مقاربة المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في التوفيق بين: حرية وسائل الإعلام في التعبير وممارسة الدول لحقها في حماية الأمن القومي من مخاطر الإرهابThe Approach of the European Court of Human Rights in Reconciling the Freedom of Media in Expression and States Exercise of their Right to Protect National Security from the Dangers of Terrorism
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N:02 vol 17-2020

مقاربة المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في التوفيق بين: حرية وسائل الإعلام في التعبير وممارسة الدول لحقها في حماية الأمن القومي من مخاطر الإرهاب

The Approach of the European Court of Human Rights in Reconciling the Freedom of Media in Expression and States Exercise of their Right to Protect National Security from the Dangers of Terrorism
ص ص 125-139
تاريخ الإرسال: 2019-06-26 تاريخ القبول: 2020-06-21

صلاح الدين بوجلال
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

تتحمل وسائل الإعلام في سياق جهود مكافحة الإرهاب مسؤولية توفير معلومات دقيقة، وشاملة عن الأعمال الإرهابية، والتهديدات المحتملة، فنقل مثل هذه المعلومات، والأفكار ليس مجرد حق لوسائل الإعلام تلك، بل إن من حق الجمهور الحصول عليها. ومع ذلك، فإنه حرية وسائل الإعلام ليست مطلقة، إذ تبقى مقيدة دائما بضرورات حماية المصالح الحيوية للدولة وأمنها القومي.  لقد توفّرت للمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان فرصة الحكم في مجموعة من القضايا، تعلقت معظمها بملاحقة الصحفيين جنائيا بسبب طريقة التغطية الصحفية للعمليات الإرهابية التي قد تفهم على أنها تروّج للحركات الإرهابية أحيانا، أو تقدّم المساعدة للحركات الإرهابية في أحايين أخرى. وإذا كانت المحكمة قد أكدت على القيمة الثابتة لحرية التعبير، وواجب وسيلة الإعلام في نشر المعلومات بهذا الشأن، إلا أنها قضت بالمقابل بإمكانية فرض قيود محددة على هذه الحرية استناداً إلى تهديدات يواجهها الأمن القومي، متى ثبت أنها ضرورية في المجتمع الديمقراطي لحماية مصالح مشروعة للأمن القومي.

الكلمات المفاتيح

 المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، وسائل الإعلام، حرية التعبير، الأمن القومي، الإرهاب

Les médias sont en première ligne dans la lutte contre le terrorisme ; ils sont interpellés car, d’une part, ils ont l’obligation de fournir des informations vérifiables et dans l’intérêt du public -qui a le droit fondamental d’accès à une information exacte et équilibrée sans verser dans le sensationnel-  de l’autre, la sécurité nationale, les exigences du vivre-ensemble accroissent légitimement les appels à la retenue, ç la modération, voire à la censure. Certains Etats ont utilisé l’argument du « terrorisme » pour réduire les médias au silence et pour incriminer, voire criminaliser des opinions ou des actions légitimes.  La Cour européenne des droits de l'homme a eu l'occasion de se prononcer sur toute une série de questions, dont la plupart concernaient les poursuites pénales à l'encontre de journalistes en raison de leur couverture d'actes terroristes pouvant être compris comme une promotion ou une assistance aux mouvements terroristes. Bien que la Cour a affirmé le principe inaliénable de la liberté d'expression, elle a estimé que des restrictions spécifiques pouvaient être imposées en cas de danger réel et imminent qui menace la sécurité nationale.

Mots clés :Cour européenne des droits de l’homme, médias, liberté d’expression, sécurité nationale, terrorisme.

Terrorism and the fight against terrorism have become major elements of domestic and international politics, with media firmly on the front lines. On the one hand, media must provide verifiable information for the public interest, but also, Citizens expect media to give them the exact information without resorting to sensationalism. On the other hand, National security, the demands of living together all legitimately lead to call for restraint. Some states have used “terrorism” argument to silence the media and bring disruptive journalists under control. They have also used the term to incriminate and criminalise legitimate opinions. The European Court of Human Rights has had the opportunity to judge on a range of issues, most of which concerned with criminal prosecution of journalists because of their coverage of terrorist acts that may be understood as a promotion or assisting to terrorist movements. While the Court has affirmed the fixed value of freedom of expression, it has judged that specific restrictions may be imposed in case of a real and imminent danger that threatens national security.

Keywords: European Court of Human Rights, Media, Freedom of Expression, National Security, Terrorism

Quelques mots à propos de :  صلاح الدين بوجلال

جامعة محمد لمين دباغين سطيف2saladine1974@yahoo.fr

مقدمة

تضطلع وسائل الإعلام بدور أساسي لا يمكن إنكاره في دولة القانون، بما لها من أدوار في مجال إعلام الجمهور حول التغيرات الاجتماعية، وطرح القضايا السياسية والفكرية للنقاش. وإذا كان هامش حرية التعبير المتاح لوسائل الإعلام كبيرا، إلا أن كـبح الخطاب المحرض أو الداعم للإرهاب يقتضي عموماً تقييد وتقليص تلك الحرية، ضمن مقاربة تضمن التصدي للآثار الشنيعة التي يخلفها خطاب التحريض على النشاط الإرهابي دون النيل من حرية التعبير وتـبادل الآراء والأفكار.

لقد توفّرت للمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان فرصة الحكم في مجموعة من القضايا، تعلقت معظمها بملاحقة الصحفيين جنائيا بسبب طريقة التغطية الصحفية للعمليات الإرهابية التي قد تفهم على أنها تروّج للحركات الإرهابية أحيانا، أو تقدّم المساعدة للحركات الإرهابية في أحيان أخرى. وإذا كانت المحكمة قد أكدت على القيمة الثابتة لحرية التعبير وواجب وسيلة الإعلام في نشر المعلومات، والآراء في القضايا السياسية وغيرها التي تهم المصلحة العامة، إلا أنها قضت بالمقابل بإمكانية فرض قيود محددة على هذه الحرية استناداً إلى تهديدات يواجهها الأمن القومي، متى ثبت أنها ضرورية في المجتمع الديمقراطي لحماية مصالح مشروعة للأمن القومي. 

تحاول هذه الدراسة استجلاء المقاربة التي تبنتها المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في رسم تلك الحدود الفاصلة بين حرية التعبير من جهة، والانزلاق نحو الخطاب التحريضي، أو الداعم للإرهاب من جهة أخرى، وما يفرزه من انعكاسات على الأمن القومي. وكل ذلك انطلاقا من الإشكالية الآتية:كيف حافظت المحكمة على الحماية اللازمة لحرية وسائل الإعلام في التعبير مع ردعها في الوقت نفسه لأي انزلاق نحو خطابات التحريض أو الدعم للإرهاب؟

وفي معرض معالجة الإشكالية المطروحة، تنطلق هذه الدراسة من فرضية مؤداها؛ أن فرض القيود على حرية وسائل الإعلام في التعبير بشأن معالجة قضايا الإرهاب إنما هو انعكاس لقيم المجتمع الديمقراطي ولا يتعارض مع المبدأ العام للحق في حرية التعبير.

أما بالنسبة لمنهج البحث، فإن الدراسة تعتمد بالأساس على المنهج الوصفي التحليلي، حيث ستقدم الدراسة عرضا عاما لقضاء المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بشأن قضايا الإرهاب وحرية وسائل الإعلام في التعبير مع العناية بتحليلها ومناقشتها. وسيتم الاستناد إلى الميدان، بالقيام بدراسة قضايا محددة، تبيّن على نحو جلي نهج المحكمة الأوربية.

وللإجابة على إشكالية الدراسة وتأكيد فرضيتها، قُسمت الدراسة إلى مبحثين، تناول المبحث الأول منها: حرية وسائل الإعلام في التعبير بين الإطلاق والتقييد في قضاء المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، بينما يتناول المبحث الثاني: مقتضيات حماية الأمن القومي ومكافحة الإرهاب في مواجهة حرية الإعلام في التعبير.

المبحث الأول/ حرية وسائل الإعلام في التعبير بين الإطلاق والتقييد في قضاء المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان

تتمتّع وسائل الإعلام بهامش كبير من الحرية في التعبير (المطلب الأول)، ومع ذلك فإن هذه الحرية ليست مطلقة، فقد تخضع في حالات معينة للتقييد متى توافر الشروط الموجبة لهذا التقييد (المطلب الثاني).

المطلب الأول/ حرية وسائل الإعلام في التعبير وفقا لمقاربة المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان

ثمة إقرار وتأكيد في سوابق المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان على: ضرورة منح وسائل الإعلام حرية كاملة في التعبير (الفرع الأول)، مع اتساع ملحوظ لأشكال التعبير المحمية بموجب المادة 10من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان (الفرع الثاني).

الفرع الأول/ إقرار وتأكيد على ضرورة منح وسائل الإعلام حرية كاملة في التعبير

 

تحتل وسائل الإعلام دورا أساسيا لا يمكن إنكاره في دولة القانون،بما لها من أدوار في مجال إعلام الجمهور حول التغيرات الاجتماعية، وطرح القضايا السياسية والفكرية للنقاش. فوسائل الإعلام توفر منبرا للرأي العام لفهم أفضل، وللحكم على مواقف القادة والمسؤولين داخل الدولة، كما تمنح الفرصة للسياسيين لطرح أفكارهم، والتعليق على انشغالات الرأي العام. ولهذه الأسباب، كان التدخل وتقييد حرية التعبير لهذه الفئة موضع تدقيق صارم من جانب المحكمة الأوربية. 

وعلى الرغم من أن المادة 10من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان لا تنصّ صراحة على حرية الصحافة(1)، فإن مجموعة واسعة من الأحكام القضائية للمحكمة تقيم صرحا من المبادئ والقواعد، التي تمنح حرية الصحافة وضعية خاصة ضمن الحريات الواردة في المادة 10(2). فقد كانت المحكمة أول من أكد على دور الصحافة في الرقابة السياسية، وذلك في قضية " لينجنز Lingens" التي أقيمت على خلفية قيام صحفي بكتابة مقال في أحد الجرائد انتقد فيه المستشار الاتحادي النمساوي آنذاك لاتخاذه خطوة سياسية تضمنت الإعلان عن إبرام تحالف مع حزب يقوده شخص له خلفية نازية. وكان الصحفي "لينجز" قد وصف سلوك المستشار النمساوي بأنه "غير أخلاقي" و"عديم الكرامة"، ويظهر "أحط درجات الانتهازية". وبعد متابعته قضائيا وإدانته من طرف المحاكم النمساوية، تقدم " لينجز" بدعواه أمام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، التي قضت بما يأتي: "... ومع الإقرار بأنه لا يجوز للصحافة أن تتخطى الحدود المقررة من أجل " حماية سمعة الآخرين"، بين جملة أمور، إلا أنه يتعين على الصحافة نقل المعلومات والأفكار حول المسائل السياسية تماما كما في المسائل المنتمية للمجالات الأخرى من الشأن العام. فتقديم هذه المعلومات والأفكار ليس فقط مهمة الصحافة، بل من حق الجمهور تلقيها .... وفي هذا الصدد، لا يمكن للمحكمة أن تقبل بالرأي الوارد في حكم محكمة النقض في فيينا، الذي مفاده أن مهمة الصحافة هي نقل المعلومات، ولا بد من أن يترك تفسير هذه المعلومات إلى القارئ في المقام الأول..."(3).

وفي قضية "هوكاو جولاري ضد تركيا HOCAO ĞULLARI c. TURQUIE"، خلصت المحكمة إلى أنه إذا كان يجب على كل عملية نشر للمعلومات ألا تتخطى حدود معينة، ومنها حماية المصالح الحيوية للدولة مثل: الأمن القومي أو السلامة الإقليمية ضد خطر الإرهاب، بيد أنه يتعين على وسائل الإعلام أن تُبلّغ المعلومات، والأفكار بشأن المسائل السياسية، بما فيها تلك القضايا الخلافية. والأمر هنا يتعدى كون عملية النشر، والإعلام تندرج ضمن: صميم وظائف وسائل الإعلام، إنه يتعلق بحق الجمهور كذلك في الحصول على تلك المعلومات. فحرية الصحافة توفر للجمهور واحدا من أفضل السبل لاكتشاف وتشكيل آراء حول أفكار ومواقف الزعماء السياسيين، وأن حرية النقاش السياسي تقع بالتالي في صميم مفهوم المجتمع الديمقراطي. ولهذا السبب تسبغ المحكمة بموجب المادة 10حماية كبيرة جدا على انخراط الصحافة في النقاش السياسي(4).

ويعد نشر الإشاعات والإدعاءات، التي ليس بمقدور الصحفيين إثبات صحتها من المسائل الأخرى التي تحظى بأهمية في سياق حرية الصحافة. وقد سبق للمحكمة في قضية " لينجنز" أن قضت بأن "الأحكام القيمية" لا يمكن البرهنة عليها، وليست موضوعا للإثبات، وهذا ردا على وصف قضاة المحكمة النمساوية العبارات الواردة في مقالة الصحفي "لينجنز" بالتشهيرية، وأن هذا الصحفي لم يستطع إثبات صحة إدعاءاته(5). وفي قضية " ثور جيرسون Thorgeirson" قضت المحكمة بأن شرط إثبات صحة الإدعاءات يعوزه المنطق، بل مستحيل تحققه، كما أضافت: بأن الصحافة لن تكون قادرة على نشر أي شيء تقريبا إذا طلب منها ألا تنشر إلا الحقائق المثبتة بالكامل(6).

كما نظرت المحكمة في موضوع نشر تصريحات لأشخاص من خارج وسائل الإعلام. ففي قضية "جيرسيلدJersild"، ميزت المحكمة بين مسؤولية الشخص المنسوب إليه خطاب الكراهية ووسيلة الإعلام التي تبث هذا الخطاب. وباختصار، عندما ينسب الخطاب للصحفيين أنفسهم، ينبغي هنا إدانتهم بالطريقة نفسها مثل أي كاتب آخر. أما عندما يتعلق الأمر ببث تصريحات الآخرين، فإن نشاط الصحفي يكيف على أنه مجرد أداء لمهمته الصحفية الإعلامية. وفي هذه القضية ميّزت المحكمة بوضوح بين التعبيرات التي أبدتها جماعة "الغرين جاكتس green jackets" ودور الصحفي الذي أنتج التحقيق التلفزيوني الذي وردت فيه تلك التعبيرات. وكان من رأي المحكمة أن: "السمة البارزة في هذه القضية أن المدعي نفسه لم يصدر التصريحات محل الاعتراض وإنما ساعد على نشرها بصفته صحفي تليفزيوني مسؤول عن برنامج إخباري. وبينت بأنمعاقبة صحفي لمساعدته في نشر التصريحات التي أدلى بها شخص آخر تعرقل بشكل خطير مساهمة الصحافة في مناقشة القضايا العامة (7).  لتخلص إلى أن دولة الدانمارك بتدخّلها، ومعاقبتها للصحفي "جيرسيلد"، تكون قد انتهكت حرية هذا الأخير في التعبير(8).

وذهبت المحكمة أبعد من ذلك، في قضية "توما Thoma" التي لامت فيها الحكومة الصحفي على عدم نأيه بنفسه عن التصريحات المنقولة، حيث تبنّت المحكمة وجهة النظر القائلة بأن وضع شرط عام بأن ينأى الصحفيون بأنفسهم على نحو منهجي، ومؤسسي عن مضمون القول المنقول، الذي قد يكون من شأنه: إهانة، أو استفزاز آخرين، أو الإضرار بسمعتهم، لا يتفق مع دور الصحافة في تقديم المعلومات حول الأحداث أو الآراء والأفكار الجارية(9).

وقد استمرت المحكمة في مسايرة نهجها هذا، ففي قضية "هوكاو جولاري HOCAO ĞULLARI"، رأت المحكمة الأوربية بأن مجرد تقديم معلومات أو أفكار، حتى ولو كانت صادمة أو مثيرة للقلق، لا يمكن أن يشكل مبرّرا للتدخل في حرية وسائل الإعلام في التعبير(10).

الفرع الثاني/ أشكال التعبير المحمية بموجب المادة 10/01من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان

لا تقتصر طرق التعبير المحمية بموجب المادة 10على الكلمات، المكتوبة أو المنطوقة، لكنها تمتد لتشمل أيضا الصور والرسوم والأفعال، التي يراد منها التعبير عن فكرة أو تقديم معلومة، ولذا فقد تدخل الملابس في بعض الظروف ضمن طرق التعبير المحمية بموجب المادة 10. وعلاوة على ذلك، تسبغ المادة 10حماية ليس فقط على مضمون المعلومات والأفكار، بل وعلى الهيئة التي يتخذها التعبير عن هذه المعلومات والأفكار أيضا. وهكذا، تلقى المواد المطبوعة، والبث الإذاعي، والرسوم والأفلام، ونظم المعلومات الإلكترونية، الحماية بموجب هذه المادة. لذلك تدخل وسائل الإنتاج والاتصال وإرسال وتوزيع المعلومات والأفكار في نطاق المادة 10، ولا بد للمحكمة من أن تضع في حسبانها التطورات السريعة لهذه الوسائل في كثير من المجالات(11).

ويتسع نطاق الحماية المكفولة بموجب المادة 10ليشمل أيضا الآراء التي يتم التعبير عنها بغلظة أو مبالغة، لكن يتوقف مدى الحماية على سياق النقد والهدف منه. فقد تتفهّم المحكمة صدور العبارات الغليظة، والنقد اللاذع عند تناول المسائل التي يدور حولها جدل عام، أو عند التعرض لقضايا الشأن العام، أو أثناء الجدالات السياسية، أو الحملات الانتخابية، أو عندما يوجه النقد للحكومة أو السياسيين أو السلطات العامة، وسيكون ذلك موضع تسامح كبير من قبل المحكمة. ففي قضية "أرسلان Arslan"، انتقد مقدم الدعوى عمل السلطات التركية في جنوب شرق البلاد مستخدما لغة وصفت من قبل المحكمة بأنها تنطوي على "قسوة واضحة" تضفي على هذا النقد قدرا ما من العنف. وعلى الرغم من ذلك، قررت المحكمة أن إدانة مقدم الدعوى بسبب انتقاده للحكومة، غير مناسب، وغير ضروري في مجتمع ديمقراطي(12).

وفي قضية "هوكاو جولاري HOCAO ĞULLARI"، اعتبرت المحكمة الأوربية بأن الكلمات الواردة في المقال الأول للمدعي، والتي من خلالها وجه نقدا للنظام السياسي التركي واصفا إياه بالنظام "الفاشي"، يمكن أن تندرج من حيث المبدأ ضمن النقد المسموح به وفقا للمادة 10من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان(13)

وقد ذهبت المحكمة في قضية "سوريك 4"، التي وصف المقال المطعون عليه تركيا بأنها "الإرهاب الحقيقي" و"العدو"، إلى أن النقد اللاذع الموجه للسلطات التركية هو انعكاس للحدة التي يتبعها أحد طرفي الصراع، أكثر منه دعوة للعنف. وإجمالا، لا يمكن تفسير محتوى المقالات بأنه قادر على التحريض على استمرار العنف(14).

كما دفعت المحكمة بأن من حق الجمهور الاطلاع على وجهة نظر مختلفة بشأن الوضع في جنوب شرق تركيا، بصرف النظر عن مدى تلاؤم هذا المنظور بالنسبة لهم. وخلصت المحكمة إلى أن إدانة مقدم الدعوى تتعارض مع المادة 10. وبالمثل، ففي قضية " كاراتاس Karatas"، رأت المحكمة أنه على الرغم من أن لهجة بعض مقاطع القصائد تبدوا عدوانية جدا، وداعية لاستخدام العنف، إلا أن حقيقة كونها ذات طبيعة فنية، وتأثير محدود، جعل منها تعبيرا عن الأسى العميق في مواجهة الوضع السياسي المتأزم أكثر منها دعوة إلى الانتفاضة(15).

ويتضح مما تقدم أن المحكمة تحاول أن تحدد نية المدّعي في كل حالة، فإذا كانت نيّته هي إعلام الجمهور بشأن مسألة تهم الصالح العام، فالمحكمة عادة ما ترى التدخل المطعون فيه غير ضروري. أمّا عندما تكون التعبيرات قيد النظر مصممة بغرض التحريض على استخدام العنف أو على الكراهية، فإن سلطات الدولة تتمتع بهامش أوسع من التقدير عند دراستها للحاجة إلى التدخل في حرية التعبير(16).

المطلب الثاني/ دواعي تقييد حرية التعبير في قضاء المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان

تعتمد المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في تقييدها لحرية التعبير على قاعدة إساءة استعمال الحق الواردة في المادة 17من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان (الفرع الأول)، وبدرجة أكبر على القيود التي تضمنتها المادة 10/02من الاتفاقية نفسها (الفرع الثاني).

الفرع الأول/ استناد المحكمة إلى قاعدة إساءة استعمال الحق

ورد في المادة 17ما يأتي:"لا يجوز أخذ أي حكم من أحكام هذه الاتفاقية بالتفسير على أنه: يقر لدولة أو لجماعة أو لفرد أي حق في الانخراط في نشاط، أو في القيام بعمل بهدف هدم الحقوق، أو الحريات المعترف بها في هذه الاتفاقية. أو الذهاب بالحد من هذه الحقوق والحريات إلى أوسع من المنصوص عليه في هذه الاتفاقية".

تاريخيا لم يكن هذا النص واردا في مشروع عام 1949للاتفاقية الأوربية، ولكن فقط خلال المناقشات التي دارت داخل الجمعية البرلمانية تم اقتراح هذا البند من طرف بعض المتدخّلين، في معرض دفاعهم عن القيم الديمقراطية الأوربية والحاجة إلى وضع آلية تمكن من التصدي للأفكار النازية والفاشية، والاشتراكية التي صاحبت، وتلت أيضا فترة الحرب العالمية الثانية، أو بعبارة أخرى كآلية للتصدي لما سمي بأعداء الحرية. وبالفعل أقرت الجمعية البرلمانية هذا البند وأدرجته ضمن النص النهائي للاتفاقية(17).  لتصبح المادة 17من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان وسيلة قانونية لمنعإساءة استعمال حق أو حرية الشخص، بطريقة تتنافى مع القيم والأسس التي تقوم عليها الاتفاقية الأوربية.

وينطبق نص المادة 17على فئتين مختلفتين، فمن جهة، يمكن استخدامه لمنع دولة طرف في الاتفاقية من الاستناد إلى بند يؤدي إلى هدم الحقوق والحريات. ومن جهة أخرى، يمنع أي فرد أو مجموعة من الأفراد من الاعتماد على الاتفاقية للقيام بأنشطة تهدد الحقوق والحريات الواردة في الاتفاقية(18). وفي سياق خطابات التحريض على الكراهية، فإن تطبيق نص المادة 17يرتبط أساسا بالفئة الثانية، أي الأفراد، لمنعهم من إمكانية التذرع بحرية التعبير، والقيام بأفعال، أو أنشطة تتعارض والقيم الواردة في الاتفاقية، ولا سيما قيم التسامح، السلام الاجتماعي، عدم التمييز، الكرامة ومكافحة العنصرية(19)

وتسمح المادة 17من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان بحرمان خطاب ما من حماية المادة 10/1من ذات الاتفاقية، بسبب محتوى الخطاب، وجوهره ودون حاجة إلى الاستعانة باختبار التناسب Test de Proportionnalité(20). وتجد المادة 17مجال تطبيقها الرئيسي في سياق التعابير الإنكارية (إنكار المحرقة Négationnistes)، حيث يفترض من الناحية النظرية، وفقا لقضاء المحكمة الأوربية، عدم النظر في موضوع الدعاوى المتعلقة بالتعابير الإنكارية، وإنما ينبغي مباشرة اعتبارها غير متوافقة موضوعيا مع أحكام الاتفاقية الأوربية خلال مرحلة المقبولية.  إذ يسمح الاستثناء المتضمن في المادة 17بإعلان الدعوى متعارضة موضوعيا rationae materiaeمع مفهوم المادة 35/ 3/أ (21)، ويتعين رفضها تطبيقا للفقرة الرابعة من ذات المادة 35(22).

لقد استغلت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان الفرصة في عدد من القضايا للتأكيد بقوة على القيم التي تحميها المادة 17، ففي حكمها في قضية "آسكوي ضد تركيا Askoy c. Turquie"، حيث بيّنت المحكمة بأن التصريحات والتعابير المحرضة للمجتمع على الكراهية العنصرية، والمتبنية لأفكار الجنس الأرقى لا يمكن أن تستفيد من حماية المادة 10من الاتفاقية "(23).

وثمة مثال آخر لتطبيق قاعدة إساءة استعمال الحق في قضية "نوروود ضد المملكة المتحدة Norwood c. Royaume Unis"، حيث نظرت المحكمة الأوربية في الحكم بإدانة المدعي لعرضه ملصقا كبيرا من تصميم الحزب الوطني البريطاني على نافذة بمنزله، يعرض صورة لبرجي التجارة العالمية في أمريكا، وقد أضرمت بهما النيران مع عبارة " أخرجوا الإسلام من بريطانيا – احموا الشعب البريطاني"، وأيضا رمز الهلال والنجمة وقد وضع عليها علامة الخطر. وقد رأت المحكمة أن مثل هذا الهجوم العام، والحاد ضد جماعة دينية، وربطه بين الجماعة ككل وعمل إرهابي خطير، يتنافى مع القيم المبتغاة والمكفولة بموجب الاتفاقية، ولا سيما قيم التسامح، والسلام الاجتماعي، وعدم التمييز(24)

وخارج تلك الأمثلة التي أوردناها آنفا، يبقى استخدام المحكمة الأوربية للمادة 17من الاتفاقية الأوربية نادرا، إن لم نقل استثنائيا، إذ إنها تميل لصالح النهج القانوني الثاني، فالغالبية العظمى من القضايا المتعلقة بالتحريض على الكراهية، خارج حالة إنكار المحرقة، تم التعامل معها وفقا للقيود المفروضة على حرية التعبير المذكورة في المادة 10/2من الاتفاقية الأوربية(25).

الفرع الثاني/ استناد المحكمة إلى القيود المفروضة على حرية التعبير بموجب المادة 10/2

يتعلق الأمر هنا بآلية فحص تقليدية، تنطلق من أن التعابير المصرح بها، تستفيد مسبقا من الحماية المقررة لحرية التعبير المذكورة في المادة 10/1من الاتفاقية الأوربية، غير أنه من الممكن أن تندرج تلك التعابير ضمن القيود المفروضة على حرية التعبير المنصوص عليها في المادة 10/ 2من ذات الاتفاقية.

    وفقا للفقرة 2، من المادة 10يجوز للسلطات المحلية في أي من الدول المتعاقدة التدخل في ممارسة حرية التعبير إذا استوفت الشروط الثلاثة التالية مجتمعة(26):

  • أن يكون التدخل (" إجراء شكليا" أو "شرطا" أو "قيدا" أو "عقوبة") محددة في القانون.
  • أن يهدف التدخل إلى حماية واحد أو أكثر من المصالح أو القيم: الأمن القومي، وحدة أراضي الدولة، السلامة العامة، حفظ النظام ومنع الجريمة، حماية الصحة أو الآداب أو سمعة وحقوق الغير، منع إفشاء معلومات سرية، أو صيانة سلطة القضاء وحياده؛
  • أن يكون التدخل ضروريا في مجتمع ديمقراطي.

فعندما تجد المحكمة أن الشروط الثلاثة تم استفاؤها مجتمعة، سيعد تدخل الدولة شرعيا. وتتحمل الدولة عبء إثبات استيفاء الشروط الثلاثة مجتمعة، في حين تقوم المحكمة ببحث الشروط الثلاثة وفقا للترتيب المذكور أعلاه. فإذا ما رأت المحكمة أن الدولة فشلت في إثبات استيفاء شرط من الشروط الثلاثة، فلن تستمر المحكمة في النظر في القضية، وستقضي بعدم جواز التدخل محل الدراسة، وبالتالي بانتهاكه لحرية التعبير. ولا بد للمحاكم الوطنية من أن تلتزم بهذه الشروط الثلاثة، عند النظر والبت في القضايا التي تتعلق بأية حال بحرية التعبير. فالهدف الرئيس لنظام الاتفاقية أن يقوم القضاة المحليون بتطبيق نص الاتفاقية كما تم وضعه وفقا لاختصاص المحكمة، فيجب أن تبقى المحكمة الأوربية الملاذ الأخير. ولهذا فإن القضاة المحليين هم المحطة الأولى، والأهم في ضمان ممارسة حرية التعبير، وفي التأكد من أن القيود المفروضة تفي بالشروط المحددة في الفقرة 2كما وضعتها وفسرتها المحكمة(27).

ولكي يتخذ القضاة المحليون قرارا بموجب الشرط الثالث، يجب عليهم أن يطبقوا مبدأ التناسب بأن يجيبوا عن سؤال مفاده: هل كان الهدف يتناسب مع الوسيلة المستخدمة لتحقيق هذا الهدف؟ ففي هذه المعادلة، تشير كلمة " الهدف" إلى واحد أو أكثر من القيم والمصالح الواردة في الفقرة 2، والتي يجوز لحمايتها أن تتدخل الدولة في حرية التعبير. أما كلمة "الوسيلة" فتشير إلى التدخل بحد ذاته. لذلك فإن "الهدف" يمثل مصلحة محددة تتذرع بها الدولة، مثل "الأمن القومي"، و" النظام العام"... إلخ. و"الوسيلة" هي إجراء محدد اعتمد أو نفّذ في حق شخص لممارسته لحقه في التعبير. فيمكن، على سبيل المثال، أن تأخذ " الوسيلة" شكل إدانة جنائية عن الإهانة أو التشهير، أو قرار بدفع تعويضات مدنية، أو أمر بعدم النشر، أو منع من ممارسة مهنة الصحافة، أو تفتيش لمباني الصحيفة، أو مصادرة للوسائل التي جرى التعبير عن رأي ما من خلالها ... إلخ(28).

ويرتكز القرار في مدى التناسب على المبادئ الحاكمة لمجتمع ديمقراطي، فلكي يثبتوا أن تدخلا ما كان "ضروريا في مجتمع ديمقراطي"، فلا بد للقضاة المحليين، وكذا قضاة المحكمة الأوربية، من التأكد من وجود "حاجة اجتماعية ملحة" تطلّبت ذلك التقييد لممارسة حرية التعبير. وإذا كانت السلطات الوطنية هي من يقدر حاجة اجتماعية ملحةّ، فإنها في ذلك تبقى مستندة إلى المعايير الأوربية، وفق ما تضمنته أحكام المحكمة الأوربية وسوابقها، فهذه المعايير هي التي توفّر حماية أكبر من تلك التي توفرها القوانين الوطنية، وسوابق المحاكم الوطنية للدول الأطراف. وعليه، فإن المحكمة الأوربية هي سلطة إصدار القرار النهائي فيما إذا كان "تقييدا" ما متوافقا مع حرية التعبير التي تحميها المادة 10(29).

هذا وقد سبق للمحكمة الأوربية في قضيتي "سيلان ضد تركياCeylan c. Turquie"(30)، و" زانا ضد تركيا Zanac. Turquie"(31)، أن حدّدت المبادئ التي يسترشد بها في تحديد ما إذا كان التدخل ضروريا في مجتمع ديمقراطي، وبيّنت بأنه ينبغي النظر في كل قضية وفقا لمعطياتها، وملابساتها، والظروف التي أحاطت بها، وهامش التقدير الذي كان لدى الدولة، والنظر فيما إذا رُوعي التوازن بين الحق الأساسي للفرد في التعبير، وبين الحق الشرعي للمجتمع الديمقراطي في الحماية من مخاطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية.

المبحث الثاني/ مقتضيات حماية الأمن القومي ومكافحة الإرهاب في مواجهة حرية الإعلام في التعبير

 

قدمت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان مجموعة من الأحكام القضائية التي تناولت قضية حماية الأمن القومي ومكافحة الإرهاب في مواجهة حرية الإعلام في التعبير، وتبيّن بعد مطالعة أغلب القضايا التي عالجتها المحكمة، أن مبرر حماية الأمن القومي ليس دائما كافيا للحد من حرية الإعلام في التعبير (المطلب الأول)، كما أن معالجة هذا النوع من الإشكالات قد يفرض على وسائل الإعلام تبنّي نهج "الواجبات والمسؤوليات" (المطلب الثاني).

المطلب الأول/ عدم كفاية مبرر حماية الأمن القومي دائما للحد من حرية الإعلام في التعبير

كرّست المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان عبر قضائها مجموعة من المبادئ للتعامل مع قضية حرية التعبير، والأمن القومي، وسلامة الأراضي، والسلامة العامة، ويقتضي المبدأ الأول أنه بمجرد بلوغ المعلومات المتعلقة بالأمن القومي المجال العام، فلا يجوز حظرها، أو سحبها، أو معاقبة ناشريها. أمّا المبدأ الثاني فيحظر على الدول التحديد غير المشروط لكل المعلومات في مجال الأمن القومي، ووسمها بالسرية، وبالتالي، فهو يحظر أيضا وضع قيد مسبق على الحصول على هذه المعلومات. لكنّ ذلك لا يعني أن بعض المعلومات لا يجوز في الواقع وسمها بالسرية، حينما تكون هناك أسباب جادة للاعتقاد بأن السماح لهذه المعلومات بالوصول إلى المجال العام، سيشكل تهديدا للأمن القومي. وفضلا عن ذلك، لا بد من أن تكون وضعية سرية المعلومات محددة زمنيا، وأن يتم التحقق من الحاجة إلى استمرار هذه الوضعية بشكل دوري، فمصلحة الجمهور في معرفة بعض المعلومات، يجب أن تؤخذ هي الأخرى في الاعتبار خلال عملية تصنيف، ونشر المعلومات المتعلقة بالأمن القومي(32). وفي هذا الصدد، قضت المحكمة في قضية "سينير Sener"، بأنه حين يتعذّر تصنيف الآراء الإعلامية في كونها؛ تندرج ضمن خانة التحريض على العنف ضد الدولة أم لا، فلا يجوز للدول الأعضاء الاستناد إلى دعاوى حماية السلامة الإقليمية، أو الأمن القومي، أو منع الجريمة، أو الفوضى لتقييد حق الجمهور في الاطلاع عليها عبر إثقال كاهل الإعلام بالمتابعات الجنائية(33).

وتشكّل القواعد التي وضعتها المحكمة الأوربية لحالات تعارض حرية التعبير مع مصلحة الدفاع عن الأمن القومي، مبادئ إرشادية ينبغي إتباعها على المستوى الوطني. فيجب على القضاة المحليين أن يضعوا اختبار " الضرورة"، ومبدأ التناسب، وحماية المصلحة العامة ضمن فكرهم القانوني، حتى لو لم يكن النظام القانوني المحلي ينص صراحة على هذه الأمور، وأن ينشئوا معيارا متوازنا يجيب عن سؤال "الضرورة"(34).

ففي قضية " سوريك وأوزدميرSurek and Ozdemir"أدان القضاة المحليون الشاكيين بتهمة نشر دعاية انفصالية، وحكموا عليهما بالسجن لمدة ستة أشهر وبالغرامة، كما صودرت نسخ الجريدة. وقد كان الشاكيان نشرا مقابلتين صحفيتين مع عضو بارز في حزب العمال الكردستاني، الذي أدان سياسات السلطات التركية في جنوب شرق البلاد، واصفا إياها بأنها ترمي إلى طرد الأكراد من أراضيهم، وتدمير المقاومة. وزعم هذا العضو أيضا أن الحرب التي يشنها الحزب باسم الشعب الكردي ستستمر "حتى وإن لم يتبق منا سوى فرد واحد فقط". كما نشر الشاكيان أيضا بيانا مشتركا عن أربعة منظمات، مثلها مثل حزب العمال الكردستاني، محظورة بموجب القانون التركي، تطالب فيه بالاعتراف بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره وانسحاب الجيش التركي من كردستان.

وقد تناولت المحكمة أولا الانتقاد الموجه للحكومة – وفقا لما جاء في الجريدة – مشيرة إلى أن حدود النقد المباح توجيهه للحكومة، أوسع منها في حالة النقد الموجه لمواطن عادي أو حتى لسياسي. كما أبرزت المحكمة حقيقة أن احتواء المقابلتين اللتين أدلى بهما عضو بارز في منظمة محظورة على انتقاد شديد للسياسة الرسمية للدولة، فضلا عن نقلهما لرؤية أحادية الجانب للوضع، وللمسؤولية عن الاضطرابات في جنوب شرق تركيا، لا يمكن أن يبرّر في حد ذاته التدخل في حرية الشاكيين في التعبير. ففي رأي المحكمة أن المقابلتان قدمتا مضمونا إعلاميا قيّما سمح للجمهور بتكوين رؤية حول الحالة النفسية لهؤلاء الذين يشكلون القوة الدافعة وراء المعارضة السياسية الرسمية في جنوب شرق تركيا، وبتقييم المخاطر التي ينطوي عليها النزاع. كما رأت المحكمة أن السلطات المحلية فشلت في إظهار الاحترام الكافي لحق الجمهور في الاطلاع على وجهة نظر مختلفة، بشأن الوضع في جنوب شرق البلاد، بصرف النظر عن مدى تقبلهم لوجهة النظر تلك.  وختاما استقرت المحكمة على أن الأسباب التي قدمها القضاة المحليون لإدانة الشاكيين رغم منطقيتها، لا تكفي لتبرير تقييد حريتهما في التعبير(35).

وفي قضية "فاتولاييف ضد أذربيجان Fatullayev v. Azerbaijan"، التي تتعلق بتعرض المدعي، وهو محرر صحيفة، للسجن لمدة ثمانية أعوام ونصف بعد أن انتقد في مقالاته التحركات السياسية؛ الخارجية و/الداخلية لحكومة أذربيجان، على نحو يشجع على القيام بأعمال إرهابية. أشارت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى: أنه لم يكن واضحا من كتابات المدعي أنها قادرة على التأثير، أو ممارسة أي درجة من السيطرة على أي من الأحداث التي نوقشت في المقالات. كما أنه لم يعرب عن أي موافقة، أو حجج تأييدا لأي هجوم من هذا القبيل. لقد كانت مهمته كصحفي هي: نقل المعلومات والأفكار بشأن القضايا السياسية ذات الصلة، والتعبير عن الآراء بشأن؛ العواقب المستقبلية المحتملة لقرارات اتخذتها حكومة أذربيجان. لتخْلُص المحكمة إلى أن تدخل السلطات الأذربيجانية لم يكن متناسبا ويتعارض مع المادة 10من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان(36).

المطلب الثاني/ ضرورة تقيّد وسائل الإعلام بنهج "الواجبات والمسؤوليات"

تبنّت لجنة وزراء أوربا بتاريخ 2مارس 2005إعلانا حول حرية التعبير والإعلام، بالنسبة لوسائل الإعلام في إطار مكافحة الإرهاب، ومن بين ما تضمّنه هذا الإعلان: حثّ السلطات العمومية بالبلدان الأوربية على عدم إدراج قيود جديدة على حرية التعبير، والإعلام بالنسبة لوسائل الإعلام، إلاّ إذا كانت ضرورية ومتناسبة مع المجتمع الديمقراطي، مع التأكد بداية من أن النصوص القانونية وبقية التدابير النافذة غير كافية. كما دعت السلطات العامة لعدم اتخاذ تدابير تساوي بين التقارير بشأن الإرهاب وتلك الداعمة للإرهاب(37).

وبالمقابل، دعا الإعلان وسائل الإعلام والصحفيين بضرورة الأخذ بعين الاعتبار للعوامل الآتية:

-  التحلي بروح المسؤولية في إطار معالجة قضايا الإرهاب، حتى لا تسهم تلك المعالجة مساعدة المجموعات الإرهابية على تحقيق غاياتها. وعلى وسائل الإعلام بالأخص أن لا تسهم في ترسيخ الشعور بالخوف من العمليات الإرهابية، ولا أن تمنح للإرهابيين منابر إعلامية مبالغ فيها.

- الأخذ بعين الاعتبار بالدور الكبير الذي يمكن لوسائل الإعلام أن تلعبه في جهود مكافحة خطاب الكراهية، والدعوة إلى العنف، بالإضافة إلى ترقية التفاهم المتبادل بين الشعوب.

- الوعي بالمخاطر التي قد تنجم بطريقة لاإرادية عن تعابير الصحافة ووسائل الإعلام، والتي قد تصنف على أنها تعابير عنصرية أو معادية للأجانب، أو خطابات للكراهية(38)

واستمرت الجهود الأوربية في مكافحة الإرهاب إلى أن توّجت بإبرام اتفاقية مجلس أوربا للوقاية من الإرهاب بتاريخ 16ماي 2005(39)، ولعل أبرز ما تضمنته هو التنصيص على تجريم فعل التحريض العلني على ارتكاب جرائم الإرهاب، ووفقا للمادة 5من الاتفاقية يقصد بعبارة "التحريض العلني على ارتكاب جريمة إرهابية" أي عملية نشر Diffusionأو أي شكل آخر يتيح بث رسائل للجمهور بقصد التحريض على ارتكاب جريمة إرهابية، وهذا حينما يترتب على ذلك السلوك مخاطر ارتكاب عمل أو مجموعة أعمال إرهابية، وسواء دعا هذا السلوك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى ارتكاب جرائم إرهابية أم لا.

وقد فرضت المادة 5، فقرة 2، على الأطراف المتعاقدة ضرورة اعتماد التدابير التي تراها ضرورية لتبني التجريم الجنائي لأفعال التحريض العلني على ارتكاب جريمة إرهابية، على النحو المحدد في الفقرة 1، عندما ترتكب على نحو غير قانوني وبصورة متعمدة. ونصّت المادة 8من ذات الاتفاقية على أن الإدانة بجرم التحريض العلني على ارتكاب جريمة إرهابية، لا يرتبط بالضرورة بارتكاب الجريمة الإرهابية. كما نصت المادة 12من الاتفاقية على تقيد كل طرف متعاقد بالتزاماته بموجب قواعد حقوق الإنسان، وبالذات تلك الالتزامات المرتبطة بحماية حرية التعبير، وهذا بمناسبة وضع النصوص القانونية لتجريم أفعال التحريض العلني على الإرهاب، ووضعها موضع التنفيذ.

وفي مسايرة لذات النهج، أكدت المحكمة الأوربية بأن حرية التعبير ليست مطلقة، بل هي نفسها تتضمن "واجبات ومسؤوليات" حسب الفقرة الثانية من المادة العاشرة، فهي بالمحصلة حرية نسبية. وتؤثر هذه الواجبات، والمسؤوليات بشكل كبير على الصحفيين، والموظفين العموميين الذين قد يحرمون من حماية الاتفاقية في سياق مكافحة الإرهاب بعد أحداث 11أيلول / سبتمبر(40).

وقد ذكّرت المحكمة بأنه وفقا لمنطق "الواجبات والمسؤوليات" المتأصل في ممارسة حرية التعبير، فإن استفادة الصحفيين من الحماية المكفولة بموجب المادة 10يتوقف على كونهم يتصرفون بحسن نية من أجل تقديم معلومات دقيقة وموثوق بها بما تتفق وأخلاقيات العمل الصحافي(41). وقد أكّدت المحكمة ذلك في قضية "سينير Sener"، أين شدّدت على أن "واجبات ومسؤوليات" الإعلاميين تكتسب أهمية خاصة في حالات الصراع والتوتر، كما رأت المحكمة بأن توخي الحذر مطلوب، خاصة حينما يجري لفت الانتباه إلى نشر آراء تتضمن التحريض على العنف ضد الدولة، وإلا يصبح الإعلام وسيلة لنشر الكراهية والترويج للعنف(42).

وفي القضية نفسها، أشارت المحكمة إلى أن العرض الذي قام مقدم الدعوى – وهو مالك ورئيس تحرير جريدة أسبوعية – بنشره هو عبارة عن: مقال تضمن انتقادات حادة لسياسات الحكومة، ولتعامل قوات الأمن مع الأكراد في جنوب شرق تركيا، وأن بعض العبارات صيغت بلهجة عدائية. إلّا أن المحكمة استقرت على أن المقال لا يزكّي العنف، ولا يحرض على الانتقام، أو المقاومة المسلحة، وبالتالي فإن الإدانة الجنائية الموقعة على مقدم الدعوى تخالف المادة 10. فمقدّم الدعوى لم يتجاوز حدود واجباته، ومسؤولياته في الصراع والتوتر، بل قدم للجمهور وجهة نظر مختلفة حول الوضع بجنوب شرق تركياّ، بغض النظر عن مدى عدم مواءمة وجهة النظر تلك بالنسبة للجمهور(43).

وقد اتبعت المحكمة النهج نفسه في قضايا"كالين ضد تركياKALIN C. TURQUIE"، "أوزكايا ضد تركياOZKAYA C. TURQUIE"، "آسلي جونازASLI GÜNEŞ c. TURQUIE"" هاليس دوجان ضد تركيا HALİS DOĞAN c. TURQUIE" "، مبيّنة أنه رغم اللهجة العدائية، والنقد اللاذع للحكومة التركية الذين تضمنتها كل المقالات التي على أساسها توبع المدعّون في هذه القضايا، إلا أنها مع ذلك لم تزكّ العنف، ولم تحرض على الانتقام، أو المقاومة المسلحة، وبالتالي فإن الإدانات الجنائية الموقعة علىها فيها تخالف المادة 10(44).  

ولا يدخل التحريض على العنف في نطاق الحماية المكفولة بموجب المادة 10، وتحديدا عندما يصاغ التحريض على العنف بشكل متعمد ومباشر، وتكون هناك إمكانية حقيقية لوقوع العنف. ففي قضية "سوريك 3(3Sürek)"، وفيها وصف المقال نضال التحرر الوطني للأكراد بأنه: "حرب ضد قوات الجمهورية التركية"، وأضاف صاحب المقال مصرّحا: "نريد شنّ نضال تحرري شامل". وفي رأي المحكمة، لقد ربط المقال المطعون عليه نفسه بحزب العمال الكردستاني، ووجه دعوة لاستخدام القوات المسلحة كوسيلة لتحقيق الاستقلال الوطني لإقليم كردستان. كما لاحظت المحكمة أن المقال قد نشر في سياق اضطرابات خطيرة بين قوات الأمن وأعضاء حزب العمال الكردستاني تضمنت وقوع خسائر كبيرة في الأرواح، وفرضا لأحكام الطوارئ في مناطق واسعة بجنوب شرق تركيا. وفي مثل هذا السياق، لا بد من اعتبار مضمون المقال قادر على التحريض على استمرار العنف في المنطقة. بل إنّ الرسالة المنقولة للقارئ هي: أن اللجوء إلى العنف يعد إجراء ضروريا ومبررا للدفاع عن النفس في وجه المعتدي. وقد رأت المحكمة، بعد هذا التقييم، أن إدانة المدّعي لا تتعارض مع المادة 10(45).

وفي قضية "سوريك 1(1Sürek)" التي أدين فيها المدعي باعتباره مالك الجريدة التي نشرت رسالتين للقراء تدين بشدة الأعمال العسكرية التي نفذتها القوات التركية في جنوب شرق تركيا. قضتِ المحكمة بأنه حتى ولو أن المدعي لم يربط نفسه شخصيا بالآراء الواردة في الرسالتين، إلا أنه وفّر لكاتبيهما نافذة لإثارة العنف والكراهية. ووفقا للمحكمة، كان للمدعي – باعتباره مالكا للجريدة – سلطة رسم التوجه التحريري للجريدة، ومن ثم كان ملزما بإتباع الواجبات، والمسؤوليات التي تتبعها هيئة التحرير، والصحفيون بالجريدة في جمع وتقديم المعلومات إلى الجمهور، والتي تحظى بأهمية أكبر في حالات النزاعات والتوترات(46).

وفي ذات السياق دائما، وفي قضية " هوكاو جولاريHOCAO ĞULLARI"، والتي أدينت فيها المدعية من طرف محكمة أمن الدولة التركية، نتيجة نشرها لمقالين - بوصفها: رئيسة هيئة تحرير للمجلة الناشرة- تضمنا دعوات انفصالية للأكراد عن تركيا. وقد كان نهج  المحكمة الأوربية يرتكز بالأساس على: قراءة التعبيرات الواردة في المقالين، وربطهما بالسياق العام لنشرهما، لتخلص المحكمة إلى أن المقال الثاني على وجه التحديد، والمعنون بـ " الشباب يعني التمرد jeunesse veut dire la rébellion"، بلغته وتعبيراته المستخدمة، وإشادته بالأبطال الأكراد الذين قضوا في النزاع المسلح ضد القوات التركية الحكومية، وبتذكيره للشباب الأكراد وذويهم بأن لا ثورة دون ضريبة للدم، واستخدامه لتعابير على شاكلة "جئنا هنا من أجل الموت وليس للعودة" وغيرها، كلها تدلّ بما لا يدع مجالا للشك أن المقال في عمومه يحرض على العنف ويدعوا للكراهية، بطريقة تتنافى مع روح التسامح، والقيم الأساسية التي تضمنتها ديباجة الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، مما يجعل تدخل السلطات التركية مبررا وفقا للمادة 10من الاتفاقية(47).

ولئن كان صحيحا، حسب المحكمة دائما، بأن الآراء المعرب عنها في المقال ليست بالضرورة مطابقة لآراء المدّعية، ولكن هذه الأخيرة، مع ذلك، وفّرت لكاتبها نافذة لإثارة العنف والكراهية. وبصفتها رئيسة تحرير للمجلة، كانت لديها سلطة رسم التوجه التحريري للمجلة، ومن ثم فإنها ملزمة بإتباع الواجبات والمسؤوليات التي تتبعها هيئة التحرير والصحفيون بالجريدة في جمع وتقديم المعلومات إلى الجمهور والتي تحظى بأهمية أكبر في حالات النزاعات والتوترات(48).

يشار أيضا بصدد نهج "الواجبات والمسؤوليات" بأن المحكمة الأوربية قد اعتمدت على وسيلة الإعلام المستخدمة، ومدى قدرتها على التأثير، ففي قضية " بيتي بورسيل وآخرون ضد أيرلندا Betty Purcell and others v. Ireland"، التي تعلقت بحظر عام فرضته السلطات الأيرلندية على الصحفيين بعدم بث أي مقابلات، أو لقاءات صحفية، أو تسجيل البيانات التي يعلنها أي شخص ينتمي لأحد المنظمات المحظورة المدرجة في الأمر الوزاري، الذي صدر بهذا الخصوص. وفي فصلها في القضية، أشارت المحكمة إلى أن الغرض من تلك القيود هو منع ممثلي المنظمات الإرهابية المعروفة، ومؤيديهم السياسيين من إمكانية استخدام وسائل الإعلام الإذاعية كمنصة للدفاع عن قضيتهم، ومنظماتهم، ونقل الانطباع عن شرعيتها. وعلى الرغم من أن هذه القيود، حسب المحكمة دائما، قد تُسبّب للصحفيين بعض الإزعاج في ممارسة واجباتهم المهنية، إلا أنها مع ذلك تبقى مقبولة و"ضرورية في مجتمع ديمقراطي". ولتدعيم رأيها، بيّنت المحكمة في هذا الصدد بأن الإذاعة والتلفزيون وسائل إعلام ذات قوة تأثير كبيرة مقارنة بوسائل الإعلام المطبوعة، وإمكانيات قيام المذيع، أو الصحفي بالتصحيح، أو التفسير، أو التعليق على أي بيان أدلى به على الراديو، أو التلفزيون، تعد محدودة بالمقارنة مع تلك المتاحة للصحفيين في الصحافة المطبوعة. ويضاف إلى ذلك مخاطر استغلال فرصة إعلان البيانات أو التصريحات التي تبثّ مباشرة على الهواء خطر نقل رسائل مشفرة عبرها(49).

إن هذا المنطق الذي اعتمدته المحكمة في هذه القضية يعطي وزنا أكبر للمسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام، ويوضّح بأنه في عالم يواجه فيه الفرد هذا التدفق الهائل من المعلومات من خلال وسائل الإعلام التقليدية أو/ الإلكترونية، بما يرافق ذلك من تزايد لعدد أصحاب الخطابات والكتّاب، فإن رصد الامتثال للأخلاق الصحفية تزداد أهميته كذلك، مثلما بيّنت ذلك المحكمة في قضية "ستول ضد سويسرا Stoll c. Suisse"(50).  كما أن الأخذ في الاعتبار لأخلاقيات مهنة الصحافة من شأنه أن يساهم في بناء صحافة ذات نوعية(51).

وفي قضية أكثر حداثة عرضت على المحكمة، وهي قضية "لوري ضد فرنسا AffaireLeroy c. France"، التي أدين فيها السيد " لوري" من طرف القضاء الفرنسي بتهمة جريمة المشاركة في الدعاية أو الترويج للإرهاب من جهة، وجريمة الدعاية للإرهاب decomplicité d’apologie du terrorisme et d’apologie du terrorisme(52). ويتعلق الأمر هنا بقيام "لوري" وهو رسّام كاريكاتير، بتاريخ 11سبتمبر 2001، وفي خضم ضرب برجي التجارة العالمية بنيويورك، بإعداد رسم كاريكاتوري تضمن رسما لأربع بنايات شاهقة العلو تواجه سحابة من الأتربة بعد ارتطامها بطائرتين، مع استعارته لصيغة عبارة إشهارية لعلامة تجارية مشهورة (سوني)، وكتب: " لقد حلمنا جميعا ... فعلتها حماس Nous en Avions tous réve ... le HAMAS l’a fait / We have all dreamt of it . . .Hamas did it". وقد تم نشر هذا الكاريكاتير في الصفحة الثالثة من الأسبوعية الباسكية "Ekaitza" في العدد 787بتاريخ 13سبتمبر 2001. وقد وجدت المحاكم الفرنسية أن الرسم الكاريكاتوري بما تضمنه من ربط بين التدمير المأساوي لبرجي التجارة العالمية، وبين عمل من أعمال العنف، وبإرفاق هذا الرسم بعبارة مديح لا لبس فيها كتعبير عن حلم، فكل ذلك من شانه أن يولد شعورا رائع لعملية القتل التي صاحبت تفجير البرجين. وبالإضافة إلى ذلك، رأى القضاء الفرنسي أنه من المناسب توقيع عقوبة تتلاءم مع الاضطرابات التي لحقت بالنظام العام في منطقة حساسة بشكل خاص للنشاط الإرهابي(53).

وبعد قيام السيد " لوروي" بتقديم شكوى تحت رقم (36109/03) أمام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بتاريخ 12نوفمبر 2003(54)، كان الرأي لدى هذه الأخيرة هو أن المحاكم الفرنسية قامت بفحص القضية بناء على سياقها وفقا لمتطلبات المادة 10من الاتفاقية الأوربية، لتخلص المحكمة الأوربية إلى أنه بالنظر إلى: كون العمل الفني للشاكي صدر في ظل ظروف لا ينبغي أن تكون غائبة عن ذهنه، فإن إدانته من طرف المحاكم الفرنسية تعد مبرّرة. كما أن تأثيرات هذا النوع من الرسائل في منطقة جد حساسة اتجاه الأعمال الإرهابية تشكل أيضا، وفقا للمحكمة الأوربية دائما، سندا ومبررا للتدخل وتقييدا لحرية التعبير للطرف الشاكي(55).

خاتمة

تناولت الدراسة بالبحث والتحليل مقاربة المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، في تعاملها مع معادلة الحاجة إلى حماية حرية وسائل الإعلام في التعبير من جهة، وضرورة ممارسة الدول لحقها في حماية الأمن القومي من مخاطر الإرهاب. ويمكن إجمال أبرز نتائج الدراسة في الآتي:

  • تأكيد المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان على دور الصحافة في الرقابة السياسية، وعلى واجبها في نقل المعلومات والأفكار حول المسائل السياسية تماما كما في المسائل المنتمية للمجالات الأخرى من الشأن العام. فتقديم هذه المعلومات والأفكار ليس فقط مهمة الصحافة، بل من حق الجمهور تلقيها.
  • حرية الصحافة توفر للجمهور واحدا من أفضل السبل لاكتشاف وتشكيل آراء حول أفكار ومواقف الزعماء السياسيين، وأن حرية النقاش السياسي تقع بالتالي في صميم مفهوم المجتمع الديمقراطي. ولهذا السبب تسبغ المحكمة بموجب المادة 10حماية كبيرة جدا على انخراط الصحافة في النقاش السياسي.
  • لا تقتصر طرق التعبير المحمية بموجب المادة 10على الكلمات، المكتوبة أو المنطوقة، لكنها تمتد لتشمل أيضا الصور، والرسوم، والأفعال التي يراد منها التعبير عن فكرة أو تقديم معلومة. وعلاوة على ذلك، تسبغ المادة 10حماية ليس فقط على مضمون المعلومات والأفكار، بل وعلى الهيئة التي يتخذها التعبير عن هذه المعلومات والأفكار أيضا.
  • يمثل نص المادة 17من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان وسيلة قانونية لمنعإساءة استعمال حق، أو حرية الشخص بطريقة تتنافى مع القيم والأسس التي تقوم عليها الاتفاقية الأوربية، وبالتالي يمكن استخدامها إذا ما أسيئ استخدام وسائل الإعلام لحريتها في التعبير.
  • تميل المحكمة الأوربية لصالح النهج القانوني الذي تضمنته المادة 10من الاتفاقية الأوربية، وفقا للقيود المفروضة على حرية التعبير المذكورة في المادة 10/2من الاتفاقية الأوربية.
  • كرّست المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان عبر قضائها مجموعة من المبادئ للتعامل مع قضية حرية التعبير والأمن القومي، ويقتضي المبدأ الأول: أنه بمجرد بلوغ المعلومات المتعلقة بالأمن القومي المجال العام، فلا يجوز حظرها، أو سحبها، أو معاقبة ناشريها. أما المبدأ الثاني: فيحظر على الدول التحديد غير المشروط لكل المعلومات في مجال الأمن القومي ووسمها بالسرية.
  • تأكيد المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان على أنه وفقا لمنطق: "الواجبات والمسؤوليات"؛ المتأصل في ممارسة حرية التعبير، فإن استفادة الصحفيين من الحماية المكفولة بموجب المادة 10، يتوقف على كونهم يتصرفون بحسن نية من أجل تقديم معلومات دقيقة، وموثوق بها بما يتفق وأخلاقيات العمل الصحافي. وشدّدت على أن "واجبات ومسؤوليات" الإعلاميين تكتسب أهمية خاصة في حالات الصراع والتوتر.
  • بيّنت المحكمة الأوربية في إطار مكافحة الإرهاب بأنه ينبغي النظر في كل قضية وفقا: لمعطياتها، وملابساتها، والظروف التي أحاطت بها وهامش التقدير الذي كان لدى الدولة، والنظر فيما إذا روعي التوازن بين الحق الأساس للفرد في التعبير، وبين الحق الشرعي للمجتمع الديمقراطي، في الحماية من مخاطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية.

      أخيرا، قد يكون من المناسب بالنسبة للقاضي الوطني في مختلف الدول أن يتبنّى هذا النهج الذي مارسه قضاة المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، في تحقيق التوازن المطلوب بين الحماية المكرسة دستوريا في أغلب بلدان العالم لحرية التعبير، وبالذات ما ارتبط منها بالممارسة الإعلامية، وممارسة الدولة في الوقت نفسه لحقها السيادي في حماية أمنها القومي من مخاطر الإرهاب، التي تزداد يوما بعد يوم، حيث أصبح هذا الأخير ظاهرة عابرة للحدود بإمكانها؛ تقويض دول، وإسقاط نظم، وحكومات. وقد يكون منطلق هذا المقترح هو أنّ أغلب القوانين المقارنة الوطنية تضم أحكاما شبيهة بتلك الواردة في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.

     وقد يكون من المناسب أيضا بالنسبة للجامعات، والمراكز البحثية بالتعاون مع وزارات العدل، أن تقوم بنشر الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوربية في هذا المجال، وترجمتها وإتاحتها للقاضي الوطني.  

الهوامش

  1. تنص المادة 10، في فقرتها الأولى على أن ما يأتي:

« 1. Toute personne a droit à la liberté d’expression. Ce droit comprend la liberté d’opinion et la liberté de recevoir ou de communiquer des informations ou des idées sans qu’il puisse y avoir ingérence d’autorités publiques et sans considération de frontière. Le présent article n’empêche pas les États de soumettre les entreprises de radiodiffusion, de cinéma ou de télévision à un régime d’autorisations. ».

Voir : Convention de sauvegarde des droits de l’homme et des libertés fondamentales, Rome, 4.XI.1950. (https://www.echr.coe.int/Pages/home.aspx?p=basictexts&c=fre) (24/12/2018).

  1. مونيكا ماكوفي، "دليل إرشادي حول تطبيق المادة 10من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان"، في: رجب سعد طه (تحرير)، الأديان وحرية التعبير: إشكالية الحرية في مجتمعات مختلفة، القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (دون ذكر سنة النشر)، ص 409.
  2. European Court of Human Rights, Judgment, Lingens v. Austria, Application n° 9815/82, 8July 1986, para. 41.
  3. Comité d’Experts sur le Terrorisme (CODEXTER), Recueil de la Jurisprudence Pertinente de la Cour Européenne des Droits de l’Homme sur l’Apologie du Terrorisme (2004-2008), Strasbourg : Conseil de l’Europe (mars 2008), p. 12.

(http://www.europarl.europa.eu/document/activities/cont/200804/20080403ATT25640/20080403ATT25640FR.pdf ) ( 15/01/2017).

  1. Lingens v. Austria, Op. Cit., para. 46.
  2. European Court of Human Rights, Judgment, Thorgeir Thorgeirson v. Iceland, Application n° 13778/88 , 25June 1992, para. 65.
  3. European Court of Human Rights, Judgment,Jersild v. Denmark, Application n° 15890/89, 01Sep 1994, para. 35.
  4. Jersild v. Denmark, op. cit., para. 37.
  5. European Court of Human Rights, Judgment, Thoma v. Luxembourg, Application 38432/97 , 29March 2001, para. 64.
  6. Comité d’Experts sur le Terrorisme (CODEXTER), Op. Cit., p.12.
  7. مونيكا ماكوفي، مرجع سابق، ص 417.
  8. See:European Court of Human Rights, Judgment, Arslan v. Turkey, Application n° 23462/94, 8July 1999.
  9. تنص المادة 10، في فقرتها الأولى على أن ما يأتي:

« 1. Toute personne a droit à la liberté d’expression. Ce droit comprend la liberté d’opinion et la liberté de recevoir ou de communiquer des informations ou des idées sans qu’il puisse y avoir ingérence d’autorités publiques et sans considération de frontière. Le présent article n’empêche pas les États de soumettre les entreprises de radiodiffusion, de cinéma ou de télévision à un régime d’autorisations.».

Voir: Convention de sauvegarde des droits de l’homme et des libertés fondamentales, Rome, 4.XI.1950. (https://www.echr.coe.int/Pages/home.aspx?p=basictexts&c=fre) (24/12/2018).

  1. European Court of Human Rights, Judgment, Surek v. Turkey (No. 4), Application 24762/94, 8July 1999, paras. 51, 58.
  2. European Court of Human Rights, Judgment,Karatas v. Turkey, Application n° 23168/94, 8July 1999, para. 52.
  3.  آن ويبر، " مكافحة العنصرية وحماية حرية التعبير في قضاء المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، في: رجب سعد طه (تحرير)،  الأديان وحرية التعبير: إشكالية الحرية في مجتمعات مختلفة، القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة ( دون ذكر سنة النشر)، 287.
  4. Hannes Cannie and Dirk Voorhoof, « The Abuse Clause and Freedom of Expression in the European Human Rights Convention: An Added Value for Democracy and Human Rights Protection? », Netherlands Quarterly of Human Rights, Vol. 29/1, (2011), pp. 56-57.
  5.  Van Drooghenbroeck Sébastien, « L’article 17de la Convention européenne des droits de l’homme est-il indispensable ? », Revue trimestrielle des droits de l’homme, n° spécial, (2001), pp. 543-544.
  6. Cour européenne des Droits de l’Homme, Arrêt, affaire Leroy c. France, requête n° 36109/03, 2octobre 2008, para. 27; Cour européenne des Droits de l’Homme, Arrêt,  affaire Pavel Ivanov c. Russie, requête n° 35222/04, 20février 2007, p. 4.
  7.  Youmna Osta, Le Discours d'Incitation à la Haine Raciale au Regard de la Jurisprudence de la Cour Européenne des Droits de l'Homme, Genève : Université de Genève (2013), p. 11.
  8.  تنص المادة 35/3/أ  على ما يلي: " تعلنالمحكمةعدمقبولأيالتماسمرفوععملاًبالمادة34في حالرأت:

أنالالتماسمتعارضمعأحكامالاتفاقيةأوبروتوكولاتها، وينمبوضوحعنسوءفيالمسوغاتأوفيالاستعمال؛ ..."

  1. تنص الفقرة الرابعة من المادة 35على ما يلي:" تردّالمحكمةأيالتماستعتبرهغيرمقبولعملاًبهذهالمادة.ويجوزلهاالتصرفعلىهذاالنحوفيأيمرحلةمنمراحل الإجراءات".
  2. Cour européenne des Droits de l’Homme, Arrêt, affaire Askoy c. Turquie du 10octobre 2000, requêtes n° 28635/05, 30171/96, 34535/97, para. 63.
  3. Cour européenne des Droits de l’Homme, Arrêt, affaire Norwood c. Royaume-Uni, 16novembre 2004, requête n° 23131/03, p. 2.
  4. Y.  Osta, Op. Cit., p. 14.
  5. تنص المادة 10، في فقرتها الثانية على أن ما يأتي:

«  L’exercice de ces libertés comportant des devoirs et des responsabilités peut être soumis à certaines formalités, conditions, restrictions ou sanctions prévues par la loi, qui constituent des mesures nécessaires, dans une société démocratique, à la sécurité nationale, à l’intégrité territoriale ou à la sûreté publique, à la défense de l’ordre et à la prévention du crime, à la protection de la santé ou de la morale, à la protection de la réputation ou des droits d’autrui, pour empêcher la divulgation d’informations confidentielles ou pour garantir l’autorité et l’impartialité du pouvoir judiciaire.».

  1. مونيكا ماكوفي، مرجع سابق، ص 433.
  2. المرجع نفسه، ص441.
  3. المرجع نفسه، ص 441- 442.
  4. Cour européenne des Droits de l’Homme, Arrêt, Affaire Ceylan c. Turquie, Requête n° 23556/94, 8juillet 1999, para. 32.
  5. Cour européenne des Droits de l’Homme, Arrêt, Affaire Zana c. Turquie, arrêt, (69/1996/688/880), 25 novembre 1997, para. 55.
  6. مونيكا ماكوفي، مرجع سابق، ص 447.
  7. European Court of Human Rights, Judgment, Sener v. Turkey, Application n° 26680/95, 18July 2000, para. 41.
  8. مونيكا ماكوفي، مرجع سابق، ص 447.
  9. المرجع نفسه، ص 448-449.
  10. Council of Europe, « freedom of Expression and Terrorism », Platform to Promote the protection of journalism and safety of journalists, (August 2017), p. 3.

(https://rm.coe.int/factsheet-on-anti-terror-legislation-final-rev1august2017/1680735d7f) (26/01/2018)

  1. Déclaration sur la liberté d’expression et d’information dans les médias dans le contexte de la lutte contre le terrorisme (2005), adoptée par le comité des ministres le 2mars 2005, lors de la 917ème réunion des délégués  des ministres.

(https://books.google.dz/books?id) ( 02/01/2017)

  1. Déclaration sur la liberté d’expression et d’information…, Op. Cit.
  2. Convention du Conseil de l'Europe pour la prévention du terrorisme, Varsovie, 16/05/2005, Entrée en vigueur le 01/06/2007.
  3. Athanasia Petropoulou, Les mesures antiterroristes et la Cour europénne des droits de l'Homme, Paris: Editions A.Pedone, (2014),  p. 239.
  4. مونيكا ماكوفي، مرجع سابق، ص 426.
  5. Sener v. Turkey, Op. Cit., para. 42.
  6.  Ibid., para. 45.
  7.  Comité d’Experts sur le Terrorisme (CODEXTER), Op. Cit., pp. 3-11.
  8. European Court of Human Rights, Judgment, Surek v. Turkey (No. 3), Application 24735/94, 8July 1999, paras. 10, 31, 40, 41, 69.
  9. Cour Européenne des Droits de l’Homme, Arrêt, Affaire Sürek c. Turquie (No. 1), 8juillet 1999, requête n° 26682/95, para. 63.
  10. Comité d’Experts sur le Terrorisme (CODEXTER), Op. Cit., p. 12.
  11. Ibid., 13.
  12. Council of Europe, Op. Cit., p. 6.
  13. Cour Européenne des Droits de l’Homme, Arrêt, Affaire Stoll c. Suisse du 10décembre 2007, requête n° 69698/01, par. 104.
  14. Y.  Osta, Op. Cit., p. 25.
  15. Cour Européenne des Droits de l’Homme, Arrêt, Affaire Leroy c. France, Requête n° 36109/03, 2octobre 2008, para.9.
  16. Ibid., paras. 5-6, 11-12.
  17. تنص المادة 34المعنونة بـ " الطلبات الفردية"، على ما يأتي: " للمحكمة أن تتلقى طلبات من أي شخص أو منظمة غير حكومية أو مجموعة أفراد تدّعي أنها ضحية انتهاك من جانب أحد الأطراف السامية المتعاقدة للحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية أو في البروتوكولات الملحقة بها. وتتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن لا تعرقل بأي وسيلة سبيل الممارسة الفعالة لهذا الحق".
  18. Affaire Leroy c. France, Op. Cit., para. 45.

@pour_citer_ce_document

صلاح الدين بوجلال, «مقاربة المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في التوفيق بين: حرية وسائل الإعلام في التعبير وممارسة الدول لحقها في حماية الأمن القومي من مخاطر الإرهاب»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 125-139,
Date Publication Sur Papier : 2020-08-17,
Date Pulication Electronique : 2020-08-17,
mis a jour le : 17/08/2020,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=7105.