فلسفة الإصلاح وعلاقتها بقراءة النص الديني عند ابن رشدPhilosophic reform and its relationship to reading the religious text Ibn Rushd as a mod La philosophie de la réforme et sa relation avec la lecture du texte religieux selon Ibn Rushd
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 vol 19-2022

فلسفة الإصلاح وعلاقتها بقراءة النص الديني عند ابن رشد
La philosophie de la réforme et sa relation avec la lecture du texte religieux selon Ibn Rushd
Philosophic reform and its relationship to reading the religious text Ibn Rushd as a mod
ص ص 18-33

شريف خاصة
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL

يتناول المقال موضوع تأويل النص الديني عند ابن رشد وعلاقته بتوجيه الحراك الثقافي والاجتماعي في المجتمع، وهو من المسائل المهمة التي عرفت اختلاف في تحديد القواعد التي تنظمه عند رواد الفكر الفلسفي العربي الإسلامي، لأجل استنباط المعاني والأحكام الشرعية الخفية وإخراجها للظاهر لبناء فهوم سليمة من مختلف المبادئ والحقائق الإيمانية،التي قد تحمل حلولا لمختلف المستجدات العلمية والاجتماعية. وقد انفرد   فيلسوف قرطبة بموقفه المخالف والرافض والممارس من جانب آخر لطريق التأويل، وسيحاول من خلال هذا المقال، البحث عن مدى امكانية وجود علاقة بين الموقف الرشدي من التأويل ومشروعه المعرفي والإصلاحي الذي تفرضه مختلف المسؤوليات الاجتماعية والسياسية والشرعية التي كلف بها في الدولة. وذلك باستقراء وتحليل مؤاخذاته النقدية وطبيعة الضوابط التي وضعها لتنظيم طريق التأويل، مع الاستئناس ببعض الشواهد التاريخية التي مارس من خلالها التأويل، والتي تبرز استعانة فيلسوف قرطبة بهذه الآلية لإبراز أهمية الرّجوع الإنساني إلى النص الديني وذلك بتجديد فهومه وتطوير الأدوات المعرفية الملائمة لطبيعة النص حتى تساهم في خلق حراك ثقافي واجتماعي سليم داخل المجتمع، ونشر ثقافة الإختلاف والتسامح الفكري والثقافي وكذلك على خلق علاقة مؤسسة بين ما هو إنساني وما هو ديني عقدي.   فهل غاية ابن رشد من التأويل محصورة في استنباط الحقيقة، أم أنها تتعدى إلى تحديدقيمة ودور القراءة البشرية للنص الديني في إصلاح الوضع الفكري والاجتماعي ومنه التأسيس لواقع ثقافي وحضاري جديد؟.

معلومات حول المقال

تاريخ الاستلام 10-02-2021

تاريخ القبول 12-10-2021

 

الكلمات المفتاحية

التأويل

الظاهر

الباطن

النص الديني

الحوار

L’article traite le sujet de l’interprétation du texte religieux selon Ibn Rushd et de sa relation avec la réforme et l’orientation du mouvement culturel et social dans la société. C’est l’une des questions importantes qui a fait la différence dans la définition des règles qui l’organisent, afin de dériver des significations et des règles juridiques cachées et de les mettre en évidence pour construire une compréhension claire des divers principes de la foi, ce qui peut Fournir des solutions à divers problèmes qui résultent des développements scientifiques et sociaux. C’est ce que le philosophe de Cordoue a cherché à faire également, avec sa position critique sur l’interprétation. Cet article tentera de rechercher le rapport de la position d’Ibn Rushd sur l’interprétation avec son projet épistémologique et réformateur imposé par les différents aspects sociaux, politiques et juridiques. Ce qui clarifie son empressement à souligner l’importance d’un retour humain au texte religieux en renouvelant la compréhension et développer des outils cognitifs adaptés à la nature du texte afin de contribuer à la réforme de la situation culturelle. Et son aspect social en diffusant la culture de la différence et de la tolérance intellectuelle et culturelle, pour établir une relation claire entre les personnes et la religion. Ainsi, l’objectif d’interprétation d’Ibn Rushd se limite-t-il à la recherche de la vérité, ou va-t-il au-delà de la détermination de la valeur et du rôle de la lecture humaine du texte religieux dans la réforme de la situation intellectuelle et sociale, et incluant l’établissement d’un nouveau climat culturel et civilisationnelle ?

      Mots clés

altawill

al-dahir

al-batin

texte religieux

dialogue

 

The article deals with the subject of interpretation of the religious text according to Ibn Rushd and its relationship to reforming and guiding the cultural and social movement in society. It is one of the important issues that knew a difference in defining the rules that organize it, in order to derive hidden legal meanings and rules and bring them out to the outlook to build clear understandings from the various principles of faith, which can be Provides solutions to various problems that result from scientific and social developments. This is what the philosopher of Cordoba sought to do as well, with his critical stance on interpretation. This article will try to search for the relationship of Ibn Rushd’s position on interpretation with his epistemological and reform project imposed by the various social, political and legal responsibilities he was entrusted with in the state. By extrapolating and analyzing his critical position and the nature of the rules he set to regulate interpretation, taking into account some historical evidence through which he practiced interpretation, which clarifies his keenness to emphasize the importance of a human return to the religious text by renewing understanding and developing cognitive tools appropriate to the nature of the text, in order to contribute to the reform of the cultural situation. So is Ibn Rushd’s goal of interpretation limited to eliciting the truth, or does it go beyond determining the value and role of the human reading of the religious text in reforming the intellectual and social situation, and including the establishment of a new cultural and civilizational climate?.

Keywords

Altawill

al-dhahir

al-batin

religious text

Dialogue

 

Quelques mots à propos de :  شريف خاصة

د. شريف خاصة     Dr. Cherif Khassaجامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر khassacherif@gmail.com

مقدمة

يعتبر ابن رشد(595 ه) من الحلقات المهمة التي تشكّل الفكر الفلسفي الإسلامي، هذه الشخصية التي حاولت أن تقويّ العلاقة بين التفكير الفلسفي و محتلف انشغالات المجتمع، بالخصوص تحديد الطريق الذي يمكن اعتماده لفهم النص الديني وتفكيك المعاني والحقائق التي يحملها هذا النص المنزل بلغة بشرية -اللغة العربية- وقد سجّل مؤاخذات عديدة على طريق الفقهاء والمتكلمين خصوصاً في قراءتهم للنص الديني، حيث اعتبر التأويل من الأسباب الرئيسة في تمزيق الشرع وخلق الشكوك في قلوب المؤمنين، لعدم استيعابهم كلام المتكلمين وكيفية قراءتهم للنصوص الدينية، لكن رغم ذلك الموقف النقدي نجده يتوّسل بطريق التأويل اثناء قراءة النص الشرعي، ممّا يفتح الباب إلى التساؤل عن دواعي هذا الانقلاب، فهل يمكن اعتبار تراجع ابن رشد عن موقفه الرافض لطريق التأول بمثابة تأكيد ضمني على أهمية القراءة البشرية للنص الديني ومنه تأكيد دور الدين  في تقويم الذهنيات وإنجاح الإصلاح الثقافي والاجتماعي؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي المكانة التي يمنحها ابن رشد للفيلسوف في هذا المشروع؟

 وللإجابة على هذه الإشكالية سنرجع إلى المتن الرشدي لغرض الوقوف على طبيعة الموقف النقدي الذي اعتمده من طريق التأويل برغم تيّقنه من أنه مجرد وسيلة إدراكية لا تحمل الغلط في كنهها، هذا المقصد الذي سنعتمد المنهج التاريخي والتحليلي لبلوغه مع السعي لممارسة طريق النقد عند اقتضاء الحال، دون تقويل الفيلسوف مقولات لم يطرحها، أو اعتماد قراءة تتجاوز السياق الثقافي والفكري لعصره، كون الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه من هذه الدراسة التحليلية هو توضيح الموقف الرشدي من التأويل والمقاصد التي كان ينشدها من اعتماده لهذا الطريق، وذلك بتحديد قيمة وأهمية تقنين التأويل في تقريب الدين من المجتمع دون ان يكون هذا الأخير فزّاعة نخيف بها الناس ونغلق بواسطتها باب الاجتهاد، أو نجعله سببا في تخلفنا، كما يهدف هذه العمل إلى تحديد المكانة التي يمنحها لكل من الدين والعقل البشري والفكر الفلسفي في إنجاح المشاريع الفكرية والثقافية التي ترمي إلى إصلاح الواقع الحضاري للمجتمع. 

إن أهمية الموضوع المعالج، تؤكد وجود دراسات فلسفية عديدة، تناولت قضية التأويل عند ابن رشد، سواء تلك التي نشرت في الدوريات العلمية مثل مقال نظير محمد النظير عباد«اشكالية التأويل عند ابن رشد، دراسة تحليلية» الذي يبحث في مكانة التأويل عند ابن رشد وكيفية تتناوله لمختلف القضايا العقدية أو التي قدمت على شكل مداخلات علمية في مختلف المناسبات الفكرية التي تعقد حول الفكر الرشدي  مثل عبد الغني قزيير، «التأويل ألمقصدي ومسالك تجديد المنظومة الأصولية» وعبد الرزاق قسوم، «سلطة التأويل في الخطاب الرشدي فلسفياً وفقهياً»، إلى جانب الدراسات القيمة التي صدرت على شكل مؤلفات تعرض فيها أصحابها إلى قضية التأويل عند ابن رشد، نذكر منهم محمد عابد الجابري نحن والتراث، ابن رشد سيرة وفكر، محمد ألمصباحي «مع ابن رشد، الوجه الأخر لابن رشد، اشكالية العقل عند ابن رشد» وكذلك حمادي لحميدي«ابن رشد وعلوم الشريعة الإسلامية»،و مهدي فضل الله «العقل والشريعة مباحث في الابستيمولجيا العربية» وغيره من الدراسات كالتي قدمها الأستاذ لبيوض مسعود لتأكيد الأفق الحضاري والإنساني للفلسفة الرشدية، التي بدورها تساهم في توضيح موقع التأويل في فلسفة ابن رشد وعلاقته بمختلف مشاريعه المعرفية والإصلاحية، ولهذا لا ندعي تجاوز هذه الدراسات بل سنعمل على استثمارها بالتحليل والنقد لغرض الإجابة على إشكالية البحث.

يقوم هذا البحث على جملة من العناصر التي تبرز: طبيعة اشكالية التأويل عند ابن رشد، والأسس التي اعتمدها في نقد التأويل، ثم طبيعة وقيمة القواعد التي وضعها للتأويل، ودورها في توجيه الذهنيات والحراك الثقافي والاجتماعي لما فيه سعادة الإنسان، مع الاستئناس ببعض القضايا الفكرية التي وظف من خلالها التأويل لإصلاح الوضع الاجتماعي، ثم تأتي خاتمة توضح أهم الاستنتاجات التي وصل إلى البحث.

ابن رشد ومسألة تأويل النص الديني

يعرّف ابن رشد التأويل في كتابه فصل المقال بقوله «معنى التأويل هو إخراج دلاله اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخلّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عدّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي» (ابن رشد، أبي الوليد، 1979). الحقيقة عند ابن رشد واحدة، سواءً تلك التي يأتي بها العقل بواسطة المنهج البرهاني أو التي جاء بها الشّرع، ومنه لا يمكن أن يكون هناك تعارضاً بينهما كون الحق لا يعارض الحق وحتى يثبت ذلك لجأ إلى التأويل كحل ابستيمولوجي لاستنطاق النص الديني واستنباط الحقيقة التي لا تتعارض والبرهان «فإننا معشر المسلمين نعلم، على القطع، انه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشّرع، فإنّ الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له»(ابن رشد، 1989)بهذا تتجلى رؤيته للقيمة العلمية للعقل البشري وصلاحيته كوسيلة لفهم كتاب الوجود من جهة وكذلك القرآن والحديث من جهة أخرى، فالعقل البشري لا يقدّم لنا الحقيقة التي لا يمكن أن تتعارض مع النقل بل هو مؤهل أن يكون الوسيلة الناجعة لفهم النقل «فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة أن يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء شيء ممّا كلفنا اعتقاده ويجتهد في نظره إلى ظاهرها ما أمكنه من غير أن يتأوّل من ذلك شيأً إلاّ إذا كان التأويل ظاهرا بنفسه أعني ظهورا مشتركاً للجميع»(ابن رشد، ابي الوليد، 1984).

 يُشبّه ابن رشد التأويل، بالدواء الذي يوصف لغرض الشفاء، لكن لسبب ما يؤدي هذا الدواء إلى الموت والهلاك، كأن تكون الجرعة كبيرة بسبب الإفراط في تناول الدواء أو للجهل بوجود اختلاف بين الأبدان ومنه يصعب التعميم في الطب، والأمر نفسه للمتأول فهو يستنبط الحق من النص وأي خطأ، معناه إصابة الناس بأمراض في عقيدتهم (ابن رشد، ابي الوليد، 1984)، لهذا يحتاج هذا العلم مثل غيره من العلوم إلى ضوابط من خلالها يتحدّد موضوع التأويل وحدوده المعرفية والعقدية، فليست كل النصوص الدينية تقبل التأويل كونها جاءت صريحة واضحة المعنى والمدلول، وهي النصوص المتعلقة بالأصول التي تبني الإيمان والعقيدة «الإقرار بوجود الله، النبوات، البعث والحساب» لكونها مسائل لا تحتاج إلى تأويل ولا يمكن أن يحدث حولها اختلاف بين المسلمين، فقد جاءت صريحة تقتضي اتخاذ موقفاً واضحاً منها إمّا التصديق والإيمان أو الجحود والنكران، بل يذهب إلى حدّ التشكيك في عقيدة الذي يتجرأ على هذه النصوص «هذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأوّل له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء» (المصباحي، محمد، 2007).

موقف ابن رشد من امكانية التأويل يفتح آفاق الفهم البشري للنص الشرعي وتعدّد القراءات ويغلق الباب أمام محاولة الوصاية الفكرية والرّوحية التي يراد من خلالها السيطرة على عقول الناس والتحّكم في توجهاتهم الفكرية والاجتماعية، فالفهم البشري للنص ممكن ونسبي في آن واحد يقوم على شروط معرفية وعقدية ذات صلة بالسياق الثقافي والاجتماعي للمجتمع.

إن اهتمامه بالتأويل، تأكيد على ضرورة انفتاح العقل على النقل، لغرض فهم قضايا النصوص الشّرعية واستنباط المجهول من المعلوم وفق طريق البرهان، وهو توجه نابع من رؤيته لطبيعة العلاقة بين الحكمة والشريعة التي، بيّن من خلالها وجود اختلاف مصدري ومنهجي بين النقل والعقل، واتفاق في الغاية وهي سعادة الإنسان وتمكينه من الحقيقة؛ فالنقل يحمل الحقيقة والعقل يكشف عنها وفق النظر البرهاني «فإن الأقاويل الموضوعة في الشرع لتعليم الناس إذا تؤملت يشبه أن يبلغ من نصرتها إلى حد لا يخرج عن ظاهر ما هو منها ليس على ظاهره إلاّ من كان من أهل البرهان»(ابن رشد، 1989)، الذي يعده شرطاً يضمن إنتاجية العقل، على هذا ألأساس انتقد من سبقه، حيث سجّل بعض المؤاخذات على الطريقة التي أوّلوا بها النص والاستنتاجات التي توّصلوا إليها، مبرزا بذلك مواضع الابتعاد عن مقاصدهم المعرفية والدينية،وعن المعاني الحقيقة للنصوص المؤوّلة لاعتمادهم الظن والخيال وعلى قياس الشاهد على الغائب.

مواضع النقد الرشدي لطرق التأويل وبعدها الإصلاحي

انتقد فيلسوف قرطبة طرق التأويل ليوضّح انه مجرد وسيلة ذات حدين، وقد انصب نقده على المواضع التالية:

-المنطلق: فقد رأى أنّ منطلقهم كان ظنياً،حيث كانوا ينطلقون ويبنون تأويلاتهم للنص وفق بعض الظنون التي تشكّلت عندهم بسبب الخيال. فهم ينطلقون من الخارج لقراءة ما هو داخل النص، هذا الخارج الذي قد تفرضه التوجهات السياسية والمذهبية.

-المنهج: كما رفض المنهج الجدلي الذي اعتمده علماء الكلام، لأنه يقوم على مقدمات ظنية من نسج الخيال وموضوعة وفق ما يتناسب عقول عامة الناس والنزعة المذهبية لكل فرقة، هذه النزعة المذهبية التي كان يرى أنها تشتت الفكر وتشوش الأفكار وتمنع العقل من بلوغ الحقيقة. لكن هذا الرفض لا يعني انه يقصي طريق الحجاج وكذلك الخطابة من مجال المعرفة ونقل العلوم وتقويم الفهوم بين مختلف الفئات التي تكوّن المجتمع، لأنه على دراية تامة بحضور هذه الطرق في النص الديني والدور الذي تؤديه في إيصال مقاصده للأفراد، وكذلك في تدعيم الخطاب التأويلي بمختلف الأدوات التدليلية التي تجعل منه خطابا متداولا وناجعا في المجتمع. ومنه يمكن القول ان حرصه على اعتماد البرهان لا يقصي حضور الحجاج في التأويل وان المؤاخذات التي سجلها على الخطاب ألتأولي الكلامي راجعة للنزعة المذهبية الغالبة فيه وروح الانتصار للمذهب، وإن كان ذلك على حساب الحق. فهو يرى أنّ «الجدل نافع في سائر العلوم ومحرّم في هذا العلم» (ابن رشد، ابي الوليد، 1987) وهو يقصد علم الإلهيات لارتباطه بالمعتقد من جهة وكذلك لكونه علم نظري يتجاوز أحيانا المعنى الظاهر في النص الديني، الأمر الذي يقتضي اللجوء إلى التأويل الذي يختص به أهل البرهان.

-الغاية: رغم نبل الغاية التي جاء لأجلها علم الكلام، فقد كانت تعيق امتلاك الحقيقة، كون الدفاع أحيانا قد يدفع إلى اعتماد أفكار في الظاهر تبدو صائبة لكن بمرور الزمن وتوفر الشروط اللاّزمة لبناء الحقيقة -الاستقرار الفكري والنفسي، والنظر العميق- تنكشف حقيقتها وخطئها، الأمر الذي يدفع بالمتكلم إلى التراجع أو الخروج عن الفرقة التي ينتمي إليها ويكوّن فرقة جديدة.

-الأثر والنتائج: بالنسبة إليه تأويلات علماء الكلام بالخصوص، وإن كان لها أثرا في الواقع فهو أثر سلبي تمثّل في إثارة الشبهة بين أوساط عامة المسلمين.

تبرز هذه المؤاخذات النقدية لابن رشد انه كان لا يفصل بين الفهم الحر للنص، وما يحدثه من تغيير في الواقع الاجتماعي ليوسع من أفقه افق الحضاري ليتسع للجميع، فتكون قيم التسامح والتعايش فيه هي المعيار الأساسي في تفعيل الروح البشرية، لما فيه الخير والصلاح.

ضوابط التأويل ودورها في تقويم الذهنيات

آلية التأويل بمثابة محرك ابستيمولوجي ضروري لقراءة النص الديني، وذلك للفصل في امكانية ورود أي تعارض بين النص الشرعي والفهوم العقلية، علما انه يرى أن النص الديني جاء يتماشى والتركيبة المعرفية، خطابيين طريق التمثيل، الجدليين طريق الجدل، الخاصة طريق البرهان، فلكل فئة ما يناسبها لتأسيس الإيمان والتصديق ومنه تكون ضرورة التأويل واجبة وجوبا استثنائيا على الفئة الثالثة لاستخراج الحقيقة الكامنة في النص بالقوة إلى حالة الوجود بالفعل.إنّ قوله باستثنائية التأويل يؤكد تأطير العملية التأويلية بضوابط وحدود لا يمكن تجاوزها،لتجنّب أيّ انزلاق فكريّ أو معرفي أو عقدي، فإذا كان موضوع التأويل هو النص الديني فذلك لا يعني إمكانية تأويل كل النصوص الشرعية، بل النصوص المعنية بالتأويل هي تلك التي يبدو ظاهرها متعارضا مع العقل أو مع نصوص أخرى، وهي حالة نادرة فالغالب على النص الشرعي هو الوضوح (ابن رشد)، ولهذا وضع جملة من الشروط اللاّزمة كي يكون التأويل مشروعا من الناحية الشرعية والعلمية وهي:

شروط متعلقة بالشخص المؤول في حدّ ذاته

يقول ابن رشد «فإن كنت من أهل الفطرة المعدة لقبول العلوم وكنت من أهل الثبات وأهل الفراغ، ففرضك أن تنظر في كتب القوم وعلومهم لتقف على ما في كتبهم من حق أو ضده»(ابن رشد، ابي الوليد، 1987) وهذا يحدّد جملة من الصفات الذهنية والأخلاقية التي يجب أن تتوفر في الشخص الذي يريد ممارسة التأويل:

-الفطرة الفائقة على تقبّل واستقبال العلوم والقدرة على استعمال المقدمات النظرية وربط معانيها بعضها ببعض. إلى جانب جملة من الصفات النفسية منها الثبات والتوازن والصبر. وأخرى عملية فكرية ترتبط بالاحتراف العلمي أو الممارسة العلمية مع الابتعاد عن العجلة والتسرع في البوح بالفهوم والاستنتاجات.

-كما يشترط على المؤول المسؤولية والالتزام وذلك باحترام النص الديني وان يكون التعامل معه لا يهدف إلاّ لخدمة الحق ولا يهدف لشيء آخر مثل الانتصار للفهم الذاتي أو لتصور معين عن الوجود لا علاقة له بالتوحيد أو لسجن العقول في فهم بشري ما. مع ضرورة حضور الأمانة العلمية والتزام السرية والابتعاد عن تعميم نتائج التأويل وهذا يؤكد الدائرة الضيقة للتأويل وللمؤلفات المتعلقة بالتأويل.

انه يرفض التصريح بنتائج التأويل لعامة الناس لعدم امتلاكهم القدرات المعرفية لفهمها، ممّا قد يتسبّب التشويش على العقول وانتشار سلوكيات غير إنسانية. فعملية التأويل تتأثر بشخصية المفكر الباحث المهتم بتأويل النص الديني، كونها بمثابة كمون طاقة يغذّي العملية التأويلية ويوجهّها، فإذا كانت الشحنات سالبة تخبئ مقاصداً إيديولوجية غير علمية مثل زرع الشكوك في قدسية النص الديني وما يمكن أن يمده للبشر من تشريعات إنسانية راقية توّسع من افق الحرية أو التشويش على العقيدة فإن ذلك من شأنه أن يبعد التأويل عن روح الدّين والفهوم المعقولة التي يمكن أن تساهم في امتلاك الحقيقة وكذلك استثمار النص الديني للتأسيس لحياة الإنسان السعيدة.

-شروط متعلقة بطبيعة الموضوع نفسه: لا يستطيع أي باحث أن يطرق أي موضوع بالدراسة إلاّ إذا كان عارفاً بطبيعته، حتى يوّفر الشروط المعرفية المناسبة لإنجاح الدراسة، وهو ما يشترطه ابن رشد، فالعالم المتأوّل مطالب بمعرفة طبيعة موضوع الـتأويل، حتى يتجنب الوقوع في تناقضات شرعية ومعرفية، وقد ترك لنا عدة مؤلفات تبين هذا الأمر(مناهج الأدلة في إثبات عقائد الملة، وكتاب فصل المقال في إثبات مابين الحكمة والشريعة من اتصال) وأهم هذه الضوابط:

-التقيد بطبيعة النص الشرعي: فإذا كان النص يحتاج إلى التأويل وجب ذلك، لكن إذا لم يكن اللفظ القرآني يحمل في ظاهره تعارضاً مع نص آخر فذلك يؤكد عدم الحاجة إلى التأويل، ويتم التعرف على هذا الحالة بالرجوع إلى المعاني التي يحملها النص القرآني.

-إذا كان المعنى المنطوق يتماشى والمعنى الموجود المتداول بين الناس واللّغة والواقع، بحيث تنعدم إمكانية تعدد واختلاف في الدلالات فالأمر لا يستوجب ممارسة التأويل.

-إذا كان المعنى المنطوق المصرّح به في النص لا يقابله تطابق مع الموجود، بحيث يتجاوز المعنى المصرّح به الموجود ويكون ذلك بواسطة التمثيل، يكون التأويل ممكناً مثل آية الاستواء، فهي تقدم حقيقة عن القدرة ا لإلهية وتصرفه في الكون وفق أسلوب لغوي بشري يمثّل استواء الله على العرش باستواء الإنسان على أمر هو مسؤول عنه بحيث أصبحت زمام الأمور بين يديه، لكن رغم هذا التمثيل القرآني الذي يقرّب الفهم ويسهّله على العقل البشري فيجب أن لا يكون التشبيه كليا يمثل الله بالإنسان، كون ذلك كفر وخروج عن الحق، فمثل هذه النصوص يجب أن تؤوّل بطريقة برهانيه مؤسّسة تنتج رؤية إنسانية واضحة عن القدرة الإلهية لا تتعارض وروح عقيدة التوحيد.

-معرفة النصوص المتعلقة بالأحكام العملية أو المبادئ العملية وهي المتعلقة بالعبادات والأحكام الشرعية التي ينظم الحياة العملية للمسلمين وهي ترتبط بالتشريع الفقهي، وكذلك معرفة النصوص المتعلقة بالمبادئ النظرية، لضبط موضوع الدراسة والـتأمل قبل الشروع في تشريح النص واستنباط المعنى أو المعاني الكامنة بباطن النص.

وسبب رفضه إخضاع النصوص الشرعية المتعلقة بالمبادئ العملية يعود إلى:

كونها نصوص صريحة واضحة المدلول متعلقة بأمور عملية لها علاقة بالعبادات وما يترتب عنها من توجيهات لتنظيم الحياة المدنية للإنسان في مختلف ميادين الحياة، ومنه يؤدي تأويلها إلى إخراج هذه النصوص من إطارها الأصلي، فيؤدي الأمر إلى نشوء فهوم قادرة على إحداث تناقضات وانحرافات سلوكية على المستوى الفردي والجمعي والسياسي تتعارض ومقاصد الشرع، التي جاء بها لتحقيق سعادة الإنسان.

كما أنها مبادئ عملية متعلقة بالعبادات تفوق العقول البشرية، فمهما كانت قدرة الإنسان العقلية والمنهجية يبقى بعيد كل البعد عن الوصول إلى حقيقتها «والفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوي الإدراكان الفلسفي والشرعي، وكان ذلك أتّم في المعرفة وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني عنه وان يدركه الشرع فقط» (ابن رشد ، ابي الوليد، 1989).

-أمّا فيما يخص المبادئ النظرية: يكون التأويل فيها ممكناً لكن وفق ضوابط متعلقة بطبيعة تلك المبادئ وما تحمله من تمثيل أو تشبيه لفظي.

-إذا اعترضت الشريعة المبادئ العملية عرضاً بيناً إلى درجة أن تعطينا الشيء نفسه، أي إذا كانت الآيات محكمات وجب الإيمان بظاهرها والامتناع عن تأويلها وفعل ذلك كفر وخروج عن الشّرع، مثل تأويل الآيات المتعلقة بالحياة الأخروية والشقاء والسعادة، وملائكة الجنة والنار وعددهم وصفاتهم.

-إذا كانت النصوص الشرعية غير بينّة بنفسها، أي لا تعطينا الشيء نفسه وإنّما مثاله وهي الآيات التي ترد تحت اسم المتشابه، فإن تأويلها واجبا ولكن على الراسخين في العلم.

شروط متعلقة بالمنهج

إنّ ضمان فعالية طريق التأويل في إحداث التغيير الاجتماعي البنّاء متوقف على طبيعة الضوابط التي توّجه القراءة البشرية للنص الديني، ولهذا وضع ابن رشد جملة من الضوابط وهي:

-الأداة اللغوية:تعد المعرفة بقواعد اللغة العربية ومعاني الألفاظ التي تحملها وفق عادة العرب شرطا منهجيا، لأن اللغة أداة تنظم الفكر وتوجيهه، كما تساهم في تيسير عملية فهم النص الشرعي والإطلاع على مدللاته الواسعة «والتأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة اللغوية إلى الدّلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعدة لسان العرب في التجوّز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقاربه أو غير ذلك من الأشياء التي عدّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي» (ابن رشد، 1989) وإن كان يؤكد هذه الضرورة المنهجية فهو لا يدعو إلى قراءة النص الديني قراءةً لغوية بحتة ترجع معانيها ومدلولاتها الشرعية إلى دلالات الألفاظ اللغوية، فالنص الديني ليس مجرد نص نثري وفقط بل هو نص ديني شرعي يهدف إلى التشريع وتنظيم الحياة وتبصير الناس بمقصد الوجود. لهذا أكدّ على ضرورة التمييز بين الحقل الدلالي اللّغوي الوارد في النص الديني والدّين بعينه، ومنه اعتماد أساليب مخالفة في القراءة والتفكيك وذلك «إيمانا منه أن للشرع مفاهيم خاصة لذلك ما انفك يلحّ على ضرورة الشعور بهذا المعطى المنهجي ليكون الفقه جارياً على العرف الفقهي»(القزويني، محمد، 1993) هذا التمييز الذي يجعل من منهجية القراءة التأويلية للنص الديني تتلاءم مع مقاصد الشرع بالضرورة، للمساهة في إصلاح وضع الإنسان عموماً والمسلم خصوصاً. ومنه يصبح الإصلاح شرطاً ضروريا يجب الالتزام به اثناء قراءة النص الديني.

وحتى لا يضيع هذا المقصد الإصلاحي ولا يغرق المؤوّل في المعاني المجازية ويبتعد عن الحقيقة كان يردّد دائما في مؤلفاته البديهية الثابتة عنده وهي اعتبار الحقيقة في نظره كلما أمكن ذلك قبل المجاز «والواجب جعل الكلام على الحقيقة حتى يدلّ على حمله على المجاز»(ابن رشد، ابي الوليد، 1989)ليؤكد وحدة النص الديني وخلوه من التناقض والتعارض بين ما هو ظاهر وما هو باطن. فالخلاف يرجع إلى الاختلاف في القراءة البشرية لهذا النص وطبيعة الرؤية التي يحملها كل مؤوّل في ذهنه لهذا النص وإلى قدرة العقل على اقتحام عالم الفهم وامتلاك الحق.

بهذا يجعل من النص الديني مادةً ثرية وثابتة في آن واحد، لتصب القراءة البشرية النص الديني في المصلحة ولا تخرج عن روح الشرع ومقاصده فيكون التأويل وسيلة للإصلاح وسبيل لتيسير الفهم والتشريع وبناء رؤية مرنة للدّين ولدوره في تحقيق سعادة الإنسان واستقراره الفكري والاجتماعي، كما يساهم في التأسيس للقناعة العقدية التي تفتح افق التسامح والتعايش والابتعاد عن التشكيك في عقيدة الناس والضرب في مبادئ الدين بصفة عامة، لذلك كان دائما يؤكد أن الحكيم الحق لا يتعرض لمبادئ العقائد والديانات.

هذه الصرامة في تقنين طريق التأويل تترجم سعي الفيلسوف القرطبي إلى جعل هذا الطريق خادمًا للشرع والحكمة في آن واحد، فمن جهة يكون التأويل قراءة تؤكد ضرورة حضور الدّين في الحياة البشرية كمرجعية فكرية وحضارية كما يؤكد اتساع ما صدق الحرية الفكرية وأهمية الاجتهاد العقلي اثناء قراءة وفهم نصوصه. فقد كان على قناعة تامة أنّ النص الديني يحمل القيم الفكرية والاجتماعية والأخلاقية ومن أساليب الإقناع والفكر ومن اضرب الأبعاد الإنسانية(ارحيله، عبد النبي، 2015) ما يمّكن اهل البرهان من فهم وتأويل النص الديني، وإن تعددت تلك القراءات فستبقى دعائما أساسية في بناء ثقافة عقلية لا تسعى إلى رفض المعتقد في المساهمة في إصلاح الحياة البشرية او في الإسهام في مدّ الإنسان بالمبادئ القيمية التي تمكنه من التأسيس لمنظومة أخلاقية قادرة على أخلقة الحياة السياسية والاقتصادية وتوجيه العلاقات الاجتماعية. إنها محاولة منه إلى ديننة العقل والحياة وكذلك إلى عقلنة الفهم البشري للدين.

فالتأول بمثابة معول هدم وبناء في آن واحد يمكن أن يساهم في إصلاح الوضع وتليين القلوب وتحرير العقول من مختلف القيود المذهبية والاجتماعية، ومنه التأسيس للقطيعة مع كل الفهوم الضيقة للدين، الفهوم التي تسعى إلى سجن الناس في إطار ضيق يمنعهم من توسيع افق الحياة والتفكير في ممارسة حقهم في العيش أحرارا وممارسة مسؤولياتهم الاجتماعية والسياسية، وكذلك إشراك كل فئات المجتمع في تشييد أركان المجتمع والمدينة ورفض كل أشكال الإذلال والاحتقار القائم على أساس الانتماء الديني أو الاجتماعي أو الجنسي. خصوصا وأن الإصلاح في نظره سلوك مرتبط بالإرادة الحرة للفرد (ارحيله، عبد النبي، 2015) هذه الحرية الثابتة عقلًا وشرعاً ولا يحق لأحد أن ينقص من مساحتها باعتماد قراءة معينة لنصوص الدّين، لما لها من دور في تفعيل العقل والسلوك البشري لما فيه الخير للفرد والمجتمع.

-عدم اعتماد قياس الشّاهد على الغائب: يميّز الشارح الأكبر بين عالم الشهادة وعالم الغيب وهو الغائب، ما يمنع الانطلاق منهجياً من العالم المحسوس للحكم على عالم الغيب كون التشابه الموجود في الصفات الواردة في النص وعالم الحس هو تشابه لفظي وليس تشابها في المعنى، وعلى هذا الأساس انتقد اهل الكلام عندما تطرقوا إلى الصفات الإلهية بقياسها بالصفات الإنسانية لاستحالة ذلك، كون الاشتراك في الاسم لا يلزم عنه بالضرورة الاشتراك في المعنى.

-اعتماد البرهان: البرهان عنده هو «قياس يقيني يفيد علم الشيء عل ما هو عليه في الوجود بالعلة التي هو بها، وإذا كان القياس البرهاني هو الذي من شأنه أن يفيد هذا العلم الذي هو العلم الحقيقي كما قلنا، فبيّن أنه يجب أن تكون مقدمات القياس البرهاني صادقة، أمّا كون مقدمات البرهان صادقة فمن قبل أن المقدمات الكاذبة تفضي بمستعملها أن يعتقد فيما ليس بموجود أنه موجود»(ابن رشد، ابي الوليد، 1987) وهذا يؤكد ضرورة اعتماد المنهج البرهاني أو ما يسميه بالقياس البرهاني للتأسيس للحقيقة عند تأويل النص الدّيني، ليضع حداً للتأويل القائم على التخمينات الظنية التي لا أساس لها في العقل أو الواقع. لقد بيّن وهو يربط المنهج بالواقع والمبادئ التي تنظم العقل أهمية انفتاح المؤوّل على مختلف العلوم والتوّسل بمبادئها وما تقدمه من حقيقة، عن هذا الوجود وظاهره، لاستنباط بعض الحقيقة من بعض النصوص الدينية.

لكن محدودية العقل البشري تلزم إعمال العقل البشري وفق منطق الشرع ذاته، وذاك لا يقيّد العقل بل يساعده على امتلاك الحق الذي لا يعارض الحق الوارد في النص«ومنه تكون الأسبقية والأولوية للنص الشرعي أي الموضوع على حساب الذات، ممّا جعل الفهم تابعاً للنص لا للذات المؤولة له»(ابن رشد، ابي الوليد، 1987) لهذا ألحّ على ان يكون التأويل قاصراً على اهل البرهان وفقط-الحكماء والفلاسفة- الراسخون في العلم مخافة فساد الشريعة وضياع الجمهور. هذا المقصد الإصلاحي الذي يهدف إلى وقاية المجتمع من كل الأفكار التي تعكّر صفو الفكر وتجعل من الدين سببًا في انتشار الفساد والصراع وتفكّك العلاقات الاجتماعية التي جاء الدين للمحافظة عليها، فهو بمثابة صمّام أمان وضابط مقصدي ومعرفي يجب أن يعرفه الجميع ويلتزم به الكل، فأهل البرهان هم المرجعية التي يجب الرّجوع إليها ومنه الابتعاد عن الخطابات والقراءات التي تصدر عن أناس لا علاقة لهم بالعلم والبرهان ولا بلغة القرآن ولا بأساسيات الدين وأحكامه.

التأويل وصل بين الحياة والمعتقد

إنّ وضع القواعد والضوابط المقصدية والمعرفية التي يفرضها الشرع والمتغيرات الحضارية والعلمية يجعل من التأويل عملاً ممكناً وضروريًا في آن واحد. كما يؤكد كذلك ضرورة حضور الدّين في الحياة اليومية والعلمية للمسلم لخصوبة النص الديني وقابليته للاستثمار والاستغلال العملي والعلمي. فتبرز حاجة الإنسان للشرع والتأويل في آن واحد وهو توجه رشدي يسقط عنه تهمة الإلحاد أو القول بأنه من الفلاسفة الذين تبنوّا أطروحة فصل الدّين عن الحياة الاجتماعية والسياسية. فهو وإن كان يقرّ بالتكافؤ بين الفلسفة والشريعة باعتماده طريق التأويل، فإنه يسعى إلى إثبات دور الفلسفة في إصلاح الوضع لكن مع التأكيد على مكانة الدّين كمصدر ثابت للحقيقة وكمرجعية ضرورية للتأصيل للحياة (فخري، ماجد، 1994).

فقد كان يرجع إلى النص الديني لغرض الفصل في مختلف المسائل التي ترتبط مباشرة بحياة الفرد والمجتمع وذلك قصد إصلاح ما يمكن إصلاحه من فهوم وتصورات من شأنها ان تكسر روح العمل والمبادرة لدى الفرد، أو تخلق ذهنية ترى في التحرّر من المعتقد الدّين، شرطا أساسيا لبلوغ النهوض، مثلما تؤكده بعض الدراسات التي تهتم بالفكر الرشدي (طراد، حمادة، 2002)، لقد جعل من طريق التأويل آلية تدليلية وتداولية تسمح بتطوير الأفكار وتحرير الأفعال، حيث يتجلى ذلك عند النظر في طريقة تناوله لمسألة الإرادة البشرية وعلاقتها بالإرادة الإلهية، ففي كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة أكدّ أنّ الحرّية والإرادة الإنسانية ممكنة لكنها تمارس في إطار نظام سببي لا يمكن إنكاره أو الخروج عنه، لما في ذلك من إنكار للعلم وكذلك للعناية والعدالة الإلهية التي تتجلّى في وضعه لنظام قابل للإدراك وممارسة إرادته.فالإنسان حُر في ظّل نظام هذا الوجود، سواء النظام الذي يخصّ كلّ الموجودات بما فيها الإنسان أو النظّام الذي خصّ به الله الإنسان فقط وهو القضاء والقدر»(المصباحي، محمد، 1988) وكلّ مسؤول عن المآل الذي اختاره، يمارس إرادته لكن في ظل النظّام الذي وضعه الله لهذا الوجود، وهنا يكمن عدل الله ولطفه بعباده إذ وضع لهم النظّام الذي يضمن لهم بقائهم ويحقّق لهم سعادتهم.

علاقة طريق التأويل ببلوغ الإصلاح الفكري والاجتماعي

أحاط ابن رشد بالنصوص الشّرعية التي تحمل إمّا ظاهرياً أو باطنياً موقفاً من هذا الموضوع قبل أن يطرق موضوع الحريّة. ليؤكد أنّ هذه النصوص تبدو في الظّاهر متعارضة ومتناقضة لما فيها من نصوص تؤكدّ معانيها حريّة الإنسان ونصوص ترجع الأمر كلُّه للإرادة الإلهية «وهذه المسألة من أعوص المسائل الشّرعية، وذلك أنّه إذا تُؤُمّلت دلائل السّمع في ذلك وجدت متعارضة. وكذلك حجج العقول أمّا تعارض أدّلة السّمع في ذلك فموجود في الكتاب والسنّة. أمّا في الكتاب فإنّه تُلقى فيه آيات كثيرة تدُّل بعمومها على أنّ كلّ شيء بقدر. وأنّ الإنسان مجبور على أفعاله وتُلقى فيه أيضاً آيات كثيرة تدلّ على أنّ للإنسان اكتساباً بفعله وأنّه ليس مجبوراً على أفعاله»(ابن رشد، ابي الوليد، د سنة الطبع). لقد قدّم أمثلة عن بعض الآيات كقوله تعالى: «ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ ٨»(سورة الرعد،الآية08)،وقوله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩»(القمر،الآية49)،وقوله تعالى: «مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢»(سورة الحديد الآية 22) وكي يثبت الطّرح الذي جاء به قدّم آيات من القرآن تدّل على أنّ للإنسان إرادة واختيار وعلى أنّ الأمور في أنفسنا ممكنة لا واجبة مثل قوله تعالى: «أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرٖ ٣٤ۢ»(سورة الشورى الآية 34)، ولم يتوقّف عند هذا الحد بل قدّم لنا الآيات التي توحي بالتعارض في المعنى مثل قوله تعالى: «أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٦٥»(سورة آل عمران الآية 165)، وكي يدّعم موقفه أكثر قدّم العديد من الأحاديث النبّوية التي تبدي لنا التعّارض مثل قول الرسول ﷺ:«يولد المولود على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسّانه» رواه البخاري، فإذا كان هذا الحديث يبيّن أنّ الإنسان مجبول على الإيمان وأمّا المعصية والكفر فهو مكتسب، قدّم كذلك حديثاً نبوياً يقول فيه عليه الصلاة والسّلام: «خلقتُ هؤلاء للجّنة وبأعمال أهل الجنّة يعملون،وخلقتُ هؤلاء للنّار وبعمل أهل النّار يعملون»(الترمذي ، 3075ه).

لهذا الاستشهاد بالنصوص الشّرعية مدلول علمي دقيق من جانب المنهج الذي يعتمده في تناوله موضوع الحريّة، لقد عاد إلى النص الأصلي للشّرع دون ممارسة أي انتقائية أو توظيف مؤدلج للنّص الشّرعي، فهو يبحث عن الحقّ أينما كان ولا يهتم بالانخراط والتحيّز إلى فريق أو مذهب معيّن على حساب الحق، لأنّ الوصول إلى حل لهذه المشكلة التي تأشكلت على المتكلمّين هو هدفه العلمي الوحيد.

لقد تجاوز طريقة انتقاء النصوص، وتحلّى بالرّوح والشّجاعة العلمية والأدبية النابعتين من إيمانه العميق أنّ الشّرع لا يحوي أيّ تعارض أو أيّ تناقض داخلي، إلى جانب ثقته في قدرة العقل على قراءة النص قراءة برهانية علمية واقعية بعيدة عن التحيّز والتعصّب المذهبي الضيّق.

بالنسبة إليه يعدّ المنهج البرهاني بمثابة مخرجاً للخروج من الدّور والجدل الذي حدث بين المسلمين عامة والفرق والمذاهب بشكل خاص، مكنّه من تقديم حل للمشكلة دون أن يحدث ذلك مأزقاً فكرياً آخر، وهو التعارض بين إرادة الإنسان وإرادة الله أو إنكار العمل بالأسباب ومسؤولية الإنسان عن أفعاله والإيمان بالقضاء والقدر، وهذا يؤكد ادراكه أن الخلل في فشل الإصلاحات يعود إلى الخلل في طريق التفكير.

وبذلك أكدّ على أهمية العقلانية في فهم الدين فلم يختزل دور ها في معالجة المسألة، بجعله مجرّد تابع للنّص الشّرعي، بل جعل من النّص مادة معرفية للعقل يصل من خلالها إلى الحقيقة، دون تجاوز طبيعة النص باعتماد التأويل المؤسّس على مبادئ علمية وشرعية لا تحيد عن مقاصد وجوهر عقيدة التّوحيد وانشغالات المجتمع وطموحاته، بذلك يجعل من الشّرع برهاناً لما يصل إليه العقل، وما يصل إليه العقل كذلك برهاناً على ما جاء به الشّرع، وفي هذا تأكيد واضح على انعدام التناقض في النص الشّرعي في مختلف المسائل بما فيها مسألة الحرية.

لقد دعمّ فيلسوف قرطبة منهجه البرهاني عند البحث في مثل هذه المسائل بدعائم معرفية أخرى لا تنفك أن تكون بمثابة براهين على استنتاجاته، والتي تتمثّل في الدلاّلات اللّغوية لألفاظ النّص الشّرعي ليطمح إلى ضبط المفاهيم وإبعادنا عن الفهم المميّع الذي لا يقوم على أيّة ضوابط؛ الشّرعية منها والوضعية. وكذلك على ضرورة تجاوز التوظيف الأحادي للغة داخل المجتمع، بحيث قصرها على الاتصال بين الأفراد وتحقيق مختلف الغايات النفعية التي لا تتجاوز المنفعة المادية، فلقد بيّن أن اللّغة تحتاج إلى اهتمام ورعاية وإصلاح، حتى تنمى القدرات اللّغوية للأفراد فيصبحوا قادرين على فهم دينهم والاستفادة من التوجيهات الكامنة في نصوصه لبلوغ طموحاتهم الحضارية، انه يؤكد على العلاقة الضرورية بين الإصلاح والتوظيف العلمي للغة والإصلاح الاجتماعي، هذا الأخير الذي لا يمكن أن يتم داخل المجتمع إذا لم يطلق العنان للنظر العلمي النقدي للدلالات اللغوية.

فلقد مارس آلية التّحليل اللّغوي للنص حتّى يزيل اللّبس ويسهل الفهم المنطقي العقلي السّليم للشّرع، هذه الآلية التي اشترط على الباحث أن يكون ملمّاً بها، سواء من حيث القواعد النحوية أو الموروث اللّغوي الذي جاء به النص القرآني، ليضع مرجعية واقعية وتاريخية للّغة، يمكن أن تساهم في تقريب الفهم البشري النسبي للنّص الشرعي المطلق.

تأكيده على ضرورة إقحام العقل في تطوير اللّغة وفهم النص الشرعي كان مصحوبا بتأكيده على التزام الواقعية حيث لم يُدر ظهره إلى الواقع والوجود المتمثّل في الطبيعة ونظامها الثاّبت، لذلك جاء موقفه من مسألة الحريّة أكثر واقعية وعقلانية مقارنتاً بالأطروحات الميتافيزيقية(النّفي والإثبات).لقد كان طرحه علمي وعملي في آن واحد، وهو توجّه يؤكد انّ بلوغ أي إصلاح مرهون بالنظرة الواقعية وبفهم مقتضيات الواقع (عابد الجابري، محمد، 1983)، مع ضرورة تحمل الفرد مسؤوليته الإدراكية في فهم النص، للانطلاق بمقومات الوعي وهي السمع والبصر والفؤاد لكسر قيود القهر الفكري والمعرفي الذي يريد أن يسجن العقل البشري في فهم واحد ووحيد للنص، لقد أصبح التأويل ضرورة إصلاحية ترفض كل أشكال القمع الفكري الذي يسيّج طاقات الإنسان المبدعة في مجال الحياة الاجتماعية والحضارية .

فقد اعترف بوجود نظام سببي يحكم هذا الوجود يستحيل على الإنسان الخروج عنه أو تجاوزه بالمخالفة أو التجاهل والرّفض، لكنه أكد في الوقت نفسه على قابلية هذا النظّام للتعقّل الإنساني وكذلك التحرّك في ظلّه دون الشعور بالجبر، فهو ميدان خصب يمكن للإنسان أن يمارس فيه حريتّهُ بحيث يتّسع مجال هذه الحريّة كلما اتّسع علمه ووعيه بهذا النظّام والتزم العمل وابتعد عن التواكل والاستسلام للطبيعة بحجّة حتمية القضاء والقدر.

فلم يكن موقفه طرحا فلسفيا مجرّدا، بل كان طرحا فلسفياً وعلمياً بامتياز، تجنّب من خلاله الدخول في أي جدل عقيم، وهذا يعود إلى المقصد العلمي والعملي الذي كان يسعى إليه، لقد كان يبحث عن الحقيقة في حد ذاتها، الحقيقة التي لا تتعارض مع العقل والواقع، الواقع أو الظواهر الطبيعية التي يمكن أن تكون طريقاً لفهم القضايا الغيبية لاقتناعه أنّ البراهين العلمية التي تؤسس للمعرفة العلمية يجب أن تكون مأخوذة من الطبيعة ولا تتعارض معها فقد «تبيّن أنّ البراهين المحققة إنمّا تكون من المبادئ المتقدمة بالطّبع التي هي أعرف عندنا وعند الطبيعة»(ابن رشد، ابي الوليد، 1984)، ومنه تؤسّس الأطروحات العلمية والفلسفية التي تضبط الأدوات الصالحة لبلوغ الإصلاحات المنشودة داخل المجتمع، وهذا ما حرص على تحقيقه عند معالجته لموضوع الحرية، إذ نجده يعترف بالحتميات والنظام الذي يحكم الوجود ويؤكد على ضرورة الأخذ بمختلف الأسباب التي تمّكن الإنسان من ممارسة حريته على أرض الواقع، فيقدّم موقفاً علمياً وحلاً واقعياً لموضوع الحرية وهو حل تجاوز به الحدود الجغرافية والإيديولوجية ليصل به إلى مرتبة العالمية والإنسانية.

طبيعة التأويل الرشدي ونشر ثقافة الاختلاف والنقد

لقد وجد في طريق التأويل وسيلة لتأكيد عدم تعارض الشريعة والحكمة، فحدّد الغاية من التأويل وهي غاية نظرية تتمثل في التأسيس للفهم البشري للنص وكذلك تحديد طبيعة العلاقة الموجودة بين الحكمة والشريعة ومنه إثبات مشروعية إعمال العقل في قراءة النص الديني، قراءة إنسانية تقبل النقد والرفض كونها محكومة بظروف منهجية علمية وعادات لغوية ثقافية تحدّد روح العصر السائدة. فحاول تأويل النصوص المتعلقة بالصفات الإلهية مثل الوحدانية والإرادة والعلم والخلق والسّمع لإخراجها من القوة الشرعية إلى الفعل الفلسفي دون إحداث خلل في جوهر النص كونه تأويل النصوص المتعلقة بهذه المواضيع لا يؤثّر على المبادئ العقدية التي أثبتتها؛ فالبحث في تأويل القول الشرعي المتعلق بالإرادة الإنسانية لا علاقة له بالإرادة الإلهية، فالإقرار بحرية الإنسان لا يؤثر سلباً على فهم الإنسان لإرادة الله والإيمان بالقضاء والقدر، كما أن الإقرار بمبدأ السببية والنظام الذي يحكم العالم لا يؤدي حتماً إلى إنكار المعجزة والقدرة الإلهية في التصرف في هذا العالم.

هذا ما يبيّن الحاجة الماسة إلى منظومة علمية بشرية مرنة لا تتوقف عند حدّ القول المأثور أي الموروث للتأسيس لقراءة بشرية للنص، تساهم في فتح الأفق أمام فهوم جديدة للنص الشرعي، مع غلق الباب أمام محاولات التأويل الذاتية، لا يمكن التحقّق منها أو فهمها بنفس المعنى، فالموضوع هو الذي يفرض نفسه على المتأوّل وليس الذات هي التي تفرض نفسها على النص، خاصة عندما يكون النص مقدسا حتى وإن تنزّل بلغة الإنسان فهو من مصدر غير إنساني.

التأويل وأمل الإصلاح

بالنسبة لابن رشد، التأويل طريق معرفي وثقافي مشروع، لأجل التأسيس لمعرفة إنسانية حول النص والتأسيس لحياة إنسانية روحانية البعد، وفق منهج مرن يمكّن المتأول السفر في النص من ظاهره إلى باطنه وفق آليات معرفية بشرية واضحة مفهومة المعالم.

وهذا يوضّح سبب تأكيده على وحدة الحقيقة، فما يحمله النص الشرعي من حقيقة سواء كان بتقرير صريح أو ضمني، مع وجود الاختلاف بين ظاهر النص وباطنه، لا يمكن أن يكون محملاً للتأكيد على تعدد الحقيقة، فالحقيقة واحدة سواء تعلّق الأمر بالحقيقة في مجال الطبيعة أو العلوم النظرية وكذلك الشرعية، فالشرع بالنسبة لفيلسوف قرطبة لا يمكن استثناءه من هذه القاعدة.

كما يؤكد على ضرورة تأسيس علوم الشرع خاصة منها علم الفقه وأصوله على الاجتهاد والتأويل البشري والابتعاد عن التقليد، فالتأويل هنا هو حوار مؤسّس بين العقل البشري والنص الديني، حوار محكوم بضوابط معرفية وأخلاقية وعقدية، لا يمكن التملص منها أو رفضها تحت حجة حرية الفكر، أو الرّجوع إلى الشعور الداخلي الذاتي كطريق لقراءة النص الديني الذي يختلف تمام الاختلاف عن النصوص البشرية.

كما يؤكد على نسبية القراءة البشرية للنص الديني بحيث يبقى هذا الأخير ثابتاً أمّا القراءة البشرية متغيرة ولذلك البشرية مطالبة بتجاوز التقليد، ورفض الوصاية الفكرية والروحية ورفض الجمود والتعصب الفكري والتخلص من عقدة الخوف لفتح أفق الفهم البشري لاستنباط معاني النص الذي يحمل الحقيقة المطلقة، التي لم يدرك الإنسان منها إلاّ القليل، فباب الاجتهاد لا يمكن صدّه كما أن النص الديني له حرمته التي تفرض على المهتم بتأويله أن يكون ملماً بروحه وطبيعة نصوصه وبقواعد اللغة التي جاء بها والظروف الزمنية والمكانية للنص وتجاوزه في آن واحد لتلك الظروف.

يهدف التأويل إذن إلى التأسيس لمشروعية الاختلاف القائم على مبررات عقلية وشرعية لغرض تدشين أرضية ثقافية صالحة للاختلاف الثري والخصب في الروية والمنهج. كما أن التأويل عنده طريق للتأكيد على أهمية توظيف العقل في مختلف المباحث لكن وفق منهج واضح المعالم والمقصد، مع الابتعاد عن القراءة التي يسعى أصحابها إلى خلخلة الثابت والتشكيك فيه باعتماد مناهج معينة دون مراعاة خصوصية النص الديني. فهو يريد أن تنطلق القراءة من داخل النص وليس من خارجه، لذلك يمكن أن نقول إنه كان يسافر في أعماق النص وهو حاملا لمتاعه اللغوي والمعرفي والمنهجي مع محاولة استغلال السياق الثقافي والحضاري السائد لغرض بسطه على الساحة الفكرية(قريبز، عبد الغني;، 2020).

التأويل وتحقيق الانفتاح على الدين والغير وتبيئة الفلسفة

لقد جعل من التأويل طريقا للفهم المنفتح على روح العصر ومشكلاته دون اجترار مشكلات الأولون وفهومهم، مع امتلاك الشجاعة العلمية على نقد تلك الفهوم للتأسيس لقراءة بشرية منفتحة على القدرات الفكرية وحقائق العلم الثابتة بالبرهان.كما يمكن القول أن المقصد الإصلاحي لابن رشد من خلال اعتماده التأويل، جعل مسألة الانقلاب الفكري أو المراجعات الفكرية أمرا ثابتا في الفلسفة وعند الفيلسوف بحيث تصبح خاصية ضرورية عند كل فيلسوف يسعى إلى إصلاح وتقويم الفكر، فقد مكنته المراجعات التأويلية لمختلف القراءات البشرية للنص الديني من اكتشاف الحقيقة والإقرار بها دون النظر إلى مصدرها، حيث تراجع عن بعض أفكاره التي كان قد تبناها في بداياته(العلوي، جمال الدين، 1986)، خاصة في مسألة العلم الإلهي وقدم العالم وكذلك علاقة الفلسفة بعلم الكلام ومواقف اهل الكلام من هذه المسائل، فبعد أن كان يقول ببعدهم عن الحق وروح الشرع من جهة ويؤكد قرب الفلاسفة بما فيهم حكماء اليونان منه -الشرع- بالرغم من اعتمادهم على العقل وحده تراجع عن هذا الطرح وأعاد النظر في قراءته للنصوص الشرعية المرتبطة بهذه المسائل ليأتي بموقف مرن لا يخالف فيه علماء الكلام ولا الشرع ويراعي فيه فهوم الجمهور من الناس وذلك ليس لغرض تحسسيهم بذلك العجز بل لغرض تكيف الخطاب الناتج عن التأويل وفق ما يلاءم متطلبات العصر ومستويات الفهم، حتى يكون ذلك الخطاب عاملا مساعدا على تحسين مستويات الفهم وتدريبها لتكتسب الكفاءات المعرفية(المصباحي، محمد، 2007) والسلوكية التي تؤهلها لتصبح قادرة على استثمار النص الديني لغرض استنباط القيم والأحكام التي تساهم في تنظيم الحياة الروحية والاجتماعية وبلوغ السعادة.

لقد كان يسعى إلى الإقرار بعالمية الحق وإمكانية حضوره عند من يخالفنا الطرح والانتماء «فالمذاهب في العالم ليست تتباعد حتى يكفّر بعضها ولا يكفّر»(ابن رشد، ابي الوليد، 1989)، كما يقول كذلك «لا معنى للاختلاف في هذه المسالة-العلم الإلهي، قدم العالم،المعاد- إمّا مصيبين مأجورين وإمّا مخطئين معذورين»(ابن رشد، ابي الوليد، 1989) او قوله:«او يشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذوراً والمصيب مشكوراً أو مأجوراً»(ابن رشد، ابي الوليد، 1989)، هذا الطرح الذي يؤكد عدم انحصار التأويل عند غاية واحدة وهي التأكيد على أهمية الفلسفة وعدم تناقضها مع الشرع أو القول بابتعاده عن التفكر الذي يعمل على إصلاح الواقع البشري، يتعلق بإحداث تغيير في البنية الثقافية والاجتماعية(المصباحي، محمد، 2007)، لكن واقع الحال يقول غير ذلك خاصة وأن ثلاثيته موجهة أكثر للجمهور لغرض تصليح بعض الأفكار، حيث أراد مساعدة المجتمع على امتلاك ثقافة دينية في مختلف المسائل النظرية والعملية، مع امكانية الإبقاء على مساحة محترمة ومحمودة للاختلاف في الفهوم، حيث أكد أنّ الحق لا ينحصر في مذهب محدود، وهو ما يستوجب أخلاقيا احترام كل القراءات وترك اختبارها لأهل العلم ومنطق العقل والشّرع، والترفع عن التخندق في دور القضاة الذين يحكمون على عقائد الناس بالفساد والصلاح.

وقد التزم بهذا التوجه في مختلف اعماله الفكرية حتى المرتبطة بعلوم الفقه والتشريع، حيث كان ينشد الإصلاح باعتماد التأويل باستعراض مختلف المواقف الفقهية في المسالة الواحدة ويقدم أسسها البرهانية، ثم يقوم بترجيح الطرح الذي يراه محققا لمقصد الشرع، وخير مثال على ذلك نذكر مثلا مسالة تحريم الخمر وما يسكر ويذهب العقل حيث رجّح الحكم بتحريم كلّ ما يخمّر العقل ويعطّله حتى يغلق الباب أمام كل يعطّل العقل ويفسده ويقلّل من قوته التوجيهية للسلوك داخل المجتمع.

لقد جعل من المقاصد الإصلاحية التي تحمي الفرد وتحافظ على صحته وتماسه الاجتماعي ضابطاً منهجياً لازماً في ميدان التأويل، لاستنباط الأحكام الشرعية والقيمية التي يمكن أن تساهم في إثراء المنظومة القيمة والثقافية داخل المجتمع متجاوزا بذلك أي طرح يجعل من التأويل «مجرد منهج هيرمينونيطقي كما هو مطبق في ثقافات أخرى»(قسوم، عبد الرزاق، 1998)، وبذلك يمكن القول أنه كان يسعى إلى التأسيس لسلطة التأويل القادرة على علاج ما تخلّل الشرع من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفّة التي تسببت في الأذية من الصديق قبل العدو(ابن رشد، ابي الوليد، 1989)، كما يؤكد كذلك الحاجة إلى الدين كثابت داخل المجتمع، واهلية نصوصه لإمداد الفكر والمجتمع بالحقيقة ومن والأحكام الشرعية التي تساعده على مواكبة روح الشرع والعصر في آن واحد، لهذا كان يردّد موقفه التالي «وإذا كانت هذه أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإنّ الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له»(ابن رشد، ابي الوليد، 1989).

بهذا يكون التأويل طريقا يجعل من النص الديني حقلاً ثريا وغنيا ومنفتح الأفق، كما يجعله مفتوحا على كل فهم بشري ممكن في المستقبل، حيث يؤسس له دائما معنى جديدا، جديرا باتساع أفق الرؤية واتساع دائرة المعقول مع الحرص على تحقيق التوافق بين العلماء وأهل الفكر في مختلف مجالات الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يفتح المجال لإمكانية تحول عملية التقنين إلى محاولة صريحة أو ضمنية لغلق الباب أمام التأويلات التي لا تقوم على قواعد وضوابط علمية وشرعية وثقافية واضحة، هذه الأخيرة التي يمكن اعتبارها من العلامات المساعدة على إدراك مقصد النص الديني. لهذا ابرز المفسرون والعلماء أهمية السياق في فهم دلالة النص، وترجيح المحتملات، حيث يقول العز بن عبد السلام «وقد يتردد بين محامل كثيرة يتساوى بعضها مع بعض، يترجح بعضها على بعض، وأولى ما دل عليه الكتاب في موضع آخر أو السنة، أو إجماع الأمة، أو سياق الكلام، وإذا احتمل الكلام معنيين، وكان حمله على أحدهما أوضح واشد موافقة للسياق كان الحمل عليه أولى»(قريبز، عبد الغني، 2020) وهذا يبيّن عدم خروج ابن رشد على المتعارف عليه بين العلماء وكذلك على اعتباره الغاية الإصلاحية وهي مقصد شرعي وثابت معرفي، يمكن أن يساهم في إثراء الوعي وتطوير الفهم والنظر إلى الدين عموما، بكونه مصدرا للتشريع وإسعاد الإنسان مع ترك مساحة محترمة للممارسة الفلسفية لأفاضل الناس في المجتمع، ليساهموا في إثراء الوسط الثقافي والشرعي والعلمي الذي يُنشا تقارب عملي بين المسلم وعقيدته. عكس ما تصوّره بعض الدراسات الاستشراقية، التي تجعل من العقلانية الرشدية دعوة إلى تحرير الإنسان من الإيمان والمعتقد.

فقد جعل الإنسان كغاية يجب النظر إليها اثناء التأويل، كما كان يحرص على إنتاج فهوم جديدة للنص لها انعكاسات إصلاحية على المجتمع والمدينة، ما يؤكد الحاجة إلى قراءات جديدة للنص الديني، الذي يبقى ثابتا من الثوابت المكونة لعقيدة التوحيد كون وجود النص يقتضي فهمه وفهم النص لن يكون من جهة صاحبه وإنما من جهة سامعيه او قارئيه، لكن هؤلاء متفاضلين في الفهم والإدراك وجودة القريحة وصفاء الذهن في «السمع» و في «القراءة» وبهذا التفاضل تتعدّد دلالات النص الواحد (النقاري، حمو، 2013).

علاقة التأويل بالتشريع لحياة الإنسان

كان إذا وجد نصاً صريحاً ثابتا في القضية استند إليه، وإلاّ فإنه يلجا إلى العقل، وهو يعتقد أن العقل مصدر من مصادر التشريع لأنّ كمال الشريعة لا يكون بالوحي وحده، ولا تتوقف عند حدّ ظاهر النصوص والفهم الحرفي لها «وكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها، ومن سلّم انه يمكن أن تكون ههنا شريعة بالوحي فقط، فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي»(ابن رشد، ابي الوليد، 1987). وهو هنا لا يقصد بالعقل القياس الشرعي فقط، وإنما يريد القياس المنطقي القائم على مبادئ عقلية صرفة.

هذا الطرح الذي يرجع إلى موقفه التوفيقي بين الحكمة والشريعة، حيث كان يرى أنّ الفلسفة أخت الشريعة(ابن رشد، أبي الوليد;، 1979)، وهو طرح يقرّ فيه بالاتفاق في الغاية، فالفلسفة ترمي إلى الحق وهو مطلب الشرع في آن واحد «فإذا كانت الشريعة حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإنّ الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له»(ابن رشد، أبي الوليد، 1979) هذا المنطلق الفلسفي الذي يهدف إلى التوسيع من مجال العمل الفلسفي وتحقيق تصحيح عقدي وفلسفي في آن واحد «ولعلّ لهذا السبب أقدم صاحبنا على وضع كتاب  تهافت التهافت بعد فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة جامعاً بين التصحيحين العقدي والفلسفي، ومسجلاً في الآن نفسه عودة جديدة إلى الفلسفة بعد أن وضع الأسس الأولى لإصلاح العقيدة ومن ثمّ إصلاح المجتمع والسياسة»(حمادي، لحميدي، 1991) بهذا يجمع ابن رشد بين طريق التأويل ومختلف المشاريع الفكرية والحضارية التي كان يسعى إلى تحقيقها على أرض الواقع، كما يؤكد قيمة ودور الفلاسفة وهم الراسخون في العلم في التأسيس لمشاريع الإصلاح والتغيير.

فقد كان يرى أنّ نجاح أي مشروع تصحيحي يبقى مرهون بالطريقة التي يقرا بها النص الديني ومن ثم التشريع لحياة الإنسان اليومية، هذه الطريقة التي تحتاج إلى الجرأة في إقحام العقل البشري في هذه القراءة، حتّى تقوم على أساس النظر العقلي، والقياس المنطقي خاصة وأن الأحكام الشرعية كلها معقولة المعنى «والأحكام يجب أن توجد مع وجود عللها»(ابن رشد، ابي الوليد، 1989)، فرفض بذلك القول بعدم قابلية الأحكام الشرعية إلى التعقّل وأنها عبارة عن عبادات غير معقولة المعنى «وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول -عبادة- إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم»(ابن رشد، ابي الوليد، 1989) فالأحكام الشرعية قابلة للتعقّل والفهم والتعليل وطريقه في الوقوف على ذلك هو طريق التأويل وفق ما يقتضيه العقل الذي يقدر على استنباط وإدراك الحكمة من التشريع -المصلحة- لأن الأحكام الشرعية إمّا أن تكون مسكوتا عنها او منطوقا بها، فإن كانت مسكوتا عنها فلا إشكال حيث توكل مهمة التشريع للعقل وحده مع الالتزام بروح ومقاصد الشرع وإن كانت مما نطق به الشرع، فلا يخلو الحال من أمرين(العلوي، جمال الدين، 1986)، إمّا أن يكون ما نطق به الشرع موافقاً للعقل، أو مخالفاً له، فإن كان موافقاً فلا إشكال أيضا، لآن العقل والشرع يصبحان ناطقين بحقيقة واحدة، وإن كان مخالفاً فإن الرّجوع إلى التأويل العقلي للنص يصبح أمرا لازماً كون الأحكام التي يستنبطها العقل ستكون واضحة ومعلّلة لدرجة أنها لا تقبل التأويل، فيقدم بذلك حلا لمسألة البحث الديني والفلسفي عندما وظّف العقل في قراءة النص الديني ووسّع له من امكانية القراءة لدرجة أنه جعل التأويل العقلي للنص الديني الذي يبدو في ظاهره مخالف لمنطق العقل والواقع بمثابة مرجعية ومصدر علمي وشرعي في بناء الأحكام التشريعية(فضل الله ، مهدي، 1995) .

وبهذا يمكن القول أن تراجع ابن رشد عن موقفه الرافض لطريق التأويل، ينم عن بعد نظره وإقراره أن الخلل لا يكمن في وسيلة البحث والفهم والقراءة، بل هو خلل يعود إلى عدم التزام مستعملي هذا الطريق بالبرهان وتجاهلهم لروح الشرع ولقواعد التأويل او بسبب وقوعهم في التعصب. لقد استعان بالتأويل ليؤكد دوره في تعبيد الطريق لنشر القابلية للاختلاف بين أوساط الرعية والمنتسبين للعلم، حتى تصبح مستعدة لممارسة النقد ومكتسبة للروح العلمية، التي تجعلها تمارس النظر في الشرع ليس لأجل رفضه او التشكيك في مبادئه بل من اجل فهمه واستنطاق نصوصه التي يمكن أن تمد الإنسان بالمبادئ التي تساعده على فهم الوجود وكذلك على تحقيق سعادته وتغيير أحواله الاجتماعية والثقافية وتجاوز الجمود والتقليد او الوقوف وقفة المتفرج على هامش التاريخ.

كما بيّن أن الفهوم البشرية للنص تبقى محدودة في سياقها الثقافي والحضاري وكذلك مرتبطة بمتطلبات العصر والتطور العلمي الذي يشهده المجتمع، وبذلك يصبح النقد ضرورة معرفية واجتماعية يمكن من خلالها تخليص العقل الفردي والجمعي من بعض الفهوم التي أصبحت غير قادرة على استيعاب مشكلات الإنسان أو غير متماشية مع العلم. كما أكدّ ان المقصد الإصلاحي يبقى المؤشر الذي تقاس على إثره مختلف الأفكار الناتجة عن تأويل وقراءة النص الديني خاصة إذا كان الإصلاح مقصدا ثابتا للشرع.

فإذا كان التأويل بمثابة علاج ضروري يعتمده طبيب المجتمع وهو الحكيم والفيلسوف لعلاج مشكلات المجتمع ووقايته من مختلف التمزقات الفكرية والاجتماعية التي قد تلوح في المستقبل، فإن العلاج لا يعتمد إلا عند وجود أعراض المرض أو خلل في استقرار المجتمع، لقد ربط فعّالية التأويل بقوة الإصلاح والتأثير في ذهنيات الأفراد وسلوكاتهم وقدرتهم على استيعاب الإختلاف والتجديد واتساع مساحة الرأي الحر، لكن تبقى هذه الفعالية مرهونة بظهور الأسباب العلمية والاجتماعية الموضوعية التي تدع إلى إعادة قراءة النص الديني، كون المسألة لا تقوم على مجرد الفضول او الترف الفكري، الذي قد يجعل من الـتأويل غاية في حدّ ذاته، وهذا لا يعتبر تقويضا للعمل التأويلي أو سجنا للعقل البشري أو خلقاً للطابهوات الفكرية، بل تأطير لهذا الطريق ليبقى صالحا لتحقيق الإصلاح المنشود فهو وسيلة تمكّن أهل الفكر من القيام بواجباتهم التنويرية والإصلاحية داخل المجتمع في مختلف ميادين الحياة مستوياتها.

فالتأويل عنده طريقا لإحداث الإصلاحات التي تمهد السبيل للتطور وانتشار التسامح والتعايش بين أفراد الأمة الواحد او بين مختلف الأمم. ومنه يصبح التأويل طريقا ضروريا لقراءة النص وتقريبه من الاهتمامات البشرية في مختلف مستويات الحياة، الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، مع الحفاظ على مساحات الإختلاف في فهم النص واستنباط الأحكام الشرعية التي تساعد الفرد على مباشرة انشغالاته الحيوية وفق تعاليم الدين، هذا التوجه الذي يتجلّى بوضوح في مؤلفه بداية المجتهد، الذي يمثّل حسب، برنشفيك أكمل نموذج لتطبيق أصول الفقه تطبيقا منهجيا على كامل أبواب الفقه السنّي، يعتمدها الفقيه كالمعيار وكالمرجع للبيان والتأويل، لإيجاد شرح صالح ومقبول للاختلاف في ظل دراسة واستنباط الحلول من مصادرها التشريعية(التريكي، غبد المجيد، 1981)، فوظيفة المؤوّل الأساسية هي بلوغ الحق وتحقيق الإصلاح والحد من مظاهر الصراع والانشقاق والتفرقة، فالتأويل وسيلة للإصلاح لا يجب أن يحيد عنه المنخرط في العمل التأويلي.

فالإنسان المسلم بحاجة إلى أن يكون لديه تصوّرا واضحا عن الله وصفاته وعن اليوم الآخر وعن الوجود وعن طبيعة الإرادة البشرية وكذلك الإرادة الإلهية وعلاقة إرادة البشر والأخذ بالأسباب بالقضاء والقدر، هذه القضايا التي تساهم في تشكيل الرؤية إلى العالم التي بدورها تحدّد خارطة الطريق التي يكون عليها مسار الفرد والمجتمع في آن واحد، علما أن الدين قد وردت فيه نصوصا شرعية تناولت هذه القضايا بالطريقة التي تتناسب مع القدرات الفكرية لمختلف الفئات التي تشّكل بنية المجتمع(المصباحي، محمد، 2007).

خاتمـة

لقد ترك ابن رشد مؤلفات كثيرة حاول من خلالها إنجاح مشروعه الإصلاحي، أهمها ثلاثيته الشهيرة التي تعتبر بمثابة المترجم الصريح لمشروعه الإصلاحي، الذي لا ينحصر في مجال المعرفة بل يمتدد أثره إلى الحياة الاجتماعية خصوصا إذا عرفنا أن العلاقة وطيدة بين إصلاح المنظومة المعرفية والمنظومة الفكرية والاجتماعية(خاصة، شريف، 2019).

لقد أدرك ان المدينة الإسلامية تقوم في وجودها على طائفة من المجتهدين في فهم النص واستنباط الأحكام، ليضبطوا الفرائض والسنّن ويوجهوا الجمهور على ضوئه، ما جعله يضبط طريق التأويل، ويبيّن من يتصدى لهذا العمل المحوري، فأقصى عوام الفقهاء والمتكلمون من هذه المدينة(بورشاشن، ابرتاهيم بن عبد الله، 2010)، لتطهير الفضاء الثقافي ممّا يمكن ان يشوّش عليه حيث أبرز في مناهج الأدلة ضرورة إنقاذ المعرفة الشرعية وطلب سلامتها عن طريق تصحيح الوضع العلمّي في المدينة الذي لا يتحقّق إلاّ بضبط الإطار المعرفي والشرعي وألمقصدي لطريق التأويل.

فقد اعتمد طريق التأويل لتصحيح وإصلاح ما هو ضروري لتتوفر الشروط الفكرية والنفسية والاجتماعية لإحداث التغيير المنشود، كونه يرى أن تبدّل حال المجتمع السياسي والثقافي والاجتماعي مشروط بحدوث تغيير سليم في الذهنيات الفردية والجمعية، للفصل في كيفية التعامل مع الوافد الثقافي ومن يخالفنا في الرأي، لهذا سعى إلى تحديد مدلول الحكمة والشريعة ومقاصد كل واحد منهما حتى يحدّد نقاط الوصل والفصل الموجودة بين الحكمة كإنتاج بشري والشريعة ذات المصدر الإلهي، فأوّل الآية التي تتحدث عن الفئة القادرة على فهم النص القرآني وبلوغ الحقيقة الباطنة فيه«الراسخون في العلم» بالحكماء وأهل البرهان وهم الفلاسفة لأجل إصلاح نظرة المجتمع إلى الفلسفة وطريقة التعامل معهم ومع أفكارهم والابتعاد عن تكفيرهم وإخراجهم من الملة بسبب أفكارهم وأرائهم المستعصية على الناس.

كما أراد من خلال حصر التأويل على اهل العلم والبرهان إعفاء الناس من مغبة صعوبة فهم النصوص التأويلية التي يأتي بها اهل العلم، التي يهدفون من خلالها إلى تطوير الفهوم البشرية للنص الديني وتكيفها مع مستجدات العصر ومتطلباته ومقاصد الشرع.ليبيّن أنّ الإصلاح الفكري يتم بهدوء وفي وسطه الملائم، حتى يؤتي ثماره، فأي محاولة للإفشاء وتعميم التأويلات المختلفة سيتسبب في تمزيق المجتمع وخلق الفرقة والتناحر بين افرداه وانتشار التعصب والصراع المذهبي، الذي سيقضي على العلم وروح الاختلاف ويقوّض من مساحة الحريات الفكرية «وصرّحوا بتأويلاتهم للجمهور... فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب ومزقوا الشرع وفرّقوا الناس كل التفريق»(ابن رشد، ابي الوليد، 1987) هذا النص الذي يؤكد اشتغال ابن رشد بهموم المجتمع وقضايا الدين الذي هو بمثابة الدواء المركب الذي قد ينفع الناس إذا وجد الطبيب الماهر الذي يحسن تركيب الأدوية حتى تتلاءم مع طبيعة الأمراض والأبدان.

فحدوث التغيير الصحيح في المجتمع لا يمكن أن يكون إلاّ بعد أن يتسّع صدر وافق المجتمع، فلا يحمل أية ضغينة للمثقف والمجتهد في اعمال النظر في مختلف المسائل المرتبطة بتشكيل البنية الفكرية والعقدية للفرد، وفق قراءة ـتأويلية للنص تتجاوز المألوف، لكن ليس لأجل نشر الشكوك وإضعاف الانتماء للدين، او لغرض خدمة مشاريع سياسوية وإيديولوجية، لتعارض ذلك مع هدف الإصلاح والبناء(ابن رشد، 1989) فالمحك الوحيد الذي سيكشف الغث من السمين هو الزمن والكشوفات العلمية والحقائق العلمية التي يمكن الإطلاع عليها عند الانفتاح على علوم الغير.

ولهذا حاول التعرض لمختلف القضايا المفصلية التي تساعد على إنجاح الإصلاح الاجتماعي مستعينا بالتأويل كوسيلة لتقويم الفهوم وبناء التصورات التي يراها موافقة للشرع ولمقصد الشارع صلى الله عليه وسلم كدعامة على أساسها يتوجه بالنقد والتقويم لما سبقه من مواقف في تلك القضايا(عابد الجابري، محمد، 1998)، خاصة أنه ضرورة حضور العقل أنّ للتأسيس للاجتماع البشري وتحديد الأسس التي تساهم في تقوية البنية الاجتماعية(مذبوح، لخضر، 2011) وإن كان يقرّ بمركزية الشرع كوازع قوي في دفع الناس على الاجتماع والتنظيم والتكامل، وكذلك كمصدر أساسي في استنباط النواميس التي من شأنها أن تحقق السعادة لهذا المجتمع

ان رجوع ابن رشد إلى التأويل، تأكيد على أهمية النص الديني في تقويم الإصلاح الاجتماعي وذلك بالرّجوع إليه وقراءته قراءة بشرية مرنة، موائمه لروح ومقاصد الشرع لغرض التأسيس للمجتمع وتطوير منظومته القيمية والسياسية. وبهذا يرهن الاستفادة الإنسانية من الدين بطبيعة القراءة البشرية لنصوصه، فيقطع الطريق أمام من يحاول ان ينسب التخلف والجمود إلى الدين والمعتقد، فتتحول المسألة من مدى حاجتنا للدين إلى مسألة مدى حاجتنا إلى إعادة النظر في طريقة قراءة النص الديني. فيصبح بذلك القرآن، هو المعادل الموضوعي للوجود الكوني. فمثلما يأخذ الإنسان بمعرفته النسبية للكون ما يعينه على تحقيق سعادته يأخذ ما يتاح له بطريق الفهم والتأويل من مطلق القرآن، عبر فهم ووعي مكنونه الموصوف بأنه كريم من زاوية العطاء المتجدّد دون الارتباط ألقصري بالماضوية(حاج حمد ، محمد ابو القسام، 2012)، كون الوعي بالقرآن المعادل للكون وظواهره وحركته يساعد الإنسان على أن يستوعب ضرورات التشريع للمجتمع المدني، المتشبّع بقيم الرّوح والإرادة التي تستهدف التمركز حول شخصية الإنسان كقيمة متعالية وفي الوقت نفسه يؤكد ضرورة إعطاء مكانة لأهل العلم والحكمة وهو الفلاسفة الراسخون في العلم لقيادة المجتمع وذلك بتمكينهم من أداء مهامهم في فهم الدين وتأويل نصوصه لما يحقق سعادة الإنسان وبهذا يؤكد حقهم في السلطة الثقافية، لتنوير الفهوم البشرية وتقريب النص القرآني من العقول، ومنه يظهر أنّ رجوع ابن رشد للتأويل هو ذريعة لإضفاء الشرعية على الحكمة وكذلك تأكيد على مكانة الدين في التأسيس للمختلف الحلول البشرية وكذلك على مكانة الفلاسفة في رعاية هذا الوصل.

@pour_citer_ce_document

شريف خاصة, «فلسفة الإصلاح وعلاقتها بقراءة النص الديني عند ابن رشد»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 18-33,
Date Publication Sur Papier : 2022-12-05,
Date Pulication Electronique : 2022-12-05,
mis a jour le : 05/12/2022,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=8929.