يحدث بصفة تدريجية على مدى ثلاثين سنة، بل حدث في جيل واحد، جيل بعد الاستقلال، وفي حيز زمني ضيق جدا يعادل عشر سنوات»([xvi]).و من ملامح هذا الكسر أيضا، الازدواجية والفارق الموجودين بين مشروعين أو تصورين للمجتمع و للدولة، المشروع الأول: الذي يروج له الخطاب السياسي الرسمي، والمشروع الثاني: المتمثل في الواقع المعاش على الأرض.

الدلالة الاجتماعية و القيمية للقفازة:

القفازة تعبر عن إيديولوجية صراع و مواجهة مع الآخر، هذا الآخر يتسع لاستيعاب الكثير من مفردات الواقع الجزائري، بيروقراطية مؤسسات الدولة، الواقع الاقتصادي و الاجتماعي الصعب، نظام القيم في المجتمع...الخ.

إلى الحد الذيصارت فيه "القفازة" واحدة من المنعكسات السلوكية -واسعة الانتشار-، و إحدى الثوابت التربوية التي يحرص الآباء على زرعها في أبناءهم (على اعتبار القفازة من متطلبات المعيشة)، الآباء يعلمون أبناءهم -سرا و علنا- كيف يتجنبون الوقوع ضحية تحايل الآخرين، و كيف أن بإمكانهم -عند الحاجة- التحايل على الآخرين، و كيف يكونوا "قافزين" في الحياة، لأن العيش في المجتمع لم يعد سهلا وأن لا مكان ولا مستقبل للضعفاء. هم بهذا يٌشرّعون لهم فكرة تجاوز -والقفز على- القواعد القوانين و الحدود التي وضعها المجتمع في شكل القانون و النظام.

يلاحظ على "القفازة" –بشقيها السلوكي والقيمي- أنها ظهرت ونمت في بيئة قيمية امتازت بممارسات اجتماعية جديدة أنتجها –بحدّة- مجتمع ما بعد الثمانينات. و هي تعبر عن توجه فعلي نحو تبني سلوكات يمكن وصفها –من منظور مدرسة العقد الاجتماعي- بسلوكات ضد-اجتماعية من حيث أنها تترجم بوضوح التعارض بين المصالح الخاصة (للأفراد) و العامة (للمجتمع). إن "القفازة" جاءت على النقيض تماما لمبادئ "الخيار الاشتراكي للتنمية"، فإذا كان هذا الأخير قائم على فكرة مركزية و وحدة التوجه و القرار و السلطة فإن "القفازة" تعبر عن رغبة لدى الجزائري في التحرر من هذا القيد و العمل لمصلحته الشخصية، و هي أيضا دليل قاطع على أن هناك «مشكلة كبيرة في قدرتنا على العمل و الفعل جماعيا».([xvii])

القفازة كقيمة اجتماعية، هي تركيز لمشاعر الخوف الريبة العتاب والثأر التي يعيشها المجتمع الجزائري. القفازة تستوعب كثير من المفردات السلوكية الضد-اجتماعية التي هي أقرب إلى التمرد على القيود من كونها مجرد تغير بسيط على مستوى القيم الاجتماعية، وما ذهب إليه عبد الناصر جابي في كتابه الأخير([xviii]) خير مثال على هذا، من خلال عرضه لثنائية "الأب الفاشل و الإبن القافز" وكيف أن القفازة كقيمة اجتماعية شرّعت للإبن التمرد على السلطة الأبوية وتوسيع مساحة نفوذه داخل الأسرة.

خاصية التمرد في "القفازة" نابعة من كونها في المقام الأول ترجمة سلوكية (فعلية) لموقف الشباب من المجتمع ومآخذهم عليه. من هنا لا ينبغي التعامل مع القفازة على أساس أنها ضرب من العشوائية أو الفوضى، في حين أنها –في الحقيقة- ردة فعل منطقية لشريحة واسعة من المجتمع اتجاه واقع متأزم، «فالشباب ليسوا على الإطلاق محاربين بدون قضية، فثمة أكثر من مبرر لتمردهم حتى و إن عجزوا عن طرح القضايا التي يحاربون من أجلها بشكل مقنع للكبار».([xix])

القفازة و تغير مفهوم النجاح:

واقع المجتمع الجزائري بعد 1980 يوحي بأن النزعة نحو الفردانية (l’individualisme)صارت منتشرة أكثر مما سبق، أن السعي وراء تحقيق المصلحة الشخصية -بطريقة واضحة و صريحة- صار مبدءا ومطلبا عامين متفق عليهما. كذلك يوحي هذا الواقع الاجتماعي الجديد بوجود حراك اجتماعي واسع، وسباق كبير نحو الغنى، «إلى حد اعتبار الشخص صاحب المبادئ الأخلاقية و الطموح المحدود، و الذي لا يطلب شيئا من مؤسسات الدولة، اعتباره شخصا هامشيا و "غير عادي" (A-normal)و حتى فاشل، أما "الشخص العادي" في هذا البناء الاجتماعي المرن فهو "رجل الأعمال" (l’affairiste)الذي له معارف و علاقات في كل مكان و يمكنه حل المشكلات بسرعة و سهولة فائقتين».([xx])هذه المرونة في البنية الاجتماعية، تقنن و تحدد المعايير الجديدة لتوزيع الأدوار و المكانات الاجتماعية، و التي يحتل وفقها "القافز" مكانة اجتماعية راقيةعلى عكس "غير القافز" الذي يكتفي بمكانة أدنى([xxi]).

ويمكن ملاحظة الأفراد الممارسين للدورين الاجتماعين: "القافز" و "غير القافز" في الكثير من تشكيلات الحياة الاجتماعية، في الوسط العائلي، في المدرسة، في الجامعة، في المؤسسة الاقتصادية، في النشاط السياسي...الخ. ولأن الضغوطات التي يعيش وسطها الفرد في هذه البنية الاجتماعية المرنة ضغوطات قوية جدا، فمن شأن تقمص دور القافز (قيميا و سلوكيا) تحقيق التحرر من هذه الضغوطات والقيود.ودائما وفق هذه البنية الاجتماعية الجديدة، نجد أن مساهمة "التعليم" في تحديد طبيعة و درجة المكانة الاجتماعية للأفراد مساهمة محدودة، فمستوى التعليم غير معترف به في هذا الإطار إلا في حال تحقيقه لمكانة فردية مرموقة من خلال ضمان عائد مالي معتبر (أجر أو ثروة) أو توسيع القاعدة الاستهلاكية من خلال تحسين إمكانية تلبية كل الحاجات الضرورية و الثانوية. لذا فإنه في هذا السياق لابد من التفريق بين كل من: "المكانة" (le statut)و "الهيبة" (le prestige)«فمستوى التعليم العالي وحده لا يضمن مكانة اجتماعية راقية([xxii])، بل يٌكسب صاحبه –فقط- هيبة ثقافية».([xxiii]) إن المكانة الاجتماعية الراقية تستلزم أكثر من المستوى التعليمي، إذ لا بد من توفر مهارات و شروط أخرى تتوافق و النموذج السلوكي-القيمي للبناء الاجتماعي الجديد. بعبارة أخرى هناك تلازم بين المكانة الاجتماعية و القفازة.

و القفازة لمّا فرضت نفسها كقيمة اجتماعية جديدة -تتضمن نموذج سلوكي معين- فهي بذلك أدخلت تمثلات اجتماعية و ثقافية جديدة لمفهومي: النجاح و المكانة في المجتمع الجزائري.

أيضا التغير طرأ على النموذج المجتمعي "لمسار النجاح"، فكان من انعكاسات ذلك انخفاض متوسط سنوات الدراسة التي يقضيها الشباب في التمدرس([xxiv])، و ارتفاع نسب التسرب المدرسي، وتراجع قيمة الدراسة و طلب العلم.([xxv])

في ظل غياب مسارات او وصفات نجاح ثابتة و مضمونة وملبية (محققة للطموح) لحاجات الشباب وأمالهم تشكلت القفازة كمسار بديل للنجاح المرن والمفتوح. حدث في هذا السياق عملية تفكيك وإعادة تجميع نموذج نجاح. التحايل –على اختلاف و تنوع صوره- صار في جزائر اليوم أحد ثوابت الحياة الاجتماعية، التحايل في كل مكان، في البيت في المدرسة في الجامعة في الادارة في المؤسسة في الحزب في الوزارة، أينما وليت وجهك تصادف صورة من صور التحايل. بالتحايل (الغش في الامتحان) يكمل الآلاف من الطلبة دراستهم، بالتحايل (التراباندو و التبزنيس) تضمن الآلاف من الأسر الجزائرية لقمة عيشها، بالتحايل (التزوير و الوعود الكاذبة) يفوز المئات من الشخصيات في الانتخابات.

خاتمة:

القفازة... إلى أين؟

سؤال أعتقد انه تستحق الطرح في ختام هذه المداخلة، ويستوجب البحث -سوسيولوجيا ونفسيا- خاصة حين نرى إلى أين يمكن أن تذهب القفازة بأصحابها أفرادا كانوا أم مجتمعات. إن كان إلى الحرقة، أو الفساد أو الاحتيال او عدم الاستقرار. حين نرى هذا علينا فعلا الوقوف والسؤال: إلى أين تأخذنا القفازة؟ هل حقا هناك حدود للقفازة؟



([i]) منجد الطلاب، دار الشروق، بيروت، ط 36، 1990، ص: 606.

)[ii](Noureddine BOUKROUH, L’Algérie entre le mauvais et le pire, Casbah éditions, Alger, 1997, p: 86.

)[iii](Larousse: Pluri dictionnaire, éditions Larousse, Paris, 1977, p: 498.

)[iv](Esbroufe : faire de l’esbroufe, chercher à en imposer en prenant un air important, (synonyme : jeter de la poudre aux yeux), (synonyme : bluffer). Esbroufer quelqu’un, chercher à l’impressionner.

)[v](Larousse, Op.cit, p: 380.

)[vi](Débrouiller (se) : se tirer d’affaire par ses propres moyens, en faisant preuve d’habilité et d’ingéniosité : se débrouiller avec ce qu’on a.

([vii])لتفكيك مفهوم معقد مثل مفهوم القفازة، تمت الاستعانة بفصل "التحليل المفهومي" في: موريس أنجرس، ترجمة: بوزيد صحراوي و آخرين، منهجية البحث العلمي في العلوم الإنسانية، تدريبات عملية، دار القصبة للنشر، الجزائر، ط2، 2006. ص: 157.

)[viii](Mostefa BOUTEFNOUCHET, La société Algérienne en transition, OPU, Alger, 2004, p: 51.

)[ix](Ibid, p: 53.

)[x](Ibid, p: 57.

)[xi](Ibid, p: 59.

)[xii](Ibid, p: 69.

)[xiii](Ibid, p: 61.

)[xiv](Ibid, p: 61.

)[xv](Ibid, p: 61.

)[xvi](Ibid, p: 63.

)[xvii](Noureddine BOUKROUH, Op.cit, p : 51.

([xviii]) عبد الناصر جابي، الجزائر: النخبة و المجتمع، دار الشهاب، الجزائر، 2008.

([xix]) عزت حجازي، الشباب العربي و مشكلاته، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب، الكويت، فيفري 1985، ص:13.

([xx]) MostefaBOUTEFNOUCHET, Op.cit, p : 62.

)[xxi](Ibid, p: 62.

([xxii]) هناك أغنية لجنيريك مسلسل تلفزيزني فكاهي (إنتاج محطة قسنطينة)تعبر –بامتياز- عن هذه الحالة.تقول الأغنية في أحد مقاطعها "الأستاذ الجامعي... شانو عالي و جيبو خالي" (شأنه عالٍ و جيبه خالٍ أو خاوٍ).

)[xxiii](Ibid, p: 62.

([xxiv]) وفق إحصائية لسنة 2007 فإن متوسط عدد السنوات التي يقضيها الجزائريون في التمدرس هي 11 سنة.

([xxv]) "اللّي قرا، قرا بكري". "واش تقرا...تدير؟". "اللّي قراو واش دارو" ...الخ. أقوال يتداولها الشباب الجزائري تعبر عن عدم إيمانهم بأهمية الدراسة في الحياة.

@pour_citer_ce_document

زين الدين خرشي, «الدلالات الاجتماعية و القيمية للـقفازة »

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : pp : 506 - 515,
Date Publication Sur Papier : 2009-05-05,
Date Pulication Electronique : 2012-05-03,
mis a jour le : 14/01/2019,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=372.