تمظهر الآخر الذكوري في قصص غادة السمانThe Masculine Other in the Stories of Ghada al-Samman
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°01 vol 18-2021

تمظهر الآخر الذكوري في قصص غادة السمان

The Masculine Other in the Stories of Ghada al-Samman
ص ص 262-274
تاريخ الإرسال: 2019-10-06 تاريخ القبول: 2020-12-29

فاطمة قيدوش
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

شهدت الساحة الأدبية في فترة الستينيات ميلاد أقلام نسوية جديدة، وحقق النص النسوّي قفزة نوعية، وحمل معه قضايا المرأة وحقوقها في المساواة والاختلاف إلى الواجهة، حيث جسّدت هذه المتون ذلك الصراع القائم بين الذكورة والأنوثة.  تعتبر غادة السمان من الأديبات اللواتي حققن هذا التميّز حيث حملتنا نصوصها الإبداعية على نوع من التجديد على مستوى المضامين وكشفت عن صور التهميش والإقصاء المفروض على الأنثى، وكشفت عن العلاقة الحقيقية للمرأة بالرجل كسلطة فوقية رادعة كما تصدت هذه الكتابات لهذا التهميش مع كسر هذه النمطية المفترضة وإعطاء صورة مغايرة عن المرأة في علاقتها بالآخر الذكوري ، من خلال طرح هذه الأسئلة : ما مفهوم الآخر؟، كيف قدّمت لنا القاصّة الآخر الذكوري/الرجل/ العربي والغربي من وجهة نظر نسوية .، لماذا يصبح الأب / آخر/  بالنسبة للأنا الأنثوي ؟، وكل ذلك يتم الإجابة عنه للوقوف على حقيقة الكتابة النسوية التي حملت صيغا جديدة ،وأحدثت طفرة في السرد العربي وأعطت للمرأة مساحة للبوح، وأعطتنا بدورها نصوصا ذات جمالية  فائقة عبرت من خلالها عن رؤيتها الصريحة فيما يخص بنات جنسها من قضايا  تمس وضعهن في ظل احتكار  ذكوري للسرد.

الكلمات المفاتيح:غادة، الآخر الذكوري، الرجل العربي، الرجل الغربي، القصة

La scène littéraire des années 1960 a vu naître de nouveaux stylos féministes et le texte féministe a fait un saut qualitatif, faisant ressortir les problèmes des femmes et leur droit à l'égalité et à la différence, car ce contenu incarnait le conflit entre masculinité et féminité. Ghada Al-Samman est l'un des écrivains qui ont obtenu cette distinction. Une image différente de la femme dans son rapport au masculin, En posant ces questions ?  Quel est le concept de l’autre ? Comment l'histoire a-t-elle présenté l'autre homme / homme / arabe et occidental d'un point de vue féministe ? - Pourquoi devenir père / autre / pour le moi féminin ? Tout cela répond à la recherche de la vérité sur l'écriture féministe, qui comportait de nouvelles formules et apportait une percée dans le récit arabe et donnait aux femmes un espace de révélation, et nous donnait à son tour des textes d'esthétique supérieure à travers lesquels elle exprimait sa vision franche des questions qui concernaient leur sexe, des questions qui affectaient leur statut en tant que monopole masculin du récit

Mots-clés :Autre, masculin, ghada, homme arabe, homme occidental 

In the sixties, the literary scene witnessed the birth of new women writers. The women text achieved a qualitative leap, bringing to the front the issues of women and their rights of equality and difference, and embodied the existing conflict between masculinity and femininity. Ghada al-Samman is one of the female writers who achieved this distinction. Her creative texts brought a kind of innovation at the level of content and revealed the images of marginalization and exclusion imposed on the female. She also revealed the true relationship between women and men as a deterrent super power. These writings addressed this marginalization and tried to break this supposed stereotype, and give a different image of women in relation to the Masculine Other through asking these questions: What is the definition of the Other? How did the author present to us the Masculine Other: The Arab and occidental man from a feminine point of view? Why does the father become an Other in relation to the feminine I? All these questions will be answered in order to unveil the nature of women writing which carried new feature, and radically changed the Arabic narration. It equally gave the woman a new space for expression. Women literature granted us texts with high esthetic value through which they expressed their viewpoints concerning issues that touch their situation within an atmosphere of masculine domination.

Keywords: Other, masculine, Ghada, Arab man, Western man

Quelques mots à propos de :  فاطمة قيدوش

 المركز الجامعي عبدالحفيظ بو الصوف بميلة Fatima.guidouche@yahoo.fr

مقدّمة

تُعتبر غادة السمان من الكاتبات العربيات اللاتي كسرن حاجز الصمت وكتبن متنا سرديا مغايرا، حمل مفاهيم جديدة عن المرأة وقضاياها، حيث خاضت هذه المتون في الممنوع والمسكوت عنه، وامتلكت سلطة تعريته زيادة على سعيها الجادّ في تغيير الصورة النمطية للمرأة في السرد الذكوري، وإعطاء صيغ واضحة لا تشوبها شائبة، وسعت في هذا السرد لتجسيد العلاقة المتوتّرة بين الأنا الأنثوي والآخر الذكوري.

خاضت غادة السمّان في مسألة الذكورة والأنوثة ، وتسجيل موقف من الآخر الذكوري لأن هذه " الموضوعات وغيرها شكّلت الصياغات المحورية والمفردات والتيمات الرئيسة داخل الكتابة النسوية، ممّا شكّل انتقاله نوعية من بند الكتابة التقليدية المتعايشة مع كتابة الرجل، إلى نمط جديد يبحث عن فرادته الإبداعية بعيدا عن منطق الاسترجال لغة وفكرا وإنتاجا أدبيا وبعيدا عن الاستبدادية الأنثوية التي اتّهمها بها البعض "(كاظم، 2013، صفحة 4)وهذا وفق" بنية لغوية مغايرة للآخر/ الذكر، كونها تبتغي كينونة خاصّة مبنية على خلفية واعية مسؤولة لإعطاء الكتابة النسوية معناها الإنساني المنفتح على قضايا الحياة المختلفة مقابل الحرص الثقافي الجمعي على احتواء هذه الكتابة"(كاظم، 2013، صفحة 7).

من خلا ل القراءة المتأنية لقصص الكاتبة تم الوقوف على ثنائيات مختلفة، من مثل الأنا والآخر هذه الأخيرة التي تجلت بوضوح في هذه المتون وكشفت عن صراع أزلي بين الذكورة والأنوثة، في محاولة كل طرف شد حبل القوة ناحيته والانتصار لمفاهيمه، وهذا ما نخلص إليه من خلال تحليل بعض القصص للوقوف على تمثلاّت الآخر الذكوري؛ الرجل العربي، والرجل الغربي، وكذا الأب حيث كانت السلطة الأبوية في أغلب الحالات حاجزا ومانعا لرغبات الذات.

1- مفهوم الآخر

يُعدّ مفهوم الآخر من أكثر المفاهيم استعصاء على البحث منذ الفكر اليوناني إلى اليوم وقد تباينت الرؤى حول هذا المصطلح، لتفرز دلالات مختلفة ومتعددة تقارب بعضها أحيانا، واختلف هذا المفهوم حسب الحقول المعرفية التي تداولته.

بدأت نواة التأسيس لهذا الفكر بطريقة فلسفية مع أرسطو الذي يرى أن الشيء إمّا أن يكون "هوهو وإما أن يكون مخالفا لذلك فهو بالنسبة إلى كينونته هوهو وبالقياس إلى الغير مخالف له"(شحاتة، 2008، صفحة 18)وهذه الرؤية تؤكد أن الذات هي ذات بالنسبة لنفسها في حين تكون آخر بالنسبة للطرف المغاير والمخالف لها .

أمّا  من الناحية الوجودية يرى جون بول سارتر Jean paulsartreالآخر عامل فعّال في تكوين الذات إذ " يرى أن وعي الذات الوجودي يكون بناء على الطرف الآخر، بل ينطوي على عداء يدمّر إنسانيتين لأنّه يربط الكينونة بطريقة جبرية وغير مستقلّة بين لحظتي "ما كان وما سيأتي" فهذا الوضع يجعل الكينونة تصرّف بطريقة مخجلة بسبب الآخر الذي يمنع حرية الاختيار، لذلك اختتم سارتر مسرحيته "لا مخرجَ" بمقولته المشهورة الآخرون هم الجحيم " (الرويلي و البازعي، 2002، صفحة 22).فالذات لا تدرك وجودها إلاّ بفعل الآخر وتأثيره السلبي الذي يكون فعلا حاسما في الممارسة التعسفية لنفي الذات ومصادرة الحرية ويكون بذلك هو الجحيم في ممارساته .

أما الآخر عند ميشال فوكو Michel Foucaultهو: "الا مفكّر فيه في الفكر نفسه، أو هو الهامشي الذي استبعده المركز، أو الماضي الذي يقصيه الحاضر، لكنّه أيضا جوهري بالنسبة لكينونة الخطاب الذي يستبعده، فنحن لا نعرف الحاضر دون الماضي ولا نعرف الذات دون الآخر" (الرويلي والبازعي، 2002، صفحة 22). فيصبح حسب مفهوم فوكو ذلك المهمش الذي يستبعده المركز من تفكيره أو الماضي الذي يبعده ويزيحه الحاضر ومع ذلك يبقى هذا الآخر ذلك الأساس الذي يسهم في تشكيل الذات.

ويرى جاك لاكان Jacques Lacan" أن المرء لا يتشكّل كفرد دون علاقة تربطه بالآخر، فالطفل حين يرى صورا في المرآة فإنه لا يزال يستبدل صورة الآخر بنوع من الأنا ولكنّه تدريجيا يدرك أن الصورة خارجية بالنسبة للذات... وتتحول الصورة إلى علاقة للأنا وهذه مرحلة نظام الرمز، فيتعدد معنى الآخر عنده ، فقد يدخل طرفا في علاقة مع الذات، و يُعدّ المصطلح أداة للربط بين العالم الداخلي للشخص وعالمه مع الآخرين "(محمد، 2012، صفحة 4).فمن وجهة نظر نفسية يرى لاكان أن المرء لا يحقق وجوده دون علاقة كافية مع الآخر تمكّنه من بناء ذات ، وهذا ما يتضح من خلا ل رؤية الأنا للآخر في أناها ،  في مرحلة المرآة لكن سرعان ما تتضح الرؤية وتتبلور الفكرة في كون الذات منفصلة عن الآخر وتتعدد الرؤى حول تعدد الآخر الذي يكون  طرفا في العلاقة بين عالمه الداخلي والمحيط . 

مما سبق نصل إلى أنّ مفهوم الآخر يتحدد حسب الذات مما يجعله مختلفا عنها وهو الغير سواء كان الخصم الذي اصطدم مع الذات وكان معاديا لها ومتمردا عليها أو كان صديقا تعاطف معها وانجذب نحوها " فالفرد يمكن أن يكون آخر حتى بالنسبة إلى نفسه قبل مدة قصيرة، ويمكن أن يتحوّل إلى آخر بعد مدة قصيرة أيضا وكل شخص هو آخر بالنسبة لأي شخص على وجه الأرض"(سرحان، 2015، صفحة 244)، إنه المختلف في الجنس والانتماء الفكري والديني والثقافي.

إن قضية "الآخر "قضية محورية  في الدراسات الأدبية والنقدية العربية ،ولها في السرد العربي مساحة كبيرة في كيفية تمثُّل الذات للآخر لأن "الأدب هو تعبير عن المشاعر والأفكار والآراء الإنسانية ، وكل ذلك حصيلة لتفاعل الأديب في مجتمعه من خلال مواقفه وعلاقاته ومن خلال أدبه ، حين يعكس فهمه للمجتمع أو رفضه له ، فالأديب يتخذ لنفسه دائما موقفا فكريّا من مجتمعه"(اسماعيل، 1976، صفحة 42)

فهذا الأديب يمتلك تجاربه الخاصة التي بلورت شخصيته وكانت المنبع الذي يغرف منه أفكاره ويشكّل إبداعاته وهو في الحقيقة إنّما يعبّر عن نفسه وما يعتريه من أحاسيس، لأنّ الفنّ فيض تلقائي من ذاته والتي هي في الأصل حصيلة تفاعل مستمر بين الذات وذوات الآخرين.

ظهرت كتابات غادة السمّان في فترة شهدت انفتاحا على الثقافة الغربية، والحركات التحررية النسوية والتي ألقت بظلالها على قضايا المرأة العربية وغاصت فيما تعانيه من القهر والتسلّط من قبل الأسرة وكذلك المجتمع بعاداته وتقاليده المكبلة للحرية، ومن حضن ذلك ولدت  هذه الكتابة معبّرة عن الهمّ النسوي في محاولة لكشف المستور وتعرية الممارسات الذكورية  وتهميشها للمرأة، وهذا ما يظهر في المجموعات القصصية من  صور متعددة للآخر الذكوري بصورتيه الغربي والعربي، ضمن  صراع الأنوثة والذكورة من زاوية  نظر نسوية .فـ" في تاريخ الفكر، كما في العلوم الإنسانية، احتلت موضوعات الآخر وما تزال مكانة بارزة نظرا لارتباطها الجدلي بموضوعات أساسية ملازمة : الأنا / الذات - الهوية ... فيصير الآخر بالمفرد والجمع الذي نعيش معه تجارب كالقرابة والصداقة والجوار، أو كالمنافسة والخصومة والعداء ... و هذه التجارب وسواها تحدد بتنوعّها واختلافها طبيعة العلاقات ودرجتها إمّا على صعيد الوعي أو في حقل السلوك والفعل " (حميش، 2003، صفحة 5)،فهذه الثنائيات تعطي صورة واضحة عن الصراع الأبدي القائم على مبدأ الاختلاف.

 تُبدي الذات موقفها من الآخر الرجل الغربي في مراحل اكتشاف الآخر وثقافته ؛" مرحلة التطلّع والانبهار، مرحلة التودّد والتقرّب ، مرحلة المواجهة والصدام، مرحلة رفض الآخر والعودة للوطن "(سرحان، 2015، صفحة 239)ما أن هذا الصراع لم يقتصر على مواجهة الآخر الغربي فقط  "وإنّما ظهرت في النصّ مواجهة حضارية بين الذات والآخر الشرقي، الذي هو جزء منها ومن مجتمعها الذي تنتمي إليه، ولكنْ بينهما اختلافات عديدة في الفكر والثقافة ؛ مما جعلهما في صدام ومواجهة، وتمظهرت مراحل صراع الذات مع الآخر الشرقي في: مرحلة قلق وتوجّس ، مرحلة تمرّد الذات على الآخر الشرقي، مرحلة خضوع واستسلام الآخر الشرقي للذات"(سرحان، 2015، صفحة 239). فهذه تمثيلات الآخر الذكوري وصراع الذات معه في صوره المختلفة، الذكوري (الرجل/العربي والغربي، والأب) والتي كشفت عما يخفيه الآخر من سلوك وممارسات.

2- الآخر الذكوري

2- ا -الرجل العربي

تنظر الأنا الغربية إلى الآخر العربي بعين عدائية فيها صداما ثقافيا بين حضارتين مختلفتين عن بعضهما البعض، ويتجلّى ذلك في قصة " سجل أنا لست عربية" التي حملت في متنها رغبة الأنا الغربي في كشف عيوب هذا العربي القادم إلى مدينة باريس بكل عقده.

تبدأ علاقة الأنا الأنثوي الغربي بالآخر العربي علاقة حميمية  في البداية ،حينما يتطلع كل طرف إلى مغريات الآخر وتنتهي بالزواج لتكتشف بعدها هذه الشخصية مساوئ وانتهازية الآخر " إنه متناقض، متسلط ... لقد تحول هذا الزواج إلى إهانات وإذلال وضرب يومي لي وإرغامي على العمل في بيوت أكبر عدد من الناس لأعود إليه وهو يحشش ويذلّني وينشد: سجل أنا عربي "(السمان، 1994، صفحة 72)

ففي العرف الاجتماعي العربي الإسلامي يقوم الزواج على بناء أسرة متماسكة هدفها الحفاظ على النسل وعمادها الألفة  والرحمة ، غير أن هذه العلاقة السامية في الأصل بُنيت على المصلحة الذاتية الضيقة جدا فظهر صدام كشف عن طبيعة و صفات العربي وتصرّفاته السيئة التي تلقّاها  من الموروث ، حيث وظف سلطته الذكورية  لقمع المرأة وتحقيرها وتهميشها لأجل أغراضه الشخصية الدنيئة، ويضمر هذا الخطاب استهزاء من هذه الشخصية التي تتغنى بقصيدة محمود درويش "سجل أنا عربي"، التي توحي بذلك العربي الذي يحمل كل صفات الرجولة  والعزة والقوامة التي  تُحمّله مسؤولية حماية المرأة وصون عفتها داخل البيت، ويكون قائما على كلّ متطلباتها.

لقد تملصت الشخصية الذكورية من التكليف وأصبحت مجرد عالة على الأنثى وعلى المجتمع، فهو سلبيّ متناقض يدعي الرجولة ويمارس عكسها ويحاول أن يظهر فحولته بممارسة سلطته، " إنه يستولي على راتبي، لكنّه يتقدمني بخطوة حين نمشي معا! يشتمني لأنني فرنسية ويقتل نفسه للبقاء هنا "(السمان، 1994، الصفحات 71-72).

يعكس هذا المقطع الاستلاب التي تتعرض له المرأة والظلم حينما يتم الاستيلاء على راتبها وفوق ذلك يُهينها لأنها فرنسية في الوقت الذي سعى واجتهد للظفر بها، وظل  يعيش في بيتها ويدعي القوامة حينما يتقدمها في المشي ، وتقدم لنا الكاتبة إشكالية المفهوم الخاطئ للقوامة الذي يستند عليه الرجل حين يتقدمها أثناء المشي معا آخذا بالقشور من معنى القوامة ، لا بالمضمون فلا ينفق عليها ولا يتولى شؤونها ، بل يأخذ راتبها ويصرفه في ملذاته، وهذا ما يبين ازدواجية وتصرف العربي حينما  لا يعمل بما جاء به هذا المفهوم ويقوم بشتم هذه المرأة.

ويظهر العنف والانتقام من أجل تحقيق هذا المسعى   حين تقول " قالت لي بالفرنسية: إنّني حامل. الصافي يضربني... رفضوا إعطاءه إذنا بالإقامة لأكثر من عام لأنّ الكثيرين من العرب يتزوجون من فرنسيات بهدف الإقامة لا أكثر. ما زال بلا عمل يقضي وقته في إنفاق راتبي ... يضربني ثم يثمل ويغني سجل أنا عربي "(السمان، 1994، صفحة 71)

كل ذلك يكشف عن غاية العربي، فهو يرفض الآخر ويرفض حضارته، ومع ذلك يسعى جاهدا للإقامة عنده بهدف تحسين  مستوى المعيشة وليس بناء أسرة متكاملة متكافئة يحترم فيها هذا العربي زوجته، وخاصة حين تمر بظروف  صحية من الواجب يكون فيها أقرب إليها من حبل الوريد، وليس تعنيفها وظلمها " مزّق لي بطاقتي الشخصيّة الفرنسية وصوري وكسّر التلفزيون والأثاث وخلّف الأذى ... عقابا لي لأنّني شكوت إلى البوليس ضربه لي ولجأت إلى القانون الفرنسي وطلبت إخراجه منها ، فإيجارها باسمي وأنا هنا مواطنة لي حقوق كأيّ ذكر مثله"(السمان، 1994، صفحة 76).

يمارس الذكر سلطته ويحاول إثبات وجوده ، وحينما يفشل في تطبيق أعرافه وتقاليده  في مجتمع يختلف عن مجتمعه في التقاليد والدين والقانون الوضعي يقوم بتعنيف الطرف الآخر، وهذا ما يظهر غضبه من هذه المرأة التي أهانت فحولته وطردته من البيت، بينما يكون له حق فعل ذلك في مجتمعه ، وكل ذلك يضمر همجيته عند فشله في بلد يساوي بين الأنثى والذكر في الحقوق والواجبات معتمدا على قناعاته الخاطئة وترفض الأنا الغربية الآخر العربي الجائر الذي تحميه قوانينه وتزكي تصرفاته " جاء ذات يوم بغانية إلى شقتي وقال أنّه يريد الزواج منها وسيرغمني على الإقامة معها وهذا حقه ، وإنّي سأكون واحدة من أربع نساء . اتصلت ليلتها بالبوليس فجاء وطردهما بوليس بلده لن يفعل الشيء ذاته لو كنّا هناك وأنا لا أستطيع أن أقبل ذلك الإذلال ولست مضطرة فلي عملي وثمة قوانين عصرية هنا تحميني ولن أدخل متاهات قوانين غابرة لا أفهم فيها ولن أدع أحدا يدمّر حياتي بعد الآن ... سجلي! أنا لست عربية !"(السمان، 1994، صفحة 79)

يمثل الآخر للأنا الغربية كل القسوة والهمجية لما تمليه عليه سلطته المستمدة من قوانين العرف وبالمقابل أذلته لأنّ القانون الفرنسي يحميها، زيادة على أن عملها يمنحها التحرر فهي ليست بحاجة إليه لأنها تملك موردا ماليا يضمن لها حياة كريمة، فالتحرر الاقتصادي من قبضة الرجل يُمكّن المرأة من إبداء رأيها زيادة على ممارسة حريتها ورفضت فوق ذلك الانتماء إليه من خلا ل التأكيد بعبارة "سجل أنا لست عربية "، نتيجة اختلاف التركيبة الاجتماعية والأخلاقية والثقافية لكل منهما.

ونتيجة العنف الشديد الممارس ضدّ هذه المرأة يتحوّل في نظرها الآخر الذكوري إلى شبح قاهر مخيف يترصّد خطاها ويتصيّدها " تقول وهي ترتجف: الشبح موجود في بيتي الآن ( إذن فهي تُحسّ بكهارب حضوره بسيّالاته النفسية المتدفقة كالشلّالات حتى هنا)"(السمان، 1994، صفحة 72)فالرجل بعنفه يدمّر الأنا ويخلف فيها آثارا جسدية ثُمّ نفسية حينما تتخيّله في كلّ الأمكنة رغم بعد المسافات ويصبح شبحا يهلك حضورها أينما كانت ويطاردها أينما حلت مما يظهر عنفه الزائد .

تكشف الكاتبة في هذه القصة عن الوجه السلبي للرجل العربي  مع أناه الغربية والتناقض بينهما إلى حدّ استحالة العيش معا كما تجد له تبريرا أخر حين تقول " بعض الرجال ما زالوا يضربون نساءهم في كلّ مكان وإنّ ذلك لا يقتصر على الرجال العرب "(السمان، 1994، صفحة 73)ومن زاوية نظر نسوية ترى الكاتبة أن الرجل يحمل في جيناته  رغبة قهر المرأة واضطهادها في كل الحضارات الإنسانية ولا يقتصر أمره على العربي الذي ظهر بهذه الصورة النمطية .

وتختلف نظرة الأنا الغربية للآخر العربي في قصّة "الساعتان والغراب" حيث نجد هذه الذات تتعلّق بالآخر وتتعلق بشخصيته وتبحث فيها عن كل الإيجابيات التي تجعلها تتمسك بها  من خلا ل البطلة "أيدا " التي عاشت في الغرب منذ ولادتها  وتطبعت بطباعه وغرفت من ثقافته "كنت أجد صعوبة في الرد بالعربية، لكنّني كنت أفهم كلّ حرف، وكنت أستمتع بسماع كلماته مثلما يحسّ سجين في المنفى حينما يسمع أغنية كانت أمّه تنشدها له في طفولته لينام، يغنّيها سجين آخر عبر الجدران الحجرية للسجن"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 72).

فهذه الذات عندها قابلية التعايش مع الآخر وتقبله والسعي للذوبان في ثقافته، فهي تظهر رغبتها من خلا ل اعتبارها ذلك الرباط الروحي الذي يشدها إلى أرضها ويفكها من أسر الاغتراب وتصبح تابعة للآخر لا تستطيع الخلاص منه، بل ترى فيه المنجد لها والطفل الذي يظل ضعيفا متعلقا بأمه وذكرياته الطفولية، وهذا يضمر ضعف الغرب أمام سحر الشرق حينما يكتشفه كانت رائحة زهر " الكادي" التي قطفها لي تفوح من صدري حيث دفنتها... كنت أتأمل أصابعه وهي تقطف الأزهار في الظلام وأكاد لا أصدّق.. هذه الأصابع التي طالما توتّرت على زناد بنادق ورشّاشات وشدّت عليها لتطلق النار. وهذه الأصابع التي طالما التفّت حول مقبض خنجر في الظلام تحفّز صاحبها للقفز كفهد، ها هو الآن أمامي بالأصابع نفسها يقطف أزهار الليل والحبّ وكأنّه مخلوق أثيري من مسرحية  ( حلم ليلة صيف لشكسبير)"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 126)

هذه الذات ورغم اختلاف الهوية والعادات والتقاليد، إلا أنّها تتجاوب مع الآخر بهدف بناء تواصل حضاري بينهما، وهناك رغبة قوية للحفاظ عليه ثم ترسم البطلة للآخر العربي "فضل صورة نضالية راقية لبطولاته ضد المستعمر فيقدّر الأنثى ويحرّرها من قيد الحضارة الغربية "كم بكيت في الليل حينما كان يعيدني إلى فندقي. ثمّ يتلاشى في الظلمة مثل نقطة مضيئة تبتعد ويخلّفني وراءه مثل شيء، مثل شجرة، مثل المقاعد الحجرية"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 129).

كشفت هذه العلاقة عن ذلك الاختلاف بين الرجل العربي ومثيله الغربي حين يصبح الآخر سبب وجود الأنا، فهو من يجعلها تحسّ بوجودها، وأنها إنسان لها كيّان، وقد تتحول عند فقدانه إلى مجرد شيء من الأشياء، تعبيرا عن تشيئ المرأة في الغرب.

وتتعلق أكثر بالآخر العربي وتُعجب بأفكاره التحرّرية والعملية، في حين يرفض هو أفكارها النظرية " إنّك تتحدّثين من الخارج، مثل أيّ خبير أجنبي أو مستشرق. إنّك لا تعرفين كم نعاني، وطريقنا طويلة ومشكلاتنا لا تُحلّ بالفذلكات اللفظية"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 137)

كما يُبطن الخطاب تلك الانتقادات التي وُجهت للنظرية النقدية النسوّية التي تعتمد على التنظير وبعيدة عن التطبيق الفعلي في صياغة نظرية نسوية موحدة تجمع حولها كل الآراء النسوية لتقوم على أساس الفعل لحل مشاكل المرأة.

وفي قصة "يا دمشق" من  مجموعة "ليل الغرباء تظهر الكاتبة نظرة الأنا الغربية للعربي من خلا ل الحوار الموالي من :(السمان، ليل الغرباء، 1966، صفحة 76)

- وهل اسمها يشبه اسمي أيضا؟

- أجل اسمها سوسن يا سوزان!

- طباعها شخصيتها، أفكارها، هل تشبهني أيضا؟

- أجل لها عنادك واعتدادك وطموحك وقوة شخصيّتك أي جميع الصفات التي أحبّها فيك

- وهل ستتزوج منها حينما تعود؟

- طبعا لا

- لماذا؟

- لأنّ لها نفس الصفات!

- أيها الشرقي المتناقض..

تجر هذه الأنثى الرجل العربي  من خلال الأسئلة  للكشف عن أغواره، وتقف على سلبياته في عمليّة المقارنة بينها وبين الآخر الأنثوي العربي، لتقف على حقيقته فهو يؤمن بشيء ويكفر بآخر ففي الوقت الذّي يؤمن بالحرية والتحرر وإقامة علاقة معها، يرفض ذلك إذا تعلّق الأمر بالطرف الآخر  العربي راضخا  في ذلك للموروث الثقافي  والاجتماعي الذّي تشبع به، والذي يرفض هذا التحرر وينظر لهذه المرأة  التي تخلت عن أنوثتها واسترجلت  فالرجل العربي يبحث دائما عن المرأة المطيعة التي تخضع لكل القرارات ولا تبدي نقاشا لأن ذلك يثير حافظته 

2- 2-الرجل الغربي

تكتشف الذات حقيقة الآخر بمجرد اكتشافها لذاتها والوقوف على هويتها وهذا ما نقراه في قصة الساعتان والغراب" عامان بعد الجامعة وكل لحظة نعيشها معا ... نخطّط فيها ليوم زفافنا الذّي كان من المفروض أن يتمّ اليوم... واليوم، إذ أفكر بك، أحسّ أن قلبي يستحيل ثلوجا كتلك المكعّبات التي اشتريناها.. اليوم.. بيني وبينك قارّات وبحار ومئات الأميال"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 155)

تعيش هذه الشخصية في توافق فكري واجتماعي مع الآخر المماثل الطباع وفي حرية تامة في المجتمع الغربي فتقيم علاقة مع الطرف الآخر وتلازمه، وتخطط للزواج به، غير أن ذلك يتحول مع الوقت ويصبح حدوثه من المستحيلات، وترفض الآخر الغربي حينما تقف على هويتها المختلفة عنه ويكشف الخطاب عن حرية العلاقات الجنسية قبل الزواج والإباحية في المجتمع الغربي القائم على الحرية الفردية وهذا يبين الاختلاف الحضاري بينهما.

كما تسعى هذه الذات إلى تهميش الآخر الذكوري الغربي وإلغائه " كأنّني أرى صورة رجل لا أعرفه. لا أكرهه ولا أحبّه ولا دخل لي به. ولا أدري من الذّي دسّ بصورته تحت وسادتي(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 155).

تسعى هنا المرأة للتخلّص من الرجل حين اكتشاف أصلها وهويتها العربية، ومعها تهمّش حضارة غربية بأكملها، برغم مغرياتها وجمالها، وهذا ما تجلى من خلال جمال هذه الشخصية الذي كان سببا مباشرا للتأثير عليها " عيناه واسعتان خضراوان. الشعر كستنائي ومضيء والابتسامة حارة على شفتين"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 116). تعلي من قيمة وجمال الآخر وما يملكه من إغراء وتعلي معه قيمة الغرب ومغرياته التي تضعف الأنثى، لكنّها بالمقابل تضمر قوة المرأة وقدرتها على السيطرة على ذاتها أمام الرجل الغربي ومغرياته." وكنت أحسّ بالخيبة.. فأنت كإسباني الأصل في دمك بعض من دمي.. وهكّذا خيّل إليّ في البداية.. ومن المفروض أن تفهم بعضا من جنوني "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 119)تحس هذه الأنا بالقرب من الآخر الغربي ذو الأصول الاسبانية وما لها  من  امتداد تاريخي ضارب في عمق الحضارة العربية إلا أن ذلك لم يشفع له في فهمها والوقوف على لحظات جنون الفكر لديها أو ما يعتريها من تصرفات تنبئ بأنها عربية الأصل فيها ما ورثته فطريا من حضارتها .

وتكشف عن طباع كل الذين كانت لها بهم علاقة خاصة "وميشيل الفرنسي زميلنا في الجامعة كان يتقن التقبيل أكثر منك وتنميق الألفاظ والتحليلات النفسية الفرويدية" (السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 28)تظهر  الكاتبة ميزات هذا الفرنسي وتكشف عن ثقافته من خلال  طبيعته  الرومانسية ولباقته وحسن تعامله  فهو من شعب متحضر  السلوك رومانسي العلاقات و" ريتشارد الإنجليزي كان أفضل منك في لفّ سجائر" الماريوانا" وصنع مخدر أل. أس.دي"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 28)والانجليزي الذي يملك القدرة على لفّ السجائر المخدرة " وولفايك الألماني كان حصانا في مرج المتعة لا مثيل لأصالته ووحشية ركضه "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 28).وتظهر قدرة الألماني في الجنس وكل هذه الأمثلة الذكورية إنما تخفي خلفها حرية العلاقات  في مجتمع يغرق في براثن الفساد و المخدرات والجنس والحريات الفردية ،والمرأة تملك الحرية في تعدد العلاقات في الغرب

ثم يأتي الآخر الغربي في مجموعة لا بحر في بيروت حاملا  أفكارا مسبقة عن المرأة العربية وذلك لما أسست  له الثقافة الغربية  من خلال المستشرقين الذين أعطوا صورة خاطئة عن هذه المجتمعات وعن المرأة خصوصا " أنت جارية ساحرة أنت عاهرة تاريخية "(السمان، لا بحر في بيروت ، 1963، صفحة 14).

فهذه الصورة الحريمية للمرأة في الفكر الغربي كما رسمها المستشرقون  تظهرها كائنا ساحرا أو جسدا شهوانيا مثيرا للعواطف "، فبمجرد ذكر الشرق أمام الغربيين يتبادر إلى  أذهانهم أنّه مرتع الشهوات والملذّات، وبمجرد لفظ كلمة 'حريم' ، يتبادر إلى أذهانهم ذلك المخلوق الخامل العاجز، القابع خارج دائرة عجلة التاريخ فالمرأة في التراث الغربي لا يصلح لحالها الخروج عن المألوف بمحاولة في مساهمة علمية، أو سيّاسية أو اقتصادية في مجتمعها، بل يلزمها أن تمتثل للحدود التي رُسمت لها (لعرافة، 2018، صفحة 113)فهي مجرد أنثى ومرتع للذة  وهذا ما يظهره الحوار الآتي: (السمان، لا بحر في بيروت ، 1963، صفحة 15)

- يقول بالفرنسية أحبّ رأسك الجميل..

- أقول بالعربية رأسي ليس مجرد ديكور صحراوي محرض للغرائز...لو عرفت ما يدور فيه لهربت مني ...

- يقول بالفرنسية أحبّ نساء ألف ليلة وليلة اللواتي خلقنا للحب مثلك! زوجتي بباريس مديرة شركة تعمل وتفكّر. كم أكره ذلك.

- أقول بالعربية أكثر البورجوازيين يكرهون ذلك، إنّه ضدّ نظامهم القائم.

- يقول بالفرنسية أنا أحبّ أن تظلّ الأنثى أنثى..

.................................................................

يقول بالفرنسية أيتها الجارية كم ثمنك؟

أقول بالعربية أيها الرجل، لو أعجبتني لسألتك كم ثمنك؟

يطرح هذا الحوار جدلية الأنا والآخر المحافظ على الهوية من خلال إصرار البطلة والرد باللغة العربية ، فهي المرأة العربية التي رسمها الغرب في مخياله أنثى الحلم والخيال والجنس ، امرأة ألف ليلة وليلة تصبح فيه مجرد جسد لا يفكر، في حين تبدي المرأة الغربية العقل المفكّر الذي يجد الحلول للمشاكل ،وتُعلي الكاتبة من قيمة المرأة العربية حين تكسر نمطيتها في الفكر الغربي، فبإمكانها أيضا تحقيق ذاتها دون أن تتخلى عن أنوثتها فالجانب العقلي والجسدي لا ينفصلان عن بعض وهذا ما تراه النسوية في أن المرأة كائن بشري وإنساني تتساوى فيه مع الرجل في الحقوق والواجبات .كما يخفي الخطاب ذلك التصريح والمجادلة بين المرأة الحرة العاملة والرجل البورجوازي، ذلك الصراع القوّي بين الاشتراكية  التي منحت الإنسان إمكانية التواجد واثبات الذات من منطلق الحقوق والواجبات وبين الرأسمالية التي تسعى إلى تشيئ الإنسان وتحويله إلى آلة في الغرب ، ومن جانب آخر نسوي تكشف  المساواة  بين المرأة و الرجل.

3--الآخر الأب

يمتلك الأب التفويض الكلي، ويصبح الطرف الفاعل في ذلك، مستمدا قوته وهيمنته من العرف الاجتماعي والتقاليد التي تقر هذه الثوابت وتزكيها. وتتجلى السلطة الأبوية في قصة "رجل في الزقاق " من مجموعة " رحيل المرافئ القديمة" من خلال البطلة التي تعيش في البداية حالة اتصال مع الآخر – الأب- الذي يظهر بقيمة إيجابية وهذا في قول الشخصية : " ظلّ أبي الرجل الأول حتى كدت أبلغ الرابعة عشر... ظلّ ينتزعني من مساكب الشمس في أرصفة زقاقنا ويحملني بين ذراعيه الحانيتين مدللا حتى صبيحة ذلك اليوم المشئوم "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 90).

تعيش الذات الأنثوية حالة من الحصار والكبت والمراقبة الدائمة وهذا ما يتضح من قول الشخصية "الرجل الأول " دلالة على أن القانون والعرف لا يترك المرأة بمفردها ويجب أن يكون حام لها؛ لأنها  في نظرهم قاصر يجب توفير الحماية لها على مدى  مراحل تكوينها ويكون بمثابة الرقيب لها  حيث "تخضع البنت منذ الصغر لرقابة مسلكية وأخلاقية صارمة ،فصوتها يحب أن يكون خافتا وضحكتها منخفضة ، وحركتها هادئة ،ومشيتها متزنة ،ونظرتها منكسة ،ولباسها محتشما"(السيوف، 2002، صفحة 13).

تظهر العلاقة الطيبة المبنية على الألفة والحنان مع الآخر الأب في مرحلة الطفولة،  بحكم أن البنت تميل إلى الأب كما يري سيغموند فرويد بأنّ الأنا الأنثوي يميل إلى الآخر الذكوري غير أن ذلك سرعان ما يتغير نتيجة التغيرات البيولوجية لهذا الجسد وهذا ما خلق فجوة وانفصالا بينهما ، وتتوتر العلاقة بين الطرفين ليتحول الأب الحميمي إلى الأب السلطوي المانع الكابح ، وتتجلى هذه السلطة الأبوية بمجرد ما يقف هذا الجسد ويظهر ما فيه من أنوثة " كنت أقف على إطار هذه النّافذة بالذات أمسح زجاجها بحيوية أربعة عشر عاما، ثوبي الحريري يكاد يتمزّق عن جسدي ، الفجر الوليد ينسكب من صدري وزندي... ورأيت أبي يقف أمام باب الغرفة مشدوها "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 90).

ففي الوقت الذي تحتفي فيه الأنا بالجسد الأنثوي الثائر أنوثة والمتمرد على حدود الثوب ليكشف عن أنوثة ناضجة في سن مبكرة، الذي يبرز الشخصية ويظهر الأنوثة يكون في الآن ذاته عائقا أمام هذه الشخصية " نظراته عالقة بصدري حيث انتفض برعمان متمردان، يدفعان الثوب بتحدٍ..  بقوة الحياة.. تشنجت نظراته هناك ولاح فيهما صراع قصير غريزي "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 91)

 لقد صار الجسد مانعا وعائقا بينهما، ينظر إليه الآخر- الأب- بنوع من الريبة والخوف وأنه من الموانع التي يجب حجبها وتكميمها، فهذا الجسد هو عار ويجب إخفاؤه، لأنّ ذلك متجذر في اللاّوعي الأبوّي المتوارث جيلا بعد جيل.

إنها نظرة الخوف المتأصلة في الأبوة للحفاظ على قداسة الجسد وخوفا من التدنيس، فيخلق هذا الهاجس شرخا في المخيلة الأبوّية التي طالما حافظت على هذه الذات في مراحل الطفولة، وفي مرحلة البلوغ ليصبح الجسد عنوانا للشهوة والخوف، ولذا يجب الاحتراس من العار الذي يجلبه بمجرد تدنيسه.

وتعزز الكاتبة احتفاء الأنثى بهذا الجسد وأنه سرّ وجودها   " لا يمكن أن تظَلّ دميتك المدللة إلى الأبد ألا ترى أنها امرأة؟ "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 91). يكسر هذا التساؤل رغبة الفحولة في الخلاص من هذا الجسد وتقزيمه. مما خلق نوعا من الحواجز بين الذات والآخر – الأب- وكسرت تلك المشاعر الراقية بينهما حينما أدرك أنها مجرد أنثى تحمل جسدا مخيفا قد ينفجر في أي لحظة ويطيح برجولته وهيبته " حدث هذا كله في أقل من ثوان في التقاء نظراتنا.. وشعرت بإيحاء مكهرب! إنني أتيت جرما منكرا ... إن مجرد كوني امرأة عار لا يغتفر.. إن في صدري وبروزه خيانة لصداقتي مع أبي "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 91)وبهذا تحمل الأنثى عار أنوثتها المتوارث منذ الجاهلية، فهي عار يجب التخلص منه باحتراس.

إن الذات تعيش حالة إرباك مع الأخر وبطريقة لا شعورية تعمل على إخفاء معالم هذه الأنوثة الذنب " ودون وعي مني، قوست كتفي إلى الداخل، وكأنني أستطيع إخفاء صدري عن لسع نظراته.. فنحن لم نتبادل أي حوار!! لكنني فهمته جيدا كما فهمني "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 91)

إنها نظرة مشفرة تحمل وراءها رسالة تساؤل عن هذا الجسد وهذا الصدر المخيف الذي كان حدا فاصلا للعلاقة البريئة التي انتهت إلى انفصال كلّي، يجسد في الحقيقة همّا نسويّا منذ الأزل لا يقتصر على هذه الأنثى فقط، وإنما يتعداها لكل بنات حواء " صدري يضجّ بعويل مبهم الأنات ثار واستيقظ منذ ذلك اليوم المشئوم... فيه بعض من صرخات طفلة موؤدة في عصرنا وفيه بعض من نحيب أمي المختلس في غرفة نائية الجدران.. وفيه من مذلة إخوتي الثلاث اللواتي تزوجن بعد أن زارتنا خاطبة ثرثارة تشبه الساحرات "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، الصفحات 91-90).

لقد كشفت الذات عن معاناة الأنثى أمام السلطة الأبوية التي عملت على تهميش المرأة وإقصائها بوأدها ماديا ومعنويا بين الماضي والحاضر، فهي المرأة الأم المقهورة الذليلة التي تعيش حالة الإقصاء، والأخت التي تحمل على عاتقها عبء الموروث الثقافي الذي يرى فيها حملا يجب الخلاص منه.

وتبدأ السلطة الأبويّة في قول الكاتبة " انتهت سنوّ دراستي في الثانوية وسجنت في الدار"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 92)، فهذا الأب تحول من الأب الإيجابي إلى الأب السلطوي الذي فرض قوانينه على ابنته ومنعها من الدراسة لأنه اكتشف أنها لم تعد طفلة ،وأنها صارت تحمل جسد الفتنة الذي يجب تكميمه داخل البيت حتى لا يأتي بالعار داخل هذه الجدران التي تكون في نظر السلطة موانع للحفاظ على الجسد ، وتكون بمثابة سجن يقبع الحرية ويقتل الأمل بالنسبة للأنثى .

 غير أن الشخصية تتمرد على هذه العادات والتقاليد وتكسر هذه الجدران من خلال الحلم كغاية سامية تخرج من خلالها من الحواجز المقامة إلى حيث تعانق أفضية رحبة " أحلم بكلية الطب التي شغفت بها حبا، أخلق من الأوهام زملاء أقف أمامهم في فناء الجامعة بثيابي المحتشمة نظيفة الوجه معقوفة الشعر، وقد فردت كتفي وشددت صدري إلى الخارج ... لماذا لا أجرؤ يوما على أن أبوح بهذا كله لأبي ؟؟"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 92)

تكسر الذات الكبت والحصار وتقفز على هذه السلطة المقيدة للحرية عن طريق الحلم بالتحرر والذهاب إلى الجامعة  وفي ذلك رفض تام لهذه القيود المفروضة لإكمال الدراسة وفق شروط نظامية تراها السلطة الاجتماعية والثقافية ضوابط للسلوك الحسن بالثياب المحتشمة والسلوك الملتزم ،  وتمكنها من الدراسة الأمر الذي يمنحها الحرية والتحرر من هذه القيود ؛ لكن الحلم يصبح ممنوعا وذلك لشدة هذه السلطة وجبروتها ويتجلى ذلك في الاستفهام  الذي تطرحه : " لماذا لم أجرؤ يوما على أن أبوح بهذا كله لأبي ؟؟"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 92).حيث تصادر الأحلام والأمنيات .

ويمارس الأب سلطته على الشخصية من خلال توظيف سلطة الأخ كنائب وحارس على هذه الأنثى" أخي الرجل الثاني في حياتي ... رفيق دربي أربع مرات في اليوم وحارسي الأمين أثناء ذهابي إلى مدرستي(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 92)" ، تتجلى سلطة الأب في أحد رموزه الذكورية - الأخ- التي تحمي المرأة الضعيفة ، غير أن الآخر - الأب - لا يهمه من هذا المنطلق النجاح بقدر ما يهمه موعد خلاصه من البنت، ويصبح الأمر إجباريا من خلال ما أصدره هذا الأب من قرارات بكبح رغبات ابنته الحالمة ليصير البيت بمثابة السجن المقيد للحرية خشية تمرد هذه الأنثى وخوفا من الجسد وخضوعا للأعراف التي ترى في المرأة كائنا بيتيا مهمته القيام بالأعمال المنزلية والإنجاب.

تقف الذات أمام الآخر في محاولة للتعبير عن رأيها وإيضاح فكرتها بإتمام الدراسة، لكن الآخر الممارس لسلطته يرفض الحوار ويبعث الخوف والتردد في نفسها " أبي.. أرجوك.. أعني هل من الممكن.. أقصد.. هل يمكن أن أحلم بالذهاب إلى كلية الطب "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 93)

تعيش الذات حالة من الكبت والخوف والتهميش، مما وقف حائلا أمام علاء صوتها والمطالبة بحقها فهذه الدوال (أرجوك، أعني، هل من الممكن، أقصد، هل يمكن) تعكس اضطراب الشخصية وترددها وضعفها في إبداء رأيها، وذلك إنما يدُل على أنها تعاني من القهر والتهميش أمام الآخر الذي يملك السلطة والنفوذ، وذلك ما تكشفه صيغ الرجاء.

وبعد الرجاء الذي يظهر استعطاف الآخر، ويبيِّن الرغبة الجامحة تتوارى تلك الرغبة حينما تصطدم بالسلطة لتتحول إلى مجرد طلب بسيط لا تأمل في تحقيقه وتنهيه بإبعاد الأمر ليصير في النهاية حلما بعيدا يصعب تحقيقه ما دام القرار بيد هذه السلطة المانعة التي أعطت ردا واضحا يؤكد الموانع السابقة، "وكم كان جوابه مختصرا وبليغا: صفعة على خدي، بصقة على الأرض.. وتخبط الحلم الذهبي بين سنابك واقعي"(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 93)، وهذه العبارة تكشف عن العنف الجسدي والمعنوي والاستلاب والقهر والإهانة  والإقصاء.

ثم تهرب الذات إلى الحلم للتنفيس وتحقيق هذه الرغبات الممنوعة للخلاص من الأوضاع المتأزمة والجدران التي تخنقها " كم تزينت وتسللت إلى هذه النافذة في وضح النهار منتظرة مرور أحمد.. أعرض عليه مفاتني بقدر ما تسمح به النافذة الضيقة ورعبي من أن يضبطني أبي "(السمان، رحيل المرافئ القديمة ، 1973، صفحة 93). وبهذا تقف الذات على كنه الجسد فتعمل على تجاوز هذه الجدران الحاجبة له، وذلك بمحاولة عرضه على الآخر- الرجل- رغبة منها في إظهار مفاتنها متحدية العرف الاجتماعي والعادات التي رأته عورة، وكانت سببا في منعها من تحقيق حلمها، امتثلت للنسق الثقافي الذي يرى في الجسد شهوة ولذة وإغراء كما علل ذلك فرويد.

تعيش الذات حالة استلاب فتبحث عن منفذ من السلطة التي حجبتها بين أطر اجتماعية عن طريق البحث عن الآخر المنقذ لها والتي تراه عبر الحلم رجلا مكتملا فيه كل صفات الرجولة التي تعوضها صورة الأب المتشظية " وأحببته مبهما مثيرا.. وأحببته شبحا تحوك أمي وجاراتها أساطير طويلة عنه. خيالا لا أعرف عنه سوى جسد غامض يتحرك ليلا في الزقاق "(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 93).

إنها الرغبة في البحث عن معادل آخر تغير به الوضع، رجل يكون متفهما ليس كوالدها المتسلط، تبحث فيه عن الكمال، وذلك عبر الحلم الذي منحها إمكانية تجسيد كل الصفات المرغوبة والمضمرة في اللاشعور " أحببته وهما نائيا ساحر البعد.. مدينة عجيبة الالتماع.. أحببته جزيرة مرجان ضبابية غارقة في بحار فيروزية.. وأنا على الشاطئ القفر.. تشدني إليه نظرات أبي وذعر أمي "(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 93).

إن منطلق هذا الحب كان من مبدأ الحلم، فهي مجرد صور مكبوتة تجيء من عمق الطفولة المغتصبة وكل ذلك الوصف (ساحر البعد، مدينة عجيبة، جزيرة المرجان، بحار فيروزية) هي أوصاف ومشاهد من ألف ليلة وليلة تمنحها تأشيرة العبور إلى مدينة الرجل الفاضلة حيث يتجاوز طبيعته العادية ويصبح رجلا كامل الأوصاف الجمالية والخلقية كما تراه النسوية.

 وتبقى الذات في حالة من القلق والتوتر والرغبة في الخلاص وكسر قيود السلطة الأبوية، غير أنها تستيقظ على واقع مرّ حينما تدرك أن الآخر الرجل لم يكن سوى حلم " جاء في موكبه المريع بعد أن ناديته ليالي وليالي بعينين معصبّتين.. إنه يقترب.. إنه يقترب وأنا ما زلت واقفة كتلة من صقيع"(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 97).

يوحي هذا المقطع بذات مسلوبة الإرادة والفعل تفر إلى أحلام اليقظة لتحقق الهروب المتخيل إلى عالم سحري بعيد عن الأب الجائر، غير أنها تدرك في نهاية الأمر أنها ستكرر مأساة جديدة " مسامير حذائه تزحف على وجهي في كل خطوة.. القيد ينغرس في لحمي كاوي البرودة .. أريد أن أهرب.. أبي يقف أمامي في يده صفعة وعلى شفتيه بصقة.. أريد أن أهرب.. أمي تجفف قدمي والبرود ينسكب من أصابعها.. أريد أن أهرب.. البرود ينسكب من أجيال تعول في صدرها" (السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 97)

لتدرك الأنا أن جبروت الآخر- الأب- يأخذ صورة مصغرة في هذا الرجل الذي استفاقت على حقيقته وأنه مجرد إله ممسوخ حيث يتحول حضوره إلى كابوس لا ينتهي مؤلم ومؤذ ويصبح الهروب منه غنيمة حتى لا تتكرر مأساة حواء، وتعبر عن ذلك الخوف بتكرار (أريد أن أهرب)، حيث يصير الهروب من السلطة التي تريدها صفقة مربحة بين رجل غني وأب تملأه رغبة الخلاص من الجسد الفتنة وكل ذلك يتم في مزاد علني " نظرة أبي القاسية تنسكب فوق رأسي، إنني أدور أمام الرجل بتقديم كأس ماء.. أعرض عليه غنائمه ، عيناي تصرخ به: ارفع الثمن"(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 97).

ويدفع الأب بابنته للبيع عبر عملية عرض وطلب حيث تصبح مجرد سلعة مما يدل على عودة الأنثى إلى عصر الإماء، وتنتهي بهذه الذات الواقعة تحت سياط السلطة الموافقة على إتمام الصفقة " أُوزن ببرود لا إنساني.. بعد دقائق وأنضم إلى أمي وجداتي أجتر همسات الزقاق الضيق"(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 98).

يظهر هذا أن المرأة متاع متوارث جيلا بعد جيل، وفي أكثر الأحوال هي عار يجب دفنه ووأده قبل تمرده " رأيته منذ أكثر من ألف عام في الصحراء.. بينما كانت عباءة أبي تطير وراءه ومخالبه العشرة تنبش الرمال وتحضر لوأد سنواتي العشر! وأراه الآن وأنا أكاد أدفن في صدر رجل مجهول "(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 98).

فهذا الرجل هو التمثيل الفعلي لهذا الأب وزواجها منه يماثل ذلك الوأد المادي للجسد حتى وإن اختلفت أنواع الوأد بين مادي تدفن فيه حيّة في رمال الصحراء ومعنوي بوأد هذا الجسد في صدر رجل آخر لتحقيق رغباته ليكشف ذلك عن ظلم وقسوة ووحشية السلطة الأبوية. ونقرأ مقطعا مماثلا  في قصة سجل أنا لست عربية من مجموعة "عيناك قدري " "يريد لهذا الزواج البائس أن يستمر .طلب مني الصبر .مهمة المرأة في نظره أن تتحمل من زوجها كل شيء إنه زواج حتى القبر "(السمان، القمر المربع، 1994، صفحة 72)

تكثر الأوامر والنواهي من الآخر فيولد ذلك الكبت نوعا من الانفجار والتمرد داخل الأنا وتحدث المواجهة برفض الامتثال للأوامر حينما تخرج من حلم اليقظة بالتعبير الفعلي عن تحقيق هذه الرغبة والذود عنها بشدة " لن أتزوج هذا الرجل.. أريد أن أتمم دراستي ... أردد بلذة محمومة: أريد.. أريد.. للمرة الأولى أتجرأ على أن ألفظ كلمة أريد"(السمان، القمر المربع، 1994، صفحة 99).

لقد استعادت الذات ثقتها من خلال قرارها ورغبتها في التعبير بكلمة أريد التي تخفي وراءها إرادة وعزيمة ،وذات مواجهة تسعى للتحرر من العبودية المفروضة عليها ومصادرة رغبتها ، ويصبح هذا المسعى تحد للأبوة، والذي يراه إهانة " وينسحب من الغرفة وقد حنا رأسه أكثر من عادته " (السمان، القمر المربع، 1994، صفحة 99)،وهذا ما يوحي بأنها قد أصبحت ذاتا فاعلة لها القدرة على كسر النمطية عندما  تصبح المرأة قادرة على الرفض والتمرد وامتلاك زمام أمرها فهذا يقلب الموازين ويهدد  شرعية السلطة الأبوية ويُعجل بفنائها .

وتتراجع سلطة الأب في قصة "عيناك قدري "، حينما تتحرر هذه الذات وتدخل في نديّة مع الآخر – الأب – بداية من كلمة "رجل الدار" التي تحمل دلالة المساواة وتبادل الأمكنة حيث تصبح الذات هي القوة الفاعلة والمؤثرة والمزاحمة لسلطة الأب بعدما كانت مجرد عبء لديه " لماذا لم يقتلها أبوها يوم نبؤه بأن بنتا خامسة ولدت له؟ بنت! جاءت بوقاحة، وبالرغم من تهديداته لأمها.. بالرغم من تمائمها وأدعيتها وذعرها.. لماذا أبعدوه عن فراشها عندما ثار وأرغى وأزبد وهجم عليها بسكينه يريد إرجاع الطفلة إلى بطنها بالقوة؟ كان يريد صبيا بعد بناته الأربع"(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 9).

تظهر سلطة الآخر وظلمه للأنا فتولد هذه الأخيرة بهاجس الخوف، حيث يفضل الأب الذكر على الأنثى بما يحمل في مضمونه من تبجيل للذكر واحتفاء بقدومه، إنّه الوريث الشرعي لهذه السلطة بينما الأنثى تكون مجلبة للعار ولذا وجب وأدها جسديا ومعنويا " كان يريد صبيا بعد بناته الأربع.. وريث أمجاد دكانه وحلقته على رصيف الشارع.. وريث نرجيلته.. لا يريد لجمرها أن يخبو بعد وفاته.. يريد صبيا لا يضطر لسجنه في الدار بعد أن يفوز في الشهادة الابتدائية.. لا يخاف عليه من السير في الشارع وحده "(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 9). يمنح المجتمع الذكر سلطة القيادة والتمركز والحضور، يكون فيه امتداد للفحولة ولا يريد أنثى يخاف عليها من المجتمع ويضطر لمراقبتها باستمرار.

وتتجه الكاتبة اتجاها نسويا عندما تمنح الشخصية فرصة التعلم، لتكتمل شخصيتها وتملك قوة تمكّنها من الدفاع عن نفسها دون خوف كما تمكنها من مواجهة السلطة الأبوية بقراراتها " يوم حازت على شهادتها الجامعية رمتها بوجه أبيها كأنّها تصفعه.. وفي المساء رمقته بنظرة تحدّ قاسية عندما فاجأته يغازل الجارة على الدرج.. إنها سعيدة باحترامه لها .سعيدة بإذلالها الخفي له "(السمان، عيناك قدري ، 1962، صفحة 10)

 تمتلك المرأة حرية كبيرة حينما تحوز شهادات علمية تقوّي من منصبها وشخصيتها، وتكون بذلك قوة مؤثرة في صنع القرار، بل تفرض على الآخر احترامها والأكثر من ذلك تكون هناك مساواة في المعاملات والحقوق وتتحرر المرأة من التهميش والإقصاء وتزيدها هذه الشهادات حصانة تقوي شوكتها وترفع راية التمرد.

خاتمة

من خلا ل ما تم إدراجه نقف على حقيقة أن الكاتبة غادة السمان من اللاتي اظهرن قوة كبيرة في تعرية المسكوت عنه  والكشف عن العلاقة المتوترة  بين الأنا الأنثوي والأخر الذكوري ؛العربي في ممارسة سلطته على الأنثى مستمدا قوته من الموروث الثقافي وأصبح في نظرها الآخر المهمش الذي لا يملك القدرة على الدفاع عن حقوقه في حين  كفلت له الكاتبة حق الرد ، وحق الدفاع عن حقوقه وهذا ما اتسمت به الشخصيات النسوية، وكذا الأخر الغربي المختلف حضاريا وما يترتب عن ذلك  الاختلاف من توتر في العلاقة، لتكشف في الأخير  عن جبروت السلطة الأبوية وما تشكله من ممنوعات للذات الأنثوية ،لتعطي صور ا واضحة عن  الآخر الذي مارس سلطته على الأنا الأنثوي الذي جردته الثقافة من أدنى الخصوصيات

الهوامش                                                                 

اسماعيل, ع. ا. (1976).الأدب وفنونه دراسة ونقد.دار الفكر العربي .

البازعي, م. ا. (2002).دليل الناقد.الدارالبيضاء : المركز الثقافي العربي.

السمان, غ. (1994).القمر المربع.لبنان: منشورات غادة السمان.

السمان, غ. (1973).رحيل المرافئ القديمة .لبنان: منشورات غادة السمان .

السمان, غ. (1962).عيناك قدري .لبنان : منشورات غادة السمان .

السمان, غ. (1963).لا بحر في بيروت .لبنان: منشورات غادة السمان.

السمان, غ. (1966).ليل الغرباء.لبنان: منشورات غادة السمان.

السيوف, ن. ف. (2002).قضايا المرأة بين الصمت والكلام في الرواية النسوية العربيةرسالة ماجستير . غير منشورة . كلية الدراسات العليا الأردن : الجامعة الأردنية .

حميش, ب. س. (2003).في معرفة الآخر.سوريا: دار الحوار للنشر والتوزيع.

سرحان, م. ك. (2015,يوليو /ديسمبر). الذات والآخر في رواية حب في كوبن هاجن لمحمد جلال . مجلة جامعة ناصر.

شحاتة, ح. (2008).الذات والآخر في الشرق والغرب.القاهرة : دار العالم العربي .

كاظم, ح. (2013).متغيرات السرد في الرواية العراقية (1990-2010)الكتابة النسوية .العراق: جامعة القادسية.

لعرافة, ن. (2018,فيفري". جدل التخيل الاستشراقي في الخطابات النسوية فاطمة المرنيسي أنوذجا . مجلة روؤى فكرية.

محمد, س. س. (2012).الأنا والآخر في المعلقات العشر .رسالة ماجستير غير منشورة . قسم اللغة العربية وآدابها / جامعة البصرة .

 

@pour_citer_ce_document

فاطمة قيدوش, «تمظهر الآخر الذكوري في قصص غادة السمان»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 262-274,
Date Publication Sur Papier : 2021-03-08,
Date Pulication Electronique : 2021-03-08,
mis a jour le : 08/03/2021,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=8046.