الأخلاق والحوسبةEthics and Computing Informatisation de l’éthique
Plan du site au format XML


Archive: revues des lettres et sciences sociales


N°01 Avril 2004


N°02 Mai 2005


N°03 Novembre 2005


N°04 Juin 2006


N°05 Juin 2007


N°06 Janvier 2008


N°07 Juin 2008


N°08 Mai 2009


N°09 Octobre 2009


N°10 Décembre 2009


N°11 Juin 2010


N°12 Juillet 2010


N°13 Janvier 2011


N°14 Juin 2011


N°15 Juillet 2012


N°16 Décembre 2012


N°17 Septembre 2013


Revue des Lettres et Sciences Sociales


N°18 Juin 2014


N°19 Décembre 2014


N°20 Juin 2015


N°21 Décembre 2015


N°22 Juin 2016


N° 23 Décembre 2016


N° 24 Juin 2017


N° 25 Décembre 2017


N°26 Vol 15- 2018


N°27 Vol 15- 2018


N°28 Vol 15- 2018


N°01 Vol 16- 2019


N°02 Vol 16- 2019


N°03 Vol 16- 2019


N°04 Vol 16- 2019


N°01 VOL 17-2020


N:02 vol 17-2020


N:03 vol 17-2020


N°01 vol 18-2021


N°02 vol 18-2021


N°01 vol 19-2022


N°02 vol 19-2022


N°01 vol 20-2023


N°02 vol 20-2023


N°01 vol 21-2024


A propos

avancée

Archive PDF

N°02 vol 19-2022

الأخلاق والحوسبة
Informatisation de l’éthique
Ethics and Computing
ص ص 34-46

مليـكة مذكور
  • resume:Ar
  • resume
  • Abstract
  • Auteurs
  • TEXTE INTEGRAL
  • Bibliographie

شهدت الإنسانية تحولات عدة بسبب التطورات المتسارعة للذكاء الاصطناعي لم تعرفها من قبل، وهو الأمر الذي وضعها أمام تحديات كثيرة معرفية وأخلاقية، خاصة مع الأبحاث التي تشتغل على الذكاء الفائق الذي بإمكانه أن يستقل بقراراته ويخرج عن سيطرة الإنسان. ولهذا أصبحت أبحاث الذكاء الاصطناعي تطرح عدة مشكلات فلسفية حول مستقبل الإنسانية ومصيرها في ظل هذه التحولات، وهل يمكن تحجيم هذه الأبحاث وتقييدها بجملة من القواعد أخلاقية.  وهو ما يقودنا إلى طرح الإشكالية التالية:

هل يمكن أن يكون للآلة مبادئ أخلاقية توجهها في سلوكها؟

 وهل يمكن إخضاع الأخلاق للحوسبة؟

معلومات حول المقال

تاريخ الاستلام 2019.07.04

تاريخ القبول 12-05-2022

 

الكلمات المفتاحية

الذكاء الاصطناعي

 الذكاء البشري

 أخلاقيات الآلة

 الذكاء الفائق

 النظم  الخبيرة

L’humanité a connu plusieurs transformations à cause du développement rapide de l’intelligence artificielle, qu’il n’avait jamais connu auparavant,  cela a mis l’humanité face à de nombreux défis cognitifs et éthiques, notamment après les progrès enregistrés dans les recherches de L’intelligence autonome qui peuvent agir indépendamment de l’homme, pour cette raison, le développement de l’intelligence artificielle a posé plusieurs problèmes philosophiques sur l’avenir et le destin de l’humanité dans le contexte de ces changements, peut-on restreindre ce développement par des règles éthiques?.

Ce qui nous amène à poser les questions suivantes:

La machine peut-elle être guidée par des principes éthiques ? et l’éthique peut-elle devenir informatisée ?

      Mots clés

Intelligence artificielle

intelligence humaine

éthique des machines

 superintelligence

 systémes experts

Humanity has known several transformations as a result of the rapid development of artificial intelligence, which was not known before, and placed humanity in the face of  cognitive and ethical challenges, especially after the research of Autonomous Intelligence which can acting independently of human , For this reasons, the development of artificial intelligence has posed several philosophical problems on the future and destiny of humanity In the context of these changes,and Can this development be restricted by ethical rules? This leads us to ask ourselves the following questions :

can we create a machine that’s guided by an acceptable ethical principle?, and can ethics become computerized?

Keywords

Artificial intelligence

human intelligence

 machine ethics

 superintelligence

 expert systems 

 

Quelques mots à propos de :  مليـكة مذكور

د. مليـكة  مذكور  Dr. Malika Medkour جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف،الجزائر medkour.malika@yahoo.fr  

مقدمة

تشهد المجتمعات اليوم نوعا من الإحياء الأخلاقي خاصة عندما نتكلم عن مجتمعات ما بعد الحداثة، وقد ارتبطت هذه العودة الجديدة إلى الأخلاق بما أثارته التقنيات الحديثة من معضلات، فصارت المجتمعات بحاجة إلى قيود أخلاقية في مواجهة القدرات المتزايدة للعلم، ومن هذه المعضلات مسألة التطور المتسارع في الذكاء الاصطناعي، ففي الوقت الذي اعتقد فيه الكثيرون أن المجتمعات الحالية طغت عليها الفردانية، وأن المصلحة الخاصة قد قضت على الضمير الأخلاقي، نجد العديد من الفلاسفة والعلماء يعبّرون عن صحوة الأخلاق في ظل التطور التكنولوجي الذي حتّم ضرورة العودة إلى سؤال الأخلاق، وهو ما يبيّنه الحديث عن أخلاقيات الطب، أخلاقيات الآلة، أخلاقيات البيئة وغيرها، ومن أمثلة ذلك ما جاء به فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard)(1924-1998) في كتابه «الوضع ما بعد الحداثي»(1979) الذي حدد فيه تصورا عن وضعية المعرفة العلمية في القرن العشرين وما أدت إليه من عدم الثقة في العلوم ونتائجها، حيث حلل وضعية المعرفة في المجتمعات الأكثر تطورا، مشيرا إلى أن الأخلاقيات في المجتمع الما بعد حداثي هي أخلاقيات نقدية، ولذلك يطلق أيضا جان بودريار (Jean Baudrillard)(1929-2007) على عصر ما بعد الحداثة بأنه عصر الشك واللايقين والظن، خاصة وأن المسافة بين ما هو واقعي وخيالي أصبحت مسافة واهية: يقول بودريار«لم يعد من وجود للواقعي ولا للخيالي إلا بحدود ضيقة، فكيف يصبح عليه الأمر عندما تميل هذه الحدود إلى الزوال، بما في ذلك المسافة بين الواقع والخيال؟»(بودريار،2008).

لهذا فمن الواضح أن العلم والتكنولوجيا أصبحا في العقود الأخيرة يطرحان مشكلات أخلاقية تثير الاهتمام وتستحق التمعن فعلى قدر ما يضيفان إلى حصيلة المعرفة ويزيدان من قدرتنا على التحكم في الأشياء ويتيحان لنا خيارات عديدة وجديدة على الدوام، نجدهما يثيران أيضا قضايا جديدة تدور حول ما هو صواب وما هو خطأ، وما هو خير وما هو شر.

الأمر الذي جعل موضوع أخلاقيات العلم  في عصرنا بمثابة المساءلة الفلسفية للعلم، في سعي حثيث للفلسفة للربط بين الابستيمولوجيا والأكسيولوجيا، فقد ساد لفترة طويلة الاعتقاد بأن لكل من علم الأخلاق والعلم مجاله الخاص، باعتبار أنه لا وجود لعلم لا أخلاقي، غير أن هذا الزعم قد أعيد النظر فيه.

وترتب على ذلك تحول في العلاقة بين الأخلاقيات والابستيمولوجيا، فبعدما  كانت الأخلاقيات في البداية منفصلة عن الإبستيمولوجيا التي اقتصرت على النظر إلى العلم من الداخل، لتتمثله فقط في منهجه ومنطقه، ولا شأن لها بأي مقولة تتجاوز الإطار الإبستيمولوجي لنسق العلم، من قبيل الأخلاقيات والمعياريات والقيم، اتجهت الابستيمولوجيا المعاصرة إلى البحث في أخلاقيات العلم من زاوية نقدية خاصة بعد تحررها من مرحلة الافتتان والانبهار بالعلم والدوران في فلك سر نجاحه وتقدمه المطرد، أدركت أن العلم  لا يستغني عن منظومة قيمية ينبغي أن توجهه لكبح جماح تطبيقاته والحد من آثارها(الخولي، 2005)، ولهذا كان لابد من مساءلة العلم في مبادئه ونتائجه وتطبيقاته.

ومع التزايد المستمر في الوعي بأهمية القضايا الأخلاقية ذات الصلة بالعلم بدأت العديد من الجامعات حول العالم في تقديم المقررات حول هذا الموضوع لتوضيح الانعكاسات الأخلاقية التي قد تترتب عن التطور العلمي والتكنولوجي، وهي تخصصات باتت تدرّس اليوم في العديد من الجامعات، وتعقد حولها العديد من المؤتمرات العلمية الدولية لتحليل ورسم صورة المستقبل. وهذا الكلام ينطبق إلى حد كبير على التطورات الحادثة في مجال الذكاء الاصطناعي.

ولهذه الأسباب وغيرها يكتسي البحث في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي أهمية بالغة، إذ من المتوقع أن تكون أخلاقيات العلم هي عنوان المرحلة المقبلة، ذلك لأننا بلا شك على مشارف ثورة تكنولوجية ستغير حياة الإنسان تغييرا جذريا، خاصة وأن أبحاث الذكاء الاصطناعي لم تعد تتجه إلى العمل على وضع برمجيات تحاكي العقل الإنساني في استرجاع المعلومات وتخزينها، وتيسير تداول المعلومات، وسرعة استردادها والقيام بالعمليات الحسابية كالجمع والطرح والضرب والقسمة وحل المسائل الرياضية، بل اتجهت إلى البحث في كيفية تجاوز ذكاء العقل البشري، بإنتاج عقل إلكتروني منافسا له في كثير من الأعمال التي كان ينفرد ويختص بها، كالقدرة على الإدراك والاستدلال والتعلم الذاتي، وإصدار القرارات، وتنظيم العلوم وتخزينها، وتمييز الأصوات وتحليل الصور والتعرف على أصحابها، وأنظمة الرؤية، ومعالجة اللغات الطبيعية الخ، وهو ما عبّر عنه جون سيرل بقوله«إن الذكاء الاصطناعي الضعيف إذا كان يهدف إلى دراسة العمليات العقلية بواسطة برامج كمبيوتر مصنعة، فإن الذكاء  الاصطناعي القوي يشرع في إنشاء عقل»(سيرل، 2007).

الأمر الذي وسع من دائرة تحكم الآلة، خاصة بعد أن أبدى الإنسان المعاصر مزيدا من التنازل طواعية عن الكثير من صلاحياته للآلة التي أثبتت بفعالية قدرتها على مجاراته في اتخاذ القرارات وسرعتها.

وهو ما خلق لدى العلماء مخاوف متزايدة ومستمرة من إمكانية سيطرة الذكاء الاصطناعي على كل مناحي حياتنا، وإمكانية الاستقلالية عن الإنسان في اتخاذ القرارات، كل هذه التطورات شككت الإنسان في مدى قدرته على منافسة الآلة مستقبلا خاصة، أمام زيادة وتنامي الذكاء الاصطناعي الذي يتطور تطورا أسيا، ومن هنا جاءت أهمية التفكير في وضع ضوابط أخلاقية لهذا المجال تحد من تداعياته في المرحلة المقبلة، عن طريق ضبط هذه الأبحاث وتقييدها بجملة من القواعد أخلاقية.

وتأتي هذه الورقة البحثية لمناقشة إمكانية وضع أخلاقيات للآلة، والوقوف على دراسة القضايا والإشكاليات التي ارتبطت بهذا المشروع، والإسهام في توضيح الجهود المبذولة فيه ومدى جدواها والمعوقات التي تواجهها، وأمام هذه التطورات المتسارعة للذكاء الاصطناعي وما تطرحه من تحديات ومخاوف، بات من الضروري طرح العديد من الإشكاليات التي تتعلق بهذا المجال من بينها: هل يمكن أن نضع للآلات الذكية قوانين أخلاقية تسير وفقها، أو بتعبير آخر هل يمكن برمجة الآلة لتتصرف بطريقة أخلاقية بحيث نتقي مستقبلا خطر استقلالها في اتخاذ القرارات؟ ويتفرع عن هذه الاشكالية جملة من المشكلات الجزئية، من بينها ما المقصود بالذكاء الاصطناعي؟، ما هي الخوارزمية؟، ما هي الحلول المقترحة في هذا المجال؟، هل يمكن حوسبة الأخلاق أي هل يمكن وضع القيم والمبادئ الأخلاقية في خوارزميات رياضية ومنطقية؟

تعريف الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي هو أحد العلوم التي نتجت عن الثورة التكنولوجية المعاصرة، بدأ رسميا في عام 1956في كلية دارتموث في هانوفر بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال انعقاد مدرسة صيفية نظمها أربعة باحثين أمريكيين:جون مكارثي، مارفن  مينسكي، ناثانييل روتشستر وكلود شانون، ومن وجهة نظر جون مكارثي ومارفن مينسكي، كما هو الحال بالنسبة للقائمين الآخرين على المدرسة الصيفية بكلية دارتموث، كان الذكاء لاصطناعي يهدف في البداية إلى محاكاة كل واحدة من مختلف قدرات الذكاء بواسطة الآلات، وذلك من خلال فهم العمليات الذهنية المعقدة التي يقوم بها العقل البشري أثناء ممارسته التفكير وكيفية معالجته للمعلومات، ومن ثم يتم ترجمة هذه العمليات الذهنية إلى ما يوازيها من عمليات حوسبية تزيد من قدرة الحاسب على حل المشاكل المعقدة، ولهذا عرّف الذكاء الاصطناعي في البداية بأنه:«أحد مجالات الكمبيوتر يختص ببرمجتها لأداء المهام التي ينجزها الإنسان وتتطلب نوعا من الذكاء»(Luger,2004)، وقد عرفه جون مكارثي(John McCarthy)(1927) بأنه«علم هندسة وصناعة الآلات الذكية التي تقوم بمحاكاة العمليات العقلية الأساسية للسلوكيات البشرية الذكية، وبناء أنظمة اصطناعية تمكّن الكمبيوتر من القيام بأعمال لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق الذكاء البشري، وقد اقترح في ندوة دارتموث، إطلاق مصطلح الذكاء الاصطناعي على هذه الأبحاث، ولهذا أصبح يعرف باسم» أبو الذكاء الاصطناعي»(Deyi,and yi ,2008).

وقد استندت أبحاث هذا النظام العلمي أساسا إلى افتراض أن جميع الوظائف المعرفية، ولا سيما التعلّم، والاستدلال، والحساب، والإدراك، والحفظ في الذاكرة، وحتى الاكتشاف العلمي أو الإبداع الفني، قابلة لوصف دقيق لدرجة أنه يمكن برمجة جهاز كمبيوتر لاستنساخها، ومنذ وجود الذكاء الاصطناعـــي، أي منذ أكثر من ستين سنة، ليس هنـــــــــاك ما يفنّد   أو يثبت بشكل قاطع هذه الفرضية التي لا تزال مفتوحة وخصبة في آن واحد(غاناسيا، 2018).

ساهم في إثراء هذا العلم تضافر جهود علماء من تخصصات شتى، شارك فيها علماء الحاسب الآلي والرياضيات وعلم النفس، وعلم اللغة وفلسفة العقل والمنطق، والبيولوجيا، فقد ساهم  المنطق من خلال جهود جورج بول(GeorgeBoole)(1815-1864) في ترجمة القضايا المنطقية وتحويلها إلى رموز، واستنتاج صدق أو كذب القضايا بالاعتماد على العمليات الجبرية، ولهذا يعد الجبر المنطقي القاعدة الأساسية في تصميم العمليات المنطقية للحاسوب، كما ساهم علم النفس في فهم الإدراك والذكاء والذاكرة، وهو ما ساهم في استنتاج طريقة بناء العقل لمعارفه، وكذا التعامل معها وتخزينها واسترجاعها، بالإضافة إلى الدراسات اللغوية وإمكانية تحويل اللغة الطبيعية إلى لغة رمزية، حيث يحاكي الحاسوب في حل مسألة ما أو اتخاذ قرار في موقف ما العمليات الاستدلالية التي يقوم بها العقل، وهذا من خلال ما زوّد به من برامج.

لكن هذا التعريف للذكاء الاصطناعي ليس هو التعريف الوحيد، بل هناك تعاريف متعددة، وقد يرجع ذلك إلى أن العلماء غير متفقين على تعريف الذكاء الإنساني، ولهذا هناك من يرفض حتى فكرة إطلاق الذكاء على غير الإنسان، ويعترض على تسمية العمليات التي يقوم بها الحاسوب بالذكاء، ذلك لأن الذكاء خاصية معقدة لم يحدد لها العلماء تعريفا جامعا مانعا، مثلما يذهب إلى هذا شارنياك(Eugene Chaniak) وماك درموت(Drew McDermott) اللذان بيّنا أن بعض القدرات التي يسعى هذا العلم لمحاكاتها لا تتطلب قدرا من الذكاء كالقدرة على الابصار والكلام فكل طفل سليم العينين قادر على رؤية الأشكال من حوله وتمييز المرئيات المختلفة دون أي تدريب ومهما كانت درجة ذكائه، وكذلك يستطيع كل طفل سليم الأذنين اكتساب لغة قومه بسهولة ويسر وفي فترة وجيزة نسبيا بغض النظر عن مستوى ذكائه، ولهذا يعتقد شارنياك وماك درموت في كتابهما«مدخل إلى الذكاء الاصطناعي» أن كلمة ذكاء في الذكاء الاصطناعي قد تعطي انطباعا خاطئا إذ قد يعتقد أن هذا العلم لا يسعى لمحاكاة مثل هذه القدرات العقلية، مع أنها تمثل التحدي الحقيقي لعلم الذكاء الاصطناعي، لأن تلك القدرات العقلية التي يجيدها الإنسان دون تعليم أو تدريب و يقوم بها بشكل آلي دون أدنى تفكير مثل الابصار والسمع والكلام والحركة المتوازنة الرشيقة يصعب تماما على الحاسب محاكاتها، بينما تسهل كتابة برمجيات تحاكي القدرات العقلية التي يتعلمها الإنسان عن طريق التدريب والتعليم مثل القيام بالعمليات الحسابية كالجمع والطرح والضرب والقسمة وحل المسائل الرياضية، بل يتفوق الحاسب فيها على الإنسان بسرعته الفائقة وبراعته الشديدة، ولهذا  يخلص إلى أننا لم ندرك مدى تعقيد بعض الأنشطة الإنسانية مثل فهم الكلام المسموع وتمييز الأشكال المرئية وغيرها إلا عندما شرع الذكاء الاصطناعي في كتابة برامج لمحاكاتها، عندها فقط أدركنا أننا لا نعرف إلا القدر القليل من أسرار هذه الأنشطة العقلية.  (Charniak and McDermott,1985)، كما أدركنا أننا ما زلنا بعيدين عن فك طلاسم المخ وأسراره.

الانتقال من الذكاء الاصطناعي الضعيف إلى الذكاء الاصطناعي القوي أو الفائق

ارتبطت البدايات الأولى لنشأة فكرة الذكاء الاصطناعي بالآلة الحاسبة ثم عَرَفَ عبر سلسلة من التطورات وعبر سلسلة من الأجيال تطورات هامة إلى أن أصبح أصغر وأسرع وأكثر فعالية في معالجة المعلومات واسترجاعها، بل وقد تخطت الكمبيوترات الآن الذكاء الإنساني في مجموعة متنوعة من مجالات الذكاء التي كانت إلى وقت قريب مقتصرة على الإنسان فقط.

وقد رسم راي كيرزويل(Ray Kuzweil)(1948) مخططا تقديريا لتطور الحواسيب بيّن فيه أن التفاوت بين الإنسان والآلة لن يظل على حاله مع بدايات القرن القادم: ذلك لأنه إذا «كانت سرعة الكمبيوترات تتضاعف كل ثلاث سنوات في بداية القرن العشرين، ثم كل سنتين خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، وهي تتضاعف حاليا كل اثني عشر شهرا، وسوف تستمر على هذا المنوال حتى تصل الكمبيوترات إلى سعة الذاكرة وسرعة إنجاز العمليات الحسابية لدى المخ البشري في2020  تقريبًا»(كيرزويل، 2009)

كما رسم راي كيرزويل عدة سيناريوهات لهذا التطور الذي سينتهي بذكاء يفوق الذكاء الإنساني، ليكون بذلك من أكثر المدافعين والمنظرين للذكاء الاصطناعي القوي، ليجيب في النهاية على سؤال أساسي في فلسفته: هل يمكن للذكاء الإنساني أن ينتج ذكاء أذكى منه؟

ومن بين هذه السيناريوهات أننا في المرحلة القادمة سنكون قادرين على الوصول إلى الذكاء البشري للآلات، وذلك عندما يكون بوسعنا إنشاء وتدريب نظام يجمع بين الشبكات العصبية المتوازية وغيرها من النماذج الأخرى المساعدة على فهم اللغة وتوصيف المعرفة، بما في ذلك القدرة على قراءة وفهم الوثائق المكتوبة، أي إنشاء حواسيب قادرة على القيام بجميع أصناف النشاط المعرفي البشري، ومع أن قدرة الحواسيب الحالية على استخراج وتعلم المعرفة من وثائق اللغة البشرية محدودة تماما، فإن قدراتها في هذا المجال تتطور بسرعة، وفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ستكون الحواسيب قادرة على القراءة بنفسها، وفهم وتوصيف ما تقرأه، وسيكون لدينا عندئذ حواسيب بإمكانها أن تقرأ كل المواد المطبوعة في العالم، مثل الكتب والمجلات والدوريات العلمية وغيرها، وأخيرا سيكون بإمكان الآلات أن  تجمع  المعلومات بنفسها عن طريق التفاعل مع العالم المادي مباشرة، وكذا التعامل مع وسائل الإعلام وخدمات المعلومات بجميع أشكالها، كما ستتمكن من تبادل المعلومات فيما بينها، وهو ما يجعلها تسير نحو التخلص من الوسائط بما في ذلك دور الإنسان في برمجتها وتدخله الدائم من أجل تزويدها بالمعلومات، وبمجرد أن يصل الكمبيوتر إلى مستوى الذكاء البشري، فسوف يصبح باستطاعته تجاوز الذكاء الإنساني.(المرجع نفسه).

خاصة وأن آلات الكمبيوتر قد أبدت منذ ظهورها قدرات فاقت بكثير القدرات-العقلية البشرية في تذكر ومعالجة البيانات- بل وأصبح المخ يبدو كوحدة معالجة مركزية بطيئة مقارنة بالكمبيوتر الذي «يستطيع أن يتذكر مليارات بل تريليونات البيانات بالكامل، في حين أننا نجد مشقة كبيرة في تذكر بضعة أرقام هواتف، كما أن الكمبيوتر يستطيع في أجزاء من الثانية أن يبحث بسرعة في قاعدة بيانات بها مليارات من المعلومات وتستطيع الكمبيوترات بسهولة أن تتبادل قواعد المعرفة، ولهذا فإن المزيج من الذكاء الذي يعادل الذكاء الإنساني والتفوق الطبيعي للكمبيوترات في السرعة والدقة والقدرة على تبادل المعلومات سيكون مزيجا مخيفا»(المرجع نفسه).

ولهذا يميّز القائمون على الذكاء الاصطناعي بين الذكاء الاصطناعي القوي والضعيف:

الذكاء الاصطناعي الضعيف

يقوم هذا النمط من الذكاء الاصطناعي على أساس أن الحواسيب قادرة على تنفيذ بعض المهام المضبوطة بشكل مستقل، وذلك بمحاكاة المخ الإنساني، وهذا معناه أن الكمبيوتر يمكن أن يقوم بعمليات ذكية، وذلك بالاعتماد على برامج محددة تقوم على المنطق والتفكير الآلي، لكن مجرد تصرف الكمبيوتر بذكاء لا يثبت أنه في الواقع ذكي بالطريقة التي يكون بها الإنسان، وهو الذكاء الموجود حاليا وعلى نطاق واسع(Corppin, 2004).

الذكاء الاصطناعي القوي

يؤمن أتباع الذكاء الاصطناعي القوي أنه من خلال منح برنامج حاسوبي ما يكفي من قوة المعالجة من خلال تزويده بما يكفي من الذكاء، يمكن للمرء أن ينشئ حاسوبا يمكنه أن يفكر بالمعنى الحرفي للكلمة، وأن يقوم بجميع أصناف النشاط المعرفي البشري، وحتى على بلوغ درجة نسبية من الوعي(Corppin, 2004). وهو يمثل سعي العلماء لجعل الكمبيوتر يفكر بنفس طريقة الإنسان وبنفس دقته وعمقه، وهذا الذكاء إن وجد بإمكانه أن يكون بديلا عن ذكاء الإنسان.

غير أن فكرة صناعة حواسيب بإمكانها أن تستقل بذاتها في إنتاج المعرفة وفي صيانة نفسها، وبناء قراراتها أثار الكثير من مخاوف الفلاسفة والعلماء ودفعتهم إلى التفكير بجدية في الإجابة على الإشكاليات الفلسفية والأخلاقية التي يطرحها هذا التطور، وهو ما دفع أيضا بمنظمة اليونسكو إلى فتح مجال النقاش حول آفاق البحث في الذكاء الاصطناعي، وهو ما يظهر في إصدارها الأخير الخاص بعدد سبتمبر 2018والذي يحمل عنوان: «من أجل أخلاقيات للبحث في الذكاء الاصطناعي على الصعيد العالمي»، حيث فتحت فيه باب النقاش حول مسألة الذكاء الاصطناعي وما يترتب عنه من إشكاليات بما في ذلك قضية أخلاقيات الآلة، وفي هذا السياق أشارت أودري أزولاي(Audrey Azoulay)، المديرة العامة لليونسكو إلى ضرورة البحث في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الذي يعد من أولويات هذه المرحلة، نظرا لخطورة ما يمكن أن يترتب عليه، وميّزت بين ما سمته بالروبوتات الحتمية التي يعتمد سلوكها على برنامج يمكننا التحكم في اشتغالها، وبالتالي فهي تعمل وفق برامج وخوارزميات محددة ولها مدخلات ومخرجات مضبوطة لا تحيد عنها، وبين الروبوتات المعرفية التي تتمتع بقدرات تحاكي قدرات الإنسان، مثل الإدراك واستعمال اللغة والتفاعل وحل المشكلات والتعلم وحتى الإبداع، ومن الصعب التنبؤ بقراراتها، فاشتغالها يقوم على أساس الخبرة وبعض الظروف العشوائية، وأكدت أن هذا النوع من الذكاء هو ما ينبغي أن يكون موضوع اهتماماتنا، ولهذا استحدثت هذه المنظمة اللجنة العالمية لأخلاقيات المعارف العلمية والتكنولوجية، كما تتعاون مع مرصد نت إكسبلو -وهو مرصد مستقل لكنه شريك لليونيسكو- في التدقيق بكل جدية في هذا الموضوع الشاسع الذي يهم في نفس الوقت الفلسفة والرياضيات والعلوم والهندسة، وفي سنة 2015أنشأت منظمة اليونيسكو بمعية «نت إكسبلو» مجلسا استشاريا مشتركا، يضم أساتذة ومحاضرين وباحثين من أكبر الجامعات في العالم، أوكلت إليهم مهمة تحليل توجّهات التكنولوجيا الرقمية وخاصة منها الذكاء الاصطناعي (أزولاي، 2018) . 

وحدوث هذه الطفرات في الذكاء الاصطناعي مؤخرا دفع بجدية إلى التساؤل: ماذا لو استطاع الذكاء الاصطناعي مستقبلا التغلب على الذكاء البيولوجي البشري؟ هل يمكن أن يكون الإنسان مسيَّرا من قبل الآلة بعد أن كان مسيِّرا لها؟. ماذا لو استطاعت الآلة الاستقلال بقراراتها وتصرفاتها؟ وهو ما دفع بالفلاسفة والعلماء إلى البحث عن حلول مستقبلية لهذه الوضعيات في حال حدوثها والتفكير في وضع أخلاقيات للذكاء الاصطناعي.

الحاجة إلى وضع أخلاقيات للذكاء الاصطناعي

إن التحديات المطروحة اليوم بين الإنسان والآلة وإمكانية أن يتفوق الذكاء الاصطناعي مستقبلا على الإنسان ويصبح يعتمد على نفسه في برمجة نفسه، وإصلاح أعطاله، والقيام بالعمليات العقلية والعملية التي كان يقوم بها الإنسان، والحصول على مساحة أكبر للاستقلال بقراراته، طرح مخاوف إمكانية خروجه عن السيطرة، كما طرح ضرورة التفكير في كيفية التحكم في الوضع، ولهذه الأسباب وغيرها ومن أجل الدخول في الألفية الثالثة علينا أن نقتحم هذا العصر الجديد بأعين مفتوحة-على حد تعبير -أودري أزولاي- وهو ما يقتضي البحث في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وأمامنا في ذلك حلين أساسين: إما الاندماج مع الآلة وهو ما يعرف بالذكاء المعزز، ويصبح الإنسان بذلك كائنا سبرانيا، وهو التصور الذي جاءت به نظرية ما بعد الإنسان، أو برمجة الآلة بجملة من القواعد الأخلاقية التي ينبغي أن تسير وفقها  الآلة.

الذكاء الإنساني المعزز، أو الدمج بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البيولوجي

طوّر الإنسان صناعة الحواسيب بشكل مطرد عبر سلسلة من الأجيال، وفي وقت قياسي استطاعت الحواسيب والروبوتات أن تسبق وتتفوق على كثير من قدرات الإنسان، وأن تقوم بكثير من الأعمال التي كان يختص بها، والتي تتطلب قدرات عقلية وتفكير وخبرة، وأمام هذه الوضعية اقترح العديد من العلماء ضرورة الاندماج بين الآلة والإنسان في المرحلة المقبلة، إذا أردنا أن نبقى أسيادا على الآلة وحتى لا نوضع على الهامش، لهذا لابد أن نوسع ذاكرتنا ونزيد من سرعة وفعالية قدراتنا العقلية، وهو ما يعرف بالإنسان المعزز الذي دعى إليه الاتجاه الذي يتكلم عن نظرية ما بعد الإنسانية، ومن أبرزهم راي كيرزويل (Ray Kurzwell)(1948) في مقاله «الذكاء الفائق والمفردة» سنة 1989حيث أشار إلى أن المستقبل متوجه بشكل لا يمكن تجنبه نحو آلات تتخطى بكثير الذكاء الإنساني في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، كما أشار إلى هذه الفكرة أيضا في كتابه «عصر الآلات الروحية عندما تتخطى الحاسبات الذكاء البشري» سنة 1999، مؤكدا أن المرحلة المقبلة ستزداد فيها الصلة الحميمة بين ذكائنا البيولوجي والذكاء الاصطناعي، التي تنتهي بضرورة المزاوجة بينهما، مشيرا بكل وضوح إلى أننا «سوف نصبح أذكى إلى حد هائل ونحن نندمج في تقنيتنا»(كيرزويل، 2011).

مبررا ذلك بحجة أساسية مفادها» أننا في ضوء الذكاء المعزز ما سينجزه ألف عالم  كل منهم لديه ذكاء أكثر ألف مرة من العالِم الراهن، وكل منهم يعمل أسرع ألف مرة من البشر المعاصرين (لأن معالجة المعلومات في أمخاخهم غير البيولوجية الأولية أسرع)، سيغيّر العالم ويصبح ما سننجزه في ألف سنة ينجز في ظرف ساعة»(كيرزويل، 2011).

ويتحقق هذا الحلم ويصبح حقيقة عندما يتضاءل في المستقبل حجم الكمبيوتر، وتزداد ذاكرته وسرعته مليارات المرات عن الوضع الحالي، كما أن استخدام النانو تكنولوجيا سيساعد أكثر على تصميم نانوبوت(Nananobots) وهي روبوتات مصممة على المستوى الجزيئي تقاس بالميكرون مثل الخلايا، سوف يكون للنانوبوت مجموعة أدوار في جسم الإنسان، بما في ذلك عكس عملية الشيخوخة، الحفاظ على الذاكرة وتعزيزها وتقويتها، تسريع العمليات العقلية، كما سيكون بإمكان النانوبوت التفاعل مع الخلايا العصبية البيولوجية للتوسع بشكل هائل في تجربة الإنسان بابتكار واقع افتراضي انطلاقا من الجهاز العصبي، كما ستساعد  مليارات النانوبوت في الأوعية الشعرية المخ و تحدث توسعا هائلا في الذكاء الإنساني(كيرزويل، 2011)، هذا ناهيك عن إمكانية معالجة العديد من الأمراض دون تدخل جراحي، وهو ما يجعل مثل هذه التقنيات تمثل طب المستقبل الواعد.

وهذا الاقتران بين التكنولوجي والبيولوجي هو ما يشكل الإنسان المعزز، الذي هو محاولة تحويل الإنسان البيولوجي إلى كائن سبراني، وإن كان هذا الكلام اليوم يدخل في باب الخيال العلمي وعلم المستقبليات، فإن التطور الحالي المتزايد يجعل هذا الاحتمال ليس مستحيلا، خاصة مع الغزو المتزايد للبيولوجي من قبل ما هو تكنولوجي، هذا الغزو الذي بدأ بعدسات الرؤية، إلى صمامات الأذن، إلى صمامات القلب إلى الأطراف الاصطناعية ... إلى التفكير في زرع أجهزة كمبيوتر بحجم الخلية داخل الدماغ البشري، خاصة بعد أن تمكن المستفيدون من الأطراف الاصطناعية من الإمسَاك بالأشياء والمشي تماما كما لو كانت لهم أطراف طبيعية.

الأمر الذي من شأنه أن يجعل من الاندماج بين البيولوجي والاصطناعي أقوى، وهو اتجاه يتم العمل به حاليا لكن على نحو متواضع مثلما أشرت سابقا، لكن التفكير فيه يزداد كل يوم إلى غاية الوصول إلى زرع رقائق إلكترونية في مخ الإنسان لدعم ذاكرته وزيادة وتسريع عملياته العقلية، وهو ما طرح عديد التساؤلات: هل سيستحيل الإنسان هو الآخر إلى نظام معلوماتي أو قاعدة بيانات تماشيا مع النزعة الرمزية التي تسود حضارة اليوم؟ مادام هذا الكائن البشري قد دان لسطوة الرمز، هل سيصبح بالتالي قابلا للتحديث وللتعديل، شأنه في ذلك شأن أي نظام للمعلومات؟، خاصة وأن علماء البيولوجيا يعملون على إمكانية تحسين نوعية الإنسان بالتأثير على شيفرته الوراثية(DNA)، ثم بأي لغة يفكر المخ البشري، فإن ثبت أنه بالفعل يفكر بتحويل اللغات الطبيعية على اختلافها إلى لغة رمزية، فهذا معناه أنه مجرد حاسوب بيولوجي.

إن هذه التعزيزات وهذا التهجين بين الإنسان والآلة هو الذي جعل العلماء والفلاسفة يتحدثون عن «ما بعد الإنسان» هذا المفهوم الذي يرد عادة إلى الفيلسوف نيك بوستروم(NickBostrom) ويقصد بما بعد الإنسان «الكائن المستقبلي الذي ستتزايد قدراته العقلية الأساسية لتتخطى جذريا البشر الحاليين بالنسبة لسرعة المعالجة العقلية، حيث سيبدو له البشر غير المعززين أو العاديين معوقين عقليا»(شنايدر، 2011)، خاصة إذا عرفنا أن الإنسان قدراته الجسدية محدودة، وأنه معرض للنسيان والمرض والعواطف وغيرها من العوامل التي تحد من قدراته أمام الآلة مستقبلا، ولهذا فالذكاء الاصطناعي الفائق قد تكون له القدرة على تجاوز قدرات الدماغ البشري في كل المجالات علميا وعمليا، وذلك بفضل التطور المتزايد في وضع خوارزميات وشبكات عصبية مشابهة لتلك الموجودة  في المخ البشري.

ولهذا يمكن القول إن التهجين بين الإنسان والآلة أصبح اليوم أمرا واقعا وإن كان نسبيا، وهو محور اهتمام  وأبحاث  العلماء المؤيدين لنظرية ما بعد الإنسانية، وإن كانت الطريق أمامهم ما تزال طويلة حتى نفهم تماما  الكائن الحي والمهجّن، لأن عالم التقنية البيولوجية يجهل إلى يومنا الشيء الكثير عن عالم الحياة الذي لا يتلخص فقط في المسارات الفيزيائية والكيميائية التي يمكن صياغتها في نماذج، فالحيّ هو حاليا مهجن مع الآلة، وسوف يصبح دون شك أكثر هجانة مع منتوجات التكنولوجيا الحديثة(بن الصايغ، 2018).

وهذا معناه أن تكنولوجيا الحواسيب ستتطور لتصبح أصغر فأصغر لتصبح غير مرئية، وتختفي داخل أنسجتنا، وهو ما من شأنه أن يساهم في رفع قدرات الإنسان على التحكم في زمام أمره ومصيره، وهذه الأفكار وإن كانت بالنسبة لعصرنا بمثابة الأساطير، لكنها مع ذلك تبقى ممكنة طالما أن كثيرا من الحقائق التي نعيشها اليوم كانت بالنسبة للإنسان في فترات سابقة بمثابة الأساطير أيضا.

برمجة الآلة بقواعد أخلاقية

إن الحل الثاني المقترح للتحكم في خطر الآلة مستقلا هو العمل على وضع برامج يتم فيها تحويل القواعد الأخلاقية إلى خوارزميات تسير وفقها الآلة، غير أن هذا الحل بدوره يطرح العديد من الإشكاليات من بينها: إذا كانت الأخلاق بين البشر نسبية ولا اتفاق حولها فأي نوع من الأخلاق ينبغي برمجة الآلة عليه؟، ثم إن الخوارزميات التي تسير وفقها الآلة تعتمد على المنطق، ونحن نعلم أن القضايا المعيارية لا تدخل في باب القضايا المنطقية التي يمكن وصفها بالصدق  أو الكذب، وهو ما يفتح الباب للتساؤل من جديد إذا كانت القضايا الأخلاقية ليست قضايا منطقية ولا يمكن وصفها بالصدق أو الكذب فكيف يمكن حوسبة الأخلاق؟.

قبل محاولة تحليل هذه الإشكاليات لابد من الوقوف على مفهومين أساسين هما: الخوارزمية، والنظم الخبيرة.

تعريف الخوارزمية

الخوارزمية هي عبارة عن مجموعة من الخطوات المتسلسلة -الرياضية والمنطقية- التي تتصف بالانضباط والوضوح والتي تؤدي إلى حل مسألة ما، وبعبارة أبسط هي مفتاح حل أية مسألة وما يلزمها من خطوات إدخال وإخراج، والحقيقة إن الخوارزميات غالبا ما تكون عبارة عن قيم مخرجة تمثل الحل لمسألة ما ترتبط بعلاقة رياضية ومنطقية مع القيم المدخلة(Itmazi, 2017).

وبعبارة أخرى يمكن القول إن الخوارزمية هي عبارة عن تعليمات محددة في سلسلة من الأوامر الدقيقة القابلة للتنفيذ في الأنظمة الحاسوبية، تشكل هذه الخوارزميات قاعدة أساسية للاستنتاج واتخاذ القرارات، وترجع جذورها تاريخيا إلى العالم الرياضي محمد بن موسى الخوارزمي(توفي حوالي 380ه-850مـ)، الذي يرجع له الفضل في التأسيس لها، وهناك من يبسط الخوارزمية أكثر ليوظفها في كل المجالات، فيجعل تصرفات الإنسان كلها مسبوقة وموجهة بخوارزميات معينة، فمجرد اتخاذي لقرار معين ووضع خطوات معينة لتنفيذه هو في حد ذاته خوارزمية.

النظم الخبيرة

النظام الخبير في الكمبيوتر هو ذلك النظام الذي يستخدم فيه الكمبيوتر على نطاق واسع للبت في كثير من الأمور والمشكلات في مجالات الطب والكيمياء والزراعة وغير ذلك، وهي برمجيات تسعى لتمثيل الخبرة التي تجعل الإنسان خبيرا في مجال ما، ويتكون هذا النظام من قاعدة معرفة (يمكن استخلاصها من الخبير الإنساني) وآلة استنتاجية (تضم القوانين والعمليات المنطقية التي نتوصل بالاعتماد عليها إلى إصدار الأحكام)، ويعمل هذا النظام طبقا لقواعد معطاة له مسبقا -خوارزميات- تبعا لكل مجال يعمل فيه(ميتشي،جونستون، 1988)، ويستعان بالنظم الخبيرة في مجلات شتى مثل تشخيص الأمراض، البرصة، التنقيب على البترول، إلخ.

جهود الفلاسفة و العلماء في التأسيس للخوارزميات الأخلاقية

قبل الإشارة إلى جهود الفلاسفة والعلماء في التأسيس للخوارزميات الأخلاقية لابد من الإشارة أولا إلى أن هذا الاتجاه قد اعتمد منذ البداية على فرضية المشابهة بين الدماغ والحاسوب، فكل العمليات العقلية تنحل في النهاية إلى ظواهر فيزيائية أو كيمائية، كما قاموا بالمماثلة بينهما من حيث أن كليهما له مدخلات ومخرجات، هذا بالإضافة إلى أن صناعة الكمبيوتر تمت منذ البداية عن طريق محاكاة ما يقوم به الإنسان من ترميز وتخزين للمعلومات واسترجاع لها.

ويشير دانييل دينيت(Daniel Clement Dennett)(1924) وهو أحد أبرز المدافعين عن النموذج الحوسبي للعقل في مقاله «المنظور الحوسبي» إلى أن جسم الإنسان وعقله يسيران وفق خوارزميات وإن كنا نجهلها، وآية ذلك أن «فهمنا في البداية للحياة والتكاثر والنمو كان غامضا، لكننا الآن أصبحنا نملك فكرة واضحة عن طريقة تكاثر الأشياء ونموها وطريقة ترميم ذاتها، وتغذية نفسها، وعندما ننظر في أمر ظواهر من هذا النوع سندرك أنها ظواهر حوسبية بمعنى خوارزميات للنمو والارتقاء والتكاثر(دينيت، 2005).

وقد تدعم هذا التصور أكثر بما وصل إليه العالم النفسي «دونالد هيب»(Donald Hepp) في كتابه «تنظيم السلوك» عام 1949حيث اكتشف كيفية معالجة الجهاز العصبي للمعلومات واختزانها واسترجاعها، حيث توصل إلى أن «توصيلات إدخال المعلومات إلى الخلية العصبية متصلة بتوصيلات خروج البيانات من الخلايا العصبية الأخرى في الشبكة العصبية، حيث تقوم هذه الخلية بإرسال الإشارة التي تحفز الخلايا الأخرى عندما يتجاوز إجمال المداخل قيمة الحد الأدنى، تأخذ الإشارة التي ترسلها الخلية العصبية شكل انفجار عشوائي من النبضات ويؤدي ذلك إلى سلوك معقد للشبكة برمتها»(سويداني، 2011)  الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في أن الذاكرة تتبع تعليمات معينة.

وقد ساهم هذا الاتجاه في طرح تصور مفاده أن الدماغ البشري مادام يسير وفق خوارزميات لها مدخلات ولها مخرجات، ومادام قد أمكن برمجة العمليات العقلية من خلال الكمبيوتر، فيمكن برمجته بخوارزميات أخلاقية وليست معرفية فقط، خاصة إذا استطعنا تحويل القضايا الأخلاقية إلى قضايا منطقية.

وترجع جذور التفكير في هذا الطرح إلى اسحق أزيموف (Isaac Asimov)( 1920-1992) الذي يعد من بين أبرز كتاب الخيال العلمي، حيث أشار في مؤلفه «أنا روبوت» إلى ثلاثة قوانين أخلاقية ينبغي للروبوتات أن تتبعها وهي :

-لا يجوز لأي روبوت أن يؤذي أي إنسان أو يسمح من خلال عدم أخذ أي رد فعل، بحدوث أي أذى لأي إنسان.

- يتعيّن على أي روبوت طاعة الأوامر التي يصدرها له الإنسان، فيما عدا الأوامر التي تتعارض مع القانون الأول.

-يتعيّن على الروبوتات حماية وجودها مادامت هذه الحماية لا تتعارض مع القانونين الأول والثاني(أزيموف، 2012). ثم بعدها أضاف القانون صفر والذي مفاده أن الروبوت لا ينبغي له أن يؤذي الإنسانية بعدم القيام بأي عمل أو يسمح للإنسانية بإيذاء نفسها.

وبغض النظر عما يمكن أن يوجه إلى هذه القوانين من انتقادات، فإن السؤال الأهم هو كيف يمكن تطبيقها على أرض الواقع، وكيف يمكن تحويلها إلى لغة رمزية يفهمها الروبوت؟ وكيف  يمكن ضمان التزامه بهذه القواعد الأخلاقية؟

ومهما يكن من أمر هذه القوانين فقد كانت محاولة  اسحق أزيموف أولى المحاولات لوضع أخلاقيات للآلة، فتحت الطريق للتفكير بجدية في تحويل هذا الطرح النظري إلى قوانين أخلاقية فعلية للآلة، وذلك بتطوير برامج تتيح للآلة أن تتصرف بطريقة أخلاقية، وطالما أن الآلة تتصرف بطريقة آلية طبقا للخوارزميات المبرمجة عليها فستكون أخلاقية أكثر من أغلب الكائنات البشرية التي تتميز بالذاتية وتخضع لتأثير العواطف، لكن البحث في هذا الاتجاه قاد إلى تساؤلات أخرى مفادها أن الآلات الذكية إذا كانت تتصرف بطريقة أخلاقية، فهل يمكن أن يكون لها مكانه في المجتمع؟ أي هل يكون لها حقوق وعليها واجبات؟ ومن يتحمل تبعيات أفعالها؟ هل تلحق التبعية بمالكها أم بالآلة نفسها ما دمنا سنتكلم مستقبلا عن آلات واعية أو شبه واعية؟

ومما سبق يمكن القول إن البحث في برمجة الآلة بخوارزميات أخلاقية يسير في اتجاهين:

اتجاه واقعي يبحث في كيفية تحويل القوانين الأخلاقية إلى قوانين رياضية ومنطقية رمزية تبرمج عليها الآلة، وهو ما يتم من خلال النظم الخبيرة.

واتجاه آخر طوباوي يرتبط أكثر بالخيال العلمي يهتم ببحث التفكير الأخلاقي للذكاء الفائق.

وقد حللت سوزان لي أندرسون(SuzanLeigh Anderson) (1975) مواقف الاتجاهين معا مبيّنة أن الاتجاه الأول يبحث في تصميم الآلة ووضع حدود لسلوكها تبعا لقاعدة أخلاقية أو قواعد يتابعها المصمم البشري معتمدين على فرضية إمكانية حوسبة الأخلاق، وقد بدأ بعض العاملين في أخلاقيات الآلة معالجة مشاكل تحدي جعل الأخلاقيات قابلة للحوسبة بابتكار برامج تتيح للآلات أن تعمل كمستشارين للبشر، في العديد من الاختصاصات، وفي هذه الحالة فإن البشر هم الذين سيتخذون القرارات الأخلاقية بتقرير ما إذا كان عليهم اتباع توصيات الآلة أم لا؟(أندرسون، 2011)، محافظين على فكرة أن البشر فقط  من يملكون زمام الأمر.

أما الاتجاه الثاني فيعمل من خلال النظم الخبيرة على هدف أكبر هو تطوير آلات يمكنها اتباع قواعد أخلاقية بنفسها،  أي ابتكار آلات تسلك بنفسها بشكل أخلاقي، وقد أشار نيك بوستروم(Nick Bostrom) (1973) في  مقاله: «قضايا أخلاقية في الذكاء الاصطناعي المتطور» أن الذكاء الفائق يمكنه أن يسلك بشكل أخلاقي كما يمكنه تنفيذ النظرية الأخلاقية أعلى بكثير من الكائن البشري، طالما أن الأخلاقيات مسعى إدراكي، وهذا يعني أن الأسئلة المطروحة حول الأخلاقيات، بقدر ما يكون لها إجابات صحيحة يمكن الوصول إليها بالتفكير المنطقي وبتقدير الآلة، ويمكن الإجابة عنها بشكل أكثر صحة بواسطة الذكاء الفائق أكثر منها بواسطة البشر، ونفس الأمر صحيح بالنسبة لمسائل السياسة والتخطيط طويل المدى، وقد يتفوق الذكاء الفائق في أدائه عن البشر، وإن كنا نلاحظ أن صاحب المقال يشير في ختام مقاله إلى أنه من الأفضل لضمان أن أي ذكاء فائق سوف يكون له تأثير مفيد على العالم أن نزوده بقيم إنسانية(بوستروم، 2011).

مقومات ومعوقات مشروع أخلاقيات الآلة

إن مشروع أخلاقيات الآلة تواجهه عدة تحديات لعل أهمها :

-إنه لكي تكون الأخلاقيات قابلة للحوسبة يجب أن نعرف النظرية الأخلاقية الصحيحة، والتي تبعا لها سنقوم بعمليات الحوسبة.

-يجب أن تكون هذه النظرية كاملة، أي يجب أن تخبرنا بكيفية التصرف في أي مأزق أخلاقي قد يواجهنا (أندرسون،2011). وهذا معناه أن الأخلاق مالم تكتمل بعد كنظرية، وما لم تتحدد نوعية وطبيعة هذه الأخلاق فلا يمكن القيام بحوسبتها.

ولعل قضية هل يمكن تعلم الأخلاق وتعليمها وحوسبتها ترتد بها بعيدا عن مجال البحث في الذكاء الاصطناعي إلى البحث الفلسفي الصرف، إلى البدايات الفلسفية الأولى في التفكير في الفضيلة وهل يمكن تعلمها وتعليمها من خلال ما يظهر في سؤال مينون لسقراط: هل الفضيلة تعلم؟ وإذا لم يكن ممكنا تعلمها فهل هي شيء يأتي بالمران؟، أم أنها إذا لم تكن تأتي لا بالمران ولا بالتعلم تظهر عند البشر هبة طبيعية؟، أو هناك طريقة أخرى لتعليمها وتعلمها؟(أفلاطون،2001)، حيث بيّن فيها سقراط بطريقة غير مباشرة أن الفضيلة علم ويمكن تعلمها وتعليمها، وانتهى إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يعمل الخير ما لم يعلم الخير، وكل علم صدر لا عن علم بالخير فليس خيرا ولا فضيلة، فالعمل الخيّر لابد أن يكون مؤسسا على العلم، ولهذا إذا ارتكب الإنسان فعلا لا أخلاقيا فهو عن جهل، وهو المقطع ذاته الذي ناقشه هانز ريشنباخ (Hans Reichenbach )(1891،1953) في موضوع «البحث عن التوجيهات الأخلاقية والتوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة»، حيث بيّن بدوره أن الربط بين الفضيلة والعلم هي طريقة يونانية خالصة في التفكير وأن أفضل طريقة لإثبات أن القواعد الأخلاقية ملزمة للجميع هي إقرار التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة(ريشنباخ، 2007).

والأمر ذاته يمكن أن نجده في محاولة الفيلسوف باروخ سبينوزا(Baruch Spinoza)(1662-1677) الذي عمل بدوره على جعل الأخلاق مساوقة في جوهرها للمعرفة، وحاول  ترييض علم الأخلاق، وذلك من خلال مشروع علم الأخلاق مبرهناً عليها على النهج الهندسي، حيث جاء كتابه أشبه بكتب علماء الهندسة منه بكتب الفلاسفة، لما تضمنه من تعريفات وبديهيات ومصادرات وقضايا وبراهين وحواشي وما إلى ذلك مما يصطنعه علماء الهندسة في كتبهم ورسائلهم، معتمدا على مبدأ أن الرياضيات تقوم على البديهيات والقوانين الأولية، وبالتالي إذا تحولت القاعدة الأخلاقية إلى قوانين وبديهيات فسيمكن التعبير عنها رياضيا، وذلك بمحاكاة طريقة إقليدس في تقديم الهندسة على شكل بديهيات ونظريات (سبينوزا،2009).

وهو ما يدعم القاعدة التي يقوم عليها مشروع الذكاء الاصطناعي في حوسبته للأخلاق، يضاف إلى هذا التغير الحاصل في المنطق المعاصر وانتقاله من مجال البحث في القضايا المنطقية التي يمكن وصفها بالصدق والكذب إلى القضايا المعيارية ومختلف الأساليب الإنشائية لعدم كفاية النوع الأول في التعبير عن مختلف أشكال التفكير الإنساني: حيث أعيد إلى واجهة البحث التساؤل حول القضايا الأخلاقية، وهل يمكن تحويلها إلى قواعد أخلاقية تصاغ صياغة منطقية في قوانين متسقة تعمل بموجبها الآلة؟.

وهنا ينبغي أن نشير إلى التغير الكبير الحاصل في هذا المجال- والذي سيكون له شأن كبير في مجال الحوسبة الأخلاقية- فإلى وقت قريب كان ينظر إلى القضايا الأخلاقية أنها قضايا لا تدخل في مجال القضايا المنطقية لأنه لا يمكن وصفها بالصدق أو الكذب، وهو ما سعت الفلسفة الوضعية الى تأكيده على لسان أبرز أعلامها، ويمكن على سبيل المثال أن نشير هنا إلى موقف هانز ريشنباخ(Hans Reichenbach)(1891-1953) الذي يرى أن النظريات الأخلاقية كلها أوامر ونواهي، والأوامر والنواهي لا يمكن التحقق منها، لأنها ليست عبارات وصفية، حيث يقول: «التعبيرات اللغوية الأخلاقية ليست قضايا أو أحكام، وإنما توجيهات، والتوجيه لا يمكن تصنيفه على أساس أنه صواب أو خطأ ...فالقول «أغلق الباب» لا ينبئنا بشيء عن الأمر في الواقع، كما أنه لا يمثل تحصيلا حاصلا، أي قضية منطقية»(ريشنباخ، 2007).

وقد عبّر زكي نجيب محمود(1905-1993) أصدق تعبير عن الفلسفة الوضعية بقوله: العبارات التي لا تحمل خبرا كالأمر والاستفهام والتعجب لا توصف بصدق أو كذب، لأنها لا تصور شيئا في عالم الواقع، ولا تخبرنا بخبر عن شيء ما، حتى نقول إن تصويرها صادق أو كاذب(محمود، 1965)، وبالتالي فالأوامر والنواهي في النهاية ما هي إلا عبارات لغوية تعبّر عن ما نرغب في أن يحدث أو لا يحدث.

وهو ما ترتب عليه أن العبارات الأخلاقية( المعيارية) لا تصلح أن تكون قضايا، لأنها لا تصلح أن توصف بالصدق أو الكذب، حيث يقول برتراند رسل(Bertrand Russell)(1872-1970) «إذا قال» « أ» يجب عليك أن تفعل هذا ، وقال «ب» كلا بل يجب عليك أن تفعل ذلك، فإنك تعرف رأيهما فقط، وليس لديك وسيلة تعرف بها أيهما على صواب، إذا كان أحدهما على صواب، وليس أمامك مخرج من ذلك سوى أن تقول: كلما حدث خلاف حول ما يجب أن يفعل، «أكون أنا على صواب، ويكون المختلفون معي على خطأ»، ولكن لما كان أولئك الذين يختلفون معك يسوقون نفس الدعوى، فإن الجدل الأخلاقي سيكون مجرد صدام بين آراء تحكمية، وتدفعنا هذه الاعتبارات إلى نبذ «يجب» باعتباره التعبير الأخلاقي الأساسي» (رسل،ب.د.ت).

غير أن هذه المواقف قد أعيد النظر فيها في المنطق المعاصر خاصة من خلال معطيات منطق الموجهات المعاصر الذي أعاد الاعتبار للقضايا الإنشائية، فهي قضايا وإن كانت لا تصور شيئا في عالم الواقع، ولا تخبرنا بخبر عن شيء ما، لكن مع ذلك لها معنى.

وهذا النوع من القضايا الإنشائية(الاستفهام والتمني والترجي والدعاء والأمر والنهي وغيرها) تغيّرت مواقف الفلاسفة اتجاهها بفضل جهود كثير من المناطقة وفلاسفة اللغة اللذين عملوا على ردم الهوة بين القضايا الخبرية والإنشائية، مثل ما ذهب إليه بعض فلاسفة الوضعية المنطقية اللذين طالبوا بمعالجة القضايا الإنشائية على طريقة القضايا الخبرية، ككتابة العبارات الأخلاقية بطريقة تقريرية، ذلك لأنه في استطاعتنا أن نعبّر عن القضية الأمرية «أغلق الباب» مثلا بقولنا: «س يكون مسرورا لو أغلق الباب» فتكون هذه العبارة التقريرية الأخيرة صادقة أو كاذبة ومن الممكن تحقيقها(ريشنباخ،2007).

كما ساهم فلاسفة اللغة أمثال أوستين(John Langshaw Austin)(1911-1960) في ذلك من خلال كتابه «نظرية أفعال الكلام العامة» التي افتتحها بالبرهنة على عدم صحة الثنائية المفتعلة بين الخبر والإنشاء.

ومن هذا المنطلق اتجه هدف المناطقة إلى تأسيس أنساق منطقية لا تهتم بالقضايا الخبرية فحسب، بل بالجمل الاستفهامية و الأمرية والرجائية، وهو ما سمح بتعدد أنساق المنطق الموجه، إلى منطق الزمان(Tense Logic) الذي يعتمد على موجهات زمنية كقولنا: دائما سيكون، دائما كان، أحيانا سيكون، أحيانا كان، يصح الآن أن كذا، وسيصدق أن، كان يصح كذا، ومنطق الواجب(Deontic Logic) الذي يدرس العلاقات الاستدلالية بين مفاهيم الوجوب والجواز، المباح، المكروه، الحلال والحرام...، والمنطق المعرفي(EpistemicLogic) الذي يعتمد في تحليلاته على جهات المعرفة، مثل من المعروف، من المؤكد، من غير المعروف،...، والمنطق الاستفهامي، والمنطق الرجائي، ومنطق الاعتقاد، والمنطق الغائم فكان نتيجة هذا ظهور مناطق(جمع منطق) وسعت مجال المنطق الرمزي الكلاسيكي، وأغنت منطق الموجهات.

ومن أبرز المناطقة الذي ساهموا في بناء منطق الواجب هو المنطقي الفلندي فون رايت(G.H.Von Wright)(1916-2003) الذى كان أول منطقي معاصر بنى نسقا أكسيوميا متكاملا لمنطق الحقوق والأخلاق، حيث درس بالإضافة إلى الجهات التقليدية التي سماها صدقية أنساقا مماثلة جهات معرفية وطلبية، وهذه الجهات ممكن أن تتركب فيما بينها أو مع الجهات القديمة لتكوين بديهيات جديدة، من خلال المقابلة بين الموجهات المنطقية، وموجهات المعرفة والموجهات الأخلاقية من خلال التكافؤات القائمة بين الروابط الخاصة بكل نسق، ومحاولة إقامة نسق منطق المعايير بحيث يمكن كتابة الموجهات الأخلاقية بدلالة بعضها بعضا، كما أقام تقابلا بين الموجهات الأخلاقية والمنطقية، مثلما يظهر في مؤلفه: «محاولة في المنطق الموجه «Modal Logic Essay inIn» اذ اعتمد على موجهات: الواجب، المباح، والمحظور وقابل بينها وبين الموجهات المنطقية(الصدقية)، حيث يمكن تعريف كل جهة بالاعتماد على باقي الجهات الأخرى، ويمكن التعبير عنها من خلال التقابل التالي:»

الممكن M،    المباح  P، الضروريN، المستحيل I، بحيث :

المستحيل I= ~ M                                            محظور F= ~ P

الضروري N= ~ I                                            الواجب O= ~ F

الضروريN= ~M~الواجب  O=~P~    (Wright,1983) .

من الواجب قº ~من المحضور ق.

من الواجب قº ~من المباح ~ق.

  وعلى الرغم من أن العديد من الفلاسفة كانوا يرون أن القضايا الأخلاقية لا تخضع لمعيار الصدق أو الكذب، هذا بالإضافة إلى أن الواجب والمحضور والمباح يعتمد على نوع القواعد الأخلاقية التي نضعها، إلا أن جورج كلينوفسكي (Georges Kalinowski)(1916-2000) جادل  كثيرا في مؤلفاته من أجل الدفاع عن فكرة أن القضايا المعيارية يمكن وصفها بالصدق والكذب، تمامًا مثل القضايا الوصفية، ذلك لأن هناك «حقائق معيارية»، مستقلة إلى حد ما عن معتقداتنا المعيارية التي تجعل القواعد صحيحة أو خاطئة(Navarro and Rodriguez,2014)، لكن مع ذلك يبقى هذا التصور يثير الكثير من الجدل الفلسفي .  

وعليه فكما استطاع جهاز الحاسوب أن يعتمد الترميز الرقمي( 1،0) بإمكانه الاعتماد على ترميز آخر مثل ما تعارف عليه علماء المنطق الموجه مثلا، وكما اعتمد على المنطق الثنائي القيم، يسعى العلماء اليوم إلى الاعتماد على منطق متعدد القيم والمنطق الغائم أو الضبابي الذي يعد اليوم أفضل منطق يقترب من منهج تفكير الإنسان، إذ لاحظ العلماء أن اعتماد الحواسيب على المنطق ثنائي القيم يقيّد من معالجتها للبيانات والتعامل معها، وأن المنطق الغائم والمجموعات الغائمة تساعد أكثر على التعرف على مختلف العمليات العقلية التي يقوم بها الإنسان.

خاصة بعد أن بيّن لطفي زادة(Lotfi Zadah)(1921-2017) أن تفكير الإنسان هو تفكير غائم وضبابي لا يعتمد الكم في التعبير عن الأشياء، بل يعتمد التعبير الكيفي – مثل: طويل، قصير، جميل، بارد، ساخن، قريب بعيد، ممكن، محتمل -وهو الأمر الذي كشف أن الاعتماد على المنطق البولياني ثنائي القيم  غير كاف في التعبير عن كل العمليات العقلية، وهو ما فتح الباب واسعا للقول بأن الاعتماد على المنطق الغائم بإمكانه أن يتيح أمام الحواسيب طرقا جيدة لمحاكاة العمليات العقلية التي يقوم بها الإنسان، كما يتيح خيارات أكبر أمامه في التعامل مع المعلومات، تعتمد على المساحة الرمادية القائمة بين الصدق والكذب، وهو الأمر الذي فتح مجلات جديدة أمام النظم الخبيرة.

خاتمة

على الرغم من أن البحث في أخلاقيات الآلة و الذكاء الاصطناعي يتقاسمه الخيال والحقيقة، وتتباين المواقف فيه بين مؤيد ومعارض، لكن مع ذلك لابد من القول إن البحث في حوسبة الأخلاق يواجب عدة مآزق، ذلك لأننا إذا كنا نحن البشر لم نتفق بعد على قواعد أخلاقية واحدة، ونرى أن الأخلاق نسبية فكيف يمكن الاتفاق على قواعد أخلاقية نعلمها للحاسوب؟، ثم إن الفعل الأخلاقي فعل إرادي حر، ونحن نعرف أن الروبوتات تتصرف وفق برامج معينة، وبالتالي أفعالها ليست حرة، ثم إذا فرضنا أنها تعلمت قواعد أخلاقية فهل هي معرضة للثواب والعقاب، أم نكون نحن من سيتحمل مسؤولية أفعالها؟.

ثم إنه على فرض أن هناك أنظمة خبيرة تمكّن الحواسيب من اتخاذ القرارات مكان البشر في حالات معينة مثل تشخيص بعض الأمراض، البرصة، الصراف الآلي، فالسؤال المطروح هو كيف يمكن تحويل القواعد الأخلاقية إلى خوارزمية؟، وما الذي سيحكم الفعل الأخلاقي آنذاك هل هو الخير والشر، أم المنفعة أم السعادة أم الواجب من أجل الواجب؟، وعليه ما نوع القواعد الأخلاقية التي يجب تلقينها للروبوتات؟، وكيف ستتصرف في حال تعارض الواجبات: مثل تعارض واجبها تجاه المالك مثلا مع واجبها اتجاه باقي البشر؟، وهل هناك قواعد أخلاقية عالمية، هل هذه القيم مطلقة وثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان أن أنها نسبية تتغير بتغير أحوال الناس ومصالحهم وظروفهم؟ وهو السؤال الكلاسيكي الذي يقترن بسؤال الأخلاق عندما يرتبط بالفعل الإنساني؟، وإذا كان هذا الأمر صعب بالنسبة للإنسان فهل يسهل تقديمه للآلة؟، خاصة في ضوء من يستسهل الأمر ويرى أن الآلة بإمكانها أن تطبق القواعد الأخلاقية أحسن من الانسان لغياب المشاعر والمصالح التي تحد من تطبيقها، ذلك لأن الآلة لا تخضع للضغط أو التخويف أو الابتزاز الذي من شأنه أن يجعل الفعل الإنساني مترددا، ثم إن القضايا الأخلاقية لا يمكن التعبير عنها تعبيرا رياضيا، لأن الفعل الأخلاقي توجّهه الإرادة والضمير، وهي أمور لا يمكن قياسها حسابيا أو كميا، فلا يمكن القياس الحسابي أو الكمي لأنواع الشعور كالحب والكراهية والفرح والحزن والخوف والشجاعة، والقلق والاطمئنان، فهل يمكن بعد هذا حوسبة الأخلاق وتطويع هذا المجال الذي مازال عصيا على التقدير الكمي؟.

المراجع

الكتب العربية

أزيموف، اسحق .2012، أنا روبوت، ترجمة  حسن عبد الجواد محمود، ط1، مصر: دار النهضة المصرية للنشر.

أفلاطون. 2001، في الفضيلة (محاورة مينون)، ترجمة وتقديم عزت قرني، د.ط، القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر.

بورديار، جان. 2008، المصطنع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله،ط1، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

الخولي، يمنى طريف، مقدمة كتاب رزنيك، ديفيد ب. 2005، أخلاقيات العلم، ترجمة عبد المنعم، عبد النور، د. ط، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

رسل، برتراند .د.ت.ن، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ترجمة أحمد عبد الكريم، د.ط، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية.

ريشنباخ، هانز .2007، نشأة الفلسفة العلمية،  ترجمة زكريا فؤاد، ط1، الاسكندرية:  دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر.

سبينوزا، باروخ .2009، علم الأخلاق، ترجمة       جلال الدين سعيد ، مراجعة جورج كاتوره،ط1، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

سيرل، جون .2007، العقل، ترجمة ميشيل حنا متياس، د.ط، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

كيرزويل، راي.2009، عصر الآلات الروحانية (عندما تتخطى الكمبيوترات الذكاء البشري)، تر عامر عزت، ط1، الإمارات العربية: كلمة وكلمات عربية للترجمة والنشر.

محمود، زكي نجيب. 1965،  المنطق الوضعي،ج1، ط4،القاهرة:  مكتبة الأنجلو المصرية.

المقالات العلمية

أزولاي، أودري.2018، لنستغل أحسن ما في الذكاء الاصطناعي ، ضمن رسالة اليونيسكو: الذكاء الاصطناعي وعود وتهديدات، منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم.

  بن الصايغ، ميغال.2018، الدماغ لا يفكر، ضمن رسالة منظمة اليونيسكو ، الذكاء الاصطناعي وعود وتهديدات  : منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم.

بوستروم، نيك.2001،  قضايا أخلاقية في الذكاء الاصطناعي المتطور، ضمن كتاب  شنايدر، سوزان،   الخيال العلمي والفلسفة من السفر عبر الزمن إلى الذكاء الفائق، ترجمة عزت عامر، ط1،القاهرة:المركز القومي للترجمة .

 دينيت، دانييل.2005، المنظور الحوسبي ضمن كتاب : بروكمان، جون ، الإنسانيون الجدد، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي،ط1، القاهرة:  المجلس الأعلى للثقافة.

سويداني، منير.2011، الذكاء الاصطناعي أحدث علوم الحاسب الآلي(الكمبيوتر)، مجلة سوريا، العدد 579.

شنايدر، سوزان.2001، مسخ المخ : تجاوز وتعزيز مخ الإنسان، ضمن كتاب: شنايدر، سوزان،   الخيال العلمي والفلسفة من السفر عبر الزمن إلى الذكاء الفائق، ترجمة عزت عامر، ط1،القاهرة: المركز القومي للترجمة .

غاناسيا، جان غابريال. 2018، الذكاء الاصطناعي بين الأسطورة والواقع، رسالة اليونيسكو: الذكاء الاصطناعي وعود وتهديدات: منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم.

كيرزويل، راي. 2001،» الذكاء الفائق والمفردة»،  ضمن كتاب شنايدر، سوزان،  الخيال العلمي والفلسفة من السفر عبر الزمن إلى الذكاء الفائق، ترجمة عزت عامر، ط1،القاهرة:المركز القومي للترجمة.

لي أندرسون، سوزان.2001، القوانين الثلاثة للروبوتات، لعظيموف وما وراء الأخلاق لدى الآلة، ضمن كتاب: شنايدر، سوزان، الخيال العلمي والفلسفة من السفر عبر الزمن إلى الذكاء الفائق، ترجمة عزت عامر، ط1، القاهرة: المركز القومي للترجمة.

ميتشي، دونالد وجونستون، روري. 1988، آلة المعرفة: الذكاء الاصطناعي ومستقبل الإنسان، عرض بهاء الدين محمود، مجلة العربي، الكويت: العدد رقم 351.

المراجع الأجنبية

Charniak, Eugene and McDermott, Drew .1985, Intoduction to Artificial Intelligence, England:  Addison-Wesley Publishshing Company.

Coppin, Ben .2004, Artificial Intelligence Illuminated, 1sted, Canada:    Jones andBartlett Publishers.  

Deyi, Li, Yi, Du. 2008, Artificial Intelligence withUncertainty, Chapman & Hall/CRC Taylor & Francis Group.

Itmazi, Jamil Ahmed. 2017, Fundamentals of Computers and Programming: An Arabic Textbook, Phillips Publishing.

Luger, George F .2004 , Artificial Intelligence( Structures and Strategies For  Complex  Problem Solving, 5th ed, England:, Addison Wesley  .

Navarro, Pablo E , Rodriguez, Jorge l .2014 , Deontic Logic and Legal Systems, First Published , New York:  combridge  University Prees .

Wright, Georg Henrik von .1983, Practical Reason, first Published, England: Black well.

@pour_citer_ce_document

مليـكة مذكور, «الأخلاق والحوسبة»

[En ligne] ,[#G_TITLE:#langue] ,[#G_TITLE:#langue]
Papier : ص ص 34-46,
Date Publication Sur Papier : 2022-12-05,
Date Pulication Electronique : 2022-12-05,
mis a jour le : 05/12/2022,
URL : https://revues.univ-setif2.dz:443/revue/index.php?id=8940.